المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الجزء الأول: المقدمات - جامع المسائل والقواعد في علم الأصول والمقاصد - جـ ١

[عبد الفتاح مصيلحي]

الفصل: ‌الجزء الأول: المقدمات

‌الجزء الأول: المقدمات

ويشتمل على أربعة فصول:

• الفصل الأول: بعض الشبه الواردة على علم أصول الفقه، والجواب عنها.

• الفصل الثاني: المبادئ العشرة لعلم أصول الفقه.

• الفصل الثالث: نشأة علم أصول الفقه وأطواره التي مر بها.

• الفصل الرابع: بعض المقدمات والمصطلحات المهمة لدارس علم أصول الفقه.

ص: 17

‌الفصل الأول بعض الشبه الواردة على علم أصول الفقه، والجواب عنها:

إنه مع جلالة هذا العلم وشرفه وعظيم خطره، قد أثيرت حوله شبهات قعدت بالهمم عن سلوك دربه، وتحصيل مسائله وطلبه، فأدى ذلك إلى إهمال هذا العلم، والعزوف عنه عند البعض؛ مما أدى إلى فشو التقليد والجمود، وانتشار التعصب للمذاهب وأقوال الرجال، ففشى الجهل وادعاء العلم، وقعدت الهمم والعقول عن الاجتهاد في النصوص.

والسبب في ذلك ما أشرنا إليه من إثارة بعض الشبه حول هذا العلم؛ لذا كان لزامًا أن نبدأ بها لإزالة هذه الشبه قبل تناول مباحث هذا العلم وتأصيله وبيانه، فإنه لا بد من التخلية قبل التحلية.

ص: 19

• الشبهة الأولى: قيل هو ليس علمًا، بل هو نُبَذٌ جُمِعَت من علوم متفرقة.

فقالوا: إنَّ بعضه مأخوذ من اللغة، كالكلام عن الأمر والنهي والعام والخاص وغيرها، وبعضه مأخوذ من النحو، كالكلام عن حروف المعاني، والاستثناء، وغيرها، وبعضه مأخوذ من القرآن وعلومه، كالكلام عن مباحث النسخ والمحكم والمتشابه، وبعضه مأخوذ من علم الحديث، كالكلام عن التواتر والآحاد وحجية كل منهما، وغير ذلك من المباحث.

فمن أراد أن يتعلم تلك المباحث؛ فليتعلمها من تلك العلوم دون الرجوع إلى علم أصول الفقه.

وبهذا لو جرد علم الأصول من هذا، لصار ما انفرد به أصول الفقه شيئًا يسيرًا جدًّا لا فائدة فيه.

والجواب عن ذلك:

أنه لا يُنْكر أنَّ علم الأصول قد استمد بعض مباحثه من تلك العلوم التي ذكرتموها، ولكن اهتم الأصوليون بتلك المباحث ودرسوها دراسة تختلف عن دراستها لو أخذت من تلك العلوم مباشرة، فقد دقق الأصوليون في فهم أشياء لم يصل إليها المتخصصون بتلك العلوم.

فمثلًا: توصل الأصوليون إلى فهم أشياء من كلام العرب لم يصل

ص: 20

إليها النحاة ولا اللغويون، فالنظر في كلام العرب متشعب، فكتب اللغة تضبط الألفاظ ومعانيها الظاهرة، دون المعاني الدقيقة التي تحتاج إلى نظر الأصولي المتعمق.

فلقد توصل الأصوليون إلى أحكام في الاستثناء لم يتوصل إليها النحاة في كتبهم.

وكذلك عني الأصوليون بدلالات لم يعتن بها النحاة واللغويون كدلالة صيغة الأمر (افعل) على الوجوب، ودلالة صيغة النهي (لا تفعل) على التحريم، وكون (كل) تفيد العموم، ونحو ذلك لا تجده في كتب اللغة والنحو.

فهم يبحثون في هذه المباحث التي أخذت من هذه العلوم بحثًا خاصًّا، من جهة الدلالة الموصلة إلى الأحكام الشرعية.

ولذلك يقول الطوفي: الكلام يشتمل على لفظ ومعنى، فحظ اللغوي النظر في ألفاظه ببيان ما وضعت له كقوله: العموم: الشمول، والعام: الشامل والتخصيص: تمييز شئ عما شاركه بحكم، وحظ النحوي بيان ما يستحقه من الحركات اللاحقة لآخره إعرابًا أو بناءًا، وحظ التصريفي بيان وزنه، وصحيحه من معتله، وأصله من زائده أو بدله، وغير ذلك من أحكامه.

ص: 21

أما كون العام بعد تخصيصه حجة أو ليس بحجة، حقيقة أو مجازًا، فهذا ليس حظ واحد من هؤلاء، بل حظ الأصولي، والأصولي موضوع علمه المعنى، وإنما ينظر في الألفاظ بطريق العرض في مبادئ الأصول

(1)

.

ويقول تقي الدين السبكي: إن الأصوليين دققوا في فهم أشياء من كلام العرب لم يصل إليها النحاة ولا اللغويون، فإن كلام العرب متسع جدا، والنظر فيه متشعب، فكتب اللغة تضبط الألفاظ ومعانيها الظاهرة دون المعاني الدقيقة التي تحتاج إلى نظر الأصولي، واستقراء زائد على استقراء اللغوي، مثاله دلالة صيغة (افعل) على الوجوب، و (لا تفعل) على التحريم، وكون (كل وأخواتها) للعموم، وما أشبه ذلك مما ذكر السائل أنه من اللغة، ولو فتشت كتب اللغة لم تجد فيها شفاء في ذلك، ولا تعرضًا لما ذكره الأصوليون، وكذلك كتب النحو لو طلبت معنى الاستثناء، وأن الإخراج هل هو قبل الحكم أو بعد الحكم، ونحو ذلك من الدقائق التى تعرض لها الأصوليون، وأخذوها باستقراء خاص من كلام العرب، وأدلة خاصة لا تقتضيها صناعة النحو، فهذا ونحوه مما تكفل به أصول الفقه

(2)

.

(1)

شرح مختصر الروضة (2/ 533).

(2)

الإبهاج شرح المنهاج (1/ 7).

ص: 22

فنظرة الأصولي إلى تلك المباحث تختلف عن نظرة المتخصصين بها.

والعلوم تختلف جهات بحثها للموضوعات المشتركة بينها، فالموضوع الواحد قد تشترك عدد من العلوم في بحثه، ولكن كل علم يبحثه من جهة مناسبة لطبيعته، والخلط بين تلك الجهات يؤدي إلى أغلاط متعددة في الاستدلال والفهم، وبعض الموضوعات يكون اختصاصها ببعض العلوم أكثر من غيرها، وتكون تلك العلوم هي الأصل فيها من جهة توسع البحث والدخول في التفاصيل المتعلقة بها

(1)

.

فهذا التداخل الموضوعي وهو أن ثمة موضوعات تُبحَث في عدد من العلوم الشرعية لكونها متعلقة بها جميعًا هو نمط من أنماط تأثر العلوم الشرعية وعلاقتها ببعضها البعض، وهذا لا يُنكَر عند من عَمَّقَ النظر في علوم الشريعة.

وبهذا لا يمكن تعلم مباحث الأصول إلا بالرجوع إلى ما وضع في علم أصول الفقه.

(1)

قانون التأسيس العقدي د/ سلطان بن عبد الرحمن العميري: (63).

ص: 23

• الشبهة الثانية: قيل هذا العلم لا فائدة منه لا في الدنيا ولا في الآخرة.

وجواب هذا: أنَّ هذا نتج من عدم المعرفة بحقيقة هذا العلم وثمرته، وقد قيل: من جهل شيئًا عاداه، فهذا العلم هو من أهم شروط الاجتهاد، بل لا يتوصل إلى درجة الاجتهاد إلا به، ولا يمكن للفقيه استنباط حكم شرعي من دليل إلا به.

بل لو جهل مسألة -كالقياس مثلًا- من مسائله لا يعد فقيهًا عند البعض.

قال الشافعي: من لم يعرف القياس فليس بفقيه.

وقال أحمد: لا يستغني أحد عن القياس

(1)

.

فإن قيل: إنكم جعلتم علم أصول الفقه أهم شرط من شروط الاجتهاد، فلا يمكن لأحد أن يبلغ درجة الاجتهاد إلا بالرسوخ فيه، فكيف يستقيم ذلك وهو علم مبتدع محدث، فلقد كان الصحابة رضي الله عنهم وأتباعهم من كبار المجتهدين، ولم يكن هذا العلم موجودًا حتى جاء الشافعي وصنف فيه وسماه بهذا الاسم.

(1)

الفيه والمتفقه للخطيب (1/ 500).

ص: 24

والجواب عن هذا: أن الصحابة رضي الله عنهم وأتباعهم من كبار التابعين كانوا أعلم الخلق بالعلوم، وكانوا أفهم الخلق بدلالات الألفاظ ومقاصد الشريعة متتبعين لها، محيطين بها، وكانوا متمرسين على ذلك.

فأكسبتهم تلك الممارسة قوة يفهمون بها مراد الشارع، وما يصلح وما لا يصلح من الأدلة.

عرفوا ذلك جزءًا منه سليقة وبلغة العرب، وجزءًا أخذوه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعلم أصول الفقه كان موجودًا في زمن النبوة، وفي عصر الصحابة كما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى، ثم انتقل من الصحابة إلى التابعين، ولكن لما اتسعت الرقعة الإسلامية وفتحت البلاد فسدت الألسن، وتغيرت الفهوم، وكثرت الحوادث التي تحتاج إلى المجتهد لاستنباط الأحكام الشرعية لتلك الحوادث، مستندة إلى الدليل من الكتاب والسنة؛ فوضع الإمام الشافعي قواعد لذلك، وجمعها في علم مستقل سمي "علم أصول الفقه"، كما جُمِعَت قواعد علم النحو لنفس السبب.

ص: 25

• الشبهة الثالثة: قيل هذا العلم لا يتعلم لقصد صحيح، بل يتعلم للرياء والسمعة.

الجواب عن ذلك: إنَّ هذا غير صحيح جملة وتفصيلًا، فالقصد من تعلم علم أصول الفقه معرفة كيفية استنباط الأحكام الشرعية من الأدلة، أما إذا فسدت نية صاحبه فتعلمه للرياء والسمعة، فهذا وارد على كل العلوم ولا يختص بأصول الفقه، وكل شخص سيحاسب عن قصده في تعلم أي علم من العلوم قال صلى الله عليه وسلم:«إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى»

(1)

.

• الشبهة الرابعة: قيل هذا العلم يتعلم للجدال والمناظرة، لا لقصد صحيح ونحن نُهينا عن كثرة الجدال.

والجواب عن ذلك: أنَّ الجدال الموجود في أصول الفقه وسيلة إلى الحق، وإذا كان الجدال بهذه الصفة لا يعاب، بل الجدال بالحق للحق من شأن رسل الله تعالى وأنبيائه.

بل ذكر الله تعالى في كتابه أنه أقام سبحانه الحجج، وعامل عباده بالمناظرة، فقال سبحانه:{لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} [النساء: 165].

(1)

أخرجه البخاري (1)، ومسلم (1907) من حديث عمر بن الخطاب مرفوعًا.

ص: 26

وقال تعالى: {قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} [الأنعام: 149].

وقال الله لملائكته: {أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [البقرة: 33]، وذلك لما قالت الملائكة:{أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ} [البقرة: 30].

وجادلت الأنبياء أممها وحاجَّتها، قال تعالى:{قَالُوا يَانُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا} [هود: 32]، وقال تعالى:{وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [العنكبوت: 46]، وقال تعالى:{وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل: 125]، فالجدال في نفسه لا يُذم ولا يُمدح، ولربما المدح والذم حسب الاستعمال، فمن استعمل الجدال للوصول إلى الحق الذي أمر الله به فهو ممدوح، ومن استعمل الجدال في صرف الحق إلى الباطل فهو مذموم.

والجدال الذي جاء به أصول الفقه يستعمل للوصول به إلى الحق الذي أمر الله به، فيكون على هذا ممدوحًا.

(1)

.

(1)

المهذب في أصول الفقه المقارن للدكتور عبد الكريم النملة بتصرف (1/ 45 - 51).

ص: 27

• الشبهة الخامسة: قيل إنه علم قائم على المنطق وعلم الكلام، وهي علوم مذمومة:

وجوابه: أن دخول علم الكلام والمنطق على علم الأصول متأخر عن نشأة العلم، بل هو أجنبى عنه، وعلم الأصول عارٍ عنه، وجدير بالذكر أن دخول علم الكلام على علم أصول الفقه كان في القرن الرابع أو الخامس تقريبًا مع كتابة المعتزلة في علم الأصول، كالقاضى عبد الجبار في العمد، والقاضي أبو الحسين في المعتمد، وكذلك الأشاعرة كما فعل الباقلاني في التقريب والإرشاد؛ حيث كانت كتب الأصول سجالًا عقديًّا بين الفريقين.

وأما علم المنطق فأول من أدخله على علم الأصول الغزالى في المستصفى، فقدم بمقدمة منطقية، وتبعه في ذلك ابن قدامة فى روضة الناظر، وفي بعض النسخ الخطية أزالها؛ قيل أنه لما عوتب في ذلك.

لكن إذا نظرتَ الى كتاب الرسالة للإمام الشافعى، وهو أول ما دُوِّن في هذا العلم تجده خال تمامًا من هذه المباحث الكلامية والمنطقية؛ إذ لا علاقة لها بعلم الأصول.

وقد كان الأئمة من التابعين قبل الشافعي ومِن قبلهم صحابة النبي صلى الله عليه وسلم يمارسون هذا العلم تطبيقًا، وما يدرون ما المنطق ولا علم الكلام والفلسفة، ومع ذلك كانوا أفهم وأعلم الناس على الإطلاق، بل مَنْ

ص: 28

بعدهم عالة على فقههم وعلمهم.

ونحن نسلم بذم هذه العلوم، وأنها أجنبية عن علوم الشريعة، بل أفسدت في علوم الشريعة.

لكن هل معنى دخول هذه العلوم على علم أصيل من علوم الشريعة كعلم أصول الفقه أن نهجر هذا العلم على أهميته، أم أن الواجب علينا أن ننقي علومنا مما أُدخِل عليها، ونردها إلى أصلها ونبعها الصافي.

وخاصة أن هذه العلوم - الفلسفة والمنطق وعلم الكلام - دخلت في كثير من علوم الشريعة في نفس الوقت الذي أُدْخِلت في علم الأصول، فدخلت في علم التفسير، فكثيرًا ممن كتب في التفسير في تلك الآونة وكان أشعري العقيدة أو معتزليًّا أدخل عقيدة الأشعرية والمعتزلة في التفسير.

وكذلك في علم العقيدة كثر في ذاك الزمن القول بقول الأشاعرة، بل أصبح علم العقيدة يسمى علم الكلام.

ومع ذلك لم يقل أحد يجب ترك علم التفسير وهجره، أو علم العقيدة من أجل دخول هذه العلوم فيهما في زمن ما، بل أصبح الواجب تنقية هذه العلوم حتمًا من هذه العلوم المبتدعة المذمومة.

ص: 29

فنقول: وكذلك علم الأصول إذًا يجب تنقيته من هذه العلوم، لا هجره وتركه بحجة دخول هذه العلوم فيه في بعض الأزمان.

وإلا كيف يهمل علم وظيفته بيان مراد الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، بل وربط الأحكام الشرعية بالواقع وملاءمة العرف بضوابط الشريعة، وكذلك ربط الحاضر بالماضي، وربط المستجدات والمحدثات بالمسائل القديمة والأحكام المقررة في الشريعة.

بل في رأيي - والله أعلم -: أن هذه الحملة على هذا العلم، ومحاولة إقصائه عن العمل وتأدية دوره؛ لأنه هو العلم الوحيد الذي يستطيع إثبات أن هذا الدين صالح لكل زمان ومكان، وكل ما يستجد يُستطاع بفضل الله تعالى إيجاد حكمه المبني على الأدلة، والأسس السليمة المنضبطة الموافقة للنصوص، والمرتبطة بالقواعد الثابتة المقررة والملائمة للواقع الجديد مهما كان تغيره، والله أعلم.

فهذه جملة من الشُبه قعدت بأصحابها عن سلوك درب الاجتهاد، فما شموا رائحة العلم، ولا ذاقوا حلاوة الفقه في الدين، وإنما البكاء على ضعف الهمم.

فإذا زالت عنك غمامة وضباب الشُبَه، وعلت همتك، وتاقت نفسك لتكون من أصحاب هذا العلم وتسلك طريق تحصيله؛ فحُقَّ على كل من حاول تحصيل علم من العلوم، أن يتصور معناه أولًا

ص: 30

بالحد ليكون على بصيرة فيما يطلبه، وأن يعرف موضوعه تمييزًا له عن غيره، وما الغاية المقصودة من تحصيله حتى لا يكون سعيه عبثًا، وما عناه البحث فيه من الأحوال التي هي مسائله ليتصور طلبها، وما منه استمداده لصحة إسناده عند روم تحقيقه إليه، وأن يتصور مباديه التي لا بد من سَبْقِ معرفتها فيه لإمكان البناء عليها

(1)

.

لذلك كان من الواجب قبل الولوج إلى صلب الأصول، أن يحيط الدارس بهذا العلم بداياته ونهايته؛ ليحصل له من تصور هذا العلم ما يمكنه من الإبحار فيه بسلاسة.

لذا سنتناول دراسة ذلك في الفصول التالية إن شاء الله تعالى.

(1)

الإحكام للآمدي (1/ 19).

ص: 31

‌الفصل الثاني: المبادئ العشرة لعلم أصول الفقه

قال الصبان:

إنَّ مبادئ كل فن عشرة

الحد والموضوع ثم الثمرة

وفضله ونسبة والواضع

والاسم الاستمداد حكم الشارع

فمسائل والبعض بالبعض اكتفى

ومن درى الجميع حاز الشرفا

•‌

‌ أولًا: الحد:

هو الذى يبين الشيء على حقيقته ولابد أن يكون جامعًا مانعًا

(1)

.

حد علم أصول الفقه:

‌أولًا: باعتبار مفرديه:

الأصل لغة: هو الأساس

(2)

، وقيل عبارة عما يُفتَقَر إليه، ولا يَفتَقِر هو إلى غيره

(3)

.

(1)

إحكام الفصول للباجي (170)، والواضح لابن عقيل (1/ 15).

(2)

موسوعة القواعد الفقهية (2/ 187).

(3)

التعريفات للجرجاني (1/ 28).

ص: 32

واصطلاحًا: ما يُبنَى عليه غيره، ولا يُبنَى هو على غيره

(1)

.

وقيل: ما له فرع

(2)

. ويطلق الأصل أيضًا على معاني كثيرة منها:

1 -

الدليل: يقال الأصل في وجوب الزكاة قوله تعالى: {وَآتُوا الزَّكَاةَ} [البقرة: 43].

2 -

القاعدة: يقال: الأصل في الأشياء الإباحة.

3 -

الأصل قد يطلق على المقيس عليه، وهو أحد أركان القياس.

4 -

الأصل بمعنى الراجح، تقول الأصل في الكلام الحقيقة لا المجاز.

5 -

الأصل بمعنى المستصحب، تقول الأصل في الأشياء الإباحة والأصل براءة الذمة.

الفقه لغة: الفهم

(3)

، ومنه قوله تعالى:{فَمَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا} [النساء: 78].

واصطلاحًا: معرفة الأحكام الشرعية العملية المكتسبة من الأدلة

(1)

الورقات للجويني (1)، والتعريفات للجرجاني (1/ 28).

(2)

مختصر التحرير (14).

(3)

لسان العرب لابن منظور (11/ 210).

ص: 33

التفصيلية

(1)

.

‌ثانيًا: تعريف أصول الفقه باعتباره لقبًا لهذا العلم:

بعض أهل العلم لم يذكر عبارة محررة في حد علم أصول الفقه

مثل الباقلاني قال: أصول الفقه العلوم التي هي أصول العلم بأحكام أفعال المكلفين

(2)

.

والبعض اقتصر على جزء من علم أصول الفقه فعرفه به.

مثل الجويني في البرهان قال: أصول الفقه أدلة الفقه

(3)

.

وكذلك فعل الغزالى في المستصفى قال أصول الفقه عبارة عن أدلة هذه الأحكام ومعرفة وجوه دلالتها على الأحكام من حيث الجملة لا من حيث التفصيل

(4)

.

وأضاف الآمدي مكونًا ثالثًا على تعريف الغزالي فقال أصول الفقه أدلة الفقه وجهات دلالتها على الأحكام الشرعية وكيفية حال المستدل

(1)

وورد في جمع الجوامع (209) بلفظ العلم بالأحكام، وعدل عن لفظ العلم بالمعرفة؛ لأن مسائل الفقه منها ما هو قطعي، ومنها ما هو ظني، وكلاهما فقه فلفظ معرفة الأحكام أدق.

(2)

التقريب والإرشاد للباقلاني (1/ 172).

(3)

البرهان للجويني (1/ 85).

(4)

المستصفى للغزالي (1/ 7).

ص: 34

من حيث الجملة

(1)

وعرفه الرازي في المحصول بنحو عبارة الآمدي.

وأشهر التعريفات لعلم أصول الفقه ومن أفضلها ما عرفه ابن الحاجب في مختصره وإن كان اقتصر فقط في تعريفه على القواعد وهي جزء من علم الأصول فقال:

هو العلم بالقواعد التى يتوصل بها إلى الأحكام الشرعية العملية من أدلتها التفصيلية

(2)

.

وقد يكون أجمع التعريفات لعلم الأصول ما عرفه البيضاوي في المنهاج؛

قال: أصول الفقه هو معرفة دلائل الفقه الإجمالية، وكيفية الاستفادة منها، وحال المستفيد

(3)

.

فهذا التعريف جمع كل أبواب علم أصول الفقه؛ فهو يتعلق بالأدلة الإجمالية التي هي مصادر الأحكام، كالكتاب والسنة والإجماع والقياس، وكالقواعد الإجمالية الكلية مثل الأمر يقتضي الوجوب، والنهي يقتضي التحريم، وكيفية استفادة الأحكام من هذه القواعد

(1)

الإحكام للآمدي (1/ 7).

(2)

المنتهى لابن الحاجب (3)، شرح مختصر الروضة للطوفي (1/ 120).

(3)

المنهاج للبيضاوي (5).

ص: 35

والأدلة، ثم البحث في حال الشخص المنوط به هذه الاستفادة وهو المجتهد، فتعلق البحث في أحواله كالبحث في الشروط التي تأهله لذلك، وأنواع المجتهد، وهل يخلو الزمان منه، وغير ذلك من المباحث.

•‌

‌ ثانيًا: الموضوع:

قيل: هو الأدلة الإجمالية

(1)

وهى الكتاب والسنة، وما يحتويانه كالعام والخاص والمطلق والمقيد، ونحو ذلك.

وقيل: هو الكتاب والسنة، وبيان حال المستفيد، وكيفية الاستفادة منهما

(2)

.

وقيل: هو بيان طرق الاستنباط

(3)

.

وهذا من فوائد علم أصول الفقه أيضًا، فهو علم يبين كيفية استنباط الأحكام، فلا يستطيع الفقيه أن يستنبط أحكامًا إلا إذا كان أصوليًّا.

مثال: قال تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ}

(1)

المنهاج للبيضاوي (5).

(2)

وهو تعريف البيضاوي لعلم أصول الفقه بأنه معرفة الأدلة الإجمالية، وكيفية الاستفادة منها، وحال المستفيد.

(3)

التأسيس في أصول الفقه للشيخ مصطفى سلامة (11).

ص: 36

[البقرة: 187]، فالحكم الظاهر من الآية هو حل الجماع في ليل رمضان.

• مسألة: هل يجوز للصائم أن يصبح جنبًا؟

من الفقهاء من يقول: نعم يجوز له ذلك. ومنهم من يقول: يجب أن يغتسل بالليل. وهذه الآية دليل للقائلين بالجواز؛ لدلالة إشارتها، حيث قال تعالى:{أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ} [البقرة: 187]، والليل يبدأ من غروب الشمس وينتهى ببزوغ الفجر، والآية تبين أنَّ كل الليل يحل فيه للرجل أن يجامع زوجته، وما دام أنَّ الشرع أحل له كل الليل، فهذا يلزم منه أنه قد يصبح جنبًا، ولو قيل يجب أن يصبح طاهرًا، فهذا يلزم منه أنه لابد من وجود وقتٍ من الليل يحرم الجماع فيه، وهو الوقت الكافى للاغتسال، وهذا يُحَرِّم الرفث في جزء من الليل، وهذا مناقض لقوله تعالى:{أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ} [البقرة: 187].

وكقوله تعالى: {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا} [الأحقاف: 15]، مع قوله تعالى:{وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ} [لقمان: 14]، والفصال هو الفطام، فتمام الفطام في عامين، والآية الأولى تبين أنَّ الحمل والفطام في ثلاثين شهرًا، وبالنظر للآيتين علم أنه من الجائز أن تلد المرأة بعد ستة أشهر

ص: 37

من الحمل.

• مسألة أخرى: حكم صلاة المرأة في المسجد؟ وهل الأفضل صلاتها في بيتها أم في المسجد؟

أولًا: حكم الصلاة في المسجد الجواز؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: «لا تمنعوا إماء الله مساجد الله»

(1)

، أما في بيتها فهو أفضل، فعن أم حميد امرأة أبى حميد الساعدي رضي الله عنهما أنها جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله إنى أحب الصلاة معك قال: «قد علمت أنك تحبين الصلاة معى، وصلاتك في بيتك خير من صلاتك في حجرتك، وصلاتك في حجرتك خير من صلاتك في دارك، وصلاتك في دارك خير من صلاتك في مسجد قومك، وصلاتك في مسجد قومك خير من صلاتك في مسجدى» ، قال: فأمرت فبُنِى لها مسجد في أقصى شاء من بيتها وأظلمه، وكانت تصلى فيه حتى لقيت الله عز وجل

(2)

، وعن ابن عمر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تمنعوا نساءكم المساجد، وبيوتهن

(1)

أخرجه البخاري (900)، ومسلم (442) من حديث ابن عمر مرفوعًا.

(2)

صحيح بمجموع شواهده: أخرجه أحمد (27090)، وابن خزيمة (1689)، وغيرهما من حديث أم حميد مرفوعًا، وسنده فيه ضعف، ولكن له شاهد من حديث ابن مسعود عند أبي داود (570) وغيره بسند حسن، وشاهد آخر عند ابن أبي شيبة (7697) من حديث ابن عباس، وسنده لا بأس به.

ص: 38

خير لهن»

(1)

،

وعن ابن مسعود بلفظ: «صلاة المرأة في بيتها أفضل من صلاتها في حجرتها، وصلاتها في مخدعها أفضل من صلاتها في بيتها»

(2)

، فالحكم العام ذكره رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو جواز صلاة المرأة في المسجد، لكن صلاتها في بيتها أفضل.

وبالنظر للقواعد يمكن أيضًا إخراج هذا الحكم بدلالة الإشارة من القرآن.

وقد استُنبِط هذا الحكم من القرآن الكريم من قوله تعالى: {يَامَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ} [آل عمران: 43]، وذلك على النحو التالي.

1 -

الخطاب في الآية متوجه لمريم، والقاعدة: شرع من قبلنا شرع

(1)

صحيح بشواهده: أخرجه أبو داود (567)، وأحمد (5468) وغيرهما من حديث ابن عمر، ولكن فيه عنعنة مدلس، ويشهد له حديث أم حميد السابق، وحديث ابن مسعود التالي، كذلك يشهد للفقرة الأولى منه: حديث البخاري (900)، ومسلم (442) من حديث ابن عمر أيضًا.

(2)

إسناده حسن: أخرجه أبو داود (570)، والحاكم (575) وغيرهما من حديث ابن مسعود، وفيه راو صدوق، وانظر حديث ابن عمر السابق.

مخدعها: هو الحجرة الصغيرة داخل الحجرة الكبيرة التى يحفظ فيها الأمتعة النفيسة.

ص: 39

لنا ما لم ينسخ. إذن فقوله تعالى: {يَامَرْيَمُ} [آل عمران: 37] هو خطاب لكل نساء المسلمين.

2 -

إنَّ كل ذات لها أركان وواجبات وسنن، والأركان هى التى لا توجد الذات إلا بها، والواجبات هى شيء هام للذات، لكن يمكن وجود الذات بدونها، والسنن هى كماليات للذات، فالأصل في الذات هو الركن؛ لأنه بوجوده توجد الذات، وبانعدامه تنعدم الذات؛ لذلك صحَّ شرعًا ولغةً إطلاق الجزء وإرادة الكل ما دام هذا الجزء ركنًا في الشيء، كقوله تعالى في كفارة اليمين:{فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ} [المائدة: 89]، فالذى يحرر لا يحرر رقبة فقط، بل يحرر الجسد كله، ولكنه أطلق الرقبة التى هى جزء وأراد بها كل الجسد؛ لأنَّ الرقبة ركن في الجسد، ومثله عَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنه قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا طَافَ في الْحَجِّ أَوِ الْعمرَة أول مَا يَقْدَمُ سَعَى ثَلَاثَةَ أَطْوَافٍ وَمَشَى أَرْبَعَةً، ثُمَّ سَجَدَ سَجْدَتَيْنِ، ثُمَّ يَطُوفُ بَيْنَ الصَّفَا والمروة

(1)

. أى أنه صلى ركعتين، فعبر عن الركعة بالسجدة، فأطلق الجزء وأراد الكل، إذن فقوله تعالى لمريم ولنساء المسلمين: اسجدي. أى صلي، فأطلق

(1)

أخرجه البخاري (1616)، ومسلم (1261) من حديث ابن عمر مرفوعًا.

ص: 40

الجزء من الصلاة وهو السجود، وأراد به الكل أى الصلاة، وكذلك قوله «واركعي» .

3 -

العطف يقتضى المغايرة؛ لأنه يمتنع عطف الشيء على نفسه، وعلى هذا لما ذُكِرَ في الآية: اسجدي واركعي. وعلم أنَّ المراد بهما الصلاة؛ عُلِمَ أن الصلاتين مختلفتان، فاسجدي تعبر عن صلاة، واركعي تعبر عن صلاة أخرى.

4 -

قال تعالى: {وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ} [آل عمران: 43]، فالمراد بالسجود الصلاة بمفردها، والمراد بالركوع الصلاة في جماعة، بدليل قوله:{مَعَ الرَّاكِعِينَ} [البقرة: 43]، وعليه يجوز للمرأة الصلاة في بيتها، والصلاة في المسجد.

5 -

عبَّر عن الصلاة في البيت مفردة بالسجود، وعبر عن الصلاة في المسجد جماعة بالركوع، ومعلوم شرعًا وعرفًا أنَّ السجود أفضل من الركوع، فعلم أنَّ صلاتها في بيتها أفضل من صلاتها في المسجد.

والخلاصة أن موضوعات علم أصول الفقه: الأحكام الشرعية باعتبارها الثمرة، والأدلة الإجمالية على الأحكام كالكتاب والسنة والإجماع والقياس وغيرها، وطرق الاستنباط ودلالات الألفاظ، وأبواب الاجتهاد والفتوى والتقليد.

ص: 41

وقد نظم بعض المعاصرين

(1)

ذلك فقال:

علم الأصول أربعٌ أحكام

أدلة دلالة حكام

•‌

‌ ثالثًا: الثمرة، وهى الفائدة:

1 -

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: فائدة علم أصول الفقه: هى معرفة الدارس مراد الله، ومراد رسوله صلى الله عليه وسلم، من الكتاب والسنة

(2)

. وهي من أعظم ثمرات هذا العلم.

مثال توضيحي:

قال تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ} [المائدة: 3]: أى أكلها. لكن الآية لم تصرح بذلك، إنما عُلم ذلك بالقاعدة التى تقول: إذا علق الحكم بعين رجع عرفًا ولغةً لما جُعِلت له هذه العين.

فالحلال والحرام لا يتعلقان بذوات، إنما يتعلقان بأفعال مرتبطة بتلك الذوات، فقول الله تعالى:{حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ} [النساء: 23]، فالأم ذات، فليس المراد تحريم ذات الأم، وإنما حرم الفعل المرتبط بها، وهو الفعل الذى جُعِلت له المرأة وهو

(1)

وهو الدكتور عامر بهجت: النظم الصغير من مختصر التحرير.

(2)

مجموع فتاوى شيخ الإسلام (20/ 497).

ص: 42

النكاح، ومنه قوله تعالى:{حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} [المائدة: 3]، فالميتة المحرم منها الفعل المرتبط بها، وهو الفعل الذى أعدت له الأنعام وهو الأكل.

2 -

التمكن من حصول قدرة يستطيع بها استخراج الأحكام الشرعية من أدلتها، على أسس سليمة.

3 -

يثبت أنَّ أحكام الإسلام صالحة لكل زمان ومكان.

4 -

يزيد في الفهم والفقه في الدين، وعليه فهو دليلٌ على إرادة الخير بالعبد؛ لأنَّ رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- قال:«من يرد الله به خيرًا يفقهه في الدين»

(1)

.

5 -

يُمَكِّن من تعليم الأحكام وبيانها أحسن بيان.

6 -

هو الذى تأمن من خلاله الأمة بقاء الأحكام الشرعية منضبطة.

7 -

طالب العلم الذي لم يبلغ درجة الاجتهاد يستفيد من دراسة أصول الفقه، حيث يجعله على بينة مما فعله إمامه عند استنباطه للأحكام، فمتى وقف الطالب على طرق الأئمة وأصولهم، فإنه تطمئن نفسه إلى مدرك ذلك الإمام الذي قلده في عين هذا الحكم أو ذاك.

(1)

أخرجه البخاري (71)، ومسلم (1037) من حديث معاوية بن أبي سفيان مرفوعًا.

ص: 43

8 -

المتخصص بعلم التفسير، وعلم الحديث يحتاج إلى دراسة علم أصول الفقه، حيث إنه يبين دلالات الألفاظ كتابًا أو سنة، وما يتعلق بها من أحكام.

9 -

هو علم يجمع بين العقل والنقل، ومن تعمق فيه عرف طريقة إيراد المسألة وتصورها، والاستدلال عليها، والاعتراض على بعض الأدلة، والجواب عن تلك الاعتراضات بأسلوب مبني على أسس ومناهج وطرق يندر أن تجدها في غير هذا العلم ..

•‌

‌ رابعًا: فضله:

والفضل يتناسب مع الثمرة، فكلما كانت الثمرة عالية؛ فالفضل يكون عظيمًا، فلما كانت ثمرته الفهم والبيان لكلام الله ورسوله صلى الله عليه وسلم؛ كان علمًا عظيم الفضل جليل القدر.

يقول الزركشى بعد أن قسم العلوم إلى عقلى وشرعى ولغوى: ولا شك أنَّ أشرف العلوم بعد الاعتقاد معرفة الأحكام العملية

، وشتان بين من يأتى بالعبادة تقليدًا، وبين من يأتى بها وقد ثلج صدره عن الله ورسوله، ولا يحصل هذا إلا بالاجتهاد، والناس في حضيض عن ذلك، إلا من تغلغل بأصول الفقه، وكرع من مناهله الصافية، وادرع ملابسه

ص: 44

الضافية، وسَبَح في بحره، وربح من كنوز درِّه

(1)

.

•‌

‌ خامسًا: النسبة:

هو من العلوم الشرعية، فهو ليس من العلوم العربية مثلًا أو العلوم العقلية، بل هو من العلوم الشرعية، ونسبته إلى غيره التباين والاختلاف، فعلم أصول الفقه يعمل في القواعد الأصولية، وعلم الفقه يعمل في الأحكام العملية، وعلم العقيدة يعمل في المسائل العلمية وهكذا، مع العلم أن جميع العلوم الشرعية يخدم بعضها البعض.

ومن ذلك ما يشير إليه الإمام الشاطبي فيقول:

والتاسع: حمل بعض العلوم على بعض في بعض قواعده حتى تحصل الفتيا في أحدها بقاعدة الآخر من غير أن تجتمع القاعدتان في أصل واحد حقيقي، كما يحكى عن الفراء النحوي أنه قال: من برع في علم واحد سهل عليه كل علم، فقال له محمد بن الحسن القاضي - وكان حاضرًا في مجلسه ذلك- وكان ابن خالة الفراء: فأنت قد برعت في علمك، فخذ مسألة أسألك عنها من غير علمك، ما تقول فيمن سها في صلاته، ثم سجد لسهوه، فسها في سجوده أيضا؟

قال الفراء: لا شاء عليه، قال: وكيف؟ قال: لأن التصغير عندنا لا

(1)

البحر المحيط للزركشي (1/ 21) دار الكتبي.

ص: 45

يصغر، فكذلك السهو في سجود السهو لا يسجد له؛ لأنه بمنزلة تصغير التصغير، فالسجود للسهو هو جبر للصلاة، والجبر لا يجبر كما أن التصغير لا يصغر، فقال القاضي: ما حسبت أن النساء يلدن مثلك.

وقال: رُوِيَ أن أبا يوسف دخل على الرشيد والكسائي يداعبه ويمازحه، فقال له أبو يوسف: هذا الكوفي قد استفرغك: وغلب عليك: فقال يا أبا يوسف إنه ليأتيني بأشياء يشتمل عليها قلبي.

فأقبل الكسائي على أبي يوسف، فقال: يا أبا يوسف هل لك في مسألة؟ فقال: نحو أم فقه؟ قال: بل فقه، فضحك الرشيد حتى فحص برجله، ثم قال: تلقي على أبي يوسف فقهًا، قال: نعم، قال: يا أبا يوسف ما تقول في رجل قال لامرأته أنت طالق أن دخلت الدار، وفتح أن؟ قال: إذا دخلت طلقت، قال أخطأت يا أبا يوسف، فضحك الرشيد، ثم قال: كيف الصواب؟ قال: إذا قال "أن" فقد وجب الفعل، ووقع الطلاق، وإن قال "إن"، فلم يجب، ولم يقع الطلاق، قال فكان أبو يوسف بعدها لا يدع أن يأتي الكسائي، فهذه المسألة جارية على أصل لغوي لا بد من البناء عليه في العلمين

(1)

.

(1)

الموافقات للشاطبي (1/ 84).

ص: 46

•‌

‌ سادسًا: الواضع:

إنَّ علم أصول الفقه كان موجودًا في زمن النبي وصحابته، ومن بعدهم كما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى، لكنَّ أول من جمعه في كتاب مستقل هو الإمام الشافعي رحمه الله، وذلك في كتابه الرسالة، ووضع الشافعى هذه الرسالة لمّا طلب منه عبد الرحمن بن مهدى أن يضع له كتابًا فيه معاني القرآن، ويجمع قبول الأخبار فيه، وحجيَّة الإجماع، وبيان الناسخ والمنسوخ من القرآن والسنَّة، فكتبها وأرسلها إليه؛ ولهذا سمِّيت بالرسالة.

قال عبد الرحمن بن مهدي: لما نظرت في " كتاب الرسالة " لمحمد بن إدريس أذهلني؛ لأنني رأيت كلام رجل عاقل فقيه ناصح، وإني لأكثر الدعاء له. وقال يحيى بن سعيد القطان مثل قول عبد الرحمن بن مهدي

(1)

.

وقال أحمد بن حنبل: ما عَلِمْنا المجمَل مِنْ المفسَّر، ولا ناسخ الحديث مِنْ مَنسوخِه حتى جالسنا الشافعي

(2)

.

قال المزني: قرأت «كتاب الرسالة» للشافعي خمسمائة مرة، ما من

(1)

طبقات الشافعيين لابن كثير.

(2)

تاريخ دمشق (51/ 324).

ص: 47

مرة منها إلا واستفدت منها فائدة جديدة لم أستفدها في الأخرى.

وفي كتاب أبي الحسن العاصمي عن أبي نعيم: عبد الملك بن محمد بن عدي، قال: قال أبو القاسم الأَنْمَاطِيّ: قال المُزَني: أنا أنظر في «كتاب الرسالة» عن الشافعي منذ خمسين سنة، ما أعلم أني نظرت فيه من مرة إلا وأنا أستفيد شيئاً لم أكن عرفته

(1)

.

•‌

‌ سابعًا: الاسم:

علم أصول الفقه.

•‌

‌ ثامنًا: الاستمداد:

يستمد علم أصول الفقه من الكتاب والسنة، حيث إنَّ أفضل البيان لكلام الله بكلام الله، وهذه القواعد الأصولية نعمل بها في الكتاب والسنة، فالأولى استخراجها من الكتاب والسنة ليُحكَم بالكتاب والسنة على الكتاب والسنة، قال ابن تيمية: فمن بنى الكلام في علم الأصول والفروع على الكتاب والسنة، والآثار المأثورة عن السابقين؛ فقد أصاب طريق النبوة

(2)

.

وكذلك يستمد من اللغة وذلك في أبواب دلالات الألفاظ، وغيرها.

(1)

مناقب الشافعي للبيهقي (1/ 236).

(2)

مجموع الفتاوي لابن تيمية (10/ 363) ط مجمع الملك فهد.

ص: 48

وقيل: إنه يستمد من العقل المجرد عن النص. وهذا غير صحيح؛ لأنَّ العقل في هذه الحالة سيكون حاكمًا على الشرع، وهذا خطأ؛ لأنَّ الشرع هو الحاكم على العقل، قال الزركشي: العقل مدرك للحكم لا حاكم.

(1)

لذا يقول ابن تيمية: الشرع قاض، والعقل شاهد، ويجوز للقاضي طرد الشاهد متى شاء

(2)

.

وما أجمل قول القائل:

عِلْمُ الْعَلِيمِ وَعَقْلُ الْعَاقِلِ اخْتَلَفَا

مَنْ ذَا الَّذِى مِنْهُمَا قَدْ أَحْرَزَ الشَّرَفَا

فَالْعِلْمُ قَالَ أَنَا قَدْ حُزْتُ غَايتَهُ

وَالْعَقْلُ قَالَ أَنَا الرَّحْمَنُ بِى عُرِفَا

فأَفْصَحَ الْعِلْمُ إفْصَاحًا وَقَالَ لَهُ

بَأينَا اللَّهُ في تَنْزِيلِهِ اتَّصَفَا

فَأيقَنَ الْعَقْلُ أَنَّ الْعِلْمَ سَيِّدُه

وَقَبَّلَ الْعَقْلُ رَأْسَ الْعِلْمِ وَانْصَرَفَا

(3)

وقيل: يستمد من المنطق والفلسفة وعلم الكلام وغيرها، حتى ظن البعض بأنه لا يمكن أن تستغني علوم الشريعة عن هذه العلوم.

وهذا قول غير صحيح؛ لأمور منها:

أولًا: أنها في غالبها علوم مذمومة في الشريعة؛ إذ إن كثيرًا منها جاء مناقضًا لما في الكتاب والسنة.

(1)

البحر المحيط في أصول الفقه (1/ 193).

(2)

مجموع الفتاوى (11/ 490).

(3)

صفوة التفاسير للصابوني (1/ 194).

ص: 49

ثانيًا: هى علوم حادثة لم تكن موجودة في زمان الوحى، ورغم عدم وجودها كان الصحابة يفهمون النصوص أحسن فهم، ويبينونها أحسن بيان.

ثالثًا: إن كان في هذه العلوم بعض الخير، فكل خير فيها موجود في علوم الكتاب والسنة.

•‌

‌ تاسعًا: حكم الشارع:

تعلم علم أصول الفقه فرض كفاية

(1)

، إذا قام به البعض الكافي سقط عن الجميع، فإن لم يخرج البعض الكافى بقي الإثم على القادر.

•‌

‌ عاشرًا: مسائله:

هى تدوين المسالك التى يلتزمها المجتهد، ويسترشد بها، ويجتهد على ضوئها

(2)

.

(1)

المسودة لآل تيمية (ص 571) ط دار الكتاب العربي.

(2)

التأسيس في أصول الفقه للشيخ مصطفى سلامة (ص 11).

ص: 50

‌الفصل الثالث

نشأة علم أصول الفقه والأطوار التي مر بها

وفيه مباحث:

• المبحث الأول: علم أصول الفقه في زمن النبوة.

• المبحث الثاني: علم أصول الفقه في عصر الصحابة.

• المبحث الثالث: علم أصول الفقه في عصر التابعين.

• المبحث الرابع: نبذة مختصرة عن الإمام الشافعي رحمه الله.

• المبحث الخامس: رسالة الإمام الشافعي.

• المبحث السادس: ما بعد رسالة الشافعي.

• المبحث السابع: المذاهب الأصولية وطرق التصنيف.

• المبحث الثامن: طرق التصنيف في أصول الفقه، والكتب المصنفة فيه.

• المبحث التاسع: أثر دخول المسائل الكلامية والمباحث الاعتقادية في

علم أصول الفقه.

ص: 51

‌المبحث الأول:

علم أصول الفقه في عهد النبوة

• تنبيه: إن معرفة تاريخ أي علم من العلوم نشأة وتطورًا له فوائد منها:

1 -

الإحاطة بجوانب هذا العلم بداياته ونهاياته، فيسهل على الدارس أن يضع لنفسه منهجًا يستطيع من خلاله أن يرتقي في هذا العلم.

2 -

معرفة فضل السلف على الخلف، فكم ترك السلف المبارك نتاجًا تذخر به المكتبة الإسلامية اليوم.

3 -

علو همة الدارس في أن ينظر في بناء هذا العلم، ما ينقصه فيكمله، فيضيف لبنة في بناء العلم الشامخ؛ فإن العلماء في التصنيف في كل علم على أضرب:

فمن تصانيفهم ما بُسط ليسهل فهمه، ومنها ما اختُصِر ليسهل حفظه.

ص: 52

ثم يأتي اللاحق فإما أن يختصر ما بسطه السابق، أو يستدرك عليه مسائل، أو يرتب أبوابه.

أو يأتي إلى ما اختصره السابق فيشرحه ويبين فوائده، ويفتح أبواب كنوزه.

أو يأتي إلى مسألة واحدة من مسائله فيصنف فيها استقلالًا، فيجمع أقوال العلماء وخلافهم، ويستفرغ وسعه في بحثها، ثم يرجح فيها ما يترجح لديه.

4 -

الرد على الشبهات المثارة حول هذا العلم، وغير ذلك من الفوائد.

وعليه لابد من معرفة تاريخ علم أصول الفقه، وتطوره بداية من عصر النبوة إلى يومنا هذا، وهذه ما سنتناوله في هذا الفصل إن شاء الله تعالى، وأول ذلك أصول الفقه في عصر النبوة.

كان الصحابة رضي الله عنهم يعيشون في صدر الإسلام، والوحي ينزل، فيتلقون من النبي صلى الله عليه وسلم الأحكام والشريعة والعقيدة وسائر أبواب الدين، فكانوا يتلقون هذا الدين منه صلى الله عليه وسلم غضًّا طريًّا.

وعلم أصول الفقه كان علمًا مبثوثًا، وملكة راسخة عند الصحابة في عصر النبوة وبعده، بل كانوا منضبطين في تعاملهم بجملة من القواعد

ص: 53

استحالت بعد ذلك في عصر التدوين إلى علوم، وصنفت فيها المدونات وأخرجت للناس.

يقول الزركشي: علم أصول الفقه قاعدة الشرع، وأصلٌ يرد إليه كل فرع، وقد أشار المصطفى صلى الله عليه وسلم في جوامع كلمه إليه، ونبه أرباب اللسان عليه، فصدر في الصدر الأول منه جملة سنِّية، ورموز خفية

(1)

.

• وقد كان هذا العلم في عصر النبوة على جزأين أو مستويين:

الأول: جزء كان ملكة عندهم بحكم السليقة واللسان العربي، والصحابة كانوا عربًا قِحاحًا، فكانوا لا يجدون عنتًا وتكلفًا في معرفة مراد الله في كتابه، ومراد رسوله صلى الله عليه وسلم في سنته.

ولا شك أن معرفة دلالات الألفاظ هي مناط الاستنباط الدقيق للأحكام من الوحيين (الكتاب والسنة)، بل هو المقصد الأعظم من أصول الفقه.

والثاني: كان تربية وتلقيًا من رسول الله صلى الله عليه وسلم، يدلهم فيها النبي صلى الله عليه وسلم على طرق الاستنباط ودلالات الألفاظ، وكان جزءًا من الممارسة العملية لهذا العلم.

فالصحابة كانوا أعلم الناس بلغة العرب مصدرًا وموردًا مع

(1)

البحرالمحيط للزركشي (1/ 4).

ص: 54

مشاهدتهم التنزيل، فتحصَّل لهم من ذلك الرسوخ العلمي بدلالات الألفاظ مما يحتاج إليه المشتغل باستخراج الأحكام من الكتاب والسنة.

قال ابن القيم: فإنَّ الصحابة أعلم بمعاني النصوص، وقد تلقوها من فيِّ رسول الله، فلا يُظن بأحد منهم أن يُقْدِمَ على قول: أمَرَ رسول الله، أو حرَّم، أو فرض إلا بعد سماع ذلك، ودلالة اللفظ عليه واحتمال خلاف هذا، كاحتمال الغلط والسهو في الرواية بل دونه، فإن رد قوله أَمَرَ ونحوه بهذا الاحتمال وجب رَدُّ روايته لاحتمال السهو والغلط، وإن قُبلت روايته وجب قبول الآخر

(1)

.

ونقل شيخ الإسلام ابن تيمية الإجماع على أنَّ الصحابة رضي الله عنهم أعرف بالحقائق وأفصح بترتيب الألفاظ من غيرهم

(2)

؛ لذلك بنى العلماء على ذلك أحكامًا أصولية، منها:

1 -

قول الصحابي: حرَّم رسول الله صلى الله عليه وسلم كذا أو أمر بكذا، وقضى بكذا، أو أوجب كذا. في حكم المرفوع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.

2 -

جواز رواية الحديث بالمعنى.

(1)

تهذيب سنن أبي داود لابن القيم (9/ 242).

(2)

درء تعارض العقل والنقل لابن تيمية (3/ 374).

ص: 55

قال السبكي: إنَّ الصحابة رضي الله عنهم ربما نقلوا القصة الواحدة بألفاظ مختلفة، وكتب الحديث تشهد بذلك، ومن الظاهر أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم لم يذكر تلك القصة بجميع تلك الألفاظ، بل نحن في بعضها قاطعون بذلك، وكان هذا شائعًا بينهم ذائعًا غير منكر من أحد، فكان إجماعًا على نقل الحديث بالمعنى

(1)

.

3 -

اعتبار بيان الصحابة النصوص وتفسيرها.

فعلماء الأصول يقررون أنَّ القرآن يبين مجمل القرآن، وكذلك السنة تبين مجمل القرآن ومجمل السنة، ثم يأتي بيان الصحابة للآيات القرآنية والأحاديث النبوية.

قال شيخ الإسلام: وحينئذ إذا لم نجد التفسير في القرآن ولا في السنة، رجعنا في ذلك إلى أقوال الصحابة، فإنهم أدرى بذلك؛ لما شاهدوه من القرآن والأحوال التي اختصوا بها، ولما لهم من الفهم التام، والعلم الصحيح، والعمل الصالح، لاسيما علماؤهم وكبراؤهم، كالأئمة الأربعة الخلفاء الراشدين، والأئمة المهديين مثل عبد الله بن مسعود

(2)

.

(1)

الإبهاج في شرح المنهاج للسبكي (3/ 345).

(2)

مقدمة في أصول التفسير لابن تيمية (26).

ص: 56

قال ابن حجر: وتفاسير الصحابة عند جمهور الأئمة المتقدمين على ما نقله الحاكم أبو عبد الله محمولة على الرفع، وبعض المحققين حمل ذلك على ما يتعلق بأسباب النزول وما أشبهها، وهو واضح والله أعلم

(1)

.

لذلك كان خطأ أكثر المستدلين بالألفاظ على غير وجهها الصحيح، إنما كان بسبب استعمالهم الألفاظ في معانٍ غير ما استعمله الصحابة.

فمن لم يعرف لغة الصحابة التي كانوا يتخاطبون بها ويخاطبهم بها النبي صلى الله عليه وسلم، وعادتهم في الكلام حرَّف الكلم عن مواضعه.

لذلك فالرجوع إلى فهم الصحابة للألفاظ أمر متعين سواء في معانيها اللغوية أو الشرعية.

فهذا العلم (أصول الفقه) كان موجودًا بين الصحابة وكانوا يعرفونه.

قال السبكي: الصحابة ومن بعدهم كانوا عارفين به -يعني أصول الفقه- بطباعهم، كما كانوا عارفين النحو بطباعهم قبل مجيء الخليل وسيبويه، فكانت ألسنتهم قويمة، وأذهانهم مستقيمة، وفهمهم لظاهر

(1)

تغليق التعليق لابن حجر (2/ 25).

ص: 57

كلام العرب دقيق عتيد؛ لأنهم أهله الذين يؤخذ عنهم، أما بعدهم فسدت الألسن، وتغيرت الفهوم، فيُحتَاج إليه كما يُحتَاج إلى النحو

(1)

.

فالصحابة كانوا يفهمون نصوص الوحي بحكم سليقتهم العربية، لذا لم تبرز الحاجة إلى تسطير قواعد تساعد على فهم النصوص، ولم تُرْوَ عنهم تلك القواعد؛ لأنها كانت مركوزة في الفِطَر بحكم الطبيعة واللسان العربي.

وكانت محاولاتهم واجتهادهم في فهم النصوص في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، فمنهم مصيب، ومنهم مخطئ، والنبي صلى الله عليه وسلم يُقَوِّمُ ذلك، يُصَوِّب هذا ويُخطِّئ هذا، ويبين لهم الراجح والمرجوح.

والأدلة والأمثلة على استعمال الصحابة لتلك القواعد التي يصدرون عنها في فهم النصوص كثيرة:

منها: إقراره صلى الله عليه وسلم لاجتهاد الصحابة، وإن أدى ذلك إلى اختلافهم نتيجة اجتهادهم في فهم المراد.

فعن ابن عمر رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم لنا لما رجع من الأحزاب: «لا يصلين أحد العصر إلا في بني قريظة» ، فأدرك بعضهم العصر في

(1)

الإبهاج في شرح المنهاج للسبكي (1/ 8).

ص: 58

الطريق، فقال بعضهم: لا نصلي حتى نأتيها، وقال بعضهم: بل نصلي لم يرد منا ذلك. فذُكِرَ للنبي صلى الله عليه وسلم فلم يعنف واحدًا منهم

(1)

.

ففريق اعتمد على ظاهر اللفظ، وفريق اعتمد على المعنى والنظر والحكمة المقصودة من اللفظ؛ وهذان مسلكان يحتاجهما الفقيه.

ومنها: أنَّ عمرو بن العاص رضي الله عنه لما بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم عام ذات السلاسل قال: احتلمت في ليلة باردة شديدة البرد، فأشفقت إن اغتسلت أن أهلك، فتيممت ثم صليت بأصحابي صلاة الصبح قال: فلما قدمنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكرت له ذلك، فقال: يا عمرو صليت بأصحابك وأنت جنب؟ قلت: نعم، إني احتلمت في ليلة شديدة البرد، فأشفقت إن اغتسلت أن أهلك، وذكرت قول الله عز وجل:{وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} [النساء: 29] فتيممت ثم صليت، فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يقل شيئًا

(2)

.

فعمرو بن العاص رضي الله عنه استدل بعموم قول الله تعالى: {وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} [النساء: 29]، على جواز أن يصلي

(1)

أخرجه البخاري (946) من حديث ابن عمر مرفوعًا.

(2)

صحيح لطرقه: أخرجه أبوداود (334)، والدارقطني في سننه (681) وغيرهما من حديث عمرو بن العاص، وله طرق ومتابعات فيها بعض الاختلاف الذي

لا يضر.

ص: 59

بأصحابه متيممًا حفاظًا لنفسه من الهلكة، وهذا باب العموم من أبواب أصول الفقه، وأقره النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك، بل لم يأمره بالإعادة، بل إنَّ ضحك النبي صلى الله عليه وسلم يدل على ما هو أعلى من مجرد الإقرار، إنه يدل على الإعجاب بالفهم والعمل.

ومنها: عن عبد الله بن مسعود قال: لما نزلت هذه الآية: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} [الأنعام: 82]، شق ذلك على المسلمين فقالوا: يا رسول الله، أينا لا يظلم نفسه. قال: (ليس ذلك، إنما هو الشرك، ألم تسمعوا ما قال لقمان لابنه وهو يعظه:{يَابُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان: 13]

(1)

.

وهذا فيه دلالة على أنَّ قواعد أصول الفقه كانت حاضرة في أذهان الصحابة فالآية: قال تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} [الأنعام: 82]، شق ذلك على الصحابة للعموم الوارد في الآية.

فهذه القواعد كانت مستقرة في أذهان الصحابة؛ لذا شق ذلك عليهم فقالوا: فأينا لا يظلم نفسه. فبين لهم النبي صلى الله عليه وسلم أنَّ الأمر ليس كما

(1)

أخرجه البخاري (3429)، ومسلم (124) من حديث ابن مسعود مرفوعًا.

ص: 60

فهموا، بل هو عموم مخصوص، أو عموم يراد به الخصوص وهو الشرك.

ومنها: حديث ابن عمر قال: بينما الناس في صلاة الصبح بقباء، إذ جاءهم آت، فقال: إنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أُنْزِل عليه الليلة، وقد أُمِرَ أن يستقبل الكعبة، فاستقبلوها، وكانت وجوههم إلى الشأم، فاستداروا إلى القبلة

(1)

.

• وهذا فيه دلالة على قواعد ومسائل أصولية عدة، منها:

أولًا: أنَّ ظاهر الأمر يقتضي الوجوب، وهذا كان مقررًا في أذهان الصحابة؛ لذلك استداروا إلى الكعبة وهم في الصلاة، مع ما يلزم ذلك من محظورات ككثرة الحركة والاستدارة ونحوها في الصلاة.

ثانيًا: أنَّ الأمر على الفور، فلم ينتظروا ولو لمجرد إنهاء الصلاة.

ثالثًا: أنَّ العلم شرط في التكليف، فمع أنَّ النص نزل قبل ذلك بزمن، لكنهم لم يُكَلَّفوا به إلا بعد وصوله إليهم، بدليل إكمالهم للصلاة مع أنهم صلوا منها ركعتين لقبلة منسوخة.

رابعًا: أنَّ التكليف بالنص يكون إذا سلم من المعارض، فالحركة والدوران والانتقال للرجال مكان النساء والعكس، كل ذلك محظور

(1)

أخرجه البخاري (4494)، ومسلم (526) من حديث ابن عمر مرفوعًا.

ص: 61

ممنوع، لكنهم غير مكلفين به لوجود العارض، وهو وصول نص تحويل القبلة إليهم.

خامسًا: حجية خبر الواحد، وأنه دليل معتبر من أدلة الأحكام؛ لذا قبلوا قول الصحابي وعملوا به.

ومنها: حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: أنَّ رجلًا أصاب من امرأة قُبلة، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له، فنزلت:{وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ} [هود: 114]، فقال الرجل: ألي هذه؟ قال: «لمن عمل بها من أُمتي»

(1)

.

وفي رواية: فقال رجل من القوم: يا رسول الله، أله خاصة أم للناس كافة؟ فقال:«للناس كافة»

(2)

.

فلما نزلت الآية جوابًا على سؤال السائل فهم منها أنها له خاصة، فسأل النبي صلى الله عليه وسلم؛ فبين أنها للناس كافة.

وهذه دلالة على قاعدة أصولية وهي: العبرة بعموم اللفظ، لا بخصوص السبب.

(1)

أخرجه البخاري (4687)، ومسلم (39)(2763) من حديث ابن مسعود مرفوعًا.

(2)

أخرجه مسلم (42)(2763) من حديث ابن مسعود أيضا مرفوعًا.

ص: 62

ومنها: سؤالهم النبي صلى الله عليه وسلم عن تعليل الأحكام، كما في حديث أبي ذر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا قام أحدكم يصلي، فإنه يستره إذا كان بين يديه مثل مؤخرة الرحل، فإذا لم يكن بين يديه مثل مؤخرة الرحل؛ فإنه يقطع صلاته الحمار والمرأة والكلب الأسود» ، فقال أبو ذر: يا رسول الله، فما بال الكلب الأسود، من الكلب الأحمر، من الكلب الأصفر؟ فقال صلى الله عليه وسلم:«الكلب الأسود شيطان»

(1)

.

وهذا فيه أيضًا العمل بمفهوم المخالفة، فأبو ذر فهم أنَّ حكم الأحمر والأصفر مخالف لحكم الأسود، وأقره النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك.

ومنها: أن النبي صلى الله عليه وسلم أَقَرَّ معاذًا رضي الله عنه على اجتهاد رأيه فيما لا يجد فيه نصًّا عن الله ورسوله، فكان هذا إجازة في الاجتهاد فيما لا نص فيه.

وذلك لما بعثه إلى اليمن فقال: بم تحكم؟ قال: أحكم بكتاب الله. قال: فإن لم تجد. قال: فبسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: فإن لم تجد؟ قال: أجتهد رأيي ولا آلو. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الحمد لله الذي وفق رسولَ رسولِ الله لما يحبه الله ورسوله»

(2)

. فبين معاذ الأدلة التي يأخذ منها

(1)

أخرجه مسلم (510) من حديث أبي ذر مرفوعًا.

(2)

إسناده ضعيف: أخرجه الترمذي (1327)، وأبو داود (3592)، وأحمد (22061) وغيرهم، من حديث معاذ بن جبل، وفيه: الحارث بن عمرو، على الجهالة، وشيوخه على الجهالة أيضا، وقد ضعف الحديث غير واحد من أهل العلم منهم: البخاري والترمذي، وإن كان هناك من الأئمة من صححه.

ص: 63

الأحكام، وهي الكتاب والسنة والرأي والاجتهاد، وأقره النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك.

ومنها: أنَّ القياس -وهو من الأدلة- عمل به النبي صلى الله عليه وسلم وقرره وعلَّمه الصحابة -رضوان الله عليهم-.

ومن هذا ما كان تعليمًا وتربية منه صلى الله عليه وسلم لصحابته كيف يتعاملون مع ما يستجد لهم من الحوادث إن لم يكن معهم نص فيها، فكان القياس تقريرًا شرعيًّا لمبدأ من مبادئ التعامل مع النصوص.

ومن ذلك عن ابن عباس رضي الله عنهما: أنَّ امرأة جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقالت: إن أمي نذرت أن تحج، فماتت قبل أن تحج، أفأحج عنها؟ قال:«نعم حجي عنها، أرأيت لو كان على أمك دين أكنت قاضيته؟ قالت نعم. قال: اقضوا الله الذي له، فإنَّ الله أحق بالوفاء»

(1)

.

وفي حديث ابن عباس رضي الله عنه قال: جاءت امرأة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله، إنَّ أمي ماتت، وعليها صوم نذر، أفأصوم عنها؟ قال:«أرأيت لو كان على أمك دين فقضيته، أكان يؤدى ذلك عنها؟ قالت: نعم. قال: فصومي عن أمك»

(2)

.

(1)

أخرجه البخاري (7315) من حديث ابن عباس مرفوعًا.

(2)

أخرجه مسلم (1148) من حديث ابن عباس مرفوعًا.

ص: 64

فكلا الحديثين قياس من النبي صلى الله عليه وسلم، وهو قياس الأولى، فالأصل الدين المادي، والفرع الحج والصيام، والجامع بينهما أنَّ كليهما دين؛ لذلك أعطى النبي صلى الله عليه وسلم حكم الأصل للفرع بجامع العلة، وقوله صلى الله عليه وسلم: «أرأيت لو كان

الحديث»، هذه تربية منه للصحابة وتعليم لهم كيف يستنبطون الأحكام.

وجاء من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم جاءه أعرابي، فقال: يا رسول الله إنَّ امرأتي ولدت غلامًا أسود، فقال:«هل لك من إبل؟ قال: نعم. قال: ما ألوانها؟ قال: حمر. قال: فيها من أورق؟ قال: نعم. قال: فأنى كان ذلك؟ قال: أراه عرق نزعه. قال: فلعل ابنك هذا نزعه عرق»

(1)

.

ومن ذلك ما ورد من حديث أبي ذر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «وفي بُضع أحدكم صدقة» ، قالوا: يا رسول الله، أيأتي أحدنا شهوته، ويكون له فيها أجر؟ قال:«أرأيتم لو وضعها في حرام، أكان عليه فيها وزر؟ فكذلك إذا وضعها في الحلال كان له أجرٌ»

(2)

.

وهذا نوع من أنواع القياس يسمى قياس العكس، وهو إثبات نقيض حكم الأصل للفرع؛ لوجود نقيض علة حكم الأصل فيه.

(1)

أخرجه البخاري (6847)، ومسلم (1500) من حديث أبي هريرة مرفوعًا.

(2)

أخرجه مسلم (1006) من حديث أبي ذر مرفوعًا.

ص: 65

ومنها: تعليمه صلى الله عليه وسلم كيفية التعامل مع النصوص عند إيهام التعارض، كما في حديث عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من حوسب يوم القيامة عُذِّب» ، فقلت: أليس قد قال الله عز وجل: {فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا} [الانشقاق: 8]، فقال:«ليس ذلك الحساب إنما ذاك العرض، من نوقش الحساب يوم القيامة عُذِّب»

(1)

.

فعائشة رضي الله عنها فهمت العموم في قول النبي صلى الله عليه وسلم، وقابلته بآية من كتاب الله ظاهرها التعارض.

ومنها: أبواب مقاصد الشريعة وتقديم خير الخيرين، ودفع شر الشرين، فلقد قرر قواعدَ هذا الباب النبيُّ صلى الله عليه وسلم.

كما في حديث عائشة رضي الله عنها، أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لها: «لولا أنَّ قومك حديث عهد بشرك، لهدمت الكعبة

الحديث»

(2)

.

وكما في حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما، أنَّ عبد الله بن أبي لما قال: أما والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل. فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم، فقام عمر فقال: يا رسول الله، دعني أضرب عنق هذا

(1)

أخرجه البخاري (6536)، ومسلم (2876) واللفظ له، من حديث عائشة مرفوعًا.

(2)

أخرجه البخاري (126)، ومسلم (1333) واللفظ له، من حديث عائشة مرفوعًا.

ص: 66

المنافق. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «دعه، لا يتحدث الناس أنَّ محمدًا يقتل أصحابه»

(1)

.

وهذا باب من أبواب أصول الفقه، وهو باب التزاحم، ماذا يقدم إذا تزاحم واجب مع واجب، أو محرم مع محرم، وغير ذلك.

وغير ذلك من الأمثلة الكثيرة.

فتطبيق الأصول علمًا ذا قواعد وطرقًا للاستنباط والفهم، كان موجودًا في عصر النبوة، جزءًا منه كان موجودًا سليقة باللسان العربي الذي يمتلكونه، وجزءًا كان تربية من النبي صلى الله عليه وسلم يعرفهم مبادئ الاستنباط، ومآخذ الحكم من الدليل.

فتكوَّن بذلك ملكة عند الصحابة أهَّلَتْهم بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، ليكونوا فقهاء وعلماء مجتهدين يقوون على استنباط الأحكام من الأدلة، للمسائل التي لم يكن لها تعيين في القرآن ولا في السنة.

وقد كان ذلك واضحًا منذ اليوم الأول لهم بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، فلم يكونوا عالة على النصوص، بل وفقهم الله تعالى لاتخاذ المواقف الصحيحة، واستنباط الأحكام الصحيحة، وأن يكونوا علماء مجتهدين منذ اليوم الأول بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم.

(1)

أخرجه البخاري (4907)، ومسلم (2584) من حديث جابر مرفوعًا.

ص: 67

‌المبحث الثاني:

أصول الفقه في عصر الصحابة

عاش الصحابة مرحلة لا وحي فيها بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، لكنهم امتلكوا قدرًا كبيرًا من فهم الشريعة، وإدراك مقاصدها.

وبعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم أصبح هذا العلم أكثر بروزًا، وهذه التطبيقات أكثر وضوحًا، وكانوا يجتهدون في كثير من المسائل المستجدة، وظهر في اجتهادهم النظر السديد، والفقه الدقيق.

فصار تعامل الصحابة مع النصوص وفهمها بمثابة وضع القواعد للفهم والاستنباط فيما يتعلق بدلالات الألفاظ.

قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: قال النبي صلى الله عليه وسلم كلمة، وقلتُ أخرى، قال النبي صلى الله عليه وسلم:«من مات وهو يدعو من دون الله ندًّا دخل النار» ، وقلت أنا: من مات وهو لا يدعو لله ندًّا دخل الجنة

(1)

.

(1)

أخرجه البخاري (4497)، ومسلم (92) من حديث ابن مسعود مرفوعًا.

ص: 68

فهذه إشارة إلى دلالة مفهوم المخالفة الذي عبر عنه الخطيب البغدادي فقال: ولم يقل عبد الله هذا إلا من ناحية دليل الخطاب

(1)

اه.

ومنها: أنَّ عمر رضي الله عنه أُتي بامرأة قد ولدت لستة أشهر، فهَمَّ برجمها، فبلغ ذلك عليًّا رضي الله عنه فقال: ليس عليها رجم. فبلغ ذلك عمر، فأرسل إليه، فقال: قال تعالى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ} [البقرة: 233]، وقال تعالى:{وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا} [الأحقاف: 15]، فستة أشهر حمله وحولين تمام لا حد عليها، فخلى عمر عنها

(2)

.

وهذه إشارة إلى دلالة القرآن للحكم من دليلين، باستخراج حكم لم يدل عليه أحدهما، وإنما استفيد من مجموعهما، وتسمى (دلالة إشارة).

ومنها: إجماع الصحابة أنَّ ظاهر الأمر يقتضي الوجوب، كاحتجاج أبي بكر على عمر رضي الله عنهما بقوله تعالى:{وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ}

(1)

الفقيه والمتفقه للخطيب البغدادي (1/ 323) ط ابن الجوزي.

(2)

إسناده صحيح: أخرجه عبد الرزاق (13444)، وابن أبي حاتم في تفسيره (2264)، وابن عبد البر في «جامع بيان العلم وفضله» (1746)، وغيرهم من طرق عن سعيد بن أبي عروبة عن أبي حرب بن أبي الاسود الديلي عن أبيه عن عمر بن الخطاب فذكره.

ص: 69

[البقرة: 43]، وذلك في نفي التفريق بين تارك الصلاة ومانع الزكاة في الحكم بالوجوب.

وكذلك فهم أنَّ هناك من الأوامر على الوجوب، ومنها ما ليس بواجب، كما في حديث علي رضي الله عنه: الوتر ليس بحتم كصلاتكم المكتوبة، ولكن سنَّه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال:«إن الله وتر يحب الوتر، فأوتروا يا أهل القرآن»

(1)

.

وكذلك فهم الصحابة أنَّ النهي قد يأتي للتحريم، وقد يأتي لغير التحريم.

كما في الصحيحين من حديث أم عطية رضي الله عنها قالت: نُهينا عن اتباع الجنائز ولم يُعزَم علينا

(2)

.

ومنها: إجماع الصحابة على أنَّ للعموم صيغًا تخصه.

قال الآمدي: وأما الإجماع فمنه احتجاج عمر على أبي بكر في قتال مانعي الزكاة بقوله: كيف تقاتلهم وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «أمرت أن أقاتل

(1)

إسناده حسن: أخرجه أبو داود (1416)، والترمذي (453)، والنسائي في «الكبرى» (440)، وابن ماجه (1169) من طريق عاصم بن ضمرة - وهو صدوق- عن علي بن أبي طالب به.

(2)

أخرجه البخاري (1278)، ومسلم (938) من حديث أم عطية به.

ص: 70

الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم»

(1)

(2)

.

ولم ينكر عليه أحد من الصحابة احتجاجه بذلك، بل عدل أبو بكر إلى التعليق بالاستثناء، وهو قوله صلى الله عليه وسلم:«إلا بحقها» فدل ذلك على أنَّ لفظ الجمع المعرَّف للعموم.

ومنها: احتجاج فاطمة رضي الله عنها على أبي بكر رضي الله عنه في توريثها من أبيها صلى الله عليه وسلم فدك والعوالي، بقوله تعالى:{يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} [النساء: 11]، ولم ينكر عليها أحد من الصحابة.

بل عدل أبو بكر رضي الله عنه إلى ما رواه عن النبي صلى الله عليه وسلم من دليل التخصيص، وهو قوله صلى الله عليه وسلم:«نحن معاشر الأنبياء لا نورث ما تركناه صدقة»

(3)

اه.

(1)

أخرجه البخاري (1399)، ومسلم (20) من حديث أبي هريرة مرفوعًا.

(2)

الإحكام للآمدي الكتاب العربي (2/ 223).

(3)

أخرجه البخاري (3092)، ومسلم (1759) من حديث عائشة مرفوعًا.

ص: 71

• وكذلك في استخدامهم القياس لاستنباط الأحكام في المسائل الغير منصوص فيها:

منها: قياسهم شارب الخمر على المفتري في جلده ثمانين جلدة قياسًا على المفتري، فقد أخرج مالك في الموطأ أنَّ عمر بن الخطاب رضي الله عنه استشار في الخمر يشربها الرجل؟ فقال له علي بن أبي طالب: نرى أن تجلده ثمانين، فإنه إذا شرب سَكَر، وإذا سكر هذي، وإذا هذي افترى

(1)

. فَجَلد عمر في الخمر ثمانين.

ومنها: قياسهم قتل الجماعة بالواحد قياسًا على سرقتهم.

ومنها: جعلهم الرقيق على النصف من الحُر في النكاح والطلاق والعدة قياسًا على الحدود.

وقولهم بالعول في الفرائض، لإدخال النقص على جميع الورثة قياسًا على النقص على الغرماء في الدين، وغيرها الكثير.

قال الجويني: ونحن نعلم أنَّ الصحابة رضي الله عنهم كانوا يبتدرون إلى القياس بالحوادث ما شذ منها وما ظهر، ونعلم قطعًا بألفاظ مصرح بها،

(1)

حسن بمجموع طرقه: أخرجه مالك في الموطأ (2442)، ولكن سنده معضل،

وأخرجه النسائي في «الكبرى» (5269) وغيره من حديث ابن عباس، ولكن فيه راو مجهول، وأخرجه عبد الرزاق (14342) وفيه انقطاع، والأثر له طرق أخرى، وحاصله أنها تقوي بعضها.

ص: 72

وهذا ما لا سبيل إلى جحده، والذي يوضح ذلك أنهم اعتبروا طريق القياس في غوامض المسائل مع شغورها عن العلل المنصوصة في أصولها

(1)

.

وقد اختصر الإمام الشاطبي منهج الصحابة في الاستدلال والقياس بكونه منطلقًا من أمرين: الوحي، والمقاصد. فيقول: الصحابة رضي الله عنهم قصروا أحكامهم على اتباع الأدلة، وفهم مقاصد الشرع

(2)

.

وكان من منهجهم أيضًا في الاستدلال اعتناؤهم بتعليل الأحكام، وهو كثير في اجتهادهم، فبنوا الأحكام المقيسة على العلل؛ كتعليلهم أولوية أبي بكر بالخلافة، لأنَّ النبي صلى الله عليه وسلم رضيه لدينهم، وتعليل علي رضي الله عنه جلد شارب الخمر ثمانين بأنه إذا سكر هذي، وإذا هذي افترى، والفرية حدها ثمانون جلدة.

فلذلك كان من أسباب اختلاف الصحابة اختلافهم في التعليل.

فالصحابة -رضوان الله عليهم- كانوا علماء مجتهدين، وقد تفاوتوا في الفقه والفهم غاية التفاوت، وكانوا يجتهدون ويختلفون وينكر بعضهم على بعض، ويستدرك بعضهم على بعض.

(1)

التلخيص في أصول الفقه للإمام الجويني (3/ 247).

(2)

الاعتصام للشاطبي (2/ 153).

ص: 73

وفي كل ذلك كانت قواعد علم أصول الفقه حاضرة في أذهانهم، وفي اجتهادهم، لكنها لم تكن مدونة، بل كانت في أذهانهم.

وورَّث الصحابة -رضوان الله عليهم- هذا العلم إلى جيل التابعين، كما ورَّثوا غيره من العلوم.

ص: 74

‌المبحث الثالث:

علم أصول الفقه في عصر التابعين

ما زال علم أصول الفقه إلى الآن قواعد على ألسنة العلماء من الصحابة وتلاميذهم من التابعين لم يُدوَّن كعلم مستقل.

وقد وَرِث التابعون هذا العلم من الصحابة بملازمتهم، والتفقه عليهم، فتشكلت حلق ومدارس للصحابة يُدَرِّسون فيها العلم للتابعين.

فكان ابن عباس في مكة، وابن عمر في المدينة، وعبد الله بن مسعود في الكوفة، وأنس بن مالك في البصرة، وأبو الدرداء في الشام، وكان من سياسة عمر رضي الله عنه أن يرسل مع الجيوش في الفتوحات من يعلِّم أهلها.

فتأثر أهل كل بلد بفقه الصحابي الذي فيه، فورثوا علم الصحابة من خلال التأثر بطرائق الصحابة في الفهم والفتوى.

وقد يرحل التابعي إلى الصحابي، فيجمع فقهه وعلمه، ثم يرحل إلى آخر، فيجمع فقهه وعلمه.

ص: 75

وقد يلزم التابعي صحابيًّا بعينه حتى يُشتهر بالأخذ عنه.

ومن ذلك: سعيد بن المسيب اشتهر بالأخذ عن أبي هريرة.

وكذلك نافع مولى ابن عمر اشتهر بالأخذ عنه، وتشرب فقهه.

واشتهر عكرمة بالأخذ عن ابن عباس، والتفقه عليه.

فورَّث الصحابة العلم بانتشارهم في الآفاق والبلاد، وتدريسهم العلم لطلابهم، والآخذين عنهم.

فتشرب به التابعون، وورَّثوه بدورهم إلى غيرهم من أتباعهم، بل إنَّ المذاهب الفقهية الكبرى كانت متأثرة بفقه الصحابة.

ففقه أبي حنيفة ينتهي في إسناده إلى عبد الله بن مسعود.

وفقه مالك ينتهي في إسناده إلى ابن عمر (مالك عن نافع عن ابن عمر).

وفقه الشافعي ينتهي في إسناده إلى ابن عباس (الشافعي عن ابن جريج عن عكرمة عن ابن عباس)، وقد جمع رضي الله عنه بين علم الحجاز (مالك)، وعلم العراق (أبو حنيفة).

وفقه أحمد بن حنبل متأثر بفقه الشافعي، فهو أجل من أخذ عنه.

فالصحابة ورَّثوا العلم للتابعين، ثم تلت تلك المرحلة مرحلة تابعة

ص: 76

لها، فاتسعت بلاد الإسلام والفتوحات الإسلامية، وامتد الزمان، وانقرض عهد الصحابة بموت أحدهم تلو الآخر، ولم يبق إلا جيل التابعين الذين أخذوا من الصحابة، ثم ورَّثوا أتباعهم الذين جدت في عهدهم أمور منها:

1 -

كثرة الفتوحات الإسلامية واتساع رُقعة البلاد الإسلامية.

2 -

ضعف اللغة وانتشار العجمة.

3 -

قلة الصحابة رضي الله عنهم.

4 -

قلة رواية الحديث كما في العراق والشام والبصرة.

5 -

نشأة الفرق أو المذاهب المخالفة (الخوارج، والشيعة، والقدرية، والجهمية، والمعتزلة)، وأصحاب هذه الفرق كانوا يستدلون لمذاهبهم بالأدلة.

فكانوا يعتمدون في فهم النصوص على قواعد عقيمة، وفهوم سقيمة تخالف ما كان عليه الصحابة الكرام والسلف الأطهار.

فهذه الأمور كانت عائقًا أمام انتقال العلم بصورته الوراثية بين الأجيال، كما كان في الصحابة مع التابعين، والتابعين مع أتباعهم.

لذلك دعت الحاجة إلى أن يدون علم أصول الفقه، حتى يحفظ من الضياع بين تلك المآخذ والمذاهب، وذلك كان في منتصف القرن الثاني

ص: 77

الهجري.

وكانت أولى المحاولات في جمع هذا العلم المبارك على يد الإمام المطلبي الشافعي محمد بن إدريس رحمه الله.

ص: 78

‌المبحث الرابع:

نبذة مختصرة عن الإمام الشافعي رحمه الله

-

إن من أقل الواجب علينا، والاعتراف بالفضل والجميل لمن أسس هذا العلم (علم أصول الفقه)، وأرسى قواعده وأسسه أن نذكر نبذة موجزة عن سيرته (الإمام الشافعي) وحياته، وبيان بعض مناقبه، وكلام العلماء في ذكر فضائله ومكانته.

•‌

‌ أولًا: اسمه ونسبه

(1)

:

الإمام الشافعي هو: محمد بن إدريس بن العباس بن عثمان بن شافع بن السائب بن عبيد بن عبد يزيد بن هاشم بن المطلب بن عبد مناف بن قصي، الإمام العلم أبو عبد الله المكي المطلبي الفقيه.

•‌

‌ ثانيًا: مولده ونشأته وطلبه للعلم

(2)

:

ولد سنة خمسين ومائة بغزة، وحمل إلى مكة وهو ابن سنتين فنشأ

(1)

تاريخ الإسلام للذهبي بتصرف.

(2)

تاريخ الإسلام للذهبي بتصرف.

ص: 79

بها، وأقبل على الأدب والعربية والشعر، فبرع في ذلك، وحبب إليه الرمي حتى فاق الأقران.

وعن ابن عبد الحكم قال: لما حملت أم الشافعي به رأت كأن المشترى خرج من فرجها حتى انقض بمصر، ثم وقع في كل بلد منه شظية، فتأول المعبرون أنه يخرج منها عالم يخص علمه أهل مصر، ثم يتفرق في سائر البلدان.

وعن الشافعي قال: لم يكن لي مال، فكنت أطلب العلم في الحداثة أذهب إلى الديوان أستوهب الظهور أكتب فيها.

وقال الشافعي: كنت أكتب في الأكتاف والعظام.

وقال الحميدي: سمعت الشافعي يقول: كنت يتيما في حجر أمي، ولم يكن لها ما تعطي المعلم، وكان المعلم قد رضي مني أن أقوم على الصبيان إذا غاب، وأخفف عنه.

وقال عمرو بن سواد: قال لي الشافعي: كانت نهمتي في شيئين: في الرمي وطلب العلم، فنلت من الرمي حتى كنت أصيب من عشرة عشرة، وسكت عن العلم، فقلت له: أنت والله في العلم أكبر منك في الرمي.

ص: 80

قال الشافعي: أتيت مالكا وأنا ابن ثلاث عشرة سنة، وكان ابن عم لي والي المدينة، فكلم لي مالكا فأتيته، فقال: اطلب من يقرأ لك، فقلت: أنا أقرأ، فقرأت عليه، فكان ربما قال لي لشيء قد مر: أَعِدْه، فأعيده حفظًا، وكأنه أعجبه، ثم سألته عن مسألة فأجابني، ثم أخرى، فقال: أنت تحب أن تكون قاضيًا.

•‌

‌ ثالثًا: عبادته

(1)

:

قال محمد بن إسماعيل، أظنه السلمي: حدثني حسين الكرابيسي قال: بت مع الشافعي غير ليلة، وكان يصلي نحو ثلث الليل، فما رأيته يزيد على خمسين آية فإذا أكثر فمائة، وكان لا يمر بآية رحمة إلا سأل الله، ولا يمر بآية عذاب إلا تعوذ منها.

وقال إبراهيم بن محمد بن الحسن الأصبهاني: حدثنا الربيع قال: كان الشافعي يختم القرآن ستين مرة في رمضان.

وكان الشافعي من أحسن الناس قراءة، قال: بحر بن نصر: كنا إذا أردنا أن نبكي قال بعضنا لبعض: قوموا بنا إلى هذا الفتى المطلبي يقرأ القرآن، فإذا أتيناه استفتح القرآن حتى يتساقط الناس ويكثر عجيجهم بالبكاء من حسن صوته، فإذا رأى ذلك أمسك عن القراءة.

(1)

تاريخ الإسلام للذهبي بتصرف.

ص: 81

•‌

‌ رابعًا: أقوال بعض العلماء وثناؤهم على الشافعي

(1)

:

كان الشافعي رحمه الله عظيم الأثر في الأمة، وخاصة أنه أول من وضع قواعد علم أصول الفقه كما سبق، ونبه الناس عليه، وذلك مع وفور ذكائه، وقوة حفظه، وثاقب فهمه، وجمعه بين علوم الفقه وأصوله، والحديث وعلومه، واللغة والأشعار، والأنساب والتاريخ، وغيرها؛ لذا كان له المكانة العظيمة، والقدر الرفيع العالي عند أكابر علماء الأمة؛ لذا كثر كلامهم في بيان فضله ومكانته، ومن ذلك:

قال عبد الرحمن بن مهدي: سمعت مالكًا يقول: ما يأتيني قرشي أفهم من هذا الفتى، يعني: الشافعي.

وقال أبو ثور: كتب عبد الرحمن بن مهدي إلى الشافعي، رضي الله عنه، وهو شاب أن يضع له كتابًا فيه معاني القرآن، ويجمع قبول الأخبار فيه، وحجة الإجماع، وبيان الناسخ والمنسوخ من القرآن والسنة، فوضع له كتاب الرسالة.

قال عبد الرحمن: ما أصلي صلاة إلا وأنا أدعو الله للشافعي فيها.

وعن يحيى بن سعيد القطان، أنه قال: إني لأدعو الله للشافعي في كل صلاة، أو في كل يوم، يعني: لما فتح الله عليه من العلم، ووفقه للسداد

(1)

طبقات الشافعيين لابن كثير بتصرف.

ص: 82

فيه.

وذكر يحيى بن سعيد القطان الشافعي، فقال: ما رأيت أعقل، أو أفقه منه.

وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ رَوْحٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُحَمَّدٍ الشَّافِعِيِّ، قَالَ: كُنَّا فِي مَجْلِسِ ابْنِ عُيَيْنَةَ، وَالشَّافِعِيُّ حَاضِرٌ، فَحَدَّثَ ابْنُ عُيَيْنَةَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ، رضي الله عنهما، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ، صلى الله عليه وسلم، مَرَّ بِهِ رَجُلٌ فِي بَعْضِ اللَّيْلِ، وَهُوَ مَعَ امْرَأَتِهِ صَفِيَّةَ، فَقَالَ:«تَعَالَ، هَذِهِ امْرَأَتِي صَفِيَّةُ» .

فَقَالَ: سُبْحَانَ اللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ! فَقَالَ: «إِنَّ الشَّيْطَانَ يَجْرِي مِنَ الإِنْسَانِ مَجْرَى الدَّمِ»

فقال ابن عيينة للشافعي، رضي الله عنه: ما فقه هذا الحديث يا أبا عبد الله؟ قال: إن كان القوم اتهموا رَسُولَ اللَّهِ، صلى الله عليه وسلم، كانوا بتهمتهم إياه كفارًا، لكن رسول الله، أدَّب مَنْ بعده، فقال: إذا كنتم هكذا، فافعلوا هكذا، حتى لا يُظَنَّ بكم، لا أن النبي، صلى الله عليه وسلم يُتَّهَم، وهو أمين الله في أرضه، فقال ابن عيينة: جزاك الله خيرًا يا أبا عبد الله، ما يجيئنا منك إلا كل ما نحبه.

وقال قتيبة بن سعيد: الشافعي إمام.

وقال أبو عبيد القاسم بن سلام: ما رأيت رجلًا أعقل من الشافعي،

ص: 83

وفي رواية: ما رأيت رجلًا قط أعقل ولا أورع ولا أفصح من الشافعي.

وقال يونس بن عبد الأعلى: ما رأيت أحدًا أعقل من الشافعي، لو جمعت أمة فجعلت في عقل الشافعي، لوسعهم عقله.

وعن الربيع، أنه قال: لو وزن عقل الشافعي بنصف عقل أهل الأرض لرجحهم.

وعن معمر بن شبيب قال: سمعت المأمون يقول: قد امتحنت محمد بن إدريس في كل شيء فوجدته كاملًا.

قال أحمد بن حنبل: كانت أقفيتنا في أيدي أصحاب أبي حنيفة ما تنزع، حتى رأينا الشافعي.

قال إسحاق بن راهويه: لقيني أحمد بن حنبل بمكة، فقال: تعال حتى أريك رجلًا لم تر عيناك مثله، قال: فجاء فأقامني على الشافعي.

وكان أحمد بن حنبل يقول: ما أحد مس محبرة وقلمًا، إلا وللشافعي في عنقه منَّة.

وقال إبراهيم الحربي: سألت أحمد بن حنبل عن الشافعي؟ فقال: حديث صحيح، ورأي صحيح.

وقال ابن أبي حاتم: سمعت دبيسًا، قال: كنت مع أحمد بن حنبل في المسجد الجامع، فمر حسين، يعني: الكربيسي، فقال: هذا، يعني:

ص: 84

الشافعي، رحمة من الله تعالى لأمة محمد صلى الله عليه وسلم، ثم جئت إلى حسين، فقلت: ما تقول في الشافعي؟ فقال: ما أقول في رجل ابتدأ في أفواه الكتاب، والسنة، والاتفاق؟! وما كنا ندري ما الكتاب والسنة، نحن ولا الأولون، حتى سمعنا من الشافعي، رضي الله عنه: الكتاب، والسنة، والإجماع.

وقال إسحاق بن راهويه: الشافعي إمام.

وروى الخطيب عن أبي بكر عبد الله بن الزبير الحميدي، أنه كان إذا ذكر عنده الشافعي، يقول: حدثنا سيد الفقهاء الشافعي.

قال أبو الوليد بن أبي الجارود: ما رأيت أحدًا إلا وكتبه أكبر من مشاهدته، إلا الشافعي، فإن لسانه كان أكبر من كتابه.

وقال هارون بن سعيد الأيلي: لو أن الشافعي ناظر على هذا العمود الذي من حجارة أنه من خشب لغلب، لاقتداره على المناظرة.

وقال ابن أبي حاتم: سمعت محمد بن عبد الله بن عبد الحكم، يقول: ما أحد ممن خالفنا، يعني: خالف مالكًا، أحب إلي من الشافعي.

وقال الجاحظ: نظرت في كتب هؤلاء النبغة الذين نبغوا، فلم أر أحسن تأليفًا من المطلبي، كأن كلامه نظم درا إلى در.

ص: 85

وقال زكريا الساجي: سمعت هارون بن سعيد الأيلي، يقول: ما رأيت مثل الشافعي، قدم علينا مصر، فقالوا: قدم رجل من قريش، فجئناه وهو يصلي، فما رأيت أحسن صلاة، ولا أحسن وجهًا منه، فلما تكلم، ما رأينا أحسن كلامًا منه، فافتتنا به.

وقال الحسن بن محمد الزعفراني: كان أصحاب الحديث رقودًا، حتى جاء الشافعي، فأيقظهم، فتيقظوا.

وقال الربيع: كان أصحاب الحديث لا يعرفون مذاهب الحديث وتفسيره حتى جاء الشافعي.

•‌

‌ خامسًا: شدة تمسكه بالدليل:

ومما كان يمتاز به الشافعي رحمه الله أنه جمع بين القواعد والأصول، والأدلة والنصوص، فمع قوة ترسيخه للقواعد كان أيضًا شديد التمسك بالنصوص، ومما يدل على ذلك:

قال هارون بن سعيد الأيلي: سمعت الشافعي، يقول: لولا أن يطول على الناس لوضعت في كل مسألة جزء حجج وبيان.

وقال البويطي: سمعت الشافعي رضي الله عنه يقول: لقد ألفت هذه الكتب، ولم آل فيها، ولا بد أن يوجد فيها الخطأ، لأن الله تعالى يقول:{وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} [النساء: 82]، فما

ص: 86

وجدتم في كتبي هذه مما يخالف الكتاب والسنة، فقد رجعت عنه.

وقال البيهقي: عن أبي عبد الرحمن السلمي، عن الأصم، عن الربيع، سمعت الشافعي، يقول: إذا وجدتم في كتابي خلاف سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقولوا بها، ودعوا ما قلته.

وقال البيهقي: عن الحاكم، عن الأصم، عن الربيع: سمعته يقول:

وقال له رجل: يا أبا عبد الله تأخذ بهذا الحديث؟ فقال: متى رويتُ عن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، حديثًا صحيحًا، ولم آخذ به، فأشهدكم أن عقلي قد ذهب.

وقال ابن أبي حاتم: حدثنا الربيع بن سليمان: سمعت الشافعي، يقول: وذكر نحوه، وقال: سمعته، يقول: أي سماء تظلني، وأي أرض تقلني، إذا رويتُ عن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، حديثًا ولم أقل به.

وقال الحميدي: روى الشافعي يومًا حديثًا، فقلت: أتأخذ به؟ فقال: أرأيتني خرجت من كنيسة وعليَّ زنَّار؟ حتى إذا سمعت من رَسُولِ اللَّهِ، صلى الله عليه وسلم حديثًا لا أقول به!.

وقال أبو ثور: سمعت الشافعي يقول: كل حديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهو قولي، وإن لم تسمعوه مني.

ص: 87

وكان الشافعي يقول: كل ما قلت فكان عن النبي صلى الله عليه وسلم، خلاف قولي مما يصح، فحديث رسول الله، صلى الله عليه وسلم أولى فلا تقلدوني.

•‌

‌ سادسًا: وفاته رحمه الله

-:

قال الربيع بن سليمان توفي الشافعي ليلة الجمعة، بعدما صلى المغرب، آخر يوم من رجب، ودفناه يوم الجمعة وانصرفنا، فرأينا هلال شعبان سنة أربع ومائتين

(1)

.

قال الربيع: رأيت فى النوم أن آدم، عليه السلام مات، فسألت عن ذلك، فقيل: هذا موت أعلم أهل الأرض؛ لأن الله تعالى علم آدم الأسماء كلها، فما كان إلا يسير فمات الشافعى رحمه الله، ورأى غيره ليلة مات الشافعى قائلًا يقول: الليلة مات النبى صلى الله عليه وسلم، وحزن الناس لموته الحزن الذى يوازى رزيتهم به

(2)

.

(1)

تاريخ دمشق لابن عساكر (51/ 432).

(2)

تهذيب الأسماء واللغات للنووي (1/ 45).

ص: 88

‌المبحث الخامس:

رسالة الإمام الشافعي رحمه الله المتوفى (204 هـ)

كتاب الرسالة للإمام الشافعي أول كتاب أُلف في علم أصول الفقه، وكان ذلك سنة (180 هـ).

قال الرازي: كانوا قبل الإمام الشافعي يتكلمون في مسائل أصول الفقه، ويستدلون، ويعترضون، ولكن ما كان لهم قانون كُلي مرجوع إليه في معرفة دلائل الشريعة، وفي كيفية معارضتها وترجيحاتها، فاستنبط الشافعي علم أصول الفقه، ووضع للخلق قانونًا كُليًّا يُرجع إليه في معرفة مراتب الشرع

(1)

.

وقال ابن خلكان: والشافعي أول من تكلم في أصول الفقه، وهو الذي استنبطه

(2)

.

(1)

مناقب الشافعي لابن أبي حاتم الرازي (57).

(2)

وفيات الأعيان لابن خلكان (4/ 165).

ص: 89

وقال الإسنوي: وكان إمامنا الشافعي هو المبتكر لهذا العلم بلا نزاع، وأول من صنف فيه بالإجماع

(1)

.

وقال ابن خلدون: كان أول من كتب فيه الشافعي رحمه الله، أملى فيه رسالته المشهورة، تكلم فيها في الأوامر، والنواهي، والبيان، والخبر، والنسخ، وحكم العلة المنصوصة من القياس.

فأولية التأليف في هذا العلم ثابتة للإمام الشافعي رحمه الله وخالف في ذلك جماعة.

فالشيعة -وهم أكذب الخلق- ادَّعَوا أنَّ أئمتهم أول من ألف في علم الأصول.

فقال آية الله حسن الصدر: اعلم أنَّ أول من أسس أصول الفقه، وفتح بابه، وفتق مسائله الإمام محمد الباقر، ثم من بعد الإمام جعفر، وقد أمليا على أصحابهما قواعد، وجمعوا من ذلك مسائل رتبها المتأخرون على ترتيب المصنفين فيه

(2)

.

ومن كلامهم تبين كذب دعواهم، فيذكر أنهم أملوا مسائل، ولم يذكروا تأليفًا خاصًّا بهم في أصول الفقه.

(1)

التمهيد في تخريج الفروع على الأصول للإسنوي (ص 45).

(2)

مقدمة ابن خلدون (2/ 201).

ص: 90

وقالت الحنفية: إن أول من ألف فيه قاضي القضاة أبو يوسف يعقوب بن إبراهيم. وذكر بعضهم أنَّ أول من صنف في علم الأصول الإمام أبو حنيفة. وقال بعضهم: إن أول من ألف في أصول الفقه محمد بن الحسن الشيباني المتوفى (189 هـ)

(1)

. وقد ذكر ابن النديم: أنَّ له كتاب أصول الفقه، وكتاب الاستحسان، وكلاهما مفقود غير موجود

(2)

.

فالصحيح أنَّ الشافعي هو أول من ألف في أصول الفقه على الإطلاق.

وقد نقل الزركشي أنه لم يسبق الشافعيَّ أحدٌ في تصانيف الأصول ومعرفتها، وقد حكى عن ابن عباس تخصيص عموم، وعن بعضهم القول بالمفهوم، ومِن بعدهم لم يقل في الأصول شيء ولم يكن لهم فيه قدم، فإنا رأينا كتب السلف من التابعين وتابعي التابعين وغيرهم، فما رأيناهم صنفوا فيه

(3)

.

(1)

أصول الفقه لأبي زهرة (14).

(2)

الفهرست لابن النديم (288).

(3)

البحر المحيط للزركشي (1/ 8) عن إمام الحرمين الجويني في شرح الرسالة.

ص: 91

•‌

‌ سبب تأليف الرسالة:

إن الإمام عبد الرحمن بن مهدي كتب إليه وهو شاب، أن يضع له كتابًا فيه معاني القرآن، ويجمع قبول الأخبار فيه، وحجية الإجماع، وبيان الناسخ والمنسوخ من القرآن والسنة، فوضع له كتاب الرسالة.

وروى ابن عبد البر أنَّ علي بن المديني قال: قلت لمحمد بن إدريس الشافعي: أجب عبد الرحمن بن مهدي عن كتابه، فقد كتب إليك يسألك وهو متشوق إلى جوابك. قال: فأجابه الشافعي، وهو كتاب الرسالة التي عنه بالعراق وإنما هي رسالته إلى عبد الرحمن بن مهدي، وأرسل الكتاب إلى ابن مهدي مع الحارث بن سريج النقال، وذلك كان في عام (180 هـ)

(1)

.

وقد صنف الشافعي الرسالة مرتين، مرة ببغداد، وهي رسالته إلى عبد الرحمن بن مهدي، ولما رجع مصر أعاد تصنيف كتاب الرسالة.

والرسالة القديمة والتي هي المرسلة إلى ابن مهدي مفقودة، وليس بين أيدي الناس اليوم إلا الرسالة الجديدة

(2)

، كما حققه الشيخ أحمد شاكر في مقدمة الرسالة.

(1)

الانتقاء لابن عبد البر (72).

(2)

شرح وتحقيق الرسالة للشيخ أحمد شاكر (8).

ص: 92

ومن نافلة القول أيضًا: أنَّ الشافعي لم يُسَمِّ الرسالة بهذا الاسم، بل سمى كتابه (الكتاب)

(1)

كما حققه أيضًا الشيخ أحمد شاكر، ولكن غلب عليها الرسالة فاشتهرت بذلك.

•‌

‌ أهمية كتاب الرسالة ومميزاته:

1 -

أول مُصَنَّف في أصول الفقه.

2 -

مؤلِّفه الإمام الشافعي، إمام في الفقه والحديث واللغة.

3 -

استيفاء مسائل الأصول على خلاف المعتاد في بدايات التصنيف في أي علم.

4 -

جودة الترتيب وحسن التنظيم لمسائل الكتاب.

5 -

أورد مسائل الأصول مرتبطة بالثمرة المرجوة منها، وهي الفقه، فأكثر من الأمثلة، فهو يورد القواعد وعملها في الأدلة، وكيف تُسْتَنْبَط بها الأحكام.

(1)

شرح وتحقيق الرسالة للشيخ أحمد شاكر (8).

ص: 93

•‌

‌ موضوعاتها وترتيب مسائل العلم فيها:

ابتدأ الشافعي كتاب الرسالة بمقدمة وصف فيها حال الناس عند بعثة النبي صلى الله عليه وسلم، ثم ذكر أنَّ الله تعالى أنقذ الناس بمحمد صلى الله عليه وسلم من هذا الضلال، وأنزل عليه الكتاب، فنقلهم من الكفر والعمى إلى الضياء والهدى.

وتكلم عن منزلة القرآن من الدين واشتماله على ما قد أحل الله وما حرم، وما تعبد الناس فيه، وما أعد لأهل طاعته من الثواب، وما أوجب لأهل معصيته من العقاب، ووعظهم بالإخبار عن من كان قبلهم.

ورتب الشافعي على ذلك ما يحق على طلبة العلم بالدين من بلوغ جهدهم في الاستكثار من علم القرآن وإخلاص النية لله، لاستدراك علمه نصًّا واستنباطًا.

ثم ختم الشافعي خطبة الرسالة بقوله: فليست بأحد من أهل دين الله نازلة إلا في كتاب الله جل ثناؤه الدليل على سبيل الهدى فيها.

ثم جعل الشافعي ما أبان الله لخلقه مما تعبدهم به وجوه خمسة، وهي مراتب البيان للأحكام.

أولها: ما أبان الله في كتابه نصًّا جليًّا لا يتطرق إليه التأويل، فلم يحتج مع التنزيل فيه إلى غيره.

ص: 94

ثانيها: ما أبانه القرآن بنص يحتمل أوجهًا، فدلت السنة على تعيين المراد به من هذه الأوجه.

ثالثها: ما أتى الكتاب على غاية البيان في فرضه، وبين رسول الله كيف فرضه، وعلى من فرضه، ومتى يزول فرضه ويثبت.

رابعها: ما بين الرسول مما ليس لله فيه نص حكم، وقد فرض الله في كتابه طاعة رسوله والانتهاء إلى حكمه.

خامسها: ما فرض الله على خلقه الاجتهاد في طلبه وهو القياس.

وبعد أن أجمل الشافعي مراتب البيان الخمس أخذ يفصلها، ويبين لها الأمثلة، والشواهد في أبواب خمسة، ثم أخذ يبين وجوه البيان العربي، ووجودها في القرآن في أبواب مرتبة:

1 -

باب ما نزل من القرآن عام الظاهر، وهو يجمع العموم والخصوص.

2 -

باب ما نزل من الكتاب عام الظاهر يراد به كله الخاص.

3 -

باب الصنف الذي يبين معناه وسياقه.

4 -

باب الصنف الذي يدل لفظه على باطنه دون ظاهره.

5 -

باب ما نزل عامًّا فدلت السنة على أنه يراد به الخاص.

ثم تطرق إلى السنة وحجيتها ومنزلتها من الدين، فوضع لذلك

ص: 95

أبوابًا:

1 -

باب بيان ما فرض الله في كتابه اتباع سنة نبيه صلى الله عليه وسلم.

2 -

باب فرض الله طاعة رسوله مقرونة بطاعة الله جل ذكره، ومذكورة وحدها.

3 -

باب ما أمر الله به من طاعة رسوله.

4 -

باب ما أبان الله لخلقه من فرضه على رسوله اتباع ما أوحى إليه.

ثم وضع فصلًا عنوانه: الناسخ والمنسوخ. وذكر فيه حكمة النسخ، وذكر أنَّ الكتاب يُنسخ بالكتاب، والسنة تُنسخ بالسنة، وغيرها من المباحث المتعلقة بالنسخ.

ثم عقد باب: العلل في الأحاديث، وذكر فيه ما يكون من اختلاف الأحاديث بسبب النسخ، وما يكون من الاختلاف بسبب الغلط في الأحاديث، وذكر بعض مناشئ الغلط، ثم تكلم عن النهي وأقسامه، ثم وضع بابًا للعلم وأنه قسمان: فرض عين، وفرض كفاية.

ثم عقد بابين في خبر الواحد، وحجية خبر الواحد.

ثم باب في الإجماع، وباب في إثبات القياس والاجتهاد، ثم باب في الاستحسان.

ثم ختم الشافعي الرسالة بالكلام عن الاختلاف.

ص: 96

‌المبحث السادس:

ما بعد رسالة الشافعي

فبعد أن كان علم أصول الفقه علمًا متوارثًا مأخوذًا بالتلقي والمشافهة أصبح الآن مسطورًا مصنفًا، فبعد الرسالة اتجه أهل العلم إلى جمع مسائل وقواعد هذا العلم، والكتابة والتصنيف فيه، واتجهوا اتجاهات شتى:

‌أ- منهم من اتجه شارحًا لرسالة الشافعي مُفَصِّلًا لما أجمل مُخَرِّجًا عليه:

فظهر شروح كثيرة للرسالة، أبرز هذه الشروح خمسة:

1 -

شرح الإمام أبي بكر محمد بن عبد الله الصيرفي المتوفى سنة (330 هـ).

2 -

الإمام حسان بن محمد القرشي الأموي أبو الوليد النيسابوري المتوفى سنة (349 هـ).

3 -

الإمام أبو بكر محمد بن علي بن إسماعيل القفال الشاشي

ص: 97

الكبير المتوفى سنة (365 هـ).

4 -

الإمام أبو بكر محمد بن عبد الله بن محمد الشيباني الجوزقي المتوفى سنة (388 هـ).

5 -

الإمام أبو محمد عبد الله بن يوسف الجويني والد إمام الحرمين المتوفى سنة (438 هـ).

وكل هذه الشروح مفقودة، ولا يوجد منها شيء كما ذكره كثير من المحققين.

‌ب- ومنهم من أخذ بكثير مما قرر الشافعي، ولكنهم ناقشوه في بعض ما ذكر، وزادوا عليه:

فالحنفية زادوا الاستحسان والعرف، والمالكية زادوا إجماع أهل المدينة الذي أنكره الشافعي على مالك، والاستحسان، والمصالح المرسلة وهما الأمران الذي حاول الشافعي إبطالهما، وكما زادوا عليه في باب سد الذرائع.

فهم وافقوا الشافعي في كثير مما قرر، وخالفوه في جملة من التفصيلات.

•‌

‌ القرن الثالث الهجري:

المتأمل في المصنفات الأصولية في هذا القرن يجدها لا تعدوا على

ص: 98

أن تكون رسائل مختصرة عادة ما تحمل عنوانًا واحدًا، أو بابًا واحدًا، أو مسألة من مسائل الأصول.

فرسالة الشافعي حملت أهل العلم على التتابع في التدوين والكتابة في قضايا الأصول، لكنها لم تكن على هيئة كتاب تجمع فيه مسائل الأصول بقدر ما كانت تأليف في المسائل الجزئية، فتجد رسالة في حجية الخبر الواحد، وأخرى في الإجماع، وأخرى في القياس.

فلم تكن المؤلفات تتميز بالشمول الأصولي في التأليف، ولكن ارتبط التصنيف في مسائل جزئية من علم الأصول يستفرغ المصنف وسعه في بيانها، وجمع أقوال العلماء فيها وبحثها.

وتميزت هذه التصانيف بتبني منهج معين، أو الرد على المخالف.

•‌

‌ القرن الرابع الهجري:

بدأ التدوين يتكامل ويشمل جميع أبواب العلم، فظهر علم الأصول على شكل كتاب متكامل يشمل جميع الأبواب في الأصول.

فظهر كتاب الفصول للإمام أبي بكر الجصاص الرازي الحنفي المتوفى سنة (370 هـ).

وكانت قبله وبعده محاولات متعددة في هذا الاتجاه.

حتى جاء القاضيان أبو بكر الباقلاني، والقاضي عبد الجبار

ص: 99

المعتزلي فصنفا في علم الأصول.

•‌

‌ القرن الخامس والسادس الهجري:

قال الزركشي: وجاء مَنْ بَعده -يقصد الشافعي- فبينوا وأوضحوا وبسطوا وشرحوا، حتى جاء القاضيان قاضي السنة أبو بكر بن الطيب، وقاضي المعتزلة عبد الجبار، فوسعا العبارات، وفكا الإشارات، وبينا الإجمال، ورفعا الإشكال، واقتفى الناس بآثارهم وساروا على لاحب نارهم، فحرروا، وصوروا

(1)

.

‌الإمام الكبير القاضي أبو بكر محمد بن الطيب الباقلاني المتوفى سنة (403 هـ).

صنف ثلاث كتب في الأصول:

1 -

التقريب والإرشاد الصغير.

وهو موجود منه جزء مطبوع في ثلاثة أجزاء بتحقيق د. عبد الحميد بن علي أبو زيد، مؤسسة الرسالة.

2 -

التقريب والإرشاد الأوسط.

3 -

التقريب والإرشاد الكبير.

(1)

البحر المحيط للزركشي (1/ 5).

ص: 100

وهو الحاوي للخلاف، والأدلة، والترجيحات أبان فيه عن سعة علم واطلاع، فكتاب التقريب للباقلاني يعتبر أول كتاب مستوعب لجميع مباحث أصول الفقه.

ويمتاز عن غيره بخلوه من قواعد المعتزلة الأصولية، كما هو موجود في كتاب (العمد) لمعاصره القاضي عبد الجبار المعتزلي.

بل وجَّه الباقلاني همه فيه إلى إبطال قواعد المعتزلة التي لها علاقة بأصول الفقه، كالقول بالتحسين والتقبيح العقليين، ووجوب الأصلح على الله، وخلق العباد أفعالهم، وغيرها.

•‌

‌ طريقة الباقلاني في التقريب والإرشاد وترتيبه لمباحث علم الأصول:

بدأ الباقلاني كتابه التقريب بمقدمات، هي بمثابة حدود لاصطلاحات هذا الفن، فعرف علم الأصول وحقيقته.

ثم ذكر بعض الحدود: حد العلم وحقيقته، وحد العقل، وأقسام العلوم، وغير ذلك.

ثم حصر أصول الفقه ورتبها فقال: اعلموا أنَّ أصول الفقه محصورة:

فأولها: الخطاب الوارد في الكتاب والسنة.

ص: 101

ثانيها: الكلام في حكم أفعال الرسول صلى الله عليه وسلم.

ثالثها: القول في الأخبار وطرقها وأقسامها.

رابعها: بعض الأخبار المروية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهي أخبار الآحاد الواردة بشروط قبولها في الأحكام.

خامسها: الإجماع.

سادسها: القياس.

سابعها: صفة المفتي والمستفتي والقول في التقليد.

ثامنها: الحظر والإباحة.

ثم قال: ولهذه الأصول لواحق تتصل بها، وليست منها.

قال: وقد دخل في الخطاب الأمر والنهي، والخصوص والعموم، ودخل فيه الناسخ والمنسوخ، والمجمل والمفسر، والمطلق والمقيد، ولحن الخطاب، ومفهومه وفحواه.

ودخل فيه دليل الخطاب، ومراتب البيان.

والواجب عندنا في الترتيب تقديم الخطاب الوارد في الكتاب والسنة

(1)

اه.

(1)

التقريب والإرشاد للباقلاني (1/ 310 - 311) بتصرف.

ص: 102

وقد لخص إمام الحرمين الجويني كتاب التقريب والإرشاد في كتاب سماه التلخيص، وعمد فيه إلى اختيار أصول المسائل، وشيء من الأدلة والترجيح، وهو مطبوع في مجلدين، وكان شديد التأثر به.

ويعد القرن الخامس والسادس المرحلة الذهبية للتدوين في علم الأصول، فصنفت فيه أمهات كتب الأصول، ومراجعه الكبار، وأصوله المعتمدة في الفقه.

فشهدت هذه المرحلة نضوج علم الأصول، والتدوين المتكامل فيه الذي يشمل أبواب الأصول مرتبة ترتيبًا منطقيًّا منهجيًّا، وإخراج كتب تتناول علم الأصول من أوله إلى آخره.

ودونت فيها الكتب الأربعة التي تعد أركان علم أصول الفقه عند المتخصصين، فهذه الكتب كانت نتاج هذه المرحلة.

1 -

العمد للقاضي عبد الجبار الهمداني المعتزلي المتوفى سنة (415 هـ).

2 -

المعتمد لأبي الحسين القاضي البصري المعتزلي المتوفى سنة (436 هـ).

3 -

البرهان لإمام الحرمين أبي المعالي الجويني المتوفى سنة (478 هـ).

ص: 103

4 -

المستصفى لحجة الإسلام أبي حامد الغزالي المتوفى سنة (505 هـ).

فألفوا هذه الكتب على وجه الشمول في أبواب الأصول، فيجمع الأقوال، ويورد الأدلة، ويجمع الخلاف، ويناقش، ويرجح، ويخرج برأي.

فهذه كتب موسوعية في علم الأصول.

وامتازت هذه الكتب بميزات:

1 -

تناول المسائل الأصولية بشمول.

2 -

تناول المذاهب المختلفة حول المسألة الواحدة.

3 -

إيراد الأدلة لكل مذهب مع مناقشتها.

4 -

ترجيح مذهبه فيما يراه راجحًا، ولو خرج عن حدود مذهبه الفقهي.

ومن نافلة القول أنَّ الأربعة كانوا شافعية.

وهذه الكتب الأربعة لا تشبه بعضها، فلكل واحدة طريقة وترتيب يختلف عن الآخر.

ص: 104

1 -

العمد للقاضي عبد الجبار الهمداني المعتزلي.

المتواجد منه بين أيدينا جزء يسير والباقي مفقود، وقد شرح تلميذه أبو الحسن جزءًا منه سماه (شرح العمد) مطبوع.

2 -

المعتمد لأبي الحسين البصري المعتزلي.

اختط فيه أبو الحسين ترتيبًا جديدًا لمادة أصول الفقه، وتجنب فيه التكرار الذي وقع في العمد، فحذف بعض المسائل التي ليست من صميم علم الأصول، وأضاف بعض المسائل التي لم يشتمل عليها العمد، وقد طبع الكتاب في مجلدين.

فهو كتاب مستقل، وليس شرحًا للعمد، كما وهم ابن خلدون في مقدمته.

وقد وهم أيضًا من ظن أن المعتمد مختصر للعمد، والناظر في الكتابين يجد فرقًا واضحًا جليَّا، كما أنَّ القاضي أبا الحسين صرح في مقدمة المعتمد أنَّ المعتمد يغاير العمد في ترتيب أبوابه ومسائله، وفيه زيادة ونقص

(1)

.

(1)

شرح العمد (1/ 17).

ص: 105

3 -

البرهان لإمام الحرمين الجويني:

صنف إمام الحرمين كتابه بطريقة مختلفة، وعرف المسائل الأصولية بشمول واستيعاب.

فقال السبكي: إن هذا الكتاب وضعه إمام الحرمين في أصول الفقه على أسلوب غريب لم يقتد فيه بأحد.

وإمام الحرمين كان صاحب لغة وفصاحة، وبلغ من الفصاحة أنَّ ألفاظه تستعصي على طالب العلم إلا بالرجوع إلى المعاجم.

وهذه اللغة كانت أحد الأسباب التي صرفت عن الاشتغال بالبرهان لصعوبة ألفاظه.

وسبب آخر أدى إلى عدم انتشار البرهان؛ هو مخالفة الجويني لكثير من أصول الشافعية في ترجيحاته، فلذلك لم يشتغل به الشافعية.

لذلك نجد أنَّ كل من شرح البرهان مالكية، رغم أنَّ الجويني شافعي المذهب، فالله أعلم.

•‌

‌ طريقة الجويني في البرهان وترتيبه مسائل العلم:

يمتاز كتاب البرهان بتلك المقدمات، فقدم بتعريف أصول الفقه، وبيان مصادره، والمقصود منه.

ثم يتبع ذلك بمقدمات أخرى، فيعرف الأحكام الشرعية، ويناقش

ص: 106

المعتزلة في بعض شبههم التي تتصل بأصول الفقه كالتحسين والتقبيح.

ثم يعرض لشكر المنعم ووجوبه مناقشًا المعتزلة، مبينًا فساد مذهبهم حيث صاروا إلى وجوبه بالعقل.

ثم يعرض للنظر وحقيقته، والتكليف ومعناه، والقول في العلوم ومداركها، والقول في مدارك العقول.

ثم ينتقل إلى تعريف العلم وما يتعلق به.

وبعد هذه المقدمات ينتقل إلى أصول الفقه وأدلته.

فيبدأ بالبيان، ويعني بالبيان الكتاب والسنة، وفي هذا القسم يعرض تفصيلًا لمسائل الأوامر والنواهي، والمطلق والمقيد، والعام والخاص.

ثم يتحدث عن أفعال الرسول وحجيتها، وطرق التأويل، ثم يتكلم عن الأخبار، وشروط الخبر المتواتر، وما يفيده خبر الواحد من وجوب العمل، والرواية والرواة وصفاتهم، والجرح والتعديل، والتحمل والأداء.

ثانيًا: الإجماع وما يتعلق به من مسائل.

ثالثًا: القياس وما يتعلق به من مسائل.

رابعًا: القول في الاستدلال، وفيه يعرض للآراء في الأخذ

ص: 107

بالاستحسان والمصالح المرسلة.

خامسًا: القول في النسخ

(1)

اه.

4 -

المستصفى للغزالي:

كان الغزالي وكتابه المستصفى أيضًا معلمًا مستقلًّا في التأليف الأصولي، خالف شيخه الجويني في الترتيب والتبويب، وخالفه في الترجيح في المسائل.

فقال: اعلم أنَّ هذا الملقب بأصول الفقه قد رتبناه وجمعناه في هذا الكتاب، وبنيناه على مقدمة، وأربعة أقطاب، المقدمة لها كالتوطئة والتمهيد، والأقطاب هي المشتملة على الباب المقصود

(2)

.

ثم ذكر في صدر الكتاب: التعريف بعلم أصول الفقه وما يتعلق به.

وهو أول من أدخل المقدمة المنطقية على علم أصول الفقه، وهذه الأقطاب الأربعة التي تدور عليها جملة الأصول كما قال:

القطب الأول: في الأحكام والبداءة بها أولى؛ لأنها الثمرة المطلوبة.

القطب الثاني: في الأدلة، وهي الكتاب والسنة والإجماع، وبها

(1)

البرهان للجويني (1/ 41 - 50) بتصرف.

(2)

المستصفى للغزالي (1/ 6).

ص: 108

التثنية؛ إذ بعد الفراغ من معرفة الثمرة لا أهم من معرفة المثمر.

القطب الثالث: في طريق الاستثمار، وهي وجه دلالة الأدلة، وهي أربعة:

دلالة بالمنطوق، دلالة بالمفهوم، دلالة بالضرورة والاقتضاء، دلالة بالمعنى المعقول.

القطب الرابع: في المستثمر، وهو المجتهد الذي يحكم بظنه، ويقابله المقلد الذي يلزمه اتباعه، فيجب ذكر شروط المقلد والمجتهد وصفاتهما

(1)

.

وقد اعتبر المتخصصون في هذا الفن هذه الكتب الأربعة عمدًا وأركانًا وأمهات لهذا العلم.

فالتأليف الأصولي فيما بعد هذه المرحلة كان متأثرًا لحد كبير بهذه الكتب، فإما أن يحذوا حذوها، أو يشرحها، أو يجعلها أصلًا يعتمد عليه، وإما أن يتبع طريقتها في الترتيب.

ومن الجدير بالذكر أنَّ هذه التصانيف خالفت في طريقتها ومنهجها طريقة ومنهج الشافعي في كتابه الرسالة رغم انتمائهم للمذهب الشافعي.

(1)

المستصفى للغزالي (1/ 10).

ص: 109

فأدخلوا على علم الأصول مسائل ليست من صلب علم الأصول، فأدخلوا علم الكلام، ومسائل الاعتقاد، والمقدمات المنطقية على علم الأصول.

ولكن كان هناك من العلماء الذين لم يتأثروا بعلم الكلام، وانحرافات العقيدة، فكانوا على هدي السلف الصالح وطريقتهم؛ فنقوا علم الأصول مما شابهُ من المباحث الكلامية والمنطقية، وعادوا به مرة أخرى غضًّا طريًّا كما صنف فيه الإمام الشافعي رحمه الله.

ومن هؤلاء:

1 -

القاضي أبو الوليد الباجي المتوفى سنة (474 هـ)، صنف كتاب الإشارة في معرفة الأصول.

2 -

أبو اسحاق الشيرازي المتوفى سنة (476 هـ) في كتابه اللمع.

3 -

أبو المظفر السمعاني المتوفى سنة (489 هـ) في كتابه القواطع.

وقد أثنى على كتاب القواطع أهل العلم.

وقال تاج الدين السبكي: ولا أعرف في أصول الفقه أحسن من كتاب القواطع ولا أجمع

(1)

.

(1)

طبقات الشافعية للسبكي (5/ 343).

ص: 110

وقال الزركشي: والقواطع لأبي المظفر السمعاني، وهو أجل كتاب للشافعية في أصول الفقه نقلًا وحجاجًا

(1)

. وكان أبو المظفر السمعاني أحد أئمة أهل السنة من أصحاب الشافعي

(2)

.

وقال الذهبي: تعصب لأهل الحديث والسنة والجماعة، وكان شوكًا في أعين المخالفين وحجة لأهل السنة

(3)

.

• وقد أفصح أبو المظفر عن دافعه في تصنيف القواطع، فذكر سببين:

الأول: طلب جماعة من أصحابه منه أن يؤلف مجموعًا في أصول الفقه.

الثاني: قصور كتب الأصحاب عن معاني الفقه، وانتهاجها في الأصول سبيل المتكلمين.

• مميزات كتاب القواطع:

1 -

توسعه في ذكر المسائل والدلائل، وإيضاحه للحق بأقوى البراهين وتفنيد شبهات المخالفين.

2 -

سهولة عبارته، وعذوبة ألفاظه، وبُعده عن التقعر والتشدق في

(1)

البحر المحيط للزركشي (1/ 11).

(2)

مجموع الفتاوى لابن تيمية (4/ 243).

(3)

سيرأعلام النبلاء للذهبي (19/ 13).

ص: 111

الكلام.

3 -

خلو كتابه من المباحث الكلامية التي امتلأت بها كتب أصول المعتزلة والأشاعرة التي لا شأن لها بالأصول أو الفقه.

4 -

انتقاده الشديد لطريقة المتكلمين، ونقد مسالكهم، والتحذير من تبعاتها، فهو سني العقيدة، والمنهج، والطريقة.

5 -

توسعه وتفرده بذكر مسائل أغفلت في عامة كتب الأصول.

6 -

الصنعة الحديثية، فغالب الأحاديث التي يستدل بها صحيحة أو حسنة

(1)

.

ورغم هذه الميزات تجد تجاهل الأصوليين اللاحقين -وجلهم من المتكلمين- لكتاب القواطع ومؤلفه، فلا تجد له ذكر في كتب كالإحكام، والمحصول، وغيرها من الكتب المتأخرة.

وظل الأمر على هذا الحال إلى أن جاء تاج الدين السبكي في القرن الثامن الهجري، فكان أول من اكتشف كتاب القواطع، فنفض عنه غبار الإهمال، وأكثر من النقل عنه، والثناء على أبحاثه في شرحه لمختصر ابن الحاجب.

(1)

قواطع الأدلة لأبي المظفر السمعاني (1/ 46) بتصرف.

ص: 112

وضمن كثير من اختياراته مختصره الشهير في الأصول كتاب (جمع الجوامع).

فهذه المصنفات امتازت بالتزامها طريقة الشافعي في التصنيف، في إيراد مباحث الأصول المتعلقة بالفقه، وخلوها من المباحث الكلامية والمنطقية؛ وذلك لاشتغال أصحابها واهتمامهم بالفقه والحديث.

•‌

‌ القرن السابع وما بعده:

جاءت هذه المرحلة عقب المرحلة التي استقرت فيها كتب الأصول وأرسيت القواعد.

وكانت الأربع: العمد، والمعتمد، والبرهان، والمستصفى عليها المعول وإليها المآل.

فجاء الإمامان من المتكلمين المتأخرين فلخصا هذه الكتب الأربعة وهما:

1 -

الإمام فخر الدين الرازي المتوفى سنة (606 هـ) في كتابه المحصول.

2 -

الإمام سيف الدين الآمدي المتوفى سنة (631 هـ) في كتابه الإحكام في أصول الأحكام.

واكتسب هذان الكتابان مكانة معتبرة عند الأصوليين، باعتبار أنَّ

ص: 113

كل ما جاء من جهد أصولي بعدهما هو دائر حولهما في الجملة، أو سالك طريق أحدهما في الجملة.

فالمؤلفون في الأصول بعد القرن السابع سلكوا أحد الطريقين:

1 -

طريقة الرازي في المحصول.

2 -

طريقة الآمدي في الإحكام.

إما اختصارًا أو تعليقًا أو شرحًا.

وهناك فرق بين طريقة الرازي في المحصول، وطريقة الآمدي في الإحكام في التحقيق والحجاج.

فالرازي أميل إلى الاستكثار من الأدلة والاحتجاج، والآمدي مولع بتحقيق المذاهب وتفريع المسائل.

المحصول للإمام فخر الدين الرازي:

اعتنى به العلماء شرحًا واختصارًا، ومن شروحه:

1 -

شرح لشهاب الدين القرافي المتوفى سنة (684 هـ).

2 -

شرح لشهاب الدين الأصفهاني المتوفى سنة (688 هـ).

وأما من اختصره:

1 -

اختصره تلميذه سراج الدين الأرموي المتوفى سنة (672 هـ) في

ص: 114

كتاب سماه (التحصيل).

2 -

اختصره الإمام تقي الدين الأرموي المتوفى سنة (652 هـ) في كتاب سماه (الحاصل).

3 -

مختصر تنقيح الفصول للإمام شهاب الدين القرافي المتوفى سنة (684 هـ).

ثم جاء المختصر الذي أصبح مرجعًا لطلاب العلم يحفظونه ويدرسونه في المدارس والمعاهد، وهو مختصر الإمام البيضاوي ناصر الدين أبي الخير عبد الله بن عمر الشافعي المتوفى سنة (685 هـ)، وقد أسمى مختصره (منهاج الوصول إلى علم الأصول).

فهو اختصر مختصرات المحصول (الحاصل التحصيل) فجمع منهما كتابا مختصرًا على طريقة المتون بعبارة موجزة في عرض الخلاف والأدلة.

• وقد اعتنى العلماء وطلبة العلم بمنهاج البيضاوي دراسة وشرحًا، فمن شروحه:

1 -

نهاية السول في شرح منهاج الأصول، للإمام جمال الدين الإسنوي المتوفى سنة (773 هـ).

2 -

شرح للإمام تقي الدين السبكي المتوفى سنة (756 هـ)، ولم

ص: 115

يكمله فشرحه إلى قول البيضاوي: الواجب إن تناول كل واحد فهو فرض عين.

ثم أتم شرحه ابنه تاج الدين السبكي المتوفى سنة (771 هـ) في كتابه الإبهاج شرح المنهاج.

3 -

منهاج العقول في شرح منهاج الأصول، للإمام محمد بن الحسن البدخشي.

ونظمه الشيخ شمس الدين عبد الرحيم بن حسين العراقي المتوفى سنة (806 هـ) نظمًا سماه النجم الوهاج، وشرح هذا النظم ابنه أحمد المشهور بابن العراقي.

• الإحكام في أصول الأحكام للآمدي.

اختصره الإمام أبو عمرو عثمان بن عمرو، المعروف بابن الحاجب المتوفى سنة (646 هـ)، وسمى مختصره منتهى السول والأمل في علمي الأصول والجدل، ثم اختصر المنتهى في كتاب سماه مختصر المنتهى.

وقد أكبَّ العلماء على مختصر المنتهى شرحًا وتعليقًا ودراسة، فكثرت شروحه؛ ومن أهم شروحه: كتاب رفع الحاجب عن مختصر ابن الحاجب، للإمام تاج الدين السبكي.

ص: 116

ثم انحصر بعد ذلك جهد الأصوليين على كلا المختصرين:

منهاج البيضاوي، ومختصر ابن الحاجب. وما عليهما من شروح.

ثم تلت تلك المرحلة مرحلة ما بعد القرن السابع، وهي التي يؤرخ لها المؤرخون بفترة الركود والجمود في كل العلوم؛ فانتشر التقليد، وعكف العلماء على المختصرات، والحواشي، والشروح، وعدم الاجتهاد والتجديد.

وظل الأمر كذلك حتى جاء تاج الدين السبكي الإمام الفحل الكبير في القرن الثامن، فشرح منهاج البيضاوي، وشرح مختصر ابن الحاجب؛ فاستوعب الكتابين فصنف استقلالًا كتابه المختصر في الأصول المسمى (جمع الجوامع)، فغطى كتاب جمع الجوامع على كلا الكتابين واشتغل العلماء وطلاب العلم به، واعتنوا به ما بين شارح له، ومحشي عليه، أو مختصر له، أو ناظم له، أو منكت عليه، حتى قاربت الكتب المصنفة عليه سبعين كتابًا.

ص: 117

‌المبحث السابع:

المذاهب الأصولية وطرق التصنيف

كما أنَّ في الفقه مذاهب: حنفي، ومالكي، وشافعي، وحنبلي.

أيضًا في أصول الفقه مذاهب، فالمذاهب فيه تنقسم إلى ثلاثة مذاهب:

1 -

مذهب الحنفية (الفقهاء).

2 -

مذهب الجمهور (المتكلمون).

3 -

مذاهب أخرى.

وهذا التقسيم باعتبارين:

الأول: بناء على طريقة التدوين في علم الأصول (منهجية التأليف).

الثاني: الخلاف في مسائل تعد من أصول هذا العلم.

ص: 118

•‌

‌ أولًا: بناء على منهجية التأليف:

1 -

طريقة الحنفية (الفقهاء):

فهم اعتمدوا في تدوين مسائل علم الأصول على طريقة استنباط القاعدة من خلال فتاوى وأقوال وفقه أئمة المذهب الحنفي؛ فهو يستنبط القاعدة من خلال النظر إلى تصرفات فقهاء المذهب (كأبي حنيفة، والقاضي أبي يوسف، والإمام محمد بن الحسن الشيباني).

لذلك سميت هذه الطريقة بطريقة الفقهاء؛ لأنها أمس بالفقه، وأليق بالفروع.

مثال: مذهبهم عدم الاحتجاج بخبر الواحد فيما تعم به البلوى.

كانت هذه القاعدة بالنظر إلى تصرف أئمتهم، وجدوا أنهم لا يحتجون ببعض الأحاديث، ولا يرونها محلًّا للاستنباط، فنظروا فإذا سبب ذلك كونها أخبار آحاد، والمسألة واقعة ضمن عموم البلوى؛ فجعلوا ذلك قاعدة، ثم اختبروها في مسألة وأخرى وأخرى حتى استقرت عندهم قاعدة.

وهذه الطريقة تتميز بأمرين:

الأول: أنها تقرر القواعد الأصولية على مقتضى ما نقل من الفروع عن أئمتهم.

الثاني: أنها تغوص للبحث عن النكات الفقهية.

ص: 119

2 -

طريقة الجمهور (المتكلمين).

والجمهور عند الأصوليين هم (الشافعية، والحنابلة، والمالكية).

فهم لا يتقيدون بمذهب أئمتهم، ولا مسائلهم، ولا إلى الفقه الذي دُوِّن عنهم، بل يقررون المسائل والقواعد بالنظر إلى المسائل والقواعد من حيث هي مجردة عن الفروع الفقهية.

مثال: الاحتجاج بخبر الواحد فيما تعم به البلوى.

فهو يحاكم القاعدة إلى الأدلة الشرعية والعقلية، ويكثر في تقرير القواعد وتعزيزها بالاستدلال لها من النقل والعقل ما يشهد لصحتها.

لذلك يرى الجمهور أنَّ طريقتهم أكثر حيادية، وإنصافًا، وموضوعية في تقرير القواعد، فهي لا تخضع إلى اجتهاد فقهي هو في الأصل ثمرة وفرع.

وينتقدون الحنفية لأنهم جعلوا الفروع الفقهية أصلًا للأصول، وهذا خلاف العقل والمنطق، فالأصل يبنى عليه الفرع، وليس العكس.

وسميت طريقتهم بالمتكلمين؛ نظرًا لطريقتهم في التأليف التي تعتمد على تقرير المسائل ومحاكمتها عقلًا، فهم لا يكادون يخلون مسألة من المسائل من دليل عقلي يعززها ويقويها.

ص: 120

وهذه الطريقة تتميز بأمور:

الأول: أنها اهتمت بتحرير المسائل، وتقرير القواعد على المبادئ المنطقية.

الثاني: الميل الشديد إلى الاستدلال العقلي.

الثالث: البسط في الجدل والمناظرات.

الرابع: تجريد المسائل الأصولية عن الفروع الفقهية.

وهناك من الجمهور من صنف على طريقة الفقهاء، وهناك بعض الحنفية صنف على طريقة الجمهور، وهناك من جمع بين الطريقتين.

•‌

‌ ثانيًا: بناء على تقرير الحنفية في بعض المسائل التي هي أمهات مسائل علم الأصول على خلاف تقرير الجمهور:

مثال: الخلاف بين الجمهور والحنفية في دلالة العام هل هي قطعية أم ظنية.

فالجمهور يقررون أنَّ دلالة العام ظنية، والأحناف يقررون أنَّ دلالة العام قطعية.

فأثمر هذا الخلاف في هذه المسألة خلافًا كبيرًا في مسائل جزئية كثيرة.

مثال: العمل إذا تعارض دليلان ولم يثبت النسخ.

ص: 121

فالأحناف يقدمون الترجيح، والجمهور يقدمون الجمع.

فالأحناف قالوا: الترجيح مقدم، وأي نص كان فيه وجه من وجوه الترجيح فالحكم له، ويعتبر الدليل الآخر مرجوح فلم يعد دليلًا. فهم ألغوا الدليل الآخر بحكم الترجيح.

أما الجمهور، فالجمع عندهم مقدم، فمتى أمكن الجمع بوجه من وجوه الجمع المعتبر السائغ؛ فيجب العمل به.

• مذهب الظاهرية:

الظاهرية مذهب مستقل لاعتماده على أصول مستقلة عن المذاهب الأربعة، كجمودهم على ظاهر النصوص وإغفال ما عداها.

والأصل الذي خالف فيه الظاهرية المذاهب الأربعة: إنكارهم القياس. وقد أغلظ ابن حزم في كتابه (الإحكام) على من اعتبر القياس.

ولكنهم يلتقون مع الجمهور في كثير من المسائل، لكن لخلافهم في أصل كالقياس اعتُبِروا مذهبًا مستقلًّا.

والظاهرية أيضًا لا يعتبرون مفهوم المخالفة، ويعدونه حكم بالهوى.

تنبيه: خلاف الظاهرية لا يقبل جملة، ولا يهمل جملة، فهو معتبر فيما عدا خلافهم في القياس.

ص: 122

‌المبحث الثامن: طرق التصنيف في أصول الفقه، والكتب المصنفة فيه

اختلف العلماء في الطرق التي اتبعوها في التأليف والتصنيف في أصول الفقه فنشأ عن ذلك عدة طرق:

•‌

‌ الطريقة الأولى: طريقة الأحناف (الفقهاء):

وقد أُلف على هذه الطريقة كتب كثيرة منها:

1 -

مآخذ الشرائع لأبي منصور الماتريدي.

2 -

رسالة في الأصول لأبي الحسن الكرخى.

3 -

الفصول في الأصول لأبي بكر الجصاص.

4 -

تقويم الأدلة لأبي زيد الدبوسي.

5 -

أصول البزدوي.

6 -

أصول السرخسي.

ص: 123

7 -

المنار لأبي البركات النسفي.

•‌

‌ الطريقة الثانية: طريقة الجمهور (المتكلمين):

وهذه الطريقة سار عليها علماء الشافعية، والحنابلة، والمالكية، والظاهرية، والمعتزلة.

•‌

‌ أولًا: بعض الكتب المصنفة على المذهب المالكي:

1 -

التقريب والإرشاد للباقلاني.

2 -

إحكام الفصول في أحكام الأصول، والإشارة، والحدود كلها لأبي الوليد الباجي.

3 -

منتهى السول والأمل في علمي الأصول والجدل لابن الحاجب، ومختصره مختصر المنتهى.

4 -

الضياء اللامع شرح جمع الجوامع لحلولو المالكي.

5 -

شرح تنقيح الفصول لشهاب الدين القرافي.

6 -

نفائس الأصول شرح المحصول للقرافي.

7 -

شرح البرهان للمازري.

ص: 124

•‌

‌ ثانيًا: بعض الكتب المصنفة على المذهب الشافعي:

1 -

الرسالة للإمام الشافعي.

2 -

التبصرة، واللمع، وشرح اللمع لأبي إسحاق الشيرازي.

3 -

البرهان، وتلخيص التقريب، والورقات للجويني.

4 -

قواطع الأدلة للسمعاني.

5 -

المستصفى، والمنخول، وشفاء الغليل للغزالي.

6 -

الوصول إلى الأصول لابن برهان.

7 -

المحصول للرازي ومختصراته (الحاصل، والتحصيل).

8 -

الإحكام في أصول الأحكام للآمدي.

9 -

منهاج الوصول لعلم الأصول للبيضاوي، وشروحه كالإبهاج للسبكي.

10 -

البحر المحيط للزركشي.

•‌

‌ ثالثًا: بعض الكتب المصنفة على المذهب الحنبلي:

1 -

العدة لأبي يعلى.

2 -

التمهيد لأبي الخطاب.

ص: 125

3 -

الواضح لابن عقيل.

4 -

روضة الناظر وجنة المناظر لابن قدامة.

5 -

مختصر الروضة للطوفي.

6 -

شرح الكوكب المنير لابن النجار.

•‌

‌ رابعًا: الكتب المؤلفة على المذهب الظاهري:

1 -

الإحكام في أصول الأحكام لابن حزم.

2 -

النبذ لابن حزم.

•‌

‌ خامسًا: الكتب المؤلفة على مذهب المعتزلة:

1 -

العمد للقاضي عبد الجبار.

2 -

شرح العمد لأبي الحسين البصري.

3 -

المعتمد لأبي الحسين البصري.

•‌

‌ الطريقة الثالثة: الجمع بين طريقة الحنفية والجمهور:

وهذه الطريقة هي إثبات للقواعد الأصولية بالأدلة النقلية والعقلية، وتطبيقها في الفروع الفقهية.

ص: 126

من أهم الكتب المؤلفة على هذه الطريقة:

1 -

بديع النظام الجامع بين أصول البزدوى والأحكام للساعانى.

2 -

جمع الجوامع لتاج الدين السبكي.

3 -

التحرير لكمال الدين ابن الهمام.

4 -

مسلم الثبوت لمحب الدين بن عبد الشكور الحنفي، وقد شرحها الشيخ زكريا الأنصاري في كتابه فواتح الرحموت.

•‌

‌ الطريقة الرابعة: وهي طريقة تخريج الفروع على الأصول:

وهي تتميز بذكر خلاف الأصوليين في المسألة، مع الإشارة إلى بعض أدلة الفرق المختلفة، ثم ذكر عدد من المسائل الفقهية المتأثرة بهذا الخلاف.

ولا يذكر في هذه الكتب إلا المسائل التي اختلف فيها العلماء، والخلاف فيها معنوي له ثمرة، ومنها:

1 -

تخريج الفروع على الأصول للزنجاني (شافعي).

2 -

التمهيد في تخريج الفروع على الأصول للإسنوي (شافعي).

3 -

مفتاح الوصول إلى بناء الفروع على الأصول للتلمساني (مالكي).

ص: 127

4 -

القواعد والفوائد الأصولية لابن اللحام (حنبلي).

•‌

‌ الطريقة الخامسة: عرض أصول الفقه من خلال المقاصد:

لم تسلك هذه الطريقة مسلك المتقدمين، وهي ذكر القواعد تحت عناوين وأبواب معينة، لكن تعرض أصول الفقه من خلال مقاصد الشريعة، وقد ألف على هذه الطريقة الإمام الشاطبي كتابه (الموافقات)، وسوف يتم لها مزيد من البسط إن شاء الله تعالى في نهاية الكتاب.

ص: 128

‌المبحث التاسع: أثر دخول المسائل الكلامية والمباحث الاعتقادية على علم أصول الفقه

انتهج الإمام الشافعي في كتابه الرسالة نهجًا معينًا، وهو أنه يلج مباشرة إلى المسائل الأصولية متعلقة بثمرتها من المسائل الفقهية كما سبق بيانه.

ومَن جاء بعد الإمام الشافعي مِنْ القرن الثاني إلى القرن الرابع حافظ على هذا المنهج وهو إيراد المسائل الأصولية كقواعد تعين على الاستنباط، فلم تكن بمعزل عن الثمرة المرجوة منها وهي الفقه.

ثم في القرن الخامس دخلت مسائل علم الكلام إلى صلب علم الأصول، ومباحث الاعتقاد، كصفة الكلام وما يتعلق بها، وتعريف الإيمان، وعلاقة العمل به، والتحسين والتقبيح.

وكان من أبرز من أدخل تلك المباحث في علم الأصول القاضي عبد الجبار المعتزلي.

ص: 129

ثم صارت واستمرت صفة لازمة لم تنفك عنها كتب الأصول فيما بعد، خاصة مع وجود بعض التشابه في مباحث علم الأصول مع مباحث علم العقيدة في بعض النواحي، مما أغرى مَنْ كتب في العقيدة أن يكتب في الأصول وإن لم تكن له عناية بالفقه.

ثم اشتد الأمر بعد إدخال الغزالي المقدمة المنطقية على علم الأصول.

ولم يستطع الأصوليون أن يعودوا بكتب الأصول إلى منهج الإمام الشافعي في الرسالة، وإن كان الله قد مَنَّ على الأمة بوجود بعض الأصوليين الذين لم يغلب عليهم علم الكلام، وكانوا على طريقة السلف، فلم تمتزج تصانيفهم بعلم الكلام.

بل اشتدوا وأنكروا على من انتهج هذا النهج كأبي اسحاق الشيرازي في اللمع، وأبي المظفر السمعاني في القواطع.

•‌

‌ سمات ظهور المذاهب العقدية داخل علم الأصول:

‌أولًا: المبالغة في التجريد العقدي للمسألة مع إهمال أثرها الفقهي، وإهمال وإغفال دلالات النصوص.

مثال: مسألة دلالة الأمر، وهل يقتضي الأمر النهي عن ضده أم لا، وما دلالة الأمر بعد الحظر.

ص: 130

ففي هذه المسائل تجد نقاشًا يتسم ب:

1 -

البعد عن النصوص الشرعية، والتطبيقات الفقهية.

2 -

إيغال في إلزام لوازم عقلية، وترتيب قضايا منطقية كلامية بعيدة تمام البعد عن التطبيق الشرعي.

‌ثانيًا: نزعة المذهب العقدي للمصنف في تقرير مسائل الأصول:

فإن كان المصنف معتزليًّا قرر مذهب المعتزلة، وإن كان المصنف أشعريًّا قرر مذهب الأشاعرة، مع أنَّ علم أصول الفقه ليس له علاقة بالمذهب العقدي، فهو قائم على الأدلة الشرعية وطرق الاستنباط، فهذه المسائل ليست من مباحثه.

• مثال: صفة الكلام.

فإذا جاء الكلام عن الأدلة، فمن الأدلة القرآن، والكل يقر بأن القرآن دليل شرعي حجة ينبغي المصير إليه. هذا القدر هو القدر الكافي في علم أصول الفقه، لكنهم أدخلوا هنا المذهب العقدي، فتكلموا عن صفة الكلام، وهل يوصف الله بذلك أم لا؟ وهل الكلام حقيقة أم كلام نفسي؟ إلى غير ذلك.

وهذا من مباحث علم الاعتقاد، وليس من أصول الفقه.

ص: 131

• مثال آخر: صيغ العموم، والأمر، والنهي.

وهذه متعلقة باللسان العربي، فكل عاقل يثبت ذلك، وإنكار ذلك مصادمة للعقول، لكن للتأثر بالمذهب العقدي، جاء من يقول بأنه لا توجد صيغ للألفاظ، ولا علاقة للألفاظ بالمعاني، فكان قولًا محدثًا في العربية، مخالفًا لما علم من العقول بداهة.

• مثال آخر: القياس والعلة، وهل أحكام الشريعة معللة أم لا:

وكانت هذه المسائل أيضًا متأثرة بالمذاهب العقدية في القضاء والقدر.

فالمعتزلة نفوا القدر، فنفوا تعليل الأحكام، وقالوا بالتحسين والتقبيح العقلي، وارتباط الأحكام بذلك.

والأشاعرة قالوا بالجبر، ونازعوا المعتزلة في مسألة التحسين والتقبيح، وشحنت كتب الأصول بالأخذ والرد.

وهذا قدر زائد عن علم أصول الفقه.

‌ثالثًا: انقلاب بعض أبواب الأصول إلى معترك عقدي.

فإيراد هذه المباحث في علم الأصول أدى إلى وجود أبواب كاملة ما هي إلا إيراد للأقوال ومناقشات لها، وأخذ ورد؛ فشحنت كتب الأصول بمباحث ليست من صلب علم الأصول.

ص: 132

•‌

‌ آثار دخول المسائل الكلامية والمنطقية في علم الأصول:

1 -

الانتصار للمذهب العقدي داخل كتب الأصول.

2 -

ضعف الأثر الفقهي، فلا توجد الأمثلة الفقهية بكثرة، وهذا غياب للثمرة المرجوة أصلًا من الأصول.

3 -

تعقيد كتب الأصول بالمباحث الكلامية والمنطقية؛ مما أدى إلى زهد طلاب العلم في علم الأصول، مع عظم فائدته وأهميته، وأغرى البعض أن يقول: علم الأصول ما هو إلا تعلم لعلم الكلام والمنطق.

•‌

‌ أقسام مسائل الأصول التي تأثرت بمسائل الاعتقاد:

‌1 - مسائل لا أثر للخلاف فيها (الخلاف لفظي):

مثال: مسألة انقسام الواجب إلى واجب معين ومخير، كالتخيير في الكفارات.

فقد خالف المعتزلة، وقالوا: لا يصح التقسيم، وأن هذا تناقض أن يكون واجب ومخير؛ لأن مقتضى التخيير الإباحة، ووصف الإباحة مناقض للوجوب.

لكنهم مع ذلك لا ينكرون أنَّ المكلف مخير في كفارة اليمين بين الإطعام والكسوة والعتق.

ص: 133

‌2 - مسائل الخلاف فيها متكلف:

كأن يأتي للمسألة الأصولية فيلتزم فيها قولًا ضعيفًا جدًّا؛ لأنه يوافق أصله، ومذهبه العقدي.

كإنكار أنَّ للعموم والأمر والنهي صيغًا، فهذه مكابرة وتجاوز لمقتضى اللغة ومصادمة للعقول، لذلك تجد المحققين منهم يتوقفون في هذه المسائل.

‌3 - مسائل ذات الأثر العلمي (الخلاف فيها معنوي):

مثال: الاحتجاج بخبر الواحد في العقائد، والاحتجاج بخبر الواحد فيما تعم به البلوى، والاحتجاج بالمصلحة، وتقديمها على النص.

فهذه المسائل وغيرها ظهر فيها الخلل في التقرير الأصولي بناءًا على المذهب العقدي الذي استصحبه المصنف.

ص: 134

‌الفصل الرابع المقدمات والمصطلحات المهمة لدارس علم أصول الفقه

وفيه مباحث:

• المبحث الأول: مقدمات مهمة في دراسة علم الأصول.

• المبحث الثاني: علاقة علم الأصول بغيره من العلوم وتأثيره فيها.

• المبحث الثالث: مصطلحات مهمة.

• المبحث الرابع: مباحث لغوية متعلقة بعلم الأصول (أحكام الحروف).

ص: 135

‌المبحث الأول: مقدمات مهمة في دراسة علم الأصول

•‌

‌ ذكر الشاطبي رحمه الله بعض المقدمات المهمة المرتبطة بعلم أصول الفقه

ومنها:

1 -

الأدلة العقلية إذا استعملت في هذا العلم؛ فإنما تستعمل مركبة على الأدلة السمعية، أو معينة في طريقها، أو محققة لمناطها، أو ما أشبه ذلك، لا مستقلة بالدلالة؛ لأن النظر فيها نظر في أمر شرعي، والعقل ليس بشارع.

2 -

كل مسألة مرسومة في أصول الفقه لا ينبني عليها فروع فقهية، أو آداب شرعية، أو لا تكون عونًا في ذلك فوضعها في أصول الفقه عارية.

3 -

كل مسألة لا ينبنى عليها عمل، فالخوض فيها خوض في ما لم يدل على استحسانه دليل شرعي.

4 -

كل علم شرعي فطلب الشارع له إنما يكون حيث هو وسيلة إلى التعبد إلى الله تعالى، لا من جهة أخرى، فإن ظهر فيه اعتبار جهة

ص: 136

أخرى فبالتبع والقصد الثانى.

5 -

العلم الذى هو العلم المعتبر شرعًا هو العلم الباعث على العمل.

6 -

إذا تعاضد النقل والعقل على المسائل الشرعية، فعلى شرط أن يتقدم النقل فيكون متبوعًا، ويتأخر العقل فيكون تابعًا.

7 -

لما ثبت أنَّ العلم المعتبر شرعًا هو ما ينبنى عليه عمل صار ذلك منحصرًا فيما دلت عليه الأدلة الشرعية.

8 -

من أنفع طرق العلم الموصلة إلى غاية التحقق به، أخذه عن أهله المتحققين به على الكمال والتمام.

9 -

من العلم ما هو من صلب العلم، ومنه ما هو ملح العلم لا من صلبه، ومنه ما ليس من صلبه ولا ملحه؛ فهذه ثلاثة أقسام.

- القسم الأول: هو الأصل والمعتمد، والذي عليه مدار الطلب، وإليه تنتهي مقاصد الراسخين، وذلك ما كان قطعيًّا، أو راجعا إلى أصل قطعي، والشريعة المباركة المحمدية منزلة على هذا الوجه، ولذلك كانت محفوظة في أصولها وفروعها؛ كما قال تعالى:{إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9]؛ لأنها ترجع إلى حفظ المقاصد التي بها يكون صلاح الدارين، وهي: الضروريات، والحاجيات،

ص: 137

والتحسينات، وما هو مكمل لها ومتمم لأطرافها، وهي أصول الشريعة.

والقسم الثاني: وهو المعدود في ملح العلم لا في صلبه: وهوما لم يكن قطعيًّا ولا راجعًا إلى أصل قطعي، كالعلوم المأخوذة من الرؤيا، وكحمل بعض العلوم على بعض في بعض قواعده؛ حتى تحصل الفتيا في أحدها بقاعدة الآخر.

القسم الثالث: وهو ما ليس من الصلب، ولا من الملح: وهوما لم يرجع إلى أصل قطعي ولا ظني، وإنما شأنه أن يكر على أصله أو على غيره بالإبطال، ومثال هذا القسم ما انتحله الباطنية في كتاب الله من إخراجه عن ظاهره، وأن المقصود وراء هذا الظاهر، ولا سبيل إلى نيله بعقل ولا نظر، وإنما ينال من الإمام المعصوم، تقليدًا لذلك الإمام

(1)

.

•‌

‌ مسألة: هل يمكن حصول العلم دون معلم؟

قال الشاطبى: الإمكان مسلَّم، ولكن الواقع في مجارى العادات أنه لا بد من المعلم، وهو متفق عليه في الجملة وإن اختلفوا في التفاصيل

وقد قالوا: إنَّ العلم كان في صدور الرجال ثم انتقل إلى الكتب وصارت مفاتحه بأيدى الرجال. وهذا الكلام يقضى بأنه لا بد

(1)

الموافقات للشاطبي بتصرف (1/ 27 وما بعدها).

ص: 138

في تحصيله من الرجال، إذ ليس وراء هاتين المرتبتين مرمى عندهم

(1)

.

وأصل هذا في الصحيح: (إنَّ الله لا يقبض العلم انتزاعًا ينتزعه من الناس، ولكن يقبضه بقبض العلماء)

(2)

، فإذا كان كذلك فالرجال هم مفاتحه بلا شك

(3)

.

•‌

‌ مسألة: أمارات العالم المتحقق:

1 -

العمل بما علم حتى يكون قوله مطابقًا لفعله، فإن كان مخالفًا فليس أهلًا لأن يؤخذ عنه.

2 -

أن يكون ممن رباه الشيوخ في ذلك العلم؛ لأخذه عنهم وملازمته لهم.

3 -

الاقتداء بمن أخذ عنه والتأدب بأدبه، كما علمت من اقتداء الصحابة بالنبى صلى الله عليه وسلم، واقتداء التابعين بالصحابة

(4)

.

(1)

الموافقات للشاطبي (1/ 140).

(2)

أخرجه البخاري (100)، ومسلم (2673) من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص مرفوعًا.

(3)

الموافقات للشاطبي (1/ 140).

(4)

الموافقات للشاطبي (1/ 141).

ص: 139

‌المبحث الثاني: علاقة علم الأصول بغيره من العلوم وتأثيره فيها

العلوم الشرعية بينها وبين بعضها قدر كبير من الترابط والتداخل، وإن كان الأصل فيها التمايز والاختلاف في موضوعاتها وغاياتها؛ وهذا القدر العالي من التداخل راجع إلى أن العلوم الشرعية كلها متمحورة حول النص الشرعي.

• ويمكن أن يُقسَّم هذا التداخل والترابط إلى أربعة أنماط

(1)

:

•‌

‌ الأول: التداخل الاستمدادي:

ومعناه: أن العلوم الشرعية يحتاج بعضها إلى بعض في تكميل متطلباتها البحثية، فلا يوجد علم يستقل بكل البحوث التى تندرج فيه من غير أن يحتاج إلى علم آخر يعينه ويساعده فى تكميل النظر والتدقيق في بعض مكوناتها.

(1)

مستفاد من قانون التأسيس العقدي د/ سلطان بن عبد الرحمن العميري بتصرف (56).

ص: 140

ومن أظهر الصور التى يظهر فيها هذا النمط من التداخل قضية الاستمداد المذكورة فى المبادئ العشرة.

•‌

‌ الثانى: التداخل التحصيلي:

ومعناه: أن المرء لا يستطيع أن يفهم علمًا تمام الفهم دون أن يكون له إدراك لأصول العلوم الأخرى؛ فلا يوجد علم شرعى مستقل بذاته بحيث لا يكون له ارتباط بالعلوم الأخرى، أو يمكن للمرء أن يحصله من غير أن يدرك شيئًا من غيره، بل كل علم شرعى محتاج الى آخر فى الفهم والتحصيل.

ومن أظهر صور هذا النمط تقسيم العلماء العلوم إلى علوم أدوات وعلوم غايات، وكذلك كلام العلماء عن الشروط التى ينبغى توفرها في الفقيه والمفسر من تحصيل معارف من علوم متعددة.

•‌

‌ الثالث: التداخل الموضوعي:

ومعناه: أن ثمة موضوعات تُبحَث فى عدد من العلوم الشرعية لكونها متعلقة بها جميعًا، ومن أظهر صورها هنا المسائل المشتركة بين علم أصول الفقه وعلوم العربية كدلالات الألفاظ وغيرها.

•‌

‌ الرابع: التداخل التأثيري:

ومعناه: أن العلوم الشرعية يؤثر بعضها فى بعض من جهة تقرير المسائل والدلائل، وينبغى التنبيه هنا إلى أن التأثر الواقع بين العلوم

ص: 141

مختلف، فبعضه محمود وبعضه مذموم، وبعضه كثير وبعضه قليل.

• فعلاقة علم أصول الفقه بغيره من العلوم نستطيع أن نحددها من خلال هذه الأنماط:

• الأول: التداخل الاستمدادي:

وقد سبق بيانه في مبدأ الاستمداد في المبادئ العشرة.

• الثانى: التداخل التحصيلي:

فعلم أصول الفقه من علوم الآلات التى يُحتاج إليها في سائر العلوم لأنه علم يضبط لك أصول الفهم والاستنباط والاستدلال، وسيأتى بيان ذلك إن شاء الله تعالى.

• الثالث: التداخل الموضوعى:

وذلك: مثل كثير من المسائل المشتركة بين علوم اللغة، وعلم أصول الفقه، كمبحث دلالات الألفاظ، كالأمر والنهى، والعام والخاص والاستثناء، وغيره، وإن كان لعلم أصول الفقه اختصاص زائد في هذه المباحث من جهة دلالاتها على الأحكام ليس لأهل اللغة، وقد وضح ذلك الإمامان الطوفى وتقى الدين السبكى وقد سبق بيان ذلك

(1)

، ولا مانع من إعادة ذكر بعضه هنا.

(1)

فى الرد على شبهة أن علم الأصول ليس علمًا مستقلًّا.

ص: 142

ومن ذلك قول الطوفي: الكلام يشتمل على لفظ ومعنى، فحظ اللغوي النظر في ألفاظه ببيان ما وضعت له كقوله: العموم: الشمول، والعام: الشامل، والتخصيص: تمييز شيء عما شاركه بحكم، وحظ النحوي بيان ما يستحقه من الحركات اللاحقة لآخره إعرابًا أو بناءًا، وحظ التصريفي بيان وزنه، وصحيحه من معتله، وأصله من زائده أو بدله، وغير ذلك من أحكامه.

أما كون العام بعد تخصيصه حجة أو ليس بحجة، أو حقيقة أو مجازًا، فهذا ليس حظ واحد من هؤلاء، بل حظ الأصولي، والأصولي موضوع علمه المعنى، وإنما ينظر في الألفاظ بطريق العرض في مبادئ الأصول

(1)

.

ويقول تقي الدين السبكي: إن الأصوليين دققوا في فهم أشياء من كلام العرب لم يصل إليها النحاة ولا اللغويون، فإن كلام العرب متسع جدًّا، والنظر فيه متشعب، فكتب اللغة تضبط الألفاظ ومعانيها الظاهرة دون المعاني الدقيقة التي تحتاج إلى نظر الأصولي، واستقراء زائد على استقراء اللغوي، مثاله دلالة صيغة (افعل) على الوجوب، و (لا تفعل) على التحريم، وكون (كل وأخواتها) للعموم، وما أشبه ذلك مما ذُكِر

(1)

شرح مختصر الروضة للطوفي (2/ 533).

ص: 143

أنه من اللغة، ولو فتشت كتب اللغة لم تجد فيها شفاءًا في ذلك، ولا تعرضًا لما ذكره الأصوليون، وكذلك كتب النحو لو طلبت معنى الاستثناء، وأن الإخراج هل هو قبل الحكم أو بعد الحكم، ونحو ذلك من الدقائق التى تعرض لها الأصوليون، وأخذوها باستقراء خاص من كلام العرب، وأدلة خاصة لا تقتضيها صناعة النحو، فهذا ونحوه مما تكفل به أصول الفقه

(1)

.

وكذلك في علم التفسير نجد مسائل يتناولها المفسرون بالبيان لأهميتها فى التفسير، مثل مباحث النسخ، والمحكم والمتشابه، والحقيقة والمجاز، والعام والخاص، والظاهر والمؤول، والمجمل والمبين، والمطلق والمقيد، والمنطوق والمفهوم، وإن كانت هذه المباحث تناولها الأصوليون بزيادة تأصيل وضبط ليس عند المفسرين

(2)

.

يقول أبو حيان: وقد تكلم المفسرون هنا في حقيقة النسخ الشرعي وأقسامه، وما اتفق عليه منه، وما اختلف فيه، وفي جوازه عقلًا، ووقوعه شرعاً، وبماذا ينسخ، وغير ذلك من أحكام النسخ ودلائل تلك

(1)

الإبهاج شرح المنهاج للسبكي بتصرف يسير (1/ 7).

(2)

من الدراسات الجيدة في هذا الباب كتاب: المسائل المشتركة بين علوم القرآن وأصول الفقه وأثرها في التفسير. د/ فهد الوهبي.

ص: 144

الأحكام، وطوَّلوا في ذلك. وهذا كله موضوعه علم أصول الفقه، فيبحث في ذلك كله فيه.

وهكذا جرت عادتنا: أن كل قاعدة في علم من العلوم يُرجَع في تقريرها إلى ذلك العلم، ونأخذها في علم التفسير مُسَلَّمة من ذلك العلم، ولا نطول بذكر ذلك في علم التفسير، فنخرج عن طريقة التفسير

(1)

.

وكذلك فى علم الحديث هناك قدر من هذه المسائل، وذلك كالكلام عن السنة باعتبارها مصدرًا ودليلًا من مصادر الأحكام، وكذلك في تقسيم الأخبار الى متواتر وآحاد، ومباحث القطعى والظنى، وأي هذه الأخبار حجة.

وكذلك فى علم العقيدة نجد قدرًا من المباحث العقدية والكلامية تُبحَث في علم الأصول

(2)

مع أجنبية هذه المسائل عن علم أصول الفقه، مثل مسألة التحسين والتقبيح العقلي، والحقيقة والمجاز، وهل للأمر صيغة أم لا؟

(1)

تفسير البحر المحيط لأبي حيان (1/ 511).

(2)

من الكتب التى عنيت بذكر هذه المسائل كتاب المسائل المشتركة بين أصول الفقه وأصول الدين د. محمد العروسي عبد القادر.

ص: 145

وهذا القدر من الاشتراك راجع إلى أن كثيرًا ممَّن كتب في الأصول قديمًا من المعتزلة والأشاعرة، فجعلوا كتب الأصول سجالًا عقديًّا فيما بينهم، و تقرير مثل هذه المعتقدات في كتب الأصول يدل على أهمية هذا العلم، فإن تقررت هذه الأصول العقدية كانت حاكمة بعد ذلك على كل الأصول والفروع؛ لذلك نجد كثيرًا من القواعد الأصولية قررت تفريعًا على هذه المباحث العقدية.

• أما النمط الرابع فهو التداخل التأثيري:

والمراد هنا تأثير علم أصول الفقه في غيره من العلوم:

•‌

‌ أولًا: علم الفقه:

فأظهر العلوم تأثرًا بعلم أصول الفقه علم الفقه؛ إذ هو فرع عنه، ونتيجة له، ومبناه عليه، ويظهر ذلك جليًّا في اختلاف الفقهاء، فأحد أقوي أسباب اختلاف الفقهاء الخلاف في تقرير القواعد الأصولية

(1)

.

فما من حكم فقهي إلا وهو يستند إلى قاعدة، أو مسألة في علم أصول الفقه، وهذا أمر واضح جلي لا يحتاج إلى كثير بيان، وأدل دليل على ذلك اسمه، فتسميته علم أصول الفقه لأكبر دليل على هذا،

(1)

من الكتب النافعة في هذا الباب كتاب أثر الاختلاف في القواعد الأصولية د. مصطفى الخن.

ص: 146

وسيأتي في ثنايا الكتاب ذكر كثير من الأمثلة الدالة على ذلك.

•‌

‌ ثانيًا: علم التفسير:

فعلم أصول الفقه من العلوم التى لابد أن يعتني بها المفسر، وسبق بيان قدر من المسائل المشتركة بين علم التفسير وعلم الأصول التي تشتد حاجة المفسر لها، بل لا يكاد يتصور عالم بالتفسير دارس له، وليس له علم واسع بعلم أصول الفقه؛ إذ القرآن هو أصل القواعد وأساسها، فعليه تُبنَى القواعد، وإليه ترجع، وفيه تعمل.

ومن ذلك مثلًا: فيه الأمر المقتضي للوجوب كقوله تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} ، وقوله تعالى:{فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة: 185].

وفيه: الأمر المصروف للندب أو الإرشاد كقوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ} [البقرة: 282]، صرف للندب أو الإرشاد بقوله تعالى:{فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ} [البقرة: 283].

وفيه: الأمر المصروف للإباحة: كقوله تعالى: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا} [البقرة: 187].

ص: 147

وفيه: النهي الذي للتحريم كقوله تعالى: {وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا} [الإسراء: 32].

وفيه: الإشارة إلى بعض شروط التكليف كالاستطاعة في قوله تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} [آل عمران: 97]، والعلم كقوله:{وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء: 15]، وقوله:{وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْلَمُونَ} [التوبة: 6].

وفيه: العام المخصوص كقوله تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة: 228]، خُصَّ بقوله تعالى:{وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 4].

وفيه: المطلق والمقيد كقوله تعالى في كفارة اليمين: {فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} [المائدة: 89]، وجاءت الرقبة مقيدة في كفارة القتل في قوله تعالى:{وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} [النساء: 92].

وفيه الظاهر كقوله تعالى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة: 185] أي الصيام الشرعي فهذا هو الظاهر من النص.

ص: 148

وفيه المؤول بقرينة كقوله تعالى: {فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا} [مريم: 26]، فالمراد الصيام اللغوي أي عن الكلام.

وفيه المجمل كقوله تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ} [البقرة: 222]، وبينت السنة المراد بالاعتزال بقوله صلى الله عليه وسلم:«اصنعوا كل شيء إلا النكاح» .

وفيه مفهوم الموافقة الأَوْلى كقوله تعالى: {وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ} [آل عمران: 75]، فمن باب أولى أقل من ذلك.

وفيه: مفهوم المخالفة كقوله تعالى: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ} [التوبة: 11]، وبمفهوم المخالفة إن لم يتوبوا، ولم يقيموا الصلاة، ولم يؤتوا الزكاة فليسوا إخواننا في الدين.

وفيه: الناسخ والمنسوخ كنسخ قوله تعالى في العدة: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ} [البقرة: 240]، بقوله تعالى:{وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} [البقرة: 234].

ص: 149

وفيه، بل هو مليء بمقاصد الشريعة ومنه: قوله تعالى عن الصلاة: {إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} [العنكبوت: 45] مبينًا المقصد منها وهو النهي عن الفحشاء والمنكر.

وقال في الصيام: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 183] مبينا المقصد من الصيام وهو التقوى.

وقال في الزكاة: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} [التوبة: 103] مبينا المقصد من الزكاة وهو التطهير والتزكية.

وقال في المقصد العام من خلق الجن، الإنس:{وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56].

بل قال عن بعثة النبي صلى الله عليه وسلم كلها: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 107]، وهذا هو المقصد العام من إرسال النبي صلى الله عليه وسلم، وهو أنه أُرسِل رحمة للعالمين جميعًا.

ص: 150

•‌

‌ ثالثًا: علم الحديث:

وكذلك علم الحديث تأثر بعلم أصول الفقه، ومن ذلك كما في بحث تقسيم الأخبار إلى متواتر وآحاد، وإفادة كل واحد منهما للعلم، وهذا أجنبي عن علم مصطلح الحديث

(1)

، وكان هذا تأثرًا بعلم الأصول، وهذا ما بينه ابن حجر في كتابه "نزهة النظر" بعدما تكلم عن تقسيم الأخبار الى آحاد ومتواتر وذكر شروط التواتر ثم قال رحمه الله " وإنما أبهمت شروط المتواتر في الأَصْلِ - يقصد نخبة الفكر - لأنَّهُ على هذهِ الكيفيَّةِ ليسَ من مباحثِ علمِ الإسناد، وإنما هو من مباحث أصول الفقه؛ إذْ علمُ الإسنادِ يُبحث فيهِ عن صِحَّةِ الحديثِ أَوْ ضعفه؛ لِيُعْمَلَ به أَوْ يُتْرَكَ مِنْ حيثُ صفاتُ الرِّجالِ وصِيَغُ الأداءِ، والمتواتر لا يُبْحَث عن رجاله بل يجِبُ العملُ بهِ مِنْ غيرِ بَحْثٍ

(2)

.

وتجدر الإشارة هنا إلى أن أول من أدخل تقسيم الأخبار الى متواتر وآحاد الخطيب البغدادي في كتابه الكفاية، وإلى هذا أشار ابن الصلاح في كتابه معرفة علوم الحديث حيث قال: ومن المشهور: المتواتر الذي يذكره أهل الفقه وأصوله، وأهل الحديث لا يذكرونه باسمه الخاصِّ

(1)

يراجع كتاب المنهج المقترح لفهم المصطلح للشيخ حاتم العوني فقد توسع في بيان هذا التأثر بعلم أصول الفقه.

(2)

نزهة النظر لابن حجر (80).

ص: 151

المُشْعِر بمعناه الخاصِّ، وإن كان الحافظ الخطيب قد ذكره، ففي كلامه ما يُشْعِر بأنه اتبع فيه غير أهل الحديث، ولعل ذلك لكونه لا تشمله صناعتهم، ولا يكاد يوجد في رواياتهم

(1)

.

ومنها أفعال النبي صلى الله عليه وسلم وتقسيمها بين أفعال جِبِلِّية وعادية ونحوها، وأفعال خاصة به، وأفعال عامة له وللأمة؛ لبيان ما هو مصدر التشريع منها، والمطلوب من الأمة اتباعه، وما هو غير مطلوب شرعًا، وغير ذلك من المسائل.

•‌

‌ رابعًا: علم العقيدة:

ومن العلوم التى كان لعلم الأصول تأثيرٌ واضح فيها أيضًا علم العقيدة، وهذا أمر من الأهمية بمكان؛ وذلك حيث إن علم أصول الفقه يدور موضوعه حول الأدلة بما فيها من أحكام الفقه والعقيدة وغيرها، وكذلك فإن حفظ العقيدة الإسلامية يكون بحماية أصول الاستدلال، والرد على شبه المنحرفين، ونحو ذلك، وكل ذلك محله علم أصول الفقه.

ومما يبين ذلك نجد تطبيق قواعد علم أصول الفقه في كثير من الأحكام العقدية التي لا يمكن فهمها على الوجه الأكمل إلا بالرجوع

(1)

معرفة أنواع علوم الحديث لابن الصلاح (ص: 267).

ص: 152

لمسائل أصول الفقه وقواعده، فكم من عامٍّ في العقيدة خص بالأدلة، ومطلق قُيِّد، وناسخ ومنسوخ، وغيرها.

ومن ذلك: عن عبد الله بن مسعود قال: لما نزلت هذه الآية: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} [الأنعام: 82]، شق ذلك على المسلمين فقالوا: يا رسول الله، أينا لا يظلم نفسه.

ففهم الصحابة من ذلك العموم؛ حيث إن كلمة "ظلم" نكرة في سياق النفي فتفيد العموم، فقالوا: أينا لم يظلم نفسه، فبين النبي صلى الله عليه وسلم أن هذا العام أريد به الخصوص؛ حيث بين أن المراد بالظلم هنا هو الشرك قال:«ليس ذلك، إنما هو الشرك، ألم تسمعوا ما قال لقمان لابنه وهو يعظه» : {يَابُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان: 13]

(1)

.

ومنه: عن عبادة بن الصامت قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في مجلس فقال: «بايعوني على أن لا تشركوا بالله شيئًا، ولا تزنوا، ولا تسرقوا، ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق، فمن وفى منكم فأجره على الله، ومن أصاب شيئًا من ذلك فعوقب به فهو كفارة له، ومن أصاب شيئًا من ذلك فستره الله عليه فأمره إلى الله، إن شاء عفا عنه، وإن شاء

(1)

أخرجه البخاري (3429)، ومسلم (124) من حديث ابن مسعود مرفوعًا.

ص: 153

عذبه»

(1)

.

قال النووي في شرحه لهذا الحديث: واعلم أن هذا الحديث عام مخصوص، وموضع التخصيص قوله صلى الله عليه وسلم:«ومن أصاب شيئًا من ذلك» إلى آخره، المراد به ما سوى الشرك؛ وإلا فالشرك لا يغفر له

(2)

.

ومنه أيضًا: تحريم سجود التحية فهو يخضع لقاعدة شرع من قبلنا المنسوخ بشرعنا ليس شرعًا لنا بالإجماع؛ حيث إن سجود التحية كان جائزًا في شريعة من قبلنا، كما في قوله تعالى:{وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا} [يوسف: 100]، لكنه نُسِخ في شريعتنا، وهذه قاعدة أصولية تخص أدلة الأحكام المختلف فيها، وضوابط الاستدلال بها، ومنها شرع من قبلنا.

ومنه أيضًا: الحكم على أفعال العباد، وإثبات أنها مخلوقة، والاستدلال على ذلك بالعموم في قوله تعالى:{اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [الرعد: 16]، فلفظ "كل" لفظ عموم يشمل جميع أفراده ما لم يخصص، ومن ذلك أفعال العباد فهي مخلوقة أيضًا لدخولها في العموم.

(1)

أخرجه البخاري في صحيحه (1/ 13)، مسلم (3/ 1333).

(2)

شرح النووي على مسلم (11/ 222).

ص: 154

ومن ذلك رفع التكليف عمن قال قول الكفر لتخلف شرط الاختيار في حقه، وهو من شروط التكليف فقال تعالى:{إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ} [النحل: 106].

ومن ذلك الاستدلال بمفهوم المخالفة: فعن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من مات يشرك بالله شيئًا دخل النار» ، قال ابن مسعود: وقلت أنا: من مات لا يشرك بالله شيئًا دخل الجنة

(1)

.

ومن ذلك: مسألة رؤية النبي صلى الله عليه وسلم لربه في المعراج، فقد احتج من نفى الرؤية بقول النبي صلى الله عليه وسلم «تعلموا أنه لن يرى أحد منكم ربه عز وجل حتى يموت»

(2)

، فيدخل في ذلك النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن المقرر في علم الأصول أن النبي صلى الله عليه وسلم داخل في خطابه للأمة.

ومن ذلك رؤية المؤمنين لربهم يوم القيامة، فمما استُدِل به على هذا: مفهوم المخالفة من قوله تعالى: {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} [المطفِّفين: 15]، فلما حُجِب الكفار عن رؤية الله تعالى عقابًا علم أن المؤمنين يرونه عطاء ورضا.

واستدل أيضا بالحديث السابق: «تعلموا أن أحدًا لن يرى ربه حتى

(1)

أخرجه البخاري في صحيحه (1238).

(2)

أخرجه مسلم (169).

ص: 155

يموت»، فهذا مفهوم الغاية، ومعناه: أن ما بعد الغاية مخالف لما قبلها، والمعنى: لما كانوا لا يرونه قبل الموت علم أنهم يرونه بعد الموت.

ومن ذلك قاعدة عامة وهامة وهي: أن الأصل حمل اللفظ على ظاهره حتى يرد دليل صارف إلى المعنى المؤول.

وهذه القاعدة يستخدمها علماء أهل السنة في باب الأسماء والصفات في إثباتها على ظاهرها وحقيقتها، والرد لتحريف من حرفها أو أولها لعدم وجود الدليل الصحيح الصالح.

ومن ذلك أيضًا: الجمع بين النصوص التي ظاهرها التعارض، كأحاديث النهي عن الطيرة مع حديث الشؤم في ثلاث، وكذلك أحاديث نفي العدوى وأحاديث يفهم منها وجودها، وهكذا.

وكذلك استخدم العلماء القواعد الأصولية في تقرير مسائل العقيدة والرد على الشبهات. ومثال ذلك: قال شيخ الإسلام وهو يعدد وجوه الرد على القائلين بالكلام النفسي: وهو أن الأمة إذا اختلفت في مسألة على قولين لم يكن لمن بعدهم إحداث قول ثالث، فإذا لم يكن في صدر الأمة إلا قول السلف وقول المعتزلة تعين أن يكون الحق في أحد القولين، ومن المعلوم بالشرع والعقل أن قول المعتزلة باطل للوجوه

ص: 156

الكثيرة

تعين صحة مذهب السلف

(1)

.

فقرر رحمه الله مذهب السلف، ورد شبهة الأشاعرة بقاعدة أصولية وهي عدم جواز إحداث قول ثالث؛ لأنه يكون مخالفًا للإجماع السابق أن الحق في أحد القولين، فيكون القول الثالث شاذًّا.

ومن ذلك أيضًا: ما استدل به رحمه الله على ضلال الرافضة القائلين بإمامة المهدي المنتظر الذي اختفى صغيرًا بقواعد أصولية تخص شروط التكليف في علم أصول الفقه؛ حيث قال: فإن هؤلاء الجهال الضلال يزعمون أن هذا المنتظر كان عمره عند موت أبيه: إما سنتين أو ثلاثًا أو خمسًا على اختلاف بينهم في ذلك، وقد علم بنص القرآن والسنة المتواترة وإجماع الأمة: أن مثل هذا يجب أن يكون تحت ولاية غيره في نفسه وماله، فيكون هو نفسه محضونًا مكفولًا لآخر يستحق كفالته في نفسه وماله تحت من يستحق النظر، والقيام عليه، وهو قبل السبع طفل لا يؤمر بالصلاة، فإذا بلغ العشر ولم يصلِّ أدب على فعلها، فكيف يكون مثل هذا إمامًا معصومًا يعلم جميع الدين، ولا يدخل الجنة إلا من آمن به، ثم بتقدير وجوده وإمامته وعصمته: إنما يجب على الخلق أن يطيعوا من يكون قائما بينهم: يأمرهم بما أمرهم الله به

(1)

التسعينية لابن تيمية (2/ 689 - 690).

ص: 157

ورسوله، وينهاهم عما نهاهم عنه الله ورسوله، فإذا لم يروه ولم يسمعوا كلامه لم يكن لهم طريق إلى العلم بما يأمر به وما ينهى عنه، فلا يجوز تكليفهم طاعته؛ إذ لم يأمرهم بشيء سمعوه وعرفوه، وطاعة من لا يأمر ممتنعة لذاتها، وإن قدر أنه يأمرهم ولكن لم يصل إليهم أمره، ولا يتمكنون من العلم بذلك: كانوا عاجزين غير مطيقين لمعرفة ما أمروا به، والتمكن من العلم شرط في طاعة الأمر

(1)

.

وغير ذلك الكثير من مسائل العقيدة بُنِيَت وأُسِّسَت على القواعد الأصولية، بل ورُدَّ كثير من شبه أهل البدع بالاستناد والرجوع إلى قواعد أصول الفقه.

لذا قال الشافعي فيما رواه عنه الخطيب في كتاب الفقيه والمتفقه: لا يحل لأحد أن يفتي في دين الله إلا رجلًا عارفًا بكتاب الله: بناسخه ومنسوخه، وبمحكمه ومتشابهه، وتأويله وتنزيله، ومكيه ومدنيه، وما أريد به، وفيما أنزل

"

(2)

.

قال ابن تيمية: صاحب أصول الفقه ينظر في الدليل الشرعي ومرتبته فيميز ما هو دليل شرعي وما ليس بدليل شرعي، وينظر في مراتب الأدلة

(1)

انظر الفتاوى لابن تيمية بتصرف يسير (27/ 452).

(2)

الفقيه والمتفقه للخطيب (2/ 331).

ص: 158

حتى يقدم الراجح على المرجوح عند التعارض

(1)

.

قال ابن جُزَى: وإنه لنعم العون على فهم كتاب الله وسنة الرسول صلى الله عليه وسلم

(2)

.

ومما يعلم بالضرورة أنه ليس الفقه وحده يقوم على الأدلة، بل الدين بأسره قائم على الأدلة، سواء كان اعتقادًا بالقلب، أو نطقًا باللسان، أو عملًا بالجوارح، وسواء أكان في العقيدة، أم العبادات، أم المعاملات، أم الأخلاق.

وكذلك يعلم أنه ليس الفقيه وحده هو من يستدل بالأدلة في المسائل الفقهية، بل المفسر يحتاج أيضًا إلى الأدلة والاستدلال بها، وكذلك من يبحث في المسائل العقدية، وهكذا.

فلما كان كل ذلك قيامه وإثباته وصوابه راجعًا للأدلة وما فُهِم منها، علم بذلك أهمية علم أصول الفقه وشدة تأثيره وارتباطه بالعلوم الأخرى؛ حيث إنه هو العلم الذي يضبط التعامل مع الأدلة، بل إن الدليل هو موضوع أصول الفقه، فكل من يتعامل مع الأدلة لا بد إذًا من علمه بعلم أصول الفقه.

(1)

مجموع الفتاوى لابن تيمية (9/ 173).

(2)

تقريب الوصول إلى علم الأصول لأبي القاسم ابن جزى الكلبي (137).

ص: 159

ومما سبق يُعلَم أن المتبادر لأذهان البعض أن أصول الفقه تقتصر فائدته على علم الفقه فقط بسبب إضافة الأصول إلى الفقه في تسمية هذا العلم فهو فهم خاطئ.

نعم. الفائدة الكبرى منه تظهر في علم الفقه لسعته، وكثرة مسائلة ومستجداته، وكثرة الاجتهاد فيه، ونحو هذا، لكن هذا لا يعني أنه أصول للفقه فقط دون غيره من العلوم، بل هو كما سبق بيانه آنفًا أصلٌ للعلوم الشرعية، والمعين على فهم النصوص من الكتاب والسنة.

ص: 160

‌المبحث الثالث: مصطلحات مهمة

الحد: هو اللفظ الجامع المانع

(1)

.

• و‌

‌شروط صحة الحد:

1 -

أن يكون الحد أو التعريف جامعًا لأفراد المحدود، مانعًا من دخول غيره فيه.

2 -

أن يكون الحد بلفظ أو ألفاظ لها معنى واحد راجح عند السامع، فلا يصح الحد بلفظ مشترك أو مجمل.

3 -

أن يكون الحد واضحًا جليًّا في ألفاظه، معلوم الابتداء والانتهاء، لا إبهام ولا لبس فيه.

4 -

أن يكون الحد بألفاظ قصيرة، فالأصل في التعاريف أن تصان عن الإسهاب.

5 -

أن يكون الحد خاليًا من الألفاظ الغريبة على السامع

(2)

.

(1)

إحكام الفصول للباجي (170)، والواضح لابن عقيل (1/ 15).

(2)

الواضح لابن عقيل (1/ 16، 17)، وشرح تنقيح الفصول للقرافي (8).

ص: 161

والشيء يعرف لغة، واصطلاحًا، وقد يعرف بالمثال، أو الثمرة، أو الضد، فهي أقسام خمسة.

الدليل لغة: هو المرشد إلى المطلوب.

واصطلاحًا: ما يتوصل بصحيح النظر فيه إلى مطلوب خبري.

وهو قسمان: دليل نقلي، ودليل عقلي.

العلم: لغة مأخوذ من علمتُ الشيء وعلمتُ به، والمراد به: عرفته على ما هو به، ومصدره علمته علمًا، وهو: عرفانه

(1)

.

العلم اصطلاحًا: إدراك الشيء على ما هو عليه إدراكًا جازمًا

(2)

.

وقيل: معرفة المعلوم

(3)

.

•‌

‌ أقسام العلم:

‌1 - من حيث القطعية والظنية:

علم قطعي: وهو معرفة المعلوم معرفة لا يتطرق إليها أي احتمال.

علم ظني: وهو معرفة المعلوم معرفة يتطرق إليها احتمال مرجوح.

(1)

لسان العرب لابن منظور (12/ 418).

(2)

قواطع الأدلة لأبي المظفر السمعاني (1/ 17).

(3)

العدة في أصول الفقه لأبي يعلى الفراء (1/ 76).

ص: 162

‌2 - من حيث التصور والتصديق:

علم تصور: وهو معرفة وإدراك صورة الشيء في العقل، من غير أن يحكم عليه بنفي أو إثبات.

مثال: كأن يقول شخص: زيد. فأنت تصورت أنَّ زيدًا إنسان، وأنه ذكر بدون أن تحكم عليه بحكم معين.

علم تصديق: معرفة وإدراك الشيء وماهيته مع الحكم عليه بالنفي أو الإثبات.

مثال: كأن يقول لك شخص: زيد كاتب. فهو حكم على زيد أنه كاتب، فأنت تتأكد من صحة وصدق هذا الحكم من عدمه بالأدلة، فإن كان كاتبًا يكون الحكم مثبتًا، وإلا كان الحكم منفيًّا.

‌3 - باعتبار اكتسابه وعدم ذلك:

علم ضروري: وهو ما لزم نفس الإنسان لزومًا لا يمكنه الانفكاك عنه، ولا الخروج منه.

وهو يقع للإنسان إما عن طريق الحواس، أو عن طريق ما علمه ابتداءًا من غير إدراك حاسة، كالعلم بحال نفسه من الصحة والمرض، أو عن طريق الأخبار المتواترة.

ص: 163

علم مكتسب: ويسمى بالعلم النظري الذي لا يعلمه إلا بسبب النظر، والاستدلال.

الجهل البسيط: هو عدم إدراك الشيء.

الجهل المركب: إدراك الشيء على غير حقيقته.

الظن: هو إدراك راجح مع احتمال ضد مرجوح.

الوهم: هو إدراك مرجوح مع احتمال ضد راجح.

الشك: تردد الإدراك بين شيئين.

يقول الخليل بن أحمد الفراهيدي: الناس أربعة: رجل يدري ويدري أنه يدري؛ فهذا عالم فاتبعوه، ورجل يدري ولا يدري أنه يدري؛ فهذا غافل فنبهوه، ورجل لا يدري ويدري أنه لا يدري؛ فهذا جاهل فعلموه، ورجل لا يدري ولا يدري أنه لا يدري؛ فهذا مائق (مائق: أى أَبْلَه، أَحْمَق، أَخْرَق، غَبِىّ، مُغَفَّل) فاجتنبوه

(1)

.

وكان قديمًا رجلٌ يدعي الحكمة يسمى توما الحكيم، ويفتى الناس بالجهل؛ فكانوا يقولون شعرًا على لسان حماره قائلًا:

قال حمارُ الحكيمِ توما

لو أنصفَ الناسُ لكنتُ أركبْ

(1)

أدب الدنيا والدين للماوردي (ص 75).

ص: 164

لأننى جهلٌ بسيطٌ

وصاحبي جهلٌ مركبْ

(1)

النظر: التفكر في حال المنظور فيه، والتوصل بأدلته إلى المطلوب.

المنظور فيه: هي الأدلة والأمارات الموصلة إلى المطلوب من حكم شرعي وغيره.

المنظور له: هو الحكم المطلوب، الذي نُظِرَ في الدليل لاستنباطه.

الناظر: هو الفاعل للنظر والفكر وهو المجتهد

(2)

.

وينقسم إلى:

النظر الصحيح: وهو ما وقف الناظر فيه على وجه دلالة الدليل، فأفاد المطلوب.

النظر الفاسد: وهو مالم يقف فيه الناظر على وجه دلالة الدليل، ولم يفد المطلوب

(3)

.

الفكر: هو في اللغة إعمال الخاطر في الشيء، ويسمى فكرة وجمعه

(1)

نهاية الأرب للنويري (10/ 100).

(2)

قواطع الأدلة لأبي المظفر السمعاني (1/ 41)، الشامل في حدود وتعريفات علم أصول الفقه للدكتور النملة (1/ 165).

(3)

الإحكام للآمدي (1/ 25)، البحر المحيط (1/ 44).

ص: 165

أفكار

(1)

.

واصطلاحًا: انتقال النفس من المعاني انتقالًا بالقصد، وهذا تعريف إمام الحرمين

(2)

.

والفرق بينه وبين النظر: أنَّ الفكر أعم من النظر؛ فالفكر قد يكون بطلب علم أو ظن، وقد لا يكون، بل يكون حديثًا في النفس وخيالات.

الجدل: هو في اللغة مشتق من قول القائل: جدلتُ الحبل أجدله جدلًا. إذا فتلته وأكثرت الفتل فيه فتلًا محكمًا

(3)

.

وهذا المعنى يناسب ما يريده الأصوليون من الجدل؛ حيث إنَّ المجادل يفتل صاحبه بالحجاج عن رأيه ومذهبه إلى رأي غيره كما قال ابن السمعاني

(4)

.

الجدل اصطلاحًا: هو تردد الكلام بين الخصمين بطلب كل واحد منها تصحيح قوله، وإبطال قول صاحبه

(5)

.

(1)

لسان العرب لابن منظور (5/ 65).

(2)

البحر المحيط للزركشي (1/ 42).

(3)

لسان العرب لابن منظور (13/ 108).

(4)

قواطع الأدلة (1/ 42).

(5)

المصدر السابق (1/ 42).

ص: 166

وهو قسمان:

الأول: ممدوح، وهو إذا كان لإحقاق حق أو إبطال باطل، وأن يسلك فيه المسالك الشرعية.

الثاني: مذموم، وهو إذا كان لصرف الحق إلى الباطل، أو سُلِك فيه مسلك أهل الباطل.

الوصف الطردي: هو الوصف الذي لا يترتب عليه مصلحة غالبًا إذا عُلِّق الحكم به، كالطول والقصر، والبياض والسواد

(1)

.

الركن: هو جزء من حقيقة ماهية الشاء، ويتوقف عليه الشيء وجودًا وعدمًا، ولذا يصح إطلاقه وإرادة الكل به مثل قوله تعالى:{فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} [النساء: 92]، فالمراد تحرير كل الجسد لكنه أطلق الجزء وأراد الكل؛ لأنَّ الجزء ركن في الكل ومنه، قوله صلى الله عليه وسلم:«من صلى في يوم ثنتى عشرة سجدة تطوعًا بني له بيت في الجنة»

(2)

.

وكذلك قد يطلق الكل ويراد به الجزء إن كان هذا الجزء ركنًا، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: قَسَمْتُ الصَّلَاةَ بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي نِصْفَيْنِ، وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ، فَإِذَا قَالَ

(1)

التأسيس في أصول الفقه للشيخ مصطفى سلامة.

(2)

أخرجه مسلم (728 [102]) من حديث أم حبيبة مرفوعًا.

ص: 167

الْعَبْدُ: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة: 2]. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: حَمِدَنِى عَبْدِي. وَإِذَا قَالَ: {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [الفاتحة: 1]. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: أَثْنَى عَلَىَّ عَبْدِي. وَإِذَا قَالَ: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} [الفاتحة: 4]. قَالَ: مجَّدنى عَبدِي. وَقَالَ مرَّة: فوَّض إِلَىَّ عَبدِي. فَإِذا قَالَ: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5]. قَالَ: هَذَا بَيْنِى وَبَيْنَ عَبْدِي، وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ. فَإِذَا قَالَ:{اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} [الفاتحة: 6، 7]. قَالَ: هَذَا لِعَبْدِي وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ

(1)

. والصلاة هنا المراد بها الفاتحة بدليل تتمة الحديث، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم:«الطهور شطر الإيمان»

(2)

، قال النووي: قيل: المراد بالإيمان هنا الصلاة؛ فدل ذلك على أنَّ الصلاة ركن في الإيمان

(3)

.

الشرط: هو جزء خارج عن ماهية الشيء، وقد يتوقف عليه صحة الشيء كالوضوء للصلاة، أو قبول الشيء كالإسلام للأعمال، أو وجوب الشيء كالبلوغ لوجوب الأعمال

(4)

.

(1)

أخرجه مسلم (395) من حديث أبي هريرة مرفوعًا.

(2)

أخرجه مسلم (223) من حديث أبي مالك الأشعري مرفوعًا.

(3)

شرح مسلم للنووي (2/ 102).

(4)

الإعلام في أصول الأحكام للمؤلف (ص 15).

ص: 168

• الفرق بين الركن والشرط:

أنَّ الركن جزء من الشيء أما الشرط خارج عن الماهية، ولذا يقول صلى الله عليه وسلم:«مفتاح الصلاة الطهور، وتحريمها التكبير وتحليلها التسليم»

(1)

، فعبر عن الطهور بالمفتاح؛ لأنَّه شرط، فكما أنَّ المفتاح خارج عن الباب لكنه لازم له، فكذلك الوضوء خارج عن الصلاة لكنه لازم لها.

الأصولي: هو الذى يبحث عن الأدلة الإجمالية من حيث دلالتها على الأحكام الشرعية من أدلتها الجزئية

(2)

.

الفقيه: هو الذى يبحث في الأدلة التفصيلية ليستخرج حكمًا جزئيًّا

(3)

.

الكلام الخبري: ما يمكن أن يوصف بالصدق والكذب لذاته كالإخبار عن الشيء

(4)

.

الكلام الإنشائي: ما لا يمكن أن يوصف بالصدق أو الكذب، ومنه الأمر والنهي والاستفهام وغير ذلك

(5)

.

(1)

صحيح بشواهده: أخرجه أبو داود (61)، والترمذي (3)، وابن ماجه، وغيرهم من حديث علي بن أبي طالب، وفيه راو صدوق، وله شواهد ترفعه للصحة.

(2)

الإعلام في أصول الأحكام (ص 15).

(3)

المصدر السابق.

(4)

المصدر السابق.

(5)

المصدر السابق.

ص: 169

الكلام الخبري الإنشائي: هو ما يكون خبريًّا باعتبار اللفظ، إنشائيًّا باعتبار المعنى، مثل قوله تعالى:{وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة: 228]، وقوله صلى الله عليه وسلم:«صلاة الليل مثنى مثنى»

(1)

: أى صلوا الليل مثنى مثنى، ومنه «الصلاة جامعة»

(2)

، فهو أمر بالاجتماع.

الكلام الإنشائي الخبري: هو ما يكون إنشائيًّا باعتبار اللفظ، خبريًّا باعتبار المعنى، مثل قوله تعالى:{هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ} [الرحمن: 60]: أى ما جزاء الإحسان إلا الإحسان، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم عندما سُئل أيصلى أحدنا في الثوب الواحد قال:«أولكلكم ثوبان»

(3)

.

النقيضان: هما اللذان لا يجتمعان ولا يرتفعان، مثل الموت والحياة، والوجود والعدم

(4)

.

الضدان: هما اللذان لا يجتمعان وقد يرتفعان، مثل الواجب والحرام

(5)

.

(1)

أخرجه البخاري (990)، ومسلم (749) من حديث ابن عمر مرفوعًا.

(2)

أخرجه البخاري (1045)، ومسلم (910) من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص.

(3)

أخرجه البخاري (358)، ومسلم (515) من حديث أبي هريرة مرفوعًا.

(4)

الإعلام في أصول الأحكام (ص 15).

(5)

المصدر السابق.

ص: 170

‌المبحث الرابع:

مباحث لغوية متعلقة بعلم الأصول (أحكام الحروف)

•‌

‌ أحكام الحروف ومعانيها:

تعريف الحرف: هو ما دل على معنى في غيره.

وأهمية معرفة معاني الحروف، ووجه تعلق ذلك بعلم الأصول؛ أن ذلك له صلة وطيدة بفهم المراد، واستنباط الأحكام؛ لأن كثيرًا من المسائل الفقهية يتوقف فهمها على فهم الدلالة التي يؤديها الحرف في النص، فقد تؤدي دلالة الحرف في النص إلى الاختلاف في الحكم.

• أولًا:‌

‌ حروف العطف:

وهي عشرة، على ثلاثة أقسام:

القسم الأول: حروف تفيد اشتراك المتعاطفين في الحكم، غير أنها تختلف في أمور أخرى، وهي: الواو، الفاء، ثم، حتى.

‌1 - أحكام الواو:

الواو لها أحكام عدة، منها

(1)

:

(1)

انظر: الإحكام للآمدي (1/ 88)، مختصر التحرير (49).

ص: 171

1) تأتي عاطفة فتفيد اشتراك المتعاطفين في الحكم، مثال: أتى محمدٌ وعلىٌّ، فهنا اشترك المتعاطفان في الحكم وهو الإتيان.

2) ومن أحكامها أنها لا تقتضي الترتيب ولا تنافيه إلا بدليل، كقوله تعالى:{إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ (13) وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ} [الانفطار: 13، 14]، فالواو لا تقتضي الترتيب ولا تنافيه إلا بدليل، فاقتضاؤها الترتيب مثل قوله صلى الله عليه وسلم:«خذوا عني، خذوا عني، قد جعل الله لهن سبيلًا البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام، والثيب بالثيب جلد مائة والرجم»

(1)

، ففى قوله عليه الصلاة والسلام:«والثيب بالثيب جلد مائة والرجم» ، الواو تفيد الترتيب؛ لأنه لابد من الجلد قبل الرجم، وإلا فلا فائدة من الجلد بعد الموت.

وقول النبي صلى الله عليه وسلم: «بنى الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة

الحديث»

(2)

، فالواو هنا تقتضى الترتيب بدليل خارج، فلا بد من الشهادة قبل العمل.

وكذلك في نحو قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَبًا وَلَوِ افْتَدَى بِهِ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ

(1)

أخرجه مسلم (1690) من حديث عبادة بن الصامت مرفوعًا.

(2)

أخرجه البخاري (8)، ومسلم (16 [21]) من حديث ابن عمر مرفوعًا.

ص: 172

وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ} [آل عمران: 91]، فلابد من الكفر أولًا، ثم الموت عليه؛ فيترتب على ذلك الجزاء الوارد في الآية.

ومنافاتها الترتيب مثل قوله تعالى: {كَذَلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [الشورى: 3]، هنا تنافى الترتيب؛ لقوله: من قبلك.

وفي قوله تعالى: {وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ} [الجاثية: 24]، هنا تنافي الترتيب بدليل أن الحياة قبل الموت.

ولما سُئل صلى الله عليه وسلم عن الرجل يجامع ولم ينزل، قال:«توضأ واغسل ذكرك» ، فعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ: ذَكَرَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ تُصِيبُهُ الْجَنَابَةُ مِنَ اللَّيْلِ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:«تَوَضَّأْ وَاغْسِلْ ذَكَرَكَ ثُمَّ نم»

(1)

، فهنا الواو تنافي الترتيب، وعن علي قال:«كنت رجلًا مذاءًا، فقال لي رسول الله: إذا رأيت المذى فاغسل ذكرك وتوضأ وضوءك للصلاة، وإذا فضخت الماء فاغتسل»

(2)

، وهنا تقتضي

(1)

أخرجه البخاري (290)، ومسلم (306 [25]) من حديث ابن عمر مرفوعًا.

(2)

أخرجه البخاري (269)، ومسلم (303 [17])، (303 [19])، واللفظ له من حديث علي مرفوعًا.

ص: 173

الترتيب.

تنبيه: مع أنَّ الواو لا تقتضى الترتيب ولا تنافيه، ولكن لابد للتقديم والتأخير من سبب ومن ذلك:

1 -

التقديم قد يكون للأفضلية، مثل قوله تعالى:{إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ (13) وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ} [الانفطار: 13، 14].

2 -

التقديم للأهمية، مثل قوله عليه الصلاة والسلام:«إياكُم والجلوسَ في الطُّرُقات» ، فقالوا: يا رسول الله ما لنا من مجالسنا بُدّ نتحدَّث فيها. فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: «فإِذا أَبيتُم إِلا المجلسَ فَأعْطُوا الطريقَ حقَّهُ» ، قالوا: وَمَا حَقُّ الطريق يا رسولَ الله؟ قال: «غَضُّ البصرِ، وكَفُّ الأَذَى، وردُّ السلامِ، والأمرُ بالمعروفِ والنهيُ عن المنكرِ»

(1)

.

3 -

التقديم للخطورة، مثل قوله عليه الصلاة والسلام:«مَنْ يَضْمَنْ لِي مَا بَيْنَ لَحْيَيْهِ وَمَا بَيْنَ رِجْلَيْهِ أَضْمَنْ لَهُ الجَنَّةَ»

(2)

.

4 -

التقديم للسهولة، مثل قوله عليه الصلاة والسلام: «ليدخلنَّ الجنة بشفاعة رجل ليس بنبي مثل الحيين، أو مثل أحد الحيين ربيعة

(1)

أخرجه البخاري (6229)، ومسلم (2121) من حديث أبي سعيد الخدري مرفوعًا.

(2)

أخرجه البخاري (6474) من حديث سهل بن سعد مرفوعًا.

ص: 174

ومضر»

(1)

.

3) ومن أحكامها: أنها لا تقتضى التسوية إلا بدليل، كقوله تعالى:{فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ} [الحج: 36]، فلا يلزم أن تقسم بالتساوي، ولكن تفيد الاشتراك في الحكم فله أن يأكل منها، ويهدي، ويتصدق، ولكن لا تفيد التسوية في المقدار إلا إذا دل الدليل على التسوية، ولا دليل هنا.

وكذلك قوله تعالى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ

} [التوبة: 60] فإنها لا تقتضي التسوية بين مصارف الزكاة.

4) ومن أحكامها: أنها لا تنقل الحكم، كقوله تعالى:{وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة: 196]، فهذا لا يعنى أنَّ العمرة حكمها حكم الحج، فهذا واجب وهذه مستحبة عند من قال بالاستحباب.

ومن الاستدلال بذلك: استدلال بعض الأحناف على حرمة أكل الخيل بقوله تعالى: {وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً} [النحل: 8]، لأنَّ الخيل عطف على البغال والحمير، وحكم أكل البغال

(1)

حسن لطريقيه: أخرجه أحمد (22250) من حديث أبي أمامة، وفيه راو لين، وله متابعة عند الطبراني في «الكبير» (8058)، وفيه عنعنة مدلس.

ص: 175

والحمير حرام؛ إذن فحكم أكل الخيل حرام.

والصحيح: أنَّ الواو لا تنقل الحكم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أحل أكل لحوم الخيل فمن حكم بحرمة أكل لحوم الخيل لعطفها على ما حرم أكله بدلالة الاقتران، فقوله غير صحيح؛ لأنَّ الواو لا تنقل الحكم، ولكنها تفيد التشريك في الحكم وهو الركوب والزينة، وكذلك دلالة الاقتران ضعيفة كما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى، والدليل على إباحة أكل لحوم الخيل، عن جابر قال: نهى النبي يوم خيبر عن لحوم الحمر، ورخص في الخيل

(1)

.

قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [المائدة: 90]، فالواو هنا تفيد التشريك في أنَّ الجميع رجس، لكن حكم الخمر ليس كحكم الميسر، وليس كحكم الأزلام، فالأزلام كفر، والخمر والميسر من الكبائر.

ملحوظة:

الواو قد تأتي بمعاني أخر غير العطف والتشريك في الحكم.

فقد تأتي بمعنى (مع)، فتفيد المعية مثل: سرت والنهر.

(1)

أخرجه البخاري (4219)، ومسلم (1941) من حديث جابر بن عبد الله مرفوعًا.

ص: 176

وتأتي بمعنى (أو)، مثل قوله تعالى:{أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ} [فاطر: 1].

وقد تفيد القسم، مثل قوله تعالى:{وَالْفَجْرِ (1) وَلَيَالٍ عَشْرٍ} [الفجر: 1 - 2].

وتأتي تفيد الاستئناف، مثل قوله تعالى:{رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا (65) وَيَقُولُ الْإِنْسَانُ أَإِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا} [مريم: 65، 66]، وعير ذلك.

‌2 - أحكام الفاء

(1)

.

الفاء لها أحكام عدة، منها:

1 -

تأتي عاطفة فتفيد اشتراك المتعاطفين في الحكم، وتقتضى الترتيب والتعقيب، كقوله تعالى:{قُمْ فَأَنْذِرْ} [المدثر: 2].

2 -

تنقل الحكم: كقوله تعالى: {قُمْ فَأَنْذِرْ} ، فالقيام حكمه الوجوب للأمر، والإنذار حكمه الوجوب للأمر والعطف بالفاء.

3 -

تأتي سببية تفيد التعليل، مثل قوله تعالى: {لَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا

(1)

انظر: الإحكام للآمدي (1/ 94)، مختصر التحرير (50).

ص: 177

آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَخْذُولًا} [الإسراء: 22].

4 -

تأتي رابطة للجواب بالشرط، مثل قوله تعالى:{فَإِنْ شَهِدُوا فَلَا تَشْهَدْ مَعَهُمْ} [الأنعام: 150].

‌3 - أحكام ثم

(1)

.

تأتي عاطفة تفيد اشتراك المتعاطفين في الحكم، وتفيد الترتيب مع التراخي، مثاله: عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمنا الاستخارة في الأمور كلها، كما يعلمنا السورة من القرآن، يقول:«إذا هم أحدكم بالأمر، فليركع ركعتين من غير الفريضة، ثم ليقل: اللهم إني أستخيرك بعلمك وأستقدرك بقدرتك، وأسألك من فضلك العظيم، فإنك تقدر ولا أقدر، وتعلم ولا أعلم، وأنت علام الغيوب، اللهم إن كنت تعلم أن هذا الأمر خير لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري - أو قال عاجل أمري وآجله - فاقدره لي ويسره لي، ثم بارك لي فيه، وإن كنت تعلم أن هذا الأمر شر لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري - أو قال في عاجل أمري وآجله - فاصرفه عني واصرفني عنه، واقدر لي الخير حيث كان، ثم أرضني» قال: «ويسمي حاجته»

(2)

.

(1)

انظر: الإحكام للآمدي (1/ 95)، مختصر التحرير (50).

(2)

أخرجه البخاري (6382) من حديث جابر مرفوعًا.

ص: 178

‌4 - أحكام حتى:

"حتى العاطفة للغاية" نحو قوله تعالى: {حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ} [القدر: 5]، فلا يكون المعطوف بها إلا غايةً لما قبلها - من زيادة أو نقص نحو:"مات الناس حتى الأنبِيَاءُ"، و "قدم الحُجَّاج حتى المُشَاةُ".

"ولا ترتيب فيها" فهي كالواو، فَإِنَّك تقول:"حفظت القرآن حتى سورة البقرة"، وإن كانت أَوَّل ما حفظْت أو متوسِّطًا "

(1)

.

القسم الثاني: عاطفة لكنها تفيد تعليق الحكم بأحد المعطوفين وهى: (أو- إما- أم)

(2)

.

(أو) و (إما) يقعان في الخبر والأمر والاستفهام، بخلاف (أم) فلا تقع إلا في الاستفهام، فإذا وقعت (أو- إما) في الخبر أفادتا الشك، تقول: جاء زيد أو عمرو، جاء إما زيد وإما عمرو.

وإذا وقعتا في الأمر أفادتا التخيير والإباحة، كأن تقول: خذ درهمًا أو دينارًا، جالس فلانًا أو فلانًا.

(1)

مختصر التحرير (1/ 226).

(2)

الإحكام للآمدي (1/ 95).

ص: 179

القسم الثالث: عاطفة تفيد مخالفة المعطوف للمعطوف عليه في حكمه

(1)

، وهي (لا- بل- لكن).

مثل: جاءني زيد لا عمرو، جاءني زيد بل عمرو، ما جاءني زيد لكن عمرو.

1 -

أحكام اللام ومعانيها

(2)

.

اللام الجارة لها معان، منها:

وَ" تَأْتِي "اللامُ" الْجَارَّةُ "لِلْمِلْكِ حَقِيقَةً، لا يُعْدَلُ عَنْهُ" أَيْ عَنِ الْمِلْكِ إلا بِدَلِيلٍ.

"وَلَهَا مَعَانٍ كَثِيرَةٌ":

أَحَدُهَا: التَّعْلِيلُ، نَحْوُ "زُرْتُك لِشَرَفِكَ"، وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى:{لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ} [النساء: 105].

الثَّانِي: الاسْتِحْقَاقُ، نَحْوُ:"النَّارُ لِلْكَافِرِينَ".

الثَّالِثُ: الاخْتِصَاصُ، نَحْوُ "الْجَنَّةُ لِلْمُؤْمِنِينَ".

(1)

الإحكام للآمدي (1/ 95).

(2)

مختصر التحريرلابن النجار بتصرف (53).

ص: 180

وَفَرَّقَ الْقَرَافِيُّ بَيْنَ الاسْتِحْقَاقِ وَالاخْتِصَاصِ، بِأَنَّ الاسْتِحْقَاقَ أَخَصُّ، فَإِنَّ ضَابِطَهُ مَا شَهِدَتْ بِهِ الْعَادَةُ، كَمَا شَهِدَتْ لِلْفَرَسِ بِالسَّرْجِ، وَبِالْبَابِ لِلدَّارِ.

وَقَدْ يَخْتَصُّ الشَّيْءُ بِالشَّيْءِ مِنْ غَيْرِ شَهَادَةٍ عَادَةً، نَحْوُ:"هَذَا ابْنٌ لِزَيْدٍ". فَإِنَّهُ لَيْسَ مِنْ لَوَازِمِ الإِنْسَانِ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ.

الرَّابِعُ: لامُ الْعَاقِبَةِ، وَيُعَبَّرُ عَنْهَا بلامِ الصَّيْرُورَةِ، وَبِلامِ الْمَآلِ نَحْوُ:{فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا} [القصص: 8].

الْخَامِسُ: التَّمْلِيكُ، نَحْوُ:{إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ} [التوبة: 60].

السَّادِسُ: شِبْهُ الْمِلْكِ، نَحْوُ:{وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا} [النحل: 72].

السَّابِعُ: تَوْكِيدُ النَّفْيِ، أَيُّ نَفْيٍ كَانَ، نَحْوُ:{وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ} [الأنفال: 33]،

وَيُعَبَّرُ عَنْهَا بلام الْجُحُودِ، لِمَجِيئِهَا بَعْدَ نَفْيٍ.

الثَّامِنُ: أَنْ تَكُونَ بِمَعْنَى "إلَى"، نَحْوُ:{سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ} [الأعراف: 57].

ص: 181

الْعَاشِرُ: التَّعْدِيَةُ: وَجَعَلَ مِنْهُ ابْنُ مَالِكٍ: {فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا} [مريم: 5].

الْحَادِيَ عَشَرَ: بِمَعْنَى "عَلَى"، نَحْوُ:{يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ} [الإسراء: 107]، وَحَكَى الْبَيْهَقِيُّ عَنْ حَرْمَلَةَ عَنْ الشَّافِعِيِّ فِي قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم:«وَاشْتَرِطِي لَهُمْ الْوَلاءَ» أَنَّ الْمُرَادَ: عَلَيْهِمْ.

الثَّانِي عَشَرَ: بِمَعْنَى "فِي"، نَحْوُ قَوْلِهِ سبحانه وتعالى:{وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ} [الأنبياء: 47].

الثَّالِثَ عَشَرَ: بِمَعْنَى "عِنْدَ"، كَقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم:«صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ، وَأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ» ، وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى:{أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ} [الإسراء: 78].

الرَّابِعَ عَشَرَ: بِمَعْنَى "مِنْ" نَحْوُ، "سَمِعْت لَهُ صُرَاخًا" أَيْ مِنْهُ.

الْخَامِسَ عَشَرَ: بِمَعْنَى "عَنْ" كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كَانَ خَيْرًا مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ} [الأحقاف: 11] أَيْ قَالُوا عَنْهُمْ ذَلِكَ.

ص: 182

2 -

الباء ومعانيها

(1)

.

الباء لها معان، منها:

1 -

الإلصاق: كقوله تعالى: {وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ} [المائدة: 6].

2 -

التبعيض: وهي عند البعض كالآية السابقة.

3 -

المجاوزة: يقول: مررت بالوادى. أي جاوزته.

4 -

الاستعانة.

5 -

التبرك.

6 -

المصاحبة.

مثل: بسم الله الرحمن الرحيم. فقد يراد بها الاستعانة، أو التبرك، أو المصاحبة، وغير ذلك من المعاني.

3 -

على ومعانيها

(2)

.

وهو حرف جر أصلي، والمعنى الأصلي له الاستعلاء قال تعالى:{وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ} [المؤمنون: 22].

(1)

انظر: مختصر التحرير لابن النجار (56)، والإحكام للآمدي (1/ 86).

(2)

(الإحكام للآمدي (1/ 87)، مختصر التحرير لابن النجار (52).

ص: 183

على لها معان، منها:

1 -

الوجوب: كقوله تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ} [آل عمران: 97].

2 -

الظرفية: مثل قوله تعالى: {وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ} [البقرة: 102]، والمعنى في ملك سليمان.

3 -

التعليل: نحو قوله تعالى: {وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ} [البقرة: 185].

4 -

التفويض: نحو قوله تعالى: {فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} [آل عمران: 159].

5 -

المصاحبة: نحو قوله تعالى {وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ} [البقرة: 177] بمعنى مع حبه.

4 -

من: ومن معانيها

(1)

.

1 -

تكون لابتداء الغاية في المكان والزمان، نحو قولك: خرجت من البيت، خرج من الصباح.

(1)

(الإحكام للآمدي (1/ 85)، مختصر التحرير (51).

ص: 184

2 -

التبعيض: مثل: أكلت من الخبز.

3 -

البدل: نحو قوله تعالى: {أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ} [التوبة: 38].

4 -

التعليل: نحو قوله تعالى: {يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ} [البقرة: 19].

5 -

لبيان الجنس: نحو قولك: خاتم من فضة.

‌5 - إلى: ومعانيها

(1)

:

1 -

تكون لانتهاء الغاية

(2)

: كقولك: سرت إلى مكة.

2 -

تأتي بمعنى مع، كقوله تعالى:{وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ} [النساء: 2].

(1)

(الإحكام للآمدي (1/ 86)، مختصر التحرير (51).

(2)

(فائدة: انتهاء الغاية لا يدخل في المغيا إلا اذا كان منتهى الغاية من جنس المحدود، فلو قيل له: من درهم إلى عشرة. فهل يكون له تسعة أم عشرة دراهم؟ والجواب: يكون له العشرة؛ لاتحاد الجنس. كذا لو قيل: من أول نخلة إلى أول شجرة تفاح، فهل تدخل شجرة التفاح في ملكه؟ والجواب: لا، لاختلاف جنس المحدود، وفهم هذا يفيد في مسائل فقهية هامة: كغسل المرفق، والكعب في الوضوء، ونحو ذلك.

ص: 185

‌6 - في: ومعانيها

(1)

.

1 -

تأتي للظرفية سواء للزمان أو المكان كقوله تعالى: {فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ} [البقرة: 10].

2 -

تأتي للاستعلاء بمعنى على، كقوله تعالى:{وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ} [طه: 71].

3 -

تأتي للمصاحبة بمعنى على كقوله تعالى {ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ} [الأعراف: 38].

‌7 - رُبَّ، ومعانيها

(2)

.

تأتي للتقليل، ولا تدخل إلا على النكرة، مثل: رب رجل عالم.

‌8 - حروف تفيد الشرط

(3)

.

وهي: إن، لو.

كأن تقول: إن جاءك محمد فأكرمه، لو جئتني لأكرمتك.

(1)

(الإحكام للآمدي (1/ 87)، مختصر التحرير (53).

(2)

(الإحكام للآمدي (1/ 86).

(3)

(الإحكام للآمدي (1/ 96).

ص: 186

‌9 - من معاني لو

(1)

.

1 -

حرف امتناع لامتناع، كقولك: لو جئتني لأكرمتك. فامتنع الإكرام لامتناع المجيء.

2 -

تأتي للتمني، كقوله تعالى:{لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً} [البقرة: 167].

3 -

تأتي للعرض، كقولك: لو تنزل عندنا فتصيب خيرًا.

4 -

تأتي للتقليل، نحو:«اتقوا النار ولو بشق تمرة» .

‌10 - حروف تفيد الاستثناء

(2)

: مثل (إلا)، (حاشا- عدا- خلا) أحيانًا.

11 -

حروف تفيد النفي

(3)

: وهي (ما- لا- لم- لن- لما).

12 -

قد ومعانيها:

1 -

تدخل على الفعل الماضي، فيكون لها معنيان:

أ- تفيد التحقيق، مثل قوله تعالى:{قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ} [المؤمنون: 1].

(1)

(مختصر التحرير لابن النجار (57).

(2)

(الإحكام للآمدي (1/ 96).

(3)

(الإحكام للآمدي (1/ 95).

ص: 187

ب- تفيد التقريب مثل: قد قامت الصلاة. والمعنى اقتربت من القيام.

2 -

تدخل على الفعل المضارع فتفيد:

أ- التقليل، مثل: قد ينجح الكسول، قد يغلب الضعيف.

ب- التكثير، مثل: قد ينجح المجتهد، قد يغلب القوي.

ج- التحقيق، كقوله تعالى:{قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ} [الأحزاب: 18].

14 -

حروف الاستقبال: وهي (سوف، والسين):

فالسين تكون للمستقبل القريب، كقوله تعالى:{سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ} [البقرة: 142].

وسوف تكون للمستقبل البعيد، كقوله تعالى:{سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي} [يوسف: 98]

(1)

.

(1)

(قيل: استغفر لهم في السحر، وذلك لأن الفعل المضارع اقترن بسوف التي تدل على المستقبل البعيد، والثاني: أن السحر أفضل أوقات الاستغفار.

ص: 188

•‌

‌ مسألة: اختلاف معاني الكلمات باختلاف حال الحرف

(1)

:

من بديع اللغة العربية وجمالها، وحسن تناسقها، وقوة ترابطها أن قوة الحرف وضعفه في صفاته يؤثر على معناه، ويكون هناك توافق بين قوة الحروف وقوة المعنى الدال عليه اللفظ، وضعف صفات الحرف وضعف معناه، وكذلك مما يدل على قوة ذلك الارتباط اختلاف المعاني باختلاف الحركات على الحروف، بل ويختلف المعنى ويتداخل باختلاف إنابة الحروف بعضها مكان بعض، وغير ذلك مما يدل على سعة هذه اللغة وجمالها وحسن تناسقها.

•‌

‌ أولًا: أثر قوة الحرف وضعفه في معنى الحرف:

مثال لذلك:

قال الله تعالى: {وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا} [مريم: 25].

وقال تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا} [مريم: 83].

فلفظتا: "الهزُّ"، و"الأزُّ" بينهما فارق، فإحداهما تبدأ ب "الهاء"، والثانية تبدأ ب"الهمزة"، والهاء حرف رخو، والهمزة حرف شدة،

(1)

مستفاد من كتاب أصول الفهم للشيخ مصطفى سلامة.

ص: 189

وعليه لابد وأن تكون معنى "أز" أقوى في المعنى من "هز".

وبرهان هذا:

أولًا: معنى "تؤزهم" أي تهيجهم على المعاصي، "أزًّا" أى تهييجًا شديدًا، وعليه فالأزُّ قول يسوق إلى فعل، وهو المعاصي.

ثانيًا: معنى "هُزِّي" أي حركى أصل النخلة تحريكًا عنيفًا إلى جهتك، وعليه "فالهز" فعل يسوق الى فعل، تساقط أى تسقط النخلة عليك رطبًا بحسب الهز.

ثالثا: وحيث إن القول أقوى من الفعل تبين أن "الأز" أقوى من "الهز".

مثال آخر:

لفظتا "السبيل"، و"الطريق":

أولًا: ينبغي أن يعرف أن تعريف إحداهما بالأخرى من باب التقريب لا التحقيق.

ثانيًا: السر فى ذلك أن حرف السين غير حرف الطاء، فحرف السين مهموس بمعنى: أن الهواء يجري به، وهو حرف رخو أي أن الصوت يمتد، وهذا يعني أن الصوت مستمر، وهذا يدل على عدم الانقطاع، إذًا فالسبيل فيه سهولة وخيرية لا تنقطع؛ لذلك يقال سبل السلام.

ص: 190

ولكن حرف الطاء حرف قوي، وعليه فالطريق فيه شدة وعسر، ولا يأتى في سياق الخير إلا بوصف أو إضافة غالبًا، ومع الخيرية لا تتخلف عنه الشدة؛ لذلك يقال الطريق المستقيم، وهذا يتناسب مع الصراط المستقيم لما في الصاد والطاء من الشدة لذلك على جانبيه أهوال تريد أن تختطف المار.

مثال آخر:

لفظتا "سكب"، و"صبَّ":

فهناك فارق في القوة بين حرف السين والصاد:

فحرف السين سبق بيانه، وحرف الصاد حرف قوي.

وعليه فالصب أقوى من السكب.

فالصب يعنى اندفاع الماء بقوة لذلك قال تعالى: {أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا (25) ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا} [عبس: 25 - 26].

ومن لوازمه أن صب الماء يكون من أعلى إلى أسفل كما في الآية السابقة.

ولكن السكب هو جريان الماء على الأرض لذلك يقول تعالى: {وَمَاءٍ مَسْكُوبٍ} [الواقعة: 31] أى جار على وجه الأرض من غير

ص: 191

حفر.

مثال آخر:

لفظتا "لا"، و "لن":

"لا" حرف نفى، و"لن" حرف نفي فما الفارق بينهما؟

"لا" ختمت بالألف وهذا يدل على طول النفي ودوامه، ومنه قوله تعالى:{لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ} [الأنعام: 103]، فهنا نفى فعل الإدراك ب "لا"، فإنه سبحانه لا يُدرَك أبدًا.

تنبيه: الآية هنا تنفي الإدراك وهو الإحاطة، ولا تنفي الرؤية.

أما "لن" ختمت بالنون الساكنة، وهذا لا يدل على طول النفي، ولا على دوامه، فالنفي ب"لن" يكون لما هو ممكن الحدوث عند المخاطب، ولهذا شواهد كثيرة.

قال تعالى: {قَالُوا يَامُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ} [المائدة: 22].

فقولهم: {إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا} [المائدة: 24] هنا نفى دخولهم ب" لن" إذ من الممكن أن يدخلوا والذي يدلك على ذلك أمران:

الأول: قال تعالى: {قَالَ رَجُلَانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ

ص: 192

عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [المائدة: 23].

الثاني: قال تعالى بعدها: {قَالُوا يَامُوسَى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَدًا مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ} [المائدة: 24]، وحتى مع إضافة أبدا إلى السياق، فهي لا تفيد التأبيد المطلق، بل تفيد التأبيد المؤقت.

وتأمل قوله تعالى: {قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (94) وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ} [البقرة: 94 - 95].

فهنا نفى التمني ب "لن"، وب "أبدًا"، وهذا مؤقت بحال الدنيا، بدليل قوله تعالى:{وَنَادَوْا يَامَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ} [الزخرف: 77].

إذًا يتبين مما سبق أن قوله تعالى: {لَنْ تَرَانِي} [الأعراف: 143] لا علاقة لها بالآخرة بأي وجه من الوجوه، ولو فرض أن الآية " لن تراني أبدًا " لكان المراد حال الدنيا لا الآخرة، وبهذا يبطل كلام الزمخشري بأن "لن" تفيد التأبيد.

ص: 193

•‌

‌ ثانيًا: اختلاف الحركات يؤدي إلى اختلاف المعنى:

مثال: لفظتا "كُره"، و "كَره":

لفظ "كُره" بضم الكاف هو الشيء الذي في نفسه مكروه، قال تعالى:{كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ} [البقرة: 216].

أما لفظ: "كَره" بفتح الكاف هو كراهة الشيء، قال تعالى:{وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا} [آل عمران: 83].

فإسلام الوجه لله ليس مكروهًا في نفسه، لذلك لم يقل كُرهًا، إنما الكاره هو العبد لذلك قال "كَرهًا".

وكذلك اختلاف الحركات (الفتحة، الكسرة، الضمة) له أثر في اختلاف المعنى، فحركة الحرف متى تغيرت أحدثت تغيرًا في المعني.

مثال: الفعل عَزَّ، ومضارعه: يعَزُّ، يعِزُّ، يعُزُّ.

فالأول: بمعنى: اشتد، وقوي، وصلب.

والثاني: بمعنى امتنع، والامتناع أشد من الصلابة.

والثالث: بمعنى غلب، والغلبة أشد من الامتناع.

ص: 194

•‌

‌ ثالثًا: إنابة الحروف بعضها عن بعض يؤدي إلى تداخل المعاني:

كثيرًا في الآيات ما تأتي الحروف - أقصد حروف المعاني، وهي من جملة حروف الجر - مكان غيرها من الحروف في المعنى.

فمثلا قال تعالى: {وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ} [طه: 71]، فهنا جاءت "في" مكان "على " في المعنى، فبعض أهل العلم يقولون هنا أن "في" بمعنى "على"، وأن "في" جاءت بدل "على" فيأخذ البدل معنى المبدل منه.

وهذا الكلام فيه نظر، وهو غير دقيق لأمور:

أولًا: لأنهم جعلوا اختلاف المباني لا أثر له في اختلاف المعاني، وهذا قطعا لا وجود له في لغة العرب، سواء في باب الأسماء أو الأفعال أو الحروف، بل حركة الحرف متى تغيرت أحدثت تغيرا في المعنى فكيف إذا تغير الحرف كلية.

ثانيًا: أن القول أن معنى "في" بمعنى "على" نقض لإجماع الأمة بوجوب العمل بظواهر الألفاظ، ولا عدول عن ذلك إلا بمسوغ، وهو غير موجود.

ثالثًا: أن هذا يفسد المعنى حيث يتم إلغاؤه، بمعنى أن من قال "في" بمعنى "على" فقد ألغى معنى "في" وهي مرادة.

ص: 195

والصواب في ذلك: أنه ينبغي اعتبار الحرفين من جهة المعنى، فيكون المراد مجموع المعنيين بمعنى إضافة معنى لآخر.

وبهذا يتم الحفاظ على المعنى المستور للحرف المحذوف، والمعنى الملحوظ للحرف المنطوق.

وبهذا يتبين أن إطلاق لفظ البدل على الحرف المنطوق لا يصح بحال؛ لأن فيه إهمالًا لمعنى الحرف المنطوق.

مثال:

قال تعالى: {مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا} [نوح: 25]، جاءت "من" هنا التى تفيد الابتداء مكان "الباء" التى تفيد التعليل.

فالنص هنا تضمن معنيين:

معنى "الباء" وهو أن الذنوب سبب الإغراق، ومعنى "من" وهو أنهم أخذوا بكل ذنب اقترفوه سواء كان صغيرًا أو كبيرًا لأن مبدأ الذنوب الصغائر، ثم الكبائر، ثم الكفر.

مثال آخر:

قال تعالى: {الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ} [قريش: 4].

ص: 196

أتى ب "من" التى تفيد ابتداء الغاية مكان "عن" التى تفيد المجاوزة.

فالنص هنا تضمن معنيين:

معنى "عن" وهو أن الإطعام كان كافيًا فجاوز الجوع، والأمن كان تامًّا فجاوز الخوف.

ومعنى "من" وهو أن الإطعام حصل بمجرد الجوع - أي في ابتدائه-، والأمن حدث في ابتداء الخوف، وفى هذا الابتداء مظهر من مظاهر الرحمة، وغير ذلك.

ص: 197