المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ السبب الثالث من مكفرات الذنوب ": الجلوس في المساجد بعد الصلوات - اختيار الأولى في شرح حديث اختصام الملأ الأعلى - ت الدوسري

[ابن رجب الحنبلي]

الفصل: ‌ السبب الثالث من مكفرات الذنوب ": الجلوس في المساجد بعد الصلوات

الموت فتلقاه طاهراً، فتصلح لمجاورته في دار السلام، وأنت تأبى إلا أن تموت على خبث الذنوب فتحتاج إلى تطهيرها في كير جهنم. يا هذا! أما علمت أنه لا يصلح لقربنا إلا طاهر؟! فإن أردت قربنا ومناجاتنا اليوم فطهر ظاهرك وباطنك لتصلح لذلك، وإن أردت قربنا ومناجاتنا غداً فطهر قلبك من سوانا لتصلح لمجاورتنا (يومَ لا ينفعُ مالٌ ولا بَنُونَ " إلا مَنْ أتى الله بقلبٍ سليمٍ) ، القلب السليم الذي ليس فيه غير محبة الله، ومحبة يحبه الله، إن الله طيب لا يقبل إلا طيباً، فما كل أحد يصلح لمجاورة الله تعالى غداً، ولا كل أحد يصلح لمناجاة الله اليوم، ولا على كل الحالات تحسن المناجاة:

الناسُ من الهوى على أصنافِ

هذا نقضَ العهدَ وهذا وافي

هيهاتَ مِنَ الكدورِ تبغي الصافي

ما يصلِحُ للحضرةِ قلبٌ جافي

"‌

‌ السبب الثالث من مكفرات الذنوب ": الجلوس في المساجد بعد الصلوات

، والمراد بهذا الجلوس انتظار صلاة أخرى كما في حديث أبي هريرة: "

وانتظار الصلاة بعد الصلاة، فذلكم الرباط، فذلكم الرباط ". فجعل هذا من الرباط في سبيل الله عز وجل، وهذا أفضل من الجلوس قبل الصلاة لانتظارها، فإن الجالس لانتظار الصلاة ليؤديها ثم يذهب تقصر مدة انتظاره، بخلاف من صلى صلاة ثم جلس ينتظر أخرى فإن مدته تطول، فإن كان كلما صلى صلاة جلس ينتظر ما بعدها استغرق عمره بالطاعة، وكان ذلك بمنزلة الرباط في سبيل الله عز وجل.

وفي المسند وسنن ابن ماجه عن عبد الله بن عمرو قال: صليت مع رسول الله (المغرب، فرجع من رجع، وعقب من عقب، فجاء رسول الله (مسرعاً قد حَفَزه النفَس، وقد حسر عن ركبته فقال: " أبشروا! هذا ربكم قد فتح عليكم باباً من أبواب السماء يباهي بكم الملائكة، يقول: انظروا إلى

ص: 67

عبادي قد قضوا فريضة وهم ينتظرون أخرى ".

وفي المسند عن أبي هريرة عن النبي (قال: " منتظر الصلاة بعد الصلاة كفارس اشتد به فرسه في سبيل الله على كَشْحِهِ، تُصلي عليه ملائكة الله ما لم يحدث أو يقوم، وهو في الرباط الأكبر ".

ويدخل في قوله: " والجلوس في المساجد بعد الصلوات ": الجلوس للذكر والقراءة وسماع العلم وتعليمه ونحو ذلك، لا سيما بعد صلاة الصبح حتى تطلع الشمس، فإن النصوص قد وردت بفضل ذلك، وهو شبيهٌ بمن جلس

ص: 68

ينتظر صلاة أخرى، لأنه قد قضى ما جاء المسجد لأجله من الصلاة وجلس ينتظر طاعة أخرى.

وفي الصحيح عن النبي (قال: " وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله تعالى يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم، إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفّتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده ".

وأما الجالس قبل الصلاة في المسجد لانتظار تلك الصلاة خاصةً فهو في صلاة حتى يصلي، وفي الصحيحين عن أنس عن النبي (أنه لما أخّر صلاة العشاء الآخرة ثم خرج فصلى بهم: قال لهم: " إنكم لم تزالوا في صلاةٍ ما انتظرتم الصلاة ".

وفيهما أيضاً عن أبي هريرة عن النبي (قال: " الملائكة تصلي عل أحدكم ما دام في مصلاه ما لم يحدث: اللهم اغفر له، اللهم ارحمه. ولا يزال أحدكم في صلاة ما كانت الصلاة تحبسه، لا يمنعه أن ينقلب إلى أهله إلا الصلاة ". وفي رواية لمسلم: " ما لم يؤذِ فيه، ما لم يحدث فيه ".

وهذا يدل على أن المراد بالحدث: حدث اللسان ونحوه، وفسره أبو هريرة بحدث الفرج، وقيل إنه يشمل الحدثين.

وفي المسند عن عقبة بن عامر عن النبي (قال: " القاعد يرعى الصلاة كالقانت، ويُكتب من المصلين من حين يخرج من بيته حتى يرجع إليه ". وفي رواية له: " فإذا صلى في المسجد ثم قعد فيه كان كالصائم

ص: 69

القانت حتى يرجع ". وفي هذا المعنى أحاديث كثيرة.

وبالجملة فالجلوس في المسجد للطاعات له فضل عظيم، وفي حديث أبي هريرة عن النبي (قال:" لا يوطن رجل المساجد للصلاة والذكر إلا تبشبش الله عز وجل كما يتبشبش أهل الغائب إذا قدم عليهم غائبهم ".

وروى دراج عن أبي الهيثم عن أبي سع عن النبي (قال: " من ألف المسجد ألفه الله ". وقال سعيد بن المسيب: من جلس في المسجد فإنما يجالس الله عز وجل وصحّ عن النبي (أنه عدّ من السبعة الذين يظلهم الله في ظلّه يوم لا ظل إلا ظله: " رجل قلبه معلّق بالمسجد إذا خرج منه حتى يعود ".

وإنما كان ملازمة المسجد مكفراً للذنوب لأن فيه مجاهدة للنفس، وكفّاً لها عن أهوائها فإنها لا تميل إلا إلى الإنتشار في الأرض لابتغاء الكسب أو لمجالسة الناس ومحادثتهم أو للتنزه في الدور الأنيقة والمساكن الحسنة ومواطن النّزه

ص: 70

ونحو ذلك، فمن حبس نفسه في المساجد على الطاعة فهو مرابط لها في سبيل الله، مخالف لهواها وذلك من أفضل أنواع الصبر والجهاد.

وهذا الجنس أعني ما يؤلم النفس ويخالف هواها فيه كفارة للذنوب وإن كان لا صنع فيه للعبد كالمرض ونحوه، فكيف بما كان حاصلاً عن فعل العبد واختياره إذا قصد به التقرب إلى الله عز وجل؟! فإن هذا من نوع الجهاد في سبيل الله الذي يقتضي تكفير الذنوب كلها.

ولهذا المعنى كان المشي إلى المساجد كفارة للذنوب أيضاً، وهو نوع من الجهاد في سبيل الله أيضاً، كما خرجه الطبراني من حديث أبي أمامة عن النبي (:" الغدوّ والرواح إلى المساجد من الجهاد في سبيل الله عز وجل ".

كان زياد مولى ابن عباس أحد العباد الصالحين، وكان يلازم مسجد المدينة، فسمعوه يوماً يعاتب نفسه ويقول لها:" أين تريدين أن تذهبي؟! إلى أحسن من هذا المسجد!! تريدين أن تبصري دار فلان ودار فلان! ".

لما كانت المساجد في الأرض بيوت الله أضافها الله إلى نفسه تشريفاً لها، وتعلقت قلوب المحبين لله عز وجل بها، لنسبتها إلى محبوبهم، وانقطعت إلى ملازمتها لإظهار ذكره فيها (في بُيُوتٍ أذِنَ الله أنْ تُرفَع ويُذْكَرَ فيها اسمُهُ يُسبِّحُ لهُ فيها بالغُدُوِّ والأَصَالِ " رجالٌ لا تُلْهِيهِمْ تجارةٌ ولا

ص: 71

بيعٌ عن ذكرِ الله وإقامِ الصلاة وإيتآءِ الزكاة يخافونَ يوماً تتقلّبُ فيه القلوبُ والأبْصارُ) .

أين يذهب المحبون عن بيوت مولاهم؟! قلوب المحبين ببيوت محبوبهم متعلّقة، وأقدام العابدين إلى بيوت معبودهم مترددة:

يا حبّذا العرعرُ النجدي والبان

ودارُ قومٍ بأكناف الحِمى بانوا

وأطيبُ الأرضٍ ما للقلبِ فيه هوى

سَمُّ الخَياط مع المحبوبِ ميدانُ

لا يُذكرُ الرَّملُ إلا حَنَّ مُغتربٌ

له بذي الرمل أوطارٌ وأوطانُ

يهفو إلى البان من قلبي نوازعُه

وما بيَ البانُ بل مَن دارهُ البانُ

ص: 72