الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
جفوة، بل يحسن إليه غاية الإحسان، ويحتمله غاية الاحتمال صلى الله عليه وسلم.
فلما أنزله الله بأعلى المنازل، وكان أعداؤه يقولون: إنه مجنون مفتون قال: {فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ - بِأَيِّيكُمُ الْمَفْتُونُ} [القلم: 5 - 6] وقد تبين أنه كان أهدى الناس وأكملهم وأنفعهم لنفسه ولغيره، وأن أعداءه أضل الناس للناس، وأنهم هم الذين فتنوا عباد الله، وأضلوهم عن سبيله، وكفى بعلم الله بذلك، فإنه المحاسب المجازي و {هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} [القلم: 7]
وفيه تهديد للضالين، ووعد للمهتدين، وبيان لحكمة الله في هدايته من يصلح للهداية دون غيره.
فصل
13 -
{وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ} [الزمر: 68]- إلى آخر السورة الكريمة -[الزمر: 68 وما بعدها].
من أهم أصول الإيمان: الإيمان باليوم الآخر، وهو الإيمان بكل ما أخبر الله به ورسوله بعد الموت من فتنة القبر ونعيمه وعذابه، وأحوال يوم القيامة وما يكون فيه، ومن صفات الجنة والنار، وصفات أهلهما.
فالإيمان باليوم الآخر هو الإيمان بذلك كله جملة وتفصيلا، أما أحوال القبر وفتنته وعذابه ونعيمه وتفاصيل ذلك، فقد تواترت به الأحاديث الصحيحة والحسنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كما هو معروف، والقرآن أشار إليه في عدة آيات، وأما ما يكون بعد ذلك فإذا أراد الملك القادر بعث العباد وحشرهم وجزاءهم (نُفِخَ فِي الصُّورِ) وهو: قرن عظيم لا يعلم عظمه إلا الذي خلقه، كما ورد في حديث الصور المشهور، أو نفخ في الصور على وجه لا يعلم كنهه إلا الله نفخة الصعق
والفزع، انزعج لهذا أهل السماوات والأرض وصعقوا إلا من شاء الله من خلقه، {ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى} [الزمر: 68] نفخة البعث، {فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ} [الزمر: 68] من أجداثهم كاملي الخلقة، ينظرون ما يستقبلهم من هذه الحياة الأخروية التي يجازى فيها العباد بأعمالهم، حسنها وسيئها.
أما المؤمنون الطائعون فيقومون مطمئنين طامعين في فضل ربهم ورحمته، مستبشرين بثوابه وعفوه ومغفرته، يحشرون إلى موقف القيامة وفدا مكرمين، وأما المجرمون فيقومون فزعين خائفين متحسرين، يدعون بالويل والثبور، يقولون: يا ويلنا، من بعثنا من مرقدنا؟ فيساقون إلى جهنم وردا.
فحينئذ تكثر القلاقل والأهوال، ويشيب الولدان من هول ذلك اليوم وفظاعته:{يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ} [الحج: 2]
{وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ وَنُزِّلَ الْمَلَائِكَةُ تَنْزِيلًا - الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ وَكَانَ يَوْمًا عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيرًا} [الفرقان: 25 - 26]
وتكور الشمس والقمر، وتنثر النجوم، فتذهب هذه الأنوار المشاهدة، وتشرق الأرض بنور ربها، وينزل الله لفصل القضاء بين عباده، ومحاسبتهم على أعمالهم.
أما المؤمنون: فيحاسبهم حسابا يسيرا يقرهم بذنوبهم، ثم يغفرها ويسترها
عن الخلائق، ويضاعف لهم الحسنات، ويعطيهم من فضله وإحسانه ما لا تبلغه أعمالهم، ويعطون كتبهم بأيمانهم إكراما واحتراما، كما تبيض وجوههم، وتثقل موازينهم؛ ويغتبطون بذلك، ويستبشرون به، فيقولون لإخوانهم ومعارفهم ومحبيهم:{هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ - إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ - فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ} [الحاقة: 19 - 21] الآيات [الحاقة: 19 - 21 وما بعدها].
ويساقون إلى الجنة زمرا، كل طائفة منهم مع نظرائهم في الخير بحسب طبقاتهم وسبقهم، كما يردون في عرصات القيامة حوض نبيهم، فيشربون منه شربة هنيئة لا يظمأون بعدها، ويمرون على الصراط على قدر أعمالهم كلمح البصر، وكالبرق الخاطف، وكأجاويد الخيل والإبل، وكسعي الرجال، وكمشيهم، ودون ذلك.
فإذا عبروا على الصراط وقفوا على قنطرة بين الجنة والنار، فيقتص بعضهم من بعض مظالم وتبعات كانت بينهم في الدنيا، حتى إذا هذبوا ونقوا أذن لهم في دخول الجنة، حتى إذا جاؤوها وفتحت أبوابها بشفاعة محمد صلى الله عليه وسلم فتلقاهم خزنة الجنة، يسلمون عليهم، ويهنونهم بالنجاة من العذاب وحصول الخير والثواب والخلود الأبدي بسبب طيبهم، ولهذا قالوا:{سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ} [الزمر: 73] أي: طابت قلوبكم بالعقائد الصحيحة الصادقة، والأخلاق الجميلة، وألسنتكم بذكر الله والثناء عليه، وجوارحكم بخدمته والقيام بطاعته:{فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ} [الزمر: 73]
فإذا دخلوها ورأوا ما فيها من النعيم المقيم، مما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، حمدوا الله على منته عليهم بالسوابق والإيمان والأعمال الصالحة، وبإنجاز ما وعدهم به على ألسنة رسله، وعلى أن
الله أورثهم الجنة يتبوءون من خيراتها حيث يشاءون وأنى يشاءون مما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين من نعيم القلوب والأرواح، ومن نعيم الأبدان والأجسام:{عَلَى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ - مُتَّكِئِينَ عَلَيْهَا مُتَقَابِلِينَ - يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ - بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ - لَا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلَا يُنْزِفُونَ - وَفَاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ - وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ - وَحُورٌ عِينٌ - كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ} [الواقعة: 15 - 23] خيرات الأخلاق، حسان الوجوه، قد جمع الله لهن حسن البواطن والظواهر، فهن سرور النفس، وقرة النواظر.
وتمام ذلك أن الله يحل عليهم رضوانه فلا يسخط عليهم أبدا، وأنه يقال لهم:(إن لكم أن تشبوا فلا تهرموا أبدا، وإن لكم أن تصحوا فلا تمرضوا أبدا، وإن لكم أن تنعموا فلا تبأسوا أبدا، وإن لكم أن تحيوا فلا تموتوا أبدا)، فلهم كل ما يشاءون فيها وتتعلق به أمانيهم، ولهم فوق ذلك مما لم تبلغه أمانيهم، ولهم نعيم أعلى من ذلك كله، وهو التمتع بالنظر إلى وجهه الكريم، وسماع خطابه، والابتهاج برضاه وقربه، والسرور بمحبته، وذكره وحمده، والثناء عليه وشكره، مما يشاهدون من كثرة الخيرات، وسوابغ النعم والهبات، وزيادة النعيم وتواصله، ومما يزدادون من معرفته والأنس به، فتبارك الله ذو الجلال والإكرام.
وأما الكافرون المجرمون: فيحاسبهم الله على ما أسلفوه من الجرائم، ويقرعهم ويخزيهم بين الخلائق، ويعطون كتبهم من وراء ظهورهم بشمائلهم، وتسود منهم الوجوه، وتخف موازينهم، ويساقون إلى جهنم جياعا عطاشا منزعجين مرعوبين زمرا، كل طائفة تحشر مع نظيرها من أهل الشر:{حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا} [الزمر: 71] في وجوههم، ففاجأهم حرها المفظع، وحل بهم
الفزع الأكبر الذي لا يشبهه فزع، وتلقتهم خزنة الجحيم، يوبخونهم على ما قدموه، وقالوا لهم:{أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى} [الزمر: 71] قد جاءتنا الرسل، وبلغتنا النذر، فما كان منا إليهم إلا الاستهزاء بهم والتكذيب، فلو كان لنا أسماع واعية، وعقول نافعة ما وصلنا إلى هذه الدار، بل خالفنا المنقول والمعقول:{فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقًا لِأَصْحَابِ السَّعِيرِ} [الملك: 11]
ما أشد شقاءهم وعناءهم؛ ينوع عليهم العذاب أنواعا، فتارة يعذبون بالسعير المحرق لظواهرهم وبواطنهم، كلما نضجت جلودهم بدلوا جلودا غيرها، وتارة بالزمهرير الذي قد بلغ برده أن يهري اللحوم ويكسر العظام، وتارة بالجوع المفرط والعطش المفظع، وإذا استغاثوا لذلك أغيثوا بعذاب آخر، ولون من الشقاء ينسي ما سبقه، فيغاثون بطعام ذي غصة؛ بشجرة الزقوم التي تخرج في أصل الجحيم، وثمرها في غاية المرارة والنتن والحرارة، إذا وصلت بطونهم غلت فيها كغلي الحميم الذي يوقد عليه في النار.
{وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ} [الكهف: 29] إذا قرب إليها فلا يدعهم العطش مع ذلك أن يتناولوها، فإذا وصلت إلى بطونهم قطعت أمعاءهم، ولا يزالون في عذاب متنوع شديد، لا يفتر عنهم العذاب ساعة، ولا يرجون رحمة ولا فرجا، يتمنون الممات ليستريحوا، فينادون مالكا (رئيس خزنة النار):{يا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ} [الزخرف: 77] فيقول لهم: {إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ} [الزخرف: 77] فلا تلوموا إلا أنفسكم لما أسلفتموه من الجرائم: {لَقَدْ جِئْنَاكُمْ بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ} [الزخرف: 78]