المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌يوم 23 ماي 1932 - جريدة «الشريعة» النبوية المحمدية - جـ ٣

[ابن باديس، عبد الحميد]

الفصل: ‌يوم 23 ماي 1932

_________

الصفحة 4

ــ

ـ[عمود:1]ـ

‌يوم 23 ماي 1932

بقلم الأستاذ الزاهري العضو الإداري لجمعية العلماء المسلمين الجزائريين.

كان يوم 23 ماي من السنة الماضية من أشد الأيام على هذا الوطن شؤما وسوادا، ففيه جمع المفسدون أمرهم وشركاءهم ثم تقدموا إلى جمعية العلماء المسلمين فأثاروا عليها غارة شعواء، من الشغب والفوضى وأرادوا بها كيدا فكانوا هم الأخسرين.

في نحو الساعة السادسة من صباح هذا اليوم مضى أصحابنا إلى دار إحدى الجمعيات في الجزائر (العاصمة) ، فوجد هنالك جموعا غفيرة من الناس قد تجمهروا أمام الدار، وتجمعوا داخلها حتى ملؤوا صحنها وغرفها وحجراتها، فظن صاحبنا أنه أمام مكتب من المكاتب التي يفتحها المترشحون لأحد الانتخابات لشراء الأصوات!! ودخل الدار فوجد أن شيخ الحلول قد جلس في صدر المجلس على هيئة بارزة تستلفت إليه الأنظار، وكان مريضا مثقلا لا يستطيع أن يجلس طويلا فأحيط - لذلك - بكثير من المساند والوسائد والمخدات، وكان إلى جانبه ثلاثة أشخاص يوزعون على الناس الأوراق والوصولات أما الوصولات فكانت زائفة مصطنعة وهي من الفئة ذات العشرة فرنكات التي تعطيها جمعية العلماء أعضاءها العاملين الذين لهم حق الانتخاب، وأما الأوراق فكانت تشتمل على قائمة بأسماء الذين رشحوا أنفسهم لكي يكونوا أعضاء المجلس الإداري لجمعية العلماء المسلمين وهم ليسوا بعلماء ولكن كانوا لأنفسهم يظلمون.

وتقدم صاحبنا من شيخ الحلول وعاتبه على هاته الأوراق والوصولات الزائفة التي يوزعها مجانا بلا أدنى مقابل على الذين لم تتوفر فيهم الشروط التي تأهلهم لكي

ـ[عمود2]ـ

يكونوا بجمعية العلماء أعضاء عاملين وقال له أن هذا هو عمل من يسعى لهدم هذه المؤسسة المباركة التي لم يخلق مثلها في البلاد، وما ينبغي لك - وأنت في شيبتك وشيخوختك - أن تكون في يد (فلان) آلة من آلات الهدم والتخريب وبالإفساد، على أن هذه الجمعية هي جمعية علماء، وليست جمعية متصوفة ولا جمعية أشياخ طرق، فما يكون لك - أنت المتصوف - أن تدخل فيها! فقال شيخ الحلول: إن بيني وبين الشيخ بن باديس عداوة شديدة ما أنساها له أبد الدهر، وأما العلماء الآخرون فليس بيني وبينهم شيء إلا أنهم أصحاب الشيخ بن باديس وإخوانه، فقال صاحبنا: وماذا بينكما؟ قال شيخ الحلول: كنت نشرت كتابا واستشهدت فيه ببعض الأحاديث النبوية التي قلت عنها أنها واردة في صحيح البخاري وصحيح مسلم والحقيقة أنها لم ترد لا في البخاري ولا في مسلم، وإنما أنا الذي غلطت وأخطأت، فما كان من الشيخ باديس إلا أن نشر في الشهاب انتقادا شديدا فضحني فيه وحط من قيمتي بين أتباعي وأظهر أغلاطي وأخطائي أو قل أظهر للناس أكاذيبي، فقال له صاحبنا: لو لم تكن أنت نشرت كتابك محشوا بالأغلاط والأخطاء لكان حقا لك على الشيخ بن باديس أن يستر عليك جهلك وأن لا يفضحك أمام الناس أما وقد طبعت كتابك ونشرته بين الناس فمن واجب الشيخ بن باديس ومن واجب كل عالم يغار على السنة النبوية أن يصحح أغلاطك وأخطاءك للناس حتى لا يضلوا

ـ[عمود3]ـ

بها؛ وعلى كل حال فهذه مسألة شخصية لا يحسن بك أن تتخذها حجة وذريعة لهدم هذا المشروع العمومي العظيم، فتحرك شيخ الحلول من مكانه وتحلحل، ثم قال في لهجة الواثق بنفسه:((فات الحال))! لا بد لنا أن نستولي على جمعية العلماء ولا بد أن نطرد عنها كل عالم من العلماء وكل طالب من طلبة علم، ولا بد أن تكون هذه الجمعية خالصة لنا من الناس ولا يمكن لنا بحال أن نرجع عن محاربة جمعية يرأسها الشيخ بن باديس فيئس صاحبنا من تفهيم هذا الحلولي المغرور، فتركه وانصرف لسبيله.

ولقيت أنا بعد ذلك رجلا من هؤلاء المشاغبين وكانت بيني وبينه معرفة سابقة فأخذ بيدي وانتحينا ناحية وحدنا، وقال لي يا فلان ما هذه اللجنة التي قررتم تأليفها لتقييد أسماء الناخبين ولامتحان العضو الذي تشكون في كونه ((عالما)) أو ((طالبا))؟ وهذا ليس بحق، فقلت: ولماذا؟ فقال: إننا ما جئنا إلا من أجل الانتخاب فكيف تمنعوننا منه؟ فقلت له: كل عضو عامل له حق الانتخاب ولكن العضو العامل هو العالم أو طالب العلم لا غير، أما الذين ليسوا بعلماء ولا بطلبة علم فليسوا أعضاء عاملين ولا حق لهم في الانتخاب، وهذا هو نص القانون الأساسي للجمعية ولا تمكن مخالفته بأي وجه، فقال: إذن قد غرني فلان وفلان وفلان .. وذكر جماعة من المشاغبين، قلت: وكيف ذلك؟ قال: إنهم قد أرسلوا في الشوارع حاشرين يجمعون لهم الناس من المقاهي والحانات، ويوزعون عليهم الأوراق والوصولات مجانا بل ويزيدونهم على ذلك فيدفعون إليهم ثمن التصويت!!

وأنا نفسي كلفوني بذلك وقد جمعت من الحانات خمسة وأربعين رجلا ووزعت

ص: 4

_________

الصفحة 5

ــ

ـ[عمود:1]ـ

عليهم مجانا وصولات الاشتراك من غير أن يدفعوا لي من قيمتها شيئا، بل قد أعطيت كل واحد منهم عشرة فرنكات لكي يشرب بها ((البيريتيف)) إلا لشيء سوى أن يعطي صوته في الانتخاب ضد الشيخ بن باديس وضد أصحابه العلماء؟ قلت: وما هو ذنب الشيخ بن باديس؟ وما هي ذنوب أصحابه العلماء؟ قال: لا ذنب لهم، ولكننا لم نقبض منكم ولا درهما واحدا وخصومكم قد أعطونا دراهم كثيرة (!!!) فقلت له: سواءً أخذتم الدراهم أم لم تأخذوا وأكلتم الرشوة أم لم تأكلوا فلا يكون ناخبا إلا من كان عالما أو طالبا للعلم، قال: إن الخمسة والأربعين الذين أكلوا الدراهم على يدي ليس فيهم ولا واحد يعرف الألف أو الباء، ولكن أخبرني عن الدراهم التي دفعتها إليهم هل أستردها منهم وما هم براديها إلي أم ماذا أصنع؟ فقلت له: أنت لم تستفتيني فيها أولا، فأرجوك أن لا تستفتيني الآن فيها، فقال: يجب أن أستردها من الذين كلفوني بإنفاقها، فقلت له: ذلك إليك.

ودقت الساعة التاسعة من صباح ذلك اليوم وافتتح الأستاذ بن باديس رئيس جمعية العلماء الجلسة الأولى من جلسات الاجتماع العمومي لجمعية العلماء بخطاب كان آية من آيات البلاغة وجاء جامعا لكل معاني الموعظة والذكرى، فخشعت له القلوب وفاضت له الأعين من الدمع ولكن الذين طبع الله علة قلوبهم فلا تنفع فيها الذكرى، وجعل في آذانهم وقرا فهم لا يسمعون قد كرهوا هذا الخطاب وقالوا لا تسمعوا له والغوا فيه لعلكم تغلبون، فهاجوا وماجوا، وأكثروا من اللغط والضوضاء، وكانوا مأجورين على أن يحدثوا في هذا اليوم الفتنة والشغب والفوضى وانتصب ((الجاهل الأمي)) كزعيم لهؤلاء

ـ[عمود2]ـ

المشاغبين وجعل ((يروث من فمه)) ويسيء الأدب بحق هذا الاجتماع الحافل بالعلماء والأعيان، وكان الأستاذ باديس يخاطبه قائلا:((يا سيدي فلان)) بكل هذا اللطف والأدب، ولكنه هو كان يقول للرئيس:((يا ابن باديس (أي بضم نون ابن) فكان العلماء يضحكون من جهل هذا المخلوق، ويعجبون من وقاحته وقلة حيائه، وكان كل واحد إذا أراد أن يتكلم رفع يده وطلب من الرئيس أن يأذن له بالكلام إلا هذا المخلوق فإنه كان يتكلم بلا استأذن ونصب نفسه للرد على كل أحد وللجواب عن كل كلام، وكان يقول الكلمات الجارحة حتى اضطره الرئيس مرارا عديدة إلى أن يسحب كلامه وأن يبادر بالاعتذار، وذات مرة أراد أن يكون نظاميا متأدبا لا يخرق سياج الأدب والنظام فرفع يده وقال للرئيس:((أطلِيب الكلام)) (بضم الهمزة وكسر اللام الممدودة) فلج الحاضرون في الضحك وقضوا من العجب.

وكان ((القوم)) قد تواصوا بالشر، وتواصوا بالمكر، واتفقوا فيما بينهم على أن يشاغبوا ويغلطوا إذا تكلم الأستاذ بن باديس أو غيره من العلماء، وأن يتظاهروا بالقبول والرضى إذا تكلم واحد من خمسة من أصحابهم قد عينوهم للكلام في هذا الاجتماع، وقد لقنهم بعض الناس أن يقولوا ((صواب، صواب)) لكل متكلم من هؤلاء الخمسة، ولكن واحدا من هؤلاء الخمسة قد تأثر من هذا الموقف وتبين له أن الحق كل الحق مع العلماء وأن ((القوم)) لا يريدون الخير، وإنما هم يحملون في صدورهم لجمعية العلماء أسوء المقاصد، وأخبث النوايا، فتاب وأصلح، وأذن له الرئيس في الكلام فقام وجعل يثني على الأستاذ باديس وعلى إخوانه العلماء ثناء عاطرا ويصفهم بالصدق والأمانة والأناة ونبل المقصد، ثم التفت إلى المشاغبين فانحنى عليهم باللآمة المرة وبالتوبيخ العنيف ولكنهم لجهلهم كانوا لا يزالون يظنون أن الرجل ما زال معهم، فجعلوا يصيحون بالموافقة على كلامه، ويقولون:((صواب! صواب! صواب!)) والتفت إلي أحدهم وقال لي: ((أرأيت كيف غلبكم صاحبنا فلان فوافقتم على كلامه، ولم تقدروا على مجاوبته،! فقلت له: كلا بل هو الذي رجع إلى الحق والصواب، ولم يدع كلمة تجول في أنفسنا إلا قالها لكم فسكت الرجل، وبهت الذي كفر.

وكان ((القوم)) يريدون أن يستولوا على جمعية العلماء وإلا فإنهم عزموا على إحداث فتنة عمياء تسيل فيها الدماء، وحينئذ يمكنون للحكومة أن تحل الجمعية وأن تغلق نادي الترقي، ولكنهم خابوا في كلتا الأمنيتين {وَرَدَ اللَه الَذِينَ كَفَروا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالوا خَيْرًا وَكَفَى اللَه الْمؤْمِنِينَ الْقِتَالَ .. } .

لا أريد أن أصف هنا كل ما جرى في ذلك اليوم، ولكني أريد أن أقول إن احتفالات المبشرين بالألف والسبعمائة من المسلمين الذين ارتدوا عن دينهم الحنيف واعتنقوا النصرانية كانت في 23 ماي الأخير (وقد ذكرت ذلك في المقال السابق) وأن هؤلاء المشاغبين قد ارتكبوا ما ارتكبوا بحق جمعية العلماء في مثل هذا اليوم من السنة التي قبلها، فهل كان ذلك عن تواطؤ وتدبير سابق أم وقع مصادفة واتفاقا؟ فإن كانت الأولى فلا نستغربها من ((قوم)) يسعون علانية لإغلاق المساجد ولإغلاق كتاتيب القرآن من غير أن يدركهم الخجل والحياء وإن كانت الثانية فهي من أعجب الاتفاقات وأدعاها إلى الدهشة والاستغراب!!!

محمد السعيد الزاهري

ص: 5