المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ السبب الثاني من مكفرات الذنوب ": المشي على الأقدام إلى الجماعات وإلى الجمعات - اختيار الأولى في شرح حديث اختصام الملأ الأعلى - ت الدوسري

[ابن رجب الحنبلي]

الفصل: ‌ السبب الثاني من مكفرات الذنوب ": المشي على الأقدام إلى الجماعات وإلى الجمعات

عنه الحر والبرد، فكان يلبس في الصيف لباس الشتاء، وفي الشتاء لباس الصيف، وقال النبي (فيه:" إنه يحب الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله ".

ورأى أبو سليمان الداراني في طريق الحج في شدة برد الشتاء شيخاً عليه أخلاق رثّةً وهو يرشح عرقاً، فسأله عن حاله، فقال: إنما الحر والبرد خلقان لله عز وجل، فإن أمرهما أن يغشيان أصاباني، وإن أمرهما أن يتركاني تركاني. وقال: أنا في هذه البرية منذ ثلاثين سنة يُلبسُني في البرد فيحاً من محبته، ويلبسني في الصيف برداً من محبته. وقيل لآخر وعليه خرقتان في برد شديد: لو استترت في موضع يُكِّنُك من البرد!

فأنشد:

ويُحسنُ ظني أنني في فنائِه

وهل أحدٌ في كُنِّه يجِدُ البردا؟.

"‌

‌ السبب الثاني من مُكفِّرات الذنوب ": المشي على الأقدام إلى الجماعات وإلى الجمعات

، ولا سيما إن توضأ الرجل في بيته ثم خرج إلى المسجد لا يريد بخروجه إلا الصلاة فيه كما في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي (قال:" صلاة الرجل في الجماعة تَضْعُف على صلاته في بيته وفي سوقه خمسةً وعشرين ضعفاً، وذلك أنه إذا توضأ فأحسن الوضوء ثم خرج إلى المسجد لا يخرجه إلا الصلاة لم يخطُ خطوة إلا رفعت له بها درجة، وحُطَّ عنه بها خطيئة، فإذا صلى لم تزل الملائكة تصلي عليه ما دام في مصلاّه: " اللهم صلي

ص: 56

عليه، اللهم ارحمه "، ولا يزال أحدكم في صلاة ما انتظر الصلاة ".

وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة عن النبي (قال: " من تطهر في بيته ثم مشى إلى بيت من بيوت الله ليقضي فريضة من فرائض الله، كانت خطوتاه: إحداهما تحط خطيئة، والأخرى ترفع درجة ".

وفي الصحيحين عن أبي هريرة عن النبي (قال: " كل خطوة تمشيها إلى الصلاة صدقة ".

وفي المسند وصحيح ابن حبان عن عقبة بن عامر عن النبي (قال: " إذا تطهر الرجل ثم أتى المسجد يرعى الصلاة كتب له كاتباه بكل خطوة يخطوها إلى المسجد عشر حسنات ".

وفيهما أيضاً عن عبد الله بن عمرو عن النبي (قال: " مَن راح إلى مسجد جماعة فخطوتاه: خطوة تمحو سيئة، وخطوة تكتب حسنة ذاهباً وراجعاً ".

ص: 57

وفي سنن أبي داود عن أبي أمامة عن النبي (قال: " من خرج من بيته متطهراً إلى صلاة مكتوبة فأجره كأجر الحاجّ المحرم ".

وفيه أيضاً عن رجل من الأنصار عن النبي (قال: " من توضأ فأحسن الوضوء ثم خرج إلى الصلاة، لم يرفع قدمه اليمنى إلا كتب الله له بها حسنة، ولم يضع قدمه اليسرى إلا حطَّ الله عنه بها خطيئة، فليقرب أو ليبعد، فإن أتى المسجد فصلى في جماعة غُفر له ".

والأحاديث في هذا المعنى كثيرة جداً.

فالمشي إلى الجمعات له مزيد فضل، لا سيما إن كان بعد الاغتسال، كما في السنن عن أبي أوس عن النبي (قال: " من غسل يوم الجمعة

ص: 58

واغتسل، وبكّر وابتكر، ومشى ولم يركب، ودنا من الإمام، واستمع ولم يلغ، كان له بكل خطوة أجر سنة: صيامها وقيامها ".

وكلما بعد المكان الذي يمشي منه إلى المسجد كان المشي منه أفضل لكثرة الخطا، وفي صحيح مسلم عن جابر قال: كانت دارنا نائية عن المسجد، فأردنا أن نبيع بيوتنا فنقرب من المسجد، فنهانا رسول الله (وقال:" إن لكم بكل خطوة حسنة ".

وفي صحيح البخاري عن أنس أن النبي (قال: " يا بني سلمة! ألا تحسبون آثاركم؟! ". وفي الصحيحين عن أبي موسى أن النبي (قال: " إن أعظم الناس أجراً في الصلاة: أبعدهم إليها ممشى فأبعدهم ".

ومع هذا فنفس الدار القريبة من المسجد أفضل من الدار البعيدة عنه، لكن المشي من الدار البعيدة أفضل، ففي المسند عن حذيفة عن

ص: 59

النبي (قال: " فضل الدار القريبة من المسجد على الدار البعيدة الشاسعة كفضل الغازي على القاعد " وإسناده منقطع.

والمشي إلى المسجد أفضل من الركوب كما تقدم في حديث أوس في الجُمع، ولهذا جاء في حديث معاذ ذكر المشي على الأقدام، وكان النبي (لا يخرج إلى الصلاة إلا ماشياً حتى العيد يخرج إلى المصلى ماشياً، فإن الآتي للمسجد زائر لله، والزيارة على الأقدام أقرب إلى الخضوع والتذلل كما قيل:

لو جئتكم زائراً أسعى على بصري

لم أَدِّ حقاً وأيُّ الحقِّ أدَّيتُ؟!

وفي صحيح البخاري عن أبي هريرة عن النبي (قال: " من غدا إلى المسجد أو راح أعدَّ الله له منزلاً في الجنة كلما غدا أو راح ". والنُّزُل: هو ما يُعدُّ للزائر عند قدومه. وفي الطبراني من حديث سلمان مرفوعاً: " من توضأ في بيته فأحسن الوضوء، ثم أتى المسجد فهو زائر الله تعالى، وحق على المزور أن يكرم الزائر ".

ص: 60

وفي صحيح مسلم عن أبي بن كعب قال: كان رجل لا أعلم رجلاً أبعد من المسجد منه، وكان لا تخطئه صلاة في المسجد، قال: فقيل له أو قلت له: لو اشتريت حماراً تركبه في الظلماء وفي الرمضاء. فقال: ما يسرني أن منزلي إلى جنب المسجد، إني أريد أن يُكتب لي ممشاي إلى المسجد ورجوعي إذا رجعت إلى أهلي. فقال رسول الله (:" قد جمع الله لك ذلك كله ".

وكلما شق المشي إلى المسجد كان أفضل، ولهذا فُضل المشي إلى صلاة العشاء وصلاة الصبح، وعُدل بقيام الليل كله كما في صحيح مسلم عن عثمان عن النبي (قال:" من صلى العشاء في جماعة فكأنما قام نصف الليل، ومن صلى الصبح في جماعة فكأنما صلى الليل كله ".

وفي الصحيحين عن أبي هريرة عن النبي (قال: " أثقل صلاة على المنافقين: صلاة العشاء وصلاة الفجر، ولو يعلمون ما فيها لأتوهما ولو حبواً ". وإنما ثقلت هاتان الصلاتان على المنافقين لأن المنافق لا ينشط للصلاة إلا إذا رآه الناس كما قال تعالى: (وإذا قامُوآ إلى الصلاةِ قاموا كُسالى يُرآءون الناسَ ولا يذكُرُونَ الله إلا قليلاً) وصلاة العشاء والصبح يقعان في ظلمةٍ، فلا ينشط للمشي إليهما إلا كل مخلص يكتفي برؤية الله عز وجل وحده لعلمه به.

ص: 61

وثواب المشي إلى الصلاة في الظُّلَم: النور التام في ظلم يوم القيامة كما في سنن أبي داود والترمذي عن بُريدة عن النبي (قال: " بَشِّر المشَّائينَ في الظُّلَم إلى المساجدِ بالنُّورِ التّام يومَ القيامة " وخرجه ابن ماجه من حديث سهل بن سعد، وقد رُوي من وجه كثيرة.

ص: 62

وفي بعضها زيادة: " يفزع الناس ولا يفزعون ". قال النخعي: وكانوا يرون أن المشي في الليلة الظلماء إلى الصلاة موجبة. يعني توجب المغفرة. وروينا عن الحسن قال: أهل التوحيد في النار لا يُقيدون، فيقول الخزنة بعضهم لبعض: ما بال هؤلاء لا يقيدون وهؤلاء يقيدون؟! فيناديهم منادٍ: إن هؤلاء كانوا يمشون في ظلم الليل إلى المساجد.

كما أن مواضع السجود عن عصاة الموحدين في النار لا تأكلها النار، فكذلك الأقدام التي تمشي إلى المساجد في الظلم لا تقيد في النار، ولا يسوي في العذاب بين من خدمه وبين من لم يخدمه وإن عذبه:

ومَنْ كانَ في سُخطه محسناً

فكيف يكونُ إذا ما رضي؟!

لما كانت الصلاة صلة بين العبد وربه، ومناجاة تظهر فيها آثار تجليه لقلوب العارفين وقربه، شرع قبل الدخول فيها الطهارة، فإنه لا يصلح للوقوف بين يدي الله عز وجل والخلوة بمناجاته إلا طاهر، فأما المتلوث بالأوساخ الظاهرة والباطنة فلا يصلح للقرب، فشرع الله عز وجل للمصلي غسل أعضائه بالماء، ورتب عليها طهارة الذنوب وتكفيرها، حتى يجتمع لمن يريد المناجاة طهارة ظاهره وباطنه، ثم شرع المشي إلى المساجد، وفيه أيضاً

ص: 64

تكفير الخطايا حتى تكمل طهارة الذنوب إن بقي منها شيء بعد الوضوء، حتى لا يقف العبد في مقام المناجاة إلا بعد كمال طهارة ظاهره وباطنه من درن الأوساخ والذنوب، ولهذا شرع له تجديد التوبة والاستغفار عقيب كل وضوء حتى تكمل طهارة ذنوبه كما خرج النسائي من حديث أبي سعيد مرفوعاً وموقوفاً:" من توضأ فأسبغ الوضوء، ثم قال عند فراغه من وضوئه: " سبحانك اللهم وبحمدك، استغفرك وأتوب إليك " خُتم عليها بخاتم، فوُضعت تحت العرش فلم يكسر إلى يوم القيامة ".

ومتى اجتهد العبد على تكميل طهارته ومشيه إلى المسجد ولم يقوَ ذلك على تكفير ذنوبه فإن الصلاة يكمل بها التكفير، كما في الصحيحين عن أبي

ص: 65

هريرة عن النبي (قال: " أرأيتم لو أن نهراً بباب أحدكم يغتسل فيه كل يوم خمس مرات، هل يبقى من درنه شيء؟ ". قالوا: لا يبقى من درنه شيء. قال: " فذلك مثل الصلوات الخمس يمحو الله بهن الخطايا ". وإن قوي الوضوء وحده على تكفير الخطايا فالمشي إلى المسجد والصلاة بعده تكون زيادة حسنات، وهذا هو المراد من قول النبي (في حديث عثمان والصُّنابحي: "

وكان مشيه إلى المسجد وصلاته نافلة "، وقد سبق ذكر الحديثين.

واعلم أن جمهور العلماء على أن هذه الأسباب كلها إنما تكفر الصغائر دون الكبائر، وقد استدل بذلك عطاء وغيره من السلف في الوضوء، وقال سلمان الفارسي رضي الله عنه: الوضوء يكفر الجراحات الصغار، والمشي إلى المسجد يكفر أكثر من ذلك، والصلاة تكفر أكثر من ذلك. خرجه محمد بن نصر المروزي.

ويُدلّ على أن الكبائر لا تكفر بذلك ما في الصحيحين عن أبي هريرة عن النبي (قال: " الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان مكفرات لما بينهن إذا اجتُنِبَت الكبائر ".

وفي صحيح مسلم عن عثمان عن النبي (قال: " ما من امرئٍ مسلم تحضره صلاة مكتوبة فيحسن وضوءها وخشوعها وركوعها وسجودها إلا كانت كفارة لما قبلها من الذنوب ما لم يؤت كبيرة، وذلك الدهر كله ".

فانظر إلى كم تُيَسر لك أسباب تكفير الخطايا لعلك تطهر منها قبل

ص: 66