المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ذكر عام القرآن، وخاصه، وما يتعلق بذلك - حاشية مقدمة التفسير لابن قاسم

[عبد الرحمن بن قاسم]

الفصل: ‌ ذكر عام القرآن، وخاصه، وما يتعلق بذلك

عامه وخاصه (1)

العام: أقسام (2) منه: الباقي على عمومه، كـ {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} (3) .

(1) أي:‌

‌ ذكر عام القرآن، وخاصه، وما يتعلق بذلك

.

(2)

العام: لفظ يستغرق الصالح له، من غير حصر؛ وتدخل النادرة، وغير المقصودة تحته، مطابقة إثباتا أو سلبا ودلالته على أصل المعنى قطعية وعموم الأشخاص يستلزم عموم الأحوال، والأزمنة والبقاع، وكل والذي والتي وأي وما، ومتى وحيثما ونحوها: للعموم، والجمع المعرف باللام، والإضافة، ما لم يتحقق عهد والنكرة في سياق النفي والنهي، والشرط وغير ذلك وينقسم العام إلى ثلاثة أقسام.

(3)

أي: من أقسام العام، القسم الباقي على عمومه، نحو {وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} {لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا} {الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ} ونحو ذلك من الأحكام الفرعية {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} وهو عزيز إذ ما من عام إلا ويتخيل فيه التخصيص فنحو {اتَّقُوا رَبَّكُمْ} قد يخص منه غير المكلف و {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} خص منه حالة الاضطرار والسمك، والجراد، ومن الربا: العرايا، وغير ذلك.

ص: 48

والعام المراد به الخصوص كـ {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ} (1) والثالث: العامُّ الْمَخصوصُ (2) وهُو كَثيرٌ إِذْ ما مِن عام إلا وقد خص (3) .

(1) أي: والقسم الثاني، من أقسام العام، العام المراد به الخصوص، وليس عمومه مرادا، بل كلي استعمل في جزئي ويصح أن يراد به واحد، ولا يراد به شموله لجميع الأفراد بل هو ذو أفراد استعمل في فرد منها، مثاله قوله تعالى:{الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ} والقائل واحد ويقوي ذلك قوله: {إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ} وقعت الإشارة بقوله: {ذَلِكُمْ} إلى واحد بعينه، ومن ذلك قوله:{أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ} أي رسول الله صلى الله عليه وسلم وقوله: {أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ} وقوله: {فَنَادَتْهُ الْمَلائِكَةُ} والمراد جبرائيل وغير ذلك.

(2)

أي والثالث من أقسام العام المخصوص، وهو مراد عمومه وشموله لجميع الأفراد من جهة تناول اللفظ لها، وتناوله للبعض الباقي بعد التخصيص، كتناوله لها بلا تخصيص.

(3)

أي: والمخصوص من العام، أمثلته كثيرة إذ ما من لفظ في القرآن عام، إلا وقد خص بالقرآن، أو بالسنة أو بالقياس والمطلق مع المقيد، كالعام مع الخاص، فمتى وجد دليل على تقييده، صير إليه، وإلا فلا.

ص: 49

والمخصص: إما متصل وهو: خمسة أحدها الاستثناء (1) والمنفصل كآية أخرى (2)

(1) أي: والمخصص قسمان، إما متصل بالمخصص منه، وإما منفصل والمتصل خمسة أشياء، أحدها الاستثناء، وهو الإخراج بإلا، أو إحدى أخواتها نحو قوله:{وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ} إلى قوله: {إِلا الَّذِينَ تَابُوا} ونحو {وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ} إلى قوله: {إِلا الَّذِينَ آمَنُوا} وقوله: {وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا} إلى {إِلا مَنْ تَابَ} {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلا وَجْهَهُ} .

والثاني: الوصف، نحو {وَرَبَائِبُكُمُ اللاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ} والثالث: الشرط نحو {وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا} {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ} والرابع: الغاية، نحو {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالله} إلى قوله:{حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ} {وَلا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ} إلى قوله: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ} {وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ} {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ} الآية، والخامس بدل البعض من الكل نحو {وَللهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً} .

(2)

أي والقسم الثاني، المنفصل من المخصص منه كآية أخرى في محل آخر من القرآن نحو قوله:{وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} خص بقوله: {إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ} وبقوله: {وَأُولاتُ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} ونحو قوله: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ} خص من الميتة السمك، بقوله:{أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ} ومن الدم الجامد، بقوله:{أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا} وقوله: {وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا} خص بقوله: {فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} وقوله: {فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} خص بقوله: {فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ} .

ص: 50

أو حديث أو إجماع (1) .

(1) أي: أو خص بحديث، نحو قوله تعالى:{وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} خص منه البيوع الفاسدة، وهي كثيرة بالسنة، وقوله:{وَحَرَّمَ الرِّبَا} خص منه العرايا؛ وآيات المواريث، خص منها: القاتل، والمخالف في الدين؛ وآية تحريم الميتة، خص منها: الجراد بالسنة. وآية: {ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} ، خص منها: الأمة، بالسنة، {مَاءً طَهُورًا} خص منه المتغير بالسنة؛ أو خص بإجماع، كآية المواريث، خص منها الرقيق، بالإجماع؛ وخص بالقياس: آية الزنا: {فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ} خص منها العبد بالقياس على الأمة، المنصوصة في قوله:{فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ} المخصص لعموم الآية المتقدمة.

ص: 51

الناسخ والمنسوخ (1)

يَرِدُ النَّسخُ بِمَعنَى الإِزالةِ (2) ، ومِنهُ {فَيَنْسَخُ اللهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ} (3) .

(1) النسخ: الإزالة للحكم، حتى لا يجوز امتثاله قال غير واحد من الأئمة لا يجوز لأحد أن يفسر القرآن، إلا بعد أن يعرف منه الناسخ من المنسوخ، وقال علي لقاض، أتعرف الناسخ من المنسوخ؟ قال: لا، قال: هلكت وأهلكت، والنسخ: مما خص الله به هذه الأمة، لحكم، منها، التيسير، وأجمعوا على جوازه ويرد بالقرآن للقرآن، وبالسنة للقرآن، وقال الشافعي: حيث وقع بالسنة فمعها قرآن، أو بالقرآن فمعه السنة عاضدة، تبين توافق القرآن والسنة.

(2)

تقول العرب: نسخت الشمس الظل إذا أزالته.

(3)

قال الشيخ: والنسخ هنا: رفع ما ألقاه الشيطان، لا رفع ما شرعه الله، قال: وإلقاء الشيطان في أمنيته قد يكون في نفس لفظ المبلغ، وقد يكون في سمع المبلغ، وقد يكون في فهمه قال تعالى:{ثُمَّ يُحْكِمُ اللهُ آيَاتِهِ} وإحكامه: رفع ما يتوهم فيه من المعنى، الذي ليس بمراد، وكذلك ما رفع حكمه فإن في

ذلك جميعه نسخا لما يلقيه الشيطان في معاني القرآن، ولهذا كانوا يقولون: هل عرفت الناسخ من المنسوخ؟ فإذا عرفت الناسخ عرفت المحكم.

ص: 53

وبمعنى التبديل (1){وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ} (2) وهُو ثَلاثَةٌ: ما نُسِخَ تِلاوَتُهُ وحُكمُهُ كََعَشرِ رضعات (3) أو تلاوته دون حكمه كآية الرجم (4) .

(1) وأصل النسخ من نسخ الكتاب، وهو، نقله من نسخة إلى أخرى وغيرها، فكذلك معنى نسخ الحكم، إلى غيره إنما هو تحويله ونقل عبارته منه، إلى غيره.

(2)

أي إذا نسخنا حكم آية، فأبدلنا مكانه حكم أخرى {وَاللهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ} أي: والله أعلم بالذي هو أصلح لخلقه، فيما يبدله ويغير من أحكامه وقال:{مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ} أي حكمها فنبدله، ونغيره ولا يكون إلا في الأمر والنهي، كما يأتي.

(3)

ففي الصحيحين عن عائشة، قالت:«كان فيما أنزل عشر رضعات معلومات، فنسخن بخمس معلومات، فتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهن مما يقرأ من القرآن» ، ولعله قد قارب الوفاة أو أن التلاوة نسخت، ولم يبلغ ذلك كل الناس، إلا بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم فتوفي وبعض الناس يقرؤها وقال أبو موسى نزلت ثم رفعت.

(4)

أي: ومن القرآن ما نسخ تلاوته دون حكمه كآية الرجم فعن أبي بن كعب: أن سورة الأحزاب لتعدل سورة البقرة،

وإن كنا لنقرأ فيها آية الرجم: «الشيخ والشيخة إذا زنيا، فارجموها ألبتة، نكالا من الله والله عزيز حكيم» ، وقال عمر، لولا أن يقول الناس، زاد عمر في كتاب الله، لكتبتها وللحاكم أنها لما نزلت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم اكتبها فكأنه كره ذلك.

وفي مصحف عائشة: «إن الله وملائكته يصلون على النبي، يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما، وعلى الذين يصلون الصفوف الأول» ، وللحاكم عن أبي:«إن الله أمرني أن أقرأ عليك القرآن فقرأ {لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا} ومن بقيتها: لو أن ابن آدم سأل واديا من مال فأعطيه، سأل ثانيًا، ولو سأل ثانيا فأعطيه، سأل ثالثا، ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب، ويتوب الله على من تاب، وإن ذات الدين عند الله الحنيفية غير اليهودية ولا النصرانية، ومن يعمل خيرا فلن يكفره» ، ولأبي عبيد عن أبي موسى، نزلت سورة نحو براءة ثم رفعت وحفظ منها:«إن الله سيؤيد هذا الدين بأقوام لا خلاق لهم ولو أن لابن آدم واديين من مال لتمنى واديا ثالثا، ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب، ويتوب الله على من تاب» ، وروي غير ذلك وفي الصحيحين في قصة أصحاب بئر معونة قال أنس: ونزل فيهم قرآن قرأناه حتى رفع «أن بلغوا عنا قومنا أنا لقينا ربنا فرضي عنا وأرضانا» .

ص: 54

أو حكمه دون تلاوته (1) .

(1) أي: والقسم الثالث: ما نسخ حكمه، ولم تنسخ تلاوته.

ص: 55

وصنفت فيه الكتب وهو قليل (1) .

(1) أي: وصنفت الكتب الكثيرة فيما نسخ حكمه وبقيت تلاوته، وممن صنف في ذلك أبو عبيد، وأبو داود، وأبو جعفر النحاس، وابن الأنباري، وابن العربي، وابن الجوزي، وغيرهم وهو قليل، وإن كان بعضهم أكثر من تعديد الآيات، فيه، سوى ما اصطلح عليه بعض السلف فسموا كل رفع نسخا، سواء كان رفع حكم أو رفع دلالة ظاهرة.

قال ابن القيم: مراد عامة السلف بالناسخ والمنسوخ، رفع الحكم بجملته تارة ةوهو اصطلاح المتأخرين، ورفع دلالة العام والمطلق والظاهر، وغيرها تارة، إما بتخصيص، أو تقييد أو حمل مطلق على مقيد، وتفسيره، وتبيينه، حتى إنهم ليسمون الاستثناء، والشرط، والصفة، نسخا، لتضمن ذلك لرفع دلالة الظاهر وبيان المراد.

فالنسخ عندهم وفي لسانهم، هو بيان المراد بغير ذلك اللفظ بل بأمر خارج عنه، وإلا فإنما صحح النسخ في نحو: بضع عشر آية، كما حكاه ابن العربي وغيره منها:{إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ} بآية المواريث {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ} قيل بـ {مَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ} {وَلا الشَّهْرَ الْحَرَامَ} بـ {قَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ} {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ} بالآية قبلها {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ} بـ {لا يُكَلِّفُ اللهُ} الآية {وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ} بـ {أُولُو الأَرْحَامِ} {وَاللاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ} بآية النور {فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ} بـ {أَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ} و {إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ} بالآية بعدها و {قُمِ اللَّيْلَ} بآخر السورة ثم بالصلوات الخمس، وفي بعض ذلك خلاف.

وأما من أدخل في المنسوخ نحو {مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} بآية الزكاة، و {أَلَيْسَ اللهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ} {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا} بآية السيف، ونحو ذلك فمحكم ليس بمنسوخ، وكذا ما هو من قسم المخصوص، أو ما كان قبل البعثة إلا ما كان في أول الإسلام، وليس في القرآن ناسخ، إلا والمنسوخ قبله سوى آية العدة، {لا تحل لك النساء} وقيل: وآية الحشر في الفيء.

والمرجع في النسخ: إلى نقل صريح صحيح، عن النبي صلى الله عليه وسلم أو عن صحابي يقول: آية كذا نسخت كذا، وقد يحكم به مع علم التأريخ، لتضمنه رفع حكم، وإثبات حكم، تقرر في عهد النبوة.

ص: 56

وَلا يَقَعُ إِلَاّ في الأَمرِ، والنَّهيِ، ولَو بلفظ الخبر (1) .

(1) أي: ولا يقع النسخ، إلا في الأمر والنهي؛ ومنه الوعد، والوعيد، والحظر، والإطلاق، والمنع، والإباحة، ويقع النسخ، في الأمر، والنهي بلفظ الخبر، أما الخبر الذي ليس بمعنى الطلب، فلم يدخله النسخ، فإن النسخ: إنما يكون في المتعبدات، لأن لله أن يتعبد خلقه بما شاء، إلى أي وقت شاء ثم يتعبدهم بغير ذلك، وأما الأخبار بغير معنى الطلب، فلا يكون فيها ناسخ ولا منسوخ.

ص: 57

المحكم والمتشابه (1)

المحكم: يميز الحقيقة المقصودة (2) والمتشابه يشبه هذا ويشبه هذا (3) .

(1) أي: بيان المحكم، الواضح الدلالة، والمتشابه الذي فيه اشتباه على كثير من الناس.

(2)

من غيرها حتى لا تشتبه بغيرها، قاله الشيخ وغيره، وعن أحمد: المحكم ما استقل بنفسه ولم يحتج إلى بيان وعن الشافعي: المحكم ما لا يحتمل إلا وجها واحدا وذكر الشيخ أن الإحكام تارة يكون في التنزيل، فيكون في مقابلة ما يلقيه الشيطان فالمحكم المنزل من عند الله، أحكمه الله، أي فصله من الاشتباه بغيره، وفصل عنه ما ليس منه، فإن الإحكام هو الفصل والتمييز، والفرق والتحديد، الذي به يتحقق الشيء ويحصل اتقانه، وتارة يكون في إبقاء التنزيل، عند من قابله بالنسخ، الذي هو رفع ما شرع، وهو اصطلاحي وتارة يكون الإحكام في التأويل والمعنى وهو تمييز الحقيقة، وفسر بما وضح معناه وما كان معقول المعنى وغير ذلك.

(3)

قال الشيخ: فتكون محتملة للمعنيين، وعن أحمد ما احتاج إلى بيان، وعن الشافعي: ما احتمل من التأويل وجوها وقاله أحمد وغيره وقال الشيخ: المحكم في القرآن يقابل بالمتشابه، وبما نسخ كما قال تعالى:{هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ} وقال: {فَيَنْسَخُ اللهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللهُ آيَاتِهِ} فجعل جميع الآيات محكمة محكمها ومتشابهها كما قال تعالى: {الرْ كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ} .

ص: 58

والذين في قلوبهم زيغ يتبعون ما تشابه منه {ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ} ليفتنوا به الناس إذا وضعوه، على غير مواضعه (1) .

(1) أي: الذين في قلوبهم زيغ، عدول عن الحق، يدعون المحكم الذي لا اشتباه فيه، مثل قوله تعالى:{وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ} {إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي} {مَا اتَّخَذَ اللهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ} {لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ} {لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} ويتبعون المتشابه الذي يشبه هذا ويشبه هذا كأنا ونحن فروي أن نصارى نجران، الذين وفدوا على النبي صلى الله عليه وسلم تأولوها على أن الآلهة ثلاثة لكونها ضمير جمع.

قال الشيخ: ومعلوم أن: أنا ونحن، من المتشابه فإنه يراد بها الواحد الذي معه غيره من جنسه، ويراد بها الواحد الذي معه أعوانه، ولم يكونوا من جنسه، ويراد بها الواحد المعظم نفسه، الذي يقوم مقام من معه غيره، لتنوع أسمائه، التي كل اسم منها يقوم مقام مسمى فصار هذا متشابها، لأن اللفظ

واحد، والمعنى متنوع، والأسماء المشتركة في اللفظ هي من المتشابه، وذكر أن ما تأوله المتفلسفة، غيرهم، مما أخبر الله به عما في الآخرة اتباع للمتشابه، وابتغاء الفتنة، بما يوردونه من الشبهات.

وفي الصحيحين عن عائشة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إذا رأيتم الذين يتبعون ما تشابه منه فأولئك الذين سمى الله فاحذروهم» وقصة صبيغ مع عمر، حين بلغه أن يسأل عن متشابه القرآن، فسأل عمر عن {الذَّارِيَاتِ ذَرْوًا} فقال: ما اسمك؟ قال عبد الله صبيغ، فقال: وأنا عبد الله عمر، وضربه الضرب الشديد.

وكان ابن عباس: إذا ألح عليه رجل، في مسألة من هذا الجنس، يقول: ما أحوجك أن أصنع بك ما صنع عمر بصبيغ لأنهم رأوا أن غرض السائل: ابتغاء الفتنة، لا الاسترشاد والاستفهام، وقوله:{الذَّارِيَاتِ ذَرْوًا} أي: فعاقبوهم على هذا القصد الفاسد كالذي يعارض بين آيات القرآن وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال: «لا تضربوا كتاب الله بعضه ببعض» ، ولأن ذلك يوقع الشك في القلوب.

ص: 59

{وَابْتِغَاءَ تَأَوِيلِهِ} وهُو: الحَقيقَةُ التي أَخبَرَ عَنْها، كالقيامة وأشراطها (1) .

(1) أي: والذين في قلوبهم: زيغ ويتبعون ما تشابه منه، مع ابتغاء تأويله الذي لا يعلمه إلا الله، وهو الحقيقة التي أخبر عنها فإن الكلام نوعان: إنشاء فيه الأمر وتأويله هو نفس الفعل المأمور به، والنوع الثاني: إخبار فيه ذكر أمور القيامة وأشراط الساعة وغير ذلك، وتأويله: عين الأمر المخبر به إذا وقع، وقد جاء اسم التأويل في القرآن في غير موضع؛ منه قوله تعالى:{هَلْ يَنْظُرُونَ} أي ينتظرون {إِلا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ} الآية، ليس تأويله فهم معناه، وإنما ذلك مجيء ما أخبر به تعالى من أمور القيامة، وأشراط الساعة، كالدابة ويأجوج ومأجوج وطلوع الشمس من مغربها، ومجيء ربك والملك صفا صفا، وما في الآخرة من الصحف، والموازين والجنة والنار، وأنواع النعيم والعذاب وغير ذلك.

ص: 60

{وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ} وقته وصفته {إِلا اللهُ (1)

(1) أي: وما يعلم تلك الحقائق، من أحوال القيامة، وغيرها إلا الله، قال تعالى:{إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ} {فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ} إلى غير ذلك من الآيات الدالة على أن ذلك التأويل، لا يعلمه وقتًا، قدرًا ونوعًا، وحقيقةً، إلا الله، وإنما نحن نعلم بعض صفاته بمبلغ علمنا.

قال الشيخ: ولم يقل في المتشابه لا يعلم تفسيره ومعناه إلا الله، وإنما قال:{وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلا اللهُ} وهذا: هو فصل الخطاب، بين المتنازعين في هذا الموضع، فإن الله أخبر أنه لا يعلم تأويله إلا هو، والوقف هنا على ما دل عليه أدلة كثيرة

وعليه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وجمهور التابعين، وجماهير الأمة ومن جعل التأويل: بمعنى التفسير، فمخطئ قطعا، وإنما نشأ في عرف كثير من المتأخرين، بصرف اللفظ عن الاحتمال الراجح إلى الاحتمال المرجوح، قال: وهذا الاصطلاح لم يكن يعرف في عهد الصحابة، ولا التابعين، بل ولا الأئمة الأربعة ولا كان التكلم بهذا التأويل المحدث، وهو: صرف اللفظ عن مدلوله، إلى خلاف مدلوله مدلولا عندهم.

ص: 61

وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ} (1) وَلَم يَنفِ عَنهُم عِلمَ مَعناهُ، بل قال {لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ} (2) .

(1){كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا} كما قال تعالى: {لَكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ} وقال: {وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ} ولابن مردويه، من حديث عمرو بن شعيب: أن القرآن لم ينزل، ليكذب بعضه بعضا فما عرفتم منه فاعملوا به، وما تشابه منه فآمنوا به، وللحاكم من حديث ابن مسعود: واعملوا بمحكمه، وآمنوا بمتشابهه، وقولوا آمنا به كل من عند ربنا.

(2)

أي: ولم ينف عن الراسخين في العلم، علم معاني القرآن وتفسيره بل قال:{كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ} وهذا يعم الآيات المحكمات، والآيات المتشابهات وما لا يعقل له معنى لا يتدبر وقال:{أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ} ولم يستثن

شيئا منه نهى عن تدبره، بل ذم من لا يتعقله ولا يتفقهه، ولا يتدبره، فقال:{وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ} {وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ} والله ورسوله: إنما ذم من اتبع المتشابه، ابتغاء تأويله، فأما من تدبر المحكم، والمتشابه كما أمره الله، وطلب فهمه ومعرفة معناه، فلم يذمه الله، بل أمر بذلك، ومدح عليه، وأخبر أنه إنما أنزل القرآن ليعلم، ويفهم ويفقه، ويتدبر، ويتفكر فيه، محكمه ومتشابهه.

ولم يمتنع أحد من الصحابة، ولا التابعين، عن تفسير آية من كتاب الله، وقال هذه من المتشابه، الذي لا يعلم معناه، ولا قال قط أحد من سلف الأمة، ولا من الأئمة المتبوعين: إن في القرآن آيات لا يعلم معناها، ولا يفهمها رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أهل العلم والإيمان جميعهم، وإنما قد ينفون علم بعض ذلك عن بعض الناس وهذا لا ريب فيه.

وذكر أن المسلمين: متفقون على أن جميع القرآن، مما يمكن العلماء معرفة معانيه، وأن من قال: إن من القرآن كلاما لا يفهم أحد معناه ولا يعرف معناه إلا الله، فإنه مخالف لإجماع الأمة مع مخالفته للكتاب والسنة.

ص: 62

قال شَيخُ الإِسلامِ، وثَبَتَ أَنَّ اتِّباعَ الْمُتشابِهِ ليس في خصوص الصفات (1) .

(1) لما تقدم في الصحيح، من حديث عائشة «إذا رأيتم الذين يتبعون ما تشابه منه» ، وقصة صبيغ وغيرها، وقوله تعالى:{وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلا اللهُ} إما أن يكون الضمير عائدا على الكتاب أو على المتشابه، فإن كان عائدا على الكتاب، فيصح أن جميع آيات الكتاب المحكمة، والمتشابهة التي فيها إخبار عن الغيب، الذي أمرنا أن نؤمن به، لا يعلم حقيقة ذلك الغيب، ومتى يقع، إلا الله، وقد يستدل لهذا: أن الله جعل التأويل للكتاب كله، مع إخباره أنه مفصل وتقدم وإن كان عائدا إلى ما تشابه منه، فلأن المخبر به من الوعد والوعيد، ونحوه متشابه قال: وما أحسن ما يعاد التأويل إلى القرآن كله، وقال:{بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ} ففرق بين الإحاطة بعلمه وبين إتيان تأويله، فتبين: أنه يمكن أن يحيط أهل العلم والإيمان بعلمه، ولما يأتهم تأويله، فإن الإحاطة بعلمه: معرفة معاني الكلام على التمام، وإتيان التأويل: نفس وقوع المخبر به، فظهر: أن المتشابه ليس في خصوص الصفات.

ص: 63

ولا أَعلَمُ أنَّ أحداً مِنَ السَّلفِ، جَعَلَها من المتشابه الداخل في هذه الآية (1) .

(1) وقال: أما إدخال أسماء الله وصفاته، أو بعض ذلك في المتشابه، الذي لا يعلم تأويله إلا الله، واعتقاد أن ذلك هو المتشابه الذي استأثر الله بعلم تأويله، كما يقول كل واحد من القولين، طوائف من أصحابنا، وغيرهم فإنهم وإن أصابوا في كثير مما يقولون، ونجوا من بدع وقع فيها غيرهم.

فالكلام على هذا من وجهين، الأول: من قال إن هذا من المتشابه، وأنه لا يفهم معناه، فنقول أما الدليل على ذلك، فإني ما أعلم عن أحد من سلف الأمة ولا من الأئمة، لا أحمد بن حنبل، ولا غيره، جعل ذلك من المتشابه الداخل في هذه الآية، ونفى أن يعلم أحد معناه، وجعلوا أسماء الله وصفاته، بمنزلة الكلام الأعجمي الذي لا يفهم، ولا قالوا: إن الله ينزل كلاما لا يفهم أحد معناه، وإنما قالوا: كلمات لها معان صحيحة، قالوا في أحاديث الصفات: تمر كما جاءت، ونهوا عن تأويلات الجهمية التي مضمونها: تعطيل النصوص عما دلت عليه وردوها وأبطلوها ونصوص أحمد والأئمة بينة في أنهم كانوا يبطلون تأويلات الجهمية ويقرون النصوص على ما دلت عليه، من معناها، ويفهمون منها بعض ما دلت عليه، كما يفهمون ذلك في سائر نصوص الوعد والوعيد، والفضائل وغير ذلك.

قال: والدليل على أن هذا ليس بمتشابه، لا يعلم معناه، أن نقول: لا ريب أن الله سمى نفسه في القرآن بأسماء، مثل الرحمن والودود، والعزيز، والجبار، والعليم، والقدير والرءوف، ونحو ذلك، ووصف نفسه بصفات، مثل: سورة الإخلاص وآية الكرسي وأول الحديد، وآخر الحشر، وقوله:{إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} و {عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} وأنه {يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} ويرضى عن الذين آمنوا، و {اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ}

{مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ} {وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي} إلى أمثال ذلك، فيقال لمن ادعى في هذا، أنه متشابه، لا يعلم معناه، أتقول هذا في جميع ما سمى الله، ووصف به نفسه، أم في البعض؟ فإن قلت هذا في الجميع، كان هذا عنادا ظاهرا، وجحدا لما يعلم بالاضطرار من دين الإسلام، بل كفر صريح، فإنا نفهم من قوله:{إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} معنى ونفهم من قوله: {إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} معنى ليس هو الأول ونفهم من قوله: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ} معنى ونفهم من قوله: {إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ} معنى، وصبيان المسلمين، بل كل عاقل يفهم هذا.

قال: ومن أقر بفهم بعض معنى هذه الأسماء والصفات، دون بعض فما الفرق بين ما أثبته وبين ما نفاه، من جهة السمع؟ بأن أحد النصين دال دلالة قطعية، أو ظاهرة، بخلاف الآخر، أو من جهة العقل، بأن أحد المعنيين يجوز، أو يجب إثباته دون الآخر، وكلاهما باطل، في أكثر المواضع.

قال: ونكتة الكلام: أن غالب من نفى، وأثبت شيئا، مما دل عليه الكتاب والسنة، لا بد أن يثبت الشيء لقيام المقتضى وانتفاء المانع، وينفي الشيء لوجود المانع، أو لعدم المقتضى فيبين له أن المقتضى فيما نفاه، قائم كما أنه فيما أثبته قائم، إما من كل وجه، أو من وجه يجب به الإثبات، وإما المانع فيبين

أن المانع الذي يتخيله فيما نفاه، من جنس المانع الذي تخيله فيما أثبته، وعليه أن يسوي بين الأمرين في الإثبات والنفي.

قال: وما أعلم أحد من الخارجين، عن الكتاب والسنة، من جميع فرسان الكلام، والفلسفة، إلا ولا بد أن يتناقض، فيحيل ما أوجب نظيره، ويوجب ما أحال نظيره، إذ كلامهم من عند غير الله، والصواب: ما عليه أئمة الهدى، وهو: أن يوصف الله بما وصف به نفسه، أو وصفه به رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يتجاوز القرآن، والحديث ويتبع في ذلك سبيل السلف الماضيين، أهل العلم والإيمان، والمعاني المفهومة من الكتاب والسنة، لا ترد بالشبهات فتكون من باب تحريف الكلم عن مواضعه، ولا يعرض عنها فيكون من باب {الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا} ولا يترك تدبر القرآن، فيكون من باب الذين {لا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلا أَمَانِيَّ} فهذا أحد الوجهين، وهو: منع أن تكون من المتشابه.

والوجه الثاني: إذا قيل هذه من المتشابه، أو كان فيها ما هو من المتشابه، كما نقل عن بعض الأئمة، أنه سمى بعض ما استدل به الجهمية متشابها، فيقال: الذي في القرآن، أنه لا يعلم تأويله إلا الله، إما المتشابه، وإما الكتاب كله ونفي علم تأويله ليس نفي علم معناه، كما تقدم في القيامة، وأمور القيامة وهذا الوجه قوي إن ثبت حديث وفد نجران، ويؤيده، أنه قد ثبت أن في القرآن متشابها، وهو ما يحتمل معنيين وفي مسائل

الصفات، ما هو من هذا الباب، كما أن ذلك في مسائل المعاد، وأولى، فإن نفي المتشابه بين الله وبين خلقه، أعظم من نفي المتشابه بين موعود الجنة وموجود الدنيا.

وإنما نكتة الجواب، هو ما تقدم أن نفي علم التأويل ليس نفيا لعلم المعنى، وذكر أن الله حظ على تدبره، وتفقه وتعقله والتذكر به، والتفكر فيه، وأنه تعالى لم يستثن من ذلك شيئا بل نصوص متعددة، تصرح بالعموم، وأن السلف من الصحابة والتابعين، وسائر الأمة، قد تكلموا في جميع نصوص القرآن آيات الصفات وغيرها، وفسروها بما يوافق دلالتها، ورووا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أحادث كثيرة توافق القرآن وأئمة الصحابة في هذا أعظم من غيرهم.

وكذلك الأئمة كانوا إذا سئلوا عن شيء من ذلك لم ينفوا معناه بل يثبتون المعنى وينفون الكيفية كقول مالك لما سئل عن قوله: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} قال: الاستواء معلوم والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة وقد تلقى الناس هذا الكلام بالقبول، فليس في أهل السنة من ينكره، وقد بين أن الاستواء معلوم، ولكن الكيفية لا تعلم، ولا يجوز السؤال عنها، لا يقال: كيف استوى ولم ينف إلا العلم بكيفية الاستواء، لا العلم بنفس الاستواء وهذا شأن جميع ما وصف الله به نفسه،

ولو قيل: كيف كلم موسى؟ قلنا: التكليم معلوم، والكيف غير معلوم؛ قال: ثم السلف متفقون على تفسيره، بما هو مذهب أهل السنة قال بعضهم: استوى على العرش ارتفع، علا على العرش، وأما التأويلات المحرفة، مثل استولى، وغير ذلك فهي من التأويلات المبتدعة.

ص: 64

وعِندَهُم قِراءَتُها تَفسيرُها (1) وتُمَرُّ كَما جاءَت دَالَّةٌ على ما فِيها مِنْ الْمَعانِي، لا تُحَرَّف، ولا يلحد فيها (2) .

(1) أي: وعند السلف، قراءة الآيات، الواردة في الأسماء والصفات، هي تفسيرها فتعلم الذات المقدسة، والصفات المعظمة، من حيث الجملة، على الوجه الذي يليق بجلال الله وعظمته ويفهم من قراءتها، معنى ما دلت عليه، وتعتقد حقيقة لا مجازا.

(2)

أي: وتمر آيات الأسماء والصفات وتجري على ظاهرها، وتقر كما جاء في كتاب الله، دالة على ما فيها، من معاني صفات الكمال، ونعوت الجلال لا تحرف أي: لا تبدل ولا تؤول على غير المراد ولا يلحد أي: لا يميل أحد عن الاستقامة في معانيها وإذا قال السلف: أمروها كما جاءت بلا كيف، فإنما نفوا علم الكيفية، ولم ينفوا علم حقائق الأسماء والصفات.

قال الشيخ: وقد جمع أهل العلم، من أهل الحديث، والفقه والكلام والتصوف، آيات الصفات، وأحاديثها وتكلموا في إثبات معانيها، وتقرير صفات الله التي دلت عليها تلك النصوص لما ابتدعت الجهمية جحد ذلك والتكذيب له، قال: وكل من علم ما جاءت به الرسل، وما يقوله هؤلاء علم أنهم: في غاية المشاقة والمحادة والمحاربة لله ورسله، تأولوا كتاب الله على غير تأويله، فحرفوا الكلم عن مواضعه وألحدوا في أسماء الله وآياته، بحيث حملوها على ما يعلم بالاضطرار أنه خلاف مراد الله ورسوله، كما فعل إخوانهم القرامطة والباطنية.

ص: 69

وكل ظاهر: ترك ظاهره لِمُعارِضٍ رَاجِحٍ، كَتَخصيصِ العامِّ وتَقييدِ الْمُطلَقِ، فَإنَّهُ مُتشابِهٌ، لاحتِمالِهِ مَعنَيَينِ (1) وكذا الْمُجمَلُ وإحكامُهُ رَفعُ ما يتوهم فيه من المعنى الذي ليس بمراد (2) .

(1) العام: كل لفظ يستغرق الصالح له، من غير حصر، ويأتي تخصيصه متصلا ومنفصلا وتقييد المطلق، كالعام مع الخاص، ومتى وجد دليل على تقييد المطلق، صير إليه والتخصيص والتقييد متشابه، لاحتماله معنيين، فالأول كـ {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ} قد يخص غير المكلف، والثاني نحو {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} وأطلق الشهادة في البيوع.

(2)

أي: وكذا المجمل، وهو: ما لم تتضح دلالته فإنه متشابه نحو {وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ} فإنه موضوع، لأقبل وأدبر وكقوله {ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} ، {وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ} ، {وَلا تَعْضُلُوهُنَّ} ، {يُلْقُونَ السَّمْعَ} ومنه: احتمال العطف

والتقديم والتأخير، وإحكام المتشابه، رفع ما يتوهم فيه، من المعنى الذي ليس بمراد.

ومن المجمل، ما يقع إحكامه متصلا نحو {مِنَ الْفَجْرِ} بعد قوله:{الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ} ومنفصلا في آية أخرى نحو {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} بعد قوله: {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ} .

ص: 70

التأويل (1)

التَّأويلُ فِي القُرآنِ: نَفسُ وُقوعِ الْمُخبَرِ بِهِ (2)

(1) أي: ذكر حكم التأويل، في لغة القرآن، وعند السلف والمتأخرين من أهل الكلام وغيرهم، قال الشيخ: التأويل: مصدر، أوله يؤوله تأويلا، مثل حول تحويلا، وعول تعويلا، وأول يئول تعدية آل، يئول أولاً وقولهم آل يئول أي: عاد إلى كذا ورجع إليه، ومنه المآل وهو: ما يئول إليه الشيء قال: فتأويل الكلام، ما أوله إليه المتكلم، أو ما يئول إليه الكلام، أو ما تأول المتكلم ومطلقا: نفس المراد بالكلام؛ وفي النهاية: من آل الشيء إلى كذا رجع وصار إليه.

(2)

أي: التأويل في لغة القرآن: هو نفس وقوع المخبر به، لا يعلم حقيقته إلا الله عز وجل، وإنما نعلم بعض صفاته بمبلغ علمنا قال تعالى:{وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلا اللهُ} فأخبر تعالى: أنه لا يعلم تأويله إلا هو جل وعلا، وقد جاء في غير موضع، منه قوله تعالى {وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ * هَلْ يَنْظُرُونَ إِلا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ} وذلك مجيء ما

أخبر القرآن بوقوعه من القيامة، وأشراطها، وما فيها من الصحف والموازين والجنة والنار، وأنواع النعيم، والعذاب وغير ذلك فهذا ونحوه، لا يعلم وقته، وصفته إلا الله عز وجل قال تعالى:{يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي} وكذا قوله: {بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ} وغير ذلك فتأويل الأخبار عين المخبر به إذا وقع.

وقال الشيخ: فالتأويل فيه، نفس الأمور الموجودة في الخارج، سواء كانت ماضية أو مستقبلة فإذا قيل: طلعت الشمس فتأويل هذا، نفس طلوعها هذا هو لغة القرآن التي نزل بها وأما تأويل الأمر، فهو: نفس الفعل المأمور به، كما قالت عائشة رضي الله عنها: كان يقول في ركوعه وسجوده سبحانك اللهم وبحمدك، اللهم اغفر لي يتأول القرآن.

قال: والتأويل في سورة يوسف، تأويل أحاديث الرؤيا والتأويل في الأعراف، ويونس تأويل القرآن، وفي قصة موسى، وصاحبه، تأويل الأفعال التي فعلها لعالم من خرق السفينة وقتل الغلام، وإقامة الجدار.

ص: 72

وعند السلف: تفسير الكلام وبيان معناه (1) .

(1) مع أنه عندهم مطلقا، نفس المراد بالكلام، ولهذا كان ابن جرير، يقول في تفسيره القول في تأويل قوله تعالى، واختلف أهل التأويل، في هذه الآية ونحو ذلك ومراده التفسير وقال أبو عبيد وطائفة هما بمعنى.

وقال الشيخ: التأويل في لفظ السلف له معنيان أحدهما: تفسير الكلام، وبيان معناه، سواء وافق ظاهره، أو خالفه، فيكون التأويل، والتفسير، عند هؤلاء متقاربا، أو مترادفا، والمعنى الثاني: هو نفس التأويل، المراد بالكلام فالأول فيه من باب العلم والكلام، كالتفسير، والشرح والإيضاح ويكون وجود التأويل، في القلب واللسان له الوجود الذهني واللفظي والرسمي والثاني: التأويل فيه، نفس الأمور الموجودة في الخارج.

ص: 73

وَعِندَ الْمُتَأَخِّرينَ مِن الْمُتَكَلِّمَةِ والْمُتَفَقِّهَةِ ونَحوِهِم هُوَ: صَرفُ اللفظِ عَنِ الْمَعنَى الرَّاجِحِ إِلَى الْمَعنَى المرجوح، لدليل يقترن به (1) .

(1) قال الشيخ: وهذا هو التأويل، الذي يتكلمون عليه في أصول الفقه ومسائل الخلاف، فإذا قال أحد منهم: هذا النص مؤول أو هو محمول على كذا، قال الآخر: هذا نوع تأويل، والتأويل يحتاج إلى دليل، هذا هو التأويل، الذي يتنازعون فيه في مسائل الصفات، إذا صنف بعضهم، في إبطال التأويل أو ذم التأويل، أو قال بعضهم: آيات الصفات لا تؤول وقال الآخر يجب تأويلها وقال الثالث: بل التأويل جائز يفعل عند المصلحة، ويترك عند المصلحة، أو يصح للعلماء، دون غيرهم إلى غير ذلك من المقالات والتنازع.

وبسبب الاشتراك في لفظ التأويل بين ما عناه الله في كتابه

وبين ما كان يطلقه كثير من السلف، وبين اصطلاح كثير من المتأخرين، اعتقد كل من فهم منه معنى بلغته، أن ذلك هو المذكور في القرآن.

ص: 74

أو حمل ظاهر، على محتمل مرجوح (1) .

ما تأوله القرامطة، والباطنية، للأخبار، والأوامر (2) .

(1) أي: والتأويل عند المتأخرين، من المتكلمة، وغيرهم، حمل ظاهر من نص على محتمل مرجوح، وكذا قاله الشيخ، وغيره من الأصحاب، والشافعية، وغيرهم، قال ولا يجوز أن يقال: إن هذا اللفظ متأول، بمعنى أنه مصروف عن الاحتمال الراجح، إلى المعنى المرجوح.

(2)

أي: ومن التأويل الباطل، ما تأوله المخالفون للرسل، ومنهم القرامطة، والباطنية والمؤولون، للأخبار، والأوامر، وهو بلا مرية، من تحريف الكلم عن مواضعه، وقال: مثل ما يدعيه، الباطنية والقرامطة، من الإسماعيلية، والنصيرية، وأمثالهم ومن وافقهم من الفلاسفة، وغلاة المتصوفة، والمتكلمين وشر هؤلاء القرامطة ومبدأ حدوثهم: سنة عشرين ومائتين، فإنهم يدعون، أن للقرآن باطنًا يخالف الظاهر، فيقولون: الصلاة المأمور بها، ليست هذه إنما يؤمر بها العامة، وأما الخاصة: فالصلاة في حقهم معرفة أسرارنا، وجبريل هو العقل الفعال الذي تفيض منه الموجودات وأمثال هذه الأمور.

وقد دخل في كثير من أقوالهم، كثير من المتكلمين والمتصوفين وباطنيتهم يقولون: في قوله: {اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ} إنه القلب وممن سلك ذلك صاحب الأنوار وباطنية الفلاسفة، يفسرون الملائكة، بقوي النفس، ومنهم من يفسر القرآن بما يوافق باطنهم الباطل كقوله:{مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ} هي التي خطت بهم فغرقوا في بحار العلم بالله، وقولهم: إن العذاب مشتق من العذوبة، وأمثال هذه التأويلات، والتفسيرات التي يعلم كل مؤمن أنها مخالفة لما جاءت به الرسل.

ص: 75

والفَلاسِفَةُ للأَخبارِ عَنِ اللهِ، واليومِ الآخرِ (1) والجَهمِيَّةُ، والْمُعتَزِلَةُ وغَيرُهُم في بَعضِ ما جاء في اليوم الآخِرِ، وَفي آياتِ القَدَرِ، وآياتِ الصِّفاتِ، هو من تحريف الكلم عن مواضعه (2) .

(1) أي: وما تأوله الفلاسفة للإخبار عن الله كتأويلهم الـ {أَحَدًا} أنه: الذي لا يتميز منه شيء عن شيء و {الْيَوْمِ الآخِرِ} أنه تخييلات للحقائق، ونحو ذلك مما هو صرف للآيات عن ظاهرها.

(2)

أي: وما تأوله الجهمية، والمعتزلة وغيرهم في بعض ما جاء في اليوم الآخر كزعمهم في بعث الأجساد ورد الأرواح إلى الأبدان، ووجود الجنة والنار، بأنها أمثلة ضربت للعوام، ليفهموا الثواب والعقاب، الروحانيين، وأن الله لم يقدر الأقدار ولم يتقدم علمه بها، وإنما يعلمها بعد وقوعها وكتأويل الاستواء بالاستيلاء، واليد: بالنعمة وغير ذلك بما هو من تحريف الكلم عن مواضعه.

والتحريف، هو العدول، بالمعنى عن وجهه، وحقيقته، وإعطاء اللفظ معنى لفظ آخر، بقدر مشترك بينهما، وأما تحريف اللفظ، فهو: العدول عن جهته إلى غيرها، إما بزيادة أو نقصان، أو حركة.

ص: 76

قال الشيخ: وطوائف من السلف، أخطئوا في معنى التأويل المنفي وفي الذي أثبتوه (1) .

(1) الشيخ: هو شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم، بن عبد السلام بن عبد الله بن الخضر بن محمد بن الخضر، بن علي، بن عبد الله بن تيمية، الحراني، العالم الرباني، مفتي الأمة بحر العلوم قامع البدع، صاحب المصنفات المؤيدة بالكتاب والسنة وما عليه سلف الأمة.

وإذا أطلق الشيخ، أو شيخ الإسلام، فهو المعني، رحمه الله فإنه أكبر آيات الله في خلقه، أيد الله به كتابه، وسنة نبيه وما كان عليه السلف، وما ذاك إلا لما جمع الله له، من العلوم النقلية والعقلية الشرعية، والتأريخية، والفلسفية ومن الإحاطة بمذاهب أهل الملل، والنحل، وآراء أهل المذاهب، ومقالات الفرق، حفظا وفهما لم يعهد عن أحد من علماء الأرض قبله، ولا بعده، ولما أعطي من قوة الحكم، في إحقاق الحق وإبطال الباطل، بالبراهين، العقلية، والنقلية فجزاه الله عن الإسلام والمسلمين أحسن الجزاء.

والخطأ الواقع في معنى التأويل المنفي: اعتقادهم، أن معنى التأويل، في القرآن هو: التفسير والمراد به: نفس وقوع

المخبر به، والخطأ في التأويل، الذي أثبتوه كتأويل اليد بالنعمة، والاستواء بالاستيلاء، ونحو ذلك.

قال: ومعرفة ماجاء به الرسول، وما أراده بألفاظ القرآن والحديث هو أصل العلم والإيمان والسعادة والنجاة ثم معرفة ما قاله الناس، في هذا الباب، لينظر المعاني الموافقة للرسول صلى الله عليه وسلم والمعاني المخالفة له.

ص: 77

والتَّأويلُ الْمَردودُ، هُوَ: صَرفُ الكَلِمِ عَن ظاهِرِهِ، إلى ما يخالف ظاهره (1) قال: ولم يقل أحد من السلف، ظاهر

(1) وقال ابن القيم: المعتزلة، والجهمية، وغيرهم، من المتكلمين، مرادهم بالتأويل: صرف اللفظ، عن ظاهره، وهذا هو الشائع في عرف المتأخرين، من أهل الأصول والفقه ولهذا يقولون: التأويل على خلاف الأصل، والتأويل يحتاج إلى دليل وهذا التأويل هو الذي صنف، في تسويغه، وإبطاله من الجانبين وقد حكى غير واحد إجماع السلف على عدم القول به.

وقال: التأويل شر من التعطيل، لتضمنه التشبيه، والتعطيل والتلاعب بالنصوص وإساءة الظن بها، وانتهاك حرمتها، التأويل الباطل، أنواع منها: ما لا يحتمله اللفظ أو لا يدل عليه، أو لا يؤلف استعماله فيه، وأهله هم الذين يقولون النصوص الواردة في الصفات، لم يقصد بها الرسول، أن يعتقد الناس الباطل، ولكن قصد بها معان، ولم يبين لهم ذلك، ولا دلهم عليها، ولكن أراد أن ينظروا فيعرفوا الحق بعقولهم ثم يجتهدوا في صرف تلك النصوص، عن مدلولها.

ص: 78

هذا غير مردود (1) وَلا قالَ: هَذهِ الآيَةُ، أَو هَذا الحديثُ، مَصروفٌ عَن ظاهِرِهِ (2) مَعَ أنَّهُم قَد قَالُوا مِثلَ ذلكَ، في آياتِ الأَحكامِ الْمَصروفَةِ، عَن عمومها، وظواهرها، وتكملوا فِيما يُسْتَشْكَلُ مِمَّا قَد يُتَوَهَّمُ أَنَّهُ مُتَناقِضٌ (3) .

(1) أي: لم يقل أحد من سلف الأمة، وأئمتها ظاهر هذا النص، من القرآن، أو السنة غير مراد، والظاهر في عرف السلف بحيث لا يحرف الكلم عن مواضعه، لا يلحد في أسماء الله وآياته ولا يفسر القرآن، وكذا الحديث، بما يخالف تفسير سلف الأمة، وأهل السنة بل يجري ذلك على ما اقتضته النصوص وتطابق عليه دلائل الكتاب، والسنة وأجمع عليه سلف الأمة.

(2)

حاشاهم عن ذلك، ولا قالوا مجاز يصح نفيه، بل كلام الله ورسوله حق على حقيقته.

(3)

وليس في كتاب الله، ولا سنة رسوله صلى الله عليه وسلم تناقض ولا اختلاف بل يصدق بعضه بعضا.

قال ابن القيم: لما كان وضع الكلام للدلالة على مراد المتكلم وكان مراده لا يعلم، إلا بكلامه انقسم كلامه ثلاثة أقسام أحدها: ما هو نص في مراده، لا يقبل محتملا غيره والثاني: ما هو ظاهر في مراده، وإن احتمل أن يريد غيره، والثالث: ما ليس بنص، ولا ظاهر في المراد، فهو محتمل، محتاج إلى بيان

فالأول: يستحيل دخول التأويل فيه، وهذا شأن عامة نصوص القرآن الصريحة في معناها، خصوصا آيات الصفات، والتوحيد والثاني: ما هو ظاهر في مراد المتكلم ولكنه يقبل التأويل فهذا ينظر في وروده فإن اطرد استعماله، على وجه واحد استحال تأويله، لأن التأويل، إنما يكون لموضع جاء خارجا عن نظائره، فيؤول حتى يرد إلى نظائره والثالث: الخطاب بالمجمل، الذي أحيل بيانه، على خطاب آخر فهذا أيضا: لا يجوز تأويله، إلا بالخطاب الذي بينه.

والمقصود أن الكلام الذي هو عرضة للتأويل، أن تكون له عدة معان، وليس معه ما يبين مراد المتكلم، فهذا التأويل فيه مجال واسع، وليس في كلام الله شيء من الجمل المركبة.

ص: 79

نَفْيُ الْمَجازِ (1) .

صَرَّحَ بِنَفْيِهِ الْمُحَقِّقونَ (2) ولَم يُحفَظُ عن أحد من الأئمة القول به (3) .

(1) أي: ذكر نفي المجاز، الذي لهج به المتأخرون، وجعله الملحدون سلما لنفي حقائق الكتاب، والسنة قال في القاموس، المجاز: خلاف الحقيقة، وقد صرح الناس قديما وحديثا، بأنه لا يجوز أن يتكلم الله بشيء، ويعني به خلاف ظاهره.

(2)

أي: صرح بنفي المجاز، المحققون، من أصحاب الإمام أحمد غيرهم، كابن حامد، وابن وهب، وداود بن علي، ومنذر بن سعيد، وأنكر أبو إسحاق الإسفراييني وغيره، أن يكون في اللغة مجاز بالكلية، وأنكره شيخ الإسلام، وابن القيم وبينا خطأ من ادعاه، وقال شيخنا: من ادعاه في لغة العرب، لزمه أن يقوله في كتاب الله، وإلا تناقض لنزوله بلغتهم.

(3)

وقال الشيخ: لم ينطق به السلف ونفس هذا التقسيم باطل وقال ابن القيم: لم يرد الشرع بتقسيم الكلام، إلى حقيقة ومجاز، ولا دل عليه، ولا أشار إليه وأهل اللغة لم يصرح

أحد منهم، بأن العرب قسمت لغتها إلى حقيقة ومجاز ولا قال أحد من العرب قط، هذا اللفظ حقيقة وهذا مجاز ولا وجد في كلام من نقل لغتهم عنهم مشافهة ، ولا بواسطة ذلك، ولهذا: لا يوجد في كلام الخليل، وسيبويه والفراء وأبي عمرو بن العلاء، والأصمعي وأمثالهم، كما لم يوجد ذلك في كلام رجل واحد، من الصحابة، ولا من التابعين، ولا تابعي التابعين ولا في كلام أحد من الأئمة الأربعة.

ص: 81

وإِنَّما حَدَثَ تَقسِيمُ الكَلامِ إِلى حَقيقَةٍ ومَجازٍ، بعد القرون المفضلة (1) .

(1) وقال ابن القيم: هو اصطلاح حدث، بعد القرون الثلاثة المفضلة بالنص، وكان منشأه من المعتزلة والجهمية ومن سلك سبيلهم، من المتكلمين وأشهر ضوابطهم: أن الحقيقة هي اللفظ المستعمل فيما وضع له أولا والمجاز هو اللفظ المستعمل في غير ما وضع له أولا.

قال: وتقسيمهم الألفاظ إلى حقيقة ومجاز إما أن يكون عقليا أو شرعيا أو لغويا أو اصطلاحيا والأقسام الثلاثة الأول باطلة فإن العقل لا مدخل له في دلالة اللفظ على معناه، والشرع لم يرد بهذا التقسيم، وأهل اللغة لم يصرح أحد منهم

بأن العرب قسمت لغاتها، إلى حقيقة ومجاز وإذا علم أن

تقسيم الألفاظ إلى حقيقة ومجاز ليس تقسيما شرعيا ولا عقليا ولا لغويا، فهو اصطلاح حادث محض غير منضبط

ولا مطرد ولا منعكس بل متضمن للتفريق بين المتماثلين من كل وجه.

ص: 82

فَتَذَرَّعَ بِهِ الْمُعتَزِلَةُ والجَهْمِيَّةُ إِلَى الإِلحادِ في الصفات (1) .

(1) وإبطال الحقائق، وتعطيل الألفاظ عن دلالتها على المعاني، من ذلك قولهم في قوله تعالى:{وَجَاءَ رَبُّكَ} هو من مجاز اللغة تقديره: وجاء أمر ربك وقولهم في اسمه {الرَّحْمَنِ} وصفة بالرحمة مجاز لأن الرحمة رقة تعتري القلب، وقولهم في استوائه على العرش، أنه بمعنى استولى، أو قصد أو مجمل في مجازاته وفي اليدين مجاز في النعمة، أو القدرة وفي الوجه، أي: يبقى ربك أو ثوابه وادعوه في العلو والنزول وغير ذلك من صفات الرب، جل وعلا وتقدس.

وقالوا: يمتنع حمله على الحقيقة حتى زعم ابن جني، وغيره من أهل البدع، والاعتزال: أن أكثر اللغة مجاز، وكان هو وشيخه أبو علي الجبائي، من كبار أهل البدع، المنكرين لكلام الله، في زمن قوة شوكة المعتزلة، وكانت الدولة، دولة رفض واعتزال، في عهد عضد الدولة، وكان وزيره ابن عباد معتزليا وقاضيه عبد الجبار معتزليا وتقدم أن أول من ظهر منهم تقسيم الكلام، إلى حقيقة ومجاز: المعتزلة، والجهمية.

وقد علم بالاضطرار أن الله متكلم حقيقة، فكيف يتصور دعوى المجاز في كلامه، إلا على أصول الجهمية الذين يقولون: كلام الله مخلوق، ولم يقم به كلام، وقد أطبق السلف عن تضليلهم وتكفيرهم ومن أقر أن الله تكلم بالقرآن فإنه

لا يتصور على أصله دخول المجاز في كلام الله بل كلامه تعالى حق على حقيقته، ولو احتمل أن يكون المراد به غير ظاهره، انتفى الوثوق به تعالى الله عما يقول الملحدون علوا كبيرا.

قال ابن القيم: وإذا كان ظاهر كلام الله والأصل فيه الحقيقة، لم يجز أن يحمل على مجازه، وخلاف ظاهره ألبتة، وذكر أن القائلين بالمجاز: منهم من أسرف فيه وغلا، حتى ادعى أن أكثر ألفاظ القرآن، بل أكثر اللغة مجاز، واختار هذا جماعة ممن ينتسب إلى التحقيق، والتدقيق، ولا تحقيق، ولا تدقيق، وإنما هو خروج عن سواء الطريق ومفارقة للتوفيق.

ص: 83

قالَ الشَّيخُ: وَلَم يَتَكَلَّمِ الرَّبُّ بِهِ، ولا رَسُولُهُ، ولا أَصحابُهُ، ولا التَّابِعون لَهُم بِإحسانٍ (1) ومَن تَكَلَّمَ بهِ مِن أَهلِ اللغَةِ، يَقُولُ في بَعضِ الآياتِ: هذا مِنْ مَجازِ اللغَةِ: ومُرادُهُ: أَنَّ هذا مِمَّا يَجوزُ في اللغَةِ (2) .

(1) وليس لمن فارق بينهما حد صحيح يميز به بين هذا، وهذا وهو تقسيم من لم يتصور ما يقول، بل يتكلم بلا علم، ولهذا كان كل ما يذكرونه من الفروق، يبين أنها فروق باطلة وكلما ذكر بعض المتأخرين فرقا أبطله الآخر.

(2)

أي: يسوغ ويمكن من جاز جوازا ومجازا أي: هذا غير ممنوع في اللغة.

ص: 84

لم يُرِدْ هذا التَّقسيمُ الحادثِ (1) لا سِيَّما وقد قالُوا: إنَّ الْمَجازَ يَصِحُّ نَفْيُهُ فَكَيفَ يَصِحُّ حَملُ الآياتِ القُرآنِيَّةِ على مِثلِ ذلك (2) وَلا يهولنك إطباق المتأخرين عليه (3) فإنهم قد أطبقوا على ما هو شر منه (4) .

(1) أي: لم يرد هذا التقسيم،، الذي قسمه المتأخرون، الحادث بعد القرون المفضلة.

(2)

أي: على جواز نفي الحقائق، بل لا يجوز أن تسمى أدلة القرآن ظواهر لفظية، ومجازات فإن هذه التسمية: تسقط حرمتها من القلوب، ولا سيما إذا أضافوا إلى ذلك، تسمية شبه المتكلمين والفلاسفة قواطع عقلية.

(3)

الهائل المفزع، من الأمور، أي لا يفزعنك، ويعظم عليك اتفاق المتأخرين بعد القرون المفضلة، على القول بالمجاز في كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.

(4)

أي: شر من القول بالمجاز، فقد أطبق الأكثر على دعاء الأنبياء، والصالحين، وغيرهم، مع الله، باسم الوسائل واتخذوا أحبارهم، ورهبانهم أرباب، من دون الله واستباحوا المحرمات وتنقصوا من تمسك بالكتاب والسنة فالله المستعان.

ص: 85

وَذَكَرَ ابنُ القَيِّمِ: خَمسِينَ وَجهاً في بُطلانِ القول بالمجاز (1) . وكلام الله،

(1) ابن القيم: هو شمس الدين، أبو عبد الله، محمد بن أبي بكر بن أيوب، الزرعي، المعروف بابن قيم الجوزية، العالم الرباني، طبق ذكره الخافقين، أخذ عن شيخ الإسلام وغيره، وقام هو، وشيخه أتم قيام في إزالة البدع، وكانا من آيات الله، ونعمه العظمى، حفظ بهما دينه، لما اشتدت مناواة الإسلام، حتى عظمت بلية مدعية المجاز، توفي رحمه الله سنة إحدى وخمسين وسبعمائة.

-قال قدس روحه-، في الصواعق المرسلة، في الرد على الجهمية، والمعطلة: فصل في كسر الطاغوت، الذي وضعته الجهمية لتعطيل حقائق الأسماء، والصفات، وهو طاغوت المجازت، هذا الطاغوت، لهج به المتأخرون، والتجأ إليه المعطلون وجعلوه جنة يتترسون به، من سهام الراشقين ويصدون به عن الوحي المبين، ذكر خمسين وجها، في إبطاله، منها: أنه قول مبتدع، وأن تقسيم الكلام، إلى حقيق ومجاز، تقسيم فاسد وتحكم محض، ولا يستلزم وجوده، وأن دعواه: تستلزم، وضعا قبل الاستعمال، وكلام الله ليس له وضع سابق على الاستعمال فلا تتصور فيه دعوى المجاز.

وعد منها ما يثلج الصدر، وذكر شيئا من فروقهم، بين الحقيقة والمجاز، ثم قال: ولهذا قالت الجهمية المعطلة، في الصفات، إنها مجازات في حق الرب لا حقائق لها وهذا هو الذي

حدانا، على تحقيق القول في المجاز، فإن أربابه: ليس لهم فيه ضابط مطرد ولامنعكس وهم متناقضون غاية التناقض خارجون عن اللغة والشرع، وحكم العقل، إلى اصطلاح فاسد، قال وقد صرح غلاتهم بإنكار معانيها باكلية ويقولون هي ألفاظ لا معاني لها.

وقال أيضا: وتكون عندهم حقيقة للمخلوق، مجازا للخالق وهذا: من أبطل الأقوال، وأعظمها تعطيلا، وقد التزمه معطلوهم فلا يكون عندهم رب العالمين موجودا حقيقة ولا ملكا حقيقة، ولا ربا حقيقة، وكفى أصحاب هذه المقالة بها كفرا وهذا القول: لازم لكل من ادعى المجاز، في شيء من أسماء الرب، وأفعاله لزوما لا محيص لهم عنه

ص: 86

وكلام رسوله منزه عن ذلك (1) .

(1) أي: عن المجاز، وتقدم أنه حق، وأن القرآن كلام الله حقيقة، حروفه، ومعانيه، وأن السلف الصالح، مجمعون على ذلك أن من قال خلاف ذلك فمبتدع ضال.

ص: 87

الإعجاز (1)

الْمُعجِزَةُ أَمرٌ خارِقٌ للعادَةِ، مَقرونٌ بالتَّحَدِّي (2) سَالِمٌ عن المعارضة (3) والقرآن معجز أبدا (4) .

(1) أي ذكر إعجاز القرآن، وهو أعظم معجزات نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ولا نزاع بين العقلاء: أن كتاب الله معجز، لم يقدر أحد على معارضته وقال تعالى:{وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللهِ} فلولا أن سماعه حجة عليه، لم يقف أمره على سماعه ولا يكون حجة، إلا وهو معجزة وقال تعالى:{أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ} فأخبر تعالى: أنه كاف في الدلالة، قائم مقام معجزات غيره، من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، حيث ثبت كونه معجزة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وجب الاهتمام بمعرفة إعجازه.

(2)

أي: المعجزة المتحدي بها، أمر من الأمور المهولة خارق للعادة المألوفة مما يعتاده الإنسان مخالف مقتضاها.

(3)

يعجز البشر، أن يأتوا بمثله، يقال: عارضة بمثل صنيعه وأتى إليه بمثل ما أتى وناقض كلامه وقاومه وباراه.

(4)

أي: والقرآن العزيز، معجز أبدا إلى يوم القيامة وكان أكثر معجزات الانبياء قبل محمد صلى الله عليه وسلم حسية انقرضت بانقراض أعصارهم فلم يشاهدها إلا من حضرها، ومعجزة هذه الأمة عقلية باقية على صفحات الدهر، لبقاء هذه الشريعة، فلا يمر عصر من الأعصار، إلا وكتاب الله، آية من آيات الله، يظهر شيء مما أخبر به، أنه سيكون يراه أولو البصائر دال على صحته إلى يوم القيامة.

وفي الصحيح: «ما من نبي إلا أعطي ما مثله آمن عليه البشر وإنما كان الذي أوتيته وحيا أوحاه الله إلي فأرجو أن أكون أكثرهم تابعا» .

ص: 88

أَعجَزَ الفُصحاءَ مَعَ حِرصِهِم على مُعارَضَتِهِ (1) وقَد تحداهم تَعالَى على أن يَأتُوا بِحديثٍ مِثلِهِ أو عشر سور أو سورة (2) .

(1) أي: أعجز القرآن الفصحاء على أن يأتوا بمثله، مع حرصهم علىمعارضته وإطفاء نوره وإخفاء أمره، ولو كان في مقدرتهم معارضته لصالوا بها قطعا للحجة، ولم ينقل عن أحد منهم أنه حدث نفسه، بشيء من ذلك، ولا رامه بل عدلوا إلى العناد والاستهزاء.

(2)

أي: وقد تحدى تعالى العرب، وكانوا أفصح الفصاء ومصاقع الخطباء على أن يأتوا بحديث مثل القرآن كما قال تعالى:{فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ} ثم تحداهم بعشر سور منه، كما في قوله تعالى:{أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللهِ} ثم تحداهم بسورة كما قال تعالى: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ} {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ} فلما عجزوا عن معارضته والإتيان بسورة تشبهه، على كثرة الخطباء فيهم، والبلغاء، والحرص على المعارضة نادى عليهم بإظهار العجز، وإعجاز القرآن فقال:{قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} .

ص: 89

وَذَكَرَ العُلَماءُ وُجوهاً مِن إعجازِهِ، مِنها: أُسلُوبُهُ، وبلاغته (1) وبيانه وفصاحته (2) .

(1) أي: وقد ذكر العلماء رحمهم الله تعالى، وجوها كثيرة من دلائل إعجازه وما بلغوا عشر معشارها، منها: أسلوبه الغريب، المخالف لأساليب كلام العرب، مع قوة فصاحتها، من دليل إعجازه أيضا: بلاغته، الخارقة لعادة العرب، الذين هم فرسان الكلام وارباب هذا الشأن وكل واحد من هذين النوعين الأسلوب الغريب بذاته، والبلاغة الخارقة بذاتها نوع إعجاز لم تقدر العرب على الإتيان بواحد منها، إذ كل واحد منها خارج عن قدرتها مباين لفصاحتها وقال بعضهم الإيجاز مع البلاغة والإيجاز والإطناب من أعظم أنواع البلاغة.

(2)

أي: ومن وجوه إعجازه: بديعه الباهر، وبيانه الظاهر الذي هو في أعلى درجات البيان وفصاحته التي هي في الغاية،

القصوى من الفصاحة واستمرارها فيه، من جميع أنحائها في جميعه، استمرارًا ظاهرًا لا يوجد له فترة ولا يقدر عليه أحد من البشر وبذلك قامت الحجة على العالم بالعرب إذ كانوا ارباب الفصاحة ومظنة المعارضة وقال بعضهم: وجه الإعجاز الفصاحة وغرابة الأسلوب، والسلامة من جميع العيوب.

ص: 90

وحُسنُ تألِيفِهِ (1) وإِخبارُهُ عَنِ الْمُغَيَّباتِ (2) والرَّوعَةُ في قلوب السامعين وغير ذلك (3) .

(1) أي: ومن وجوه إعجازه: حسن تأليفه ومخالفته لنظم ما عداه والبليغ إذا قرع سمعه فصل بينه وبين ما عداه من النظم ونبه تعالى: على أن تأليفه، ليس على هيئة ما يتعاطاه البشر، فقال تعالى:{وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ * لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} .

(2)

أي: ومن وجوه إعجازه أيضا: ما فيه من الإخبار، عن المغيبات المستقبلة، ولم يكن ذلك من شأن العرب، وما تضمنه أيضا من قصص الأولين، وسائر المتقدمين، حكاية من شاهدها، وحضرها وما تضمنه أيضا: من الإخبار عن الضمائر كقوله: {إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ} ، {وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ} وغير ذلك.

(3)

أي: وذكر بعضهم من وجوه إعجازه: الروعة التي تلحق قلوب سامعيه، عند سماعه والتأثير في نفوسهم والهيبة التي

تعتريهم عند تلاوته بل لا تستمع كلاما غير القرآن إذا قرع سمعك خلص إلى قلبك من اللذة والحلاوة ما يخلص منه إليه قال تعالى: {لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللهِ} وقال: {تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللهِ} .

ومنها: كون سامعه، لا يمله، وكونه لم يزل، ولا يزال غضا طريا، في أسماع السامعين، وعلى ألسنة القارئين.

ومنها: جمعه بين الجزالة، والعذوبة كونه آخر الكتب، غنيا عن غيره وذكروا غير ذلك، من وجوه إعجازه، لما اشتمل عليه، من التركيب المعجز، الذي تحدى به الجن والإنس، والمعاني الصحيحة، الكاملة التي هي من أعظم التحدي عند كثير من العلماء.

وذكر الشيخ، وغيره أن الحروف المقطعة في أوائل السور، إنما ذكرت بيانا لإعجاز القرآن، وأن الخلق عاجزون عن معارضته بمثله مع أنه مركب من هذه الحروف المقطعة التي يتخاطبون بها، قال الزمخشري: ولم ترد كلها مجموعة في أول القرآن، وإنما كررت ليكون أبلغ في التحدي، والتبكيت، كما كررت قصص كثيرة، وكرر التحدي بالصريح في أماكن، قال ابن كثير: ولهذا كل سورة افتتحت بالحروف فلا بد أن يذكر فيها الانتصار للقرآن وبيان إعجازه وعظمته.

قال الشيخ: فالقرآن معجز بلفظه، ونظمه ومعناه وإعجازه

يعلم من طريقين: إجمالي وتفصيلي، أما الإجمالي فهو أنه: قد علم بالتواتر أنه صلى الله عليه وسلم ادعى النبوة، وجاء بهذا القرآن وأن في القرآن آيات التحدي، والتعجيز وأخبر: أن جميع الإنس والجن، لو اجتمعوا لا يأتون بمثله، ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا.

وعلم أنهم كانوا يعارضونه، ولم يأتوا بسورة من مثله، وذلك يدل على عجزهم عن معارضته لأن الإرادة الجازمة، لا يتخلف عنها الفعل مع القدرة وقد علم بالتواتر، أنهم أشد الناس حرصا ورغبة، على إقامة حجة يكذبونه بها قال: وأما الطرق فكثيرة جدا، متنوعة من وجوه، وليس كما يظنه بعض الناس، أن معجزته من جهة صرف الدواعي، عن معارضته أي: حتى إن من ظهور إعجازه مع شدة حرص البلغاء، على إخفاء أمره، أن قال الوليد، وكان أحد رؤساء قريش ويسمى ريحانة قريش، وكانوا سألوه عما يقول في القرآن، قبل أن يفكر ويقدر.

كما ذكره الله عنه، وكان جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقرأ عليه القرآن، فكأنه رق له، فبلغ ذلك أبا جهل، فأتاه كما ذكره أهل التفسير وغيرهم فقال: يا عم، إن قومك يريدون أن يجمعوا لك مالا، ليعطوكه، لئلا تأتي محمدا لتعرض لما عنده، فقال: قد علمت قريش أني من أكثرها مالا، قال: فقل فيه قولا يبلغ

قومك أنك كاره له قال: وماذا أقول؟ فوالله ما فيكم رجل أعلم بالشعر مني، ولا برجزه ولا بقصيده ولا بأشعار الجن

والله ما يشبه الذي يقول شيئا من هذا، ووالله إن لقوله الذي يقول لحلاوة والحلو ضد المر، الطيب، اللذيذ المعجب.

ص: 91

حتى قال الوليد: إن لقوله لَحَلاوَةٌ وإنَّ عَلَيهِ لَطَلاوَةٌ (1) ومَن تَأَمَّلَ حُسنَهُ، وَبَديعَهُ، وبَيانُهُ، وَوُجوهَ مُخاطَباتِهِ: عَلِمَ أَنَّهُ مُعْجِزٌ من وجوه كثيرة (2) .

(1) أي: حسن، وبهجة وقال: إنه لمثمر أعلاه، أي يجتنيه من هداه الله، مغدق أسفله خصب عذب، وإنه ليعلو، ولا يعلى عليه، يعني: أن القرآن ليعلو كل كلام، ولا يعلى عليه من التركيب المعجز وأنه ليحطم ما تحته وأنه لمن كلام الله.

(2)

أي: ومن تأمل حسن كلام الله عز وجل، وجلاله وفضله، ففي الخبر: أن فضله على سائر الكلام، كفضل الله على خلقه وتأمل بديعه، وهو أنواع كثيرة، منها التمثيل، والتشبيه، والإيجاز والاتساع والإشارة وحسن النسق وائتلاف اللفظ مع المعنى والوعد والتخويف وغير ذلك.

وتأمل بيانه، وفصاحته ووضوحه، وبلاغته وهي غاية المطلوب، أو غاية الممكن من المعاني، بأتم ما يكون من البيان وتأمل وجوه مخاطباته وقد عدها بعضهم أكثر من ثلاثين وجها، منها: خطاب العام، والمراد به الخصوص وعكسها وخطاب الجنس، والنوع والمدح والذم والتعجيز والتهييج والتحنن، والتحبب وغير ذلك: علم أنه معجز من وجوه كثيرة.

قال الشيخ: وقد جعل بعضهم الوجوه، وهو اللفظ المشترك الذي يستعمل في عدة معان، كلفظ الآية، والنظائر وهي الألفاظ المتواطئة من أنواع معجزات القرآن، حيث كانت الكلمة الواحدة، تنصرف إلى عشرين وجها وأكثر وأقل ولا يوجد ذلك في كلام البشر.

وقال ابن القيم: تأمل خطاب القرآن، تجد ملكا له الملك كله، وله الحمد كله، أزمة الأمور كلها بيده، ومصدرها منه وموردها إليه، مستويا على العرش، لا تخفى عليه خافية من أقطار مملكته، عالما بما في نفوس عبيده، مطلعا على أسرارهم، وعلانيتهم متفردا بتدبير الممكلة، ويسمع ويرى، ويعطي ويمنع، ويثيب ويعاقب، ويكرم ويهين ويخلق ويرزق، ويميت ويحيي ويقدر ويعفي ويدبر الأمور نازلة من عنده دقيقها وجليلها وصاعدة إليه، لا تتحرك ذرة إلا بإذنه ولا تسقط ورقة إلا بعلمه.

فتأمل: كيف تجده يثني على نفسه، ويمجد نفسه ويحمد نفسه، وينصح عباده، ويدلهم على ما فيه سعادتهم، وفلاحهم ويرغبهم فيه، ويحذرهم مما فيه هلاكهم، ويتعرف إليهم بأسمائه وصفاته، ويتحبب إليهم بنعمه وآلائه ويحذرهم من نقمته ويذكرهم بما أعد لهم من الكرامة إن أطاعوه وما أعد لهم من العقوبة إن عصوه ويخبرهم بصنعه في أوليائه وأعدائه وكيف كان عاقبة هؤلاء وهؤلاء.

ويثني على أوليائه بصالح أعمالهم وأحسن أوصافهم ويذم

أعداءه بسيئ أعمالهم، وقبيح صفاتهم، ويضرب الأمثال، وينوع الأدلة والبراهين، ويجيب عن شبه أعدائه أحسن الأجوبة، ويصدق الصادق، ويكذب الكاذب، ويقول الحق ويهدي السبيل.

ويدعو إلى دار السلام، ويذكر أوصافها، وحسنها ونعيمها، ويحذر من دار البوار، ويذكر عذابها، وقبحها وآلامها ويذكر عباده فقرهم إليه وشدة حاجتهم إليه من كل وجه، وأنهم لا غناء لهم عنه طرفة عين، ويذكرهم غناءه عنهم وعن جميع الموجودات وأنه الغني بنفسه عن كل ما سواه وكل ما سواه فقير إليه، وأنه لا ينال أحد ذرة من الخير فما فوقها، إلا بفضله ورحمته ولا ذرة من الشر فما فوقها إلا بعدله وحكمته.

وتشهد من خطابه، عتابه أحبابه ألطف عتاب، وأنه مع ذلك مقيل عثراتهم، وغافر زلاتهم، ومقيم أعذارهم، ومصلح فسادهم، الدافع عنهم، والحامي عنهم، والناصر لهم والكفيل بمصالحهم، والمنجي لهم من كل كرب، والموفي لهم بوعده، وأنه وليهم الذي لا ولي لهم سواه، فهو مولاهم الحق وينصرهم على عدوهم، فنعم المولى ونعم النصير.

وذكر غيره وجوها، منها: مواضع نزوله، والناسخ والمنسوخ والعام والخاص، والأمر، والنهي والوعد والوعيد والحدود، والأحكام، والأعذار، والإنذار والحجة، والاحتجاج، والمواعظ، والأمثال.

ص: 94