المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ فاتحة الكتاب - حاشيه الشهاب علي تفسير البيضاوي =عنايه القاضي وكفاية الراضي - جـ ١

[الشهاب الخفاجي]

الفصل: ‌ فاتحة الكتاب

أكذب النفس إذا حدثتها

إنّ صدق النفس يزري بالأمل

قوله: (وينطوي على نكث الخ) انطوى مطاوع طواه ضد نشره وضمن معنى الاشتمال

فعدّاه بعلى أي ينطوي مشتملاً على النكت وهو جمع نكتة بضم النون، وهي اللطيفة المستخرجة بقوّة الفكر من نكت في الأرض إذا نبشها بإصبع، أو قضيب ونحوه سميت بها

لمقارنتها لذلك غالباً، أو لأنّ تأثير الفكر كالنكت في القلب، ويصح أن ينقل من نكتة الأديم والثوب، وهي ما تخالف لونه لكونها تخالف غيرها بلطافتها، وبارعة بمعنى فائقة، ورائعة من الروع بفتح الراء، وهو الإعجاب يقال راعني الشيء إذا أعجبني ورافني أو من راعه إذا أفزعه كان الرائع الجميل يفرط حتى يروع من يراه قاله السهيلي في) الروض الأنف) : وقيل إنه من الريع بمعنى الزيادة والنماء، والاستنباط أصل معناه إستخرج ماء البئر ونحوه، فاستعير لاستخراج المعاتي بجدّ واجتهاد وفيه تشبيه المعاني بالماء للطفه، وصفائه، أو لأنه سبب الحياة، ومراده رحمه الله بالأفاضل الزمخشريّ والراغب والرازي، فإنّ معوّل المصنف رحمه الله على هؤلاء في الأثر حتى قيل: إنّ كل ما فيه من العربية وما فيه من اللغة من الراغب، وما فيه من الكلام من التفسير الكبير. قوله:(ويعرب عن وجوه القراآث الخ) المعزية ويقال: معزوّة بمعنى منسوبة، وفعله عزيتة وعزوته، والثاني كثر والثمانية هم القرّاء السبعة المشهورون، والثامن يعقوب بن إسحاق الحضرمي البصري وراوياه روح بفتح الراء وروشى بالتصغير، والشاذ ما وراء السبعة والأصح أنه ما فوق العشرة، وأحكامه مبسوطة في محلها قوله:(الثمانية الخ) إشارة إلى وجه اختياره الثامنة دون باقيها لأنها اشتهرت حتى قيل إنها الشائعة في الصدر الأوّل إلى رأس الثلثمائة، ثم أسقطها منها ابن مجاهد وأثبت بدلها قراءة الكسائي، وقد قالوا: إنّ يعقوب كان أعلم أهل عصره بالعربية، ووجوه القراآت كما في الإتقان وغيره. قوله: " لا أن قصور بضاعتي الخ) في الأساص قصر عنه قصورا عجز عنه، ولم ينله والبضاعة المتاع المجلوب،. فنسبة القصور إليه مجازية، والأصل قصوري عن تكثير بضاعتي، أو ترويجها وهو استعارة شبه العلم والاشتغال به بالمال الذي يتجر فيه أهله، وقلة معلوماته بقلة رأس مال التجارة، وثبطه عن الأمر عوقه عنه، وأبطأه عتة، قوله:(ويمنعني عن الانتصاب في هذا المقام) ويعني به مقام تأليف ما ذكره. وقوله: (أن أوسمه) أي أجعل سمة وعلامة والمعروف فيه وسمه يسمه كوعده يعده، وأمّا وسم المشدّد، فإنه بمعنى حضر الوسم، فإن صح روايته هنا، فهو لأجل الازدواج مع قوله أتممه، وصمم على صيغة المبني للفاعل أي خلص عن التردّد، وموجب التوقف وصار ماضياً لا فتور فيه. يقال صمم في السفر ونحوه أي مضى، وصمم السيف نفذ للعظم وقطعه، وصمم أي عض ونشب فلم يرسل ما عضه ويجوز كون صمم مبنياً للمفعول من هذه اللغة أي أخذ عزمي ولم يرسله قوله:(بأنوار التنزيل الخ) النور هو الظاهر بنفسه المظهر لغيره فإن فهمت، فهو نور والسر ما يلزم كتمانه ولب الشيء ولا يخفى مناسبته

للتأويل، والسول السؤل أبدلت همزته واوا على القياس، وفي بعض النسخ مسؤل بدله، وأقول هنا نزل منزل اللازم فلا سول له، أو سوله ومقوله ما بعده على الحكاية.

سورة‌

‌ فاتحة الكتاب

السورة مهموزة وغير مهموزة بإبدال إن كانت من السؤر وهو البقية، لأن بقية كل شيء بعضه، وبدونه إن كانت من سور البناء، وهي المنزلة منه أو من سور المدينة لإحاطتها بآياتها، ومته السوار المحيط أو من التسوّر، وهو العلوّ والارتفاع نقلت إلى مقدار من القرآن يشتمل على آيات ذي فاتحة، وخاتمة أقلها ثلاث آيات، وقيل: السورة الطائفة المترجمة، والترجمة في الأصل تفسير لغة بأخرى وتطلق على التبليغ مطلقا كما في قوله:

إنّ الثمانين وبلغتها قد أحوجت سمعي إلى ترجمان

وتطلق على التسمية كثيراً في كلام المصنفين وهو المراد هنا وأسماء السور كلها توقيفية

ثابتة بالأحاديث

ص: 15

والآثار، والمراد بالطائفة قطعة مستقلة أو آيات مخصوصة منه فلا يراد آية الكرسي لأنها غير مستقلة إذ هي بعض من سورة البقرة وآية واحدة أيضا، ودفعه بأنّ المراد بالترجمة أنها مسماة بالسورة ضعفه غنيّ عن البيان، وإنما جعل القرآن سورا لأنه أسهلى للحفظ وأ نشط.

وقال الشريف قدس سره: الفاتحة مصدر كالكاذبة بمعنى الكذب، ثم أطلق على أوّل الشيء تسمية للمفعول بالمصدر لأنّ الفتح يتعلق به أوّلاً، ثم بواسطته يتعلق بالمجموع، فهو المفتوح الأوّل، وهذا بالنسبة للمقروء، والمكتوب مطلقاً، فقول بعض المتصلفين من أهل العصر أنه إنما يتحقق في المكتوب إذا كان كالطومار من خمود الفكر وجموده، وقيل: الفاتحة صفة جعلت اسماً لأوّل الشيء إذ به يتعلق الفتح مجموعه، كالباعث على الفتح فالتاء علامة للنقل من الوصفية إلى الإسمية، وقيل: للمبالغة ولا اختصاص لها بزنة علامة كما توهم، وهذا أقرب لقلة فاعلة في المصادر قيل، ولم يجعل آلة، وأن أطلق عليها فاعل كالقاطع والقاتل لأنّ الآلة لا تتصف بالفعل، وهذه متلبسة بالفتح، ولا باعثاً لأنه لا يقارن الفعل، وهذه قارنت الفتح، وفيه أنه إن ادّعى كلية ما ذكر، فليس كذلك فإنّ الصبغ آلة للصباغ يصبغ أيضاً، وفي نحو قعدت عن الحرب جبناً الجبن باعث على القعود،، وهو مقارن وإن ادّعى الأغلبية لم يفد لأنه يقال له هذا من غير الغالب، اللهمّ إلا أن يقال كفى بالندرة باعثاً على الترك أو المراد أنه لا يقصد اتصافها به، وما ذكر لا يعد باعثا مع أنّ جعل بعض القرآن آلة غير مناسب لإيهام أنه غير مقصود منه وحيسئذ يتمّ هذا وجهاً، والحاصل أنه مفتوح من جهة، وفاتح من أخرى، فنظر كل فريق إلى جانب، وجوّز أن يكون للنسبة أي ذات فتح مع وجوه أخرى مرجوحة لم نكثر بها السواد، ثم قال: الكتاب بمعنى المكتوب والمصحف يطلق على المجموع وعلى جزئه وعلى المشترك بينه وبين أجزائه، وفاتحة الكتاب صارت علما بالغلبة لهذه السورة، فالفاتحة علم آخر، والألف واللام عوض عن الإضافة وفيه نظر، وذكر بعضهم أنّ هذه الإضافة بمعنى

من لأنّ أوّل الشيء بعضه، ورد بأن البعض يراد به الجزئي كزيد للإنسان، والجزء كاليد لزيد

واضافة الأوّل بيانية بمعنى من، وإضافة الثاني على معنى اللام وليس الكتاب جنسا شاملاً هنا

لأنّ فتح الفاتحة بالقياس إلى المجموع لا إلى الكل الذي هو القدر المشترك، فإن قيل في

الكشاف أن معنى إضافة اللهو إلى الحديث التبيين، وهي الإضافة بمعنى من أي من يشتري

اللهو من الحديث، فبين اللهو بالحديث لأنه قد يكون من الحديث، وقد يكون من غيره

والمراد بالحديث المنكر كما ورد) الحديث في المسجد يأكل الحسنات ") 1 (ويجوز أن تكون

الإضافة بمعنى من التبعيضية، كأنه قيل: ومن الناس من يشتري بعض الحديث الذي اللهو منه،

فعلى التقدير الثاني إن أريد بالحديث مطلقه كان جنسا للهو صادقا عليه، كما يطلق عليه

الحديث المنكر، فتكون الإضافة بيانية لا مقابلة لها وإت أريد العموم والاستغراق، كان لهو

الحديث جزأ منه، فقد ثبت أنّ إضافة الجزء إلى كله بمعنى من التبعيضية وإن لم تكن مشهورة

قيل الظاهر أنّ المراد مطلق الحديث، لكن العلامة دقق النظر في إضافة الشيء إلى ما هو

صادق عليه، فإن حسن فيه جعل المضاف إليه بياناً وتمييزاً للمضاف كالساج للباب، والحديث

المنكر للهو جعلها بيانية، وان لم يحسن ذلك فيه كالحديث المطلق للهو جعلها تبعيضية ميلاً

إلى جانب المعنى. أقول هذا ردّ لما في الكشاف تبع فيه الشارح المحقق، وليس بوارد عليه

وما ذكره المدقق مخالف لكلام قدماء النحاة كشرّاح الكتاب، ومن حذا حذوهم، فإن إضافة

نحو يذ زيد على معنى اللام، وقال قوم منهم كابن كيسان والسيرافي: إن إضافة ما هو جزء من

المضاف إليه بمعنى من التبعيضية، واستدلوا عليه بفصله عن الإضافة بمن كقوله:

كأنّ على الكتفين منه إذا انتحى ~ مداك عروس أو صلاية حنظل

وهو شائع كما فصله أبو حيان في شرح التسهيل، ومنهم من ذهب إلى أنّ من المقذرة

في الإضافة مطلقا تبعيضية من غير فرق بين الجزء والجزئي، كما في لمع ابن جني وشرحه

للثمانين، وعبارته: إن كان الأوّل جزأ من الثاني كانت الإضافة بمعنى من نحو باب ساج، ودار

آجرّ وجبة صوف، وتقديره باب من ساح ودار من آجرّ

ص: 16

والأوّل في هذا جزء من الثاني ومن فيه

للتبعيض انتهى.

فادعاء أنها غير موجودة، أو غير مشهورة مكابرة لمخالفته ما سطر في كتبهم المعوّل

عليها، وفيما ذكره في توجيه كلام الكشف دقة لا يتحملها نظر أهل العربية، ثم إنّ للناظرين في

كلام الشريف وجوهاً شتى كلها خارجة عن قانون العربية، لاقتصارهم على ما لا يغني، ولا يسمن من كلام المتأخرين ولذا أضربنا عنهما صفحا، وأمّا إضافة السورة فحن إضافة المسمى

إلى الاسم كيوم الأحد وهي مشهورة، ثم إنهم أطلقوا كون الإضافة إلى الجزئي بيانية، وهو

مخالف لما صرّح به كثير من المتقدمين والمتأخرين من أنها إنما تكون كذلك إذا كان بينهما عموم وخصوص وجهيّ، كخاتم فضة، فإن كان مطلقاً كمدينة بغداد فهي لامية، وذهب شاوح الهادي إلى أنها بيانية أيضا، ولذا تراهم يجعلون شجر الأراك من الإضافة اللامية تارة، ومن البيانية أخرى، وهذا مما غفل عته كثير من الناس فاحفظه. قوله:(وتسمى أمّ القرآن) عطف على مقذر رأى تسمى بفاتحة، أو على سورة الفاتحة باعتبار المعنى، أو التقدير هذه سورة فاتحة الكتاب وتسمى الخ وعطف الفعلية على الاسمية شائع كعكسه، والمراد بالتسمية وضع العلم لا الإطلاق.

وتال الفاضل الشريف: فاتحة ألكتاب صارت علما بالغلبة للسورة وقد ذكر. في الكشف أيضاً، وفي اجتماع الغلبة والتجوّز نظر مع أنه مناف لما مرّ من النقل قيل: وفيه خفاء أيضاً لأنّ القول بعلمية الجنس ضروريّ لمنع الصرف ونحوه من الأحكام ويجب في العلمية الشخصية تشخص المعنى ولا تشخص هنا، والأصح أن أسماء السور موضوعة لتلك الألفاظ المقروأة، فتكون واحدة بالنوع كما في التلويح وشرح المقاصد إلا أن يقال مثل هذا المؤلف بحسب العرف يعد شخصا، وأمّا جعلها وأمثالها من قبيل أسماء الإشارة في عموم الوضع وخصوص الموضوع له فبعيد جداً، وما ذكر من السبب في عدم اعتباوه فيها من أنها لو كانت موضوعة لشيء من الخصوصيات كانت في غيره مجازيات، وإن كانت موضوعة لكل منها كانت مشتركة بين معان غير محصووة، وإن كانت. موضوعة لمعان كلية لزم كونها مجازات لا حقائق لها، والكل فاسد لا يتاتى هنا إذ قلما تستعمل في شخص، والأكثر استعمالها في الكل، فلا يلزم ما ذكر وتفصيله في شرج الرسالة الوضعية.

، أقول الذي عليه المعوّل في أسماء السور وأسماء الكتب والعلوم، ونحوها أنها أعلام شخصية لتلك الألفاظ المخصوصة لا للصور الذهنية، ولا للنقوس، ولا للمركب منها وهي تعد في العرف شيأ واحدا شخصا، واختلاف اللافظ، وتعدّده كتعدد أمكنة زيد لا يغير تشخصه، لأنها غير معتبرة فيه، ومما يشهد له شهادة يزكيها الاستقراء تسميتها بالجمل ك {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} و {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} ومثله معهود معروف في الاعلام كتأبط شرّا وبرق نحره وصردر دون اسم الجنس، فإئه وان لم يكن مفقوداً فيها نادر، وأمّا الاسندلال بدخول اللام عليه كالكافية والثافية، فليس بشيء، لأنه ليس مما يستدلّ بمثله، وما قيل من أنّ العلمية الجنسية ضرورية مما تفرّد به الرضيّ، وهو غير مسلم عند النحاة، ودلالة الموصول على ماهية نوعية أو جنسية لا ترد عليه نقضا.

وفي شرح الفوائد العتابية لشيخ مشايخنا أسماء العلوم كأسماء الكتب أعلام أجناس عند

التحقيق وضعت لأنواع وأعراض تتعدد بتعدد محالها القائمة بها كزيد وعمرو، وقد تجعل أعلاما شخصية باعتبار أن المتعدد باعتبار المحل يعد واحداً في العرف، وهو إنما يتتم إذا لم تكن موضوعة للمفهوم الاجماليّ وتردّد السبكيّ في أسماء العلوم هل هي أعلام بالغلبة أو منقولات عرفية كالدابة ورجح الثانية، وسيأتي تتمة لهذا المبحث في تعريف الجلالة الكريمة. قوله:(لأنها مفتتحه ومبدؤه الخ) الأمّ في اللغة الأصل والوالدة ثم أطلق على الفاتحة ومحكم القرآن قال تعالى: {مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ} [اس عمران: 7] ومفتتح اسم مفعول أو اسم مكان أو مصدر ميمي، وقال صاحب القاموس في شرح الديباجة المفتتح لغة شائعة فصيحة يقال فتحه وافتتحه نقيض أغلقه، وأمّا المختتم فغير فصيحة، ولا تكاد توجد عند لغويّ ثبت، والمراد به غير الأوّل ولذا عطف عليه قوله ومبدؤه عطفاً تفسيرياً، ولما كان افتتاحه وابتداؤه بها في كتابة المصاحف، أو في التلاوة، أو في الصلاة أو في النزول بناء على أنها أوّل سورة نزلت ويتلوها ما عداها في ذلك جعلت أمّا وأصلَا له

ص: 17

ومنشأ بطريق التسبب لأنّ الولد يتكوّن ويوجد بعه أمّه، ولذلك سميت أساساً لتوقف بقية البناء وابتنائه عليه، ووجوده بعده وبهذا التقرير سقط ما في بعض الحواشي من الأوهام مثل ما قيل من أنّ المبدأ يقال للجزء الأوّل، ولما منه ذلك الشيء، والفاتحة مبدأ بالمعنى الأوّل، وأمّ بالمعنى الثاني، فجعل هذا وجها لتسميتها أمّا غير مرضي، وكذا ما قيل أنه لا فائدة لذكر الأصالة والمنشئية إذ ليس في الفاتحة سوى المبدئية، وان كانتا موجودتين في المنقول عنه، وهي الوالدة والأمّ في اللغة الأصل، ومنه قيل للوالدة: أصل وحينئذ لا يناسب ذكر كان، لأن الجزء الأوّل من الشيء أصل ينبني عليه باقي الأجزاء من حيث أنها أجزاء متأخرة انتهى.

وقيل: إنها سميت اماً لجمعها كل خير كأمّ الدماغ الجامعة للحوأس، أو لأنها مفزع أهل الإيمان كما تسمى الراية أمّا وركاكته ظاهرة، فإن قلت: زعم بعض فضلاء العصر أنّ قوله في الكشاف، وتسمى أمّ القرآن لأنّ أم الشيء أصله وهي مشتمدف على كليات معاني القرآن أولى مما ذكره المصنف، لأنّ الاشتمال أنسب بالأمّ من الافتتاح، والمبتدئية بمعنى الابتداء، وان كان ما ذكره صحيحا أيضاً.

قلت: هذا وهم منه فإنّ المصنف ذكر ما في الكشاف بعينه وزاد عليه وجها آخر قدمه

عليه إشارة لأرجحيته عنده لأنّ أصل معنى القرآن والكتاب الألفاظ لا المعاني، وهو فيما اختاره باق على أصله بخلافه في الوجه الثاني فإنه محتاج إلى التجوّز أو التقدير. أي أمّ معاني القرآن، وهو بعيد كحمل القرآن على المعاني، وهذا لم ينبه عليه أحد وتنبه له.

واعلم أنّ في كلام المصنف هنا وجهين:

أحدهما: أن يكون قوله مفتتحه بيانا لوجه التسمية بفاتحة الكتاب، ومبدؤه لأمّ القرآن لفا

ونشراً. وقوله: (فكأنها الخ) بيان لمشابهته للمعنى الأصلي للامّ في المبتدئية حقيقة للمعنى العرفي وهو الوالدة فيما له زيادة خصوصية واشتهار به أعني المبتدئية، والمنشئية ادّعاء دون المتبدئية الأوّلية، وكونه مفتتحاً غنيّ عن البيان.

والثاني: أن يكون مبدؤه عطفا تفسيرياً وهما علة لقوله أمّ القرآن، وترك تسميتها بالفاتحة لظهوره.

قال الفاضل الليثيّ: وهو وجه وجيه إلا أنه مخالف لما نقل عن المصنف في حواشيه من

أنّ قوله لأنها مفتتحه تعليل لما تضمنه قوله سورة فاتحة الكتاب من الجملة الخبرية التي تقديرها تسمى فاتحة الكتاب، في هذا الوجه يكون المنقول عته بالمعنى العرفيّ أنسب، كما أنّ الوجه الأوّل بالأصليّ أنسب، وان جرى كل منهما في كل منهما. وقوله:(ولذلك) أي لكونها أصلَا وهو ظاهر، ثم أنها تسمى أيضاً أمّ الكتاب، وفاتحة القرآن ووجهه يعلم مما مرّ، ثم أنه قيل: إن في كلام المصنف إشارة إلى أنّ التسمية بفاتحة الكتاب من قبيل تسمية المكان باسم الفاعل، وهي من فروع الإسناد إليه، واذا كان مصدراً كالعافية، فمن فروع تسمية المكان بالمصدر وجعلها من تسمية المفعول بالمصدر إذ فاتحة الشيء أوّله والفتح يتعلق به أوّلاً وبتبعيته للمجموع، فهو المفتوح الأوّل بعيد إذ تسمية المفعول بالمصدر غير مشهورة، وقيل: فاتحة الشيء، وأوّله آلة لفتحه، وهو من تسمية الآلة بالفاعل كالباصرة والسامعة، وعلى اشتقاقها تاؤها للنقل لا للتأنيث بتقدير طائفة فاتحة ولا للمبالغة لقلة مجيئه في غير صيغ المبالغة، وعدم مناسبته هنا وجعله من النسب كتامر بعيد غير مسموع إذ هو مقصور على السماع انتهى.

ولا يخفى ما فيه من التعسف، لأنه ليس بمكان حقيقيّ، فنقل اسم الفاعل إلى المكان المتجوز به عن الأوّل مع صحة تسمية الأوّل فاتحاً لحصول الفتح به تطويل بغير طائل، وقد مز ما فيه غنية عنه، والذي حمله على هذا قوله مفتتحه. قوله: (أو لأنها تشتمل على ما فيه الخ (في بعض الحواشي أن المراد جميع ما فيه يعني ادّعاء واجمالاً ويأباه قوله فيما بعد أو على جملة معانيه إلا أن يكون تفنناً في التعبير، والذي في الحواشي الشريفية وغيرها تفسيره بأصول ما فيه، ومقاصده، وهو الظاهر فلا يرد عليه أن فيه القصص وغيرها، وان قيل إنها ترجع لما ذكر لما فيها من العبرة والإتعاظ، وهذا هو الوجه الثاني لكونها اً مّا. وعليه اقتصر في الكشاف كما مرّ. قوله: (والتعبد بأمره ونهيه (أي التكليف، وهو في إياك نعبد لأن العبادة قيام العبد بما تعبد به من امتثال الأوامر واجتناب النواهي كما قيل، وأورد عليه أق في قوله إياك نعبد التنسك الذي هو وصف العبد لا التكليف، وأجيب بأنه بناء على أنه على لسان العباد تعليما لهم

ص: 18

وطلبا لعبادتهم فهو تكليف، ثم إنّ تفسير التعبد بالتكليف لا تساعده اللغة إلا أن يقال هو تفسير له بلازم معناه، وحقيقته اتخذه عبداً، أو تضمين لتعذيه بالباء كذا قيل.

(وأنا أقول) الذي دعا الشريف وغيره لتفسير التعبد بما ذكر أنه ليس المراد مطلق التنسك

لتقييده بأمر الله ونهيه، بل تعبد المرء تنسكه بما كلفه الشارع به، فتفسيره بالتكليف إمّا لأنه

أظهر في العبادة المقصودة هنا سواء كانت الآية تعليماً للعباد أم لا نعم إذا كانت تعليما كانت

أظهر وأنور فهو كقولهم حصول الصورة أو هو حقيقة لغة قال السمين في " مفرداته ": قوله

تعالى: {أَنْ عَبَّدتَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ} [الشعراء: 22] أي اتخذتهم عبيداً وقيل ذللتهم ذلة

العبيد وقيل كلفتهم الأعمال الشاقة التي يكلف مثلها العباد، وبهذا وقفت على ما في كلام هذا

القائل، وأن قوله لا تساعده اللغة من قصور الباع وعدم الإطلاع، ثم إنّ الإيمان بالله ورسله

داخل في التعبد، لأنه مع توقف العبادة عليه مأمور به في آمنوا بالله ورسله، فلا يتوهم أنه

خارج وهو أجل المقاصد، واشتمالها على الثناء من الحمد واجراء الصفات المذكورة، والتعبد

في قوله: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} كما مرّ وفي قوله: {الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ} إن أريد به ملة الإسلام،

وقيل: هو في قوله الحمد لله لأنه بتقدير قولوا وفيه نظر، وأمّا الوعد والوعيد، ففي قوله:

{أَنعَمتَ} و {المَغضُوبِ} عليهم أو في يوم الدين والجزاء لتناوله الثواب والعقاب، ولما كانت

مقاصد الأمور نتائجها والنسل أعظم المقاصد ونتيجة مقذمات الأعمار شبهت بالولد، ولذا

سمي نتاجا ووجه الشبه ظاهر كما قيل:

لنامن بنات الفكر نسل بهانسلو

وإنما كانت هذ. مقاصد وأصولاً، لأنه أنزل إرشاداً للعباد، إلى معرفة المبدإ والمعاد

ليؤدّوا حق المبدإ بامتثال أوامره ونواهيه، ويدّخروا للمعاد مثوبة كبرى، ولأنه كافل لسعادة

الإنسان، وذلك بمعرفة مولاه، والتوصل بما يقرّ به والتنصل عما يبعده منه، والباعث عليه

الوعد والزاجر عنه الوعيد، والا حجب عن نور الأنوار، وهوى في ظلمات بعضها فوق

بعض، وأمّا الدعاء والسؤال، فوسيلة يعتبر منها ما تعلق بالمعاد، ولا يرد اشتمال غير هذه

السورة على مثل ما ذكر لأن وجه التسمية لا يلزم اطراده ولأنها استحقته بالسبق إليه، والترتيب

الخاص والإجمال المفصل في غيرها فضاهت مكة في تسميتها أمّ القرى لما تقذمت، ودحيت

الأرض عنها، وتمام تفصيله في شروج الكشاف، وفي بعض الحواشي أنّ ابن سيرين كره

تسميتها أمّ القرآن والحسن البصري تسميتها أمّ الكتاب، وردّ بثبوته في الصحيحين وغيرهما

كحديث " الحمد لله أمّ القرآن وأمّ الكتاب "(1 (قوله: (أو على جملة معانيه الخ) الجملة بمعنى

الجميع، وبمعنى الإجمال والمراد الثاني، والحكم جمع حكمة وهي لغة العلم الحق المحكم

عن قبول الشبه، ولذا فسرها ابن عباس في قوله عز وجل:{وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا} [البقرة: 269] بعلم القرآن وفسرها الحكماء بمعرفة حقائق الأشياء على ما هي عليه بقدر الطاقة البشرية، وهو قريب مما قبله، والنظرية نسبة للنظر بمعنى الفكر والمراد ما لا تعلق له بالعمل من العقائد الحقة الشاملة لأمر المعاد والنبوّة وسائر الإلهيات ونحوها مما المقصود منه بالذات العلم دون العمل، والأحكام مرّ تفسيرها، والعملية منها العبادات، وكل ما ذكر في الفروع، والأوّل مستفاد من أوّل السورة إلى قوله:{يَوْمِ الدِّينِ} والثاني من قوله: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} وما بعده، وسلوك الطريق المستقيم من قوله اهدنا الصراط، والإطلاع بتشديد الطاء افتعال من طلع ظهر، وبسكونها أفعال منه والأوّل أظهر وهو من قوله:{صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ} الخ وفيه، وعد ووعيد فدخلا فيه، والأمثال والقصص المقصود بها الاتعاظ، وكذا الدعاء واك اء فهذه جملة المعاني القرآنية إجمالاً مطابقة، والتزاما فقوله من الحكم بيان لجملة وقوله:(التي الخ) في موصوفه احتمالات، لأنه يحتمل أن يكون صفة جملة أو معان أيضاً المبينة بالحكم، والأحكام فيكون في المعنى صفة لهما من غير تكلف، كما في القول بأنه صفة لهما معا وليس صفة للأحكام وحدها كما في بعض الحواشي قيل: لأن السلوك شامل للنظرية والعملية، وقيل لأنه لا يصح الحكم عليها بأنها سلوك الطريق المستقيم، لأنه العمل لا الحكم يخحتاج إلى تقدير مضاف أي أحكام الخ، وكلاهما على طرف الثمام، ومنهم من جعل المشير إلى الأحكام العملية الصراط المستقيم، وإلى النظرية ذكر السعداء والأشقياء على أنه لف ونشر غير مرتب مع أنّ ذكر الصفات دال على ما هو من الحكم

ص: 19

النظرية أيضا، وقوله والإطلاع الخ إن قرىء بالجرّ على أنه معطوف على الحكم في قوله من الحكم فالأقسام ثلاثة، والإطلاع على مراتب السعداء للإقتداء، وعلى منازل الأشقياء للإتقاء، والأوّل من قوله:{أَنْعَمْتُ} والثاني من {غَيرِ المَغضُوبِ} الخ وهذا لا يختص بالنظرية، ولا بالعملية بل هو من آثارهما وثمراتهما، وان رفع فهو معطوف على قوله سلوك الطريق على أن التي صفة للحكم، والأحكام معنى أو حقيقة لا للثاني، ولذا قيل الإطلاع ناظر إلى الحكم النظرية، ولم يراع ترتيب اللف محافظة على ما عليه التنزيل من تقديم الأوّل أعني {اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ} وتاخير الثاني أعني الذين أنعمت الخ. وقد قيل عليه أيضا: إنه محتاج إلى التقدير أي بعيد سلوك الخ أو أصله التي غايتها أي المقصود منها، فلما حذف المضاف ارتفع الضمير، وانفصل أو هو محمول عليه مبالغة وادّعاء، وليس هذا مخصوصاً بكونه صفة للأحكام فقط كما توهم.) قلت (نقل هنا بعض أهل العصر عن المصنف حاشية قال فيها: الحكم النظرية معرفة الله

تعالى بصفات الكمال المشتمل عليها الحمد لله إلى قوله {يَوْمِ الدِّينِ} والأحكام العملية هي سلوك الطريق المستقيم، والإطلاع على مراتب السعداء والأشقياء المشتمل عليها {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} إلى آخر السورة انتهى.

فإن صح عنه ما ذكر فهو مخالف لما مرّ، وصاحب البيت أدرى بالذي فيه تدبر، وعبر

في السعداء بالمراتب لاشعاره بالعلوّ والرفعة لأنه من رتب بمعنى انتصب قائماً كما في الفائق، وفي الأشقياء بالمنازل لاً نه من النزول، وهو الانحطاط المقابل به كما قيل: درج الجنة ودرك النار، والفرق بين التوجيهين قد مرّ، وقيل: مبنى الأوّل على اشتمال ألفاظه باعتباره جميع أجزائها والثاني على اشتمالها باعتبار ما هو دعامتها ولو عكس كان أظهر، ولذا قيل: إنّ الأوّل بيان لاشتمالها على ما يستفاد منه أصول المعاني القرآنية وأساس مقاصدها. والثاني لاشتمالها على جملة مقاصده المستفادة من تلك الأصول وكونها أماً على هذا لتأخر التفصيل عن الإجمال تأخر الولد عن الأمّ، كما قيل في أمّ القرى وقيل إنّ هذا التوجيه متضمن لوجه تسميتها فاتحة أيضاً لأن ما يدلّ على الشيء إجمالاً حقه أن يكون فاتحة، كعنوان الكتاب الدال على ما فيه، ويدل عليه عطف قوله وتسمى، وذكر المبدأ بعد المفتتح والمنشأ بعد الأصل، والتأسيس أولى من التكيد مع مناسبة ألفاظه للفتح لفظاً ومعنى، والمبدأ لللامّ، ولا يخفى ما فيه من التكلف مع أنه قد اعترف بما ينافيه وقد علم مما ذكرناه ضعف ما قيل: من أنّ ما ذكر هنا مستفاد من الوجه السابق لأنّ الحكم، وهي الأحكام الاعتقادية تستفاد من إجراء صفات الكمالى عليه تعالى، والأحكام العملية من تفاصيل التكاليف المشار إليها بالتعبد، والإطلاع المذكور من الوعد والوعيد، ونوقش بأن الإطلاع من قبيل العلم والمعاني معلومات فكيف يعد منها، ودفع بأنّ المراد به الاطلاع بقرينة السياق وقال بعض المدققين: لا يخفى ما في جعل الثناء مقابلاً للتعبد أي التكليف بالعبادة، والوعد والوعيد من عدم المناسبة، وأيضا لا يظهر من الدليل جعل الثناء مقصوداً أصليا من الكتاب بل المقصود معرفته تعالى وقد أشير إليها بقوله {رَبِّ الْعَالَمِينَ} أي موجدهم ومربيهم، وأبعد منه جعل الوعد والوعيد مقصودين وهما مقحمان باعثان على العبادة، وقد عرفت مما قدمناه الجواب عنه، وبقي هنا وجوه أخر لم نسودّ بها وجه القرطاس، فإن قلت اشتمال الفاتحة على جميع المعاني القرآنية مناف لما في الحديث من أنها تعدل ثلثي (1) القرآن قلت: إن صح فلا منافاة، لأنّ الإجمال لا يساوي التفصيل فزيادة مبانيه تنزل منزلة ثلث آخر في الثواب، ومن العجب ما قيل هنا من أنّ ذلك لاشتمالها على دلالة التضمن والالتزام، وهما ثلثا الدلالات، وقيل الحقوق ثلاثة حق الحق على العبد وعكسه، وحق العبد على العبد، وقد تضمنت الأوّلين فلذا جعلت ثلثيه. قوله: (وسورة الكئز الخ الذلك أي لاشتمالها على مقاصد القرآن، أو جملة معانيه التي هي كالجواهر النفيسة المكنوزة لأنها ذخر المعاد، والسعادة الأبدية فتفي، وتكفي في ذلك، وقيل سميت وافية لأنها لا تنصف في الصلاة كغيرها وكافية لأنها تكفي المصلي دون غيرها، وهذه الألفاظ كلها

منصوبة عطفا على قوله أمّ القرآن، وهو الموافق لتصريحهم بأنّ الوافية والكافية بدون إضافة سورة من أسمائها، وإن وقع في كلام بعضهم خلافه وجرهما يستلزم حذف جزء العلم، أو العطف عليه، وقد قيل حذفه جائز إذا أمن اللبس كما سيأتي في شهر

ص: 20

رمضان وان كان من قبيل حذف بعض الكلمة نظراً لأصله إلا أنه قيل عليه أنه في مقام بيان الاسم لا يؤمن الإلباس وانما يلزم ما ذكر لو لم يكن كل منهما بدون السورة، وقد قيل به، ويؤيده ما جاء في الحديث مما يدل على أنه يطلق عليها الكنز بدون السورة وهو قوله عليه الصلاة والسلام " إن الله قال فيما من به على رسوله إتي أعطيتك فاتحة الكتاب وهي كنز من كنوز عرشي " وقد قالوا إنه سبب تسميتها به ثم إنّ كونها كنزا أو من كنز استعارة وتمثيل لعظم ما فيها وهو أنفس من الجواهر بل هي عنده من الحجارة، أو أخس وجعل العرس، والسموات مهبطه، لأنها محل ابتداء ظهوره وفيضه، ولذا رفعت الأيدي في الدعاء نحوها وان تنزه الله عن المحل والجهة وقيل: إنه من المتشابه الذي استأثر به وهو أسلم. قوله: (سورة الحمد والشكر الخ الاشتمالها عليها أي على المذكورات أمّا اشتمالها على الحمد فظاهر، وكذا على الشكر لأنه في مقابلة نعمة الربوبية والرحمة الشاملة كما سيأني، وليس هذا مبنيا على تقدير قل كما قيل واستشكل بأنه في مقابلة النعمة بل النعمة الواصلة للشاكر، وأين ذلك هنا إلا أن يقال إنّ توصيفه برب العالمين يشعر بالعلمية وأنّ الحمد لذلك كما صرّح به الإمام، وهذا لا يتم إذا جعل حمداً من الله لذاته الأقدس، ولذا قيل إنه شكر إذا قرأه العبد في مقابلة نعمة، وهو تكلف ولا يخفى سقوطه، لأنه سواء قدر قل، أولا فإن كل قارىء منعم عليه فإذا حمد كان في مقابلة ذلك، ولا حاجة إلى ما قيل إنه يؤخذ من قوله: (أنست الخ (بل لا وجه له، فإنها مشتملة على الحمد وهو أعم من الشكر والحمد الحقيقي شكر لغوفي فتدبر. وقوله: (والدعاءا لوقوعه فيها وتعليم المسألة بأن يثنى ويبظم المسؤول، ثم يتوجه إليه بصفاته، والمسألة هنا مصدر ميمي بمعنى السؤال، والمراد تعليم كيفية السؤال، وطريقه وليس محل السؤال لاحتياجه إلى التكلف، والشكر وما بعده مجرورات، وفيه ما مرّ من حذف جزء العلم أو العطف عليه، وكون التسمية بمعنى الإطلاق لا وضع العلم، ونصبها على أنّ العلم الشكر وما بعده بعيد، وفي التفسير الكبير الاسم العاشر السؤال يروى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن رب العزة سبحانه وتعالى قال: من شغله ذكرى عن مسألتي أعطيته أفضل ما أعطي السائلين " (2) وقد فعل الخليل عليه الصلاة والسلام

ذلك حيث قال: {الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ} [الشعراء: 78] إلى قوله: {رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ} [الشعرأء: 83] ففي هذه السورة وقعت البداءة بالثناء عليه تعالى، ثم ذكر العبودية، ثم ذكر الاستعانة، ثم وقع الختم على طلب الهداية.

وأورد عليه أنه لا يتحصل مما ذكره الدلالة على تسميتها بالسؤال الذي أراده، ثم مقتضى الحديث تجرّد الذكر عن السؤال والسورة جامعة بينهما، فلا مناسبة لهذا الحديث هنا، وليس كما توهمه المعترض بل المراد أنّ تسميتها بالسؤال، لأنها مشتملة على تعليمه وبيان كيفيته اللائقة بالكاملين كما مرّ، ويشهد له قصة الخليل عليه الصلاة والسلام، وكذلك هذا الحديث القدسي أيضا بناء على أنّ المراد منه اشتغاله بذكره في ابتداء توجهه للسؤال لأنه نصب عينيه وقبلة اقباله، ومن أحب شيأ أكثر من ذكره ويؤيده ما ذكره بعده نعم هو لا يخلو من الخفاء وكون المراد بالحديث ما ذكر غير مسلم، وقد سئل بعض التابعين عما ورد في الحديث " أفضل ما دعاني به عبدي، لا إله إلاً الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد ") 1 (فقيل كيف سمي هذا دعاء، وهو صرف ذكر، فقال هو دعاء أيضاً لحديث " من شغله ذكري " الخ ثم نقل هذا الجواب لبعض السلف فقال: هو كما قال فإنّ الثناء على الكريم سؤال وطلب، فقيل: هل عرف مثله فقال: نعم أما سمعت قول أمية بن أبي الصلت في ابن جدعان في قصيدته المشهور ة:

" ذكرحاجتي أم قدكفاني حياؤك إنّ سميتك الحياء

إذا أثنى عليك المرءيوما كفاه من تعرّضك الثناء

ونحوه قول الغنوي:

واذا طلبت إلى كريم حاجة فلقاؤه يكفيك والتسليم

وهو معنى بديع سيأتي بيانه. قوله: (لاشتمالها عليها) أي على المسألة، وكيفية تعليمها

ولو قال: عليه بإرجاع الضمير للتعليم كان أظهر وفي تفسير ابن برحان من آداب الدعاء وحلية السؤال، والضراعة إلى الملك

ص: 21

الملك الأمر كله أن يقدم العبد بين يدي دعائه التوحيد والتعظيم والإجلال، ثم يحمد الله بمحامده التي هو لها أهل، ويثني عليه ويمجده ويتبرأ إليه من حوله وقوّته، ثم يسأل الله الهداية إلى ما يرضيه، وحسن العون على ذكره، ئم يسأل الله بعدما ما يشاء، لعموم قوله الحق:" ولعبدي ما سأل " ومن قدم أمر الآخرة على أمر الدنيا نظمه الله في نظام الاقتداء بأمّ القرآن وإنّ المطلوب الأعظم لفي أمّ القرآن مجملاً ويحق ما قال بعضهم: لو قرئت أمّ القرآن على ميت فحي ما كان ذلك بعجب لأنّ الحمد اسم من أسماء الله وكذلك سائر الحروف كلها فافهم انتهى. قوله: (والصلاة لوجوب قراءتها الخ الفعل الصلاة يجوز جرّ. ونصبه هنا لأنها كما تسمى سورة الصلاة، تسمى الصلاة أيضاً، وهو من تسمية الجزء باسم كله، أو تسمية أحد المتلازمين باسم الآخر والصلاة بمعنى العبادة المعروفة. قوله. (واستحبابها) قيل عليه إنه لا قائل بالاستحباب لأنها فرض عند الشافعي وواجبة عند أبي حنيفة، وانما تبع صاحب الكشاف في قوله لأنها تكون فاضلة أو مجزئة بقراءتها فيها، وما ذكروا رد عليه أيضاً، ولذا قال في المدارك لأنها واجبة أو فريضة، وهو أحسن لأنه لا قائل بالاستحباب كما عرفت هذا زبدة ما في جميع الحواشي، وهو لا يسمن ولا يغني من جوع (وأنا أقول) كون المذاهب الأربعة متفقة على عدم الاستحباب، وأنه لا صلاة بدونها مما اتفق عليه هنا لما رووه في كتب الفقه المشهورة خصوصا كتب الحنفية، وليس كذلك، فإنّ المصنف شافعي المذهب، وفي كتبهم المعتمدة ما يخالفه، وعبارة الإمام الغزالي في شرح الوجيز الفاتحة متعينة في الصلاة خلافا لأبي حنيفة حيث قال: فرض الصلاة قراءة آية ما طويلة أو قصيرة، وان كان ترك الفاتحة مكروها انتهى.

وعليه اعتمد المصنف رحمه الله، فالاستحباب عنده مذهب أبي حنيفة، ولو سلم عدم صحة ما ذكر فالسلف لهم في أكثر الأحكام أقول شتى، ومذاهب مختلفة، وان لم يرخص لنا العمل بها، وقد نقل الإمام الجصاص رحمه الله في كتاب أحكام القرآن مذهب ابن عباس رضي الله عنهما أنه يجزىء في الصلاة قراءة شيء ما من القرآن، ولا تتعين الفاتحة، وبه فسر قوله تعالى: إ فاقرؤا ما تيسر من القرآن} [المزمل: 20] فإن أردت تفصيله فراجعه فإذا ثبت عن بعض الصحاية ومجتهدي السلف أنها غير واجبة في الصلاة مطلقا، وأنّ المراد بقوله في الحديث " لا صلاة إلاً بفاتحة الكتاب " (1 (نفي الكمال لا الصحة، فمراد المصنف والزمخشرفي الإشارة إلى مذهب هؤلاء لا إلى شيء من المذاهب الأربعة حتى يحتاج إلى ما قالوه من التعسف هنا: من أنّ استحبابها إشارة إلى مذهب أبي حنيفة رحمه الله بناء على تفسير المستحب بما يشمل الواجب والسنة لا المستحب المتعارف على أنّ الواجب بمعنى الفرض والمستحب ما يقابله، أو هو مبني على أنّ الوجوب في الكل عند الشافعي رحمه الله أو الركعتين الأوليين عند أبي حنيفة والاستحباب فيما عداهما عنده، أو في صلاة النفل في رواية

عن الشافعي، وأبعد منه ما قيل من أنه مذهب ابن حنبل، وأنه لورعه كان لا يطلق الواجب على ما لم يتواتر عن السلف إطلاقه عليه، وقد جوز أن يكون المراد بالصلاة هنا الدعاء فيكون كتسميتها بسورة الدعاء، فإن قلت هل لما قيل من تعين الجرّ هنا وجه وان كان النصب بناء على تسميتها صلاة الحديث " قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين الحديث "(11 لأن تعليل المصنف يناسب معنى الجرّ لا النصب، لأنّ تسميتها في الحديث بالصلاة من إطلاق اسم الكل، وارادة الجزء الذي هو ركن تنتفي الحقيقة بانتفائه، وهو غير منايسب لقوله، أو استحبابه مع أن بعضهم قدر في الحديث مضافا أي قراءة الصلاة، أو ذكر الصلاة قلت لا، فإنّ ما ذكره من الشرط غير مسلم عند المحققين من أهل الأصول، مع عدم تعين التجوّز أيضاً فتدبر. قوله: (الشافية والشفاء الخ) بالنصب أي تسمى الشافية الخ. كما صرّحوا به ويجوز جرّه.

وفي الكشاف أنها تسمى سورة الشفاء. وقيل: إنّ المصنف ذهب إلى أئه يطلق عليها هذا

بدون سورة، ولولاه لقدّم الشفاء على الشافية وفيه نظر، وقد ورد في البخاري أيضا تسميتها سورة الرقية، وهو قريب مما هنا والحديث الذي ذكره المصنف (2) صحيح أخرجه البيهقي، والدارميّ، وغيرهما، إلا أنه قيل عليه إنه لا يدل على تسميتها بذلك إذ لا يدل قولنا زيد كاتب على غير اتصافه، وصدق كاتب عليه، وأمّا تسميته به فلا، وقريب منه ما قيل

ص: 22

الحديث إنما يدل على أنها شفاء في نفس الأمر وأنه أطلق عليها الشفاء شرعا، وليست التسمية هنا بمعنى الإطلاق إلا أن يقال وضمع الاسم ثبت بالنقل عن الثقات، ولا حاجة لدعوى الاجماع كما قيل، فالحديث إنما ذكر لبيان سند ما نقل ولا ثبات الباعث على التسمية به. قوله:(والسبع المثاني الخ) السبع منصوب. وقوله: (لآنها الخ) علة لتسميتها سبعا، وفيه أنه ذكر في التيسير أنها ثمان آيات عند الحسن البصريّ وست آيات في قول الحسن الجعفي، وقد نقل عن بعضهم أنها تسع أيضا فكيف يتأتي دعوى الإتفاق أو الإجماع المذكور في كثير من التفاسير وعليه المصنف فقيل أراد اتفاق الجمهور ومن يعتد به فخلاف غيرهم بمنزلة العدم، ومخالفة واحد أو اثنين تسمى خلافا لا اختلافاً، فلا يخرج بها الحكم بكونه متفقا عليه، وقيل المراد اتفاق القرّاء، وقيل اتفاق الحنفية، والشافعية وما له لما مرّ فلا وجه لردّه به، وقيل: إنه لا خلاف فيه والزيادة

وأخرجه الديلمي 4385 والبيهقي في الشعب كما في الدر 1 / 22 من حديث أبي سعيد الخدري بلفظ " فاتحة الكتاب شفاء من السم ". وللحديث شواهد أخرى انظر الدر المنثور 1 / 22- 23.

والنقص وهم من الراوي لأنه لما رأى عد {أَنعَمتَ عَلَيهِمْ} آية ظن أنه في الباقي مع غيره ولما رأى عدّ التسمية فيه كذلك، وهو مراد المصنف بقوله إلا أنّ الخ وفي قوله:{أَنعَمتَ عَلَيهِمْ} تسامح أي {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ} الخ لظهور أنّ الموصول بدون صلته، والمضاف بدون المضاف إليه لا يعد آية فمبدؤها معلوم وانما الخلاف في آخرها قوله:(ومنهم من عكس) أي عد أنعمت عليهم آية دون التسمية والمناسب لما جعل عكسا له أن يكون المراد أنه جعل التسمية جزأ من آية كما ذهب إليه البعض، فيلزمه عدم التعرّض لمذهب الحنفية وهو أنّ التسمية خارجة عن السورة. وقوله:{صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ} آية وقوله {غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} آية أخرى، وان لم يحمل عليه يلزم عدم التعرّض لبعض المذاهب وأمره سهل إذ ليس في كلامه ما يدل على الانحصار قيل: ولا يبعد أن يجعل قوله: ومنهم من عكس إشارة إليهما على أنّ المراد بعدم جعل التسمية آية ما يتناول خروجها عنها وجعلها جزأ منها وليس في القرآن سورة آياتها سبع غير الفاتحة، وسورة أرأيت. قوله:(وتثني في الصلاة الخ) أي تكرّر وأصل معنى ثني الشيء ردّ بعضه على بعض. قال الراغب سمي القرآن مثاني لأنه يثني على مرور الأوقات، ويكزر فلا يدرس وينقطع، ولا تنقضي عجائبه، ويصح أن يكون من الثناء لأنه يثنى عليه، وعلى من يتلوه ويعمل به وجوّز فيه أن يكون جمع مثنى كمرمى أو مثنى مشدّد النون أو مثنى مخففاً مته، وكلها مع هاء التأنيث وبدونها، والجمع بالنظر للآيات، وهذا بيان لإطلاق المثاني عليها وهي من التثنية، وقد فسرت هنا بالتكرير ولا يرد أنها تثلث في المغرب، وتربع في الرباعية مع أنه اقتصار على الأقل، فلا ينفي الزيادة، ولا ترد الركعة الواحدة، وصلاة الجنازة لأنّ المراد المتعارف الأغلب من الصلاة، وغير المصنف عبارة الكشاف وهي قوله: تثني في كل ركعة وهي عبارة مأثورة عن عمر بن الخطاب رضي الله عته، وقد أورد عليها أنها تثني في الصلاة لا في الركعة وأجيب عنه بأنه مجاز مبالغة في أنّ كل صلاة فعلة واحدة كركعة أو أنها تكرّر في كل ركعة بالقياس إلى أخرى، وقيل: في للمصاحبة أي تثني مع كل ركعة، ويفهم منه عرفا أنّ كل ركعة تثني معها كما إذا قيل فلان يأكل مع كل أحد لا يفهم مته إلا أنه يأكل مع كل أحد يأكل معه، وهذا مع كونه تكلفا بارداً زعم قائله أنه أحسن الوجوه وأولاها، وقيل الأشبه أن يراد بيان محل التكرير على معنى أنّ الفاتحة تكرّر في كل الصلاة بحسب الركعة لا بحسب أركانها كلها، كالطمأنينة ولا بحسب ركعتين ركعتين كالتشهد في الرباعية ولا بحسب كل صلاة كالتسليم، فإن تعددت الركعة تعدّدت الفاتحة والا فلا كأنه قيل تثني باعتبار الركعة واعترض عليه بأنّ هذا المعنى، وان كان واضحاً في نفسه إلا أنّ دلالة هذه العبارة عليه في غاية الخفاء ويردّ بأنّ مراده أنّ لفظ في ههنا، كما في قولهم يستعمل في وضع الشرع لكذا بمعنى أنه مستعمل بحسبه، واعتباره وهو واضح، وان خفي عن الفاضل المعترض (وأقول) هو لم يخف عليه كيف وهو أبو عذرته كما حققه في شرح العضد في قول

ابن الحاجب الحقيقة اللفظ المستعمل في وضع أوّل حيث قال: هذا يحتاج لتمهيد مقدمة وهي أنّ في ليس ظرفاً للاستعمال تحقيقا، بل تقديراً، فإنه لما تعلق بالمعنى تعلقا مخصوصا صار كأنه ظرف للاستعمال محيط به، ولا شك أنّ الاستعمال متعلق بالوضع ناشىء عنه بحيث يتصوّر فيه ظرفية تقديرية، فكما يقال

ص: 23

استعمل اللفظ في معنى كذا بناء عليها يقال استعمل في وضع كذا أيضاً لأنّ مآل الظرفية هنا إلى تعلق خاص تستعمل فيه اللام كثيراً وان كان في أكثر وههنا أيضاً ما لها إلى السببية والباء فيه أكثر وفي تستعمل فيه أيضاً نتهى وليس إنكار خفائه وتكلفه مسموعا وان لم تنكر صحته فكيف يعترض عليه بما مرّ وليس الغافل إلا المعترض، ثم إنّ، الظرفية المجازية به إنما تظهر وتحسن إذا لم يكن مقارن في صالحاً للظرفية الحقيقية كما في التوضيح فليس وزان في كل ركعة وزانها في قوله المستعمل في وضع أول فتأمل، ثم قال: والذي أدّى إليه الخاطر القاصر أن اضطرابهم في هذه العبارة إنما نشأ من حمل الظرفية على اللغوية المتعلقة بتثني وهو مستقرّ، والتقدير تثني واقعة في كل ركعة، وقال بعض علماء العصر: لا يخفي ما فيه.

أمّا أوّلاً: فلأنه مع التقدير فيه لا فائدة فيه بالنظر لهذا المقام لتعزضه للوقوع في الركعة والكلام في بيان تكرارها وليس هذا قيد للتكرار بل خارج عنه.

وأمّ ثانياً: فلأنه لا يصح قوله باعتبار كل ركعة إذ الصحيح أن تكرارها باعتبار تعذد كل

ركعة وفهمه من هذه العبارة في غاية الخفاء كما قاله السيد السند رحمه الله والمعترض لم يفهم مراده وفيه بحث وقيل إنه لا يبعد حمل العبارة على التضمين أي تثني مقروأة في كل ركعة وقيل يرد عليه أنه مع الاستغناء عنه فاسد لظهور أنّ التكرار ليس في حال القراءة في كل ركعة، بل في حال القراءة في الركعة الثانية والثالثة والرابعة، فإذا قلنا زيد يقوم في زمان قيام كل واحد من القوم لا يفهم منه إلا أن يكون قيام زيد مقارنا لزمان قيام كل واحد لا لزمان قيام المجموع من حيث هو مجموع فافهم. قوله:(أو الإنزال) عطف على الصلاة إلا أنّ العامل وهو تثني لا يظهر تعلقه به لأن تثنية الإنزال قد وقعت فعاملها فعل ماض لا مضارع، ففي هذه العبارة خلل ظاهر، ولذا قيل إنّ تثني للاستمرار بالنسبة إلى الصلاة وماض بالنسبة إلى الإنزال والتعبير بالمضارع لاستحضار الصورة وحكاية الحال الماضية بناء على وأي المصنص رحمه الله في جواز إرادة معني اللفظ معاً أو على عموم المجاز بأن يراد مطلق الزمان الشامل للماضي وغيره يعني أنّ المضارع لدلالته على الحال الحاضر الذي من شأنه أن يشاهد قد يذكر ليستحضر به ما مضى، فيستمر وتثني لاستحضار التسمية المعللة بالتثنية ولا يفعل ذلك إلا بما يهتم بمشاهدته لغرابته أو فظاعته، كما ذكره أهل المعاني، وهو مجاز، ولذا لما لزم المصنف الجمع بين الحقيقة، والمجاز أشار المحشي إلى دفعه بما ذكر ولا يخفى بعده لاختصاصه بما يستغرب ولا غرابة هنا، والأقرب عندي أن يقال إنّ المراعى تحقق الاستقبال وغيره زمان الحكم لا زمان

التكلم كما حقق في كتب الأصول والتسمية مقدمة على تثنيتها في الصلاة، وكذا على تكرار الإنزال لأنها توقيفية، فإن كان الواضع هو الله في الأزل فاستقبال الإنزال ظاهر وان كان الرسول صلى الله عليه وسلم، فالتسمية في أوّل النزولين وتكرر النزول إنما يتحقق بالثاني فهو مستقبل من غير تكلف لتقدير متعلق أو عطف معمول ماض على معمول مستقبل، وأمّا كونه من قبيل.

*علفتها تبناً وماء باردا*

فلا يخفى برودته وركاكته مع أنهم لم يذكروه إلا مع اختلاف الحدثين دون الزمانين وان

كان القياس لا يأباه فتدبر. قوله: (إن صح أنها نزلت بمكة) هذا بناء على جواز تكرّر النزول وهو في الآيات متفق عليه وفي السورة مختلف فيه، فأنكره بعضهم مطلقاً لعدم الفائدة فيه قيل ولذا قال المصنف: إن صح واستدل المنكر له بأنّ نزوله ظهوره من عالم الغيب إلى الشهادة والظهور به لا يقبل التكرر فإن ظهور الظاهر ظاهر البطلان كتحصيل الحاصل وايجاد الموجود ويرد بأنه ليس من هذا القبيل، وفي منازل السائرين من توإضع للدين لم يعارض بمعقول منقولاً، ولم يتهم دليلاً، ولم ير إلى الخلاف سبيلاً، وقال الزركشي في البرهان: قد ينزل الشيء مرتين تعظيماً لشأنه وتذكيرا عند حدوث سببه خوفاً لنسيانه وفي جمال القراء للسخاوي فائدة نزول الفاتحة مرتين أنها نزلت أوّلاً على حرف، وبعده على آخر كملك ومالك، ويجري هذا في وجوه القرا آت وقد قيل إنها نزلت مرّة أخرى بعد تحويل القبلة ليعلم أنها ركن في الصلاة كما كانت وقيل: نزلت مرّة بالبسملة، وأخرى بدونها، واستحسنه ابن حجر والجزري، وبه جمع بين المذاهب، والروايات وسقط ما قاله المعترض من أنه لا فائدة في تكرر النزول، وذهب الغزالي رحمه الله إلى أنه ليس في القرآن

ص: 24

مكرر أصلاً لأنه يفسر بمعان مختلفة وما توهم من أنه لو تكرّر نزولها كانت أربع عشرة آية توهم باطل ومعنى قوله إن صح الخ إن صح مجموع هذين الأمرين لأنه لا تردّد في نزولها بمكة ولذا قيل لو قال إن صح أنها نزلت بالمدينة لما حوّلت القبلة وقد صح الخ كان أوضح وأخصر، وقد علم مما مرّ أنّ في تكرّر النزول مذاهب. قوله:(وقد صح أنها مكية الخ) هذا قول ابن عباس وأكثر الصحابة والمفسرين والمراد بكونها مكية أنها نزلت بمكة لأنه أشهر معانيه كما سيأني وقيل: إنه لم يقل نزلت بمكة لأنه ليس بصدد إثبات ما في الشرطية بل بصدد بيان كون السورة مكية باصطلاح المفسرين وأمّا القول بأنها مدنية وهو قول مجاهد فقد قيل إنه هفوة منه والقول بأنّ بعضها مكي وبعضها مدنيّ في غاية الضعف، وكون المراد بالسبع المثاني في الحجر الفاتحة عليه أكثر المفسرين، وقد ورد التفسير به مسندا إلى النبي صلى الله عليه وسلم في صحيح البخاري وقيل هي السبع الطوال وقيل الحواميم وقيل غير ذلك، فإن قيل اسمها السبع المثاني والواقع في الآية سبعا من المثاني فلم جعلت عين المثاني قيل من في الآية بيانية فمؤداهما واحد لأن الجار والمجرور صفة والمعنى سبعاً هي المثاني مع أنّ كونها مثاني مخصوصة لا ينافي كونها بعضا من مطلق المثاني وكونها مكية

بالنص على ما في بعض النسخ وقد سقط من بعضها، وأورد عليه أنّ المكية والمدنية إنما يعلم من الصحابة والتابعين لا بالنقل عن النبي صلى الله عليه وسلم، فإنه أمر لم يؤمر به ولا يلزم بيانه؟ " ضاسخ والمنسوخ كما نقله في الإتقان، وفيه أنه لا مانع من نقله عنه عليه الصلاة والسلام كان يقول بمكة أو بالمدينة بملا من الصحابة (أنزل علئ اليوم أو الساعة كذا) ثم ينقل ذلك عنه عليه الصلاة والسلام وقد وقع مثله وقيل المراد بالنص هنا نص العلماء أي تصريحهم بأنها مكية فهو بالمعنى اللغوي، والنص له معان منها اللفظ المفيد لمعنى لا يحتل غيره ويقابله الظاهر، ومنها ما يقابل القياس والإجماع والاستنباط فيراد به أدلة الكتاب والسنة، ويطلق في الفروع على ما يقابل التخريج أي القول المأخوذ من النعى، كما قاله ابن أبي شريف رحمه الله، وقيل إنه هنا بمعناه المتعارف، فإنّ ما قبلها وما بعدها إلى آخر السورة في حق أهل مكة، وظاهر أن الله لم يمن على النبي صلى الله عليه وسلم بإتيانه السبع المثاني بمكة ثم نزلها بالمدينة، وما قيل عليه من أنه لا بعد في الإمتنان بما هو محقق الوقوع قبل وقوعه لبيان شأنه، وقد وقع قوله. {إِنَّا فَتَحْنَا} [الفتح: ا، الآية والمجاز المتعارف يساوي الحقيقة في جواز الإرادة فلا يعترض عليه بأنّ الأصل الحقيقة سقوطه في غاية الظهور لأنه لا يدفع الظهور، وأمّا بعد صلاة النبي صلى الله عليه وسلم بمكة بضع عشرة سنة بلا فاتحة الكتاب، وفرض الصلاة كان بمكة ففيه أنه أمر ظني مستقل في إثبات مكيتها خارج عن الاستدلال بالآية والكلام فيه، وقيل المراد بالنص صريح النقل عن الصحابة لأنه ثبت عن ابن عباس رضي الله عنهما، وكلام الصحابة فيما لا اجتهاد فيه له حكم المرفوع، فلذا أطلق عليه النص، وبما ذكرناه علم حال ما قيل من أنا لا نسلم أنّ المراد بالسبع المثاني في الآية الفاتحة للاختلاف في تفسيرها وكون آتيناك فيها من قبل، ونادى أصحاب الجنة، وأنه لو سلم لا ينافي نزولها مرة أخرى بالمدينة ولا يخفى عليك أنّ كون ما قبلها، وما بعدها في حق أهل مكة إنما يكون مؤيداً على القول بأنّ المكي ما كان في حق أهل مكة، والمشهور خلافه، وكون سورة الحجر نزلت بمكة بعد الفتح لم يقل به أحد، وفيه نظر، وفي الوجيزأنّ ترتيب السور، ووضع الشملة في أوّلها بوحي له عليه الصلاة والسلام، ولو كان من الصحابة لكان بحسب النزول، ولا خلاف في ترتيب الآيات، وقال ابن عطية: إن زيدا رضي الله عنه لما جمع القرآن في المرة الأولى جمعه غير مرتب السور، ونقل عن القاضي أن ترتيب السور اليوم من تلقاء زيد رضي الله عنه مع مشاركة عثمان رضي الله عنه، ومن معه في المرة الثانية، وذكر نحوه مكي أيضا والصحيح أنه بوحي له عليه الصلاة والسلام في العرضة الأخيرة.

بسم الله الرحمن الرحيم

ويقال لمن قال بسم الله الرحمن الرحيم: بسمل بالنحت كحمدل وحوقل، وهو كثير في

كلام العرب إلا أنه قيل إن بسمل لغة مولدة لم تسمع من النبيّ لمجيرو، ولا من فصحاء العرب والمشهور خلافه، وقد أثبتها

ص: 25

كثير من أهل اللغة كابن السكيت والمطرزي، ووردت في قول عمر بن أبي ربيعة:

لقد بسملت ليلى غداة لقيتها فياحبذاذاك الحديث المبسمل

قوله: (من الفاتحة الخ) في البسملة في غير النمل، فإنها فيها بعض آية بالاتفاق أقول عشرة.

الأوّل: أنها ليست آية من السور أصلأ.

الثاني: أنها آية من جميعها غير براءة.

والثالث: أنها آية من الفاتحة دون غيرها.

الرابع: أنها بعض آية منها فقط.

الخامس: أنها آية فذة أنزلت لبيان رؤوس السور تيمنا، وللفصل بينها وهذا وإن ارتضاه متأخرو الحنفية لا نظير له إذ ليس لنا قرآن كير سورة، ولا بعض منها.

السادس: أنه يجوز جعلها آية منها وجعلها ليست منها بناء على أنها نزلت بعضاً منها

مرّة، ولم تنزل أخرى لتكرّر النزول استقلالاً أو لمدارسة جبريل له عليه الصلاة والسلام في كل عام، وهكذا سانر القراآت وهو المشار إليه في حديث: أنزل القرآن على سبعة احرف كلها كاف شاف وهذا أغربها، وكان ابن حجر يرتضيه، ويقرّره في دروسه، ويدفع به الاعتراض بأنّ القرآن فطعيّ التواتر، فكيف يصح إثباته، أو نفيه، بدونه، فيقول: إثباتها ونفيها حينئذ متواتران كسائر القراآت، وقد نقله القرّاء كأبي شامة وغيره، وأطنب في تحسينه السيوطي في حواشيه، فإن قلت لو سلم هذا لجاز على سائر المذاهب الجهر بها وعدمه ولا قائل به، وأيضا لم يعهد في وجوه القرا آت اختلاف في الآيات بل في الحروف وهيآتها، ووقع في بعض حروف المعاني، وهذا سرّ التعبير عن القرا آت بالأحرف في الحديث وتقليلها، وان اندفع به الاعتراض بأنه قرىء بالبسملة في السبعة، وهي متواترة فيما عدا الأدأء، فكيف صح تركها قلت: هذا غير وارد، فإنه يجوز ترجيح أحد المتواترين، وان لم يبلغ غيره مرتبته مع تواتره كما في وجوه القرا آت السبعة، وكونه خلاف المعروف يبعده ولا يبطله.

والسابع أنها بعض آية من جميع السور كما نقله السيد رحمه الله والثامن أنها آية من الفاتحة وجزء آية من السور.

والتا سع: عكسه.

والعاشر: أنها آية فذ وان أنزلت مراراً، وعلى هذا اختلف الأداء وبنوا علية فصلها ووصلها وتركها، فابن كثير وعاصم والكسائي يعتقدون أنّ البسملة آية من كل سورة الفاتحة وغيرها وقرّاء المدينة، وأبو عمرو يرونها آية من الأوائل وحمزة يراها آية من الفاتحة فقط كما تاله الجعبري.

والمصنف سكت عن سائر السور، فلا ينافيه أنّ قزاء مكة ومن تبعهم ذهبوا إلى أنها آية

من كل سورة مصدرة بها، وكلامه شامل لكونها آية وبعض آية، وقرّاء مكة ابن كثير ورواته، والكوفة عاصم وحمزة والكسائي ورواتهم، والمدينة نافع ورواته، والبصرة أبو عمرو ويعقوب ورواتهما والشام ابن عامر ورواته، ومالك من فقهاء المدينة، والأوزاعي هو الإمام عبد الرحمن الشامي منسوب للأوزاع، وهي قبيلة معروفة، وذكر مالك والأوزاعي من ذكر الخاص بعد العام للتنبيه على جلالته. قوله:(وفقهاؤهما) كذا هو في كثير من النسخ بالتثنية رجوعا إلى البصرة، والشام فقط دون المدينة. وفي الكشاف: وفقهاؤها بضمير الجمع للجميع، وتعقبه البلقيني بأنه يقتضي اتفاق أهل المدينة عليه وليس كذلك، فإنّ جماعة من فقهاء المدينة من الصحابة والتابعين كابن عمر والزهري وغيرهما يرونها آية من الفاتحة وغيرها، فكأن المصنف رحمه الله غير عبارته إشارة إلى إصلاحها بذلك، وفي بعض النسخ فقهاؤها كما في الكشاف، وقدّم كونها من الفاتحة على خلافه ترجيحاً لمذهبه، ولذا عكسه الزمخشري. قوله:(ولم ينص أبو حتيفة الخ) ضمير فيه يرجع إلى كونها من الفاتحة المعلوم من السياق، وهي المراد بالسورة لحضورها أو كل سورة، ولما كان المصنف رحمه الله شافعيا قائلاً بمفهوم المخالفة مع أنه مراعى في الروايات وعبارات المصنفين، ومفهوم قوله لم ينص أي لم يصرّح أنّ في كلامه إشارة، وتلويحا يورث الظن كاخفائها في قراءة الصلاة، فصح تفريع قوله فظن عليه فلا يرد عليه أنّ عدم النص على الشيء نفيا واثباتا لا يتسبب ويتفزع عليه ظن عدمه، ولا حاجة إلى ما قيل إنه بناء على أنه من أهل الكوفة الذاهبين إلى كونها من الفاتحة كما مر، فسكوته يشعر بمخالفته لهم لما تقرّر في الأصول من أنّ السكوت في موضع الحاجة إلى البيان بيان ولا مرية في أنّ هذا موضعه، وأورد عليه أن سكوته يجوز أن يكون احترازاً عن الخوض فيما لا دليل عليه كما ذهب إليه الإمام أو لتعارض أدلته، واقتصر على الظن دون

ص: 26

نفي القرآنية رأسا لأنه أدنى مراتب الخلاف مع قيام الأدلة على قرآنيتها، وكذا ذهب بعض الحنفية إلى أن الصحيح أنها آية فذة أنزلت للفصل أو لبيان أوائل السور فلا يرد عليه الفاتحة حتى يقال هو بالنسبة لعود الخاتم إلى الصدر. وقوله:(ليست من السورة عنده) يحتمل القولين وقيل الفاء لمجرّد تأخر الظن عن عدم

النص، وسبب الظن أمر بالإسرار بها، وقال الكرخي: لا أعرف هذا المسألة بعينها لمتقدمي أصحابنا إلا أن أمرهم باخفائها يدل على أنها ليست من السورة، وقيل: إنه لم ينص فيها بشيء ظن أنه أبقاها على أصلها من العدم حتى يظهر الثبوت وقيل: ظن في هذه العبارة ليس فعلَا مجهولاً بل مصدر منوّن مرفوع لأنه خبر أنّ مقدم والمراد تزييف نسبته إليه، والردّ على الزمخشري في قوله: إنه مذهب أبي حنيفة تلميحاً لقوله تعالى: {إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ} (قلت) وهو من بعض الظن أيضا. وما في الكشاف: إن لم نقل أنه ظفر برواية عنه بناء على إطلاق مذهب أبي حنيفة على ما يشمل كلام أصحابه كما هو المتداول بينهم. فمان قلت: كيف يصح القول بأنها ليست منها وأن أبا حنيفة لم ينص فيها بشيء مع أنّ محمد بن القاسم، والبرهان الكافي وغيرهما نقلوا عن أبي حنيفة رحمه الله تعالى إيجابها في الصلاة، حتى قال الزيلعي رحمه الله: يجب سجود السهو بتركها، ونقل عن المجتبى وجوبها في كل ركعة قلت: قال أستاذي المقدسي في كتاب الرمز عن شرح المختار لشيخه السمديسي: إنها ليست بواجبة فقد حكى المحققون كالإمام أبي بكر الرازي والكاشافي وغيرهما أن الخلاف في السنية لا في الوجوب، وقال بعض المحققين: القول بوجوب البسماة ليس له أصل في الرواية وما نسب إلى أبي حنيفة من الخلاف في الوجوب من طغيان اليراع، وكذا ما ذكره الزيلعي ويلزم مما ذكر أنها ليست آية من غيرها أيضاً إذ لا قائل بأنها آية من غير الفاتحة فقط قوله:(وسئل محمد الخ) الدف والدفة بفتح الدال المهملة وتشديد الفاء الجنب من كل شيء، ودفتا المصحف جانبا جلده المتضمن له ونحوه وهو أيضاً لم ينص على نفي، وإثبات تأدّيا وان كان المراد قرآنيتها، والمراد المصاحف العثمانية القديمة المتداولة، فلا يرد كتابة القنوت في مصحف ابن مسعود رضي الله عنه. فإدط قلت: ما بين دفتي المصحف صور الألفاظ ونقوشها وكلام الله إمّا لفظيّ أو نفسيّ فما وجه إطلاقه عليها.

قلت: في المواقف أنّ الكلام يطلق بالاشتراك عليها وعلى صور الألفاظ، والصور دلائل

ألفاظ القرآن، ولشذة الامتزاج يقال لها قرآن انتهى وأورد عليه أنه كلام متناقض، لأنّ قوله بالاشتراك يقتضي أنه حقيقة، وقوله لشدة الامتزاج يدل على أنه مجاز، وهو من إطلاق الدال على مدلوله، وفي قوله لشذة الامتزاج تسامح ظاهر، ورذ بأنه لا منافاة لأنه مجاز بالعلاقة المذكورة شاع فصار حقيقة عرفية، ولما قال محمد: هذا قيل له لم نسرّ بها فلم يجب إشارة إلى أنه أمر تعبدي لا ينبغي الخوض فيه، وما قيل في توجيهه من أنّ نزولها للفصل والتبرك ولا يلزم أن يثبت لها سائر أحكام القرآن، أو هي لقوّة الشبهة في قرآنيتها في أوائل السور ألحقت بالأذكار، والأصل فيها استحباب الإسرار فسكوت محمد رحمه الله أبلغ منه، فإنها كيف تكون للفصل، وهي في الابتداء، ولو قيل بالتبرك وحده، فهو لا يدري مع الإخفاء، والحاق القرآن بالأذكار فيه عبرة لأولى الأبصار فتدبر. قوله: النا أحاديث كثيرة الخ) أي يدل لنا، والأحاديث

جمع حديث لا أحدوثة على خلاف القياس والضمير لأصحاب المذهب الأوّل، وقد عرف اًن منهم من يقول بكونهم بعض آية من السور، وان لم يذكره المصنف، كما أنّ منهم من يقول بكونها آية من كل سورة وهم المذكورون على ما في الكشاف وشروحه. فمجموع الفريقين يستدل على المدعى الأعمّ المشترك بالحديثين على التوزيع أي من يقول بكونها آية من كل سورة يستدل بحديث أبي هريرة رضي الله عنه على جزء دعواه وهو المعنى الأعم، ومن يقول بكونها بعض آية من السورة يستدل بحديث أم سلمة رضي الله عنها عليه، وما قيل. من أنّ الاستدلال على جزء المدعى بما ينافي الكل غير مستحسن خصوصا عند الحاجة إلى ارتكابه لا وجه له إذ عدم المنافاة ظاهر، وأما الإجماع والوفاق مع المبالغة في التجريد فلنمي مذهب المخالف إذ لا يلزم من كونها كلام الله بل من القرآن كونها من الفاتحة، ونقل عن المصنف هنا حاشية، وهي هذان الدليلان يدلان على أنها من القرآن

ص: 27

لا أنها من الفاتحة اللهم إلا أن يضم إلى الدليل الأوّل في كل محل أثبتت فيه، والى الثاني عما ليس بقرآن في محله والقيدان في حيز المنع انتهى.

وأنت تعلم أنه على تقدير تسليم القيدين لا يلزم كونها جزأ من الفاتحة لجواز كونها قرانأ

في صدر السورة، وليست جزأ منها، وكون القرآن مفصلاً سورا وسوره آيات فإذا كانت من القرآن كانت من سوره قطعاً ممنوع عند الخصم واذا حمل قوله ليست من السورة عنده على.، ذهب إليه المتقدمون لم يكن المصنف رحمه الله متعرّضا إلا لخلاف من قال: إنها ليست ص، القرآن أصلاً لا لمن قال إنها آية فذة فيلزم من قرآنيتها كونها من الفاتحة لعدم القاثل بالفصل إلا أنه إنما ينفع في إلزام الخصم لا في إثبات المدّعى وهذا تحقيق حقيق بالقبول، وإن كان هـ أعلى أنّ المراد بالسورة في كلام المصنف رحمه الله الجنس لا الفاتحة بقرينة مقابلة وتد مز، وتفصيله في المطوّلات، فاستدل الشافعيّ رحمه الله بهذا الحديث، وما ضاهاه، وتد قيل عاء4 إنه موقوف، وفي سنده ضعف، وهو معارض بما روي عن أبي هريرة رضي الله عنه أيضاً أ / " تعالى قال: < قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين ولعبدي ما سأل فإذا قال الحمد لله رب العالمين قال الله حمدتي عبدي >) 3) الحديث. وما ذكر خبر واحد والمسألة مما يطلب هـ " اليقين. وأجيب بأنه روى من طرف أخرى تقوّى بها وأنّ له حكم المرفوع لأنّ مثله لا يقال. من قبل الرأي، وما رووه من الحديث القدسي مداره على العلاء بن عبد الرحمن وقد ضعمه الم،

معين، وهو انفرد بروايته مع احتماله التأويل بأنّ التقسيم لما يخص الفاتحة والبسملة مشتركة بينها وبين غيرها، وردّه ابن عبد السلام رحمه الله بأنّ ظاهره ليس بمراد، لأنّ الصلاة ليست مقسومة بالإجماع بدليل السورة المضمومة بل بعض القراءة، فالتقدير قسمت بعض قراءة الصلاة، وبعض قراءة الصلاة لا يستلزم الفاتحة فالمقسوم بعض الفاتحة، ونحن نقول به انتهى. وفيه نظر بعد، وكونه مما يطلب فيه اليقين قول القاضي أبي بكر الباقلاني، وقد خالفوه

حتى قال القرطبي رحمه الله المسألة اجتهادية ظنية لا قطعية، كما ظنه بعض الجهلة من المتفقهة.

) أقول (فيه إنّ القرآن على المشهور إنما ثبت بالتواتر وهو قطعي، فكيف يقال إنّ المسألة

ظنية ويجهل من قال بقطعيتها وقد أجيب بأنّ المتواتر كونه منزلاً من عند الفه للإعجاز بنوعه وقرآنيته وأمّا كونه جزأ منه في بعض معين فليس بمتواتر والا لم يسمع الاختلاف فيه، وتحقيقه كما في تفسير السمين المسمى بالوجيز أنّ الأحاديث تدل على أنّ البسملة آية من الفاتحة، وهي متعاضدة محصلة للظن القوي بكونها قرآنآ والمطلوب هنا الظن لا القطع خلافاً لأبي بكر الباقلاني حيث قال: لا يكتفى هنا بالظن، وشنع على الشافعية، وقال: كيف يثبت القرآن بالظن، وأنكر عليه الغزالي رحمه الله، وأقام الدليل على الإكتفاء بالظن، فيما نحن فيه كحديث كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يعرف ختم السورة حتى تنزل عليه بسم الله الرحمن الرحيم (1 (والقاضي معترف بهذا، ويتأوّل على أنها كانت تنزل، ولم تكن قرآناً، وليى كل منزل قرآنا قال الغزالي رحمه الله ما من منصف إلا وششبرد هدّا التأويل ويضعفه انتهى.

(أقول (هذه مسألة أصولية اختلف فيها وحاصلها أنه هل يكفي فيما نحن فيه الظن لأنّ التواتر إنما يشترط فيما يثبت قرآناً على سبيل القطع كغيرها من القرآن فأما ما يثبت قرآنا على سبيل الحكم فيكفي فيه الظن كما مرّ عن الغزالي ومعنى كونه على سبيل الحكم أنّ له حكم القرآن مبن الكتابة بين الدفتين ووجوب القراءة وهو الأصح عند الشافعية وذهبت الحنفية إلى أن كل ما يشمى قرآنا لا بد فيه من القطع والتواتر في نفسه ومحله كما في سورة النمل، وما بين السور ليس كذلك فحيث انتفى ذلك انتفت القرآنية والشافعية مختلفون في هذه المسألة، فمن ذاهب إلى المنع على الأصح عندهم، ومن ذاهب إلى التسليم مذع لثبوت موجبه لأنّ اثباتها في جميع المصاحف في معنى التواتر وانما لم يتواتر تسميتها قرآنا، وآية بالنقل عنه عليه الصلاة والسلام إذ لو تواتر لكفر جاحدها، وهو لا يكفر بالاتفاق بينهم، ولا ضير فيه إذ لا يلزم من انتفاء تحققه تحقق انتفائه، وهو المذعى لهم.

قوله:) وقول أمّ سلمة الخ) هي أمّ المؤمنين رضي الله عنها من كبار الصحابة وسلمة بفتح

السين المهملة واللام والميم، وحديث أبي هريرة رضي الله عنه أخرجه الطبراني وابن مردوية والبيهقي وصحح الدارقطني ما يفيد معناه وحديث أمّ سلمة رضي

ص: 28

الله عنها لم يثبت بهذا اللفعل، وانما الوارد في طرقه أنه عد البسلمة آية وصحح البيهقي بعض طرقه، وتفصيله في حاشية السيوطي رحمه الله، وقد طعن الطحاوي فيه بأنه رواه ابن مليكة ولم يثبت سماعه منها مع أنه روى عنها ما يخالفه.

وأجيب: بأنّ له حكم الاتصال لأنه تإبعي أدركها وعدم السماع خلاف الأصل وقد روى الشيخان ما يعارضه من حديث كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفتتح القراءة بالحمد لله رلث العالمين وتأويله بأنّ معناه يفتتح القراءة بهذه السورة لأنه علم لها خلاف الظاهر، وقد رووا أحاديث كثيرة تؤيده، وقد حمل النفي الواود على نفي السماع والجهر، وقيلى: إنّ عليا رضي الله عنه كان مبالغاً في الجهر فشدد بنو أمية في المنع منه إبطالاً لآثاره، واضطراب رواية أنس فيه لا يبعد أن يكون لخوف بني أمية، ولا يخفى فساده لما فيه من سوء الظن بالسلف، وقول الدارقطني: لم يصح في الجهر حديث يشهد على فساده وما قيل من أن الخلاف في التسمية ينفي تواتر القرآن، فلا بد من القول بعدم جزئيتها حتى يكون القرآن متواتراً ردّ بما في النشر من أنّ هذا الاختلاف كاختلاف القراآت بالزيادة والنقص، ولكنها عند الجمهور ليس لها حكم القرا آت في جواز الترك احتياطا ليحصل الخروح من فرض الصلاة يقينا. قوله:(ومن أجله الخ (بإفراد الضمير أي من أجل اختلاف الرواية، أو من أجل ما ذكر، وفي بعض النسخ من أجلهما بضمير التثنية أي من أجل الروايتين أو الحديثين، فإن قلت: الحديثان متعارضان، وليس هذا مما يقع فيه النسخ حتى يقال: المتأخر ناسخ للمتقدّم ما لم يمكن الجمع بينهما. قلت: قد جمع بينهما بأنّ أمّ سلمة فهمت كونها بعض آية من الوصل والوقف على العالمين، وهو لا يدل على ذلك مع أنّ حديث أمّ سلمة لم يصح بهذا اللفظ، كما في الإتقان. قوله: (والإجماع على أنّ الخ) هو مرفوع لعطفه على أحاديث أو لأنه مبتدأ خبره على أنّ الخ. قيل: من المخالفين من نفي كونها من الفاتحة، ومنهم من نفى كونها في أوّل السورة قرآنا، والمصنف أراد أن يصرح برد كل منهما فأتى بالأحاديث لرد الأوّل وبالإجماع لردّ الثاني والإجماع المشهور قول وفعل، والأوّل أقوى ولذا قدّمه وعبر عن الثاني بالوفاق، وأورد عليه أنهما لا يثبتان كونها جزأ من الفاتحة لما مرّ، وجوابه يعلم مما قدمناه، والمراد بالمصحف هنا المصحف العثماني، وما جرى على وسمه من المصاحف القديمة، وهي مجردة عن أسماء السورة وغيرها فلا يرد أنه يكتب في المصاحف أسماء السور وعدد آياتها، وكونها مكية أو مدنية ولو أطلق، فالمراد بما فيه ما فيه احتمال القرآنية، وهذه خارجة بالإتفافي، والمخصص عقلي فبقي الثاني على عمومه قطعاً وثبت بحجة قطعية أو أمر ظني كما مرّ، فلا يرد أنّ العام إذا خص منه البعض لم يبق

حجة قطعا ولا حاجة إلى الجواب بأنه مميز بكتابته بلون آخر أو خط آخر، وما نقل عن ابن مسعود رضي الله عنه من أنّ الفاتحة والمعوّذتين ليست من القرآن لا أصل له، وأن اذكر في مطاعن القرآن من الكلام. قوله:(مع المبالنة في تجريد القرآن الخ) يعني أنّ الإجماع والإتفاق المذكورين مع المبالغة ني تجريده بحسب الظاهر يقتضي أنها من القرآن في ذلك المحل، والمخالف فيه لا يسلمه ويقول: إنه إنما يقتضي أنها قرآن وأمّا كونها من السورة، فلا ولا يرد أنه لا نزاع في هذا الإجماع، فكيف جاز للحنفية مخالفته، وقد روى عن ابن مسعود رضي الله عنه جرّدوا القرآن، ويروى جرّدوا المصاحف أخرجه عبد الرزاق والطبراني عن ابن عباس وعن ابن مسعود أنه كان يكره التعشير في المصاحف، وقال البيهقي: المراد لا تخالطوا به غيره وعن قرظة بن كعب أنه قال لما خرجنا إلى العراق قيل: إنكم تأتون أهل قرية لهم دويّ بالقرآن كدوقي النحل، فلا تشغلوهم بالأحاديث، فتصدوهم وجرّدوا القرآن كما في غريب الحديث. وفيه أنه يحتمل أمرين التجريد في التلاوة وأن لا يخلط به غيره والتجريد في الخط، والنقط والتعشير حتى قيل يكره نقطه وشكله وأوّل من فعل الأوّل أبو الأسود الدؤلي، وأوّل من فعل الثاني الخليل بن أحمد، والمتأخرون على أنه بدعة حسنة، وقيل: هو أمر بتعليم القرآن وحده دون غيره من كتب الله لتحريفها. قوله: (حتى لم يكتب آمين) غاية لتجريد القرآن عن غيره، لأنها أبعد أفراد ما ليس بقرآن عن عدم الكتابة لأنها مأمور بذكرها بعدها، ولذا قيل إنه دليل على السلب الكلي المستفاد من المبالغة في التجريد، وهو لا شيء مما ليس من

ص: 29

القرآن أذن في كتابته لأنّ أنسب الأشياء بالإذن آمين، فإذا لم يؤذن فيه كان غيره أولى، وقد قيل عليه لا نسلم هذا بل أنسب الأشياء مما ليس من القرآن البسملة، فإنّ من ذهب إلى أنها ليست من القرآن يقول أثبتت فيه للتبرك والفصل، والإذن من الشارع إلى غير ذلك مما لا يوجد في آمين ولا يخفى أنه محل النزاع 0 قوله: (والياء متعلقة بمحذوف الخ (تقديره أي تقدير المحذوف وحروف الجرّ تسمى حروث- الإضافة أيضاً وهي تفضي بمعاني الأفعال وما أشبهها، وما يفضي بمعناه يسمى متعلقا لها بفتح اللام وهي متعلقة بكسرها وقد يعكس ذلك، ثم قال: وسائر الظروف منها ما هو لغو، وما هو مستقرّ بفتح القاف لأن معنى العامل استقرّ فيه فهو من الحذف والإيصال، واختلف في تفسيرهما فقيل: اللغو ما يكون عامله مذكوراً، والمستقرّ ما يكون محذوفا مطلقاً، وقيل: المستقرّ ما يكون عامله عامّا من معنى الحصول والاستقرار، وهو مقدّر واللغو بخلافه كما في اللب، ويسمى مستقرّ التقدير معنى الاستقرار، والمفهوم من اللب وشرحه أنّ اللغو ما يكون عامله خارجا عن الظرف غير مفهوم منه سواء ذكر أو لا والمستقرّ ما فهم منه معنى عامله المقدر الذي هو من الأفعال العامة، ولما كان تقدير الأفعال العامة مطرداً اعتبره النحاة، وفسروا المستقرّ بما عامله محذوف عام وكائن المقذر هنا من كان التامة، وإلا تسلسلت التقديرات، كما قاله الفاضل الشارح، وتقديره خاصاً هنا لأنه أولى عند قيام قرينة الخصوص، وأتم فائدة وكون

هذا لغواً أو مستقرّا علم مما ذكر، والحاصل أنّ متعلقه أما مذكور أو محذوف، وعلى الثاني مؤخر أو مقدم عام أو خاص، فعل أو اسم، مفرد أو جملة، ويضم له معاني الباء فتزيد احتمالاته على ثلاثين، واختار المصنف منها كونه فعلاً خاصاً مؤخرا، وفي الكشاف تقديره أقرأ أو أتلو إشارة إلى أنه لا يتعين هنا لفظ بل كل ما يؤذي هذا المعنى ولظهوره تركه المصخف فلا يتوهم أنّ الأحسن ذكره كما قيل. قوله:(بسم الله أقر " بلفظ المضارع ورجح بعضهم تقديره ماضيا لوروده كذلك كما في الحديث " باسم ربي وضعت جنبي " (1 (ومنهم من قدره أمرا وعن الفراء أنه قال المقدّر فعل أمر لأنه تعالى قدم التسمية حثا 4 للعباد على فعل ذلك، فالتقدير ابدؤا أو اقرؤا ورواه السيوطي عن ابن عباس رضي الله عنهما، وهو المناسب لتعليم العباد الآتي. قوله: (لأن الذي يتلوه مقروء الخ) ضمير يتلوه للفظ التسمية، ومقروّ بتشديد الواو وتخفيفها قبل همزة لأنه يقال: صحيفة مقروّة ومقروأة ومقرية، والمراد بما يتلوه ما جعل التسمية مبدأ له، وفي الحواشي الشريفية فإن قلت: الأولى أن يقال لأنّ الذي يتلوه قراءة لأنّ المقصود افتتاح القراءة بالتسمية كما يدل عليه قوله وكذلك يضمر كل فاعل الخ قلت: المراد بتلو المقروّ تلو القراءة لاستلزامه إياه وانما ترك ذكره ودلّ عليه يتلو المقروّ رعاية للمجانسة بين التالي والمتلو إذا أمكنت، وبيانه أنّ البسملة يتلوها فيما نحن فيه شيئان.

أحدهما: من جنسها ويتلو ذكره ذكرها وهو المقروّ.

والثاني: من غير جنسها، ويتلو وجوده ذكرها، وهو القراءة، وتلو كل واحد منهما مستلزم تلو الآخر، فصرّح بتلوّ الأوّل ليفهم الثاني مع المحافظة على التجانس، وإنما قلنا إذا أمكنت الرعاية، لأن تسمية الذابح مثلاً لا يتلوها إلا الذبح لتبع وجوده لذكرها، وأمّا المذبوح فلا يتغ ذكرها لا في الوجود ولا في الذكر فلا يستقيم أن يقال ما يتلو التسمية مذبوح انتهى. فإن قلت على تقدير كونها من القرآن أو السورة كيف يتأتى تقدير أقرأ فعل المتكلم وهي متقدمة على قراءة هذا القارىء بل على وجوده وكيف يتأتى أن يقال القراءة قرينة لهذا المقدر، فينبغي أن يقدر اقرؤا من أمر الله للعباد ليتحد قائل الملفوظ، والمقدر، ويكون على نسق ما نطق به التنزيل. قلت: الظاهر أنه على هذا يقدر قبل قراءة كل قارىء ويكون إخباراً منه تعالى عما يصدر من عباده وليس المراد باقرأ متكلما مخصوصا، بل من يصح منه التكلم على حد قوله:{وَلَوْ تَرَىَ إِذْ وُقِفُواْ عَلَى النَّارِ} [الأنعام: 27] وبعد الوقوع ينوي كل بالضمير نفسه كما في الاستفتاح بقوله: " وجهت وجهي " الخ ومن هنا يتبين لك وجه جعل القرينة المقروّ دون القراءة، لأن ذلك القدر اقتضى تقديره في الأزل يدل عليه المقروّ قبل وجود القراءة، فعبر به

المصنف رحمه الله بناء على مذهبه، والزمخشري ليشمل المذاهب فلا حاجة لما ذكره قدس سره ولا للاعتذار بأنّ القرينة اللفظية أظهر، ثم قوله إنّ المذبوح الخ إن أراد به

ص: 30

الشاة وإن لم تذبح، فمثله لا يسمى مذبوحا حقيقة، وان أراد بعد تعلق الذبح به، فكونه لا يليه في الوجود غير مسلم إذ المذبوح من حيث هو مذبوح تال له بلا مرية، فإن قلت مقدّرات القرآن هل هي منه حتى يطلق عليها كلام الله أم لا قلت: معانيها مما يدل عليها لفظ الكتاب التزاما للزومها في متعارف اللسان فهي من المعاني القرآنية، وأمّا ألفاظها فليست منه لأنها معدومة، ومنها ما لا يجوز التلفظ به أصلاً كالضمائر المستترة وجوبا، وأمّا جعلها مقدرة فامر اصطلاحي ادّعاه النحاة تقريبا للفهم، فانظره فإنه من الحور المقصورات في الخيام، ثم إنّ في جريان هذا التقدير على القول بأنها آية فذة، ولذا وقف عليها بعض القراء نظر أو بتفسير ما يتلوها بما مر مما قصد جعله تالياً لها، وجعلت مبدأ له، وان كان يقارنه غيره سقط ما قيل من أنّ الذي يتلوها، كما وقع عليه القراءة وقع كثير من الأفعال، ككونه ملفوظا ومحدثا ومؤلفا وغير ذلك، والمراد بقوله: كل فاعل الفاعل الذي جعل التسمية مبدأ لفعله بقرينة السياق لسقوط غيره عن درجة الاعتبار، والمراد بالإضمار معناه اللغوي أي أنّ كل فاعل يتصوّر ما هو بصدده من الأفعال، فالظاهر أن يقدر بحسب الصناعة ما يليق به، فلا يرد عليه ما قيل لا نسلم أنّ كل فاعل يضمر اللفظ المذكور بل يقصد المعنى، وينويه ولا حاجة إلى الجواب: بأن النفس تعوّدت ملاحظة المعاني، وأخذها من الألفاظ حتى تناجي نفسها بألفاظ متخيلة كما نقله السيد عن ابن سينا، وان كان هذا أمراً عقليا وجدانياً لا منطقيا اصطلاحيا كما توهم، ثم اختار مقروّا على متلوّ مع ما فيه من التجنيس حتى قيل: إنّ تقديره أحسن لما فيه من الإبهام المشوس لذهن السامع فما اختاره أظهر، وبمقام التفسير أنسب قوله:) وكذب يضمر الخ) أي كالقارىء الذي يضمر القراءة التي جعلت التسمية مبدأ لها يضمر الخ، وهذا تتميم للفائدة بوضع قاعدة مطردة كلية في تقدير كل متعلق باسم الله، وقد تبع 10 لمصنف في هذه العبارة الزمخشري، وفيها تسامح كما في عامة حواشيه، فإنّ التسمية جعلت مبدأ للفعل الحقيقي كالقراءة والحلول والإرتحال، والمضمر الفعل النحوي الدال عليه فلا بد من تقدير في الكلام في آخره بأن يقدر ما جعل التسمية مبدأ لمعناه أي معنى مصدره، وهو معناه التضمني أو في أوّله بأن يقدر لفظ ما تجعل التسمية مبدأ له وهذا مختار الشريف تبعا للشارح المحقق، وتبعه المحشون للكشاف وهذا الكتاب، وقد قيل عليه إنّ اعتبار الحذف قبل مسيس الحاجة إليه غير مرضي وهنا كما يحتمل أن يكون المراد بكلمة ما في عبارتهم المذكورة المعنى يحتمل أن يكون اللفظ، ووقوعها بعد قوله يضمر الخ يقتضي الثاني، فالأول الحمل عليه بلا تقدير، فإذا جاء قوله ما جعل التسمية الخ مست الحاجة للتقدير فيقدر فيه معنى، ويؤيده أنّ ما جعل التسمية مبدأ له الفعل الحقيقي أي القراءة، والمضمر فعل اصطلاحي، وهو أقرأ والقول بأن أقرأ لفظ للقراءة، كما اقتضاه تقديرهم غير متعارف بخلاف القول بأن القراءة معنى أقرأ

اللازم لتقديرنا، فإن معنى اللفظ يراد به المعنى التضمني كثيرا، وقيل عليه أيضا إن هذا الإضمار إنما يحسن لو كان المقدر مصدراً، وقد يقال يجوز أن يراد بالإضمار الإخفاء في القلب لا الحذف، فيتعلق بالمعنى لكنه لا يلائم المشبه به، أو يجعل ما مفعولاً لفاعل، وفيه أنّ المقصود بالبيان التقدير، ولم يحصل إلا أن يقال علم من التشبيه، وقد يوجه بالاستخدام بأن يراد بلفظ ما اللفظ وبضميرة المعنى.

(أقول) : ما ذهب إليه الشراح هو الأظهر، وكونه قثل الاحتياج إليه أمر سهل، فإنّ المبادرة إلى الإصلاح أصلح وأوضح، واذا كان جزء المعنى يطلق عليه معنى فلا بعد في جعل اللفظ له، وما ذكر من كون المقدّر مصدرا غير صحيح لما عرفت من أنه معنى تضمني لا مطابقي، فإن قلت: الذابح مثلاً إذا ذكر البسملة يريد التيمن بالقرآن وتقدير أذبح لا يناسب كونها قرآنا، وتقدير أقرأ لا يناسب فعله قلت: هذا تخيل فاسد تخيله بعض الناس، وليس بشيء، فإن كالاقتباس لفظه منقول من لفظ القرآن إلى معنى آخر كما نبه عليه علماء البديع، فإن قلت كيف قيل هنا بالاستخدام، وتعريفه لا يصدق عليه، لأنه ليس هنا معنيان برجع الضمير لأحدهما قلت: هو كقولك بعته بدرهم ونصفه، وسيأتي بيانه في قوله تعالى:{وَمَا يُعَمَّرُ مِن مُّعَمَّرٍ} [فاطر: اا] الآية ولفظ ما عام عموما بدليا، وقد أريد به أحد ما يصدق علبه، وأرجع إليه الضمير باعتبار الآخر مع أن

ص: 31

أبا عذرته لم يصرح بالاستخدام ومن لم يقف على مراده قال إنه غير صحيح، وغاية توجيهه أنّ كل لفظ إذا أطلق يصح أن يراد به معناه الموضوع له ونفس لفظه كما في نحو ضرب فعل فما عبارة عن الفعل باعتبار لفظه أو باعتبار معناه ولا يخفى فساده، فإنه لم يؤت بلفظ الفعل ولا بما يصدق عليه بل بما المكنيّ به عنه فتدبر. قوله:(وذلك أولى الخ) ردّ على من زعم أن تقدير الإبتداء أولى لأنهم يقدرون متعلق الظرف المستقرّ عاما كالكون والحصول، ولأنه مسثقل بما قصد بالتسمية من وقوعها مبتدأ بها، فتقديره أوقع في المعنى ولا يرد عليه {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} لأنّ الأهم هنا فعل القراءة لا الابتداء لوقوعه في أوّل البعثة قبل أن يألف القراءة المطلوبة منه، ولذا صرح به وقدم، وردّه صاحب الإنصاف بأن تقدير الخصوصيات أحسن وأليق بالمقام، وأولى بتأدية المرام لأن تقدير أقرأ يدل على تلبس القراءة كلها بالتسمية على وجه التبرك والإستعانة وابتدىء يفيد تلبس ابتدائها، وتقدير النحاة لا يجد به لأنه تمثيل، وتقريب اقتصروا عليه لإطراده، وأذا قامت قرينة الخصوص نحو زيد على الفرس، فلا شك في أنها أولى، وأمّا قوله إنّ الغرض وقوع التسمية مبتدأ بها فمسلم لكن معناه أن يجعل في الأوائل سواء قدز لفظ الابتداء أو لا، وقد قيل إن في تقدير أقرأ امتثالاً للحديث فعلاً فقط، وفي تقدير أبدأ امتثالاً له قولاً وفعلاً، ولا شك أنه أولى. (قلت) هذه مغالطة لا يلتفت إليها بعد ما نوّر. شراح الكشاف لأن الامتثال القوليّ إن أراد

به أنّ معنى قوله لا يبدأ فيه باسم الله لا يقدر فيه أبدأ فغير صحيح لأنه أمر اصطلاحي حادث

بعد عصر النبوّة فلا يصح حمله عليه وان أراد مجرّد الموافقة اللفظية، فيعارض بما يرجح مقابله كإفادة تلبس الفعل كله بالتبرك ونحوه، وفي بعض الحوإشي فإن قلت الحديث المشهور المستدعي للابتداء بالبسملة، ووقوعها في الابتداء قرينة ظاهرة على تقدير أبدأ قلت: لا يصلح شيء منهما لذلك أمّا الحديث، فلأنه يستدعي تقدّم البسملة على الأمر ذي البال، والتلفظ بها في ابتداء ذلك الأمر ولا يستدعي تقدير ابتدىء أو فعل آخر، وأمّا الوقوع في الابتداء، فإنه وان صلح مع حث الشارع على وقوعه فيه قرينة لكنها ليست بظاهرة لأنه لو كفى قرينة على تقدير أبدأ لكفى الوقوع في النهاية والوسط على تقدير الانتهاء والتوسط، وليس كذلك، وهو كلام حسن، وفي قول المصنف رحمه الله لعدم ما يطابقه إشارة ما إليه إذ معناه أنّ كل ما صرح فيه بالمتعلق ذكر مخصوصاً نحو باسمك ربي وضعت جنبي وغيره مما ضاهاه، وقيل: المراد عدم ما يطابقه في القرآن لوقوع القراءة مستعلقاً في قوله: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} [العلق: ا] ولم تقع الباء فيه متعلقة بإبدأ، وردّ بأنه في الآية ليس تعلقه به متعيناً، ولو سلم فلا يلزم كون ما في أوائل السور مثله، ولذا قيل: إنّ المطابقة بهذا الاعتبار لا تصلح مرجحاً بدون ملاحظة ما ذكر عند وجود القرينة الدالة على تعيين المحذوف في محل التكلم، فلا يلتفت إليها فيصلح لأن يعتبر ضميمة لا استقلالاً.

(بقي ههنا بحث) وهو أنّ الشريف كغيره قال في تقرر تقديره عاماً زعم بعض النحاة أنّ تقدير الابتداء أولى فيقال بسم الله ابتدىء القراءة مثلَا، ولا يخفى أنّ ابتداء القراءة أخص من القراءة لا أعم لصدقها على قراءة الأوّل والوسط والآخر واختصاص ابتداء القراءة بالأوّل وليس هذا هو الكون، والحصول الذي قدره النحاة حتى يحتاج إلى الجواب وما قيل من عموم ابتدئ باعتبار أنه منزل منزلة اللازم لكته يعلم بقرينة المقام أنّ المبتدأ به هو القراءة، أو باعتبار أصل العامل في الجميع لا يخفى فساده، فإنه إذا دل المقام على إرادته ما معنى تنزيله منزلة اللازبم حينئذ وكونه باعتبار الأصل لا يدفع السؤال باعتبار الحال فتدبر. قوله:(لعدم ما يطابقه وما يدل عليه) وفي نسخة ويدل عليه بدون ما والضمير المرفوع للموصول والمنصوب لأبدأ، والمراد بما يدل عليه القرينة الدالة عليه دلالة ظاهرة، وإن وجد الدليل في الجملة، فلا يرد عليه أنه يدل على عدم صحة إضمار أبدأ لا على مرجوحيته، وقوله أولى يدل على خلافه فإنّ ابتداءه بالبسملة قرينة لإرادة البدء لكنها في الظهور ليست بمنزلة الأولى، فسقط أنّ وقوعه في الابتداء دال عليه كغيره من الدلالات الحالية إذ لا قرينة إلا مقارنة الفعل وهي داعية إلى تقدير شيء من جنسه لا إلى تقدير الابتداء وقيل معنى قوله: وذلك أولى أن إضمار كل فاعل ما جعل التسمية مبدأ له أولى من إضماراً بدأ لعدم ما يطابقه فيما إذا كان

ص: 32

الفعل الواقع بعده غير ممتدّ، ولا يخفى بعده.

وأمّا كون تالي التسمية ما يصدق عليه مقروء لأنفسه فسهل لأنّ تحقق ما يصدق عليه الشيء تحقق له، وقد يقال يمكن اعتبار مثله عند تقدير ابدا لأن الفعل المبدوء بالتسمية يصدق عليه المبدوء بها، وقد أجيب عته بأنّ عنوان القراءة أقرب إلى الفهم لأنه المقصود من التصدير بالتسمية، وفيه نظر ظاهر. قوله:(أو ابتدائي لزيادة إضمار فيه) ومو إضمار المصدر وفاعله والخبر سواء جعل الجار والمجرور متعلقاً بالمصدر المذكور أو خبراً، وسواء قدر ابتدائي أو بدئي وهذه احتمالات عقلية والا فكلامه مقتض لتعلق الجار بابتدائي والسياق صريح فيه، ويلاحظ هذا مع ما مر من عدم المطابقة والدلالة، وأقرأ وان كان جملة فعلية والفاعل مستترة، وأقل لما مرّ ودلالة الإسمية على الثبوت معارضة بدلالة المضارع على الاستمرار التجددي المناسب للمقام، وقيل زيادة الحذف هنا باعتبار زيادة الحروف فلا بد أن حذف الجملة ليس أقل من حذف المضاف والمضاف إليه، وأورد عليه أن النظر هنا متوجه إلى المعنى كما مرّ في كلام الكشاف في ذكر أقرأ وأتلو، وهنا لو قذر بدئي لا زيادة له في الحروف وانما ارتكب هذا التكلف بناء على أنّ أهل المعاني لا يطلقون الحذف على إضمار العام، وأنت تعلم أن كلا منا في زيادة الإضمار سواء أطلق عليه الحذف عند أهل المعاني أم لا، ثم إنّ المصنف رحمه الله لما أتمّ الكلام على تقديره فعلاً خاصاً شرع في بيان تقديمه. قوله:(وتقديم السول ههنا أوقع الخ) هنا إشارة إلى البسملة في أوائل السور، وأوقع بمعنى أحسن مرقعاً وأنسب بمقامه يقال: إنه ليقع مني في موقع مسرة وله موقع حسن كما في الأساس، وقيل: أوقع بمعنى أثبت وأمكن من وقع الحق إذا ثبت وثباته باعتبار وقوعه في محل يقتضيه الحال، وفي نسخة بدل المعمول المفعول أي المفعول بواسطة حرف الجر وقوله ههنا للاحتراز عن نحو:{اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} [العلق: أ] مما يقتضي المقام تقديم عامله لأنه أوّل نازل من الآيات اهتماما بثأن القراءة وان كان اسم الله أهم في ذاته كما سيأتي. قوله: كما في قوله: {بِسْمِ اللهِ مَجْرَاهَا} [هود: 41] تنظير له باعتبار المتبادر لا استشهاد ونقل الفاضل الليثي هنا حاشية عن المصنف رحمه الله وهي أي على تقدير أن يكون معناه مجراها وفي نسخة مجراة بالنصب والتنوين باسم الله وجوز فيه غير هذا الوجه انتهى.

يعني أن التمثيل به على تقدير أن يكون عاملَا في باسم الله بناء على وجواز تقديم معمول المصدر عليه مطلقا، واذا كان جاراً ومجروراً لأنه مصدر ميمي بمعنى الإجراء والإرساء أي ذلك باسم الله لا بهبوب الرياح والقاء المرساة بكسر الميم وقيل إنه إشارة إلى وجه كون الجملة الإسمية حالاً بدون الواو لأنها في تأويل المفرد كما في قوله:{بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ} [البقرة: 36] أي متعادين وفيه نظر ستراه ثمة، وقيل: هو تنظير لمجرّد التوضيح حيث قذم فيه هذا الظرف بعينه إلا أنه مستقز، وفيما نحن فيه لغو فدل على تقدم المتعلق هنا خصوصاً على القول بأنّ المبتدأ عامل في الخبر والاستشهاد أيضا، إنما يتأتى إذا جعل اسم الله خبرا

لمجراها لا متعلقا باركبوا كما أشار إليه المصنف رحمه الله حيث قال إنه حال من الواو أي اركبوا فيها مسمين الله أو قائلين باسم الله وقت إجرائها وإرسائها أو مكانهما على أنّ المجرى والمرسي للوقت أو المكان أو المصدر والمضاف محذوف كقولك آتيك خفوق النجم وانتصابهما بما قدر حالاً أو جملة اسمية من مبتدأ وخبر انتهى.

وقيل عليه: إنّ الاستشهاد ليس بصحيح على الوجوه كلها لأنها منافية له، ودفعه يعلم

مما مرّ، واياك نعبد مثال لتقديم مطلق المعمول. قوله:(لآنه أهم الخ) الظاهر أنّ الضمير للمعمول فإن أهميته تقتضي التقديم حتى صار قولهم المهم المقدم كالمثل كما قال:

فقلت له هاتيك نعمى أتمها ودع غيرها إنّ المهم المقدم

لكن قوله أدل وما بعده يقتضي كون الضمير للتقديم لأنها من صفاته إلا أن يكون فيه

تقدير تقديمه ولذا قيل إنّ الضمير للتقديم وإن كان أهميته باعتبار ما أضيف إليه لأنّ قوله أدل وما بعده معطوف على أهم ولا يصح أن يقال المعمول أدل إلا بتكلف أن يكون المراد وتقديمه أدل بحذف المضاف واقامة المضاف إليه مقامه وفيه ما فيه، وأهميته ذاتية لاشتماله على اسم الذات الأقدس المعبود بحق لأن الاستعانة نصب خاطره في كل أمر خطر، ولظهوره لم يصرح بوجه الأهمية فيه، فلا يرد عليه ما قيل إنه لا يكفي أن يقال

ص: 33

قدم كذا للأهمية من غير بيان وجه الاهتمام كما صرح به الشيخ عبد القاهر، فالظاهر أن يقول لأنه أدل على الاختصاص ولا يجوز أن يكون عطفاً تفسيريا لأنه لا يحسن تفسير الشيء بما يوجبه، وكلام المصنف رحمه أدلّه صريح في خلافه أيضا فسقط ما قيل من أنّ الردّ على المشركين المبتدئين بأسماء الأصنام منوط على الاختصاص المستفاد من التقديم وقيل عليه إنه من فوائد الاختصاص المذكور، فلا وجه لجعله من نكات التقديم نعم لو قلنا إن المشركين يبتدؤن أفعالهم بذكر آلهتهم الباطلة، فالمنأنسب لنا الابتداء بذكره سبحانه لكان وجها انتهى.

وقد عرفت مما قدمناه ما يغنيك عنه ومن الناس من جعل أدل وما بعده معطوفا على

أوتع، وقال: لما كان دليل الوسطين معلوما، ودليل الطرفين غير معلوم تعرّض للأوّل بقوله لأنه أهم وللرابع بقوله فإنّ اسمه الخ واكتفى بذلك لأنّ دليلهما دليل الوسط بعينه، وقول عبد القاهر، إنهم لم يعتمدوا في التقديم شيأ يجري مجرى الأصل غير العناية والاهتمام، ونقله عن سيبويه ليس لإبطال إفادته الحصر كما توهمه ابن الحاجب وأبو حيان بل إشارة إلى أنّ العناية أمر كلي مجملى لا بد له من وجه كالتعظيم والاختصاص، ولذا قيل إن قوله وأدل الخ بيان وتفصيل للأهم لكنه كان الأظهر أن يقول لأنه أدل، واعتذر له بأنه إشارة إلى تمييز الأهمية الناشئة من ذاته عن غيرها، وحذف متعلق اسم التفضيل لمعلوميته والقصد لأهميته أي أهم من غيره كالعامل، وقيل: إنه مجرّد عن التفضيل مؤوّل باسم الفاعل أو الصفة المشبهة. قوله:

(وأدل على الاختصاص) أمّا الاختصاص فلابتداء المشركين بأسماء آلهتهم استعانة وتبركا فقطع الموحد عرق الشرك باختصاصه ردّاً عليهم وقوله أدل يستدعي وجود أصل الدلالة بدون التقديم ووجه بأنّ التخصيص بالذكر قد يفيد الحصر بمعونة السياق وتعليق الحكم بالأوصاف يشعر بالعلية وانتفاء العلة يستلزم انتفاء المعلول في المقام الخطابي إذا لم تطهر علة أخرى فيفيد الاختصاص أيضاً، فكأنه قيل باسمه أقرا لأنه الرحمن الرحيم لا سيما عند القائل بمفهوم الصفة لإشعاره بأنّ من لم يتصف بها لا يتبرك باسمه وقيل: الظاهر أنّ المراد بالاختصاص مطلق التعلق لا الحصر، فيكون التقديم المفيد للحصر دلالته أظهر على اختصاص القراءة باسم الله وتكلفه غني عن البيان، ثم إنّ هذا القصر كما قالوه قصر إفراد لأنهم لا ينكرون التبرك باسم الله تعالى، فإن قلت: المعروف في قصر الإفراد أنّ المخاطب بالكلام الواقع فيه يعتقد أن المتكلم مشرك لصفتين، أو أكثر في موصوف واحد، أو لموصوفين فأكثر في صفة واحدة، والمخاطب بقصر القلب يعتقد أن المتكلم بعكس الحكم، وما نحن فيه ليس كذلك كما لا يخفى قلت: هذا مما اعترف بوروده بعض الفضلاء وفي شرج الفاضل المحقق ما يشير إلى الجواب عنه بأنه غير لازم، وإن ترك القوم بيانه في كتبهم، والشارج المحقق جعل قصره قصر إفراد وتبعه فيه السيد السند ولم يجزم به لاحتمال كونه قصر قلب لأنّ ابتداءهم بأسماء آلهتهم لما كثر وقوعه منهم على الإنفراد قلبه الموحد، ثم إنّ اعتبار مخاطب لكل موحد غير من خاطبه في غاية التكلف وتوجيه السعد رحمه الله له بأن المشركين لما كانوا يبتدؤن بأسماء آلهتهم كان مظنة أن يتوهم المخاطب أن سائر الناس كذلك تعسف بعيد، وقال قدس سره: التقديم من المشركين لمجرّد الاهتمام لا للإختصاص، فوجب على الموحد أن يقصد قطع شركة الأصنام لئلا يتوهم تجويز الابتداء بأسمائها، وكتب في حواشيه أنه لردّ السؤال السابق وهذا القدر كاف في قصر الأفراد إذ لا يجب أن يكون معتقداً للشركة بل ربما كان متوهما وهنا مظنة توهم الشركة، وأورد عليه أنه ادّعاء منه مخالف لما صرح به أهل المعاني إلا أن يقال أنه ليس قصر أفراد على الحقيقة بل على التشبيه، وتنزيله منزلته.

(وأنا أقول) : ليت شعري ما الداعي لما ارتكبوه من التكلفات مع إمكان جعله قصرآ حقيقيا ولو ادّعائيا حتى لا يحتاج فيه إلى مخاطب ولا إلى اعتقاده فمرد الموحد التبرك في أفعاله باسم الله لا اسم غيره وهو يتضمن الردّ على المشركين فإياك من الوقوف في حضيض التقليد إذأ أمكنك الصعود لقصر التحقيق المشيد، وأمّا توهم التنافي بين قوله:{إِيَّاكَ نَعْبُدُ} وبين الاستعانة باسمه في البسملة الكريمة بناء على أنّ الباء للاستعانة فما لا ينبغي أن يذكر وان تكلف له بعض المتأخرين بأنه هنا استعانة توسل، والمنفي ثمة استعانة تحصل المستعان فيه، ثم إنه قال

ص: 34

في الكشاف: فوجب على الموحد أن يقصد معنى اختصاص اسم الله بالابتداء، وذلك بتقديمه، فأورد عليه أنه لا يناسب ما هو بصدده من ترجيح تقدير أقرأ مؤخرأ ولذا قيل

إنّ المصنف حذفه لذلك وان وجه بأنه إشارة إلى جواز تقدير ابتدىء أيضا، وبأنه أراد ابتداء الفعل الذي شرع فيه كالقراءة لا مفهومه الحقيقي وقد قيل إنه إيماء إلى دفع مناقشة أخرى وهي كيف يكون قصر الموحد ابتداء قراءته، ونحوها باسمه تعالى ردا على المشرك الذي لا يقرأ أبدا وانما يصير ردّاً عليه لو حصر مطلق الابتداء، وقد مرّ أنه يكفي فيه التوهم فيذكره ثم إنه أورد على قول الزمخشري وغيره أنّ تقديم الفعل في قوله:(اقرأ باسم ربك) أوقع لأنها أوّل ما نزل، فالأمر بالقراءة فيه أهم كما مر أنّ هذا العارض وان كان يقتضي أن يكون الأمر بالقراءة أهم إلا أنّ العارض الأوّل وهو ابتداء المشركين باسماء اكهتهم يقتضي أن يكون اسم الله تعالى أهم، فأنى يرجح هذا على ذاك وكان السكاكي نظر إلى هذا حيث جعله متعلقاً باقرأ الثاني، ويمكن أن يقال لما تعارض العارضان قدّم العامل على المعمول بحكم الأصالة انتهى.

(قلت) : الظاهر أنّ المراد أنه نازل أوّلاً على النبيّ الأميّ صلى الله عليه وسلم فأمر فيه بالقراءة ليتدرّب

لتلقي الوحي من غير قصد إلى أمره بتبليغ ولا إنذار حنى يقصد فيه الردّ على من خالفه ولذا قال صلى الله عليه وسلم: ما أنا بقارىء) 1 (فلا حاجة إلى ما ادّعاه مما لا يقتضيه المقام ولا فحوى الكلام فتدبر. قوله: (وأدخل في التعظيم الخ) من قولهم هو حسن الدخلة، والمدخل أي المذهب في أموره من دخل بمعنى جاز، والمعنى أنّ دلالة وتسببا في تعظيمه، وأتى بأفعل لأنّ الابتداء به والتبرك فيه تعظيم له فإذا قدم على متعلقه المقدر كان أقوى في ذلك وقيل في تعظيم الاسم تعظيم المسمى. وقوله:(وأوفق للوجود من وفق أمره) أي وجد موافقا أو حسن كما في شرح أدب الكاتب لا من وافقه حتى يكون على خلاف القياس، والمراد بكونه أكثر موافقة للوجود أي لما في الخارج أو نفس الأمر أنّ اسمه تعالى مقدم على القراءة والمقروء، فتقديمه على عامله المقدر أوفق من تأخيره تقديرا، وقيل: لأنّ ذات واجب الوجود قبل كل موجود واسم السابق سابق فتدبر فإن قوله إن اسمه تعالى مقدّم على القراءة يأباه، ثم إنه أيد ذلك بوجه يدل على مغنى الباء ويدخل به لتفسيرها، وهو قوله كيف لا الخ ولفظة لا سقطت من بعفى النسخ فقدّرها بعضهم أي كيف لا يكون اسمه تعالى مقدما على القراءة، وقد تقدم عليها بالذات، ومن حيث الكمال والاعتداد بها شرعا لأنها جعلت آلة، وهي لا بد من تقدمها في الوجود. وقوله:) من حيث الخ) بيان لجعلها آلة على أنّ الباء للإستعانة والظرف لغو باعتبار أنّ الفعل لا يتم ويعتد به شرعا ما لم يصدر بالتسمية أي تجعل في أوّله لأنّ الصدر إستعير للأوّل اسنعارة مشهورة حتى صار كأنه حقيقة فيه فمعنى كونه ا-لة له توقفه عليه حتى كأنه فعل به، فلا يرد عليه أنّ مذهب الشافعية أنها من الفاتحة فلا يناسب جعلها للآلة المغايرة لما يستعان بها فيه ولا أنّ الآلية تقتضي الامتهان فلا يلائم التعظيم والآلة هي الواسطة بين الفاعل ومنفعله في وصول الأثر

إليه وقوله ما لم يصدر أي جميع أوقات عدم التصدير فتدبر. قوله: (لقوله عليه الصلاة والسلام كل أمر الخ) الأبتر هو الناقص الآخر والمقطوع الذنب ولذا قيل لمن لا عقب له أبتر واستدل بالحديث على ترجيح الآلة لدلالته على عدم التمام بدونها التزاما بخلاف المصاحبة فإنها لا دلالة لها على ذلك فلا توافق معنى الحديث وفي طبقات السبكي رحمه الله روى ابن ماجة عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه عليه الصلاة والسلام قال: " كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه بالحمد لله فهو، دطع "(2) ورواه البغوي بحمد الله والكل بلفظ " أ-دطع) وعن ابن شهاب " أجذم " وأدخل الفاء في الخبر وليس في أكثر الروايات، وقد يروى " كل كلام " وجاء موضع أقطع أجذم وأبتر، وجاء الجمع بينهما، وجاء موضع يبدأ يفتتح، وموضع الحمد الذكر، ويروى أيضا ببسم الله الرحمن الرحيم، وقد وقع الاضطراب في هذا الحديث سنداً ومتناً، ثم قال: والحمل على الذكر الأعم أولى لأنّ المطلق إذا قيد بقيدين متنافيين لم يحمل على واحد منهما ويردّ إلى أصل الإطلاق، ثم إنّ الحديث في فضائل الأعمال فيغتفر فيه ذلك لا سيما وقد تقوّى بالمتابعة معنى إلى آخر ما فصله، فقول ابن حجر رحمه الله: إنا لم نجده بهذا اللفظ، فكأنه رواية بالمعنى

وقريب منه

ص: 35

ما في الكشف لا يلتفت إليه، فإنّ من حفظ حجة على من لم يحفظ، وفي لفظ أبتر مبالغة في نقصانه حتى كأنه سرى لآخره وقيل فيه ترك للمبالغة فإنّ الحيوان المقطوع الرأس منتف بالكلية لا المقطوع الآخر والبال الشأن والحال وأمر ذو بال أي شريف عظيم يهتم به والبال القلب في الأصل كأنّ الأمر ملك قلب صاحبه لاشتغاله به، وقيل: شبه الأمر العظيم بذي قلب على الاستعارة المكنية والتخييلية، والوصف به تقييدي لتعظيم اسمه تعالى حيث ابتدىء به في الأمور المعتد بها دون غيرها، وللتيسير على الناس في محقرات الأمور، والتصدير عرفي أو شامل للحقيقي، والإضافي فلا تعارض بين الروايات، وشهرته تغني عن ذكره. قوله:(وقيل الباء للمصاحبة) اختار كونها للاستعانة مخالفا للزمخشريّ في ترجيح المصاحبة لأنها أعرب وأحسن.

قال قدس سره: أمّا أنها أعرب أي أدخل في لغة العرب أو أفصح أو أبين فلأن باء المصاحبة والملابسة أكثر في الاستعمال من باء الاستعانة لا سيما في المعاني وما يجري مجراها من الأفعال وأمّا أنها أحسن أي أوفق لمقتضى المقام، فإن التبرك باسم الله تعالى تأدّب معه وتعظيم له بخلاف جعله آلة فإنها مبتذلة غير مقصودة بذاتها، ولأنّ ابتداء المشركين بأسماء آلهتهم كان على وجه التبرك فينبغي أن يردّ عليهم في ذلك ولأن الباء إذا حملت على المصاحبة كانت أدل على ملابسة جميع أجزاء الفعل لاسم الله منها إذا جعلت داخلة على الآلة، ولأنّ التبرك باسم الله معنى ظاهر يفهمه كل أحد ممن يبتدىء به والتأويل المذكور في كونه آلة لا يهتدى إليه إلا بنظر دقيق، ولأنّ كون اسم الله تعالى آلة للفعل ليس إلا باعتبار أنه متوسل إليه ببركته فقد رجع بالآخرة إلى معنى التبرك، وقد أيد الوجه الأوّل بأنّ جعله آلة يشعر بأن له زيادة مدخل في الفعل ويشتمل على جعل الموجود لفوات كما له بمنزلة المعدوم ومثله يعد من محسنات الكلام انتهى، وقد أيد الثاني أيضا بأن جعل اسمه آلة لقراءة الفاتحة لا يتأتي على مذهب من يقول بأنّ البسملة من السورة، ومنهم المصنف رحمه الله فاللائق جعل الباء للمصاحبة ومما يستأنس به للمصاحبة كما ذكره البلقيني في تفسيره ما روى في السنن عنه عليه الصلاة والسلام من قوله:" باسم الله الذي لا يضرّ مع اسمه شيء في الأرض ولا في السماء وهو السميع العليم ") 1 (. فإنّ قوله مع اسمه صريح في إرادة المصاحبة.

(أقول) : كل ما ذكر أمور اقناعية غير مسلمة ولذا كرّ عليها بالإبطال في الحواشي 0

فقيل: على الأول: إثبات الأكثرية دونها خرط القتاد وباء الاستعانة تدخل كثيراً على المعاني كما في قوله:) اسنعينوا بالصبر والصلاة (اسورة البقرة: 153] وإنما نشأ هذا التوهم من تمثيلهم في الآلة بالمحسوسات، وليس كل استعانة بآلة ممتهنة ولا شك في صحة

استعنت بالله، وقد ورد في لسان الشرع وهو إذن في إطلاقه، فلا يقال إنه موهم للنقصى فلا يصح هنا وقد يقال إنّ اكثرية علمت بنقل الثقات وقد قال سيبويه رحمه الله تعالى أصل معاني الباء الإلصاق وجميع معانيها ترجع له وهو إن لم يكن عين المصاحبة فليس ببعيد منها فتأمله. وأمّا الثاني: وهو أنّ التبرك باسم الله تعالى تأذب الخ فردّ بأنّ جهة الابتذال غير ملحوظة

هنا بل الملحوظ كون الفعل غير معتد به شرعا ما لم يصدر باسمه تعالى كما مرّ وهو يعارض التبرك بل أرجح منه، وفي الانتصاف أنّ معناها اعتراف العبد في أوّل فعله بأنه جار على يديه وأنّ وجود فعله بقدرة الله وايجاده لا بفعله تسليما لله من أوّل الأمر والزمخشرفي لا يستطيع هذا لنزعات الشيطان الاعتزالية، وليت شعري ما يصنع بقوله:{وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} إذ المراد أنه لا يطلب المعونة إلا من الله والتوفيق على عبادته في جميع أحواله ولا يلزم من كون الله معينا ما تصوّر في القلم كأنه يقول اقرأ باستظهاره ومكانته عند مسماه، وفي الحقيقة هو المعين في كل جزء كما قاله الطيبي رحمه الله ولا يتوهم اتحاد المستعان والمستعان به، أو عدم الفرق بينهما كما قيل، وقيل عليه: إنه تعصب لأنه يريد أنّ في التبرك تعظيما وتكريما ليس في الآلة وان لم يدل على التحقير واللفظ الدال على التعظيم في حقه تعالى أولى من غيره مما لا يدل عليه أو يوهم خلافه، وإن كان معناه صحيحاً ثابتاً له ألا ترى أنه لا يقال خالق الخنازير وان كان خالق كل شيء، ولك أن تقول التبرك ليس معنى الباء كما سيأتي، وما ذكر إنما هو فيما يدل على الآلة وضحعا بالمادّة، كلفظ ا-لة أو بالهيئة كمفتاح، فإنه لا يطلق عليه تعالى، ولذا استقبح ابن رشيق في العمدة

ص: 36

قول أبي تمام:

والله مفتاح باب المعقل الأشب

أمّا الحروف الداخلة على الآلة إذا دخلت على ما يتعلق به تعالى بطريق المشابهة المكنية، وقامت القرينة على وجه الشبه لا نقص فيه فلا مانع من الحمل عليه إذا قصد به ما يدل على التعظيم، وايهام ما لا يليق وان كفى مرجحا إلا أنه مغتفر لبعده وظهور قرينة ضده فإذا ساعده المرجح رجح.

وأما الثالث: وهو أنّ المشركين كانوا يبدؤن بأسماء اكهتهم للتبرك الخ فغير مسلم بل

كانوا يقصدون الاستعانة أيضا لعدها وسايط يتقرّب بها إليه تعالى وهذا شبيه بالآلة.

وأما الرابع: وهو إنّ المصاحبة أدل على ملابسة جميع أجزاء الفعل الىخ فقد مر أنّ اقرأ

يدل على ذلك دون ابتدىء ولا يلزم من مصاحبة شيء لشيء ملابسته لجميع أجزائه في جميع أزمانه، والآلة لا بد من وجودها إلى آخر الفعل والا لم يتم، وفيه أن تقدير أقر، إذا دل على ذلك فمع ما يدل على المصاحبة يكون أظهر ولذلك قال أدل وأمّا الخامس وهو أن التيرك معنى ظاهر الخ فإن أراد أنّ المصاحبة معنا. التبرك، فظاهر البطلان لأنه لا تبرك في نحو دخلت عليه

ا / م هـ

بثياب السفر وقد مثلوا لها برجع بخفي حتين ومعناها خائباً كما صرحوا به فكيف يتوهم التبرك فيما هو بمعنى الخيبة، وإن أراد أنه يفهم منها بالقرينة إذ لا معنى لمصاحبتها لجميع الفعل إلا مصاحبة بركتها فلك أن تقول تلك القرينة باقية بعينها، فتفيده إذا قصد الآلة لتوقف الاعتداد بها شرعا عليها، وأما كون التبرك معنى ظاهراً لكل أحد، فغير مسلم أنه مأخوذ من خصوص معنى المصاحبة كما عرفت فما قيل عليه من أن العمدة والنظر للخواص، والعوامّ كالهوامّ، والدقة من أسباب الترجيح لا الرد مما لا حاجة إليه وإن ردّ بأنه ذهول عن المراد فإنه ينادي على أنّ كل أحد من الخواص والعوام والبله والحذاق مأمورون بذلك من الشارع فلو لم يكن معناه مكشوفا لكل أحد لكانوا مأمورين بما لم يعرفوه وهو بعيد جداً.

وأمّا السادص: فإنّ ما يفتح به الشيء لا مانع من كونه جزأ له كالطومار والكتاب يفتح

بأوّل أجزائه، وقد مرّ أنّ الفاتحة مفتتح القرآن مع كونها جزأ بلا خلاف، ولو سلم فجعلها مفتتحاً ومبدأ بالنسبة لما عداها وأمّا الاستئناس بالحديث فقد قيل عليه: إن المراد بما في الحديث الإخبار عن أنه لا يضر مع ذكر اسمه شيء من مخلوق، والمصاحبة تستدعي أمراً حاصلَا عندها نحو جاءكم الرسول بالحق والقراءة لم تحصل حينئذ فتعذرت حقيقة المصاحبة فيه، ولا وجه له فإن المصاحبة هنا ليست محسوسة، وكونها إخباراً بنفي صحبة الضرر يفهم منه صحبة النفع والبركة كما لا يخفى، والمراد بالبركة دفع الوسوسة عن القارىء مع جزيل الثواب كما قاله ابن عبد السلام رحمه الله، فلا يتوهم أنّ القرآن أشرف من البسملة فكيف يطلب له بركتها، وقيل: الباء للإلصاق، وقيل: بمعنى على وقيل زائدة ومن الغريب ما قيل إنها قسمية.

(وأعلم) : أنّ الجمهور على أنّ الظرف إذا كانت الباء للملابسة والمصاحبة ظرف مستقرّ

فإذا كانت للاسنعانة والآلية لغو لأنّ مدخونها سبب للفعل متعلق به بواسطة الباء من غير اعتبار معنى فعل آخر عامل في الظرف وجوّز الرضى، وصاحب اللباب اللغوية على الأوّل أيضاً قال في اللباب: ولا صادّ عندي من الإلغاء كما في باء الاستعانة وقال الفاضل الليثي: إنه إذا قصد بباء المصاحبة مجرّد كون سول الفعل مصاحبا لمجرورها زمان تعلقه به من غير مشاركة في معنى العامل، فمستقرّ ني موضع الحال وان قصد مشاركته فيه فلغو ويؤيده التمثيل بإشترى الفرس بسرجه لاحتماله لكلا المعنيين، فعلى أحد الوجهين يكون مشترى دون الآخر بخلاف نحو نمت بالعمامة، فإنه لا يحتمل اللغوية وكذا ما نحن فيه إذ لم يقصد إيقاع القراءة على اسم الله وفيه نظر ظاهر لمنعه خصوصاً على مذهب المصنف وقد قيل عليه أيضاً أنّ المصاحبة إفما هي المعنى الأوّل، وأما الثاني فهو معنى الإلصاق وليس بشيء إذ الإلصاق لا ينافي المصاحبة خصوصاً على مذهب القائل بعدم انفكاكه عنها وقولهم متبركاً ليس لبيان المتعلق بل بيان لمعنى الملابسة، وعلى الد صاحبة تعنقه بالفعل إلمقذر معنويّ لا صناعيّ، فهو متعلق بحال هو قيد له

فكأنه متعلق به إلا أنه لا يلائم ظاهر كلامهم، واختلافهم في تقدير عامل عام أو خاص كما مرّ، وكيف يتأتى هذا في قول الكشاف تعلقت الباء بمحذوف تقديره بسم الله اقرأ انتهى.

وليس المقصود بالحصر حينئذ التبرك

ص: 37

على معنى أني لا أبدأ إلا متبركا بل حصر التبرك

في اسمه تعالى لأنّ دخول الحصر على مقيد كدخول النفي في وجوهه. قوله: (والمعنى متبركاً الخ) هو بيان للمعنى على الثاني لأن المصاحبة وإن كان معناها مجرّد لملابسة لكنها بمعونة قرائن المقام محمولة على الملابسة بطريق التبرك، ولا يصح رجوعه إليهما بناء على أنّ كونه اسم اكة ليس إلا باعتبار التوسل ببركتة فيرجع بالآخرة إلى هذا كما يعلم من الكشاف وشروحه: وليس المراد أنّ الباء صلة التبرك كما توهم بل هو تصوير للمعنى، وبيان للملابسة فإنها تكون على وجوه شتى فلا يرد أنّ التبرك لم يعد من معاني الباء أصلاً، وما قيل من أنّ الباء موضوعة لجزئيات الملابسة، ومنها التبرك فحملت على بعض معانيها بقرينة المقام بشيء لأنه لا يلزم من 6لصاف بعض جزئياتها بالتبرك كون التبرك موضوعا له لأنه وضع لذوات الجزئيات لا لصفاتها كما لا يخفى، ثم إنّ الشارح المحقق قال في شرح قول الزمخشري هنا على معنى متبركا يعني أنّ التقدير ملتبساً باسم الله ليكون المقدر من الأفعال العامة لكن المعنى بحسب القرينة على هذا، فلهذا يجعل الظرف مستقراً إلا لغواً انتهى.

فقيل عليه: إنه مبنيّ على أنّ المقدر في الظرف المستقرّ عام البتة وان كان المعنى على الخصوص، فيناقض ما سبق مته من أنّ النحويين إنما يقدرون متعلق الظرف المستقرّ عاما إذا لم توجد قرينة الخصوص، ودفع بأنه لا مناقضة لأنّ العموم الذي نفى لزومه في متعلق الظرف المستقرّ هو العموم المطلق البالغ الغاية، كما أنّ الكون والحصول الذي دل كلامه هنا على لزومه هو العموم بالإضافة إلى متبركاً ونور، بأنّ هذا القسم من الظروف سمي مستقرّاً لاستقرار معنى المتعلق فيه وانفهامه منه وكل ظرف يفهم مته حصول شيء ما فيه، فبعضها ما لا يفهم منه إلا ذلك كزيد في الدار وبعضها يفهم مته خصوصيته بوجه كزيد على الفرس، وفيما نحن فيه ليس للظرف نفسه دلالة على التبرك فلو قدر متعلقه متبركا خرج عن كونه مستقرّاً بخلاف ما إذا قدّر ملتبساً مع أنّ فيه أيضاً خصوصية بالنسبة إلى كائن وحاصل، فإنه لا يخرج عن كونه مستقرّ الانفهام معنى ملتبساً منه، ويدل عليه جعله ملتبساً من الأفعال العامة انتهى ولا يخفى أنّ هذا وإن حصل به التوفيق بين كلاميه إلا أنه معنى معقد من غير فائدة ولذا اعترف بعض الفضلاء بأنه واود غير مندفع فتدبر. قوله:(وهذا وما بعده الخ) هذا راجع إلى الوجهين السابقين كما نبه عليه كثير من أصحاب الحواشي وهو الأظهر، فإن خص بالثاني لذكر التبرك ونحوه على أنه من مقول قيل، فالوجه الأول يعلم أمره بالمقايسة على الثاني إلا أنّ بيان متعلقات ما مرّضه وترك ما اختاره بعيد، وهذا جواب سؤال نشأ مما مرّ، فإنه بحسب الظاهر لا يليق بجناب العزة أن يقول أقرأ متبركا وكذا الاستعانة ونحوها، والتبرك مفهوم من البسملة لأن الاستعانة لا تخلو عنه أيضاً

والحمد من قوله الحمد لله وكونه على نعمه من قوله رب العالمين الرحمن الرحيم لا لأن الحمد في مقابلة النعمة والسؤال من فضله من قوله: {اهْدِنَا} الخ ويعلم منه أيضاً بقية ما فيها، فلا يرد عليه أنه لم يتعرّض لقوله:{إِيَّاكَ نَعْبُدُ} حتى يتكلف ادخاله فيما ذكر. قوله: {لِيَعْلَمُواْ} الظاهر أنه بالتخفيف من العلم، ويجوز أن يكون من التعليم ونقل الطيبيّ رحمه الله تعالى عن الزمخشرفي أنه قال: مثاله إذا أمرك إنسان أن تكتب رسالة من جهته إلى غيره فإنك تكتب كتبت هذه الاً حرف، وانما تفعله على لسان آمرك، وليس فيه قل مقدرة كما يتوهم إذ المراد أنه تعالى حمد نفسه ليقتدى به ومدح النفس، وان استقبح من العباد يحسن منه تعالى كما قيل: ويقبح من سواك الشيء عندي وتفعله فيحسن منه ذاكا

مع أنه ليس كذلك مطلقا ولذا قال يوسف عليه الصلاة السلام: {اجْعَلْنِي عَلَى خَزَآئِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ} [يوسف: 55] وقال البلقيني رحمه الله: إنّ جعله مقولاً على آلسنة العباد نزغة اعتزالية لم يتنبه لها من اتبعه، فقيل: إنه باطل وقيل: وجهه أنّ المعتزلة يقولون أنه يكلم الله خلقه الكلام على لسان غيره فتدبر، وقوله في الكشاف هنا: فكيف قال الله متبركا باسم الله الخ وهي ليست من السورة عنده ظاهر لمن له أذن واعية. قوله: (كيف يتبرك الخ) يتبرك بصيغة المجهول أي يتبرك العباد، ومعنى كيف يتبرك كما قاله الشريف بأي عبارة يتبركون فلا يرد أنّ ما ذكر تعليم للتبرك باسمه لا لكيفية التبرك به انتهى.

يعني أنّ الإستفهام هنا حقيقي

ص: 38

وهو عن التبرك، فإنه إنما يكون في كلام العبد لا في كلام

الله تعالى، فكيف استفهم عن كيفيته دونه، فأشار إلى أنّ المراد بالكيفية العبارة المخصوصة لأنها لباسه الذي يبرز فيه، فكأنها كيفية وحالة، فما قيل من أنه استفهام إنكارفي استعيرت صيغته للاستبعاد لأنّ الإنكار مجاز مشهور، وتعلق الإستفهام سواء كان إنكارا أو استبعادا بمدخول كيف واقحامه للمبالغة بطريق الكناية عن انتفاء الشيء بانتفاء كيفيته إذ لا بد لكل ماله خطر- من الوقوع على كيفية مّا على ما حقق في تفسير قوله تعالى:{كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ} [البقرة: 28] ومن لم يتنبه لهذا اعترض بأنه تعليم للتبرك لا لكيفيته، كما سمعته آنفا ليس بشيء لأنه استفهام حقيقيّ لا إنكاريّ حتى يحتاج لما ذكر، وكذا ما قيل من أنه ليس المراد بالكيفية العبارة بل أي كيفية متبرك بها من اعتبار تقديم المتعلق وتأخيره، والدلالة على الاختصاص وغيره، وفيه أنّ ذلك التقديم والتأخير في النص ليس بحسب اللفظ، فإن علم العباد ما يوجب اعتبار هذا التقديم والتأخير، فلا حاجة إلى تعليم تلك الكيفية، وان لم يعلموه لم يعلموا ذلك التقديم والتأخير، فكيف يكون فيه تعليم لهم، فإنه تعسف من غير داع له، وقريب مته ما قيل: من أنه لا خفاء في أنّ ما ذكره يشتمل على التبرك باسمه تعالى بملى وجه معين وكيفية مخصوصة، وبهذا الإعتبار يصح أن يقع جوابا للسؤال عن كيفية التبرك من غير احتياج لاعتبار العبارة، وصرفه للسؤال عنها وهذا غريب منه فإنه عين ما أفاده الشريف إلا أنه

كما قيل:

إذا محاسني اللاتي أدلّ بها كانت عيوبي فقل لي كيف أعتذر

ثم إنّ التبرك بتقديم اسمه لا ينافي تقدّم لفظ اسم إذ المراد منه بعد الإضافة اسمه تعالى

إذ الإضافة إن كانت لمطلق الاختصاص شمل أسماء الذات والصفات فيفيد التبرك بجميع أسمائه، ويعلم منه وجه إقحامه ورجحه بعضهم، وإن كانت للاختصاص الوضعي الكامل يختص بلفظ الله لأنه اسم وضع للذات، وما عداه أسماء صفات وأما الباء فهي وسيلة إلى ذكره على وجه يؤدّي إلى جعله مبدأ للفعل فهي تتمة لذكره على الوجه المطلوب. قوله:(وإنما كسرت الخ) أي حروف المعاني الموضوعة على حرف واحد، وحروف المعاني ما يقابل الأسماء والأفعال، وحروف المباني ما تركب وبني منه الكلم، ولما كان البناء لا يختلف بتعاقب العوامل كان أصله السكون لخفته، فإنّ الدائم بالخفيف أولى، وأيضا أصل الإعراب أن يكون وجوديا لكونه أثر العامل وعلما للمعاني، فحق مقابله أن يكون عدميا، وقد امتنع البناء على السكون في الحروف التي جاءت على حرف واحد لأنها من حيث كونها كلمة برأسها مظنة للابتداء بها، وقد رفضوا الابتداء بالساكن لتعذره أو تعسر. كما سيأتي بيانه فحقها أن تبني على الفتحة التي هي أخت السكون في الخفة، وان كانت الكسرة أختا له في المخرج لأنها اً دوات كثيرة الدور على الألسنة فاستحقت الأخف كما قاله الشارح المحقق، وبقوله كثيرة الدور الخ اندفع عنه ما قيل من أنه معارض بأنّ الكسر يناسب العدم بقلته، والساكن إذا حرك حرك بالكسر إلا أنه قيل عليه أن لا مخرج للسكون يوأخى فيه فقيل: إن أراد أنّ السكون ليس له مخرج، ومخرج الكسرة لضعفه قريب من العدم مناسب له أو المراد أنّ مخرج الحرف الساكن يناسب مخرج الحرف المكسور، ولا يخفى عليك ضعف الجواب الأوّل وفساد الثاني ولو قيل: المخرج في كلامه مصدر ميمي بمعنى الخروج لا المخرح المعروف يعني أنّ الأصل في الخروج من السكون والتخلص منه أن يكون بالكسر كما صرح به النحاة لم يبعد فتدبر. قوله: (لاختصاصها بلزوم الحرفية الخ) في الكشاف لكونها لازمة للحرفية والجر والمصنف رحمه الله عدل عنه لما ذكره فزاد الاختصاص وغير لازمة بلزوم الخ كما رأيته ومناسبة الحرفية للكسر لأنّ الأصل فيها البناء وأصله السكون الذي هو عدم الحركة والكسر قليل، والقلة أخت العدم، وأما الجرّ فلمناسبته لعمله وأثره، وقد اقتصر بعضهم على الثاني قيل: وهو الأظهر.

وقد اعترض على ما في الكشاف بأنها ليست لازمة لهما بل ملزومة فالصواب أن يقال ملزومة للحرفية والجر، ولذلك غير المصنف رحمه الله عبارته لأنّ اللزوم مصدر مضاف لفاعله، فالحرفية والجر لازم لا ملزوم، ومن لم يتنبه له أوّل عبارته أيضاً بناء على أنه مضاف إلى

ص: 39

المفعول ثم قال: ويحتمل أن تكون الإضافة للفاعل، وتبعه القائل بأن إضافة اللزوم للمفعول، فالحرفية والجر ملزومة واللازم الباء ولم يضف اللزوم للباء إذ بعد إضافته إليها لا

يحس القصر عليها لأنه لا يتصور أن يتجاوز لزوم الباء إياهما عن الباء، فيحتاج إلى التكنف والتجريد عن تلك الإضافة بأن يراد أنّ عدم الإنفكاك عن الأمرين مقصور على الباء، وقيل: إلى الفاعل ونظيره ما ضرب زيد إلا لعمرو، وهو من قصر الفعل المسند إلى الفاعل على المفعول، وردّ بأن القصر منحصر في قصر الموصوف على الصفة، والصفة على الموصوف، والضرب المسند إلى زيد وإن اعتبر تعلقه بالمفعول ليس صفة لعمرو وإلا أن يقال: إنّ الضرب المذكور صفة لزيد لكنه بحسب تعلقه بعمر ويحصل له صفة اعتبارية، كما في الوصف بحال المتعلق والقصر باعتباره، وسيأني ما في الاختصاص الذي زاده المصنف رحمه الله، وقد أجيب عما ذكر من اللزوم بأنّ المراد باللازم للشيء هنا ما لا يفارقه كما يدل عليه تقسيمهم العارض إلى لازم ومفارق، ومعنى عدم مفارقة شيء لآخر أن لا يوجد الثاني بدونه لا العكس، ولذا صح انقسام اللازم إلى الأعم والمساوي، وكتب اللغة ناطقة به كما في الصحاح والأساس وعليه قوله تعالى:{وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى} [الفتح: 26] فمرجع اللزوم لغة إلى عدم الإنفكاك، وهم يقولون لزم فلان بيته إذا لم يفارقه، فلا يخلو البيت منه، ويلزمه عدم خروجه عنه، وهو معنى كنائيّ، ومنه قولهم أم المتصلة لازمة لهمزة الإستفهام فمن قال: إنّ ما ذكر معنى اللازم الاصطلاحي، وله معنى آخر لغويّ فقد وهم، وما قيل: إنّ ما ذكر لا يدفع الإعتراض، وإن الصواب في دفعه أن يقال: إنّ اللازم بمعنى الملزوم مجازا مبالغة في اللزوم، وقد نبه عليه السعد بتفسيره لازمة بملاصقة غير منفكة عنهما، فلا توجد بدونهما كما هو معنى اللزوم في اصطلاح الحكمة إلا أنه لم يصب في زعمه أنه معنى اصطلاحيّ لا لغويّ ليس بشيء لأنّ عدم الدنع مكابرة معلومة مما نوّرناه والمجازية هنا فاسدة لعدم القرينة المصححة له، ولا حاجة له مع أنه مآل المعنى اللغوي الحقيقي، كما اعترف به، والتخريج على متعارف أهل اللغة أنسب مع أنه قيل عليه: إنه غير مطابق لمصطلح الحكمة لأنه لا يلزم أن يكون كل حرف جار باء لأنهئم إذا قالوا الكتابة لازمة للإنسان، أرادوا أنه كلما وجد الإنسان وجدت الكتابة، وهو فاسد هنا، وتكلف بعضهم توجيهه بما نحن في غنية عنه.

(والذي نصححه) : ما في حواشي بعض الفضلاء العصريين من أنّ الصحيح من نسخ

شرح الفاضل التفتازاني على ما هو معنى الملزوم في اصطلاح الحكماء بصيغة المفعول، وما في بعض النسخ من معنى اللزوم بصيغة المصدر لا صحة له وواية ودراية فإن قلت: إن الباء تكفّ بما عن العمل كما في حرف الميم من مغنى اللبيب فكيف يتم أمر اللزوم قلت: كأنه لقلته بالنسبة لعملها جعل كالمعدوم، أو أنه الأصل ما لم يعارضه معارض فتدبر واللزوم أحد المصادر التي جاءت على فعول للمتعذي وهي محفوظة، وأمّا قيد الاختصاص الذي زاده المصنف على الكشاف فذهب ناس إلى أنها زيادة ضارة فتركها أولى وآخرون إلى لزومها أو حسنها لأنّ اللزوم قد يكون عرفياً غير كليّ عقليّ، فأشار بإقحامه إلى أنه كليّ عقليّ، وما قيل

في توجيهه من أنه لا يطلق حرف الجر على غير الباء لا يسمن ولا يغني من جوع وقيل: إنه زيد لئلا يتوجه عليه شيء من النقوض الآتية إذ معناه لامتيازها من بين الحروف باللزوم وظاهر أنه إنما يصح إذا اعتبرت صووة الحرف من حيث دلالتها على معنى مع قطع النظر عن خصوصية نشأت من الإضافة أو غيرها، فإن شيأ من حروف الجر المفردة من حيث هو حرف لا ينفك عن الحرفية والجر فيلزم أن تكون كلها مكسورة، فلا بد من قطع النظر عن الخصوصية والباء داخلة على المقصور كما هو المشهور وكل من الحرفية والجر مناسب للكسر كما مرّ ثم إنه قيل إنهما وجهان ونقص الأوّل بواو والعطف وفائه اللازمتين للحرفية والثاني بكاف التشبيه اللازمة للجر، وقيل: هما وجه واحد فاندفع النقضان لكن بقي النقض بواو القسم وتائه ودفع بأنّ عملهما بالنيابة عن الباء فكان الجر ليس أثرهما واحترز بلزوم الحرفية عن كاف التشبيه، وقيل هو مستدرك لأنها لا تعمل الجر إذا كانت اسما إلا أن يقال إنه على قول قوله:(كما كسرت لام الأمر الخ) التثبيه في أنها خالفت الحروف المفردة التي حقها الفتح لعلة اقتضت المخالفة، وهي هنا دفع اللبس المذكور ولام

ص: 40

الإضافة هي لام الجر، وبعض النحاة يسمى حروف الجر حروف الإضافة لأن الإضافة إفضاء لإيصالها معاني متعلقها إلى مجرورها ولام الابتداء هي الداخلة على بعض أجزاء الجملة الإسمية سميت بها لدخولها في الابتداء بحسب الأصل كما بينه، وما ذكر لا ينافي فتح غيرها كلام الجواب والقسمية، وكسرت لام الجر لما ذكر مع مناسبة عملها أيضاً وكسرت لام الأمر حملاً عليها لأنها مشابهة لها في مطلق العمل أو في الاختصاص بنوع من الكلم وأثرها يثبه أثرها في كونه من خواص بعض الكلمات، وفتحت الجارة للضمير على الأصل من غير نظر للفرق المذكور لأنه حاصل بجوهر المدخول عليه، ولم ينظر لإعراب مدخولها لأنه قد لا يظهر كما في حالة الوقف ونحوها، وهذا كلام غير مطرد مجمل إذ اللام الداخلة على الضمير قد تكسر إذا دخلت على ياء المتكلم واللام غير العاملة مفتوحة وان لم تكن لام ابتداء كما مرّ ولام الاستغانة والتعجب مفتوحة مع جرها للمظهر، وان وجهوها بأنها واقعة في موقع اللام الجارة للمضمر وهو كاف أدعوك لكن هذه علل نحوية بعد الوقوع كما قيل.

عهدالذي أهوى وميثاقه أضعف من حجة نحويّ

فلا نطيل الكلام فيها. قوله: (والاسم عند أصحابنا الخ) عند ظرف متعلق بالثبوت المفهوم من نسبة الخبر إلى المبتدأ والإعجاز جمع عجز وهو الآخر، وفيه لغات أي هو عندهم محذوف اللام مثتق من السمو وهو الرفعة لأن المسمى يرتفع ذكره باسمه، فيعرف به، واذا جهل اسمه كان خاملَا، وفي الأمالي الشجرية يقال فلان له اسم إذا كان شهيراً، وأصل اسم سمو كجأع وأجذاع أو فعل كقفل وأقفال أو فعلى كرطب وأرطاب، ومن قال: اسم حذف لامه وسكن فاءه وعوّض همزة الوصل كما في ابق ومن قال سم لم يعوض وقوله أصحابنا إشارة إلى

أنه يقول بقول البصريين بعد من يوافق رأيه رأيه صاحباً له كما يقول الحنفي أصحابنا الحنفية يقولون كذا، وخالفهم الكوفيون، فزعموا أنّ المحذوف فاؤه ومن الوسم والسمة، وهي العلامة وأصله وسم بالكسر أو وسم بالفتح، ويدل عليه تصغيره وتكسيره وفعله وأنك لا تجد في العربية اسما حذفت فاؤه وعوّض عنها همزة الوصل وانما عوّضوا من حذف الفاء تاء التأنيث في عدة وثقة ونظائرهما. قوله:(لكثرة الاستعمال) يعني به أنه حذف لمجرّد التخفيف الذي أوجبه كثرة الاستعمال، فصار نسيا منسيا وما قبله محل للإعراب، وليس حذفا إعلاليا حتى يكون الحرف الأخير منونا والإعراب مقدر عليه واجتلاب الهمزة لا ينافي التخفيف لسقوطها درجا. قوله:(وبنيت أوائلها على السكون الخ) أي استعملت هكذا تخفيفا وان كانت متحركة بحسب الأصل وأصله سمو بالضم أو الكسر، وهذا أحد مذهبي البصريين والآخر أنهم أدخلوا الهمزة على المتحرك، ثم سكنوه تخفيفا ومعنى بنيت صيغت ووضعت لأن البناء في اصطلاح النحاة يطلق على هذا، وعلى ما يقابل الإعراب وليس المراد الثاني لأنه يختص بالآخر وقوله:(وأدخل الخ) لأنّ من دأبهم الابتداء بالمتحرك، وقوله: (مبتد " أي واقعاً في الابتداء منصوب على الحال من ضمير عليها أو من الهمزة لأنهم لما احتاجوا إلى حرف يثبت في الابتداء ويسقط في الدرج دفعا للضرورة بمقدارها لم يجدوا ما يصلح له غيرها وخصوها لقوّتها من بين حروف الزوائد وكونها من ابتداء المخارج وفي قوله دأبهم أي عادتهم إشارة إلى أنّ الابتداء بالساكن ممكن، لكن ترك لما فيه من اللكنة والبشاعة وقد قيل: إنه موجود في لغة العجم وانما ترك لتعسره ولا لتعذره واختاره الشريف وقال غيره الحق أنّ وجوده في الفارسية غير ثابت وان لم يقم الدليل على استحالته والاستدلال على هذا، وعلى كون الحركة مع الحرف أو قبله أو بعده مما لا طائل تحته، وقيل: إن كان السكون ذاتياً كسكون الألف امتنع والا أمكن فالأقوال فيه ثلاثة وانما كان الوقف على الساكن لأنه ضد الابتداء فأعطى ضد وصفه، ولأنه انتهاء وعدم فناسب السكون، والأسماء المذكورة على ما في المفصل أحد عشر اسما ابن وابنة بزيادة الميم للتأكيد، وتيل: هي بدل من اللام واثنان واثنتان وامرؤ وامرأة وايم الله وأيمن الله واسم واست والكلام عليه مشروح في المطوّلات، ولاختلافهم في عددها لاختلاف النظر فيه لم يذكره المصنف رحمه

ص: 41

الله كما في الكشاف. والحركة والسكون حقيقة من صفات الأجسام، وهما هنا صفة اللسان وصف الحرف بهما مجازاً، ثم شاع حتى صار حقيقة عرفية أيص. قوله:(ويشهد له تصريفه الخ) بإفراد الضمير للاسم وفي نسخة تصريفهم بضمير الجمع للعرب والتصريف الخويل ومنه تصريف الرياح والمرإد نقله وتحويله إلى صيغ وأبنية مختلفة وأسامي جمع أسماء فهو جمع الجمع ويأوه في الأصل مشددة، ويجوز تخفيفها قياساً مطردا في نحوه كأماني وأثافي، ولهذا رسم بالياء في النسخ، فلا وجه لما قيلى: من أنّ الأصح رسمه بدون ياء كما ني

ياء قاضى إلا أن يكون جمع أسماء فإنه أفاعيل بياءين وهذه اللفظة غير مذكور في الكشاف، وفي نسخ تفسير القاضي كتبت بالياء انتهى.

وسمي مصغر، ولو لم يكن كذلك قيل أوسام ووسيم ووسمت ونحوه وقوله: (ومجيء

سمى الخ) معطوف على قوله تصريفه ولغة بالنصب على أنه حال من سمى أو بنزع الخافض أي في اللغة ففي الاسم لغات اسم بالضمّ والكسر وسم بالضم والكسر أيضا وسمة وسماة مثلثين كما في القاموس وسمى كهدى ورضى ووزن اسم أفع. قوله: (والله أسماك سمى مباركاً الخ البيت) هو لأبي خالد القتاني نسبة إلى قتان بن سلمة بن مذحج وأسماك لغة في سماك المشدد بمعناه، وروى مشذدا أيضا ومعناه وضع له اسماً ويكون بمعنى دعاه باسمه كما في شرج الشواهد، وسمى مفعول أسماك، وهو يتعدى بنفسه وبالباء وآثرك بالمد بمعنى اختصك باسم مبارك أي متبرك به تفاؤلاً كغانم وسعيد وفي شرح الإصلاح لابن جني رحمه الله المعنى آثرك الله بالتسمية الفاضلة، كما آثرك بالفضل، وهو مفعول مطلق للتشبيه كضربت ضرب الأمير، وقيل: إيثارك للمعالي والذكر الحسن، وهو مفعول مطلق على هذا أيضا وقيل هو مفعول لأجله، وقيل: منصوب بنزع الخافض أي كإيثارك، واستشهد به على أنّ سمى كهدى لغ في الاسم، ولا دليل فيه لاحتمال أن يكون على لغة من يقول سما بضم السين غير مقصورة ونصب على أنه مفعول ثان لأسماك، وفي شرح كتاب سيبويه أنه يجوز أن يكون سمى غير مقصورة فألفه ألف تنوين بدليل إنه روى سما بالكسر، ور وى بدل إيثارك تبارك، وهو بيت من أرجوزة لم أقف عليها. قوله:(والقلب بعيدا لأنه خلاف الظاهر وقوله غير مطرد محتمل لمعنيين أحدهما أن يراد أنه شاذ لا يقاس عليه، فلا ينبغي تخريج ما ذكر عليه والثاني أن يراد أنه غير مطرد في جميع تصاريف الكلمة إذ لا تكون كلمة مقلوبة خولف الأصل فيها بالتقديم والتأخير في جميع تصاريفها حتى لو وجد مثله قيل هما مادّتان مختلفتان ليس أحدهما مقلوب الآخر كما في جبذ وجذب كيف، وشأن الجمع والتصغير ونحوهما رذا لشيء إلى أصله، وهذا ردّ الجواب الكوفيين عما ذكر مما استدل به البصريون، وحينئذ لا يرد أنه لم يعهد دخول الهمزة على ما حذف صدره لأنه حينئذ مما حذف عجزه وما قيل من أنه يحتمل أن يراد قلب الواو همزة في أسماء لما في المفصل وغيره، ومن أن إبدال الهمزة من حروف اللين مطرد في المضمومة وغير مطرد في غيرها كما في إشاح، واعاء لا يلتفت إليه أصلاً. قوله:) من السموّ) مشددا كالعلو وزنا ومعنى أي مأخوذ منه على هذا الوجه، والشعار بكسر الشين المعجمة وفتحها أصلها ما يلي شعر الجسد من اللباس، وهو عطف على الرفعة أي لكونه زينة، ومعدا لما يعتني به مما يقصد تعريفه، فاندفع عنه ما قيل عليه: من أنّ الشعار يناسب الوسم والعلامة،

فينبغي ذكره معه وقيل العلامات الحسية مرتفعة في اكثر والاسم يرفع مسماه من حضيض الخفاء إلى الأوح والظهور والجلاء فظهر مناسبته له مناسبة معنوية تراعى في الاشتقاق والاسم ليس هو المقابل للفعل والحرف، بل هو بالمعنى اللغوي الأعم، ولو خص به لم يبعد أيضاً. قوله:(ومن السمة) بكسر السين وهي العلامة والاسم علامة على مسماه حذفت الواو وعوض عنها الهمزة وقيل قلبت همزة على خلاف القياس، ثم جعلت همزة وصل تخفيفاً وقوله ليقل أعلاله علة لكونه من السمة أو للحكم في قوله وأصله وسم أو علة للتعويض، والإعلال هنا بمعنى مطلق التغيير لا الإصطلاحي، وهو تغيير حرف العلة بالقلب أو الحذف أو الإسكان، وقلة تغييره لأنه ليس فيه إلا حذف الواو، وسينه كانت ساكنة وقيل كان الأحسن أن يقول من الوسم لأنّ سين سمة محركة وإنما ذكرها لأنها أشهر في معنى العلامة وليغاير بين المشتق والمشتق منه، ومن قال: إنه

ص: 42

من الوسم تسامح أو كسر الواو كما قيل ليتغايرا والمعترض لم يفرق بينهما، وفيل إنّ قوله ليقل إعلاله متعلق بقوله عوض عنها همزة الوصل أي عوضت الهمزة من الواو المحذوفة ليقل تغييره إذ بزيادة الهمزة يجبر نقصان الحذف.

وتلخيصه: أنّ الحذف يجبر نقصان كمية ما يتركب منه الكلمة وانعدام خصوصية حرف

منه وبالتعويض ينتفي الأوّل فيقل التغيير، أو بقوله من السمة والمراد قلة إعلاله بالنسبة إلى كونه من السموّ فإنه على الأول الإعلال في أوّله فقط، وعلى الثاني في أوّله وآخره معاً وفيه تكلف ظاهر انتهى.

ولا يخفى أنّ ما ظنه تكلفاً هو المراد، وما قذمه مشترك بين القولين، فلا وجه لذكره هنا فتدبر. قؤله:(ورذ الخ) قدّم جوابهم عنه وما فيه فتذكره، ولغاته مرّ تفصيلها وأنها تزيد على العشرة، يعني أنّ ارتكاب زيادة الإعلال أحسن من عدم النظير لأنّ المعروف تعويض الهمزة عن اللام المحذوفة، والهاء عن الفاء كعدة وسعة وزنة. قوله:(باسم الذي في كل سورة سمه الخ) هو بيت أو مصراع باعتبار أنه من مشطور الرجز أو تمامه وهو من أرجوزة لرؤبة بن العجاج وبعده:

أرسل فيها بازلاً ضث مه فهوبهاينحوطريقاً يعلمه

الخ والباء متعلقة بأرسل والضمير للراعي أي أرسل الراعي في الإبل جملاً بازلاً للنتاج متبركاً باسم الله الذي برّك به في أوّل كل سورة، ويقرّمه بمعنى ترك استعماله في الركوب والحمل ليقوى الفحل، وهو من التقريم لا الإقرام كما توهم والجملة صفة بازلاً، وقيل: حال

من المرسل فهو أي البازل ينحو أي يقصد بتلك إلا بل طريقاً يعلمه لاعتياد سلوكه، وذكره للإشارة إلى ما في جعل الهمزة عوضاً لما فيه من حذف العو ضوالمعوّض إلا أن يقال من يحذفها لا يقول بأنها عوض، واليه يشير قول المصنف إنها لغة، والبازل البعير الذي انشق نابه وهو في السنة التاسعة وسمه كما في شرح المفصل بكسر السين وضمها كما في سمى البيت السابق ويجوز فتحها، كما في كتب اللغة فسينه مثلثة. قوله:(والاسم إن أريد به الخ) قد اشتهر في كتب الأصول ذكر الخلاف في أنّ الاسم هو عين المسمى أو التسمية أو هو غيرهما، وقد تحير الناس في المراد من ذلك وذكروا له تأويلات لم تظهر لها ثمرة، ولم يتحرّر إلى الآن محل الخلاف ومقطعه، وأشار إلى ذلك المصنف رحمه الله ولم يذكر القول بأنه عين التسمية أو غيرها وإن كان قولاً لبعض المعتزلة لأنه في غاية الضعف والبعد والمراد بالتسمية أيضاً العبارة المعبر بها عن المسمى كما نقل عن الأشعري رحمه الله. وقوله:(فنير المسمى) يعني به أنه لم يتحرّر له محل النزاع لأنه إن أريد بالاسم لفظه فهو غير المسمى بلا نزاع لأنه يتألف من أصوات غير تارة أو من هيآت وكيفيات للأصوات يتميز بها كل صوت من غيره على ما حققه الرئيس في بعض رسائله، والمسمى ليس كذلك دائما، وان اتفق ذلك له في بعضها كالقرآن ونحوه مما اسمه ومسماه لفظاً أيضاً، وان أريد به ذات الشيء، فهو المسمى لكنه لا يصلح محلاً للنزاع، ولا يناسبه ما ذكر في الاستدلال وان أريد به الصفة أو الأعم لا يصح الجزم بأحد طرفيه، وقد أراد السيد السند في شرح المواقف تحرير المبحث فلم يتم له الدست، وقد ذكره برمته وما له وما عليه هنا بعض أرباب الحواشي، فأعرضنا عنه لعدم الفائدة فيه. قوله:(لأنه يتألف من أصوات الخ) الصوت كما قال الرئيس كيفية تحدث من تموّج الهواء المنضغط بين قارع ومقروع، وزعم النظام أنه جسم، وفي التفسير الكبير بعد ما ذكره إبطاله وما أبطلوه به أقول: النظام كان من أذكياء الناس، ويبعد أن يذهب إلى أنّ الصوت نفس الجسم إلا أنه لما ذهب إلى أنّ سبب حدوث الصوت تموّج الهواء ظن الجهال أنه يقول: إنه عين ذلك الهواء انتهى (وأنا أقول) الظاهر أنه إن ذهب إلى أن الصوت هو الهواء المتموّج المنضغط، فلا يرد عليه شيء مما زعمه، وأي مانع يمنع عنه إلا التحكم البحت، وقول المصنف رحمه الله أنّ الاسم مؤلف من الأصوات ظاهر فيه فاندفع عنه ما قيل من أنه تسمح أو رجوع عما اختاره في الطوالع من أنّ الصوت عارض للحرف. قوله:(ويتعذّد) أي الاسم مع إتحاد المسمى كما في المترادفات، واجتماع العلم والكنية واللقب واتحاد الاسم مع تعدد المسمى كما في المشتركات، وهذا كله إثبات لتغايرهما إن أريد بالاسم اللفظ.

ص: 43

ق

ص: 44

وله: (والمسمى لا يكون كذلك (قيل هو رفع للإيجاب الكليّ كما مرّت الإشارة إليه، والا فسمى

القصيدة والشعر يتألف من أصوات مقطعة غير قارّة، وأورد عليه أنّ الإيجاب الكليّ لا يصدق في حق الاسم أيضاً إذ ليس اختلافه باختلاف الاسم أمرا مطردا، وأجيب بأنّ قوله والمسمى الخ يمكن أن يكون حالاً من الجمل الثلاث يعني يتألف الخ حال كون مسماه ليس كذلك، وهكذا يختلف، ويتعدد الاسم والأحسن أن يقال معنى الكلام إن اسم باعتبار نوعه، وان تحقق فيه بعض منها، فذلك من خصوصية المادّة. قوله: وقوله تعالى ة {تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ} [الرحمن: 78] في نسخة {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ} [سررة الأعلى: ا] وهو إمّا إشارة إلى جواب سؤال مقدّر، ورد على قوله لكنه لم يشتهر بهذا المعنى أو إلى الردّ على من ادّعى أنّ الاسم هو الذات مستدلاً بما ذكر كما نجصله الإمام وأشار إليه المصنف رحمه الله لأنّ المتبارك والمسبح هو الذات لا اللفظ الدال عليها فدفعه بأنّ الاسم هنا المراد به لفظه وكما يجب تعظيم ذاته تعالى يجب تعظيم أسمائه وتنزيهها عما لا يليق بها. وقوله:(عن الرفث) أي الفحش، وما يستهجن ذكره، ولا يليق كالتأويلات الفاسدة، واطلاقها على غيره وقيل الاسم مجازفيه عن الذات، وقيل: هو كناية عن تسبيح ذاته كما يقال سلام على المجلس الشريف والنادي الرفيع. قوله: (أو الاسم فيه مقحم الخ) في الأصل اسم مفعول من أقحمه إذا أرما. أو أدخله في شيء ثم تجوز به عن الزيادة وشاع فيها فقيل لكل مزيد مقحم، ولا شعاره بالتحقير تحاشوا عن إطلاق الزيادة والإقحام على ما وقع في كلام الله تأدّبا فسموا الزائد صلة، وتفسيره بما أدخل تعسف من غير ضرورة واحتياج وغير مناسب هنا إلا أن يريد بيان ما وضع له بي نفسه وهذا جواب آخر عما استدلوا به من أن الاسم هو المسمى بما ورد في النص من نحو قوله:{سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ} [، الأعلئ الآية: ا] وتأخيره إشارة إلى أنّ الأصل عدم الزيادة فالمراد باسم السلام السلام نفسه، وهو مسماه فأضيف الاسم إلى مسماه كما يضاف المسمى إلى الاسم في يوم الأحد ونحوه والإقحام كثير في كلام العرب، ومقبول إذا كان لنكته كما في الآيات لأنه إذا نزه اسمه، فكيف بذاته. قوله: " لى الحول الخ) هو من شعر لبيد بن ربيعة بن مالك الشاعر المشهور وأوّله:

تمنى ابنتاي أن يعيش أبوهما وهل أنا إلا من ربيعة أو مضر

فقوما وقولا بالذي تعلمانه ولاتخمشا وجها ولا تكشفا شعر

وقولا هو المرء الذي لا صديقه أضاع ولا خان الخليل ولا غدر

إلى الحول ثم اسم السلام عليكم ومن يبك حولا كاملَافقد اعتذر

قاله قبيل موته وكان من المعمرين عاس مائة وثلاثين سنة. وقوله: (إلى الحول) متعلق يقوله قولاً أو بما يفهم مما قبله، وتقديره أفعلا جميع ما ذكر إلى الحول أي إلى تمام الحول وهو السنة، والمراد سنة موته، وقوله وهل أنا إلا من ربيعة الخ يعني أنه من البشر والنوع الذي لا بدّ له من ورود حوض المنية، فأنا من أمّة قد خلت، وأنا ماض على أثرهم كما قال أبو نواس:

وهل أنا إلا هالك وابن هالك وذو نسب في الهالكين عريق

وقوله ولا تخمشا بالخاء والشين المعجمتين من خمش وجهه إذا لطمه لطمياً يدميه، ويخدشه بأظفاره فنهاهما عن ذلك، وكان العزاء، البكاء في الجاهلية إلى حول، والسلام هنا سلام متاركة، وهو كناية عن أمرهما بترك ما كان قد أمرهما به، وثم هنا للتراخي بين أوّل الفعل والترك، واقحام الاسم هنا في غاية الحسن لأنه ليس بسلام حقيقيّ فما لهم منه إلا اسمه كماقيل:

قال السلام مودّعا لمحبه هيهات هيهات السلامة بعده

ومن في البيت شرطية ووقع لبعض شرّاح الأبيات أنه قدر هنا بكيت بكسر التاء وجعل

إلى الحول متعلقا به والخطاب لزوجته وهي غفلة نشأت من عدم الوقوف على الشعر وحرّف بعضهم ثم بالمثلثة بتم بالمثناة الفوقية وهو غلط منه. قوله: (وإن أريد به الصفة الخ (الصفة لها إطلاقات النعت النحويّ وما يدل على معنى قائم بالغير كالعلم والحلم والمشتق كاسم الفاعل والصفة المشبهة وما شاكلهما وقول

ص: 45

الآمديّ ذهب الأشعري، وعامة الأصحاب إلا أنّ من الصفات ما هو عين الموصوف كالوجود وما هو غيره.

وهو كل صفة أمكن مفارقتها عن الموصوف كصفات الأفعال من كونه خالقا ورازقا.

ومنها ما يقال إنه لا عين ولا غير، وهو ما يمتنع انفكاكه كالعلم والقدرة يدلّ على أنه

أراد بالصفة المعنى الثاني ومدلول الاسم المدلول التضمني وبعد ما فسر الغير بما ذكر لا يرد عليه أنّ الصفة أمر خارج عن الذات، فكيف تكون عينه وأنه يلزمه تقسيم الشيء إلى نفسه وغيره، وقوله في شرح المواقف أنه قد اشتهر الخلاف في أنّ الاسم هل هو نفس المسمى أو غيره ولا يشك عاقل في أنه ليس النزاع في لفظ فرس أنه الحيوان المخصوص أو غيره بل في مدلول الاسم أهو الذات من حيث هي أم باعتبار أمر آخر عارض له صادق عليه، فلذلك قال الشيخ قد يكون الاسم عين المسمى نحو الله، وقد يكون غيره كالخالق والرازق، وقد يكون لا هو ولا غيره كالعالم والقادر يقتضي أنه أراد المعنى الأخير، وأنّ الكلام في الاسم مطلقا صفة

أو جامداً وصريح في أنه أراد بالمدلول المطابقي، وقد أورد عليه أنّ ما ذكره الشيخ من أنّ الاسم قد يكون عين المسمى الخ لا يتفرع على ما ذكره من أنّ مدلول الاسم هو الذات من حيث هي أم باعتبار أمر صادق عليه إذ لو كان الذات باعتبار أمر صادق عليه مدلول الاسم لكان لا محالة بهذا الاعتبار مسماه، فيكون الاسم عين المسمى كما إذا كان مدلوله هو الذات من حيث هي هي، وما نقل عن الشيخ من أنّ اسم الله علم للذات من غير اعتبار معنى فيه ممنوع، إذ قد اعتبر فيه المعبودية بحق، أو الاتصاف بجميع صفات الكمال كيف لا وذاته من حيث هي هي غير معقولة لنا كما لا يخفي، ثم إنّ ما نقله مخالف لما في الكتاب من أنّ الاسم الذي هو عين المسمى مدلوله الذات من حيث هي، ومن أنه أن أريد بالاسم الصفة فقد تكون عين الذات وغير. ولا عينه ولا غنره.

والجواب أمّا عن الأوّل فهو أنّ تفريعه ظاهر لأن مراده بالمسمى ذات المسمى، وعينه لا مدلول الاسم مطلقا، وقد يستعمل ويراد به كل منهما والقرينة قائمة على أنّ المراد الأول.

وأمّ الجواب عن الثاني فسيأني في عملية الجلالة الكريمة.

وأمّا عن الثالث فالمخالفة إنما نشأت من الاختلاف في معنى كلام الشيخ أو من اختلاف الروأية عنه.

ثم أنّ للقوم في تحرير محل الخلاف هنا وجوها أخر منها أنّ الاسم يطلق ويراد به اللفظ

كما في كتبت زيد أو يطلق ويراد به المسمى كما في كتب زيد فإذا ورد ما يحتملهما من غير قرينة مرجحة كرأيت زيد فالقائل بالغيرية يحمله على اللفظ، وبالعينية على المسمى قيل وهو أحسن الوجوه ولا يخفي أنّ الموضوع له قمحداً المسمى، وأرادة اللفظ مجاز بوضمع غير قصدى مع أنّ ما ذكر لا مساس له بالأصول.

". ومنها ما ذكره الإمام وادّعى لطفه ودقته وهو أنّ لفظ الاسم اسم لك لفظ دال على معنى في نفسه غير مقترن بزمان ولفظ الاسم كذلك فيكون الاسم اسما لنفسه وعين مسماه وهذا إنما يصح لو كان النزاع في لفظ اسم ولا يصلح محلاً للخلاف حتى ينكره المعتزلة مع أنه مبنيّ على أق الاسم موضوع بإزاء كل فرد منه لا بإزاء المفهوم الكليّ أو على حمل المسمى على ما يطلق عليه عيناً كان أو فرداً وهذا لا يخص الاسم بل يجري في غيره كلفظ لفظ وككلمة كلمة ولفظ موضوع ونحوه، فلا حاجة إلى ما تكلف به بعضهم فمثله بضمير الغائب إذا عاد على مثله نحو هو زيد وهو ضمير غائب وهو تكلف بارد، ولو قيل أنه مخصوص بأسماء صفات الله، ولذا أطبقوا على ذكرها في الأصول وأنّ المراد أنّ وضعها هل هو للذات المقدسة أولاً وبالذات، والمعنى الوضعيّ مقصود بالتبع، أو وضعت لأمر كليّ، وهو ذات مّا متصفة بما دل عليه مأخذ اشتقاقها على ما حقق في الوضعيات، فعلى الأوّل يكون المقصود بالوضع أوّلا عين

المسمى وذاته وعلى الثاني غيره لمغايرة الكلي للجزئيّ حقيقة، وليس المراد بالغيرة مصطلح الأشعري، وبعد كل كلام فلم نر في هذه المسألة ما فيه ثلج الصدور وشفاء الغليل.

وللسهيليّ فيها كلام ادّعى أنه الحق وصنف في ردّه ابن السيد رسالة مستقلة لا يسع تفصيلها هذا المقام. وقوله: (كما هو الخ) إن كان نقل عن الشيخ في هذه المسألة أن المراد بالاسم الصفة فالكاف تتعلق بأريد كما في بعض الحواشي، والا فهو قيد للصفة كما ارتضاه كثر أرباب الحواشي، لكن قال بعض الفضلاء أن الظاهر أنّ الظرف متعلق بالإرادة دون الصفة، وهو

ص: 46

الموافق لما نمى عليه الشيخ في كتاب الصفات من أنّ الاسم هو الصفة، فما ذكروه مردود لأنه ناشىء من عدم الإطلاع، ومن حفظ حجة على من لم يحفظ، وبقي هنا أمور كثيرة قصر مسافتها أليق بالرأي السديد ثم إنّ السبكي رحمه الله قال في كتاب القواعد: إنهم بنوا على هذه المسألة فروعا فقهية منها ما إذا قال اسملث طالق هل يقع به الطلاق أم لا. ومنها ما لو قال باسم الله لأفعلن كذا هل يكون يميناً أم لا، ومنه عرفت نكتة في تعقيب المصنف رحمه الله تعالى لهذه المسألة بما بعدها وهو. قوله:(وإنما قال بسم الله الخ) قيل إنه محتمل لوجهين:

أحدهما: أن يراد لم يبدا باسم خاص من أسمائه تعالى، وبدأ بما يدلّ عليها اجمالاً.

والثاني: أنه لم يتبرك بذاته تعالى بل تبرّك باسمه، وفيه أنّ قوله لأن التبرّك الخ يعين الثاني، وعلل بأنه الذي يتلبس به الفاعل ويأتي به دون الذات لتنزهها عن أن يتلبس بها أحد ويأتي بها، وقيل عليه، إنّ التلبس بالذات من حيث هي هي غير ممكن لكنه من حيث الاستحضار بالذكر ممكن، وردّ بأنّ مرجعه أيضا إلى الإتيان بالاسم، وهو أولى بالاعتبار، وظواهر النصوص دالة على أنّ الابتدأء بالاسم، وأمّا الاستعانة بالذات المقدس نحو بك استعين، فأكثر من أن تحصر وحقيقة الاستعانة كما مرج التوسل بمد خولها لتشريف المشروع فيه والاعتداد بشأنه، ولو كان فيه ترك أدب لم ينسب للاسم أيضا غايته أنه احترز عن إطلاق لفظ الآلة وتخلص منه بأنّ الشرع عين الاسم لذلك فاتغ، وتعين الاسم له ليس بصحيح ألا ترى قوله تعالى:{اسْتَعِينُوا بِاللهِ وَاصْبِرُواْ} [الأعراف: 128] وانما جاءهم هذا من عدم الفرق بين الاستعانة والآلية، وإنما يقتضيان الابتذال وهو غلط نشأ من التمثيل بكتبت بالقلم، والصواب أنّ الاستعانة طلب العون، وهي تتعدى بنفسها كما في {وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} وبالباء كما في اسنعينوا بالله، والاستعانة تسند إلى الله تعالى حقيقة، فيقال أعانني الله، وهو خير معين وسيأني تحقيقه في قوله: و {إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} فاحفظه فإنه معين على ما مرّ، وفي قوله لأنّ التبرّك الخ لف ونشر غير مرتب لأن التبرّك بناء لى أن الباء للمصاحبة والاستعانة على الوجه الأوّل وقدم المصاحبة وان كانت مرجوحة عنده لأنها أظهر فلا يقال كان الظاهر العكس،

وبين اليمين والتيمن تجنيس، والتيمن تفعل من اليمن بالضم وهو البركة، وهو من اليمن لأنّ العرب تنسب الخير إلى اليمين والشرّ إلى الشمال، وبه فسر قوله تعالى:{تَأْتُونَنَا عَنِ الْيَمِينِ} [الصافات: 28] أي تصدوننا عن فعل الخير، وقال قدس سرّه: لفظ ذكر في قوله بذكر اسمه للتصريح بالمراد، فإنّ تصدير الفعل باسم الله إنما يقع بذكره، ويقع على وجهين. أحدهما: أن يذكر اسم خاص من أسمائه تعالى كلفظ الله مثلاً.

والثاني: أن يذكر لفظ دالّ على اسمه كما في التسمية، فإنّ لفظ اسم مضاف إلى الله يراد

به اسمه تعالى، فقد ذكر هنا اسم لا بخصوصه بل بلفظ دال عليه مطلقاً فيستفاد أنّ التبرّك والاستعانة بجميع أسمائه والباء وسيلة لذكره على وجه يؤذن بجعله مبدأ للفعل، فهو من تتمته فبطل توهم أنّ الابتداء بالتسمية ليس ابتداء باسم الله، ثم قال: إن فائدة لفظ اسم تعميم التبرّك بأسمائه وتمييز التيمن عن اليمين فإنّ التيمن إنما يكون باسمه لا بذاته واسمه آلة لا ذاته واليمين إنما يكون به لا بأسمائه التي هي ألفاظ انتهى.

وأورد عليه أمور منها أق بعض الأسماء لم يعهد فيها ذلك كالقهار والمذل والمتكبر ويدفعه أنه لا يلزم من التبرّك ونحوه بجميع أسمائه جملة أن يتأتى أو يحسن ذلك بها فرداً فرداً، ويدلّ عليه أنّ الأوّل واقع دون الثاني، فإنه ورد في الحديث:" أسألك بكل اسم هو لك أظهرت عليه أحدا من خلقك أو استأثرت به في علم الغيب عندك " (1 (وهو ظاهر ومنها أنّ اليمين أيضا باسمه تعالى لا بذاته كما في عامة كتب الفقه، وفي الهداية اليمين باسم الله، وقال الشرّاح: أي بهذا الاسم أو باسم آخر كالرحمن أو بصفة، من صفاته كالعزة والكبرياء وقد صرّحوا بأنّ الكفارة شرعت لدفع هتك حرمة اسم الله وهو شاهد لأنّ اليمين باسمه لا بذاته، فلا يتم الفرق المذكور وفيه ما فيه، وأيضا لفظ باسم الله يمين إذ نوى به اليمين وفي رواية ابن رستم عن محمد رحمه الله أنه يمين وأن لم ينو فلا يتم ما ذكر وهو قول للشافعيّ أيضاً رحمه الله بهما في قواعد السبكي، فلا يتوهم أنه غير وارد على المصنف رحمه الله لأنه ليس من مذهبه، وبقوله واسمه آلة لا ذاته على ما بيناه لك يسقط ما قيل من أنّ التبرّك، وان سلم أنه لا يكون

ص: 47

إلا بالاسم فالاستعانة لا تكون حقيقة إلا بالذات كيف لا وقد قال تعالى: {وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} فحصر مطلق التلبس، والاستعانة في الاسم ممنوع فلا أقل مما قاله بعض الفضلاء

من أنّ الاستعانة، وإن كانت حقيقة بالذات إلا أنّ الطريق إلى تحصيلها لما كان ذكر اسمه جعل مستعانا به تعظيماً وان لم يكن مراد، فإنه ناشىء من عدم الفرق بين استعنت المتعدي بنفسه الذي معناه طلب المعونة منه، وبين المتعد بالباء المتعلق بغير ذوي العلم غالباً نحو:{اسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ} [البفرة: 153] .

ومنها أن قوله فيستفاد أنّ التبرّك والاستعانة بجميع أسمائه ليس بمسلم وقد قال التفتازاني

في شرح تلخيص جامع الخلأطي معنى إضافة الاسم إلى الله إن كان الاختصاص شمل أسماءه كلها، وأن كان الاختصاص وصفا نذاته المتصف بالكمالات المستجمع له الصفات فهو لفظ الله خاصة للإتفاق على أنّ ما سواه معان وصفات، وفي التبرك بالإسم غاية التعظيم للمسمى، وقيل إثالاسم صلة أتى به للتبرك وللفرق بينه وبين القسم قليل الجدوى، لأن الابتداء إنما هو بالاسم لا بالذات انتهى.

وأمّا تصلف المورد على السيد السند هنا والبحث معه، بأنه إن أراد بالابتداء الذي ذكره الابتداء الحقيقي فلا يتم بما ذكره وان أراد الإضافي أو الأعم، فالتوهم باطل ولا يتفرّع بطلانه على ما ذكر مع أنه لا يتمّ أيضا إذا دلت البسملة على الاستعانة والتبرك بجميع أسمائه وبالله الرحمن الرحيم على وقوعه باسم واحد وهو ممنوع، ولا يصح إرادة اللفظ مع وصفه بالرحمن الرحيم، فالأولى أنه لم يقل بالله الخ لما فيه من إساءة الأدب بجعله تعالى آلة أو مصاحبا لفعل العبد فسراب يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيأ لأنّ المراد الابتداء الحقيقي وعدم تمامه مكابرة ودلالته على جميع الأسماء من عموم الاسم المضاف أظهر من الشمس، والوحدة في مقابلة العموم واساءة الأدب لا تتوهم مع ما مرّ من أنّ معنى الآلية توقف الفعل أو الاعتداد به عليها وماكها التبرك والمصاحبة لا تنكر بعد التصريح بها في قوله:{وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ} [الحديد: 4] فقد وضح الصبح لذي عينين وما على الأعمى من حرج. قوله: (ولم تكتب الألف) أي لم ترسم ألف اسم بعد الباء على ما هو مقتضى الظاهر من الرسم إذ الأصل في كل كلمة أن تكتب باعتبار ما يتلفظ بها في الوقف والابتداء، وفي الابتداء هنا يلفظ بالهمزة، وهي ألف لأنّ الألف كما في الصحاح لينة وغير لينة، وهي الهمزة فلا حاجة لما قيل من أنها سميت ألفا لأنها تكتب بصورتها قال أبو حيان رحمه الله: إن قلت باسم زيد، أو تبركت باسم الله تعالى ترسم الألف لأنّ الأوّل لم يضف إلى الله تعالى، والثاني ذكر فيه متعلق الباء وقال الدمامينيّ ما حاصله: إنه لا بد لحذف الألف من أمرين عدم ذكر المتغفق، واضافة لفظ اسم للجلالة وهل يثترط تمام البسملة فيه تردّد وظاهر كلام التسهيل اشتراطه قيل: وإنما طوّلت الباء عوضا عنها لتكون الباء بمنزلة ألف اسم الله، فيكون الابتداء ببسم الله ابتداء باسمّ الله فاعرفه، فإنه ليس من عمل الأفهام بل من مبذولات الإلهام، وهو من مبتذلات الأوهام وخصت هذ. الأسماء بالابتداء لأنّ الذات مقدّمة على سائر الموجودات فناسب الابتداء باسمها

وهو الله كما مرّ وكذا الرحمن الرحيم لقوله: " سبقت رحمتي) (1) وهذه نكتة حسنة، وتحذف ألف الرحمن مع أل وبدونها وفي الكشاف قال عمر بن عبد العزيز لكاتبه طوّل الباء وأظهر السينات ودور الميم قال فدّس سره (2) : تحسيناً للخط ومحافظة على تفخيم اللفظ الذي أريد به الأسماء المعظمة ييهبرياء سيماها وهو إيماء إلى أنه لا دليل فيه على التعويض حتى يعترض عليه بذلك كما توهم والموجود في النسخ السينات بدل السنات وفيه مبالغة، كائنه جعل كل سِنَّة كسين في الظهور، وهو دفع لما قيل من أنه ليس في البسملة سينات بل سِنات لسين واحدة ولو أراد تعددها باعتبار أفراد البسملة لقال الباآت والميمات أيضاً.

وأجيبّ بأنّ المراد من السين السئة تسمية للجزء باسم كله إذا ما عداه مطروح خطاً قيل

وهو على طرف الئمام ومبناه على حرف واحد وهو أنّ السئات هنا جمع السّن لا جمع السين فإنه لا يقال في جمع سٍنّة سينات حذراً من الالتباس بالمصادر التي تجىء على يخغال كما قال الجوهريّ في دينار أصله دنار بالتشديد فأبدل من حرف التضعيف ياء لئلا يلتبس بالمصادر التي تجيء على يخغال نحو جمذب، ثم أنّ هذا القائل تجج وقال: هذا ما عنلإي في تحقق المقام، ولعمري إنّ اشتباه السين على هؤلاء الفضلاء شين تام فنعم

ص: 48

الكلائم كلائم أبي تمام كم ترك الأول للأخر، ولعمري إن في زوايا الأفكار خبايا، وفي أبكار الخواطر سبايا لكن قد تقاصرت الهمم، ونكصت العزائم فصار قصارى الآخر أن يتبع الأول، وهذا كما قيل في الياسمين لا يساوي تجفغة وقد قال عليه بعض فضلاء عصره الإبدال المذكور مخصوص بمغال الاسم بدون هاء وسنات يخغلات لا يخغال فما افتخر به ليس بصواب، وهذا كله صيد مق المفلاة ففي حواشي المالول الحسنية بعدما تنبه لهذا الاعتراض دفعه بقوله أبدل فيه أحد حرفي التضعيف لوقوعه في بناء ممتد ولما لم يتنبه شارحوه لهذه الدقيقة التجؤ إلى المجاز، وأنت خبير بأنه مشروطاً بالقرينة الصارفة والا ارتفع الوثوق، وأشار بقوله بناء ممتد إلى أنّ فعلات تشبه فعالاً في الامتداد والوزن العروضي، وأيده بقول الزمخشري في سورة الحديد في قراءة الحسن تيلآ بفتح اللام، وسكون الياء وحكاه قطرب بكسر اللام، ووجه بأنه حذفت فيه همزة أن وأدغمت نونها في لام لا فصار للإثم أبدل من اللام المدغمة كما في ديوان انتهى.

ولا يخفى أنه بعد الإبدال يلتبس جمع السين بجمع السن، فإن قامت عليه قرينة، فهي

بعينها قرينة المجاز، وهو مع بلاغته لاشتماله على نكتة أسهل مما تكلفه من ذلك الأمر الغير القياسي والقرينة هنا حالية، وهو أنّ في البسملة سنات لا سينات والجواب الممرض أظهر

وإنما جمعها دون أخويها لأنّ لها أجزاء في الخط. قوله: (لكئرة الاستعمال) قيل الظاهر أنّ المراد كثرة الكتابة، فلما كثرت كتابته حذف تخفيفا على الكاتب كما خفف تلفظه به، وكثرة التلفظ لا دخل لها في الحذف الخطي فما قيل في شرحه لكثرة الاستعمال بحسب اللفعل والكتابة، وفيه نظر لأنه لا دخل للأوّل هنا ليس بشيء، فإنهما كالمتلازمين، وكل يناسب الآخر، فمثله لا ينبغي ذكره، والعلل لا يلزم إطرادها حتى يقال هذا يقتضي حذف ألف الله، قيجاب بأنها عوض، أو أنه لئلا يلزم الإجحاف لحذف ألفه الثانية خطاً، أو لئلا يلتيس بقولك لله مجرورا، وبشدّة الامتزاج به، وما ذكر هو المشهور، وهو منقول عن مكي (1) رحمه الله وقيل إنه لا حذف فيه وإنّ الباء داخلة على ييمم بكسر السين أو ضمها أحد لغات اسم كما مرّ، ثم سكنت سينه هربا من توالي كسرتين، أو انتقال من كسرة لضمة، وهو بعيد. قوله:(والله أصله إله الخ) اعلم أنّ في لفظ الجلالة باعتبار أصلها واشتقاقها وكونها عربية أو غير عربية أقوالاً واختلافالب كثير؟ حتى قالوا: كما تاهت العقلاء في ذاته وصفاته لاحتجابها بنور العظمة تحيروا في لفظ الله لأنه انعكس له من تلك الأنوار أشعة بهرت أعين المستبصرين، وقد قال أمير المؤمنين علي رضي الله عنه دون صفاته تخئز الصفات وضل هناك تصاريف اللغات ففيه أقوال لا تحصر اختار المصنف رحمه الله منها أربعة، وقال في الكشاف: الله أصله الإله قال: معاذ الإله أن يكون كظبية

فحذفت الهمزة، وعوض عنها حرف التعريف فقيل عليه: إن كان أصله الإله معرفاً باللام

لم يكن حرف التعريف عوض الهمزة، لما يلزمه من الجمع بين العوض والمعوض، ولذا قال أبو عليّ إنه كالعوض.

وأجيب بأنّ حرف التعريف في الإله من الحكاية لا من المحكى فهو يعني أنّ أصله إله

وإنما أدخل عليه حرف التعريف للحصر رداً على من قال أنّ أصله لاه إذ لم ئقل لاه إلا نادرا، ولو شلم أنها من المحكي ففيه مضاف مقدر أي لزوئم أو لازمية حرف التعريف، فلما رأى المصنف ما ورد عليه عدل عنه إلى قول أصله إله لأنه أسلم، ومعنى التعويض على رأي جماعة منهم المصنف أن يورد ما يكون عوضاً وعلى المشهور جعله عوضا وقيل المراد به اعتباره عوضا لا إيراده وهل حذث هذه الهمزة اعتباط على غير القياس، فلذا لم يمنع الإدغام وعوض عنها أل أو هو قياس بأن نقلت حركتها إلى ما قبلها ثم حذفت لالتقاء الساكنين الهمزة بعد نقل الحركة إلى اللام قبلها فلزوم الحذف والتعويض، وعدم منع الإدغام مع أنّ المحذوف لعله كالموجود من الأمور الشاذة التي اختص بها هذا الاسم الأعظم قولان أظهرهما الأوّل والمراد

بالأصل هنا الأصل الإعلالي لا الإشتقاقي وعدل المصنف رحمه الله عن قول الزمخشريّ حرف التعريف إلى قوله الألف واللام، ليكون نصاً في تعويض الحرفين معا فيقتضي القطع، لأنه على القول بأنه اللام فقط يحتاج إلى أن يقال وتبغتة الهمزة كما في شروج الكشاف.

هذا زبدة ما هنا من القيل والقال بعد طرح مقذمات منتجة للملال، وفيه

ص: 49

أنّ ما أجابوا به

عن الزمخشري ليس بشيء أمّا كونه من الحكاية، فكيف يتأتى مع أن إنشا إه الشعر المذكور لإثبات تعريف المنقول عنه، ولو كان من الحكاية كان يضرب عنه صفحاً، وكذا ما زعموه من أنّ المعوض اللزوم، فإنه مع كونه خلاف الظاهر لأنّ تعويض الأمور المعنوية عما حذف لم يعهد، ويأباه أيضاً قوله إن المعرف باللام من الإعلام الغالبة، واللام لازمة في مثله كما صرحوا به، فالمحذور باق.

فالصواب أن يقال إنّ المراد بالعوضية اعتبارها جزأ من الكلمة وعوضاً عن الهمزة لا

الإيراد للعوضمية فاللام قبل الحذف للتعريف، ثم جردت عنه وصارت عوضاً، فلا عوضية قبل الحذف، ولا جمعية بعده كما في قولهم عدة أصله وعدة، ثم إنّ تعريفه بأل جار على القياس المطزد لكنه بعد الغلبة والشيوع الذي نزل منزلة العلم الشخص خفف، واستغني بمخمفه وهو الله عن الإله حتى صار كالفضالت المرفوض فما قيل من أنّ الشاعر اضطر فيه والضرورة تردّ الأشياء لأصولها، وفي إوادته العلم المردود إلى الأصل بحث لا مكان إرادة المعنى الوضعي وأيضاً في جعل الإله المعرف من الإعلام الغالبة خفاء إذ اسنعماله لا يوجد إلا قليلَا، فكيف يكون من الإعلام الغالبة، ودعوى أنه كان منها قبل شهرة الله أيضاً غير ظاهرة من ترّهات الأوهام، ولغو الكلام الذي أوقعه فيه جمود الأفهام. قوله:(ولذلك قيل يا أدلّه بالقطع) أي لكونها عوضاً عن المحذوف قيل يا ألله بقطع الهمزة لأنها جزء من عوض الحرف الأصليّ مع أنّ كون المعوض عنه همزة قطع فيه تمائم المناسبة بينهما قطعاً. وتوفم أبو علي أنها أيضاً عوض فيئ- الناس إذ لا يقال الأناس في السغة وزدّ بكثرة استعمال ناسق ئنكراً دون لاه، وبامتناع يا ألناس دون يا ألله كذا قال المحقق ودفع الأخير بقول الرضى: إنما جاز يا ألله بالقطع لاجتماع شيئين في هدّا لزومها الكلمة إلا نادراً كما في لافة الكتار، وكونها بدل همزة إله، وأمّا النجم وأمثاله فلامها لازمة لكنها ليست بدلاً من الفاء وأمّا الناس، فاللام عو ضمن الفاء إلا أنها ليست لازمة إذ يقال في السعة ناس هذا وانما اختص القطع بالنداء إذ هناك يتمحض الحرف للعوضية بلا شائبة تعريف للاحتراز عن اجتماع أداتي التعريف وفي غير النداء يجري الحرف على أصله، ثم أنه قيل أنّ كلام المصنف رحمه الله يحتمل أن يكون بياناً لعلة اجتماع أداتي التعريف والقطع معاً وأن يكون للقطع وحده والأول أوجه وان كان الثاني هو الظاهر من العبارة يعني أنه كان القياس أن لا يدخل عليها بالعدم اجتماع التي التعريف، واذا دخلت تسقط الهمزة في الدرج كما في غير هذه الكلمة لكن أدخل عليها حرف النداء، ولم تسقط الهمزة لأنه

صار عوضا، فيضمحل عنه معنى التعريف والعوض لا يحذف غالباً إن صار جزأ والجزأ لا يحذف في الدرج كاكرم وتجغل المصنف العوضية علة إذ المراد العوضية على سبيل الجزئية كما فحن فيه، وان سلم فالمراد أنه علة ناقصة لا علة نامة، ولا يتوهم أنّ الأصل عدم الجمع والقطع، فاذكر يعارض الأصل فتساقطاً فلم رجح ذلك لما عرفت من أنّ فيه نكتتين على أنّ ذلك غير متوجه إذ لا يلزم الترجيح بين النكات بل يكفي الإرادة، ولذا قد يراعي الأصل مع وجود تلك النكتة ولا مقتضى للعدول فإن قلت كان يجب القطع في غير النداء لوجود علته. قلت: قد روعي فيه جانب الزيادة والأصالة فروعى الأصل تارة والتعويض أخرى، فإن

فلت قد مرّ أنّ فيه نكتتين لعدم الحذف، فكيف رجحوا جانب الأصل المرجوح.

قلت: قيل إنه لا يلزم البليغ رعاية الأرجح والأبلغ وله العدول عنه كما في شرح الفوائد النياثية وفيه أنّ قول أهل المعاني إن كذا يذكر لكونه أصلاً ولا يقتضي العدول يقتضي أنه لا يجوز مع وجود العارض رعاية الأصل لضعفه، فكيف جوز ذلك إلا أن يحمل على أن المراد ان لم يخالف مقتضى الحال، وقال المحقق التفتازاني رحمه الله: قد يقال في قطع الهمزة إنه نوى فيه الوقف على حرف النداء تفخيما للاسم الشريف، ونقله بعضهم عن سيبويه رحمه الله وقيل في توجيهه إنّ المعالم الجليل القدر ئغذ نداؤه باسمه من سوء الأدب، فلذا جعل النداء " لمحالمنقطع عما بعده والاسم الكريم كأنه غير منادى لا يقال إنه قد ورد نداء الله تعالى في الحديث الشريف كثيراً وفي المأثور يا رحمن الدنيا والآخرة (11 لأنّ النداء بالوصف المادح ليس كالنداء بالعلم المجرد والمقصود من النداء كالخطاب التوجه إلى الله بقلبه وقالبه، ليقبل عليه يإحسانه، ولطفه فالمراد بالتفخيم إمّا تعظيم مسماه

ص: 50

بالتأني في دعائه أو اسمه بإثبات حرف المد وتفخيم لامه وإبقاء حروفه، ولو وصل فات بعض هذا والثاني هو المراد والأمر فيه يختلف باختلاف المقام، والعبارة ناطقة بخلاف ما قاله القائل، ثم قطع الهمزة في النداء أكثري كما ذكره الرضى، وتجغل عقة القطع العوضية لا اللزوم لأنه غير كاف بدليل قوله:

بحقك يا التي حيرت قلبي

بالوصل وبعضهم جعل العلة العوضية واللزوم فتدبر. قوله: (إلا أنه يختص بالمعبود

، لحق الخ) يعني أنه بعد التغيير والحذف اختص بالمعبود بالحق بحيث لم يستعمل في غيره أصلاً وصار المراد به الذات كما في سائر الإعلام فصح التوحيد والغلبة كما قال الشارح المحقق أن يكون لففظ عموم فيحصل له بحسب الاستعمال خصوصية لشيء بمعنى زيادة اختصاص إمّا إلى حد التشخص فيصير علما كالنجم أو لا فيصير اسما غالبا كالسنة أو صفة

غلابة كالرحمن ثم أنّ الغلبة بحسب الاصطلاح أعم من أن تستعمل أوّلاً في غيره أو لا تستعمل أصلاً وهي في الأول تحقيقية كالإله والنجم وفي الثاني تقديرية، وقياسية كالذترّان (1) والله ولا عبرة بما قاله الأستاذ الخال من أن غلبة ألله تحقيقية، وان اسندل عليه بما لا يجديه وكلام المصنف رحمه الله مخالف لما في الكشاف من جعله اسم جنس لا وصفاً، فمن توهم أنه بمعناه، وأنّ قوله المعبود لم يرد به أن مرادف له ليكون صفة فينا في أنه اسم غير صفة فقد غفل عما ذكر ولا ينافي غلبة الإله قلة الاسنعمال فإنه يكفي أن يكون غيره أقل منه، فسقط ما قيل من أنّ في الغلبة مع ندرة الاسنعمال خفاء. ثم إنّ كلام المصنف رحمه الله محتمل لأن يكون المراد أنّ الإله المعرف باللام يقع على كل معبود وغلب على المعبود بحق أي على ذاته المخصوصة فصار علماً بالغلبة ينصرف إليه عند الإطلاق، ثم أكد الاختصاص بالتغيير فصار مختصاً به فالإله المعرّف قبل الهمزة وبعده علم لتلك الذات إلا أنه قبل الحذف قد يطلق على غيره وبعده لا يطلق أصلاً وهذا ما اختاره فذس سره، ويحتمل أن تكون اللام للعهد إشارة إلى الأصل المذكور أوّلاً فيكون المراد أنّ إلهاً المنكر مستعمل للمعبود مطلقاً والمعرف صار بالغلبة مختصاً بالمعبود بالحق بدون أن يصير علماً والله علم لذات معين هو المعبود بالحق سبحانه وتعالى وهذا ما اختاره السعد وحمل عليه كلام الكشاف، واستشهد له بتنكيره الحق في الأوّل وتعريفه في الثاني وذكر أنّ الإله اسم لفهوم كليّ هو المعبود بحق والله علم لذات معين هو المعبود بالحق تبارك وتعالى وبهذا الاعتبار كان قولنا لا إله إلا الله كلمة توحيد وقال قدّس سره أنّ الاستشهاد المذكور لا يجديه نفعاً لأن المفيد لتعين ذات المعبود أو عدم تعينه تعريفه أو تنكيره، ولا مدخل في ذلك لتعريف الحق ولا تنكيره كما في قولك جاء الذي له عليك الحق أو الذي له عليك حق، وتأييد بكلمة التوحيد في غاية الضعف لاقتضائه اختصاص المنكر بذلك المفهوم الأخص، وبطلانه ظاهر قال ولا يشتبه على أحد أنّ المقصود من قوله على كل معبود هو الذاهت المعبودة لا المفهوم المتبادر لها، واللام في قوله على المعبود بحق إشارة إلى بعض تلك الذات المعبودة لا إلى مفهوم أخص من مفهومه الأصليّ، ولما كان المراد بلفظ الحق مفهومه المقابل للباطل، ولا تعدّد فيه فلا حاجة إلى تعريفه ذكره ثانياً منكراً أيضاً، وعرفه ثالثا تفنناً فكان الثالث أولى لتقدم ذكره مرتين وئو عرف الأوّل وقال: على كل معبود بالحق لم يتعين المقصود من المعبود انتهى ولا يخفى عليك أنّ الباء في قوله بالحق باء الملابسة وملابسة العبادة للحقية بمعنى اتصافها بها وكون العبادة حقة تستلزم حقية المعبود، وهي المراد هنا بطريق الكناية، فإن المقصود منه أنه المعبود الحق وتغيراً لحق بتعريفه تعين للمعبود وهو تشخصه فيقتضي أنّ المراد منه الذات المقدّس الموجود في الخارج وتنكيره بقرينة المقابلة

يقتضي إرادة المفهوم لأن المعبود الحق واجب التوحيد فكليته باعتبار مفهومه لا باعتبار أفراده وهو لا غبار عليه ويؤيده ما نبه عليه المحقق رحمه الله من تمثيله له بالسنة ولا شبهة في عدم علميتها، ولذا قال رحمه الله: وأمّا تشبيه الإله بالنجم وغيره من الأعلام فليس في العلمية بل في مجرّد الغلبة سواء انتهت إلى حد العلمية أو لا. ألا ترى أنّ السنة ليست علماً شخصيا ولا جنسياً إذ لا ضرورة تدعو إليه، وجواب الشريف عنه بقوله أما السنة فظاهر التثبيه يقتضي كونه علماً كسائر أخواته، إلا أن فيه مانعا مخصوصاً يخرجها عن ذلك إذ لا يفهم منها معنى شخصي حتى تجعل من أعلام الأشخاص، وليست

ص: 51

فيها ضرورة ملجئة إلى جعلها علماً جنسياً اعتراف منه بوروده، فذكره في صدد الجواب من العجب العجاب وأما ما ذكره في تفسير كلمة التوحيد من قوله: أي لا معبود بحق إلا ذلك الواحد، فلا يقتضي ما أورده عليه لأنه تأييد لعلمية الله وهو لا يقتضي اختصاص المنكر، وهو من قبيل العام المخصوص بقرينة، ولذا فسره بذلك كما بين في محله، وما ذكره في توجيه التنكير غير لائق بنظره اللطيف، ومقامه الشريف، وقيل في الجواب عما قاله الشريف إنّ ما قاله السعد في غاية القؤة والمتانة، وتقريره أنّ الشارع جعل هذه كلمة توحيد وهو مستلزم لكون الله علما لما ذكرنا مما لا مجال لمنعه كما سيأتي تحقيقه وإشارة تعريفه وتنكيره لما ذكره ليست مبنية على الوضع اللغوي والمعنى الأصلي بل هي من نكات البلاغة والاعتبارات المناسبة فحيث لم يكن في المعنى تعين بوجه لم يورد في الكلام تعريفاً أصلاً، فقلت اسم الله يقع على كل معبود بحق أو باطل فإذا حصل بالعلمية تعين ما أورد في الكلام المعبر عنه تعريفاً، فقال: ثم غلب على المعبود بحق، فإذا ازداد التعريف زاد فيه تعريفاً، ولا يخفى على المنصف أنه اعتبار مناسب صالح لكونه، إشارة لما ذكره ولا يرد عليه ما أورده قدس سره نظراً إلى الوضع اللغويّ مع أنّ قوله لا مدخل في ذلك لتعريف الحق، وتنكيره محل نظر إذ تعريفه إذا كان إشارة إلى الحق المختص بالله تعالى يفيد تعين ذات المعبود إفادة تامّة واضحة، فلا يصح القول بأنه لا مدخل لتعريفه وتنكيره في ذلك، ولا يخفى أنه لا معنى له، فإنّ نكات البلاغة لا بد لها من دليل في الكلام وضعي أو تابع له، فلا تثبت بمجرّد التشهي، وقد عرفت ما يغنيك عن مثله، ثم إنّ قوله: إن مفهومه المقابل للباطل لا تعدّد فيه ممنوع سواء أراد في نفس الأمر، أو في الذهن وعند العقل*

تنبيه: كان عندي فيما قاله الشيخان هنا في لفظ الله، وما فيه للشراح من قيل، وقال شبه

لم أبدها تأدّبا حنى رأيت ابن مالك رحمه الله في شرح التسهيل صرّح بها حيث قال الله من الأعلام التي قارن وضعها أل، وليس أصله الإله كما زعموا بل هو علم جامع لمعاني الأسماء الحسنى كلها، ولذا يقال لكل ما سواه الله بلا عكس، ولو لم يرد على من قال أصله إلا له إلا انه ادّعى ما لا دليل عليه لكان ذلك كافياً لأن الله، والإله مختلفان لفظاً ومعنى، أمّا لفظاً فلأنّ احدهما معتل العين والثاني مهموز الفاء صحيح العين واللام، فهما من مادّتين فرذهما إلى أصل

واحد تحكم من سوء التصريف، وأمّا معنى فلأنّ الله خاص به تعالى جاهلية واسلاما والإله ليس كذلك لأنه اسم لكل معبود ويوضحه قول الأنصاري:

باسم الإله وبه بدينا ولوعبدناغيره شقينا

ومن قال: أصله الإله لا يخلو حاله من أمرين لأنه إمّا أن يقول الهمزة حذفت ابتداء ثم أدغمت اللام، أو يقول نقلت حركة الهمزة إلى اللام وحذفت على القياس، وهو باطل لأنه ادعاء حذف بلا سبب ولا مشابهة ذي سبب من ثلاثيّ فذكر الفاء تنبيه على أنّ حذفها ابتداء أشد استبعاداً من حذف العين واللام لأنّ الأواخر وما يتصل بها أحق بالتغيير، وقولي بلا سبب تنبين على أنّ الفاء قد تحذف لسبب كواو عدة مصدر يعد حمل المصدر على الفعل فحذف للتشاكل، وقولي ولا مشابهة ذي سبب كرقة بمعنى ورق حذفت فاؤه بلا سبب لشبهه بعدة وزنا، إعلالاً ولو أنّ رقة بمعنى ورقة لتعين الحاقة بالثنائي المحذوف اللام نحو لغة، فإن قيل قد حذفت الفاء بلا سبب في الناس فإن أصله أناس، قلنا لو صح أنّ الناس مفرع على أناص لم يجز أن يحمل عليه غيره لأن الحمل عليه زيادة في الشذوذ وكثرة مخالفة الأصل بلا سبب ملجىء لذلك، فكيف والصحيح أن ناسا في أناس بمعنى من مادّتين مختلفتين نوس وأنس كاوقية ورقية وأمثاله كثيرة، وأمّا ادّعاء نقل حركة همزة إله إلى اللام فأحق بالبطلان لأنه يستلزم مخالفة الأصل من وجوه.

أحدها: نقل حركة من كلمتين على سبيل اللزوم ولا نظير له.

والثاني: نقل حركة همزة إلى مثل ما بعدها فيوجب اجتماع مثلين متحرّكين، وهو أثقل

من تحقيق الهمزة بعد ساكن لأنّ اجتنابه في الكلام آكد، وهو ملتزم إلا في أفعال الروية لأنّ العرب تلتزمه إلا تيم اللات.

، الثالث: من مخالفة الأصل تسكين المنقول إليه الحركة فيوجب كونه عملَا كلا عمل وهو بمنزلة من نقل في بض، ولا يخفى ما فيه من القبح مع كونه في كلمة، فما هو في كلمتين أمكن في الاستقباح

ص: 52

وأحق بالإطراح.

الرابع: إدغام المنقول إليه فيما بعد الهمزة، وهو بمعزل عن القياس لأن الهمزة المنقولة الحركة في تقدير الثبوت فإدغام ما قبلها فيما بعدها، كادغام أحد المنفصلين وقد اعتبر أبو عمرو رحمه الله في الإدغام الكبير الفصل بواجب الحذف نحو يتبع غير فلم يدغم فاعتبار غير واجب الحذف أولى، ولأجل الاعتداد بالمحذوف تخفيفاً جاز أن يقول في إغدودن من وأل وول بتقدير واوين، وأصله وأوأل ثم نقلت حركة الهمزتين إلى الواوين واغتفر تقديرهما دون قلب أولاهما همزة لانفصالهما بالهمزة تقديراً وهذا مثل ما ندر في لكن أنا إذ قيل فيه لكنا إلا أنّ هذا ليس ملتزما، ثم زعم أن أصل الله إله يقول الألف واللام عوض من الهمزة، ولو كان

كذلك لم يحذفا في لاه أبوك أي دلّه أبوك إذ لا يحذف عوض ومعوض في حالة واحدة، وقالوا لهي أيضاً فحذفوا لام الجرّ والألف واللام وقدّموا الهاء وسكنوها فصارت الألف ياء، وعلم بذلك أنّ الألف كانت منقلبة لتحرّكها وانفتاح ما قبلها، فلما وليت ساكنا عادت إلى أصلها، وفتحتها فتحة بناء، وسبب البناء تضمين معنى التعريف، هذا قول أبي علي وهو عندي ضعيف لأنّ الألف واللام في الله زائدة مع التسمية مستغنى عن معناها بالعلمية، واذا حذفت لم يبق لها معنى يتضمن، والذي أراه أنّ لهي مبنى لتضمن معنى حرف التعجب وإن لم يكن له حرف موضوع كما قالوه في اسم الإشارة يعني أنه من المعاني التي حقها أن يوضع لها حرف إذ لا ئقع لهي في غير التعجب، وهو مع بنائه في موضع جرّ باللام المحذوفة واللام ومجرورها في موضع رفع خبر، وأبوك مبتدأ انتهى.

ما قاله ابن مالك ملخصا، وفي شرح ناظر الجيش أنه لا مريد عليه في الحسن والتحقيق

إلا أنّ في ردّه على أبي علي في سبب بناء لهي أبوك نظراً لأنه حكم بزيادة الألف واللام، وليس القول بزيادتها متعينا عند أبي علي فيلزمه ما ألزم به بناء مثل انتهى.

وبهذا علم أنّ كلامهم مع مخالفة القياس مبنيّ على غير أساص فأعرفه.

(أقول) : هذا زبدة ما قالوه.

وأنا أقول إنّ الخلاف فيه مبنيّ على خلاف آخر ذكره ابن الشجري في أماليه، وهو أن جمهور البصريين ذهبوا إلى أنّ أناساً وناسا من مادّة واحدة وهي أنس لاً نس بعضهم ببعض، وناس وزنه عال وبنوا عليه ما تقدّم تبعا لسيبويه، والقول الآخر ما ارتضاه الكسائي والفرّاء، وكثير من النحاة أنهما ماذتان مختلفتان معنى ومبنى فأناس من أنس وناس من نوس بمعنى تحرّك، واستدلوا بتصغيره على نويس دون أنيس، وعليه بنى ما قاله ابن مالك ومن تبعه وهو عندي أوضح معنى وأقوى دليلاً، وجوابهم بأن ألفه لوقوعها ثانية عوملت معاملة الزائدة في التصغير تكلف لا داعي له عندي، وهو الحق الحقيق بالقبول. قوله:(واشتقاقه من أله الخ) ما مرّ بيان لأصله الإعلاليّ، وما يترتب عليه، وهذا شروع في بيان أصله الاشتقاقي، وقد اختلفوا فيه فقيل إنه غير مشتق، وقيل مثتق، وفي المشتق منه أقوال اختار منها المصنف أنه من أله بفتح الهمزة واللام، فإن قلنا بأن المشتق مته الفعل فهو على ظاهره، والا فهو بتقدير مضاف أي من مصدر إله أو المراد أنه مأخوذ من هذه المادة ومصدره إلاهة بزنة عبارة، وألوهة بالضم كنبوّة، وألوهية بالضم والياء المشددة كعبودية وتأله واستأله بمعنى تعبد وانقطع إلى الله، وضمير اشتقاقه المضاف إليه راجع لأصل الجلالة، وعبد بفتحتين كما قيد في نسخ الجوهري او هو مجهول، كما قيل لأن الظاهر من كلامهم أنه متعد لالازم يعين أنّ إلها فعال بمعنى مألوه اي معبود فهو صفة مشبهة ككتاب بمعنى مكتوب، وامام بمعنى مؤتم به، وهذا منقول عن

المصنف هنا، وفعال قد يكون اسم ا-لة سماعاً كركاب لما يركب به وهو كثير وخالف المصنف رحمه الله الزمخشري فيما اختاره من أنّ الفعل وبقية المادّة هنا مشتقة من ازله اسم العين كاستجمر واستنوق وتجوهر لأنه على خلاف القياس لا سيما في الثلاثيّ، كأبل إذا أحسن رعي الإبل والقيام عليها، والمعروف كون معنى المشتق منه مراعى في المشتق، وهذا بالعكس إلى غير ذلك مما فصل في شرّاح الكشاف وذهب الإمام المرزوقي وصاحب المدارك إلى أنّ الإله مصدر كالإلاهة، وهو خلاف المشهور، ولا وجه لما قيل عليه من أنه لم يوجد في اللغة مع أنّ المرزوقي أمام أهلها فكفى به مقتدى. قوله:(وقيل من إله إذا تحير الخ) أله يأله في هذا وفيما بعده

ص: 53

كفرح يفرح، وضعفه إمّ لأنّ الأصل في الإشتقاق أن يكون لمعنى قائم بالمشتق، والحيرة قائمة هنا بالخلق لتحيرهم في ذاته وصفاته أو لكون أله بهذا المعنى واوي عند أهل اللغة كالجوهريّ وغيره، فعدّه أصلَا آخر لا وجه له لأنّ همزته مبدلة من الواو، وإن ذهب بعض أهل اللغة إلى أنها أصلية، وعليه صاحب القاموس حيث ذكره بهذا المعنى في المادّتين، والقول بأنه اشتقاق كبير بعيد إذا النزاع في الصغير فإن سلم إبدالها من الواو اتحد الوجهان، ومن حاول إثبات التغاير بينهما زاد في الشطرنج بعلة، وقوله:(في معرفته) أي في معرفة الله، والظاهر في معرفة الأله لأن الكلام في اشتقاق أصل الجلالة، إذ لا وجه لكون الأصل مشتقاً من غير ما اشتق منه الفرع، ولا لكونهما من أصل واحد كما قيل، فتحير العقول في مطلق المعبود لاتخاذ اكهة شتى وزعم كل أنه على الحق، أو المراد التحير في معرفته تعالى والكفرة، وإن أثبتوا شركاء معترفون بأنه إله الآلهة وأعظمها. قوله:(أو من ألهت إلى فلان أي سكنت إليه) سكن إليه بمعنى استأنس من السكون، وعدم الإضطراب، أو هو مجاز من السكنى، ومته السكن بفتحتين، فإنه ما يؤلف من نحو الصديق والأهل والحبيب والمنزل قال:

". سا بارقا أذكرالحشى سكنه منزلنا بالعقيق من سكنه

ويقال ألهنا بمكان كذا أي أقمنا قال:

ألهنا بدار ما تبيد رسومها كأنّ بقاياها وشام على يد

وقيل: إنه ذكر في اللباب بعد ذكر السكون الثبات، واستشهد له بهذا البيت، فاللائق للمصنف ذكر الثبات أيضاً بعد السكون ليكون الإطمثنان مرتبطاً بالأول والسكون وبالثاني، ولا وجه له رواية ودراية والهنا في البيت بمعنى سكنا فهو لغو من القول. قوله:(لأن القلوب تطمئن بذكوه والأرواح تسكن لمعرفتة) يقال اطمأن يطمئن اطمئنانا وطمأنينة بمعنى سكن، وهو مطمئن إلى كذا وذاك مطمأنّ إليه، فهو حقيقة في المكان واطمئنان القلب، والنفس مجاز كما في الأساس، ومنه النغس المطمئنة إلا أنة شاع حتى صار حقيقة في استقرارها بزوال القلق

والاضطراب، وهو لا يتاتى تعالى الله، فلذا قدم المتعلق للحصر في قوله:{أَلَا بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد: 28] أي لا بغيره فإن الطمأنينة لما عداه غرور والثقة به مجز واستهداف للبلاء، وطمانينة القلب والنفس بمعرفة الله والتسليم له منقادة بزمام الطاعة وحينئذ تصل الروح بنور المعرفة إلى مستقرّها في مقعد صدق، فإن قلت كيف يتأتى هذا الوجه فى الآلهة الباطلة وصرفه إلى إطلاق الإله عليه تعالى غير مناسب للسياق والسباق قلت: قد قيل فى دفعه إنه لا يبعد أن يكون ملحوظ واضع اللغة في وضع الإله للمعبود اطمئنان القلوب بذكر المعبود الحق لما مرّ من الحصر، ثم استعمل في الآلهة الباطلة بعد عبادتها على زعمهم أو لاعتراف الكل به كما قيل، ومن العجب ما قيل إنّ الأحسن أن يقال كل شيء يطمئن تحت فغائه، ولا يستطيع أن يضطرب في دفع امضائه، وقيل: إنّ هذا بالنسبة إلى المعبود بحق لعد ما سواه كالعدم وفيه نظر لا يخفى. قوله: (أو من أله إذا فزع الخ) في الأساس فزعت إليه فأفزعني أي أزال فزعي، وفزع عن قلوبهم كشف، وقال الراغب: الفزع انقباض، ونفار يعترى الإنسان من الشيء المخيف وهو من جنس الفزع، ولا يقال فزعت من الله كما يقال خفت منه، وفزع إليه استغاث به عند الفزع وفزع له أغاثه انتهى.

ففزع إليه بمعنى لجأ واله فعال بمعنى مفعول أي مفزوع إليه، وأفزعه وفزعه يكونان للسلب وآلهة بالمد مزيد أله وأصله " لهه بمهمزتين أبدلت الثانية ألفاً علي القياس قيل وفي ذكره آلهه المزيد إشارة إلى صحة اشتقاق الإله منه، فيكون فعالاً من الأفعال بمعنى الفاعل، وكلاهما منظور فيه وليس بشيء إذ الظاهر أنه لم يقصد ما ذكره، وإنما أشار إلى كثرة مجيء مادّته ني معنى الفزع، وما يتبعه كالسلب وقيل إنه يعني أنه مأخوذ منه أخذ الوجه من المواجهة باعتبار اللزوم، وحاصله تحقق العلاقة بين الإله وإله ولازمه أيضا ولا يخفى ما فيه، وانما قال حقيقة أو بزعمه ليشمل الإله الحق والباطل، لأنّ الزعم بتثليث أوّله، وان كان بمعنى الظن غلب امتعماله في الباطل، ولم يصرّح به فيما قبله إمّا لظهور أنه جار ذلك فيه بطريق

ص: 54

المقايسة، أو لأنّ ذاك واقع بخلاف الإغاثة، فإنها غير واقعة، وفيه نظر لما مرّ قيل: ويمكن أن يكون كلاهما ناظرا للحق بناء على ارجاع ضمير اشتقاقه لله، فإنه تعالى لا يجبر كل أحد لكن كل أحد يزعم ؤلك، ثم إن إيراد المصنف لهذا في مقابلة وله الواوي مشعر بأنّ الهمزة فيه أصلية كما في القاموس، وهو مخالف لما في التيسير من تفسيره، وله بفزع إلا أن يثبت الترادف. وقوله:(إذ العائذ) تعليل وتوجيه لاشتقاقه وهو من العوذ بالعين المهملة والذالط المعجمة بمعنى الالتجاء، وإنما ذكره توضحيا وتحقيقاً له إذ من شأن من يفزع من أمر أن يلتجىء لمن يخلصه منه وهو كبيره، فما قيل من أنه لا دخل لوصف العياذة هنا، وإنّ قوله يفزع إليه ناظر إلى المعنى الأوّل، وهو يجرّه إلى الثاني من ضيق العطن فتدبر. قوله: (أو من إله الفصيل الخ (الفصيل هو

رضيع الإبل، وأولع وولع بمعنى لازم محبتها وألح في اتباعها وأله بمعناه إذا أسند إلى الفصيل والعباد الظاهر أنه بكسر العين وفتح الباء المخففة جمع عبد، وجوّ ز بعضهم ضم عينه وتشديد بائه على أنه جمع عابد، ومولعون جمع مولع بضم الميم وفتح اللام قال في الصحاح: أولع به فهو مولع به بفتح اللام أي مغرى به، فلا يفارق جنابه والتضرّع التذلل والخضوع والشدائد جمع شديدة، وهي المصيبة وكل ما يصعب ويشتد، وأولع في بعض النسخ بالهمزة من المزيد ووقع في بعض الحواشي ولع بدونها قال: وكان المناسب أن يقول إذ العباد والعون لكنه لم يستعمل والع بل مولع والباء صلة مولع ولا حاجة إلى ما قيل من أنها سببية لمن له أدنى تأمّل وضمير إليه إن رجع إلى الإله مطلقاً كان شاملاً للفريقين، ولا مانع منه وان رجع إلى الله كما هو المتبادر فقدم ذكره لما مرّ من كونه حقيقة أو على زعمهم، وعلى الوجه الأوّل فيه إشارة إلى هذا التخصيص لأنهم كانوا إذ أنزل بهم ما يدهشهم لا يلجؤن إلا إلى الله كما قال تعالى:{قُلْ أَرَأَيْتُكُم إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللهِ تَدْعُونَ} [الأنعام: 40] وقيل: فيه اكتفاء عن عبدة غير الله تعالى للعلم بحالهم، ولا يخفى بعده. قوله: (أو من وله إذا تحير إلخ الم يذكر وجهه لعلمه مما مرّ وفيه تصريح بأنّ أله ووله لغتان لا أنّ أصل أله وله كما ذكره الجوهريّ رحمه الله، ولا أنّ بينهما فرقا لأن هذا التحير من تخبط العقل أي اختلاله، وذاك لكماله حيث دهش في عظمته لأنه خلاف الظاهر، وان ارتضاه بعض المتأخرين، والتخبط تفعل من الخبط، وهو الضرب بالأرض ونحوه أريد به فساد العقل من الخباطة بالضم، وهي شيء كالجنون قال تعالى:{الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ} [البقرة: 275] وسيأني تحقيقه. قوله: (وكأنّ أصله ولاه الأن إبدال الواو المكسورة في أوّل الكلم همرة مطرد في لغة هذيل، كما في التسهيل، ولم يجزم به لعدم سماع ولاه إن كانت العبارة كأنّ بفتح الكاف والهمزة وتشديد النون، ويجوز أن يكون مخففاً بالألف ماضي كان الناقصة وما قيل من أنه لا يصح لأنه يجب حينثذ نصب ولاه ورسمه بألف وليس كذلك هو في النسخ ليس بشيء لأنه يجوز حكاية لفظه كما في بعض الحواشي فيمنع صرفه، وقوله وقيل إله عطف على قوله فقلبت وتقديره فقلبت ثم حذفت إن كان الضمير لله كما مرّ. قوله: (ويردّه الجمع الخ (يعني لو كان أصله ذلك سمع فيه أولهة كأوعية لأنّ الجمع يردّ الأشياء إلى أصولها، ويبعد قلب الواو ألفا إذا لم تتحرّك لمخالفته القياس، فلا وجه للتوجيه به كما قيل وما قيل من أنه لتوهم كون الهمزة أصلَا لعدم استعمال ولاه، وشيوع إله لا يدفعه، بل يحققه لأنه خلاف الظاهر. قوله: (وقيل أصله لاه الخ (هذا معطوف على قوله والله أصله إله الخ والضمير راجع إلى الله لا إلى الإله، وان جاز لأنه إذا كان هذا أصل إله لزم كونه أصل الجلالة أيضا، لأن

أصل الأصل أصل ولاه مصدر، وفي بعض كتب اللغة لا يليه ليها إذا احتجب ولاه يلوه إذا ارتفع والمصنف رحمه الله جعلهما أي الارتفاع، والاحتجاب معنيين من مادّة واحدة، وبينهما على طريق اللف والنشر وهو ظاهر، وليس المراد أنه مستعمل فيهما معا بناء على مذهبه في المشترك بل صحة النقل من كل منهما، وهذا المذهب منقول عن سيبويه رحمه الله بناء على ما حقق في كتب اللغة، وقال ابن خروف: إنه منقول من لفظ متوهم كباب، وهو مقلوب من وله لأن باب لوه وليه ليس في كلام العرب كما قاله السيوطي، وقيل: لاه يليه بمعنى ارتفع ليس بلغة. قوله: (لآنه تعالى محجوب الخ) هو بيان للأوّل قال:

ص: 55

لاهت فما عرفت يوماً بجارحة يا ليتها خرجت حتى رأيناها

وقد اعترض عليه بما قاله الإمام من أنّ حقيقة الصمدية محتجبة عن العقول، ولا يجوز

أن يقال محجوبة لأنّ المحجوب مقهور وهو العبد، وأمّا الحق فقاهر ففي عبارة المصنف رحمه الله قصور أو خطأ، والصواب محتجب كما في بعض النسخ، وهكذا قاله الفاضل الليثي وغيره (وأئا أقول) في حكم ابن عطاء الله نفعنا الله به الحق ليس بمحجوب إنما يحتجب عن النظر إليه إذ لو حجبه شيء لستره، ولو كان له ساتر لكان لوجوده حاصر، وكل حاصر لشيء فهو لوجوده قاهر، وهو القاهر فوق عباده انتهى.

وفي الشفاء ما وقع في حديث الإسراء من ذكر الحجاب هو في حق المخلوق لا في حق الخالق، فهم المحجوبون والباري جل اسمه منزه عما يحجبه، والحجب إنما يحيط بمقدر محسوس، ولكن حجبه عن أبصار خلقه وبصائرهم، وإدراكاتهم بما شاء، وكيف شاء، ومتى شاء لقوله تعالى:{كَلَّا إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ} [المطففين: 5 ا] انتهى. يعني أنّ الحجاب حقيقته المنع والستر، وانما يكون في الأجرام المحدودة، والله تعالى منزه عن ذلك، فهو إمّا تمثيل لمجرّد المنع عن رؤيته تعالى مشاهدة، وإحاطة أو هو في حق المخلوق دونه، حينئذ فالمحجوب يطلق على الخلق حقيقة، لأنهم حجبوا عن رؤيته أو قربه، أو نحو ذلك كما في قوله تعالى:{كَلَّا إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ} فإن أسند إليه تعالى كما ورد في الأحاديث، فهو تمثيل لارتفاع شأنه وعظمته كما صرحوا به، أو مجارّ عن منعه لهم فهو مانع وممنوع وانما الممنوع منع ما سواه له وفي الدرر والغرر لعلم الهدى قذس سرّه في قوله تعالى:{مِن وَرَاء حِجَابٍ} [الشورى: 51] أنه تعالى يوصف بالحجاب بمعنى الخفاء وعدم الظهور والعرب تستعمله بهذا المعنى فتقول بيني وبين هذا الأمر حجاب أي مانع وساتر انتهى. وفي شرج المواقف المحجوب مقهور، وهو عز شأنه منزه عنه وهو كما يصدق عليه أنه محتجب يصدق عليه أنه جعل ذاته محجوبا لأن الخفاء من فرط الظهور، فلا غبار على كلام المصنف كما سمعته، وقوله لها بفتحهما سان لأصله، وقيل: أصل لوها أولوها كما في الدرّ المصون فلا حاجة إلى القول بأن قلب ياء لبها الساكنة الفا على خلاف القياس،

وقد أثبت الكرماني ما ذكر بأنه قرىء في الشواذ وهو الذي في السماء لاه، والمصنف رحمه الله ثقة يعتمد نقله فلا يلتفت لما قيل أنّ لاه يليه لم يثبت في اللغة، وكذا كون لاه مصدرا، وقوله: مرتفع أي عال منز؟ عنا لا يليق بجانب كبريائه بيان للمعنى الثاني. قوله: (ويشهد له قول الثاعر:

كحلفة من أبي رباح يشهدها لاهه الكبار)

أنشده الفرّاء ولم يبين قائله وهو الأعشى كما في شروح الكتاب والشواهد، والأعشى

اسمه ميمون بن قيس وهو من قصيدة أوّلها:

ألم تروا ارما وعادا أفناهم الليل والنهار

وهي في ديوانه، وحلفة بفتح فسكون وفاء المرة من الحلف وهو اليمين، وهو شاهد للاه بمعنى إله.

وروى كدعوة، وأبو رباح براء مهملة مفتوحة وموحدة مفتوحة، وآخره حاء مهملة اسم

رجل من بني ضبيعة، وهو حصن بن عمرو بن بدر، وكان قتل رجلاً من بني سعد بن ثعلبة، فسألوه أن يحلف أو يدي، فحلف ثم قتل بعد حلفته، فضربته العرب مثلاً لما لا يغني من الحلف كما قاله ابن دريد في شرح ديوان الأعشى، ويشهدها بمعنى يحضرها ويطلع عليها، وروى يسمعها الواحد الكبار، وهو بضم الكاف، وتخفيف الباء هنا، ويجوز تشديدها في غيره كما قرىء به، وهو مبالغة في الكبير، والمراد بلاهه الكبار ضمه، وروى أيضاً لأهم الكبار بضم الميم، واستشهد به النحاة على مجيء لاهم في اللهم مخفف الميم في غير النداء لأنه فاعل، فلا يكون على بعض الوجوه شاهداً لما ذكره المصنف رحمه الله قيلى: والاستشهاد بما مرّ من اثقراءة الشاذة أولى. قوله: (وقيل علم لذاته الخ) هذا معطوف على قوله: والله أصله إله أي هو علم بحسب أصله وضع ابتداء لذات مخصوصة، وليس باسم جنس، أو صفة غلب عليه حتى صار علماً كما مرّ قيل: ولا يخفى أنّ الأدلة المذكورة لا تفيد ذلك أصلاً، فلا يبعد أن يكون مراده بيان القول بالعلمية مع قطع النظر عن أنه مشتق

ص: 56

أولاً فقد ثبت القول بالعلمية مع الاشتقاق أيضاً، فالمصنف بجد ما ذكر أنّ أصله له بمعنى المعبود، واشتقاقه نقل قولاً بالعلمية بعبارة جامعة بينهما، واستدل عليه ثم نفاه مطلتما، وقال: الحق إنه ليس كذلك بل هو باق على ما قلناه من المعنى واختص بالغلبة لا بالعلمية، ولو لم يحمل كلام المصنف على ذلك لم يكن في كلامه ذكر القول بالعلمية مع الاشتقاق والأصالة مع أنه المذهب المختار عند صاحب الكشاف وغيره، وهذا تكلف لا حاجة إليه، وستعرف انطباق الأدلة على المدعى مع أنه لا يهم المصنف ذلك لأنه ليس مختاراً له حتى يضرّه الخلل في أدلته وقوله:(لذاته) إشارة إلى أنّ هذا

القائل لم يعتبر فيه صفة أصلاً، وبه صرّحوا وإن قال العلامة أنه ممنوع بل اعتبر فيه صفة كالذات المستجمعة للكمالات، أو المستحق لجميع المحامد، وسيأتي ما له وعليه فتدبر. قوله:(لأنه يوصف الخ) قيل عليه إنّ هذا إنما يدلّ على كونه اسماً على كونه علماً مع أنّ الزمخشريّ صرّح في سورة فاطر بجواز كون لفظ الله صفة اسم الإشارة وودّ بأن الاختلاف وقع فيه بعد تسليم اختصاصه به تعالى، فموصوفيتة تقتضي ذلك اقتضاء راجحاً يكفي في مثله، وأمّا وصفه اسم الإشارة فعلى خلاف القياس لوقوعه بالجوامد في نحو ذلك الرجل وهذا الكتاب، ونيس المنظور فيه سوى رفع الإبهام فهو مستثنى مما ذكر، والزمخشريّ تفرّد بقياس العلم عليها فلا وجه لما ذكره، وأمّا قراءة العزيز الحميد الله بالجرّ، فقيل إنه عطف بيان لا صفة، وقوله لذاته المخصوصة استعمل الذات فيه تعالى بمعنى العين والحقيقة لأنه ورد إطلاقه عليه في الأحاديث الصحيحة نحو:" لا تتفكروا في ذات الله " فلا عبرة بمن أنكر إطلاقه على الله لأنه مؤنث وتفصيله في شرح الكشاف وغيره. قوله: (ولأنه لا بد له من اسم تجري عليه الخ) أي يجعلها جارية عليه بأن تكون نعتاً له لأن العرب لم تاع شيئاً إلا وضعت له اسماً كما هو دأبهم وعادتهم، وليس هذا محالاً لأنّ المحال هو وجود صفة بدون موصوف لا بدون ما وضع له، وإنما هو أمر استقرائي استحساني، وكونه اسم جنس معرّفاً بأل، وإن كفى لكن الظاهر أن يكون خاصاً به وضعاً، وهو العلم وكونه علما منقولاً من الوصفية لا يكفي إذ عليه لم يكن له اسم في أصل الوضع تجري عليه صفاته. قوله: (ولأنه لو كان وصفاً الخ الأنه حينئذ موضوع لأمر كليّ، وكذا لو كان اسم جنس لأن ثبوت الأعم لا يقتضي ثبوت الأخص بقي أنه قيل عليه أنه لو كفى في التوحيد اختصاص المستثنى بذاته في الواقع فلا إله إلا الرحمن كذلك لاختصاصه به، وإن لم يكف واقتضى ما يعينه بحيث لا تجوز فيه الشركة لم يكن لا إله إلا الله كذلك لأنه لا يحضر ذاته لنا على وجه التشخص، وأجيب بأنّ الألفاظ تنوب في الشرع عن المعاني الموضوعة لها ألا ترى أنّ أنت طالق يفيد الطلاق، وإن لم يقصد فالله تعالى، وإن لم يمكن احضاره بذاته، لكن لفظة الله تنوب مناب احضاره، فنزل ذكوه في التوحيد منزلتة بخلاف الرحمن انتهى.

وردّ بأنه لا وجه للحكم بإيمان أحد بمجرّد لفظ لا يعرف معناه، وما توهمه في مسألة الطلاق فاسد إذ لا بدّ فيه من استعمال اللفظ واستحضار المعنى، ولذ لا يقع بسبق اللسان به ولا من النائم والأعجمي الذي لا يعرف مدلوله، نعم لا يعتبر فيه قصد إيقاع الطلاق لمن تلفظ به اختياراً مع علم معناه، وإن لم ينو إيقاعه، والقائل لم يفرق بين عدم اعتبار المعنى وعدم اعتبار قصده، والأقرب أن يقال إنه توحيد بالنظر للمشركين القائلين إنّ غير تعالى مستحق للعبادة لقطعه هذا الاستحقاق، وأمّا من اعتقد الشركة في وجوب الوجود، فلا نسلم الحكم بتوحيده بمجرّد تكدسه بهذه الكلمة، ولم ينقل عنه عليه الصلاة والسلام ذلك، وأمّا معاوضته

بقل هو الله أحد بأنه لو دلّ على التوحيد لم يكن لذكر الأحدية فائدة معه، فسيأتي ما يدفعه ثمة من تفسير الأحدية بعدم قبول التعدد بوجه من الوجوه وهو ليس من لوازم العلمية وأما ما قيل عليه من أنه لا يخفى ما فيه من الركاكة لأنّ وضع العلم لإحضار المسمى على ما وضع له، ولا شك في أن الله علم، وعدم حضور الله تعالى بشخصه لا ينافي علميته، والعجب كيف خفي عليه هذا مع ظهوره، فلا محصل له والعجب من ابن أمّه، وقد نقل عن المصنف هنا حاشية قال فيها نظر لجواز أن يكون التوحيد مستفادا من الشرع انتهى.

وغير خاف أن سرّ ما أفاده الشرع هو هذا، فإن فرقه بين إلا الله والا الرحمن لا بدّ له من

وجه، ولذا قيل كون لا إله إلا الله

ص: 57

مفيداً بنفسه ثبوت ذلك الفرد الواجب وعدم كون لا إله إلاً الرحمن كذلك سر أن الشارع جعل لا إله إلا الله توحيدا دون لا إله إلا الرحمن وأورد أيضا أنه لا يثبت عدم الاشتقاق، والأصل لجواز الاشتقاق من مثتق منه عرضيّ اعتبر مرجحاً للتسمية، ويكون له أصل كما في الكشاف إلا أنه لما غيره الواضع جعله علماً فالأدلة الثلاثة لا تفيد المدعى إن جعلناه خاصا على ما مرّ ولا يخفى أنه لو كان مشتقا لكان كلياً بحسب الأصل وجزئيته الآن ثابتة، فالظاهر أنه كان قبل ذلك كذلك، فيتمّ الدليل على ضعفه عند المصنف رحمه الله، وقد مرّ ما فيه وسيأتي تنويره، وقيل: الحق أنّ إيجاب إحضاره سبحانه على الوجه المذكور تكليف بما لا يطاق فالمطلوب إنما هو إحضاره على وجه كلي منحصر في فرد، وعدم حصول التوحيد بالرحمن لإطلاقه مضافا على غيره كرحمن اليمامة، فإن قلت: إن قدر الخبر هنا موجود لم يفد نفي إمكان آخر وأن قدر ممكن لم يلزم منه وجود المستثنى بل إمكانه، قلت أجابوا عنه بأنه يقدر موجود ولا يلزم أن يفهم من هذه الكلمة نفي الإمكان لإله آخر فإنه للردّ على المشركين في إثبات الشركاء، قيل: ويمكن أن يستنبط منها نفي إمكان إله آخر على تقدير موجود أيضا لأنّ المراد بالإله المعبود بحق والكلمة إذا دلت على نفي معبود بالحق غيره تعالى دلت غلى نفي إمكانه، إذ لو كان معبود بحق غيره تعالى ممكنا كان موجودا، إذ من استحق أن يكون معبود يجب اتصافه بصفات الكمال، فلم يكن له نقص وكيف يستحق الناقعى العبادة مع وجود الكامل من جميع الوجوه فيكون واجباً موجودا، وهذا ظاهر لمن له حدس صائب، ومن هذا يعلم أنه لو قيل بتقدير الخبر ممكن، فالمطلوب حاصل أيضاً لأنه لما كان المستثنى معبودا بحق وجب أن يكون موجوداً لما مرّ وقيل عليه أنه تكلف والحصول لا يلزم الخصم، وفيه نظر، ولو قدر الخبر إله اندفع ذلك، ويكون المعنى لا إله إله إلا الله أي ليس ما يعتقد أنه معبود معبود بالحق إلا الذات الفرد الصمد.

ونقل عن الشريف أنه قال: إنه تحقق بديع وصنف فيه مقالة مستقلة، ولم نره لغيره ومنع احتياج لا إلى الخبر بناء على ما نقل عن ابن الحاجب من أن بني تميم لا يثبتون خبرها مما لا يعوّل عليه، وقد قال الأندلسي: لا أدري من أين نقله والحق أنّ بني تميم يحذفونه وجوبا، إذا

وقع في جواب سؤال، وقامت عليه قرينة، وإلا فلا يحذفونه مع أنه يدل على حذفه لا على عدم تقديره، فإن قلت هذه كلمة لا تصدق إلا إذا أريد بالإله المنفيّ المعبود بحق وهو أعم قلت هو مخصوص بقرينة عقلية قائمة عليه وهي أنّ المعبود بغير حق موجود متعدد، وهو لشهرته لا يخفي على أحد، فلا يصح نفيه من عاقل. قوله:) والأظهر أنه وصف الخ) في نسخة والحق بدله، ثم إنه قيل: إنه مذهب ثالث وقيل: بل هو المذهب الأوّل، وهو أنّ ألله مثتق إلا أنه مختص بالمعبود بحق، فأشار إلى تأييده، وبطلان الثاني، وربط بتحرير المدعي ما يردّ به الوجوه السالفة، ثم أنه قدص سرّه حقق في هذا المقام أنّ الاسم قد يوضمع لذات مبهمة باعتباره معنى يقوم به، فيكون مدلوله مركبا من ذات مبهمة لم يلاحظ معه خصوصية أصلاً، ومن صفة معينة، فيصح إطلاقه على كل متصل بتلك الصفة، ومثل ذلك الاسم يسمى صفة، وذلك المعنى المعتبر فيه يسمى مصححا للإطلاق كالمعبود مثلاً، وقد يوضحع لذات معينة بلا ملاحظة قيام معنى بها، فيكون إسما لأ يشتبه قطعا بالصفة كالفرس، وقد يوضع لها ويلاحظ في الوضع معنى له نوع تعلق بها، وهو على قسمين:

الآوّل: ما يكون ذلك المعنى خارجا عن الموضوع له، وسببا باعثا على تعيين الاسم بإزائه، كأحمر إذا جعل علماً لمولود فيه حمرة، وكالدابة إذا جعلت اسما لذوات الأربع في أنفسها، وجعل الدبيب سببا لوضع هذا الاسم بازائها لآجزأ من مفهوم اللفظ.

الثاني: أن يكون ذلك المعنى داخلاً في الموضوع له، فيتركب مفهومه من ذات معينة،

ومعنى مخصوص كأسماء الآلة والزمان والمكان، وكالدابة إذا جعلت اسما لذوات الأربع مع دبيبها.

وهذان القسمان أيضا من الأسماء لكن ربما يشتبهان بالصفات، والقسم الأخير أشد التباساً بها، لأنّ المعنى المعتبر في الوضع داخل في كل منهما، ومعيار الفرق أنهما يوصفان بشيء، ولا يوصف بهما شيء على عكس الصفات، ولما وجد لي الاستعمال إله واحد ولم يوجد شيء إله مع كثرة دورانه على الألسنة علم أنه من الأسماء دون الصفات وهكذا حكم كتاب وإمام، وسائر ما اعتبر فيه المعاني مع خصوصية الذوات انتهى.

وهو برمّته مأخوذ من

ص: 58

كلام العضد، وفيه على فرض تسليمه للبحث مجال.

أمّا أوّلاً: فإنّ الفرق بين الصمفة وأسماء المكان وما جرى مجراها بأن الذات في الأوّل

مبهمة دون الثاني مما لم يقم عليه دليل فإن ضاربا كما أنه ذات صدر عنها الضرب كذا مضرب مكان مّا وقع فيه الضرب حنى لو اعتبر خصوصيته كمدرسة، ومقبرة خرج عن بابه وألحق بأسماء الأجناس كما صرّحوا به، لا يقال لم يعتبر فيه مطلق الذات بل خصوصية كونه مكانا

دثبة الشهاب / ج ا / م 7

لأنا نقول يلزم على هذا أنّ الصفات المخصوصة ببعض العقلاء أو بغيرهم خارجة عنها كمرضع وحائض وبازل ولا قائل به لا يقال لما أعلموا القسم الأوّل دون الثاني، واستتر فيه الضمير دلنا ذلك على أنهم لاحظوا خصوص الوصفية فيه، لأنا نقول يجوز أن يكون الثاني لما دل على المكان، وما ضاهاه ألحقوه بالجوامد مع أنّ ما ذكر أمور سماعية لا يلزم الوقوف على أسرارها، وقد استدلّ له بعض المحققين بأنّ شخصا لو فتح القفل بإصبعه لم يقل له مفتاح لأنه اعتبر فيه هيئة متعارفة وفيه نظر.

وأمّا ثانياً: فلان وصفه وعدم الوصف به يجوز أن يكون لإجرائه مجرى الأسماء كأجرع وأبطح وهو كثير في كلامهم.

وأمّا ثالثاً: فلأن الدابة بمعنى ما يدب مطلقاً لا شهة في أنها صفة وتخصيص العرف لها ببعض أفرادها لا يخرجها عن الوصفية ألا ترى أنّ مملوكا صفة لكل متصف بالمملوكية، وتخصيصه بالرقيق لا يخرجه عن الوصفية لاستتار الضمير فيه، وعمله في الظاهر نحو عندي رقيق مملوك نصفه، وليس هذا مناقشة في المثال ألا ترى قوله تعالى:{وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ} [الأنعام: 38] حيث تعلق بها الجارّ والمجرور، ولا نقول قارورة في الدار متعلق الجارّ فقول المصنف وحمه الله إنه وصف لا يتأتى على تحقيق الشريف، إلا أن يكون غير مسلم عنده، ولذا قال بعضهم: يحتمل أن يكون مراده بالوصفية اعتباره المعنى مع الذات، وإن كانت الذات معينة، فيكون اسما اصطلاحيا، وهذا إذا لم يمتنع فهو بعيد جدّاً. قوله:(لكنه لما غلب عليه بحيث الخ) الغلبة كما مرّ أن يكون للفعل عموم بحسب المعنى، فيحصل له بحسب الاستعمال تخصيص ببعض إفراده إمّا إلى حدّ التشخص، فيصير علماً كالنجم أولا فيصير اسماً غالباً كالكتاب للقرآن أو صفة غالبة كالرحمن وهو أعم من أن يستعمل في غيره نادرا أو لا، وتسمى غلبة تقديرية، وهذا جواب عما مز من أدلة العلمية وظاهره أنه استعمل في غيره ث ولفظ الله لم يستعمل في غيره اتفاقا، ويردّ بجعل مجموع المعطوف والمعطوف عليه، وهو قوله:(وصار الخ) مدخول حيث، فاللازم عدم تحقق المجموع قبل العلمية، وانتفاء المجموع يتحقق بانتفاء المعطوف فقط إلا أنّ ظاهر قوله: صاو كالعلم إنه عنده ليس من الأعلام الغالبة أيضاً، ولا يجوز أن يكون مراده من العلم العلم الابتدائي لتبادره عند الإطلاق كما ذهب إليه بعض أرباب الحواشي، وادّعى أنّ المصنف رحمه الله ذهب إلى أنه من الأعلام الغالبة، ويبعده أنّ ما ذكر في نفي علميته مشترك بين الابتداء وغيره ولذا اختلف في قوله: كالثريا فعلى الأوّل هو تمثيل للعلم، وعلى هذا لما صار كالعلم، وسيأتي ما ينوّره. قوله:(مثل الثريا والصعق) الثريا تصغير ثروي مؤنث ثرو إن جعل اسماً للنجم لكثرة كواكبه، ونقل علماً لامرأة أيضاً وكواكبها ستة أو سبعة كما قال:

خليلي إني للثريا لحاسه واني على ريب الزمان لواجد

تجمع فيها شملها وهي سبعة وأفقدمن أحببته وهوواحد

والصعق بفتح العين شدّة الصوت، وبكسر العين الشديد الصوت، والمتوقع للصاعقة والنازلة عليه، ولقب خويلد بن نفيل فارس بني كلاب، وتسكن عيته ويقال صعق كإبل لقب به لأنّ تميما أصابوا رأسه بضربة، فكان إذا سمع صوتا صعق أو لأنه اتخذ طعاماً فكفأت الريح قدره، فلعنها فأرسل الله عليه صاعقة، وهما وصفان في الأصل صارا علماً بالغلبة، والغلبة في الله، والثريا تقديرية، وفي الصعق تحقيقية. وقوله:(أجرى مجراه الخ) فسره المصنف رحمه الله بما فيه غني عن غيره، وقد علمت حالة مما مرّ، وهذا جواب عن دليل العلمية بأنه يوصف ولا يوصف به، ومنه يعلم جواب ما معه برمته لأنه صار اسماً تجري عليه صفاته وتعين تعينا قطع الشركة وصح به التوحيد ويرد عليه أنه قبل العلمية لم يوصف به أصلاً إذا لم يسمع شيء إله فتدبر.

ص: 59

قوله: (لأنّ ذاته من حيث هو الخ (ظاهره عدم صحة العلمية فيه بطريق الوضع القصدي وفي شرح المواقف من ذهب إلى جواز تعقل ذاته تعالى جوّز أن يكون له اسم بإزاء حقيقته المخصوصة، ومن ذهب إلى امتناع تعقل ذاته تعالى لم يجوّزه، لأنّ وضع الاسم لمعنى فرع تعقله ووسيلة إلى تفهمه فإذا لم يمكن أن يعقل ويفهم لم يتصوّر وضع اسم بإزائه، وفيه بحث لأن الخلاف في تعقل كنه ذاته ووضع الاسم بإزائه لا يتوقف عليه، إذ يجوز تعقل ذات بوجه من وجوهها، ويوضع الاسم لخصوصها، ويقصد تفهيمها باعتبار ما لا يكنهها، ويكون ذلك مصححا للوضع وخارجا عن مفهوم الاسم على ما عرف أنّ لفظ الله اسم علم موضوع لذاته من غير اعتبار فيه انتهى.

قال شيخ مشايخنا السيد عيسى قدس يى س هـ: إعلم أنهم عرفوا العلم بما وضع لشخص

بعينه، والمتبادر منه أن يكون التشخص ملاحظا للواضع، وأورد يهليه صدر الأفاضل أنه يلزم أن لا يمكن تسمية ما لا نعرت بعينه كالولد والمملوك الغائبين، وأن لا نعلم معاني الأسماء الموضوعة لما لا نعرفه كالله والملائكة والأنبياء، وعليه يترتب أنه لا يمكن لغير الله وضع لفظ له، والجواب أنه ليس المراد الشخص، والتشخص بعينه، وملاحظته حين الوضع بل يجوز الوضع له، وان كنا نلاحظه بوجه مساوله في الواقع، ومن المعلرم أنّ الوضمع لشيء لا يستلزم معرفة الموضوع له بالكنه، ولا بوجه مشخص بل مساو كما تقرّر في المبهما. ت، فاندفع الأوّل والمعلوم في الأشخاص المذكورين هو بوجوه مساوية ولا خلف في الجهل بالشخص، والكنه إلا أنه يبقى على الأوّل أنه ذكر في الرسالة الوضعية عند تقسيم الموضعات إلى الإعلام وغيرها أنّ اللفظ الذي مدلوله مشخص إن كان وضعه شخصيا فهو علم وان كان كليا فغيره من المبهمات ونحوها، وعرف الوضع الشخصيّ بأن يكون الموضوع له ملاحظا بخصوصه مقصوداً

بعينه، والوضع الكليّ بأن يكون الموضوع له متصوّراً بوجه كليّ، فوضع لكل من الجزئيات ووافقه غيره، والحق أنه كلام مموّه ومؤوّل وليس العلم منحصراً فيما ذكر لما مرّ من كلام شرح المواقف، وقد صرّحوا في تفسير العلم بما وضع لشيء مع جميع مشخصاته بأنّ المراد أن تكون ملاحظتها بوجه مختص وضعه لفرد المخصوص بل في كثير من المواضع اضطرّوا لذلك، كما في أعلام الكتب والعلوم إن لم نقل بانها أعلام جنسية بل جميع المشخصات قلما تكون ملاحظة بالذات كما في الإنسان المتولد المتغيرة تشخصاته من الولادة إلى الموت فالتشخص المستمر الباقي من الأوّل إلى الآخر قلما يعرفه أحد إلا بوجه مجمل صادق عليه، فعند التحقيق يجب القول بذلك، وحيث تحقق هذا لم يبق في المقام إشكال بعون الملك المتعال، فظهر أنّ ما توهمه الفاضل المرشدي في هذا المقام من أنّ الوضع في العلم الشخصي شخصيّ إن أراد بالتشخص الجزئي الحقيقي بحسب المفهوم، فهو توهم ناشىء من ظاهر عبارة الرسالة وغيرها، والتحقيق خلافه، وإن أراد أنه أمر مخصوص مشخص في نفس الأمر، فله وجه لكن لا يضرنا، ثم إن أردت تحقيق هذا المقام، فلا بد من النظر في أنه هل يجب في العلم أن يكون الملاحظ أمرا خاصا بشخص في نفس الأمر فيوضع لذلك الشخص، وفي المبهمات أمرا كلياً في نفس الأمر يوضع لكل فرد، فيكون ذلك مدار الفرق، وهو الأظهر أو لا يلزم ذلك بل يمكن ملاحظة الكليّ، والوضع العلمي لكل واحد من أفراده على ما قيل في أسماء الكتب والعلوم ونحوها محل نظر، وحنيئذ إثبات الفرق بين المبهمات والأعلام على تحقيق السيد مشكل فلا بدّ من نظر دقيق، وبعد فالمقام لا يخلو من كلام، والغلبة التي ذهب إليها المصنف رحمه الله أسلم الطرق، ومما مرّ عن شرح المواقف علم جواب ما أورده وأمّا إن العرب وضعت لكل شيء اسماً تجري عليه صفاته، فقد قيل إنه فيما تعرف حقيقته، وأمّا ما ليس كذلك فعدم الوقوف عليه سبب لعدم الوضع له، وتقرير الدليل بأنّ ذاته من حيث هو بلا ملاخظة صفة غير معقول للبشر، والعلم ما وضع للذات من غير صفة، فلو كان علما كان دالاً على الذات، والذات لا يكون مدلولاً عليه بلفظ، فلا يكون علما له: قيل: وهو مبني على مقدمات ضعيفة، أمّ الأولى فلا نسلم أنّ ذاته من غير صفة غير معقول للبشر بل مذهب أهل السنة جواز معرفة الله بالكنة لغير الله، وان سلم فلم لا يجوز أن يكون الواضع هو، وهو يعلم كنهه، وان كان الواضمع غيره وقلنا هو على التفصيل غير واقع، فلم لا يجوز

ص: 60

ملاحظته على الإجمال، ولا نسلم أنّ ملاحظة المجمل إنما هي بوجه وصفة خارجة بل هو نوع من التعقل للذات انتهى.

وقيل: عليه إنّ القائل به هو عنده غير واقع فلا يكفي به الجواز، ولأنه لو كان الواضع

هو الله علم من تتبع موارد الاستعمال، وهو يتوقف على فهم ما أرد ولأنه لا معنى للإجمال في البسيط، إلا ما ذكر وقد قيل أيضاً إنّ الظاهر أن واضع اللغة لا يفعل إلا ما فيه فائدة معتدّ بها،

بل كل عاقل كذلك والشيء الذي له صفات وجهات كثير يعلم بوضع أسماء الصفات فوضع العلم إنما تكون فائدته معرفة الذات من غير صفة إذ لو قصد ما يحصل بوضع الصفات لم يكن في وضع العلم فائدة يعتدّ بها، فإذا فرض أن تلك الذات من حيث هي لا يمكن تفهيمها واعلامها للمخاطب لا يبقى لوضع العلم فائدة أصلاً، وهو غير مسلم أيضا عند الذاهب إلى العلمية لأنه يقول لها فوائد أخرى، كإجراء الصفات، وهو لا ينفي أيضا كونه اسم جنس، فهو اقناعي لا يحسم عرق النزاع، وقد نقل هنا عن المصنف حاشية قال فيها ما نصه فيه نظر إذ يكفي في وضع العلم تعقله بوجه يمتاز به عن غيره من غير أن يعتبر ما به الامتياز في المسمى، فيمكن وضع العلم لمجرّد الذات المعقولة في ضمن بعض الصفات، وقد تقرّر في الكلام أنه يمكن أن يخلق الله العلم بكنه ذاته في البشر، ولأنه إنما يتمشى إذا لم يكن الواضع هو الله، والتحقيق أن تصور الموضوع له بوجه ما كاف في وضع العلم، وكذا في فهم السامع عند استعماله انتهى.

ويعلم أمره مما مرّ، وانما أطلنا الكلام هنا لكثرة ما فيه من القيل والقال، فربما ظن أنا

لم نحط بما تالوا خبرا، وقد بينا علمية الاسم الشريف في رسالة مستقلة حققنا فيها معنى التشخص فمن أراد تحقيق هذا المقام فلينظر ما كتبناه فيها.

واعلم أنّ علمية العلم بالغلبة بالوضع أيضا كما صرّح به بعض أرباب الحواشي، وعند الرضى أنها لا تحتاج إلى وضع قال: وقد يصير بعض الأعلام اتفاقيا أي يصيرعلما لا بوضع واضع معين بل لأجل الغلبة، وكثرة الاستعمال في فرد، وقيل: فيه وضع غير قصدى، وبه يندفع ما قيل من أنّ ما ذكره المصنف على تقدير تمامه يفيد أنه ليس من الإعلام الغالبة أيضا إذ الإعلام بها صارت موضوعات لأشخاص معينة يدل بها عليه، وهو ليس كذلك. قوله:(فلا يمكن أن يدل عليه) بالبناء للمجهول وفي بعض النسخ، فلا يمكته أن يدل بصيغة المعلوم أي لا يمكن البشر أن يدل عليه غيره، وهو على تقدير كون الواضع البشر. قوله:(لما أفاد ظاهر الخ) فإنّ ظاهره أنه متعلق به باعتبار معناه الوضمي كمعبود ونحو.، وانما قال ظاهر لأنه يحتمل تعلقه بيعلم في قوله تعالى:{يَعْلَمُ سِرَّكُمْ} [الأنعام: 3] الخ ويحتمل تعلقه به باعتبار معنى خارج عته لازم له أو مشتهر به اشتهار حاتم بالجود كقوله:

أسد عليّ وفي الحروب نعامة

وأمّا كون الاسمية لا تقتضي الدلالة على مجرّد الذات كما في أسماء الزمان والآلة، يلم يلتفت إليه المعكحنف رحمه الله، وسيأتي تفصيله في سورة الأنعام فاندفع ما قيل عليه إن صحة معناه كما تكون متعلقة بلفظ الله مع العلمية بالغلبة، تكون باعتبار تضمنه معنى المعبودية، أو

اشتهاره بها. قوله: (لأنّ معنى الاشتقاق هو كون أحد اللفظين مشاركاً للاخر الخ) الاشتقاق إن اعتبر فيه الحروف الأصول مع الترتيب وموافقة الأصل في المعنى فهو الاشتقاق الصغير، وإلا فإن اعتبر الحروف الأصول مع عدم الترتيب فالكبير، وإلا فإن اعتبر مناسبة الحروف في النوعية أو المخرج مع عدم الموافقة في جميع الحروف الأصول فاكبر ولا بد من تناسب المعنيين في الجملة وزيادة معنى أحدهما على الآخر ويعتبر في لفظه أن يتغاير المشتق والمشتق منه، وهو يعرّف باعتبار العلم، فيقال: هو أن تجد بين اللفظين تناسبا وباعتبار العمل، فيقال: هو أن تأخذ من اللفظ ما يناسبه، وباعتبار حال اللفظ، فيعرف بما ذكره المصنف فلا يرد عليه ما توهم من أن تعريف بالمباين، ويقال هو مسامحة منه، وظاهر أنه ليس باسم زمان، ولا مكان وباب قارورة وأحمر نادر، والمدعى ظني فيكفي هذا في إثبات وصفيته على ضعف فيه فاندفع ما أورد عليه من أنه لا يستلزم الوصفية إذ لا يسمى الزمان والمكان اشتقاقا بهذا المعنى من غير وصفية، وأيضا الكتاب والإمام من المشتقات بهذأ المعنى ولا وصفية فيهما، والمنكر لاشتقاقه لا يسلم التوافق في المعنى. قوله:(وقيل أصله لاها الخ) فهي على هذا غير عربية سريانية كما ذكره المصنف وغيره، أوءجرانية كما ذكره الإمام

ص: 61

والعبري والعبراني بكسر العين لغة بني إسرائيل من اليهود، والسريانية لغة آدم.

وقال ابن حبيب: كان اللسان الذي نزل به آدم من الجنة عربياً، ثم حرّف وصار سريانيا،

وهو منسوب إلى أرض سريانة وهي جزيرة كان بها نوح عليها السلام، وقومه قبل الغرق وهو يشاكل اللسان العربي إلا أنه محرّف، وكان لسان جميع من في الأرض إلا رجلَا واحدة يقال له: حر فلسانه عربيّ كذا في الزاهر لابن الأنباري رحمه الله، وهم يلحقون ألفاً في أواخر الكلم، فيقولون لاها رحمانا كما في الفارسية ومعناه ذو القدرة، ويحتمل أنه من توافق اللغات كما ذكره الإمام رحمه الله، وأخر هذا القول لضعفه إذ لا وجه للذهاب إلى العجمة من غير دليل مع أنّ قولهم تأله وأله ياباه، فلا وجه لما قيل من أنه كان ينبغي ذكره مع الأقوال السالفة لبيان أصله مع أنّ تلك مبنية على عربيته، وليس هو من عدادها قيل: والتصرف فيه يدل على أنه لم يكن علماً في غير العربية ألا تراهم اشترطوا في منع صرف العجمة كون الأعجمي علماً في العجمية لما مرّ من تصرّف العرب فيه المضعف ليجمته. قوله: (فعرّب بحذف الألف الأخيرة وإدخال اللام عليه) يقال عرب اللفظ با أضشديد، وأعرب أي نقل إلى لغة العرب، وهل يشترط فيه تغيير اللفظ أم لا فيه اختلاف، والأصح أنه أكثريّ، وفي كلام المصنف ميل إلى القول الأوّل قوله: (وتفخيم لامه (أي لام الله وفي كلامه ما يوهم اختصاص التفخيم بهذا

الاسم، وليس كذلك لأنّ من القرّاء من يغلظ اللام المفتوحة إذا تقدّمها صاد أو طاء أو ظاء مفتوحة أو ساكنة، والتفخيم هنا ضدّ الترقيق، ويطلق على ما يقابل الإمالة، وعلى إمالة الألف نحو مخرج الواو كما يعرفه أهل الأداء في الصلاة، واشتهر في لسمان القراء التفخيم في الراء، والتغليظ في اللام، وضدهما الترقيق والتفخيم بعد الضم والفتح أمر لازم يكاد ينعقد الإجماع عليه، إلا ما نقله الداني وتبعه في الإقناع في رواية شاذة عن السوسيّ، وروح من ترقيقها وقد ردّها الجمهور، وقالوا: إنها لم تصح رواية ودارية، وأمّا التفخيم بعد الكسر، فقال ابن الجزريّ: إنه متفق على تركه ولم يقله غير الزجاج، ونقله الشيخان والقراء لم يلتفتوا إليه ولم يعدوه خارقا للإجماع ولذا مرضه، واضطرب فيه كلام الكشاف، فقول السيد والسعد قد أطبقوا على أنه لا تفخيم عند كسر ما قبلها فيه نظر وقد يقال أنهما لم يعتد بالشاذ فإن قلت إذا أميلت الفتحة هل ترقق اللام معها أو تفخم قلت فيه وجهان كما في نرى الله بالإمالة، والتفخيم لتعظيم اسمه، وقيل: للفرق بينه وبين اللات إذا وقف عيها بالهاء وتفصيله في كتب القراآت وقوله سنة أي طريقة معروفة عند الناس والقراء.

تنبيه: الترقيق انحاف الحرف عن صوته ويقابله التفخيم وعبر عنه القراء في اللام بالتغليط

فإن خص باللام فالتفخيم، وقال الجعبري: هما مترادفان والحروف بالنسبة للتفخيم والترقيق أربعة أقسام: مفخم وهو حروف الإطباق الضاد والطاء والظاء والصاد ونحوها، ومرقق وهو ما عداها، وله تفصيل في علم القراآت. قوله: (وحذف ألفه (أي ألف الله التي بعد اللام لحن أي خطأ في اللغة وفسر في القاموس اللحن بالخطا في القراءة، فلا وجه لما قيل من أن اللحن مخالفة صواب الإعراب وما هنا ليس منه، وقال الأسنويّ رحمه الله: إنه لغة حكاها ابن الصلاح عن الزجاجي فلا لحن فيه حينئذ، وفي التيسير إنه لغة جائزة في الوقف دون الوصل، والأفصح إثباتها، وإن تملح به المولدون في أشعارهم كثيرا كقوله:

أيها المستبيح قتلى خف الله وأت عينيك للدم المستحقة

قوله: (ولا ينعقد به صريح اليمين) يشير إلى أنه تنعقد به الكتابة مع النية كما ذكره الجويني والغزالي من الشافعية، وان قال النوويّ منهم: إنه ينبغي أن لا يكون يميناً أصلاً لأنّ بله يحتمل أن يكون يخعذ من البلل، وهو الرطوبة، ولذا فسدت به الصلاة لتغييره المعنى، ونقل ما ذكر أرباب الحواشي من كتب الشافعية ولم ينقلوه عن الحنفية، وقد نقلى شيخنا المقدسيّ في الرمز عن كتب المذهب، أنه إذا قال بله لا يكون يميناً إلا إذا أعرب الهاء بالكسر أو نوى اليمين انتهى. وقوله:(تفسد به الصلاة) أي إذا وقع في لفظ القرآن كما في الحمد لله، أو في البسملة إذا قلنا أنها من السوإة، كما هو مذهب المصنف، وفي التفسير الكبير أنه في التكبيرة.

ص: 62

قوله: (ألا لأبارك الله في سهيل الخ الم أقف على تانله، وهو دعاء على رجل اسمه سهيل

بعدم البركة والله مرفوع فاعل بارك وما زائدة، وروى إذا ما بارك الله في الرجال، فالتمثيل به في موضعين. قوله:(والوحمن الرحيم اسمان بنيا الخ) أي لأجل المبالغة والذي ذكره النحاة ير باب اسم الفاعل أنّ منه صيغا بنيت للمبالغة، ونقلت من فاعل إلى فعال كضراب، وفعول كشروب، ومفعال كمنحار، وفعيل كسميع، وفعل كعمل، وهي تعمل عمل اسم الفاعل رفعاً ونصباً.

كقوله:

ضروب بنصل السيف سوق سمانها

ومنع الكوفيون عملها مطلقاً لأنها لا تجاري الفعل وزنا، ولزيادة المبالغة فيها لا تساويه

معنى فقدروا للمنصوب بعدها عاملاً، وسيبويه جوّز أعمال الخمسة وخالفه كثر البصريين في أعمال فعيل وفعل دون غيرهما إلا أنهم لم يذكروا موازن رحمن فيها ولم يشترط أحد من النحاة لزوم فعلها وانما اشترطوه في الصفة المشبهة لأنها لا بذ لها من ملاقاة فعل لازم ومن ثبوت معناها، ولذا قال في شرح التسهيل: إنّ ربا وملكا ورحمن ليست منها التعدّي أفعالها، ولم يقل أحد بنقل فعل ما تعدى منها الفعل المضموم العين، والمسطرفي المتون المعوّل عليها أنّ فعل بفتح العين وكسرها إذا قصد به التعجب يحوّل إلى فعل المضمون كقصو الرجل بمعنى ما أقصاه، وحيحئذ فيه اختلاف هل يعطي حكم نعم أو فعل التعجب كما فصلوه ثمة والحاقهم له بنعم كالصريح في عدم تصرّفه، وأنه لا يؤخذ منه صفة أصلأ، فما نقلوه عن الفائق في فقير ورفيع مع أني راجعتة، فلم أجده فيه وان كانت الثقة بناتله تأبى سوء الظن به مخالف لما صرّح به الزمخشريّ في غيره، كالمفصل بل لا صحة له لأنّ قولهم رحمن الدنيا والآخرة ورحيمهما بالإضافة للمفعول دون الفاعل يقتضي عدم اللزوم وأنه ليس بصفة مشبهة، وقد يقال: إنّ تمثيل المصنف له بعليم دون مريض وسقيم فيه إيماء إلى ما ذكر إلا أنّ كلام النحاة لا يخلو عن شيء لعدم ذكر نحو رحمن في أبنية المبالغة حتى صار باعثا لاذعاء العلمية فيه لبعض أهل العربية، فقد ظهر مما مرّأن فيهما وجهين.

أحدهما: وهو الأصح أنهما من أبنية المبالغة الملحقة باسم الفاعل فهما من فعل متعد

بلا تردّد.

وثانيهما: أنهما صفة مشبهة على ما فيه.

وقول الشريف تبعاً للشارح الفاضل، فإن قيل الرحمن صفة مشئهة فكيف يشتق من رحم، وكذا القول في رب وملك حيث عدا صفة مشبهة، وأمّا الرحيم فإن جعل صيغة مبالغة كمأ نص عليه سيبويه في قولهم هو رحيم فلاناً، فلا إشكال فيه، وان جعل من الصفات المشبهة، كما يشعر به تمثيلهم بمريض وسقيم اتجه عليه السؤال أيضا وأجيب بأنّ

الفعل المتعدي قد يجعل لازما بمنزلة الغرائز فينقل إلى فعل بضم العين، ثم يشتق منه الصفة المشبهة، وهذا مطرد في باب المدح والذم كما نص عليه في تصريف المفتاح، وذكره المصنف في فقير ورفيع ومن ثمة قيل معنى رفيع الدرجات رفيع درجاته لا رافع الدرجات أنتهى كلام مموّه مختل من وجوه:

الأوّل: أنه ذكر في شرح التسهيل إنّ رباً ليس صفة مشبهة بل اسبم فاعل لأنّ أصله رابب

فقصر منه أو ربب كحذر فهو من صيغ المبالغة الملحقة باسم الفاعل.

الثاني: أنّ نقل الفعل الذي ذكروه لا وجه له رواية ودراية، كما عرفته.

الثالث: أنّ ما نقل عن تصريف المفتاح على ما بيناه لك لا يطابق مدعاه، ولا داعي لهذه التخيلات سوى ادّعاء أنه صفة مشبهة ودونه خرط القتاد.

الرابع: أن استناده لما ذكر في رفيع الدرجات لا يجدي وانما فسروه بما ذكر لأنّ

المراد درجات عزه وجبروته ليناسب المراد من. قوله: {ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ} [غافر- الآية 15] وهي بسطة ملكه وسعة ملكوته، وتلك الدرجات ليست مرفوعة بفعل كما نبه عليه بعض الفضلاء والمبالغة في الكمّ والكيف، وفيه الدوام والثبات.

فإن قلت قد قال الدمامينيّ رحمة الله. إنّ صفاته تعالى التي على صيغ المبالغة كرحيم مجازية إذ لا مبالغة في صفاته تعالى لأنها تنسب للشيء أكثر مما له، أو تدل على الزيادة فيما يقبلها وصفات الباري منزهة عن ذلك.

قلت: هو ليس بشيء لأنّ صفات الأفعال قابلة للزيادة، وكذا صفات الذات باعتبار متعلقاتها وان لم تقبله في ذاتها كما صرحوا به. قوله:{مَن رَّحِمَ} بكسر الحاء لا بضمها لنقله لفعل المضموأ العين كما توهم لما مرّ. وقوله: {غَضْبَانَ} قيل في هذه التشبيه سوء أدب، والأولى التشبيه بالمنان من المن وليس بشيء لأنه مثله في اشتقاق فعلان

ص: 63

من فعل بكسر العين ومن ليس من هذا الباب بل من باب حسن مع أنّ إطلاق غضبان عليه تعالى وارد وفي الحديث " سبقت رحمتي غضبي "(1 (فأين سوء الآدب، ولذا لم يذكر المصنف رحمه الله تعالى سكران الذي مثل به الزمخشرقي، وفي تمثيله لرحيم بعليم مريض وسقيم الذي مثل الزمخشريّ إشارة إلى أنه من المتعدّي لإلحاقه باسم الفاعل دون الصفة المشبهة، وما قيل: من أنه جعل لازما بالنقل وهم، وما قيل من أنّ الرحمن معرّب وهو بالعبرية رخمانا بالمعجمة، ويدل عليه قولهم ما الرحمن لما سمعوه قول واه وما ذكر تعنت في الكفر كما بين في محله. قوله: (والرحمة في اللغة وقة القلب الخ) قيل الانعطاف المقتضي للإحسان أمر روحاني، وانعطاف الرحم على ما

فيه جسمانيّ وبينهما مباينة تنافي أخذ أحدهما من الآخر فلا وجه قوله ومنه الرحم.

وأجيب بأنّ الانعطافين سببان للحفظ، فاستعيرت الرحمة لانعطاف الرحم، واشتق منها

اسم لها، وقيل: أنه أراد هنا بالانعطاف الميل الروحاني أعني الشفقة والرقة لا الجسماني لأنه ليس مفى الرحمة، وان كان مسبباً عنه ومشابها له، ومدلولاً لبعض ما يلاقيه في الاشتقاق كالرحم والميل الروحاني هو المقتضى للتفضل والإحسان يعني أنّ وصفه بالاقتضاء المذكور للاحتراز عن الجسماني، فإنه ليس معنى الرحمة كما صرح به بعضهم، وهذا كله واه، فاصغ لما يتلي عليك، فإنه ورد في الحديمف الصحيح) الرحم شجنة من الرحمن " (1) .

وقال الإمام القرطبيّ: إنه نص في الاشتقاق فلا مجال للشقاق.

وقال الراغب في معنى الحديث أنه تعالى لما جعل بين نفسه وبين عباده سبباً كما أنه

كتب على نفسه الرحمة لهم وأوجب في مقابلتها شكر نعمته لما كان هو السبب الأوّل في وجودهم وخلق قواهم، وقدرهم وسائر خيراتهم كذلك جعل بين ذوي اللحمة بعضهم مع بعض سببا أوجب على الأعلى التوقر على الأدنى، وعلى الأدنى توقير الأعلى فصار بين الرحم والرحمة مناسبة معنوية كما أنّ بينهما مناسبة لفظية، ولذا عظم شكر الوالدين، وقرنه بشكره لأنهما السبب الأخير في الوجود يعني أنّ بين الرحمة والرحم مع الاشتراك في الحروف مناسبة ومثابهة معنوية، وذلك كاف في صحة الاشتقاق كما يرشدك إليه تعريفه السابق، فإن لنا حالة روحانية تثبت للنفس وكيفية أخرى للقلب وحالة ثالثة جسمانية تشابه الأولى في الحفظ، وقد تنشأ وتتسبب شنها كما يثاهد في اعتناق الأحباب، وهؤلاء توهموا أنه لا بد من اتحاد معناهما، وهو من قصور النظر فلا يغرّنك ما هنا من الأوهام الناشئة من عدم، فهم المرام كقول بعض علماء اأحصر أنّ المصنف إنما فصلها بقوله: ومنه إشارة إلى أنه مشترك مع الرحمة في المادّة لأ. أنه مشتق منها فافهم. قوله: (ومنه الرحم لانعطافها على ما فيها) الرحم بفتح الراء وكسر الحاء موضمع يكون الولد فيه، وقد يخفف بتسكين الحاء مع فتح الراء وكسرها في لغة، وفي لغة بكسر الحاء اتباعاً للراء ثم سميت القرابة رحماً، وهي مؤنثة وقد تذكر. وقوله:(لانعطافها الخ) إشارة إلى س ابينهما من المشابهة، والمناسبة الكافية في صحة الاشتقاق كما عرفته. قوله:(وأسماء الله تعالى إنما تؤخذ الخ) قيل المراد مطلق أسماء الله تعالى، أو المأخوذة من الرحمة، كالرحمن الرحيم وأرحم الراحمين، وكان المراد الثاني لكن سياق المصنف رحمه الله حيسئذ ركيك مخالف للظاهر.

وأمّا الأوّل: فغير صحيح لأنّ من أسمائه ما هو حقيقة من غير تأويل كالله الحيّ القاهر

العليم ونحوها، ومنها ما أطلق عليه استعارة ثم صار كالحقيقة فيه، ومنها ما هو مجاز بطريق آخر يعرفه من نظر في أسمائه الحسنى وشروحها وقيل إنه يعني أنه إذا أخذ اسم له تعالى مما ينبىء عن الانفعال المنزه هو عنه يؤخذ باعتبار غايته، وحاصله أنه يجعل مجازاً عنها بعلاقة السببية، نالرحمة والرقة سبب للتفضل والإحسان، ولو جعل مجازاً لمحن إرادة الإنعام لجاز، فإنها سبب للإرادة أولاً وللإنعام.

ثانياً: كما جعل الزمخشري الغضب مجازاً عن إرادة الانتقام فيما سيأتي فالحصر في

قوله: إنما تؤخذ الخ إضافيّ بالنسبة إلى المبادي أو المراد هي أفعال مثلاً، فإنّ إرادتها أيضاً من الغايات أو المراد بها المسببات وهي مسببة عن تلك الانفعالات انتهى.

قيل وإنما اعتبر التجوّز في مبدأ الاشتقاق دون المشتق لئلا يحتاج إلى بيان التجوّز في كل

فا يطلق عليه تعالى من المشتقات. أقول: (ما ذكره المصنف برمته من التفسير الكبير) ، فالعهدة عليه إلا أنه كلام غير مهذب، ولذا

ص: 64

اضطرب فيه كلام الحواشي، فإنه أطلق في الأسماء وليس على إطلاقه، وذكر أنّ مباديها انفعالات وغايتها المقصودة منها أفعال، وليس كذلك في كل اسم مؤوّل منها حتى ما نحن فيه، فإنّ الرحمة الشفقة والرقة وهي في الحقيقة كيفية لا انفعال، ولذا قيل إنّ الانفعال لازم لها لأنّ حصولها بتبعية المزأج الذي هو كيفية حاصلة من تفاعل البسائط بين فاعل ومنفعل، والله تعالى منزه عن ذلك كله، وقيل المراد بالإنفعال ما ليس بفعل الكيفيات، وليس هو بالمعنى المشهور، ثم إنه إذا جعل التأويل والتصرّف في مأخذ تلك الأفعال ومصادرها، كما قرّره أهل المعاني في الاستعارة التبعية، فهو غير جار هنا لأنه مجاز مرسل لا يحتاج للتبعية كما صرحوا به، فلذا اعتذر عنه بما مرّ مما لا يخلو عن شيء، وأيضاً من الأسماء ما أخذ باعتبار المبدأ كالسلام بمعنى معطى السلامة فيما قيل، فلذا قيل: إنّ المراد أن ما احتاج منها للتأويل يؤول بما يليق بجلاله، وأذا ظهر المراد سقط الإيراد، وما قيل من أنّ الأقرب هنا أن يقال أنه حقيقة شرعية لأنه يراد سنه الإنعام من غير أن تخطر رقة القلب بالبال لا ينافي ما ذكره باعتبار حقيقته اللغوية كما لا يخفى، وقوله قدس سره: إنه يجوز فيه أن يكون استعارة على سبيل التمثيل كما في الغضب فيه ما سيأتي بيانه. قوله (أبلغ من الرحيم) أي أكثر مبالغة، فهو أفعل من المزيد على خلاف القياس، لأنه سمع من العرب أو هو على قول الأخفش الذي جوّزه، وليس من البلاغة على القياس بمعنى أزيد بلاغة لأنّ البلاغة لا يوصف بها المفرد كما صرّحوا به إلا أن يقال: إنه اصطلاحيّ أو أغلبيّ، وأمّا إنّ المراد بغير المفرد المركب من الغير أو مع الغير كما قيل فتكلف، وقيل الرحيم أبلغ لتأخره.

وأنه يؤيده قول ابن المبارك الرحمن إذا سئل أعطى والرحيم إذا لم يسأل غضب وفيه

نظر، وقيل هما سواء وقيل كل أبلغ من وجه. قوله:(لأن زيادة البناء الخ) هذه القاعدة أوّل من

أسسها ابن جنى في الخصائص وقرّرها في المثل السائر بما حاصله أنّ اللفظ إذا كان على وزن من الأوزان، ثم نقل إلى وزن آخر أكثر منه لا لغرض آخر لفظيّ، كالإلحاق فلا بد أن يتضمن المنقول إليه معنى أكثر مما تضمنه الأوّل لأنّ الألفاظ ظروف المعاني، فإفراغها في ظرف أوسع مما كانت فيه من غير فائدة عبث، وهذا مما لا نزاع فيه نحو خشن واخشوشن وقال: إنه لا بدّ أن يكون ذلك في فعل أو مشتق، وظنه بعضهم مطلقاً، فأورد عليه أنّ عليماً أبلغ من عالم مع تساويهما وأورد غيره نحو رجل ورجيل ثم اعتذر عنه بأنه زيادة نقص لا مبالغة كما قال بعض الشعراء يذم صديقاً له:

صحبته ولم يكن نظيري ~ نقصت إذا جعلته تكثيري

كما تزاد الياء للتصغير وله نظائر من كلام الأدباء المتظرفين وأطال فيه بما نحن في غنية

عنه، وأنت إذا تنبهت لأنّ القاعدة مخصوصة باكثر الذي نقلته العرب عن الأقل وغيرته عنه علمت أنّ أكثر ما أورد مدفوع بالتي هي أحسن وأنّ قوله قدس سره كغيره: إنه منقوض بمثل حذر وحاذر، وجوابه بأنّ شرطه بعد تلاقي الكلمتين في الاشتقاق اتحادهما في النوع كفرح فرحا وأنه أكثريّ، فلا نقض وبأن حذراً إنما كان أبلغ لإلحاقه في الثبوت بالأمور الجبلية كشره وفطن فجاز أن يكون حاذر أبلغ من حذر لدلالته على زيادة الحذر وان لم يدل على ثبوته ولزومه مع اندفاعه لا يخلو من الكدو فإنهم صرحوا بأنه قد كثر استعمال فعيل في الغرائز كشريف وكريم وفعلان في غيرها كغضبان وسكران، فيقتضي أنّ عليماً أبلغ، ولو من وجه وأن قوله أنّ حذرا يدل على الثبوت يقتضي أق حذرا صفة مشبهة، وقد صرح ابن الحاجب وغيره بأنه من أبنية المبالغة المعدودة من اسم الفاعل فهما متحدان نوعا، وعلى تسليم تخصيصه بالمشتقات لا يرد عليه شقدف وشقنداف للمحمل الصغير والكبير كما في الكشاف حتى يقال إنه أغلبيّ لما في القاموس من أنّ الشقدف مركب معروف بالحجاز وأمّا الشقنداف فليس من كلامهم، " ولا ينافيه نقل الزمخشريّ له عن بعض الإعراب لأنه قاله هزلاً وتمليحاً، ومثله لا تثبت به اللغة كما قيل لبعضهم لم صار الدينار خيراً من الدرهم والدرهم خيراً من الفلس فقال: لأنّ الفلس ثلاثة أحرف، والدرهم أوبعة والدينار خمسة، وقطع في كلام المصنف الأوّل مخفف الطاء، والثاني مشدد وكبار الأوّل بضم الكاف وتخفيف الموحدة،

ص: 65

والثاني بتشديدها مبالغة في كبير بمعنى عظيم. قوله: (وذلك إنما ثؤخذ الخ) إشارة إلى الزيادة المدلول عليها بزيادة البناء المستلزمة للأبلغية، وهي أمّا باعتبار الكمية في مبدأ الاشتقاق، وهو الرحمة والكمية العدد نسبة إلى كم بعد ما شدّدت ميمه جريا على القاعدة المعروفة في باب النسب والكيفية نسبة إلى كيف التي يسأل بها عن الحال الذي يسمونه مقولة الكيف، وكيفيتها جلالتها وعظمتها ونفاستها، وكثرة كميتها إمّ باعتبار كثرة افراد متعلقها من المرحومين، أو بتعدد ما تتعلق فيه من الدنيا والآخرة أو باعتبار كثرة ما يحصل به من النعم أو بكثرة زمانه الواقع فيه كزمان الآخرة

المؤبد، فهذه وجوه أربعة سيأتي شرحها وتمثيلها. قوله:(فعلى الأوّل قيل يا رحمن الدنيا الخ) أي على اعتبار المبالغة في الكمية خص الرحمن بالدنيا دون الرحيم، فإنه خص بالآخرة لكثرة المرحومين فيها كما بينه المصنف رحمه الله، وهذا بناء على أنّ النعم فيها تعم المؤمن والكافر والبر والفاجر، وان كانت النعمة التامّة مخصوصة بالمؤمنين لاتصالها بسعادة الأبد، وقيل لا نعمة لله على كافر والصواب ما مرّ، فإن فلت كيف تختص رحمة الآخرة بالمؤمنين، وفد ورد في الحديث الشريف شفاعته صلى الله عليه وسلم لعامّة الناس من هول الموقف) 1) وأدهـ يخفف عنهم العذاب في الآخرة كما ورد في حق أبي طالب (2 (وارتضاه المصنف رحمه الله في سورة الزلزلة، فلو قال: لعموم رحمة الدنيا لجميع المؤمنين والكافرين خفت المؤنة قلت: قد أورد هذا بعضهم، وأجاب عنه بأنّ الكفار في الأوّل تبع غير مقصودين كيف، وهم بعد الموقف يلاقون ما هو أشد من هو له، فليس ذلك رحمة في حقهم، وتخفيف العذاب سما تردّد فيه المصنف رحمه الله، وعلى فرض تخفيفه قيل أنه ينزل من مرتبة من مراتب الغضب إلى مرتبة دونها، فليس رحمة من كل الوجوه، ولا ينافي العذاب فتدبر. قوله:) وعلى الثاني قيل يا رحمن الدنيا والآخرة ورحيم الدنيا) أي على اعتبار المبالغة في الكيفية قيل ذلك وبين بأن كثرة الجلائل تستلزم كثرة الجلالة، وهي كيفية النعم إلا أنه قيل عليه إنّ هذا يصح أن يكون بالاعتبار الأوّل لأنّ نعم الدنيا والآخرة تزيد على نعم الدنيا، وردّ بأنه يلزم أن يكون ذكر رحيم الدنيا بعده لغواً إذا لمراد معطى نعمهما كليهما، وقد حصل بإضافة الرحمن إليهما.

وأجيب عنه بأن لا نسلم أنّ المراد مجرّد ذلك بل مقصود القائل التوسل بكلا الاسمين المشتقين من الرحمة في مقام طلبها مشيراً إلى عموم الأوّل وخصوص الثاني، ويحصل في ضمته الاهتمام برحمته الدنيوية الواصلة إليه بالباعثة لمزيد شكره، وقد اعترض عليه بأنّ الوارد في الأحاديث المرفوعة كما رواه الترمذي والحاكم في دعاء مأثور فيه:" الهم فارج الهئم ى ف النمّ مجيب دعوة المضطر رحمن الدنيا والآخرة ورحيمهما أنت ترحمني فارحمني وحمة تغنيني بها عمن سواك " وليس الآخران مرويين ولا صحيحين حتى يستدل بهما والقول بأنّ المصنف لم يذكر أنهما واردان في الحديث، فيكفي كونهما من كلام السلف الأخيار ليس بشيء، وأمّا

احتمال أن يراد في الأوّل جلائل النعم، وفي الثاني دقائقها فلا يجدي. قوله:(لأنّ النعم الأخروية الخ) الجسام جمع جسيم بمعنى عظيم ومعناه في الأصل عظيم الجسم، فاستعير لما ذكر أو أطلق عليه إطلاق المشفر والمرسن يعني أنّ إضافة الرحمن للدارين باعتبار ما فيهما من الجلائل، وإضافة الرحيم للدنيا، وان اشتملت على حلائل النعم ودقائقها باعتبار الثاني لأنه متمم لما قبله، ولذا أخر عنه كما سيأتي وقد عرفت ما فيه رواية ودراية فتدبر. قوله:(وإنما قذّم الخ) أي قياس نظائره مما جمع فيه بين وصفين أحدهما أبلغ والقياس هنا بمعنى القاعدة أو اللائق المعقول قال قدس سره الأبلغ إذا كان أخصر مما دونه، ومشتملاً على مفهومه تعين في الإثبات الترقي وفي النفي عكسه، إذا لو قدّم كان ذكر الآخر عارياً عن الفائدة كما في عالم تحرير، واذا لم يكن الأبلغ مشتملاً على مفهوم الأدنى كالرحمن والرحيم إذا أريد بالأوّل جلائل النعم وبالثاني دقائقها يجوز كل من طريقي التتميم والترقي نظرا لمقتضى الحال، ولما كان الملتفت إليه بالقصد الأوّل في مقام العظمة والكبرياء عظائم النعم دون دقائقها قدم الرحمة وأردفه بالرحيم كالتتمة تنبيها على أن الكل منه لشمول عنايته ذرّات الوجود ير لا يتوهم أنّ المحقرات لا تليق به، فيستحيا أن يسألها

ص: 66

وقد توهم أنّ تأخير الرحيم للترقي، وأنه أبلغ من الرحمن لأنّ فعيلَا للأمور الغريزية كشريف وكريم وفعلان للعارضة كسكران وغضبان، وأبطل بأنه من باب فعل بالضم لا من صيغة فعيل انتهى. وهذا بعينه كلام المدقق في الكشف وفيه بحث من وجوه: منها أنه لا يلزم أن يكون الأبلغ مشتملاً على معنى الأدنى بل يكفي أن يستلزم وجوده وجود الآخر بالطريق الأولى، وكذا عكسه في النفي بحيث يكون ذكر الآخر بعده لغواً لا يليق بكلام البليغ وبليغ الكلام، ألا تراك تقول فلان يهب المئات والألوف، ولو عكست قبح وقد اعتبر الزمخشريّ الترقي في قوله تعالى:{لَّن يَسْتَنكِفَ الْمَسِيحُ أَن يَكُونَ عَبْداً لِّلّهِ وَلَا الْمَلآئِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ} [النساء: 172] وفي قوله:

". وما مثله ممن يجاور حاتم ولا البحر ذو الأمواج يلتج زاخره

مع أنّ الملائكة والبحر ليسا من جنس ما قبلهما كما في شرح الطيبي طيب الله ثراه.

ومنها أنّ قوله واذا لم يكن الأبلغ مشتملَا على مفهوم الأدنى الخ تبع فيه صاحب التقريب حيث قال: إنّ ذلك فيما إذا كان الثاني فيه من جنس الأوّل وفيه زيادة عليه، والرحمن لجلائل النعم وأصولها، والرحيم لدقائقها وفروعها فلما لم يكن في الثاني زيادة على الأوّل كان كائنه من جنس آخر، وقد ردّه الكرماني في حواشيه بقوله إن أراد إن الجنسية تعتبر فيما يجري فيه الترقي، فلم قال: إنها مفقودة في هاتين الصيغتين مع اشتمالهما على معنى الرحمة وأحدهما أبلغ من الآخر وان أراد أنّ الصيغتين لا بد أن يتفقا في خصوص المعنى كجواد وفياض فغير

مسلم لما بيناه في البحث الأوّل فهو لا يوافق كلام العلامة، ولو اقتصر على ما بعده كان وجهاً وجيهاً لأنّ المراد أنهما ذكر الإفادة الشمول والعموم كما تقول الكبير والصغير يعرفا، ولو عكست صح وكالط المعنى بحاله، ومثله لا يلزم فيه الترتيب كما فصله في المثل السائر، ولولا خوف الإطالة لا وردناه برمتة ومنها أنّ قوله وأبطل الخ فيه ما مرّ فإنّ من النحاة وشرّاح الكشاف من ذهب إلى أنّ (الرحيم والرحمن) صفتان مشبهتان، فلا بدّ من لزوم فعلهما معاً فلا يصح الفرق والنقل لباب فعل بالضم، وذهب ابن ما لك وغيره إلى أنهما من مبالغة اسم الفاعل فلا كلزم اللزوم ولا يتأتى ما ذكره، فإن قلت كيف يدّعي اللزوم، وقد ورد رحمن الدنيا والآخرة ورحيمهما بالإضافة إلى المفعول. قلت: من يدعيه يقول: إنه على التوسع، كما بينه النحاة في باب الظروف، ثم أنّ المدقق قال في الكشف: والتحقيق يقتضي أن يرد النظم على هذا الوجه، ولا يجوز غيره لأنّ الله اسم للذات الإلهية باعتبار أنّ الكل منه واليه وجوداً ورتبة وماهية، والرحمن اسم له باعتبار تخصيص كل ممكن بحصة من الرحمة، وهي الوجود الخاص، وما يتبعه من وجود كمالاته فلو لم يورد كذلك لم يكن على النهج الواقع المحقق ذوقا وشهودا عقلَا ووجوداً، وأيضاً لما كان المقصود تعليم وجه التيمن بأسمائه الحسنى وتقديمها عند كل مسلم كان المناسب أن يبدأ من الأعلى فالأعلى إرشادا لمن يقتصر على واحد أن يقتصر على الأولى فالأولى وتقريراً في ذهن السامع لوجه التنزل أوّلاً فأوّلاً انتهى.

(قلت) : يؤيده أنه صلى الله عليه وسلم كان يكتب بسم الله الرحمن حتى نزلت سورة النمل فدقق النظر

ليتم الظفر، وما قيل على هذه القاعدة من أنها غير مطردة لقوله تعالى:{رَسُولًا نَّبِيًّا} [مريم: 51] ليس بوارد لما ذكر ثمة من أنهما بالمعنى اللغويّ أو كل أبلغ من وجه أو هو لرعاية الفاصلة. قوله: (لتقذّم رحمة الدنيا الخ) أي تقدما زمانيا وجوديا فروعي ذلك في لفظه على كلا الاعتبارين لإضافته فيهما الدنيا، وقيل إنما هو إذا قصد المبالغة في الرحمن باعتبار المرحومين، والظاهر أنه باعتبار ما ذكره أوّلاً من قوله رحمن الدنيا ورحيم الآخرة، وما قيل من أنّ الرحمن يتناول رحمة الدنيا على كل حال سواء اعتبر الكمية أو الكيفية بخلاف الرحيم ورحمة الدنيا مقدّمة في الوجود، فناسب تقديم ما يدل عليها ففيه أنّ الرحمن بالاعتبار الثاني لا تعلق له بالثاني فتقديمه أولى قوله:(ولآنه صار كالعلم الخ) أي أشبه في اختصاصه به استعمالاً ومعنى إلا لتعنت في الكفر كقولهم لمسيلمة رحمن اليمامة، فناسب مقارنة العلم، وتقدمه على الوصف المحض، ولأنه بمنزلة الموصوف لمحض الوصف، واقتضاء السياق تقديمه باعتبار المعنى الوصفي، وبهذه المشابهة ضعف فيه ذلك، فلم يعلم به، وله مناسبة بالعلم والوصف، فناسب توسطه بينهما، وما قيل: على هذه الوجوه

ص: 67

من أنها مبنية على كون الرحيم وصفاً محضا لا غالباً وهو إذا عرف باللام من الأوصاف الغالبة أيضاً ليس بشيء لأن القائل بذلك لا ينكر إطلاقه على غير الله فكيف يدّعي الغلبة فيه، وذهب الأعلم وتبعه ابن هشام وغيره إلى أنه علم

وأنه بدل لا نعت، واستدل باختصاصه به ومجيثه غير تابع نحو الرحمن على العرس استوى، ولا يخفى ما فيه وأنّ استفاضة إضافته نحو رحمن الدنيا تنافيه، وفي شرح الكتاب لابن خروف أنّ الرحمن صفة غالبة ولم يقع تابعاً إلا لله في بسم الله الرحمن الرحيم والحمد لله، ولذا حكم. عليه بغلبة الإسمية وقل استعماله منكر أو مضافاً فوجب كونه بدلاً لا صفة لكون لفظ الله أعرف المعارف انتهى.

وقد نبهنا عليه في السوانح. قوله: (لا يوصف به غيره الاختصاصه به معرفاً ومنكراً حتى

صار علما أو كالعلم وأمّا قول الشاعر في مسيلمة لعنه الله:

سموت بالمجد يا ابن اكرمين أبا وأنت غيث الورى لا زلت رحمانا

فقد قالوا: إنّ إطلاقه عليه غير صحيحي لغة وشرعا، وهذا من غلوّهم في الكفر إذ سموا المخلوق باسم الخالق كما سموا الحجارة آلهة، وفيه أنه إذا كان إطلاقه على الله مجازا أو بالغلبة فكيف يقال إنّ استعماله في حقيقته وأصل معناه خطأ لغة، وقد ذهب السبكيّ رحمه الله إلى أنّ المخصوص به تعالى هو المعرّف بأل دون المنكر والمضاف لو روده لغيره في اللغة، ورذ به على القول بأنه مجاز لا حقيقة له، وإن صحة المجاز إنما تقتضي الوضع للحقيقة لا الاستعمال، نعم هو في لسان الشرع يمتنع إطلاقه على غيره مطلقا، وان جاز لغة كالصلاة على الأنبياء عليهم الصلاة والسلا اوهو كلام سديد وبه صرّح ابن عبد السلام وقال إنه صحيح مطلقا لغة وأنما منع شرعا. قوله:(لأنّ معناه المنعم الحقيقئ الخ) قيل الحقيقيّ هو الذي لا يستند إنعامه إلى غيره فهو الحقيق باسم المنعم بخلاف العبد فإنه كالواسطة، فالنسبة في قوله الحقيقي إلى الحقيق بمعنى الحرى للمبالغة كأحمري ودواري، أو هو من حق بمعنى ثبت أي من ثبتت فيه صفة الإنعام غير متجاوزة لغيره، كالعبد الذي يستند إنعامه إلى غيره وهو الله فليس ثابتاً متقرّرا فيه، والذي دعاه لما ذكر ما سيأني ولذا لم نجعله منسوبا للحقيقة المقابلة للمجاز مع أنه المعروف المتبادر إذ هو المنعم بلا عوض، ولاءس ض وهو الغني المطلق الخالق للنعمة والمنعم عليه فلما أريد به المبالغة إلى النهاية دل على إرأدة أعظم أفراده، فقوله البالغ في الرحمة غايتها يحتمل أن يكون تفسيرا لما قبله وأن يكون معنى آخر ودلالته على ذلك بقرينة الاختصاص وتبا إر الفرد ا! مل من صيغ المبالغة فلا يرد عليه أنّ معناه اللغوي المبالغ في الرحمة، وأمّا وصوله إلى الغاية القصوى فليس مقتضى وضمع اللغة إلا أن يقال إنه معنى عرفي ولا أنه صفة مى ششقة فلا فرق بينها وبين غيرها إلا بالمبالغة، فلا يدل على كونه منعما حقيقياً مع أنّ اعتباره ينافي الوصفية، إذ هي تستلزم الدلالة على ذات مبهمة وهذا موجب لتعينها، وأيضا أنه يفهم مته أن لفظ المنعم لا يطلق على غيره إلا مجازاً وهو غير ظاهر لاقتضائه أنّ نسبة سائر الأفعال إلى العباد مجازية ولا يخفى أنه غير وارد إذا فسر الحقيقي بما مرّ وهو الداعي إلى تفسير. به، وقوله إنه لا يفيده مكابرة مع أنه لفا اختص به تعالى، وألحق بالإعلام خرج عن

نظائره، وألحق بالأسماء واختصاصه به لإرادة أكمل أفراده فلا يلزم اختصاص المنعم أيضا كما توهمه فتدبر. قوله:(وذلك لا يصدق على غيره (أي ذلك المعنى المذكور وان كان بحسب الوضع مفهوما كلياً، فهو منحصر في فرد كالشمس، والصدق ضد الكذب تجوّز به أو نقل للدلالة على بعض أفراد معناه كما هو معروف في كلامهم أي لا يطلق عليه وقوله مستعيض بالعين المهملة أي طالب للعوض! لا بالفاء، وان صح هنا بتكلف وهو تعليل لكون المنعم الحقيقي لا يصدق على غيره أو لكون المنعم الحقيقي هو البالغ نهاية ذلك لأنّ الإنعام والجود إفادة ما ينبغي سمن ينبغي لا لعوض كما في الإشارات حتى قالوا من جاد لعوض، فهو فقير كما في الهياكل وفيه تأمّل. قوله: (يريد) تفسير لكونه مستعيضا ولما لم يكن المراد به العوض المالي، لأن طالبه تاجر لا واهب بل المنافع المعنوية بينه بما ذكر. وقوله:(جزيل ثواب الخ) من إضافة الصفة للموصوف أي الثواب الجزيل، والثناء الجميل

ص: 68

وهو لبيان الواقع إذ الثناء لا يكون إلا جميلَا، والثواب سصكماعف كما وعد الكريم به فهو جزيل بالنسبة بما أعطاه أبدا، فلا وجه لما قيل من أنّ الأظهر أن يقول يريد به ثوابا إذ العموم أنسب، فيعتذر بأنه لموازنة ما بعده، ويزيح بزاي معجمة وحاء مهملة مضارع أزاج بمعنى أزال، وفي نسخة مزيح بصيغة اسم الفاعل منه معطوف على مستعيض وهذه أعواض سلبية بخلاف ما قبلها. وقوله:(أنفة الخسة) الأنفة كثمرة ما يستنكف من عاره، والخسة بالخاء المعجمة الدناءة أي يقصد بما يعطيه ذلك أو عدم لحوق عار الخسة، وفي نسخة رقة الجنسية وهي الأصح رواية عند الفاضل الليثي، والمراد ألم رقة الجنسية كما وقع كذلك في عبارة الغزالي، ونقله هذا الفاضل في حواشيه يعني أنه يرق قلبه، ويتأثر بما يشاهد. من احتياج أبناء جنسه وسوء حالهم فيزيل ذلك الألم عنه بإحسانه، وهذا عوض وفائدة عائدة عليه ولو قيل الرقة هنا بمعنى الضعف، كما في قوله عجبت من قلة ماله، ورقة حاله، كما في الأساس لم يبعد فسقط ما قيل من أنه وقع بهذه العبارة في كتب الكلام في مبحث الحسن والقبح، وليس لها كبير معنى. قوله:(ثم إنه كالواسطة الخ أقيل: إنّ ما قبله تعليل لعدم صدق البالغ في الرحمة غايتها على غير.، وهذا تعليل لعدم صدق المنعم الحقيقي على غيره، وقيل: إنه بيان لكونه منعما حقيقيا إذ لولاه لم يكن محسن، ولا إحسان، والأظهر أنه بيان لأنه لا منعم غيره مطلقا وهو أبلغ مما قبله، ولذا عطف بثم لتفاوت رتبتهما لأنه في الأوّل أثبت لغيره إنعاما وهنا نفاه، وقال: كالواسطة دون واسطة لأنها ما يتوقف عليه فعل الفاعل وفعله تعالى لا يتوقف على شيء، وقيل: لأنّ كل ما له دخل في الإنعام فهو بخلقه تعالى حتى الكسب على رأي الأشعري. . قوله: (لأن ذات النعم الخ) أي ذات النعم حاصلة من خلقه لها، ومعنى كون وجودهاً من خلقه أنّ ثبوته لها مستند له

أيضاً، فلا وبر4 لما قيل من أنّ نسبة الخلق إلى الوجود غير ظاهرة وأنه بناء على أن الماهيات مجعولة، والداعية هي الخاطر المشوّق للفعل حتى كأنه يدعوه. قوله:(الباعثة الخ) تفسير له، والقوى جمع قوّة، وهي معروفة شاملة للباطنة والظاهرة المبينة في الحكمة. قوله:(أو لأن الرحمن الخ) يعني أنّ الوجوه السابقة مبنية على أنّ الأب! خ مشتمل على معنى ما بعده، وهذا ليس كذلك على هذا، لأنّ الرحمن المنعم بجلائل النعم وأصولها كالإيجاد، والرحيم المنعم بما عداها، فأردف به ليتناول ما بقي منها كالتتميم وذكر الرديف وهو البالغ المتمم وإنما يتعين الترتيب المذكور على الأوّل، إذ لو عكس عراً عن الفائدة، وعلى هذا ليس كذلك فلذا أردف الرحيم تنبيها على شمول عنايته ذرات الوجود لئلا يتوهم أنه لا تطلب منه المحقرات لعظيم جنابه كما أفاده الشريف، وفيه ما مرّ فتدبر. قوله:(أو للمحافظة الخ) الآي جمع آية ورؤوسها أواخرها التي تنتهي بها سميت رأساً مجازاً تشبيهاً لها برأس الجبل والنخلة، ونهايتها التي ينتهي إليها الصاعد من أسفلها، وئذا يقال رأس السنة لآخرها وفي الحديث أنه صلى الله عليه وسلم بعث على رأس الأربعين أي آخرها كما بين في السير، وقيل: لأنها عليها مباني الآيات كما أنّ الرأس مبني الإنسان وفيل: عبر عن الآخر بالرأس للتعظيم تأدّبا والمحافظة عليها بمجانسة ما قبل الآخر من الرويّ وحرف اللين وهذا بناء على أنّ في القرآن سجعاً، وفيه كلام سيأني في سورة يس، وقيل وؤوس الآي أوائلها والمعنى لتكون رؤوس الآي بعد كلمات متناسبة، ولا يخفي ما فيه من التكلف، ثم إنّ المحافظة لا تجري في كل سورة بل فيها ما يقتضي خلاف هذا كورة الرحمن ولهذا قيل: إنّ هذا في غاية الضعف لابتنائه على أنّ الفاتحة أوّل نازل! فروعي فيها ذلك، ثم طرد في غيرها وعلى أنها آية من السورة. قوله:(والأظهر أنه غير مصروف الخ) في التسهيل وشروحه ؤمنع صفة على فعلان ذي فعلى بإجماع النحاة، كسكران سكرى للصفة، والزيادتين المشابهتين لألفي التأنيث في عدم قبولها التأنيث، فلو قبلها انصرف كندمان ندمانة، واختلف فيما لزم تذكيره كلحيان بمعنى كبير اللحية فمن منعه ألحقه بباب سكران لأنه أكثر ومن صرفه رأى أنه ضعيف وادّعى منعه والأصل الصرف انتهى.

وقال ابن الحاجب: الألف والنون إن كانا في اسم، فشرطه العلمية، أو في صفة انتفاء فعلانة، وقيل: وجود فعلي ومن ثمت اختلف في رحمن دون سكران وندمان، وبنو أسد يصرفون

ص: 69

جميع فعلان لأنهم-قولون في كل مؤنث له فعلانة انتهى.

وقيل: أحسن ما قيل في تقريره إنّ شرط كون مؤنثه فعلي إنما اعتبر لتحقق انتفاء فعلانة

إذ به تتحقق مضارعتها لألفي التأنيث والاختصاص العارض كما منع وجود فعلي منع وجود

فعلانة فإن نظر إلى انتفاء فعلي وجب أن لا يمنع صرفه لأنّ وجودها شرط للمنع ومناط له في الحقيقة إلا أنه لخفائه جعل وجود فعلى علامة له، فاعتبار الاختصاص العارض يوجب امتناع الصرف وعدمه، وهو محال فلزم أن يعتبر انتفاؤهما لسببه وأن يرجع إلى أصل هذه الكلمة قبل الاختصاص، ويتعرّف حالها قبله، وذلك بالقياس على نظائرها من باب فعلي بالفتح، وإذا كانت كلها، وأكثرها ممنوعة من الصرف لتحقق وجود فعلي فيها علم أنّ هذه الكلمة أيضا مما لولا المانع تحقق فيها وجود فعلي فيمتنع صرفها مثلها، وأورد عليه أنه لا يصح حينئذ ما ذكر من أنه اختلف في الرحمن، فمن اشترط وجود فعلي صرفه على الإطلاق ويمنعه من الصرف من اشترط انتفاء فعلانة قال الرضى: إذا كان المقصود من وجود فعلي انتفاء فعلانة، وقد حصل هذا المقصود في الرحمن يجب أن يكون غير منصرف ولشرّاح الكشاف هنا مناقضات وكلام لا تحتمل العربية دقته، وأنما عدلوا إلى الاستدلال لأنه لم يسمع إلا مضافا أو معرفاً بأل أو منادى، وقد شذ قوله:

وأنت غيث الورى لا زلت رحمانا

مع أنه لا يصلح شاهدا للصرف ولا لعدمه لاحتمال أن يكون ممنوعاً وألفه للإطلاق ومصروفا، وألفه بدل من تنوين المنصوب كقوله:

تبارك رحمانا رحيماً وموئلا

ولا يرد هنا ما قيل من أنّ ما مرّ يستلزم كون الحمل على النظائر من علل الصرف، ولا

ما قيل من أنا لا نسلم أنّ الأصل في فعلان منع الصرف سلمناه لكن كون الأصل في الاسم الصرف مطلقا وان لم يترجح عليه يعارضه فتدبره، وفي الكتاب وشروحه هنا كلام مخالف لما قالوه ذكرناه في حواشي الرضى. قوله:(إن حظر اختصاصه الخ) حظر بالحاء المهملة، والظاء المعجمة بمعنى منع، وهذا إشارة إلى أنه إن لم يحظر كلاهما بل الثاني فقط كان عدم الإنصراف أولر،، أو إلى أنه إن لم يحظر الاختصاص العارض إياهما بل كان انتفاء فعلانة مع قطع النظر عنه، وكان فعلي موجود أو منتفيا لهذا العارض كاز عدم الانصراف أو أظهريته أولى، وعلى كلا التقديرين فالأولى بالاستلزام للجزاء أخص من نقيض الشرط ولا يخفى أنه بعيد عن مواطن استعمال إن الوصلية أمّا على الأوّل فلأن نقيض الشرط يتناول حظر وجود فعلي دون فعلانة وعدم حظر شيء منهما ولا استلزام لهما للجزاء، وأمّا على الثاني فلأدأ نقيض الشرط يتناول انتفاء فعلي ل! ختصاص أو مع قطع النظر عنه ووجودها، وليس شيء منهما أولى بالالتزام للجزاء هكذا قاله وارتضاه بعض المدققين يعني أنّ الوصلية موجبها ثبوت الحكم بالطريق الأولى عند نقيض شرطها والحكم هنا أظهرية منع صرف رحمن والشرط منع اختصاص وجود مؤنث له مطلقا كما تفيده كلمة أو بعد المنع الذي هو نفي معنى والنقض عدم

ذلك المنع وهو يتحقق بوجهين:

أحلدم! ما: أن لا يكون فيه اختصاص، فلا منع وحينئذ، أمّ أن ينتفي فعلي فقط، فيجب الصرف أو فعلانة، فيجب منع الصرف، وعلى التقديرين لا تتحقق الأظهرية فضلَا عن أولويتها وأمّا أن ينتفيا فثبوت الحكم عنده مثل ثبوته عند الشرط بل دونه إذ عند الشرط دليل انتفاء فعلانة، وهو الاختصاص موجود.

وثانيهما أن يكون فيه الإختصاص، ولا يمنع وجود شيء من المؤنثين فتجىء الترديدات الثلاثة أو يمنع فعلانة فقط، وحينئذاً أمّا أن توجد فعلي فيجب منع الصرف أو لا توجد، فالحكم فيه كما في صورة الشرط أو ئمفع فعلي فقط، فأمّا أن توجد فعلانة، فيجب الصرف أو لا فكما في صورة الشرط، فالأولوية لا تتحقق في شيء من صور النقيض كما قرّره بعض الفضلاء، وهذا كله تطويل نلا طائل أوردناه لئلا يتوهم من يراه غفلتنا عنه وهو مندفع بأدنى تأمّل فإنّ قوله وان حظر اختصاصه الخ كناية المقصود منها إنه لم يتحقق شرط المنع على المذهبين ولا شك أنّ نقيضه أنّ ذلك محقق، والأظهرية عليه ثابته بالطريق الأولى فإن قلت: لو سلم ما ذكرت لم يسلم أنّ مغ الصرف حينئذ للإلحاق بالأغلب بل هو واجب لوجود شرطه قلت: لا يلزم النظر لذلك، بل يكفي النظر لنفس الشرط على أنا نلتزمه، ونقول إذا وجد الشرط الأغلب منع

ص: 70

صرفه أيضاً لأنه قد يصرف نادراً مع وجود شرط آخر لضرورة أو تناسب أو لأمر آخر على خلاف القياس في بابه. قوله: (على فعلي) بغير تنوين وفعلانة يجوز صرفه، وعدمه على ما بين في محله. قوله:(بما هو الغالب في بابه) يعني بباب فعلان الذي مؤنثة، فعلى بفتح العين، فإنّ الغالب فيه أنه غير منصرف، ومؤنثه على فعلي إلا ماشد كخشيان، فإنه منصرف ومؤنثه خشيانة كما ذكره المرزوقي، ولذا تيده المنصف بالغالب وخالف قول الزمخشركيئ إلحاقاً بإخوانه من غير ذكر للغالب فيه، وان قيل إن الذي في الصحاح أنّ خشيان مؤنثه خشي على القياس، وهو الذي ارتضاه العلامة، ثم إنه قيل إنّ العمل بالغالب وان كان الأصل يعارضه إذ الأصل في الأسماء مطلقاً الصرف مخالف لما عليه الفقهاء من ترجيح الأصل، على الغالب إلا أنّ رجحان الغالب أظهر لأنّ الغالب يقتضي إلحاقه بنوعه، وهو أولى من إلحاقه بما هو الأصل في جنسه، وهو مطلق الاسم، وليس ما نقل عن الفقهاء صحيحا بل المصرّح به خلافه كما في أء ول الشافعية الذين منهم المصنف، وقد قال السبكي رحمه الله في قواعده إنما يرجح الأصل جزما إذا عارضه احتمال مجرّد، والا فقد يرجح غيره كما فصله. قوله:(وتخصيص! التسمية بهذه الأسماء الثلاثة) وهي الله والرحمن والرحيم والمراد بالتسمية البسملة لأنها تطلق عليها أو المعنى المصدري، وهو إطلاق الاسم وأل عهدية، وخصى العارف بالذكر لأنه الذي يتأتى منه ما بعده، ومعرفته بما ذكر من تعلق الإستعانة بالوصف المشعر

بالعلية، ومجامع الأمور المهمة المعزوم عليها أو جميعها. قوله:(المعبود الحقيقي) إشارة إلى الجلالة الكريمة، ومولى لنعم بضم الميم بزنة اسم الفاعل وما بعده مشير لما مرّ، وجليل النعم وحقيرها، لف ونشر للاسمين، أو كناية عن الكل على نهج قوله ولا صغيرة ولا كبيرة. قوله:(فيتوجه بشراشره) جمع شرشرة بالفتح وتستعمل بمعنى النفس والجسد فيقال ألقى عليه شراشره اي نفسه حرصا ومحبة قال ذو الرمة:

وكائن ترى من شدة ومحبة ومن عته تلقي عليها الشراشر

وتكون بمعنى الانتقال والثبات وهدب الإزار وقطعه، وتحقيقه أنه في الأصل أطراف الأجنحة والذنب، وفي كتاب النبات أنّ شرشرة الطائر تعريثه قال ابن هرمة:

فعوين يستعجلنه ولقينه يضربنه بشراشر الأذناب

فكنى به عن الجملة كما يقال أخذه بأطرافه، ويمثل به لمن يتوجه بكليته فيقال: ألقى

عليه شراشره كما قال الأصمعي كأنه لتهالكه طرح عليه نفسه بكليته، وهو الذي عناه المصنف رحمه الله إذ مراده التوجه ظاهر أو باطناً ولذا خصه بالعارف.

وفي الكشف أنّ من مذهب صاحب الكشاف أن يجعل تكرار الشيء للمبالغة كما في

زلزل ودمدم، وكأنه لنقل الشر في الأصل، ثم استعمل في الإلقاء بالكلية مطلقاً شرا كان أو غيره واعترض عليه صاحب القاموس رحمه الله في شرح ديباجة الكشاف بأنه غير جيد لأنّ مادّة شرشر ليست مونحموعة لضد الخير وانما هي موضوعة للتفرّق والانتشار وسميت الأثقال شراشر لتفرّقها انتهى. وفيه نظر. قوله:(إلى جناب القدس) أي إلى الله المنزه المقدس جنابه عز وعلا وحبل التوفيق كلجين الماء أو مكنية أو تخييلية أو الكلام بجملته تمثيل، كأنه لتوجهه إلى عالي جنابه وتقرّبه منه كمن يترقى بحبل إلى العلو، والسرّ في الأصل الخفي وما يكتم وكنى به هنا عن الباطن، وقيل: هي حالة للمعارف تكون سببا للفيض، وفي كتاب البدائع لابن القيم نقلَا عن ابن عقيل: أنّ من قال بين الله وفلان سرّ فقد كفر وكذبك وقولهم أسالك بالسرّ الذي بينك وبين أنبيائك وأوليائك حماقة، وأي سرّ بين الله وعبده وردّه ابن الجوزي رحمه الله بأنهم يعنون به العبادة المستورة عن الخلق ونحوها انتهى. والذي يظهر لي من السرّ أنه أسماء الله وصفاته ونحوها مما وقف الله عليها بعض خلص! عباده وأعلمهم أنه متى سئل بها أجاب كما ورد في الآثار الصحيحة أسألك بكل اسم هو لك استأثرت به أو علمته أحداً من خلقك، وقد اشتهر أن اسمه الأعظم الذي يجاب به الدعاء لا يعلمه كل أحد وعن متعلقه بيشغل أو بحال مقدرة أي معرضاً محن غيره، وقيل عن هنا بدلية قيد للاستمداد وهو تعسف. وقوله:) فيتوجه الخ) إشارة

إلى ما سيأني في الفاتحة

ص: 71

في الإلتفات فتدبر. قوله: (الحمد هو الثناء الخ) اختلف أهل اللغة في الثناء فقال ابن القطاع: إنه يستعمل في الخير والشرّ، والأصح كما قاله ابن السيد أنه لا يستعمل إلا في الخير وإنّ العام هو الثناء بتقديم النون عى المثلثة، وما ورد على خلافه على ضرب من التأويل والتجوّز كالمشاكلة والتهكم، فهو ذكرى الجميل، وهل يشترط فيه اللسان أم لا فقيل لا، وحقيقة الحمد إظهار الصفات الكمالية سواء كان ذلك باللسان أم لا، ومن ذكر اللسان لم يرد العضو المخصوص، والا لم يكن الله حامداً لنفسه ولا لغيره حقيقة، وهو ظاهر البطلان بل قوّة التكلم وليس حقيقة التكلم إلا الإفاضة والإعلام مع شعور الفيض، وارادته وبؤيده حديث " لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك "(1 (وإن حمل على المشاكلة أو التجوّز فالمعنى عظمت نفسك أو ذكرت نفسك بكلامك القديم بناء على مذهب الشهرستاتي، أو التخصيص باللسان بالنسبة لحمد العباد، وقيل عليه إنّ قوله والا لم يكن حامدا الخ لا يخلو عن شيء لأنه إن أراد أنه لا يكون كذلك على هذا القول حقيقة فمسلم، لكن قوله ظاهر البطلان في حيز المنع بل هو باطل لأنّ صريح إطلاقهم يدل على خلافه كقول الزمخشريّ والحمد هو الثناء باللسان وحده، وقال في الحواشي الشريفية: ادّعى اختصاصه باللسان لكونه أشبع وأدلّ، فظهر أنّ المراد العضو المخصوص ولو سلم أنه ليس بمراد فليس بمعنى قوة التكلم المذكورة أي لعدم لزوم الإفاضة في حمده لنفسه، وان أراد أنه لاث كون حامد إلا حقيقة ولا مجازا فغير مسلم لجواز إطلاق عليه مجازا كالرحمة، ففي عدم الاحتياج إلى قيد اللسان مناقشة ظاهرة كما أشار إليه الخطابي، وزاد بعضهم فيه على جهة التعظيم ليخرج الهزؤ والسخرية، وقيل لا حاجة إليه أصلاً أما على تعريف الحمد الأول، فلاستغنائه عنه بلفظ اأشناء إذ المتبادر منه ما طابق فيه اللسان الجنان، وأمّا على الثاني فلأن إظهار الصفات الكمالية معتبر فيه قيد الحيثية كما في سائر التعاريف فيخرج ما ذكر، وما قيل أن لفظ الثناء لا يأباه لأنهم فسروه بمطلق الذكر بالخير ليس بشيء على أنه قيل إنّ الوصف على طريقة الاستهزاء ليس وصفة بالجميل حقيقة إذ المستهزىء يريد ضذه على نهج الاستعارة التهكمية وقد يوصف بالجميل ظاهرا بلا قصد للتعظيم ولا للاستهزاء بل حكاية لما يزعمه الموصوف تعريفاً له، وقد فيل أنّ قوله تعالى: {ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ} [الدخان: 49] يحتملهما وهو أيضاً خارج فتدبر. قوله: (على الجميل الاختياري الخ) الجميل ضفة مشبهة من جمل الرجل بالضم والكسر جمالاً فهو جميل وامرأة جميلة وقال سيبويه رحمه الله: الجمال دقة الحسن والأصل جمالة بالهاء كصباحة فخفف لكثرة الاستعمال، وتجمل تجملاً بمعنى تزين وتحسن فالجميل بمعنى الحسن، فتوصف به الذوات والأفعال كما عليه أهل اللغة قاطبة، فما قيل أنّ الجميل هنا صفة للفعل، ولذا ترك في الكشاف قيد الاختياري يرد عليه أنّ معناه اللغوي أعم،

ولذا قال بعض الفضلاء في حواشيه لا دليل على أنه صفة الفعل إلا أن يقال إنه أخذه من الأمثلة، وفبه بحث. وقال قدّس سره: إذا خص الحمد بالأفعال الإختيارية لزم أن لا يحمد الله سبحانه على صفاته الذاتية كالعلم والقدرة سواء جعلت عين ذاته، أو زائدة عليها بل على انعاماته الصادرة عنه باختبار؟ ، اللهم إلا أن تجعل تلك الصفات لكون ذاته كافية فيها بمنزلة أفعال اختيارية، وقيل إنّ الاختياري كما يجيء بمعنى ما صدر بالإختيار يجيء بمعنى ما صدر من المختار، وهو المراد هنا على ما فيه، وقيل إنها صادرة بالاختيار بمعنى إن شاء فعل وان لم يشأ لم يفعل لا بمعنى صحة الفعل والترك فيشمل ما صدر بالاختيار وبالايجاب فالاختيار بالمعنى الأعم، وهو الأوّل والثاني أخص أو هو بالمعنى الأخص، ولا نسلم كون الصفات الذاتية غير صادرة بالاختيار لجواز أن يكون سبق الاختيار عليها ذاتياً كسبق الوجود على الوجوب لا زمانياً حتى يلزم حدوثها، وقيل إنه بالنظر إلى حمد البشر فالمراد ما جنسه اختياريّ كما قيل في قيد اللسان في الثناء، وإن لم يثترط فيه الاختيارية فالأمر ظاهر ولا يخفى عليك ما يتوجه على ما ذكر، أما أوّلها فإنه مع كونه خلاف الظاهر إنما يحسن إذا كان المعتاد في الأفعال الإختيارية كون فاعلها مستقلاً في إيجادها من غير احتياج إلى شيء آخر من آلة وغيرها

ص: 72

ليظهر استقامة تثبيه الصفات الذاتية بها، وتنزيلها منزلتها لذلك وليس كذلك، فإن كل فعل اختياري يحتاج إلى علم فاعله وقدرته، وأكثرها محتاج إلى آلات وأسباب أخر كما ذكر. بعض الفضلاء، وانه على تسليم استعمال الاختياري بالمعنى الثاني لا نسلم اتصاف الصفات الذاتية بالصدور إلا بتكلف يأباه لفظه، وأمّا كونها صادرة بالاختيار بالمعنى الأخص على ما قرّر في الكلام من أنّ الفلاسفة ادّعوا إيجاد العالم بطريق الإيجاب فلزمهم أن لا يكون لموجده إرادة واختيار، وقيل بانهم يقولون بأنه فاعل مختار بمعنى إن شاء فعل الخ. وصدق الشرطية لا يقتضي وجود مقدمها ولا عدمه، فقدم الشرطية الأولى بالنسبة إلى وجود العالم دائم الوقوع ومقدّم الثانية دائم اللا وقوع، ولهذا أطلق عليه الصانع وهو من له الإرادة بالإتفاق وهذا وأن ارتضوه ففي نهاية الطوسي إنه كلام لا تحقيق له لأنّ الواقع بالإرادة والاختيار ما يصح وجوده بالنظر إلى ذات الفاعلى، فإن أريد بالدوام واللا دوام المذكورين أنه مع صحة وقوع نقيضهما فهو مخالف لما صرحوا به من أنه موجب بالذات للعالم بحيث لا يصح عدم وقوعه منه، وان اريد دوامهما مع امتناع نقيضهما فليس هناك حقيقة الإرادة، والاختيار بل مجرّد اللفظ، ومتعلق الإوادة لا محيص عن حدوثه، والعالم عندهم قديم، فما هذا إلا تمويه وتلبيس انتهى. وأيضا ما ذكر من تفسير الاختيار بمختار المتكلمين لا الفلاسفة، مع أنه قد قيل عليه هنا أنه لا يجري في صفة المشيئة، وما يسبق عليها من الحياة والعلم والقدرة، ولذا قال في رسالة الحمد: إنه تكلف لا يتأتى في صفة القدرة، لأنّ صدورها ليس بالاختيار والألزم تقدّم الشيء على نفسه، فما ذكر ليس بحاسم للسؤال، ولا قاطع لمادّة الإشكال ولك أن تدفع ما ذكر باختيار الشق الأوّل، فتقول الصادر عن الموجب بالذات ليس واجبا بالدّات بل باعتبار صدوره عن الواجب

بالذات، وهو في حد ذاته ممكن، وقوله: إنه قديم ليس المراد به القدم الذاتي، فنقول بصحة وقوع نقيضيما وان لم يقع لأنّ صحة الوقوع أعمّ من الوقوع، فإن قلت هذا ظاهر في العالم فما حال الصفات الذاتية، قلت: هي وان لم تكن مخلوقة لأنّ الخلق الإيجاد بعد العدم، فهي ممكنة في حد ذاتها عند بعض المحققين لأنها مستندة للذات ومحتاجة لها، وكل محتاج لغيره ممكن، فليست واجبة بالذات، وان كانت قديمة حتى يلزم تعدد الواجب، وان قيل بعدم امتناعه إذ الممتنع تعدّد ذوات واجبة، وفي التفسير الكبير الذات كالمبدأ للصفات، وهو صريح فيما ذكر، ثم إنه قيل على قول الشريف يلزم أن لا يحمد الله الخ أنه إن أراد أنه يلزم أن لا يحمد مطلقاً عليها حقيقة أو مجازا، فالشرطية بينة البطلان إذ التخصيص بالأفعال الاختيارية إنما هو في المعنى الحقيقيّ، وان أراد أنه يلزم أن لا يحمد حقيقة، فليس لقوله اللهم الخ وجه لأنه يقتضي أنّ هذا الجعل مما يصحح الحمد الحقيقيّ، وليس بصحيح، إذ عليه يكون الحمد مجازيا لأنّ الحقيقيّ ما يكون على الاختيار حقيقة، وهو غير وارد لأنّ مراده قدّس سر. أنه يحمد عليها، وهي غير داخلة في التعريف، فليس بجامع فأدخلها فيه بهذا التأويل، فالتجوّز في التعريف لا المعرّف، ولما كان المجاز في التعاريف فيه ما فيه أشار إلى ضعفه بقوله اللهم، وقد خطأ الرازي في هذا بعض علماء المغرب وأشبعنا الكلام فيه في شرح الشفاء.

واعلم أنّ ما عرّفه المصنف هو الحمد اللغوفي، مورده ص اهـ ومتعلقه عامّ، والشكر اللغويّ ما ينبىء عن تعظيم المنعم على الشاكر فعلاً أو قولاً أو غير ذلك ومورده عام ومتعلقه خاص، والحمد عرفا فعل ما يشعر بتعظيم المنعم من حيث أنه منعم على الحامد أو غيره، والشكر عرفا صرف العبد جميع ما أنعم الله عليه به لما خلق لأجله والنسبة بينها معروفة، والمراد بالعرف هنا عرف اللغة المستعمل، والحق الحقيق بالاتباع أن الحمد اللغويّ لا يكون إلا بالأفعال الاختيارية قال تعالى:{وَّيُحِبُّونَ أَن يُحْمَدُواْ بِمَا لَمْ يَفْعَلُواْ} أسورة آل عمران: 1188 فالحمد بالصفات الذاتية حمد عرفيّ لدلالته على تعظيمه. قوله:) من نعمة أو غيرها (قيل في فذا وفي قوله على علمه إشارة إلى أنه ليس المراد بالجميل الفعل بالمعنى المصدريّ اللهم إلا أن يقال المراد بالنعمة الإنعام بها والعلم بمعناه المصدريّ انتهى. قيل: وفي قوله اللهم إشارة إلى بعد هذا المراد كيف والمنظور إليه في مقام حمد العالم والكريم ما لهما من الكمال الذي تميزا به، وهو الملكة

ص: 73

لا المعنى المصدريّ وان كان له تعلق بذلك الكمال وهو ممنوع ثم إنه استشكل التقييد بالاختيار بقوله تعالى: {عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَّحْمُودًا} [الإسراء: 79] وأجيب بأنه حال من قوله يبعثك أو نعت لمقاما، والمعنى محموداً فيه إليه بشفاعته أو الله لتفضله عليه بالإذن في الشفاعة على الحذف والإيصال، أو هو مما يدّعى فيه قيد الاختيار، وسيأني ما فيه، وقيل: المراد بالنعمة الإنعام مجازاً أو حقيقة لورودها بمعناه أيضاً أو المراد إنعام نعمه بتقدير مضاف.

واعلم أنّ الفاضل ابن المعز قال في بعض تعليقاته إن الاختيار في اللغة كما في المحكم

وغيره بمعنى الانتقاء والاصطفاء يقال خاره واختاره وتخيره فهو مختار والاسم منه الخيرة إذا ارتضاه لكونه خيراً عنده، وأمّا كونه بمعنى الإرادة كما هنا فلم يرد في اللغة، وانما هو من اصطلاح المتكلمين، والمعنى اللغويّ أخص منه ومن لم يتفطن لهذا فسر به قوله تعالى:{وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاء وَيَخْتَارُ} [القصص: 68] وسيأني تحقيقه في سورة القصص. قوله: (والمدح الخ) يعني أنّ الحمد يختص بالثناء على الفعل الاختياري لذوي العلم، والمدح يكون في الاختياري وغيره وفي ذوي العلم وغيرهم كما يقال مدحت اللؤلؤة على صفائها، وفي بدائع ابن القيم الفرق بينهما بأنّ الحمد يتضمن العلم بما يثني به على الكمال بخلاف المدح فهو أعم منه، ولذا لم يرد في الكتاب والسنة حمد الله فلانا كما جاء مدحه وأثنى عليه، فهو لا يحمد إلا نفسه، وردّ بأنه غير مسلم، وقد ورد ما أنكره كما في الأثر أنه صلى الله عليه وسلم شضيّ محمدا لأن الله وملائكته حمدوه، فالصحيح أنّ الأخبار عن محاسن الغير إن أفرد بالصحبة والإجلال فحمد، والا فمدح، ولذا كان الحمد خبرا يتضمن إنشاء، والمدح خبر محض وتسمح من فسره بالرضا والمحبة وان لم يمنع حمد الله لعباده، فإن ذلك بحسب ما يضاف له فهو من الله إكراما وإلقاء لإجلاله في قلوب خلقه انتهى. وكون العلم اختياريا لحصوله باستعمال الحواس ونحوها وكذا الكرم إن كان بمعنى الإعطاء، وكذا إن كان بمعنى السخاء بناء على أن الملكات كسبية فإن كان بمعنى الشرف كما ورد إطلاقه عليه فلا يلزم كونه اختياريا إلا بتكلف، ولذا حمل هنا على الأوّلين، وما قيل من أنّ المراد بالاختياري هنا ما للاختيار مدخل في تحققه في بعض المواد وما من شأنه ذلك، ويؤيده ما ذكره المصنف رحمه الله فإنّ العلم كيفية انفعالية فائضة بفضل الله وليست من الأفعال الاختيارية لنفس، وكذا الكرم فأنه غريزة مجبول عليها لا يناسب المقام لعوده على الفرق بما ينافيه فتدبر. قوله:(ولا تقول حمدته على حسنه بل مدحته) فلا يلزم أن يكون المدح اختياريا ولم يتعرض لوقوعه في الاختياري لأنه ليس محلَا للنزاع قيل: ثبوت مدعاه من عدم الترادف متوقف على صدور ما ذكر عن البلغاء الموثوق يهم، وهو غير ظاهر مع أنّ الترداف لا يقتضي استعمال كل منهما حيث يستعمل الآخر وليس بلازم كما صرحوا به، ولا يخفى أنه ناف لا مثبت حتى يطالب بالاستعمال، وعدم وقوع أحد المترادفين موقع الآخر من غير مانع ما غير ظاهر، ولا يرد عليه الحمد الذاتي لله لأنه بمعنى استحقاقه له بجميع صفاته من غير تعيين، ولما كانت ذاته كافية في اتصافه بها جعل ذاتياً كما ذكره الشريف وسيأتي تحقيقه إن شاء الله. قوله:(وقيل هما أخوان) هذا ردّ على الزمخشري: بناء على فهمه منه، وقد قال السعد في شرحه إنّ الشائع في كتب العلامة أنه يريد بكون اللفظين أخوين أن يكون بينهما اشتقاق كبير بأن يشتركا في الحروف الأصول من غير ترتيب أو أكبر، بأن يشتركا في أكثر الحروف مع اتحاد في المعنى، أو تناسب كما مرّ، وقال الشريف: المراد

أنهما مترادفان، والترادف بعدم اعتبار قيد الاختياو فيهما أو باعتباره فيهما، وهذا هو المراد وإن ذهب بعضهم إلى الأوّل ويدلّ على ذلك أنه قال في الفائق الحمد هو المدح والوصف بالجميل، وأنه جعل ههنا نقيض المدح أعني الذمّ نقيضاً للحمد، فإن قيل نقيض المدح هو الهجو دون الذمّ قلنا المدح يطلق على الثناء الخاص، وهو الوصف بالجميل ويقابله الذمّ، وقد يخص بعدّ المآثر ويقابله الهجو أي عدّ المثالب وكلامنا في المعنى الأوّل ثم أيده بأنّ ما ذكره أوجب حمل الأخوة على الترادف وبأنه قال في الكشاف في تفسير قوله تعالى:{وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ} [الحجرات: 7] إنّ المدح لا يكون بفعل الغير، وتأوّل التمدح بإجمال وصباحة الوجه، فالمدح أيضاً

ص: 74

مخصوص بالاختياري عنده وتركه اعتماداً على الأمثلة، والجميل الفعل وهو ما يكون بالاختيار، وقد نوقش بأنّ الأدباء يجوّزون التعريف بالأعم، والنقيض في كلامه بمعناه اللغويّ، ويجوز أن يكون شيء واحد نقيضاً لشيئين بينهما عموم وخصوص بهذا المعنى، وهذا مراد القاضي رحمه الله بقوله الذم نقيض المدح مع أنه أخص من المدح عنده فئهون الذمّ نقيضاً لهما لا يدل على إتحادهما إلا أنها مع سوق كلام الكشاف قرينة ظنية على الترادف كافية في المطلوب، وقيل على هذا إنّ الواجب أن يحافظ في كل مبحث على ما هو وظيفته فلا يطالب في الظنيات باليقين، ولا يكتفي في اليقينيات بالظن، ومثل هذا المقام من الظنيات، والظاهر الغالب من التعريف بيان أصل المفهوم والتعريف بالأعئم، دمان كان جائزاً لكنه نادر بالنسبة لغيره، فالمطلق لا ينصرف إلا لبيان تمام المفهوم والنقيض وإن كان بالمعنى اللغويّ بمعنى المقابل الذي لا يجتمع مع الشيء فالظاهر عدم كون شيء مقابلَا للأمرين ولولا هذا لأمكن أن يكون مراد الزمخشريّ بالأخوين المتشابهين فإن الأخوّة شاعت في المشابهة كما في الفائق أيضاً، وما ذكر من مقابلة المدح بالذمّ لا يعارضه قول أبي تمام:

كريم متى أمدحه أمدحه والورى ~ معي ومتى ما لمته لمته وحدي

فإنه مدخول وعدل عن مقابلته به إشارة إلى أنه لا يمكن ذمه، فإن قلت كيف ينكر المدح

على غير الاختياري، وقد قال البحتري في مدح شفيع، وهو ممن يستشهد بكلامه في المعاني: حاز شكري وللرياح اللواتي ~ تحلب الغيث مثل مدح الغيوم

وقال آخر:

أرح المسك مدحة الغزلان

ومثله أكثر من أن يحصى، فكيف يسمع ما قيل من أنّ مثال اللؤلؤة مصنوع.

(قلت) وروده في كلام الموثوق به لا يمكن إنكاره، فمن أنكره يقول إنه وأمثاله من قبيل التمثيل والتنزيل، نعم هو مخالف لما قاله علماء البلاغة، فقد قال الآمديّ في الموازنة وناهيك به ما نصه: جمال الوجه وحسنه مما يتمدح به لأنه يتيمن به، ويدل على الخصال الممدوحة، والدمامة يذمّ بها لعكس ذلك، وقد غلط فيه من ظن أنه لا ينبغي أن يذكر في مدح العظماء

انتهى. مع أنه يقتضي أنه لم ينكر مطلقا وإنما أنكر مدح عظماء الرجال به دون النساء ونحوهن فتفطن له، وانما مرّض المصنف رحمه الله قول الزمخشري إنهما أخوان لجزمه بأنه أراد الترادف كما ذهب إليه السيد السند. قوله:(والشكر الخ) الواقع في النسخ عطف العمل وقرينه بالواو، وهو المرويّ عن المصنف رحمه الله في الحواشي، وقيل إنه وقع في بعضها أو بدل الواو، وهما بمعنى لأنّ الواو بمعنى أو هنا كما يدل عليه قوله بعده أعمّ إذ المعنى أنّ الشكر كل ما أنبأ عن تعظيمه سواء كان ثناء باللسان وخضوعاً بالأركان أو محبة واعتقادا بالجنان وقولاً منصوب بنزع الخافض أي بالقول، وما قيل من أنه كان الظاهر أن يقول المصنف مقابلة القول، والعمل والاعتقاد بالنعمة إذ يقال قابلت كتابي بكتابه لا وجه له، وما مثل به ليس من كلام العرب الموثوق بهم بل من استعمال المولدين والمفاعلة تنسب لكل من الطرفين على حدّ سواء، ولو سلم ما ذكره فلك أن تقول إضافنه للنعمة لأدنى ملابسة.

وقولا مفعوله وأصله مقابلة القول بالنعمة ويجوز أن يكون تمييزاً أو خبر كان مقدرة، والتقدير سواء كانت قولاً الخ ثم إنه قال: المراد بالقول، وأخويه الحاصل بالمصدر فيوأفق ما قيل إنه فعل ينبىء عن تعظيم المنعم سواء كان عملاً أو لا، فإن المراد بالقول والعمل فيه المعنى المصدري وأمّا الاعتقاد فجعله شكرا على التسامح والمراد تحصيله ويصدق على المعنى المصدريّ أنه مقابلة النعمة بالمعنى الحاصل بالمصدر، والواو بمعنى أو لما مرّ ولأنه لا يقال لأجزاء الشيء شعبه بل لأقسامه ومعنى مقابلة النعمة الخ أنه يثنى على المنعم بلسانه ويدأب في الطاعة له ويعتقد أنه وليّ النعمة، وقيل لا يكفي الاعتقاد بل لا بد من انبعاث محبته وتعظيمه له في القلب انتهى. وقيل عليه أنّ صيغة المصدر تطلق حقيقة على كون الذات بحيث صدر عنها الحدث، وبهذا الاعتبار يسمى المبنيّ للفاعل، وعلى كونها بحيث وقع عليها، وبهذا الاعتبار يسمى المبنيّ للمفعول، وعلى نفس ذلك الحدث الصادر عنها، وبهذا الاعتبار

ص: 75

يسمى الحاصل بالمصدر، وهو المفعول المطلق كما في الرضى. وحاصل كلامه أنه حمل هذا التعريف على التعريف المشهور بحمل القول والعمل في كلام المصنف رحمه الله على الحاصل بالمصدر، وفي المشهور على المصدر المبنيّ للفاعل، واذعى كون المقابلة بالفعل والقول صادقة على المعنى المصدرفي، ويرد عليه أنّ تفسير الفعل المنبىء عن تعظيم المنعم بالكون الذي هو من الاعتبارات العقلية، والعدول عن الحاصل بالمصدر الذي هو أمر موجود في الخارج مشاهد واضح الدلالة على التعظيم غير مرضيّ، فما معنى قوله ويصدق الخ. وحمل المقابلة بالفعل والقول على أضدادها خروج عن الجادّة من غير ضرورة، ولا فائدة، والمعتبر في الشكر اللغويّ وصول النعمة إلى الشاكر، ولذا قالوا: إنه عين الحمد العرفي لو اعتبر فيه أيضا وصول النعمة للحامد، وأخص منه إن لم يعتبر، ويشترط فيه موافقة القول والعمل للاعتقاد، والشكر الجنانيّ كما قال قدّس سره: إنه اعتقاد اتصاف المنعم بصفات الكمال، وهو من حيث إظهاره أو إظهار ما يدل عليه تعظيم للمنعم مستلزم لمحبته ظاهراً فلا يرد عليه ما قيل من أنّ الظاهر أن يقال: إنه محبة المنعم لإنعامه إذ العدوّ قد يعتقد اتصاف عدوّه بالكمال، ولا يعد بمجرّد ذلك شاكراً.

(أقول) ما ذكره القائل مبنيّ على ما أسسه في مقالته المعقودة لبيان المصدر، والحاصل بالمصدر، وهو كلام مموّه بينا ما له، وما عليه ثمة، والذي عناه الفاضل الليثيّ أنّ مدلول المصدر الفعل، والتأثير نفسه، ويطلق حقيقة على أثره، وهو الحاصل بالمصدر، فإنهما كشيء واحد تعدد بتعدّد محله فباعتبار تعلقه بالفاعل تأثير، وبالمفعول تأثر وأثر، ونظيره ما قيل إنّ التعليم والتعلم واحد، وبهذا عرفت سقوط ما أورد عليه برمّته نعم في كلامه نظر آخر، لأنّ قوله إنه لا يقال لأجزاء الشيء شعبه غير مسلم، وما ذكره من التسامح منشؤه، كما قيل ذكر الفعل في تعريفه، وقد قيل إنهم أرادوا به الأمر الحادث لا التأثير، فيشمل الاعتقاد وفيه تأمّل. قوله:(أفادتكم النعماء الخ) هذا البيت لم يذكر أصحاب الشواهد قائله ولا ما قبله وما بعده، وفي بعض الحواشي أنه لأعرابيّ أتى علياً رضي الله عنه سائلَا، فأعطاه درهماً فلما استقله ولم يكن عند غير درع له ناوله إياها فامتدحه بشعر هذا من جملته، ولست على ثقة منه، وأفاد من الفائدة، وهي الزيادة تحصل للإنسان، ومعناه أعطى يقال أفدته ما لا إذا أعطيته، وأفدت منه ما لا أخذت، وكرهوا أن يقال أفاد الرجل ما لا إفادة إذا استفاده، وبعض العرب تقوله كما في المصباح، والنعماء بفتح النون والمد بمعنى النعمة فاعل أفاد وثلاثة مفعوله ويدي وما عطف عليه بدل منه، ومني متعلق بأفاد أو حال من ثلاثة متقدمة عليها لكونها نكرة واليد واللسان معروفتان ويتجوّر بهما عن معان مشهورة أيضا، وضمير الإنسان قلبه وباطنه ونيته المضمرة في قلبه، ويجمع على ضمائر على التشبيه بسريرة وسرائر، وحقه أن لا يجمع عليها والمحجب بمعنى الخفي وسيأتي معنى توصيف الضمير به، وقال الشارح المحقق: المراد التمثيل لجميع شعب الشكر لا الاستشهاد والاستدلال على أنّ لفظ الشكر يطلق عليها.

وقال قدس سره: هو استشهاد معنويّ على أنّ الشكر يطلق على أفعال الموارد الثلاثة،

وبيانه أنه جعلها بإزاء النعمة جزاء لها متفرعا عليها، وكل ما هو جزاء للنعمة عرفا يطلق عليه الشكر لغة، ومن لم يتنبه لذلك زعم أنّ المقصود مجرّد التمثيل لجميع شعب الشكر لا الاستشهاد على أن لفظ الشكر يطلق عليها، فإنه غير مذكور، وما يقال من أن الشاعر جعل مجموعها بإزاء النعمة، فيستفاد منه أنه يطلق عليه لا على كل واحد منها، فجوابه أنه لا شبهة في إطلاقه على فعل اللسان حتى توهم كثير اختصاص الشكر لغة به، وإنما الاشتباه في إطلاقه على فعل القلب والجوارح فلما جمع مع الأوّل علم أن كلا شكر على حدة، فكأنه قيل كثرت نعماؤكم عندي وعظمت، فاقتضت استيفاء أنواع الشكر، وبولغ في ذلك حتى جعلت مواردها واقعة بإزاء النعماء ملكا لأصحابها مستفاداً منها، وفي وصف الضمير بالحجب إشارة إلى أنهم

ملكوا ظاهره وباطنه انتهى. وقد قيل عليه إنّ المقدمة الأولى ظاهرة لا تحتاج لإثبات بمثل هذا الشعر والثانية غير مسلمة لما في التيسير وغيره في الفرق بين الحمد والشكر من أنّ الأوّل بالقول، والثاني بالعمل وقيل الأوّل على النعم الظاهرة، والثاني على الباطنة، وقال الراغب:

ص: 76

الشكر هو الثناء على المحسن كيف، وقد ذكر هو أنّ كثيراً من الناس ذهب إلى تخصيص الشكر باللسان، ومثله لا يندفع بمجرّد دعوى القائل من غير دليل، ويرد عليه أيضاً أنّ كون المقدمة الأولى ظاهرة في غاية الخفاء لاحتمال أن يكون مراد الشاعر أنكم ملكتم بإحسانكم ظاهري، وباطني، وأسرتموني جملة، فلا قدرة لي على مفارقتكم كقول بعض العرب علي يدا مطلقها، وأرق رقبة معتقها، ومنه أخذ أبو تمام قوله:

هممي معلقة عليك رقابها ~ مغلولة إنّ العطاء أسار

وسرق منه السارق أبو الطيب فقال:

ومن وجد الإحسان قيدا تقيدا

وأيضا قوله يدي لا يدل على مدعاه من تعظيم الأركان والجوارح لأنها إن كانت بالمعنى الحقيقيّ لم يفده، فإنه تجوّز بها عن الإنعام على أنّ المراد مكافأة نعمهم كما قيل، فمثله قد لا يعد شكرا ألا ترى أنّ من وهبك برداً، فأعطيته ضعف ثمنه لا يقال إنك شكرته بل ربما يشعر ذلك بعدم قبول منته وارتضائه منعما، ولذا عد الفقهاء الهبة المعوّضة بيعاً، وقيل ابتغاء العوض ربا وتجارة، ولا يكون كذلك إلا إذا كانت مجازاً عن القوة أو التصرف، كقوله تعالى:{بِيَدِهِ الْمُلْكُ} [الملك: 1] والمراد المنع والدفع عن المنعم والثناء عليه، والعزيمة على ذلك من صميم فؤاده لخلوص طويته فيكون حينئذ شاكراً له فتنبه له، فإنهم لم يتعرّضوا لتفسير اليد بما يؤيدهم، فإن كان المجموع تمثيلاً أو كناية عن تملكه بأسره، فإن الإنسان عبد الإحسان، كانت على ظاهرها وفي ترتيبه نكتة حسنة حيث بدأ باليد التي هي من الأعضاء الظإهرة وثنى باللسان الذي هو واسطة بين الظاهر والباطن، وأتبعه القلب الخفيّ، ووصفه بما يدل على ذلك، ففي كون اليد والاعتقاد والعمل مما اعتبره الشاعر جزاء للنعمة نظر لا يخفى، وقد قيل عليه أيضا إنّ المدعى هنا إطلاق الشكر على الموارد الثلاثة، وقد جعل هذا المذعى جزأ من إثبات الاستشهاد، وهو دور ظاهر وقيل عليه مصادرة أيضا، ؤردّا بأن ما جعل جزأ لإثبات الاستشهاد كلية مشتملة على الدعوى اشتمال الكبرى الكلية في الشكل الأوّل على المطلوب، ومثله لا ضير فيه كما توهم، وقيل الدعوى يتوقف ثباتها على الاستشهاد وجعلها جزا لإثباته لا يستلزم الدور نعم جعلها جزأ لنفس الاستشهاد أي ذكرها فيه لا في إثباته يستلزم الدور، والفرق واضح على أنه لم يجعل الدعوى جزأ لإثبات الاستشهاد أيضا إثباته بأنّ البيت ذكر لإثبات إطلاق الشكر على الأفعال المذكورة وكل ما هو كذلك يكون استشهاداً، أقا

الكبرى فظاهرة، وأمّا الصغرى فلأن كلا من الثلاثة جزاء للنعمة، وكل ما هو جزاء لها شكر، فالدعوى مقدّمة لدليل صغرى إثبات الاسنشهاد، وأمّا العلاوة فمندفعة كيف، وكون الشكر عبارة عن مقابلة النعمة أظهر من أن ينكر، ولو سلم فغاية ما لزم العلامة إيراد النقل وقول الطيبي مع ورود هذا المعنى في اللغة وشيوعه غير مسموع. وقوله:(توهم كثيرا الخ) كيف يصير منثأ للتعجب مع تصريحه بأنه مردود عنده بل ربما يعلم منه عدم صحة الاستشهاد بقول الطيبي أيضاً، وقيل فيه نظر.

أمّا أوّلاً: فقوله وجعلها جزا لإثبات الاستشهاد لا يستلزم الدور باطل كيف، والاستشهاد موقوف على جعله والدعوى متوقفة على الاستشهاد والمتوقف على المتوقف متوقف.

وأما ثانياً: فلان قوله نعم الخ فاسد إذ لا فرق بينهما في استلزام الدور غايته أنه يزيل

مرتبة التوقف على الأوّل.

وأمّا ثالثاً: فلانّ قوله على أنه لم يجعل الدعوى الخ تطويل بغير طائل، إذ غايته أن يكون المدّعى جزا لإثبات مقدّمة من دليل الاستشهاد، وهو لا يدفع الدور إذ معنى الدور متحقق بل يحصل التوقف مرّة أخرى.

وأمّا رابعاً: فلما في قوله وأمّا العلاوة الخ إذ اندفاعها لا يظهر مما ذكر.

وأما خامساً: فلما في قوله كيف، وكون الشكر الخ لأنه إن أريد أنه بديهيّ، وهو أمر لغويّ نقليّ لا مجال للعقل فيه فهو مما لا يقوله عاقل ودعوى ظهوره بعد مخالفة كثير من العلماء كصاحب التيسير والمرزوقي في شرج الحماسة وغيرهم من العلماء الأعلام محل تعجب، وجعل السيد له توهماً لا يوجب عدم الاعتداد به في الواقع، وفيه كلام تركناه لطوله، وسنورده في تعليقه مستقلة فتدبر. قوله:(فهو أعغ الخ) أي الشكر أعم من الحمد والمدح من وجه، وهو المورد وأخص من وجه آخر وهو المتعلق فبينه وبينهما عموم وخصوص وجهيّ، ثم لما جعل في الحديث " الحمد رأس الشكر "(1) وهي جزء يتبادر مته كونه

ص: 77

أعمّ منه أو مساويا له كما هو شأن الخبر، وكذا قوله ما شكر الله عبد لم يحمده لأق الأعنم من وجه لا يلزم من انتفائه انتفاؤه أشار إلى دفعه بقوله: ولما كان الخ. فهذا جواب عن سؤال مقذر. قوله: (من شعب الشكر) جمع شعبة كغرف جمع غرفة من تشعب بمعنى تفرق ويكون بمعنى تجمع فهو من الأضداد وأصل الشعبة الخشبة المشعبة وقال شمر: الشعبة من كل شيء القطعة، والطائفة فهي لغة تكون للأجزاء، والأقسام، فتخصيصها هنا بالثاني إن كان عرفياً فمسلم.

قال قدّس سره: وهو إحدى شعب الشكر باعتبار المورد وإن كان الشكر إحدى شعبه باعتبار المتعلق، وعبر عن الأقسام بالشعب لتشعبها من مقسمها، فإذا لم يعترف العبد بإنعام المولى، ولم يبن عليه ما دلّ على تعظيمه لم يظهر مته شكر ظهورا كاملَا، وان اعتقد وعمل لم يعدّ شاكرا، لأن حقيقة الشكر إظهار النعمة والكشف عنها، كما أنّ كفرانها إخفاؤها وسترها، والاعتقاد أمر خفيّ في نفسه وعمل الجوارح، وإن كان ظاهراً إلا أنه يحتمل خلاف ما يقصد به إذا لم يعين له بخلاف النطق، فإنه ظاهر في نفسه، ومعين لما أربد وضعا فهو الذي يفصح عن كل خفيّ، فلا خفاء فيه، وعلى كل نسبة، فلا احتمال له، وكما أنّ الرأس أظهر الأعضاء، وأعلاها وعمدة لبقائها كذلك الحمد أظهر أنواع الشكر وأشملها على حقيقته، حتى إذا فقد كان ما عداه بمنزلة العدم انتهى.

فجعل أنواع الشكر بمنزلة الجسد والحمد بمنزلة رأسه لما ذكره، ولما كان المقصود بالتشبيه كونه عمدة البقاء مع العلوّ والظهور خص دون القلب كما لا يخفى، فلا يرد عليه ما قيل إنّ العمدة القلب إذ لو لم يوافقه اللسان لا يكون القول معتبراً ولا يعتدّ به، ولا حاجة إلى قوله ويمكن أن يقال جنس الحمد رأس الشكر لكونه من اللسان الذي اعتبره الشارع في مقام الإظهار، وقيل إنه عليه الصلاة والسلام شبه الشكر بشجرة لأنه مشتمل على أمر خفيّ به قوامه وصلاحه وهو الاعتقاد، وعلى أمر ظاهر وهو القول، وعلى متوسط بينهما وهو العمل فقال " الحمد رأس الشكر " فذكر الشكر استعارة بالكناية واثبات الرأس تخييل، فقصد الردّ عليه لملاءمة الشعب لما ذكره، وهو لم يقع في الحديث مع أنه يطلق على ما بين القدمين أيضاً، والحديث يدل على عدم وجود الشكر بدون الحمد، وما ذكره لا يناسبه، وفي قوله ذكر الشكر الخ تسامح ظاهر، فلا وجه لتخطثته فيه والقول بأنه اصطلاح جديد. قوله:(أشيع للنعمة وأدلّ على مكانها) أشيع بمعنى أكثر إشاعة، وإظهاراً من بقية شعبه وأقسامه، وهذا بناء على مذهب سيبويه في جواز أخذ أفعل التفضيل من الأفعال المزيدة، وعليه الرضى لكثرته استعمالاً والجمهور على أنه نادر موقوف على السماع، ولك أن تقول لا حاجة لهذا لأنه من شعت الشيء كبعته ة ذا أظهرته كما في القاموس، ولم يتعد بالباء بل باللام لأنه أفعل تفضيل يطرد تعديته بها كما فصله النحاة وكان الأظهر أن يقول للتعظيم بدل قوله للنعمة لأن الحمد لا يلزم أن يكون في مقابلتها، وأدلّ بمعنى أظهر دلا أت، ومكان النعمة المراد به النعمة على طريق الكناية، كما يقال المجلس العالي كناية عمن هو فيه، ولفظة مكان مقحمة لورودها كذلك في كلام العرب كقول الشماخ:

وماء قد نقيت به بكوراً ~ مكان الذنب كالرجل اللعين

أو مكان النعمة المنعم عليه، وأمّا كونه مصدراً ميمياً بمعنى الكون، والثبوت فبعيد وبين الأظهرية بقوله لخفاء الخ. قوله:(وما في إدآب الجوارح من الاحتمال) الإدآب بالهمزة والدال المهملة، وآخره موحدة كالاتعاب وزناً ومعنى، والدأب بمعنى العادة منه، والجوارح أعضاء الإنسان لأنه بها يكتسب مأخوذ من جرح بمعنى اكتسب، ومنه جوارح الطير لما تصيد منه، وهذا صريح في أنّ دلالة الألفاظ على المعاني أقوى من دلالة الأفعال عليها لما ذكره قيل وفيه نظر لأنّ من الأفعال ما يدل على المعنى المراد منه دلالة قطعية لا يتطرّق لها شبهة، واحتمال فطعاً، فإن حمل الشخص مراراً للثقيل يدل على قدرته على ذلك قطعا واشتغاله بصنعة يدل على علمه بها وادارتها بلا احتمال، ويشهد له المثل لسان الحال أنطق من لسان المقال بخلاف الألفاظ، فإنه ليس شيء منها يخلو من احتمال الاشتراك ولتجوّز والزيادة والنقصان نعم يصير بعضها قطعيا فيما يراد منه بواسطة قرينة فأمّا ينفسها فلا، وكذا قيل إنّ المدلول يتخلف عن الدال

ص: 78

في القول ولا يتخلف في الفعل ولا يخفى أنّ ما ذكر من احتمال التجوّز خلاف الظاهر كالاستهزاء، وأمّا الأفعال فقلما يخلو شيء منها من الاحتمال، وما ذكر من الأمثلة إنما صار قطعياً لط احتف به من قرائن الأحوال، وكيف يدعى أنّ الأفعال أدلّ من الأقوال، والمرإد من المدلول هنا تعظيم المنعم ونحوه، وأعظم أفراده تعظيم الله بحمده وشكره، وأعظم أفعاله العبادة، وكلها موافقة للعادة كقيام الصلاة، وجلوسها والذهاب للحج ومباشرة أركانه، وما منها إلا والاحتمال فيه أظهر من أن يخفى بخلاف حمدت الله وشكرته وعظمته ومجدته، ولا احتمال فيه لولا التعنت والمكابرة، وما ذكر من المثل أمر ادّعائي كما هو المعروف في أمثاله، ولذا قال بعض المتأخرين في دفع ما ذكر أنّ دلالة القول على التعظيم الذي منشؤه الإنعام أظهر، فإنّ الة حل، وإن دل على التعظيم لكنه لا يدل من هذه الحيثية، والأظهر أنّ الحمد اللساني لما تحقق بذكر النعمة دون غيره، وذكر النعمة أتم في إشاعتها كان أدل انتهى. والاحتثال افتعال من الحمل تقول حملتة المتاع فاحتمله تجوّزوا به عن جواز أمرين، أو معنيين فكثر، وليس من كلام العرب، وفي الأساس من المجاز هذه الآية تحتمل وجهين، وفي المصباح الاحتمال في اصطلاح الفقهاء والمتكلمين بجواز استعماله بمعنى الوهم، والجواز فيكون لازماً وبمعنى الاقتضاء، والتضمن فيكون متعديا مثل احتمل أن يكون كذا واحتمال الحال وجوها كثيرة انتهى. قوله:(فقال عليه الصلاة والسلام الحمد رأس الشكر الخ) هذا الحا. يث رواه عبد الرزاق من طريقة الديلمي عت معمر عن قتادة عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما وانكار الطيبي له، وقوله لم يوجد في الأصول لا يلتفت إليه، وفيه دليل على أنّ الشكر يكون بغير القول كما في قوله تعالى:{اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا} [سبأ: 13] فلا عبرة بما قيل إنه غير لغويّ، ومنه علم وجه كونه أعمّ من وجه كما مرّ فتدبر. وقوله: <ما شكر الله من لم يحمده> أي لتفويته ما هو العمدة في الشكر مع تيسير مع غير تعب، ولأنه إذا لم يعترف

العبد بإنعام مولاه ويثنى عليه لم يظهر منه شكر ظهوراً تاما، وإن اعتقد أو عمل لا يعذ شاكرأ لأن حقيقة الشكر إظهار النعمة، كما أن الكفران سترها.

) قلت) سئل عن الحديث السخاوي فقال بعدما مرّ إن فيه القطاعا بين قتادة وابن عمر، ولكن له شاهد عند ابن السني والديلمي أيضا من طريق يزيد بن الحباب عن عمر بن عبد الله بن أبي خثعم عن يحيى بن أبي كثير عن أنس قال: قال رسول الله كلاقي: " إنّ إبراهيم سأل ربه فقال يا رب ما جزاء من حمدك قال الحمد مفتاح الشكر والشكر يعرج به إلى عرس رب العالمين قال فما جزاء من سبحك قال لا يعلم تأويل التسبيح إلا رب العالمين ") 1 (وهو منقطع أيضا.

واعلم أنّ في قوله رأس الحمد استعارة مكنية وتخييدية لأنه حقيقة الشكر إشاعة النعم والكشف عنها، فجعل بمنزلة شخص يعاون وظهوره برأسه، ونظيره مفتاح الشكر فاعرفه. قوله:(والذمّ نقيض الحمد الخ) أمّ الثاني: فظاهر قال تعالى: {لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} [إبراهيم: 7] لأنه إظهار النعمة والكفران جحودها وسترها وهذا بناء على أن أصل معناه أظهر كمقلوبه كشر إذا أظهر أنيابه، وقيل: معناه الإمتلاء. ومنه عين شكرى أي ممتلئة، وأمّا الأوّل فلأنه الثناء بالجميل، وذكر المحاسن والذمّ ذكر القبائح وكذا المدح، فإطلاق الذمّ في مقابلته مشهور، وأمّا المدح بمعنى عد المناقب فمقابله الهجو بمعنى عذ المعايب والمراد بالنقيض المنافي، ومنافي العام منافي للخاص، فلا يرد أنه مقابل للمدح، والمثشف رحمه الله غير قائل بترادف المدح والحمد، فكيف ذكر أنه نقيض الحمد، ومن وهم أنّ اشتهار الذمّ في مقابلة المدح يبطل كونه نقيض الحمد، أو كون المدح أعنم من الحمد فقد وهم، وقد مال قدس سره إلى أنّ اتحاد نقيضهما يقتضي ترادفهما كما مرّ، وقد قيل عليه أيضا إنه إن أراد بالنقيض متعارف أرباب الميزان، فظاهر أنّ الذم ليس نقيضا للحمد بذلك المعنى إذا ليس هو رفعه لوجود رفعه في صورة السكوت بدون الذمّ، وان أراد معنى الضد، فلا يلزم أن يكون للشيء ضد واحد غير متعدد البتة إن أراد به الضد المشهور، وان أراد الضد الحقيقي المعتبر فيه غاية الخلاف، فلا نسلم ذلك أيضا، وما ذكره الحكماء من أنّ ضدّ الواحد إذا كان حقيقيا يكون واد غير مسلم عند المتكلمين والحكماء

ص: 79

لا يقولون بثبوته بالبرهان القاطع بل يدعون فيه الإستقراء، وهذا كله تعسف وتنزيل كلام اللغويين على مدعي الحكماء حرزة، والنقيض عند اللغويين كما مرّ المقابل المنافي، فلا حاجة لشيء مما ذكر. قوله:) ورفعه بالابتداء الخ) كون العامل الإبتداء هو القول الأصح المشهور، وذكر هذا الإعراب مع ظهوره إمّا لدفع ما يتوهم من أنّ المجرور معمول المصدر واللام للتقوية، فذكر رفعه بالابتداء ليتعين

لشهاب لم ج ا / م 9

أنّ لله خبره و) يربط به ما بعده، وقيل إنه لدفع توهم رفعه بفعل محذوف مجهول أي حمد الحمد مع أنه أوفق بأصله، ولا يخفى فساده وقيل الأولى أن يقال إنه للتنبيه على أنّ الحمد يستحق التقديم على لله باعتبار الحال والأصل، وتوهم كون الظرف أو المجرور معمولاً للحمد يرتفع ببيان كون لله خبراً ولا دخل للتعرّض لرفع الحمد إلا أن يقال التعرّض لرفعه لتوطئة بيان الخبرية، وهي لدفع التوهم المذكور، وكله على طرف التمام. قوله:(وأصله النصب الخ) قال سيبويه: من العرب من ينصب المصادر بالألف واللام، ومن ذلك الحمد لله ينصبها عامّة بني تميم وكثير من العرب، وسمعنا العرب الموثوق بهم يقولون العجب لك، فتفسير نصب هذا كتفسيره حيث كان نكرة، كأنك قلت حمداً وعجباً، ثم جئت بلك لتبيين معنى من يعني، ولم تجعله مبنياً عليه فتبتدىء به، وقولك الحمد لله والعجب لك والويل لك، إنما استحق الرفع لأنه صار معرفة، فقوي في الابتداء بمنزل عبد الذ انتهى. وفي شرح السيرافي دخل الألف واللام المصدر حسن الابتداء به، كما في الحمد لله والويل لك، فإذا أنكر ضعف الابتداء به، إلا أن يكون فيه معنى المنصوب نحو سلام عليكم، وخيبة لزيد مما يدعى به، ويجوز فيه النصب والرفع ويجري مجرى المنصوب في حسنه، وان كان الابتداء بنكرة، وليس كل ظرف يفعل به ذلك، كما أنه ليس كل حرف يدخله الألف واللام، فلو قلت السقي لك والرعي لك لم يجز إلا عند الجرمي والمبرد لأنه لم يسمع، والحمد دلّه وان ابتدىء به ففيه معنى المنصوب وهو إخبار فإذا نصب فمعناه أحمد الله حمداً، واذا رفع فكأنه قال: أمري وشأتي فيما أفعله الحمد لله هذا زبدة ما في الكتاب وشرحه في باب كسره عليه، وهو مأخذ الزمخشريّ وعليه اعتماده.

وقال قدّس سوه: إنما كان أصله النصب، لأنّ المصادر أحداث متعلقة بمحالها، فيقتضي

أن تدل على نسبتها إليها، والأصل في بيان النسب والتعلقات هو الأفعال، فهذه مناسبة تستدفي أن يلاحظ مع المصادر أفعالها لفظاً، فتسدّ مسدّها وتستوفي حقها لفظاً، ومعنى فلا يستعملونهما معا ويجعلون ذكر أفعالها، كالشريغة المنسوخة في أنه خروج عن طريقة معهودة إلى طريقة مهجورة يستنكرها المتدين بعقائد اللغة، ولا يرد عليه ما قيل من أنه لا يدل على أنّ أصله النصب بل على أنّ المقام مقام الأتيان بالجملة الفعلية لأنه حينئذ إذا أتى بمصادرها كان حقها النصب كما سمعته عن سيبويه، وقراءة النصب هنا شاذة منسوبة لهرون بن موسى العتكي، والقراءة الشاذة يستدل بها النحاة، والنصب على المصدرية بفعل محذوف تقديره نحمد بنون الجماعة لأنه مقول على ألسنة العباد ومناسب. لقوله: (نعبد ونستعين الا بنون العظمة لعدم مناسبته لمقام العبادة المقتضي لغاية التذلل والخضوع وليس مفعولاً به بتقدير اقرؤا، وأن جوّزه بعضهم لما مرّ، وقراءة الرفع أولى لدلالة الجملة الإسمية على الدوام والثبوت بقرينة المقام بخلاف الفعلية فإنها تدل على التجذد والحدوث، واذا كان الخبر ظرفاً

فإن قدّر متعلقه اسماً فهو ظاهر، وإلا فقيل الخبر الفعل إنما يفيد الحدوث إذا كان مصرّحاً به مع إنه قيل إنّ المعدولة تفيد ذلك مطلقاً فيفيد العدول، والتعريف بلام الاستغراق ثبوت الحمد الشامل لجميع أفراده لله تعالى، وإلى هذا أشار المصنف فيما بعده، وهو قوله وإنما عدل عنه إلى الرفع الخ. وقد شرحناه على وجه يعلم منه مراده إجمالاً وسنفصله ونحققه على أتم وجه. قوله:(على عموم الحمد) قيل إنّ هذا على تقدير أن تكون اللام في المبتدأ للعموم، وفيه نظر لأنه أريد به معناه الذي يفيده النصب من إنشاء الحمد من نفس الحامد، واللام في النصب متعينة للجنسية إذ يمتنع إنشاء الحمد الذي يقوم بغيره، فكذا في حالة الرفع كذا نقل عن المصنف في حاشية كتبها هنا، وقيل على ما نقل عنه أنّ الإنشائية

ص: 80

غير متعينة لجواز أن تكون خبرا، وأن يريد أنّ معنى قوله نحمد ننشىء الحمد، فإن كان هذا خبراً والمفعول المطلق ما أوجده فاعل الفعل المذكور، فلا شك أنه ههنا لا توجد جميع أفراد الحمد حتى الصادر عن غيره مثل الملائكة ومن حمده قبله وحتى ما لم يأت به أحد من أفراده الممكنة عقلاً، فإن جميع ما ذكر مندرج في الحمد على تقدير الإستغراق كما صرّج به الإمام، وفيه نظر لأنه لا يجب أن يكون المراد بالحمد حال الرفع ما أريد به حال النصب إذ المانع من حمله على الاستغراق حال النصب منتف حال الرفع، وان حمل كلامه على أنه في حال النصب إنشاء، والجملة أيضا إنشائية فهو ممنوع لأنّ كلام الكشاف صريح في خبريتة، وقيل المشهور أنّ جملة الحمد إنشائية وأن كانت خبرية في الأصل والاستغراق لا ينافيه، ولا يستلزم كونه منشئا لكل حمد وموجدا له، بل يكفي كونه منشئاً للأخبار بأنّ كل حمد ثابت له وهو محمود به، وليس العموم الذي ذكره المصنف بحسب الأزمنة، لأنّ قوله بعده وثباته يخلو عن الفائدة، ودلالة العدول على ما ذكر لأنه إذا جرّد عن التجدد والحدوث ناسب قصد الدوام بمعونة المقام، ولذا قيل إن عمومه شموله لكل حمد لا حمد المتكلم وحده كما جمو مدلول حمدت حمدا وردّ بأنه يقدر الفعل نحمد، كما في الكشاف فيفيد عموم الحمد إذ المراد به كل من يصلح لأن يكون حامدا، وفيه أن نحمد يدل على عموم صدور الحمد لا على عموم نفس الحمد إذ يجوز أن يكون الثابت له تعالى فردا من حمد كل حامد، وقد يحمل العموم على عموم مفهومه بأن لا يلاحظ فيه زمان بوجه لا خاصا ولا عاما، والثبات وإن دل على شمول الأزمنة لكنه مدلول الجملة الاسمية لا الحمد وفيه نظر، وقد يحمل العموم على الاستغراق الصريح والتضمني على تقدير كون اللام للاستغراق أو الجنس، وأورد عليه أن يستفاد من اللام لا من العدول، وهو حاصل على تقدير النصب أيضا، وأمّا أنه إنشاء فلا وجه للاستغراق فيه ففد مرّ ما فيه: وقد يحمل على شمول جميع الأزمنة فالثبات تفسير له وأيد بتعرّضه للتجدّد المقابل للثبوت دون مقابل العموم، وقيل العدول يدل على أنّ الحمد بالمعنى المصدري والدلالة على الثبات لا

تناسبه لتجدده بل تنالسب الحاصل بالمصدر إلا أن يقال بعد العدول لا يلزم اعتبار ما كان بحسب الأصل من التجدّد، وفيه أنا لا نسلم أنّ المصدر متجدد، فالدلالة على الثبات لا تناسبه بل التجدد في الفعل لمقارنة حدثه للزمان كما ستعرفه عن قريب. قوله: (وثباته له ثرن تجتده وحدوثه (وفي نسخة دون التجذد والحدوث والثبات اسم مصدر من ثبت الشيء يثبت ثبوتاً إذا دام واستغرق كما في المصباح، ولما كان الرفع دالاً على الثبوت المجرّد عن قيد التجذد والحدوث قصد به ما ذكر بمعونة المقام كما مرّ بخلاف النصب لتقدير الفعل الدال على التجدد والحدوث وضعاً معه، وقولهم المضارع يفيد الإستمرار المراد به الإستمرار التجددي في المستقبل لا في جميع الأزمنة، فلا ينافيه وكون الخبر الظرف تصير به الإسمية كالفعلية في التجدّد مرّ بياكه مع أنه قيل إنه لا تقدير فيه، وما ذكره النحاة لأمر صناعي اقتضاه وقولهم الظرفية اختصار الفعلية كذلك، وعطف الحدوث تفسيرى إشارة إلى أنّ التجدّد بمعنى الحدوث لا التقضي شيأ فشيأ، فإن الفعل لا يفيده إلا من قرينة خارجية واستعماله في الأمور الثابتة، كعلم الله قيل إنه مجازيّ ولا شعار النصب بالتجدد اختار سيبويه النصب في إذا له صوت صوت حمار، لأنّ الصوت عرض غير قارّ والرفع في فإذا له علم علم الفقهاء.

واعلم أن الشيخ قال في دلائل الإعجاز أنه لا دلالة لقولنا زيد منطلق على أكثر من ثبوت الإنطلاق لزيد وهو مناف لما ذكر هنا، وقد وفق بينهما بأنّ الجملة الاسمية بمجرّدها لا تدل على الدوام والثبوت بل مع انضمام العدول وغيره تفيدهما، وهذا هو المفهوم من كلامه قدس سره في شرح المفتاح، والظاهر عندي أنّ كلام الكشاف والمفتاح على خلاف كلام الشيخ، فإنهما قالا إنّ المنافقين أخبروا عن إيمانهم بالجملة الفعلية الدالة على الحدوث لرواج الحدوث دون الثبات منهم، وعن كفرهم بالإسمية المفيدة للثبوت، فإنّ دوام ذلك راسخ فيهم، وفي المفتاح في الحالة المقتضية لذكر المسند أنه قد يذكر لتعين كونه ظرفا، فيحتمل الثبوت والتجدد بحسب التقديرين، فالظاهر أنهما جعلا الأصل في الإسمية الثبوت لأنهما اعتبرا ذلك فائدتها على وجه الإطلاق بلا تقييد، فالاسمية الجامدة الخبر مفيدة للثبوت والظرفية

ص: 81

الخبر محتملة عندهما وقد صرحوا به في مواضع كثيرة.

(أقول) قد ذكر الفاضل الحفيد هذا في أكثر تأليفه اعتناء به وحاول بعضهم الجواب عنه

وكله ناشىء من عدم تدبر كلام الشيخ رحمه الله، فإنه قال في بحث الحال من الدلائل فرق لطيف تصمق الحاجة في علم البلاغة، إليه بيانه أق موضوع الإسم على أن يثبت به المعنى للشيء من غير أن يقتضي تجدد شيأ فشيأ، وأمّا الفعل فموضوعه على أن يقتضي تجدد المعنى المثبت به شيأ بعد شيء، فإذا قلت زيد منطلق فقد أثبت الانطلاق فعلَا له من غير أن تجعله يتجدّد، ويحدث منه شيأ فشيأ، بل يكون المعنى فيه كالمعنى في قولك زيد طويل وعمرو قصير فكما لا تقصد ههنا إلى أن تجعل الطول والقصر يتجددان ويحدثان، بل توجبهما وتثبتهما

فقط، وتقضي بوجودهما على الإطلاق كذلك لا تتعرّض في قولك زيد منطلق لأكثر من إثباته لزيد، وأما الفعل فإنك تقصد فيه إلى ذلك، فإذا قلت زيد ينطلق فقد زعمت أنّ الإنطلاق يقع منه جزأ فجزأ وجعلته يزاوله ويوجبه انتهى.

فمعنى قوله لا دلالة له على أكثر من ثبوت الانطلاق أراد به أنه يدل على الثبوت دون التجدد، وإذا كان ذلك بالفحوى صح اعتباره تارة وعدم اعتباره أخرى كما حققه قدّس سرّه. ومن هنا ظهرت فائدة هي إنّ حذف المعمول كما يدل على العموم يدل عليه أيضاً حذف العامل، فليست على ذكر منك.

(وههنا بحث) وهو أنّ أهل المعاني قاطبة قالوا: إنّ الاسم يدل على الثبوت مطلقا وهو مخالف لقول النحاة إنّ الصفة المشبهة تدل على ثبات معناها، واستمراره بغير تجدد بخلاف اسم الفاعل، فإنه دال على ذلك، فإذا أريد الثبوت قيل صدره ضيق، واذا لم يرد قيل ضائق ولذا قال تعالى:{ضَآئِقٌ بِهِ صَدْرُكَ} [هود 2 ا] وخالفهم فيه الرضى فقال الذي أرى أن الصفة المشبهة كما أنها ليست موضوعة للحدوث ليسست موضوعة للاستمرار في جميع الأزمنة ما لم تقم قرينة على خلافه، فانظر التوفيق بينهما، وما مرّ من معنى التجدد هو الظاهر لكن ما نقلناه عن الشيخ في الدلائل يخالفه فتدئر، وهذا البحث ذكره بعض النحاة ولم يجب عنه، ثم رأيت في بعض كتب المعاني التعرّض له والجواب عنه بأنّ دلالة اسم الفاعل على الحدوث بالعرض دون جوهر اللفظ، وانما جاز ذلك في اسم الفاعل دون الصفة المشئهة لأنه على عدد حروف المضارع وزنته في حركاته وسكناته، بخلاف الصفة المشبهة، فلا تدل وضعا إلآ على الثبوت المجردّ أو عليه مع الدوام بمعونة المقام، وفيه أنّ الصفة المشبهة تكون موازنة لاسم الفاعل كثيرا، فلا يتم ما ذكر من الفرق ولعل الجواب ما أشير إليه في قولهم أنّ اسم الفاعل حقيقة في الحال من أنه باعتبار العمل فتدبز قوله:(وهو من المصادر إلخ) في الكشاف أنه من المصادر التي تنصبها العرب بأفعال مضمرة في معنى الأخبار كقولهم شكراً وكفرا وعجبا وما أشبه ذلك، ومنها سبحانك ومعاذ الله ينزلونها منزلة أفعالها، ويسدون بها مسدّها ولذلك لا يستعملونها معها ويجعلون استعمالها معها كالشريعة المنسوخة انتهى وفي التسهيل هذا في ذكر المصدر الذي يحذف عامله وجوبا لكونه بدلاً من لفظ الفعل وفي خبر بحسب الصيغة إنشاء بحسب المعنى وفي شرحه للدمامينيّ تمثيلَا للثاني نحو حمداً وشكراً صرّح به الشلويين، وأورد عليه سؤالاً وهو أنه يجوز أن يقول حمدت الله حمداً أو أحمده حمدا فكيف يقال أنّ هذا لا يظهر فعله وأجاب بأنه مع التلقظ بالفعل يكون خبراً لا إنشاء، واذا كان إنشاء كان المصدر والفعل متعافيئ يريد أنهما لا يجتمعان ولكن إن أتيت بالمصدر تركت الفعل وجوبا وان أتيت بالفعل لم يجز أن تذكر المصدر انتهى، وقال الرضى: يجب حذف الفعل قياساً، والمراد بالقياس أن يكون هناك ضابط كليّ يحذف الفعل حيث حصل ذلك الضابط والضابط ههنا ما

ذكرنا من ذكر الفاعل أو المفعول بعد المصدر مضافا إليه أو بحرف الجرّ لا لبيان النوع انتهى، وفصله بتفصيل يطول، وحاصله أنّ من المصادر ما يجب حذف عامله مطلقاً، ومنها ما يجب حذف عامله إذا بين فاعله أو مفعوله بحرف جرّ نحو سقيا لك، أو لإضافة نحو صبغة الله ووعد الله لأنّ حق الفاعل والمفعول أن يتصلا بالفعل، فلما حذف لداع بين المصدر المبهم لإضافة أو بحرف جز، فلو ظهر الفعل ورجع الفاعل والمفعول لمركزهما انتقض الغرض المذكور، فوزانه وزان أن امرؤ هلك، واذا أصخت لما تلونا عرفت أنّ كلامهم في حذف فعل هذا المصدر مختلف مضطرب، وظاهر كلام بعض أنه ليس

ص: 82

بواجب الحذف مطلقاً وظاهر كلام آخرين أنه واجب مطلقا، وذهب ابن مالك والشلويين إلى أنه يجب في الإنشاء دون الخبر وفي كلام الكشاف ميل له، ولذا قال المدقق في الكشف في قوله في معنى الإخبار لا الإنشاء، ولذا فضل عنه سبحان الله ونحوه لأنه في معنى الإنشاء، وقيل: لأنه غير متصرّف انتهى وذهب الرضى تبعاً لغيره أنه يجب إذا بين فاعله أو مفعوله باللام أو بالإضافة، ويفهم منه أنه يذكر في غير ذلك من غير تعرّض لقلّته أو كثرته، لأنه إنما يوقف عليه بالاستقراء والتامّ منه متعذر والناقص لا يفيد فقول المصنف رحمه الله (لا تكاد إلخ أليس بكلام منقح وعدوله عما في الكشاف وهو كلام مهذب لا يخلو من الخلل، ولذا قال بعض علماء العصر في حواشيه إنّ ما ذكره المصتف إنما يتحقق فيما يستعمل باللام نحو عفوآلك على ما صرّح به في العربية بخلاف نحو سقاك الله سقيا لكن قوله أنه مراد المصتف رحمه الله وترك للعلم به، ولأن ما نحن فيه كذلك غير صحيح، ومن قال بعدما ذكر كلام الرضى يحتمل أن يكون المصئف رحمه الله يشير بهذه العبارة إلى قلة استعمالها بدون معمول فعلها، ويحتمل أن يكون الضمير راجعاً إلى الحمد المخصوص المذكور مع معمول العامل فلا تكاد إلخ إشارة إلى عدم استعماله مع العامل انتهى كلام مغ اختلاله لا معنى له أصلاً، وكذا ما في بعض الحواشي من أنه دل بتغيير الأسلوب على أنّ الجفلة إنشاء لا إخبار على ما شاع في أصله، ونبه بقوله لا تكاد إلخ على ضعف قول من قال: لا يجب حذف عامل الحمد لثبوت حمدت حمدا انتهى. وقوله: (لا تكاد تستعمل إلخ) أي المصادر مع الأفعال أو الأفعال مع المصادر قوله: (والتعريف فيه للجنس إلخ) ذهب المحققون كالشريف وغيره إلى أنّ التعريف يقصد به معين عند السامع من حيث هو معين، فهو إشارة إلى تعيين معنى اللفظ وحضوره في الذهن، فإذا دخلت اللام على اسم الجنس فإمّا أن يشار بها إلى حصة معينة فرداً كان أو أفراداً، وتسمى لام العهد الخارجي، وامّا أن يشار بها إلى الجنس نفسه وحينئذ فإمّا أن يقصد الجنس من حيث هو كما في التعريفات، فاللام حينئذ تسمى لام الحقيقة والطبيعة، وقد تسمى لام الجنس ونظيره العلم الجنسي،، وامّا أن يقصد الجنس من حيث هو موجود في ضمن جميع الأفراد وتسمى لام الإستغراق أو في ضمن بعض الأفراد الغير المعينة، وتسمى لام العهد الذهني، ولى جعل العهد الخارجي قسيما للجنسي والذهني

والاستغراق قسماً منه، وكان في وجهه خفاء جعله بعضهم تحكما وخلاف التحقيق، وذهب إلى أنّ التحقيق أنّ اللام موضوعة للإشارة إلى الماهية بشرط شيء ويتشعب منها أربع شعب، لأنه إن اكتفى بأصل الموضوع له، ولم يقصد معنى زائد تسمى لام الحقيقة، وان قصد به الماهية في ضمن فرد وبشرط شيء فإنّ عين ذلك الفرد لسبق ذكر أو علم أو غير ذلك تسمى لام العهد الخارجي، وإن لم تقم قرينة معينة لذلك البعض، وكانت قائمة على إرادة بعض مّا كأدخل السوق، فإنّ الدخول قرينة له، فهو العهد الذهني، وهو كالنكرة في الإثبات، وأن وجدت قرينة العموم فهي لام الاستغراق والقصد إلى الماهية من حيث هي لم يعتبر لأنه لا يقع في المحاورات، فجميع أقسام اللام ترجع إلى الجنس والإستغراق والفرد المعين، وما عداها أمور زائدة على الموضوع له، ولا يلزم أن يكون اللفظ فيها مجازا لأنها إنما تستفاد من القرائن واللفظ مستعمل في الموضوع له، فقولهم قصد به البعض يعنونه بمعونة المقام وما ينضمّ إليه، وفي المطوّل احتمال ثالث وهو جعل الأقسام أربعة وهي أصول متقابلة وقدم الجنس ترجيحا له بتبالره إلى الفهم بخلاف الفرد المعين وجميع الأفراد، والإشارة بمعنى الإشارة الذهنية التي هي كناية عن حضوره في الذهن، وهو معنى التعريف ثم إنّ المصتف رحمه الله أختار تبعا للزمخشري أنّ التعريف هنا للجنس والمراد به الحقيقة، وانما ترجح لأنّ مدخول اللام حمد وهو اسم جنس واللام لتعيينه، ولذا قيل إن الاستغراق إنما يستفاد بمعونة المقام، وثبوت جميع المحامد له تعالى على هذا التقدير ثابت بالطريق البرهاني، إذ لو خرج فرد منه خرجت الحقيقة في ضمنه أيضا، فيلزم عدم اختصاص الحقيقة وهدّا مبني على أنّ الاختصاص المستفاد من اللام بمعنى الحصر، وسيأتي ما فيه قوله:(ومعناه الإشارة إلى ما يعرفه كل أحد) أي معنى تعريف جنس الحمد وقد بيئا لك المراد بالإشارة هنا

ص: 83

ومعنى التعريف كما اختاره بعض المحققين الإشارة إلى أنّ مدلول اللفظ معلوم حاضر في ذهن السامع، فمعنى التعريف هنا الإشارة إلى معلومية مفهوم الحمد لا الإشارة إلى ما يعرفه كل أحد من أنّ الحمد ما هو ففي العبارة تسامح، وكأنه على حذف مضاف أي معلومية ما يعرفه كل أحد، وبيانه بأنّ الحمد ما هو تسامح والمراد جواب هذا السؤال وما يقع جوابا لماهية الحمد، ولما كانت اللام في الأصل للإشارة، وكان المخاطب في هذا المقام عاما كانت إشارة إلى ما يعرفه كل أحد أي كل أحد عالم بالوضع، فتعريفه كتعريف الخطاب العام قوله:(أو للإستنراق) وفي نسخة وقيل للا ستغراق.

وفي الكشاف هو نحو التعريف في أرسلها العراك، وهو ته ريف الجنس ومعناه الإشارة

إلى ما يعرفه كل أحد من أنّ الحمد ما هو، والعراك ما هو من بين أجناس الأفعال، والاستغراق الذي يتوهمه كثير من الناس وهم منهم انتهى. وفي كتاب سيبويه في باب ما جاء من المصدر بالألف واللام وذلك قولك أرسلها العراك قال لبيد:

فأرسلها العراك ولم يذدها ولم يشفق على بعض الدخال

كأنه قال اعتراكا. وليس كل المصادر في هذا الباب تدخله الألف واللام، كما أنه ليس

كل مصدر في باب الحمد دلّه والعجب لك تدخله الألف واللام، وانما شبه هذا بهذا حيث كان مصدراً، وكان غير الأوّل انتهى. وفي شرج السيرافي العراك المزاحمة، وقد جعل العراك في موضع الحال وهو معرفة، وذلك شاذ وإنما يجوز هذا لأنه مصدر ولو كان اسم فاعل ما جاز إذ لم تقل العرب مثل أرسلها المعارك، وانما وضعوا بعض المصادر المعارف في موضع الحال، فمنها مصادر بالألف واللام، ومنها مصادر مضافة إلى معارف نحو فعلته جهدي وطاقتي أي مجتهداً انتهى.

فإذا قرّطت سمعك بما تلوناه علصت معزاه ومرمى سهام الأنظار فيه من أنّ المصدر المعرف يقع حالاً ومفعولاً مطلقاً غير نوقي، وهو حيمئذ في المعنى نكرة لأنها الأصل فيه وما عرف منه على خلاف القياس مقصور على السماع، والنكرة لا دلالة لها على غير الجنس ولا يصح فيها الاستغراق في الإثبات، فأحمد الحمد بمعنى أحمد حمداً، وكذا ما عدل عته، وانما يفهم ذلك منه بقرينة السياق، ولذا قيل إنّ الاستغراق ليس من التعريف في شيء، وكفاك شاهداً استغراق لا رجل، وتمرة خير من جرادة، فلا بد معه من تعيين ذهنيّ أو خارجيّ، وهو مسمى التعريف ولذا حصر في المفصل معنى اللام في التعريف والتعريف في العهد والجنس، وقد صرّح به صاحب اللباب في إعراب الفاتحة، وهو معنى ما نقل عن المصثف رحمه الله في حواشيه من أنّ اللام لا تفيد سوى التعريف، والإشارة إلى حضوره، والاسم لا يدل إلآ على مسماه، وقد وقع في الشروح هنا كلمات كلها مجروحة مرجوحة، كما قيل إنّ الوهم في كون الاستغراق معنى تعريف الجنس لا كونه مستفاداً من المعرّف باللام بمعونة المقام، فقوله بتوهمه أي بوهم أنه معنى تعريف الجنس بدليل قوله ما معنى التعريف، وقيل: إنه مبنيّ على مسئلة خلق الأعمال فإن أفعال العباد لما كانت مخلوقة لهم عند المعتزلة، كانت المحامد عليها راجعة إليهم، فلا يصح تخصيص المحامد كلها به تعالى، وفساده ظاهر لأنّ اختصاص الجنس به يستلزم اختصاص أفراد. أيضا إذ لو وجد فرد منه لغيره ثبت الجنس له في ضمنه وصح هذا عندهم، لأنّ الأفعال الحسنة التي يستحق بها الحمد عندهم إنما هي بتمكين الله واقداره عليها، فبهذا الاعتبار رجع الحمد كله إليه، وأمّا حمد غيره فاعتداد بأنّ النعمة جرت على يده، وقد قيل إنه جعل الجنس في المقام الخطابيّ منصرفا إلى الكامل كأنه كل الحقيقة كما في ذلك الكتاب، ومنه ظهر أنّ في الحمل على الجنس محافظة على مذهبه، ويردّ بأنه يجوز في الاستغراق أيضاً بأن يجعل ما عدا محامده منزلاً منزلة العدم بالقياس إلى محامده فلا فرق بين اختصحاص الجنس والاستغراق في أنهما ظاهرا منافيان مذهب الاعتزال، وتدفع المنافاة بالتأويل نعم فرق بين مذهب أهل الحق والمعتزلة بأنّ كل فعل جميل سواء كان من الله تعالى محضا أو

بكسب العبد يصلح أن يحمد الله عليه بالحقيقة باعتبار خلقه له على المذهب الحق لا على مذهب المعتزلة، وأيضاً المحامد الراجعة إلى العباد لما كانت أنفسها بخلقه تعالى على المذصب الحق كان القول بكون جميع المحامد مختصة به تعالى أقرب، وأظهر منه على مذهب المعتزلة، وقيل مبناه على

ص: 84

أنّ المصادر نائبة مناب الأفعال سادّة مسدها والأفعال لا تعد ودلالتها عن الحقيقة إلى الاستغراق وردّ بأنّ ذلك لا ينافي قصد الاستغراق بمعونة قرائن الأحوال، وقيل إنما اختاره بناء على أنّ الجنس هو المتبادر إلى الفهم الشائع في الاستعمال لا سيما في المصادر، وعند خفاء القرائن وردّ بأنّ المحلي بلام الجنس في المقامات الخطابية يتبادر منه الاستغراق، وهو الشائع في الاستعمال هناك مصدرا كان أو غيره وأي مقام أولى بملاحظة الشمول والاستغراق من مقام تخصيص الحمد به سبحانه تعظيما، فقرينة الاستغراق كنار على علم، والحق أنّ سبب الاختيار هو أنّ اختصاص الجنس مستفاد من جوهر الكلام، ومستلزم لاختصاص جميع الأفراد فلا حاجة في تأدية المقصود الذي هو ثبوت الحمد له تعالى، وانتفاؤه عن غيره إلى أن يلاحظ الشمول والإحاطة، ويستعان فيه بالأمور الخارجية بل نقول على ما اختاره يكون اختصاص جميع الأفراد ثابت بطريق برهاني، فيكون أقوى من إثباته ابتداء انتهى. وفيه أنّ ملخص ما ذكره من أنّ اختصاص الجنس يستفاد من جوهر الكلام من غير حاجة إلى الإستعانة فيه بأمور خارجية أنّ الجنس هو المتبادر إلى الفهم لأنه لا معنى للتبادر إلاً التسارع، واذا كان فهمه من جوهره قبل ملاحظة أعرا منه فلا شبهة في سرعته إلى الفهم قبل كل شيء، وقد ردّه آنفا واذا كان اختصاص جميع الأفراد بطريق برهاني، فلا شبهة في خفائه، فكيف يقال إنه كنار على علم.

ونوله أي مقام أولى إلخ فيه بحث ظاهر مع أنّ الاختصاص المدعى مبنيّ على أنّ مدلول

اللام الاختصاص بمعنى القصر وهو غير ثابت، وكلامهم فيما يفيد الاختصاص هنا مضطرب، كما فصله بعض الفضلاء ولولا خوف السآمة أوردناه برمته، ولما رأى المصتف رحمه الله أنّ كل ما ذكر من الوجوه مقتض لمرجوحية الاستغراق دون كونه، وهما عدل عن عبارته في الكشاف ومبناه على أنّ معاني اللام كل منها أصل برأسه كما مرّ، فاندفع عنه ما قيل إنه إن أراد المصتف رحمه الله أنّ التعريف للاستغراق في مقابلة كونه للجنس، فهو ظاهر البطلان إذ اللام لتعريف مدخولها قطعاً، وليس مدلول لام الجنس الاستغراق، وان أراد أنّ الحمد محمول على الاستغراق بمعونة المقام، فصحيح إلاً أنه لا يقابل قوله والتعريف للجنس، إلاً أن يحمل على أنّ التعريف للجنس بلا انضمام استغراق معه قوله:(إذ الحمد في الحقيقة كله له) المصنفون يستعملون قولهم في الحقيقة كما بينه شراح الهداية فيما إذا دل أمر بحسب ظاهره على شيء، فإذا دقق النظر فيه علم أنه يؤل إلى شيء آخر هو المراد منه، فليس المراد بها مقابل المجاز كما قد يتوهم قيل ويرد على ما قاله المصتف أنّ حمد العبد بصفته الجميلة على الجميل الاختياري

القائم به ليس حمد الله تعالى لامتناع وصفه بصفات العباد وان خلقها، والمتبادر من كون الحمد لله أنه المستحق له وأنه محمود له إلاً أن يراد بالحمد المحمدة، فإنّ كل محمدة له تعالى إما لكونها صفة له أو صادرة منه أو يراد بكون الحمد له أعم من كونه متعلقا به تعقق الفعل بالمفعول به، أو مستند إليه باعتبار استناد المحمود به أو المحمود عليه إليه خلقاً، أو يقال لما كان كل جميل إمّا له أو منه فاذا حمد العبد على فعل الجميل، فكأنه حمد الله على خلقه فيه ووصفه بما يليق بشأنه ويأباه قوله في الحقيقة وقد ذكر في سبأ ما يدلّ على أنّ بعض أفراد الحمد يستحقه العبد حيث قال ثمة إنّ تقديم الصلة للاختصاص، فإنّ النعم الدنيوية قد يتوسط فيها من يستحق الحمد لأجلها بخلاف نعم الآخرة انتهى. وقد اعترض عليه بأنّ ظاهره أنّ شيئاً من حمد العبد لا يحمد به الله تعالى، ولا يخفى أنّ المحمود به وعليه إذا كان وصفاً بيته وبين عباده، كالعلم والجود يصح أن يقال إنه المستحق له إذا جرّد عن إضات، للعبد إلاً أن يكون ذلك مما تنره عنه سبحانه اللهتم إلاً أن يقال هذا على رأي من يقول لا اشتراك بين الله وغيره في شيء من الصفات إلأ بحسب اللفظ، فالوجه أن يقال أنه لم يرد بكون الحمد كله لله جعله محمودا بعين تلك المحامد موصوفا بئلمك الأوصاف نفسها، ويدل عليه قوله:(ما من خير إلخ) إذ الإيلاء لا يقتضي الاتصاف بل يريد أنّ كل حمد لسواه مستلزم لحمد الله وهو أنه مولى لتلك النعمة وموصلها فهو حامد بلسان الحال، والأوّل كالمعدوم في جنب الثاني بمنزلة الواسطة إلى المقصود ففي الحقيقة لا وجود

ص: 85

لمحامد الغير، وانما الموجود في كل حمد حمده، وأيضا حمل الحمد على المحمدة، قيل إنه لا يفيد لأنّ الكلام في الحمد بمعناه الحقيقيّ لا بمعنى المحمدة، والأولى أن يقال الحصر بناء على عدم الاعتداد بحمد العبد باعتبار كسبه، وأيضاً قوله ويأباه قوله في الحقيقة ليس بمسلم على ما مرّ من معناه.

(أقول) ما ذكره المصتف هنا برمّته مأخوذ من الإمام وقد قدم طرفا منه في تفسير لفظ الرحمن زحاصله أنّ كل ما هو في الوجود موجود مما هو ممدوح ومحمود صفات وأفعالاً بخلقه تعالى ابتداء أو بوسط كلا وسط، إذ هو خالق لفاعله وممكن له من فعله وموجد لدواعيه، وهذا لا ينكره أحد من العقلاء فإنّ إنكاره تعطيل فحينئذ إذا حصر الحمد فيه، وقيل إنه لا يحمد سواه نظراً لهذا أي ضير فيه، وهذا مما يجري في المقام الخطابي ادّعاء ومبالغة لا سيما إذا انسلخت الأخبار من الخبرية إلى الإنثاء، فإن أراد هؤلاء أنه لا يتأتى باعتبار اللغة، وعرف التخاعب حقيقة فقد وقع في كلامهم مرّة بعد أخرى ما يدفعه، فتذكره ولا تكن من الغافلين، وأمّا كون ما ذكره في سورة سبأ مما ينافيه مع أنه صريح فيه فغنيئ عن الجواب. وقوله: " ذ الحمد إلخ) تعليل للاستغراق، وأفرده بالتعليل لأنّ الجنس معنى ظاهر أصليّ وما جاء على الأصل مستغن عن بيان وجهه وعلته كما قيل ويحتمل أنه تعليل لهما أي لم يجعل لفرد معين لما ذكر، والأوّل هو الظاهر، والمولى بضم الميم وكسر اللام كالمعطى زنة ومعنى،

فالوسايط بمنزلة الشروط والآلات ولا مؤثر سواه، وهو مذهب المشايخ والحكماء أيضاً كما في الإشارات قوله: كما قال تعالى {وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللهِ} [النحل 53] ) ذكر. مؤيد الكون كل خير منه إذ لا فرق بين الخيرات المتعدية والقاصرة أو أنعم هنا بمعنى أعطاه الله وأوجده مطلقا وفي هذه الآية إشكال سيأني في كلام المصثف دفعه قال ابن الحاجب في إيضاح المفصل: الشرط وما شبه به الأوّل فيه شرط للثاني نحو أسلم تدخل الجنة وهنا على العكس، وهو أنّ الأوّل استقرار النعمة بالمخاطبين، والثاني كونها من الله عز وجل، ولا يستقيم أن يكون الأوّل فيه سببا للثاني لكونه فرعا عته، وتأويله أنّ الآية جيء بها لإخبار قوم استقرّت بهيم نعم جهلوا معطيها وشكوا فيه فاستقرارها مشكوكة أو مجهولة سبب للإخبار بكونها من الله عز وجل، وجواب الشرط جملة قصد تبيين مضمونها، أو الإعلام بها فيصير الشرط سبباً للمشروط ومن ثمة وهم من قال إنّ الشرط قد يكون مسببا انتهى قيل: ويمكن أن يقال وجود النعمة بهم سبب لكونها من عند الله إذ كونها من عند الله متوقف على أصل الكون، وقد ذكر الرضى أنّ الشرط يدلّ على لزوم الجزاء للشرط ولا يخفى ما فيه من التعسف، وما نقله عن الرضى هو ما قال ابن الحاجب إنه وهم وسيأتي فيه كلام في محله قوله:(وقيه إشعار إلخ) أي في قوله الحمد لله، أو في إثبات الحمد له، وهو من اعتبار الاختيار فيه، ولذا قيل إنّ فيه إشارة إلى إيثار الحمد على المدح أيضا لا في اختصاص جميع المحامد به تعالى كما توهم لما فيه من التكلف، وقيل بل فيه إشعار بثبوت جميع الكمالات له تعالى، إذ يفهم منه اختصاص جميع أفراد الحمد، وكل كمال يصلح لأن يقع في مقابلة حمد، فالمستحق لجميع المحامد متصف بجميع الكمالات، والإشعار الذي ذكره بناء على أنّ المحمود لا بذ له من أن يكون مختاراً، والمختار يتصف بتلك الصفات، وقدرته تعالى عند أهل الحق كونه بحيث يصح منه صدور الفعل وعدم صدوره بالقصد، والقدرة في الحيوان مصححة للفعل وعدمه، وارادته تعالى صفة مخصصمة لأحد المقدورين، وقيل هي في الحيوان شوق يؤدّي إلى حصول المراد، وقيل إنها مغايرة للشوق إذ هي ميل اختياريّ، والشوق ميل طبيعي، وإرادة الله عند الحكماء علمه بنظام الكل على الوجه الأكمل، فإنّ العلم عندهم من حيث أنه كاف، ومرجح لطرف وجوده على عدمه إرادة، والحياة في الحيوان صفة تقتضي الحس والإرادة، وحياة الله عند المتكلمين صفة مصححة للقدرة والإرادة وتال الحكماء الحيّ الدرّاك الفقال وفي إشعار الحمد باتصافه بالحياة والعلم والقدرة، والإرادة على مذهب المتكلمين نظر إلاً أن يقال الحمد مشعر بأصل الإتصاف، وكيفيته معلومة من خارح، والحق أنه يفهم من اتصاف إنسان ما بالاختيار اتصافه بهذه الصفات، فمن يعتقد اتصافه بالاختيار أيضا يعتقد تلك الصفات في حقه لكن مع سلب النقائص الناشئة عن انتسابها إلى الإنسان، واليه أشار

ص: 86

بقوله إذ الحمد إلخ قوله: (وقرىء إلخ)

الأولى قراءة الحسن البصري والثانية قراءة إبراهيم بن أبي عبلة وقوله: (تنزيلَا إلخ) إشارة إلى قول الزمخشري الذي جسرهم على ذلك والاتباع إنما يكون في كلمة واحدة كقولهم منحدر الجبل ومغيرة تنزل الكلمتين منزلة كلمة لكثرة استعمالهما مقترنتين، وأشف القراءتين أي أفضلهما قراءة إبراهيم حيث جعل الحركة البنائية تابعة للإعرابية التي هي أقوى، وعدل عنه المصنف رحمه الله لما فيه من الإشارة إلى أنّ القراءة تكون بالرأي، وسيأتي ردّه مع أنّ ما ذكره قد ردّ بأنّ الأكثر في اللغة جعل الثاني متبوعا وكون غير اللازمة تابعة أولى، وكون الحركة الإعرابية أقوى غير مسلم والإتباع يتعدّى إلى مفعول واحد وإلى اثنين واختلفوا في أنّ ما كان فاعلَا له قبل الهمزة هل يصير مفعولاً أوّلاً أو ثانياً فيحتمل كون الدال تابعاً وعكسه فتدبر (بقي هنا شيء شريف) وهو أنّ الماتريدي في التأويلات جعل هذا حمداً من الله لنفسه قال: وانما حمد نفسه ليعلم الخلق فإن قيل كيف يجوز ومثله في الخلق غير محمود.

قيل إنه لوجهين:

أحدهما أنه استحق بذاته لا بأحد فيكون في ذلك تعريف الخلق لما يزلفهم لديه بما أثنى

على نفسه ليثنوا عليه وغير. إنما يكون ذلك لرئه عز وجل، فعليه توجيه الحمد إليه لا إلى نفسه إذ نفسه لا تستوجبه بها بل بالله تعالى.

والثاني أنه تعالى حقيق بذلك إذ لا عيب يمسه ولا آفة تحل به، فيدخل نقصاناً في ذلك،

ولا هو خاص بشيء والعبد لا يخلو عن عيوب تمسه، وآفات تحل به ويمدح بالايتمار ويذم بتركه وفي ذلك تمكن النقصان انتهى. يعني أنه لا يقاس على غيره فإنه تعالى متصف بالمحامد من ذاته فله أن يحمد ذاته بذاته، وأيضاً مدح النفس نهي عنه لما فيه من النقص والغرور والافتخار على الغير المؤذي لانكساره وهو منزه عنه، ولهذا لا يذمّ إذا سلم من ذلك كأن يكون تحدثا بالنعمة أو سبباً للاقتداء به، والحث على مثله مثلاً، فعلى الأوّل لا يسمى مادح نفسه حامداً، وعلى الثاني يصح والزمخشريّ لم يجعله حمداً لنفسه فقال: والمعنى تحمد الله حمداً، ولذلك قيل:{إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} لأنه بيان لحمدهم له كأنه قيل كيف تحمدون فقيل: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} إلخ وقد قيل عليه إنه تعكيس، لأنّ جعل صدر الكلام متبوعا أولى من العكس والمحققون على تعميم الحمد، وانما ترك العاطف في قوله:{إِيَّاكَ نَعْبُدُ} لأنّ الكلام الأوّل جار على مدح الغائب لاستحقاقه كل حمد، والثاني حكاية عن نفس الحامد من بيان أحواله بين يدي ذلك الغائب، فترك العاطف للفرق بين الحالتين لا للبيان وبدلّ عليه أنّ الالتفات إنما يكون في سياق واحد لمعلوم واحد وكأنه حين قرّر الالتفات نسي هذا.

وما بالعهد من قدم.

وفي هذا كلام طويل تركناه خوف السآمة، وكأنّ المصتف لم يتعرّض لهذا رأساً لما رأى

فيه من الاضطراب والخفاء، ولعل التوبة تفضي إلى بيانه أتم بيان إن شاء الله تعالى قوله:(الرث في الأصل إلخ) المراد بالأصل حالة وضعه الأوّل، فهو فيه مصدر أطلق على الفاعل مبالغة كما يقال: عدل بمعنى عادل بدون تأويل، ولا تقدير مضاف لأنه يفوتها، فالرب والتربية مترادفان، وربه يربه ورباه تربية بمعنى والتربية من ربى الصغير بالتخفيف كعلا يعلو إذا نشأ فعدى بالتضعيف، وقيل أصل رباه رببه فجعلت إحدى البا آت ياء والرت كما يكون بمعنى المربى يكون بمعنى المالك وقد فسر بهما، وعلى الأوّل قوله:{مَلِكِ يَوْمِ الدِّينِ} معنى جديد، وعلى الثاني تخصيص بعد تعميم قيل، وكلامه في الكشاف يميل إلى اختيار الثاني قوله:(وهي تبليغ الشيء إلى كماله إلخ) المراد بكماله ما يتمّ به الشيء في صفاته، ويطلق على الخروج من القوّة إلى الفعل والفرق بينه وبين المقام أنّ الثاني يشعر بالانقطاع كما قال:

إذا تم أمر بدا نقصه تيقن زوالاً إذا قيل تم

وقوله تعالى: {مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ فِي أَيِّ صُورَةٍ مَّا شَاء رَكَّبَكَ} [الانفطار 6] تفصيل لما دلّ عليه الرث فلا يقال إجراء هذه الصفات على الرت يقتضي عدم تضمنه لمعناها كما توهم وقوله: (شيئا فشيئاً) منصوب على الحال لأنّ المراد منه متدرجاً أو مترتباً وفيه إشارة إلى أنّ التفعيل يدلّ على التدريج كما صرّج به الزمخشري في قوله تعالى: {يَتَسَاءلُونَ} [النور 3 آ] فقال أي قليلاً قليلاً، ونظيره تدرج وتدخل، وفي المثل درّج

ص: 87

الأيام تندرج، وعلى هذا فإضافته معنوية وجعله بمعنى الصفة المشبهة أو اسم الفاعل غير مرضيّ، كما حقق في شرج التلخيص، وقوله ثم وصف به للمبالغة بصميغة المجهول المسند للجار والمجرور أو هو مسند لضمير الله وهو بمعنى المالك مأخوذ من هذا، أو منقول منه كما سيأتي بيانه قوله:(وقيل هو نعت إلخ) المراد بالنعت الصفة المشتقة التي من شأنها أن ينعت بها، وهو صالح للصفة المشبهة وغيرها، وشراح الكشاف قالوا المراد أنه صفة مشبهة.

وفي شرح التسهيل كونه صفة مشبهة ممنوع، والظاهر أنه من مبالغة اسم الفاعل، أو هو

اسم فاعل وأصله رإت فخفف، وكلام ابن مالك في التصريف يشهد له، ويؤيده قوله:{رَبِّ الْعَالَمِينَ} فإنه متعد مضاف إلى المفعول والصفة المشبهة تضاف لل نماعل، وقال قدس سرّه: لما كان مجيء الصفة على فعل من باب فعل يفعل بفتح الماضي وضتم المضارع عزيزاً استشهد له، فقال: نمّ ينئم بالضم والكسر فهو نمّ، ولا بد فيه من النقل أيضا، وفي ترك المفعول إشارة إليه وفي التمثيل به أيضا غاية المناسبة للممثل له حيث وصف بالمصدر، وهو النم كالرث، وفي نظر لا يخفى، فإنه يجوز أن لا يكون نمّ من مضموم العين بل من مكسورها، وكلام القاموس على أنه يجيء من كل منهما، ونمّ متعذ بنفسه للحديث، ويعلي واللام للمنقول عنه كما في من نمّ لك نمّ عليك، والنميمة نقل الكلام على وجه الإفساد وقوله مجيء الصفة على فعل إن كان على أنه محرّك العين فغير صحيح، وان كان بسكونها فغير مسلم.

قال ابن الصائغ في حواشيه على الكشاف: ومن خطه نقلت لم يتعرّضوا لوزنه، وينبغي

أن يكون فعلَا بكسر العين، فأدغم لا فعلاً لأنه جمع على أرباب، وأفعال لا يقاس فيه فتدبر قوله:(ثم سمي به المالك إلخ) أي نقل له بعدما كان مصدراً بمعنى التربية، أو نعتاً بمعنى المربي ولما كان تبليغ الشيء لكماله من شأن المالك سمي به وأيضاً هو لا يسمى بدون حفظه، فلذا أطلق على الحافظ، وهذه المناسبة لا تنافي كونه حقيقة إذ هي تراعى في المنقولات وغيرها من الموضوعات، فمن قال إنه ردّ على الواحديّ حيث قال: الرب في اللغة له معنيان التربية والمالك لم يات بشيء مع أنّ كلام الواحدي لا يقتضيه أيضاً، وفي بعض التفاسير أنه يطلق على المالك والشهيد والمربي والمدبر والمنعم والمصلح والمعبود، وقال ابن عبد السلام حمله على المصلح أولى لعمومه قوله:(لأنه يحفظ ما يملكه ويربيه) معطوف على يحفظ أو يملك، وقد مرّ بيانه قيل هو إشارة إلى أنّ معنى الحفظ معتبر في أصل معناه إذ لا يتصوّر التبليغ إلى الكمال بدونه لكن في كونه جزءاً من معناه نظر، وقيل في ردّه إنّ الحفعل من جملة التربية بل تبليغ الشيء إلى كماله مستلزم لحفظه، فلا خفاء في كون معنى الحفظ جزءاً لمعنى الرب بحسب الأصل وليس برمته شيئاً قوله:(ولا يطلق على غيره تعالى الآ مقيداً) بإضافة ونحوها مما يدل على ربوبية مخصوصة سواء كان إضافة أولاً قال في المصباح: الرث يطلق على الله تعالى معرّفاً بالألف واللام ومضافا، ويطلق على مالك الشيء الذي لا يعقل مضافا إليه، فيقال رب الدين، ورب المال، وفي التنزيل {فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْرًا} [يوسف 41] قالوا ولا يجوز استعماله بالألف واللام للمخلوق بمعنى المالك لأنّ اللام للعموم، والمخلوق لا يملك جميع المخلوقات، وربما جاء باللام عوضاً عن الإضافة إذا كان بمعنى السيد قال الحارث بن حلزة:

فهو الرب والشهيد على يوم الجبارين والبلاء بلاء

ومنع بعضهم أن يقال: هذا رب العبد، وأن يقول العبد هذا ربي وقوله عليه الصلاة والسلام:" حتى تلد الأمة ربتها "(1) في رواية حجة عليه انتهى. وحاصل ما قالوه أنه إذا كان بمعنى المالك لا يطلق على غيره تعالى إلاً مقيداً بإضافة، وما هو بمعناها لأنّ المالك الحقيقي هو الله والملك المطلق له، ولو كان بمعنى غير المالك جاز مع القرينة إطلاقه على غيره وكذا إذا أضيف لفظ كرث الدار أو معنى كزيد رب الإبل والرب يتصرّف كما يريد وكذا إذا كانت

اللام عوضاً عن الإضافة كما مرّ، فلا وجه لما قيل في القاموس مز، أنه لا يطلق باللام إلاً على الله لأنّ ما ذكر يرذه ولا حاجة إلى ما قيل من أنه كان في الجاهلية، وقد نسخه الإسلاه أو هو جهل بالحكم الإسلاميّ، وهذا أيضاً إذا كان مفردا فإذا جمع كالأرباب جاز إطلاقه على الله، وعلى غيره إذ لم يطلق على الله أو على الله وحده، وكان حقه أن لا يجمع لكنه ورد جمعاً كما في قوله تعالى:{أَأَرْبَابٌ مُّتَفَرِّقُونَ} [يوسف 39]

ص: 88

وهذا وارد على زعمهم، وما قيل من أنه يجوز إطلاقه كما في هذه الآية، وتقييده كما في رب الأرباب قيل: إنه سهو لأن المقيد الرب لا الأرباب ولك أن تقول إنّ المراد التقييد المعنوي كما مرّ لأنه بإضافة الرث إليه علم أنّ المقصود به ما سوى الله من الآلهة، وقوله كقوله تعالى:{ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ} [يوشف 50] عدل عن تمثيل الزمخشري بقوله: {إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ} [يوسف 23] لأنه قيل إنه عنى به الله تعالى، وقيل عنى الملك الذي رتاه كما قاله الراغب. وأما هذه الآية فالمراد فيها الملك ولا وجه لما قيل من أنّ استشهاده بما حكي عن يوسف عليه الصلاة والسلام يشعر بأنّ كلامه غير مختص بالإسلام لأنّ ما قمق علينا من شرع من قبلنا من غير إنكار، ولا إشعار باختصاص بتلك الأمة فهو شرع لنا كما صرّحوا به، والقول بأنه يزعم المخاطب به لا يناسب الاستشهاد به. وأمّا قوله عليه الصلاة والسلام:" لا يقل أحدكم أسق ربك " فهو نهي تنزيه، وقد قال النوويّ رحمه الله إنه مكروه مطلقاً وقيل إنه منسوخ قوله:) والعالم اسم لما يعلم به إلخ) أي يكون وسيلة للعلم به، وهو شامل للأشخاص وغيرها كما سيأتي، وهو اسم آلة مشتقة من العلم كالخاتم من الختم لكنه غير مطرد، ولذا لم يذكر في علم التصريف، وقالب بفتح اللام ويجوز كسرها آلة معروفة يفرغ فيها الجواهر المذابة، وهو في الأصل غير عربيّ معرّب كالب كما في بعض كتب اللغة، وقيل عربيّ اسم لما يقلب به الشيء، فإنه يقلب الشيء من شكله الأصليّ إلى شكله نفسه، وقدم المصتف رحمه الله هذا الوجه لأنه أدخل في المدح، والزمخشري أخره، والمراد بالصانع الله تعالى، وإطلاقه عليه قد ورد في حديث صحيح رواه الحاكم والبيهقي عن حذيفة ولفظه:" إنّ الله تعالى صانع كل صانع وصنعته " (1 (ولا يتوهم أنه مشاكلة فلا يجوز إطلاقه عليه منفردا لما سيأتي، وسئل السبكي رحمه الله عن إطلاق المتكلمين الصانع على الله عز وجل مع أئه لم يرد في أسمائه الحسنى، فأجاب بأنه ورد في القرآن {صُنْعَ اللَّهِ} [النمل 88] وقرىء في {صبغة الله} [البقرة 138] صنعة الله بالعين المهملة، وفي طبقات النحاة أنه إنما يتمشى على رأي من يكتفي في صحة الإطلاق عليه تعالى بورود الماذة، والأصل ولا حاجة إليه لما سمعته، وأيضا روى الطبرانيّ في حديث آخر: " اتقوا الله فإنّ الله

فاتح وصانع " قوله: (وهو كل ما سواه إلخ الما ذكر أنه اسم جنس غلب على ما يعلم به الصانع سواء كان من ذوي العلم أو لا فسره بكوله وهو إلخ. ولما كان ظاهره يوهم أنه اسم لمجموع ما سواه بحيث لا يطلق على أنواعه وأجناسه، قالوا إنّ المراد به القدر المشترك من أجناس ما سوا. تعالى، فإنه يطلق على كل جنس مما يعلم به الخالق أعني غيره جل وعلا كما يطلق أيضا على جنسين منه فصاعداً فيقال عالم الملك، وعالم الإنس وعالم الجن وعالم الأفلاك إلى غير ذلك، ويطلق على مجموعها أيضاً لأنّ مجموعها فرد من جملة ما يعلم به الصانع، فهو مشترك بين المجموع، وما تحته من الأجناس والأنواع والأصناف، ولا يطلق على فرد كزيد مثلاً كما سيأتي أو كل ما يعلم به الصانع من الأجناس، فكلمة ما على الأوّل عبارة عما وضع له لفظ العالم بالغلبة، وعلى الثاني عما يطلق عليه بها وليس اسما للمجموع فقط، والاً استحال جمعه وكونه من قبيل قوله نحن الغالبون في إطلاق الجمع تعظيماً على فرد واحد خلاف الظاهر، وغير مناسب للمقام وقوله: (من الجواهر إلخ) الجوهر ما يقابل العرض، وهو مما اصطلحوا عليه وليس معنى لغويا لكنه حقيقة عرفية، وقد قيل إنّ عبارة المصتف رحمه الله أحسن من قول صاحب الكشاف من الأجسام والأعراض لأنه لا يتناول الجواهر الفردة ولا المركب من جوهرين منها على رأي المعتزلة، واعتذر عنه بأنّ الاستدلال إنما هو بما يشاهد وهو الأجسام والأعراض فلذا لا يضرّ خروج المجردات، وصفات الله والأمور المعقولة منه قوله:(فإنها إلخ) الضمير المؤنث لما باعتبار معناها أو للجواهر والأعراض، وهما بمعنى واحد والدليل عند أهل المعقول القياس المنطقي وهو محمول على أقوال يؤدّي التصديق بها إلى التصديق بقول آخر وهو النتيجة وأهل الأصول يطلقونه على ما يدل وقوعه، أو وقوع شيء من أحواله وصفاته على وقوع غيره من ذالب أو صفة، فيقولون العالم دليل على وجود الصانع قالعالم بفسه عندهم دليل لأن صفاته وهي الحدوث، أو الإمكان تدل على الصانع وهو المدلول فقول المصتف رحمه الله تدلّ على ظاهره وقيل: إنه إشارة إلى مقدمتي دليل ثبوت الصانع أعني العالم ممكن، وكل ممكن له موجد مؤثر، وفيه إشارة إلى

ص: 89

ما تقرّر في الكلام من أنّ الممكن محتاج إلى السبب إلاً أنّ ذلك عند الفلاسفة، وبعض المتكلمين لا مكانه، وعند قدماء المتكلمين لحدوثه، وهو عبارة عن مسبوقية الوجود بالعدم، وليس هو نفس الوجود كما يتوهم وقيل هو الإمكان مع الحدوث، وقيل بشرط الحدوث وأدلتهم وابطال كل فريق ما ذهب إليه غير. مبسوطة في المطوّلات، وستأتي أيضا في محلّها وفي شرح المقاصد أنّ ما ذكر علة بحسب العقل بمعنى أنه ملاحظ الإمكان أو الحدوث فنحكم بالاحتياج كما يقال علة الحصول في التحيز هو التحيز لا بحسب الخارج بأن يتحقق الإمكان أو الحدوث فيوجد الاحتياج، فما ذكروه في الإبطالات مغالطة، والقول بأنه الإمكان أظهر وبالقبول أجدر، واعترض بأنه لو كان علة الاحتياج إلى المؤثر هو الإمكان أو الحدوث، وهما لازء، ن للممكن والحادث لزم

احتياجهما حالة البقاء له لدوام المعلول بدوام العلة واللازم باطل لأنّ التأثير حينئذ إمّا في الوجود وقد حصل بمجرّد وجود المؤثر فيلزم تحصيل الحاصل بحصول سابق، وأما في البقاء أو في أمر آخر متجدد وهو التأثير في غير الثاني أعني الممكن والحادث، فيلزم استغناؤهما عن المؤثر وفي كون الإمكان علة الاحتياج فساد آخر، وهو احتياح الممكن إلى المؤثر حال عدمه السابق مع أنه نفي محض أزليّ لا يعقل له مؤثر، وأجيب بأنّ معنى احتياج الممكن أو الحادث إلى المؤثر توقف حصول الوجود له أو العدم أو استمرارهما على تحقق أمر أو انتفائه بمعنى امتناعه بدون ذلك، وهو معنى دوام الأثر بدوام المؤثر، واذا تحققت فاستمرار الوجود أعني البقاء ليس إلاً وجودا مأخوذاً بالإضافة إلى الزمان الثاني، وصحة قولنا وجد ولم يبق ولم يستمر لا يدلّ على مغايرة البقاء لمطلق الوجود ولا نزاع في ذلك فتدبر قوله:(واجب لذاته) أي واجب ولازم وجوده من ذاته لذاته بحيث لا يستند لغيره، ويحتاج إليه قيل: هذا بناء على ما يقال بعد هذا الدليل، وهو مؤثر العالم إن كان واجب الوجود فهو المطلوب، والاً كان ممكنا فله مؤثر، ويعود الكلام فيه ويلزم الدور أو التسلسل أو الأنتهاء إلى مؤثر واجب الوجود. والأوّلان باطلان فتعين الثالث وهو مبنيّ على كون المحوج هو الإمكان وهو مختار المصثف رحمه الله تعالى في الطوالع، ومن حكم بأنه الحدوث، أو الإمكان معه، أو بشرطه انسدّ عليه باب إثبات الوأجب لجواز أن يكون علة الحوادث ممكنا قديما، ولا حاجة إلى سبب على هذا التقدير، ولذا من تمسك نجالحدوث في إثبات الصانع، ولم يجعل الإمكان وحده محوجا للمؤثر ما أثبت إلآ قديماً تنتهي إليه الحوادث كما صرّحوا به، وبهذا يظهر ضعف ما نقل هنا عن المصئف رحمه الله تعالى، وهو قوله لو قال بدل قوله لإمكانها لحدوثها، أو ضم له الحدوث كان أحسن لأنّ علة الافتقار هي الحدوث، أو الإمكان بشرط الحدوث أو كلاهما، ويجوز على بعد حمل كلام المصتف رحمه الله على ما يوافق مذهب المتكلمين بأن يقال أراد بالافتقار سببه المستلزم له وهو الحدوث، أو يقال جعل جهة الدلالة الإمكان والافتقار ولم يجعل الافتقار مسببا عنه وحده فلعله مسبب عنهما، والوجه ما تقذم.

(أقول (فيه بحث من وجوه:

الأوّل أنّ قوله ويلزم الدور إلخ. الأولى تركه لأنّ إثبات الواجب لا يتوقف برهانه على

ذلك كما فصل في الرسالة الجلالية وشروحها، إذ على تقدير التسلسل يقال مجموع الممكنات أيضا ممكن محتاج إلى مؤثر واجب الوجود لذاته، والحاصل أنّ كل فرد من الجوهر والعرض يدلّ على وجود الواجب، وهو ممكن مفتقر إلى مؤثر والمؤثر لا بذ أن يكون واجباً بلا واسطة، أو معه والأ تسلسل، وكل سلسلة أيضا ممكنة تحتاج إلى الواجب، وإلاً يلزم علة الشيءلنفسه.

اشية الشهاب / ج ا / م 10

الثافي أنّ ادّعاءه انسداد باب إثبات الصانع الواجب الوجود على ما ذكره غير مسلم لما مرّ

من كلام المحقق في شرح المقاصد أنّ هذ. العلة بحسب التعقل والتصديق لا بحسب الخارح فالمعلول، وهو قدم الصانع كذلك والقدم المتقرّر في العقل لا يتخلف فيقتضي وجوب الوجود.

ولذا قالوا ما ثبت قدمه استحال عدمه فهذه مغالطة أيضا.

الثالث أنّ ما نقله عن المصئف رحمه الله في حواشيه وادّعى سقوطه لقوّة ضعفه الظاهر

أنه ليس كما اذعاه، وأنّ المصتف رحمه الله مراده غير ما فهمه عنه، فإنّ مراده أنّ ما ذكره لا يناسب شيئاً من المذاهب المقرّرة في الكلام كما تلوناه عليك لأنّ أحداً لم يقل أنّ العلة الإمكان والافتقار، فلو بدل الإمكان بالحدوث، وعطف عليه الافتقار على أنه تفسير له

ص: 90

ولو ادّعا أو بدل الافتقار بالحدوث، وضم إلى الإمكان كان أظهر إلا أنه يبقى ما الداعي للمصنف إلى تعبيره بما ذكر حتى احتاج إلى التاويل والتبديل فتدبر ثم إنّ هذه النكتة مصححة للإطلاق لا موجبة حتى يقال إنه يلزمه أن يطلق على الأشخاص لجريانها فيها. قوله:(وإنما جمعه إلخ) في الكشاف، فإن قلت لم جمع قلت ليشمل كل جنس مما سمى به انتهى. وفي شرحه للمحقق يعني أنّ الإفراد هو الأصل وهو مع اللام يفيد الشمول بل ربما يكون أشمل، وتوجيه الجواب أنه لو أفرد ربما يتبادر إلى انفهم أنه إشارة إلى هذا العالم المشاهد بشهادة العرف أو إلى الجنس والحقيقة لظهوره عند عدم العهد، فجمع ليشمل كل جنس سمى بالعالم لأنه لا عهد، وفي الجمع إشارة إلى أق القصد إلى الإفراد دون الحقيقة وما زعموه من إبطال الجمعية إنما هو حيث لا عهد ولا استغراق، وما قيل من أنه لو أفرد ما دل على أجناس مختلفة تشملها الربوبية فجمع ليدل على ذلك، كالطهارات معناه أنه موضوع للأجناس، فدل جمعه على عموم الأجناسق بخلاف ما لو أفرد فانه ربما يكون لعموم أفراد جنس واحد لكنه إنما يتتم إذا صح إطلاق العالم على فرد كزيد وكون استغراق الفرد إشمل يأني مفصلاً في محله.

وقال قذس سرّه: إنّ معناه أنّ الإفراد هو الأصل الأخف ولو أفرد مع اللام توهم أن القصد إلى استغراق الإفراد فزال التوهم بلا شبهة، وما قاله الشارح مردود أما أوّلاً فلأنّ المقام يقتضي ملاحظة شمول آحاد الأشياء المخلوقة كلها كما يشهد به قوله هنا مالكاً للعالمين لا يخرج منهم شيئء من ملكوته، وقوله في تفسيره {وَمَا اللهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِّلْعَالَمِينَ} [آل عمران: 98 ا] نكر ظلما وجمع العالمين على معنى ما يريد شيئا من الظلم لأحد من خلقه، وقد اتضح لك وجه الشمول وأمّا ثانياً فلأنّ المقابل للعالم المشاهد هو العالم الغائب فإذا أوهم الإفراد القصد لأ الأوّل ناسب أن يثني ليتناولهما معاً، فانّ الكل مندرج فيهما قطعا، وهذا يدل أنّ الجمعية باقية في الجمع المعزف باللام إذا أريد بها الاستغرأق، فالحكم على

جماعة جماعة ولا يلزم عدم شمول الحكم لكل فرد لأنه لو خرج عنه فرد فهذا الفرد مع كل فردين آخرين جماعة لم يثبت لها الحكم، سواء ثبت لبعضهم أم لا، فلا يصح الحكم بشمول ذلك الحكم لكل جماعة لاستلزامه الثبوت لكل فرد، واعتراض الفاضل على كون الحكم على كل جماعة باستلزامه التكراو في مفهوم الجمع المستغرق لأنّ الثلاثة مثلاً جماعة مندرجة فيه بنفسها، وهي جزء من الأربعة والخمسة، وما فوقها فيندرج فيه أيضاً في ضمنها بل نقول الكل من حيث هو كل جماعة، فيكون معتبراً في الجمع المستغرق، وما عداه من الجماعات مندرج فيه، فلو اعتبر كل واحدة منها كان أيضا تكرارا محضاً مدفوع بأنه لو لزم ما ذكر لزم أيضاً في مثل قوله تعالى {كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} [المؤمنون: 53] وقوله {فَلَوْلَا نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ} [التوبة: 22 ا] وأن لم يلزم منه فساد فتدبر وأيضا إن كان مراده لزوم التكرار له ذهنا، فهو ممنوع إذ المفهوم منه أمر مجمل ليس فيه ملاحظة فرد مما صدق عليه أصلاً فضلاً عن تكراره، وكذا إن أريد لزمه خارجاً لأنّ ثبوت الحكم فيه لكل جماعة ولكل فرد واحد لا يتفاوت بأيّ عبارة يعبر بها عنه بلا مرية.

أقول العالم اسم جمع لكونه على زنة المفردات كخاتم وقالب، وقد حقق النحاة كما في

شرح ألفية ابن مالك أنّ الاسم الداذ على أكثر من اثنين إن كان موضوعا للأحاد المجتمعة دالاً عليها دلالة تكرار الواحد بالعطف فهو الجمع، وإن كان موضوعا للحقيقة ملغى فيه اعتبار الفردية، فهو اسم الجنس الجمعي كتمر وتمرة، وإن كان موضوعا لمجموع الآحاد فهو اسم جمع سواء كان له واحد كركب أو لا كرهط ومنه العالم، وأما عالمون فقال ابن هشام هو اسم جمع على وزن جمع السلامة ولا نظير له وفيه نظر، وقال ابن مالك: ليس جمعاً لعالم لأنه يعم العقلاء، وغيرهم وعالمون خاص بالعقلاء وضعا، وردّ بكونه جمعاً له بعد تخصيصه بالعقلاء، وفي الكشف لو قيل عالم وعالمون كعرفة وعرفات لم يبعد وأنت إذا فهمت ما ذكر عرفت أنّ كلام السعد هو الموافق لكلام النحاة، وعبارة الشيخين صريحة فيه بغير شك لمن تدبر فقوله قدس سرّه في ردّه إنّ ملاحظة المقام تقتضي شموله للآحاد إن أراد وضعا فلا ضير فيه وان أراد ما هو أعمّ منه كدلالته عليه بالالتزام ونحوه كما مرّ فممنوع للزومه له، كما سمعتة آنفاً وفرق بين الإطلاق والشمول، فكما أنّ الجمع إذا عرّف استغرق آحاد مفردة، وان لم يصدق عليها كذا عالم إذا

ص: 91

عرّف شمل أفراد جنسه، فالعالمون كجمع الجمع كالأقاويل يتناول كل فرد كذلك يتناول العالمين.

وقوله المقابل للعالم المشاهد إلخ. يجاب عنه بأنه لو ثنى تبادر الذهن إلى مجرّد الجنسين وربوبيتهما لا تستلزم ربوبية ما تحتهما، والجمع في إفاد 9 استغراقه لجميع ما تحتهما أظهر من التثنية، وإن صح إرادة ذلك منهما أيضا، وما أورد عليه من أنّ اللام إذا كانت لاستغراق آحاد الجنس والجمع لا يفيد إلا تعدّد الجنس، فاستغراق الأجناس من أين يفهم

فجوابه أنّ استغراق الآحاد إنما جاء من استغراق الجموع، وانما سكت عنه لظهوره إذ اللام الاستغراقية تدل على استغراق أفراد ما دخلت عليه وهو الأجناس، والبحث فيه بأنّ التوهم الحاصل في صورة الإفراد وان انتفى عن الجمع لكن فيه إيهام آخر، وهو أنّ المراد منه الجنس دون الاستغراق كالأنهار في قوله تعالى {تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ} [البقرة: 25، مدفوع بأنّ التوهم في الافراد أقوى منه في الجمع لأنّ المتبادر منه الاستغم- اق فإنه من صيغ العموم كما تقرّر في الأصول، وسيأتي في قوله تعالى {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ} [البقرة: 228] تتمة له، وقد بقي هنا مباحث أخر مذكرة في شروج المفتاح وحواشي المطوّل يضيق عنها هنا نطاق البيان. قوله:(وغلب العقلاء منهم (لما كان هذا الجمع مخصوصاً بما هو علم أو صفة لممذكر عاقل بشروطه المذكورة في كتب النحو وقد جمع هنا عالم مع عدم استيفائه شروطه نبه على ذلك بما ذكره إشارة إلى تصحيح جمعيته، ولذا قيل إنما يجمع بالياء والنون صفات العقلاء أو ما هو في حكمها من الأعلام فإنها تؤوّل بمسمى به، وتقديم فائدة الجمع مطلقاً على صحة الجمعية المفيدة لأنّ بيان فائدة المطلق مقذم على بيان وجه صحة المقيد، أو للاهتمام بشأن الفوائد والمعاني والاحتياج إلى بيان وجه صحته بانتفاء شرطيه معا فإنه اسم لا صفة شامل لغير العقلاء، وتعرّض المصنف للأخير إنما هو لظهور الأوّل تنزيلَا لا تحقيقأ فإنه اسم يشابه الصفة لاعتبار معنى فيه وهو العلم به، وصاحب الكشاف تعرّض للأوّل دون الأخير لظهوره أيضاً أو لأنه عنده صفة وليس المراد بالاسم هنا ما يقابل الصفة بدليل قوله كسائر أوصافهيم إلا أن يراد بالأوصاف ما يتناول الحقيقية والتنزيلية، ولا يخفى أنه غلب فيه الذكور أيضاً وان في قوله منهم تغليبين، وفيه نظر لأنّ تأويل العلم المسمى به ليس لما ذكره، كما فصل في كتب العربية ولأنّ كونه وصفا لا يصح لأق قوله ما يعلم به، وتمثيله السابق صريح في أنه اسم آلة، وهي لا تسمى وصفاً كما لا يخفى. قوله: (كسائر أوصافهم) أي كباقي أوصافهم فإنها غبى الصحيح بمعنى الباقي لا الجميع، وقال بالياء والنون ولم يقل بالواو والنون كما في الكشاف لموافقته للنظم وهو اعتبر أوّل أحواله وأشرفها. قوله:(وقيل اسم وضع إلخ) أي هو اسم يطلق على كل جنس من أجناس ذوي العلم لا على كل فرد أو للقدر المشترك بين ذلك فيقال عالم الملك وعالم الإنس وعالم الجن، ولم يرتض المصنف هذا لما يأتي، والمراد بالاستتباع تبعية غير هؤلاء لهم، فتدل ربوبيتهم على ربوبيتهم كدلالة قولك جاء السلطان على مجيء أتباعه وجنده أو مستتبعات اك راكيب، وهي ما يدل عليه بالالتزام، وهو دلالة النص أو إشارته عند الأصوليين إذ من رت أشرف الموجودات رب غيرهم، وهذا جواب عما يخطر بالبال من أنه تخصيص غير مناسب للمقام، وحيحئذ لا تغليب ولا تجوّز فيه والظاهر أنّ القائل بهذا لا يوجه به الجمعية لأنه ليس بصفة عنده، وانما جرى مجراها، كما مرّ فما قيل من أنه مرضه لأنّ هذه الصيغة لم تسمع إلا اسم ا-لة لا اسم فاعل ليس بشيء لأنّ من يرجحه

كالزمخشريّ لم يرد ذلك كما بينه شراحه فإن وهم من قوله لذوي العلم، فوهم على وهم إذ لا يلزم من كون معناه ذوي العلم كونه اسم فاعل، وانما مرض لأنه إن قيل إنه حقيقة خالف اللغة وإن قيل إنه مجاز لم يفد فائدة، قيل وجمع جمع قلة على الأصح لقلتهم في جنب عظمة قدرته أو بالنسبة لما عداهم وفيه نظر ولفظ اسم بمعنى مقابل الفعل أو مقابل الصفة، وما قيل من أنه على هذا مأخوذ من العلم وعلى ما مرّ من العلامة دعوى بلا دليل. قوله:) من الملاتكة إلخ) بيان لذوي العلم، والثقلان الجن والإنس لأنهما ثقلا الأرض والاستدلال به على تجسم الجن في غاية الوهن. قوله:(وقيل عنى به الناس ههنا إلخ) عنى بمعنى قصد مبنيّ للمجهول أو للمعلوم، والضمير المستتر فيه لله تعالى لأنه معلوم بقرينة المقام والتعبير به إشارة إلى أنه معنى مجازيّ، وهذا القول

ص: 92

نسب إلى الحسين بن فضل، واحتج بآيات منها قوله تعالى {أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ} [الشعراء: 165] وهو منقول عن أهل البيت أيضاً، ونقله الراغب عن جعفر الصادق،: عبارته عبارة المصنف بعينها، والمراد أنه في الأصل والحقيقة كل ما سوى الله من الجواهر والأعراض، وقصد به هنا الناس خاصة لتنزيله منزلة جميع الموجودات لأنه فذلكة جميع الموجودات ونسخة كل الكائنات المنقولة من اللوح الرباني بالقلم كما أشار إليه المصنف رحمه الله بقوله من حيث إلخ واياه عنى القائل:

وتزعم أنك جرم صغير وفيك انطوى العالم الأكبر

وهو منزع صوفيّ، فمن قال في شرحه: إنّ تخصيصه بهم لأنّ المقصود بالذات من التكليف بالأحكام من الحلال والحرام وإرسال الرسل عليهم الصلاة والسلام، وانزال الكتب هو الإنسان قال الله تعالى {لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا} [الفرقان: ا] لم يقف على مراده، ولم يحم حول مرامه، وعلى هذا هو شائع في أفي اد البشر مشترك بينها اشتراكا معنويا فكل فرد منه بمنزلة جنس من تلك الأجناس، ومرّضه المصنف رحمه الله لمخالفته لأصله من غير مقتض، ولا دليل يدل عليه إذ المناسب للمقام التعميم، فلا يرد عليه أنه قد يختص بهؤلاء كما في قوله تعالى {وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ} [الجاثية:116. قوله: (من حيث أنه يشتمل إلخ) قيد الحيثية في كلام المصنفين يستعمل على وجوه هي الإطلاق كمايقال إنّ الإنسان من حيث هو إنسان مدرك للكليات والجزئيات، والتقييد كما يقال دلالة التضمن دلالة اللفظ على جزء معناه من حيث هو جزؤه، والتعليل كما يقال الأفيون من حيث إخراجه للحرارة الغريزية يسخن ظاهر البدن وهذا هو المقصود هنا، ويشتمل افتعال من الشمول وهو الإحاطة والفرق بين الاشتمال، والشمول أنّ الشمول يوصف به المفهوم الكليّ بالنسبة إلى جزئياته، والاشتمال يوصف به الكل بالنسبة لأجزائه وهذا أغلبيّ، فلا يرد عليه ما يخالفه، والمراد بالعالم الكبير عالم الملك وهو السماء، وما تحويه بأسره، واشتماله كما في حاشية متقولة عنه لأنّ ما في ذلك العالم من شيء إلا وفي الإنسان نظيره مما يحكيه، ويفيد ما يفيده

في الجملة إذ بدن الإنسان بمنزلة العالم السفليّ، وأخلاطه كعناصره، فالسوداء كالأرض والتراب لكونها باردة يابسة، والبلغم كالماء لكونه باردا رطباً، والدم كالهواء حارّ رطب، والصفراء كالنار حار يابس، ورأسه بما فيه من الحواس الظاهرة والباطنة على رأى، كالعالم العلوي لأنه منبت للأعضاء التي هي محل الحس، والحركة كما أنّ العالم العلوي منوط به أمر السفليات على ما قال تعالى {يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاء إِلَى الْأَرْضِ} [السجدة: 5] ما مع انفرد به من الكمالات المتنوّعة، والهيئات النافعة، والمناظر البهية، والتراكيب العجيبة المبنية في علم التشريح ونحوه مما لا يحصى، كالتمكن من الأفعال الغريبة، واستنباط الصنائع المختلفة، فسبحان من زوّج الآباء العلوية بالأمّهات السفلية، ونقل نسخ الوجود بقلم قدرته العلية إلى الصحف المكرّمة الإنسانية. قوله:(من الجواهو والأعراض) يجوز أن يكون بيانا للنظائر، ولما أضيف إليه، قيل والأوّل أظهر ليكون قوله يعلم بها متعلقا بما هو أقرب وفي قوله بما أبدعه في العالم إشعار بأنّ المشبه به مبدع بخلاف المشبه لنكتة، وهي أنه لما جعله نظيراً للعالم الكبير كان مسبوقا بالمثل في الجملة، وان كان نوعه باعتبار صورته الخاصة به مبدعا على أحسن تقويم. ومن لم يتنبه له أورد عليه أنّ الإبداع إيجاد الشيء من غير سبق مثال وهذا متحقق بالنسبة إلى العالم الصغير والكبير. قوله:(ولذلك سوّى إلخ) ذلك إشارة إلى الاشتمال على النظائر المعلوم مما قبله، والنظر بمعنى الابصار بالعين، وبمعنى التفكر، والتفات النفس بالبصيرة للمعاني، وهو المراد هنا لتعديه بفي، وهو في الأصل مصدر شامل للقليل والكثير، وحقه أن لا يثنى، ولا يجمع فلذا أفرده، فلا وجه لما قيل من أنّ الظاهر أن يقال بين النظرين لاقتضاء بين التعدّد، فكأنه اكتفى بالتعدد المعنوقي من قوله فيهما ضرورة أن النظر فني أحدهما عين النظر في الآخر انتهى، وضمير فيهما عائد على العالم الكبير والصغير، وهو الإنسان والتسوية واقعة في النظم، أمّا في قوله تعالى {وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِّلْمُوقِنِينَ وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ} [الذاريات: 20- 21] وهو الظاهر أو في قوله {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ} [صورة فصلت: 53] وقوله: (وقال إلخ (معطوف على

ص: 93

قوله سوّي عطف تفسيريّ، فتكون التسوية إشارة إلى الآية الأولى أو هو أمر مستقل مغاير لما عطف عليه، فالتسوية بما في الآية الثانية وهي سنيريهم إله. وقوله وفي الأرض إن أريد به ظاهره فتخصيصها من بين دلائل الآفاق لظهورها لمن على ظهورها، وفي قوله {أَفَلَا تُبْصِرُونَ} من غير تمييز بين الإبصار المتعلق بالأنفس، والمتعلق بما يقابلها إشارة إلى شذة ظهورها إذ سوّى بين المحسوس وغيره حتى، كأنّ الجميع محسوس. قوله:(وقرىء رث العالمين بالنصب إلخ) مثل هذا النصب على ا) قطع، وكونه على المدح مستفاد من المقام إذا قدر أمدح وليس بمتعين فقد يقدر

غيره كاذم وأذكر وأعني ونحوه وفي شرح العمدة لابن مالك أنّ المنعوت إذا كان متعيناً لم يقدر أعني بل أذكر، وهذه قراءة زيد بن عليّ، وهي من الشواذ وضعفت بالاتباع بعد القطع إلا أنه قيل إنّ زيداً قرأ بنصب الرحمن الرحيم أيضاً فلا ضعف فيها، وقال أبو حيان قرىء بالنصب، وهي فصيحة لولا خفض الصمفات بعدها، لأنهم نصوا على أنّ الاتباع بعد القطع في النعوت غير جائز، إلا أن يقال الرحمن بدل لا نعت وهو مبنيّ على وجوب تقديم المتبع، وهو غير متفق عليه فإنّ صاحب البسيط جوّزه، وروى شواهد تدل عليه ونصبه على النداء ظاهر لكته، كما في الدرّ المصون أضعف الوجوه لما فيه من الليس والفصل بين الصفة والموصوف، وفيه أيضاً التفات إلا أنه لا يجري فيه ما سيأتي. قوله:(أو بالفعل الذي دل عليه الحمد) فهو منصوب بفعل مقدر هو أحمد أو نحمد لدلالة الحمد عليه، ليس على التوهم، فقول أبي حيان إنه ضعيف لأنه للتوهم، وهو من خصائص العطف توهم غير صحيح مع أنه لا يختص بالعطف أيضاً كما بين في محله، ونصبه به صادق بأن يكون مفعوله أو صفة مفعوله، فإنّ صاحب الكشاف قدر. نحمد الله رب العالمين لأنّ رث صفة لا بد له من موصوف يجري عليه في الأفصح، ولم يجعل الحمد المذكور عاملاً فيه لقلة أعماله محلى باللام، ولأنه يلزم الفصل بين العامل ومعموله بالخبر، وهو أجنبيّ كما قيل وأورد عليه في بعض الحواشي أنّ الزمخشري ذكر في قوله تعالى {وَصِيَّةً لِّأَزْوَاجِهِم مَّتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ} [البقرة: 240] في قراءة أبيّ أنّ متاعاً نصب بمتاع، لأنه في معنى التمتع كقولك الحمد لله حمد الشاكرين فقال التفتازانيّ جاز نصب حمد الشاكرين بالحمد، وهو مصدر معرّف أيضا مع الفصل بالخبر لأنه في الأصل معمول للحمد في موضع المفعول كما تقول حمداً له فجاز لذلك، وكذا كل مصدر جعل متعلقه خبراً عنه، ويؤيده أنّ صاحب الكشاف والمصنف قالا في قوله تعالى {أَرَاغِبٌ أَنتَ عَنْ آلِهَتِي} [مريم: 46] إنّ راغب خبر مقدم مع تعلق عن اكهتي به، وفي الكشف جاز هذا بناء على أنّ المبتدأ ليس أجنبيا من كل وجه فالمبتدأ والخبر لاتحادهما معنى كشيء واحد لا يعد الفصل بأحدهما من الفصل بالأجنبيّ، وهو قدس سره عده منه.

وأنا أقول فيما ذكر اختلاف للنحاة، أمّا أعماله معزفاً ففيه أربعة مذاصب إجازته مطلقا وهو مذهب سيبويه، ومنعه مطلقا وهو مذهب الكوفيين، وجوازه على قبح، وهو مذهب الفارسيّ، وبعض البصريين، والتفصيل بين أن يعاقب فيه أل الضمير فيجوز أولاً فيمتنع، وكذا اعماله مع الفصل مطلقا سواء كان بأجنبيّ أو لا فمنعه بعض النحاة وأجازه بعضهم لقوله تعالى {إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ} [الطارق: 8] لتعلق يوم برجعه، ومن منعه قدر عاملاً على أنّ منهم من تساهل في الظروف، وقيل الأظهر في توجيه هذه القراءة أنه مفتوح فتحة بناء لأنه ماض يقال ربه يربه إذا ملكه، ولا يخفى بعده وتكلفه فإنّ هذه الجملة لا بد لها من موضع ولا يصح أن يكون هنا صفة، والحالية غير مناسبة معنى مع أنه قرىء بنصب الرحمن الرحيم،

فالمناسب كون ما قبله منصوباً، فما اذعى أظهريتة ليس بظاهر. قوله:(وفيه دليل إلخ) أي في توصيف الله برب العالمين دليل على ما ذكر، ومن حكم بأن المحوج إلى المؤثر هو الإمكان قال: إنّ اتصاف الممكن بالوجود ليس من مقتضى ذاته حدوثا وبقاء، فهو في ابتداء وجوده، واستمراره محتاج إليه، ومن قال بأنّ المحوج له هو الحدوث لزمه استغناؤه عنه حال بقائه، ودفع بأن شرط بقاء الجوهر العرض، وهو متجدد محتاج إلى المؤثر في كل حين، فكان الجوهر محتاجا إليه حال بقائه بواسطة احتياج شرطه، فلا استغناء له أصلاً فرجع إلى المذهب المنصور بلا اختلاف في احتياجه إليه في البقاء

ص: 94

وانما الخلاف في أنه بالذات أولاً وهو سهل، وكذلك افتقار. إلى المبقي في كلام المصنف رحمه الله، ووجه الدلالة أنّ التربية تبليغ الأشياء إلى كمالها شيئاً فشيئا إلى انقضائها فيلزم استنادها إليه بقاء وحدوثا، وأيضا العالم ما يعلم به الصانع ولا يكون ذلك إلاً بعد وجوده وهو ظاهر، وكذا الملك لما يلزم من الحفظ والاستناد إلى المالك فسقط ما قيل من أنّ الدلالة فيها كلام، فإنّ التربية والمالكية تجامعان استغناء الممكنات عن المبقى، وان دفعه القائل بأنه يمكن أن يقال إنّ الحفظ معتبر في معنى الرب أو لازم له إذ معناه إدامة وجود الممكنات وإبقاؤها كما ذكره الغزاليّ، وأورد عليه أنّ الحفظ له معنيان كما صرّح به الإمام أحدهما ما ذكر، والآخر صيانة المتعاديات والمتضادّات بعضها عن بعض، ففي كون المعتبر في مفهومه، أو لازمه هو الأوّل نظر إلا أن يراد بالمبقى أعمّ مما يديم الوجود أو يصونه، وما قيل من أنّ بقاء الممكنات من جملة بلوغها إلى الكمال، واحتياجها في بلوغ الكمال إلى المؤثر يدل على احتياجها إليه مطلقاً، فالرب من حيث تبليغها إلى البقاء مبق كما أنه من حيث إخراجها من العدم إلى الوجود مبدع لا محصل له، وقد عرفت ما يغنيك عن أمثاله، فإنّ البقاء ليس إلا وجوداً مأخوذاً بالإضافة إلى الزمان الثاني، والوجود في الزمان الثاني متوقف على ما قبله ومحتاج والمحتاج إلى المحتاج محتاج بديهة، فإنّ اتصافه بالوجود لما لم يكن ذأقياً أوّلاً كان كذلك فيما بعده لاستواء نسبته إلى الوجود في سائر الأزمان وتجدد الوجود له في كل حين هو التربية الإلهية ولا حاجة إلى أن يقال الدليل في كلامه ليس بمعنى البرهان القطعيّ بل ما يقتضيه الفحوى ويشهد به الذوق، والمصنف رحمه الله كثيراً ما يريد به هذا. قوله:(كرّره إلخ) ما سيذكره هو قوله وإجراء إلخ. فان ترتب الحكم على الوصف مشعر بالعلية، فهذا تعليل لاستحقاقه للحمد وأنه لاتصافه تعالى بهما، كما أنّ ذكرهما في البسملة تعليل للابتداء باسمه والتبرّك به، وهذا بناء على مذهبه من أنّ البسملة من الفاتحة أو جواب عما قيل أنّ البسملة ليست من السورة، والا لزم تكرار الاسمين من غير فائدة وفي التفسير الكبير الحكمة في تكريره أنه في التقدير، كأنه قيل اذكر أني إله رب مرة، واذكر أني رحمن رحيم مرّتين ليعلم أنّ العناية بالرحمة أكثر من سواها، ثم لما بين تضاعف الرحمة قال: لا تغترّ بذلك فإني مالك يوم الدين فهو كقوله {غَافِرِ الذَّنبِ} [غافر: 3] إلخ وفيه أنّ

الألوهية مكرّرة أيضاً فتدبر. قوله: (قرأه عاصم إلخ (ضمير قرأه راجع إلى مالك بالألف لأنه معلوم من تقدّم ذكره، ويعضده بمعنى يؤيد. ويقوّيه، يقال عضده إذا صار له عضدا أي معينا وناصرا، وأصل العضد في اليد من المرفق إلى الكتف فاشعير للمعنى المذكور ثم شاع حتى صار حقيقة فيه وجعل هذه الآية مؤيدة لهذه القراءة لأنها مأخوذة من الملك بالكسر، وسيأتي الفرق بيته وبين الملك بالضم، فإنّ المراد باليوم فيها يوم القيامة، وهو يوم الدين أيضا، ونفى المالكية عما سواه يقتضي إثباتها له إذ السياق لبيان عظمتة تعالى، ومجرّد نفي المالكية عن غيره لا يقتضيها بشهادة الفحوى والذوق، وتنكير الأسماء الثلاثة للتعميم، وتعميم الأخير لشموله الضرّ والنفع والقليل والكثير، وأورد عليه أنّ قوله {وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ} [الانفطار: 19] ظاهره يعضد قراءة ملك لمناسبته للأمر مناسبة تامّة، وقد فسره في التيسير وغيره بأنّ الحكم حكمه ولا قاضي سواه، وهو صريح في إثبات الملك بالضم له، ولذا قيل إنه يؤيد خلاقه وقيل إنها مقوّية، ومؤيدة لا نص موجب لمدّعاه فيكفي موافقة معناه لأوّلها مع أنّ آخرها موافق له اً يضا فإنّ المراد بالأمر المالكية فلما نفاها أوّلاً عن غيره صرّح بعده بإثباتها على العموم له كما هو المعروف في أمثاله من التذييل، نعم هو على هذا بمنطوقه مؤكد لمفهوم ما قبله، ولو فسر الأمر بالحملك بالضم كما مرّ أو بالأعمّ منه كان تأسيسا متضمناً للتأكيد على وجه أبلغ، ومن هنا ظهر ضعف ما قيل أنه تعالى لما نفى مالكية أحد لشيء على العموم أثبت بعده أنّ جميع الأمور مملوكة له تعالى في ذلك اليوم، فلا يشاركه أحد في مالكية شيء منها، وهو معنى مالك يوم الدين ولا وجه لكونه مشتقا من الملك بالضم، لأنّ المقام يقتضي نفي التصرّف مطلقا لا نفي التصرّف بطريق التكليف فقط، والقرآن يفسر بعضه بعضا، ويعقوب بن إسحاق الحضرمي البصري هو التاسع من القرّاء العشرة. قوله: (وقرأ الباقون ملك) أورد

ص: 95

عليه أنّ قراءة خلف بن هشام توافق الة راءة الأولى، وردّ بأنّ المراد بالباقين هنا باقي الثمانية الذين قدم المصنف ذكرهم بقوله الأئمة الثمانية المشهورون، وقوله وهو المختار قيل عليه قد رجح كل فريق إحدى القراءتين على الأخرى ترجيحا يكاد يسقط مقابلتها وهو غير مرضيّ لتواترهما، وقد زوي عن ثعلب أنه تال: إذا اختلف إعراب القراءات السبعة لا أفضل إعرابا على إعراب في القرآن بخلاف ما إذا وقع في كلام الناس، وقريب منه ما قيل لو أبدل المختار بالأبلغ، كان أولى لتواترهما ووصف إحداهما بالمختار يوهم أنّ الأخرى بخلافه.

وأنا أقول في الفقه الأكبر أنّ الآيات لا يكون بعضها أفضل من بعض باعتبار التلاوة إنما

يكون باعتبار المعنى، فسورة الإخلاص مثلاً أفضل معنى من سورة تبت لأنّ معنى الأولى توحيد وهذه في صفة بعض الكفار، والأوّل أفضل من هذه الجهة كآية الكرسي، ولا شبهة أيضاً في أنّ بعض القراءات أفصح من بعض كقراءة ابن عامر {قَتْلَ أَوْلَادِهِمْ شُرَكَآؤُهُمْ} [

الأنعام: 137] لا يخفى على ذي تمييز أنّ قراءة الجمهور أفصح منها وأنّ بعض القراءات أشهر من الأخرى، كالقراءة المتفرّد بها راو وغيرها المتفق عليها الباقي وكبعض القراءات الجارية على مقتضى الظاهر، ومقابلها الجاري على خلافه لنكتة، فعلى هذا ما المانع من أن يقال أنّ بعضها مختار لبعض العلماء أو الرواة، ولا يلزم من كونه مختاراً نقص مقابله، والقرّاء يقولونه من غير إنكار فهذا الإمام الجعبري يقول دائماً ومختاري، كذا من غير تردّد منه. قوله:(لأنه قراءة أهل الحرمين) قيل عليه أنه لو سلم كون أوائلهم أعلم بالقرآن لا نسلم ذلك ني عهد القرّاء المشهورين ألا ترى صحيح البخاري يقدّم على موطأ مالك، وهو عالم المدينة على أنّ القراءات المشهورة كلها متواترة، وبعد التواتر المفيد للقطع لا يلتفت إلى أحوال الرواة، اللهتم إلا أن يريد زيادة الفصاحة فإنّ لغتهم أفصح، وقد وافقهم قرّاء البصرة، والثأم وحمزة من الكوفيين أيضاً، ولذا قيل هم أولى الناس بأن يقرؤا القرآن غضاً طريا ما أنزل وهم الأعلون فصاحة ورواية وعليه أرباب الحواشي بأسرهم، والمصنف رحمه الله تغ الزمخشريّ في ذلك، ولم يعترضوا عليه بل أوردوه مسلماً، وقال الفاضل لعلوّ رتبة القاري رواية وفصاحة.

قلت: لا يخفى أنّ أهل الحرمين قديما وحديثاً أعلم بالقرآن والأحكام، ولذا استدل

بعض الفقهاء بعمل أهل المدينة، وأمّ مجرّد فصاحتهم التي توكأ عليها ذلك القائل، فلا يجد به نفعاً لأنّ القراءة سماعية لا دخل للراوي، والفصاحة في روايتها أصلَا. قوله:(ولقوله تعالى إلخ) فقد وصف ذاته بأنه الملك يوم القيامة، وهو يوم الدين والقرآن يفسر بعضه بعضاً، والآية السابقة لا تعارضه لأنها ليست نصاً في المالكية كما مرّ، وكل منها مقوّ لا دليل قاطع، ولم يذكر قوله تعالى {مَلِكِ النَّاسِ} [الناس: 2] مؤيداً كما في الكشاف لمغايرة معناها لما هنا لئلا يتكرّر مع قوله رب الناس، وأمّا رب العالمين، فلا تكرار فيه لأنه فسر بما يدل على صئانعه، فيختص بالدنيا وما بعده في الآخرة، ولو فسر بالأعئم أيضاً يكون ذكر الخاص بعده اعتناء بشأنه غير مكرّر، ولو سلم فمثله كثير وباب التأكيد مشهور. قوله:(ولما فيه من التعظيم) فإنّ لفظ الملك كالسلطان فيه دلالة على العظمة، لأنّ الناس قلما يخلو أحد منهم من كونه مالكاً، ولا يكون الملك إلا أعلاهم، فهو ما بينهم عزيز قليل، وتصرّفه عام قويّ كما سيأتي، فلذا أردفه المصنف رحمه الله ببيانه فقال: والمالك هو المتصرّف إلخ، وفي الكشاف أنّ الملك بالضم يعغ وبالكسر يخص فقال المدقق في الكشف لم يرد به العموم والخصوص المصطلحين لأنّ أحدهما لا يدخل في مفهوم الآخر، فلا يفرص شاملَا له، وهذا بحسب العرف الطارىء في الملك بالكسر، وفي التحقيق الملك بالكسر جنس للملك بالضم، والمم اد أنّ ما تحت حياطة الملك من حيث كونه ملكاً والعموم والخصوص لغة يقع على مثل هذا، وجاز أن يراد أنّ شمول سياسته فوق سياسة المانك، والتحقيق أنّ الملك بالضم نسبة بين من

قام به ومن تعلق، وان شئت قلت صفة قائمة بذاته متعلقة بالغير تعلق التصرف التام المقتضي استغناء المتصرف، وافتقار المتصرف فيه، ولذا لم يصح على الإطلاق إلا لله وهو أخص من الملك بالكسر لأنه تعلق الاستيلاء مع ضبط، وتمكن من التصغيئ في الموضوع اللغويّ، وبزيادة كونه حقاً في الشرع من غير نظر إلى استغناء وافتقار، وانّ ما يملكه الملك من المتملك عليه أعنى

ص: 96

سياسته الخاصة ملكه فيه أتتم مما ملكه المالك أمّا ما لا يملكه الملك ويملكه المالك، فليس موود البحث كعكسه، فقد لاح أنّ ما يتوهمه بعض العامّة من أنّ تصرّف المالك في الملوك أتمّ من تصرّف الملك في الرعايا منشؤه من عدم فرض اتحاد المورد والنظر إلى العرف الفقهيّ، والكلام في الموضوع اللغويّ بل المعنى الأصليّ المشترك بين اللغات كلها، وقولهم الملك بالضم التصرّف بالأمر والنهي في الجمهور، ويختص بسياسة الناطقين، والملك بالكسر ضبط الشيء المتصرّف فيه بالحكم بناء على العرف العامي، ولذا قلنا لا يدخل أحدهما في مفهوم الآخر، ويرجح هذه القراءة تكرار الرث بمعنى المالك، ووصفه تعالى ذاته بالملكية عند المبالغة دون المالكية في قوله تعالى {مَالِكَ الْمُلْكِ} [آل عمران: 26] انتهى. أقول هذا مما تلقوه بالقبول ولخصه قذس سره من غير تصرّف فيه، وهو مأخوذ من كلام الراغب، وقد قال السمين في مفرداته أنه مخصوص بصفات الآدميين، وأمّا في صفته تعالى فالمالك والملك بمعنى واحد، والظاهر أنّ بين المالك والملك عموما وخصوصا وجهيا لغة وعرفاً، فيوسف الصديق عليه الصلاة والسلام بناء على أنه ملك رقاب أهل مصر في القحط بناء على شرعهم ملك ومالك، والتاجر مالك غيره ملك والسلطان على بلد لا ملك له فيها ملك غير مالك وأمّا ما مرّ ففيه نظر من وجوه:

الأوّل أنّ قوله إنّ أحدهما لا يدخل في مفهوم الآخر غير مسلم لأنّ الظاهر أنّ الملك بالضم هو التصرّف في كل ما في مملكته كما يرى وبالكسر تصرّف خاص فيما تحت يده فالأول أعمّ وكذا الملك وا اصالك وما ذكره من معنى العموم والخصوص اللغويّ خلاف المتبادر ولا يذهب لمثله من غير داع وان صح في نفسه. . قوله: (والتحقيق إلخ) مؤيد لما قلنا.

والثاتي أنّ قوله من غير نظر إلى استغناء وافتقار فيه نظر لأنّ ذلك من شأن المالك والمملوك فلو نظر إلى ما يخالفه نادراً كان الأوّل كذلك من غير فرق.

والثالث أنّ قوله التصرف بالأمر والنهي إلخ غير مسلم أيضا لأنّ المعروف خلافه، فإنّ الملك يملك بالسلطنة الحصون، والبلاد وغيرها مما لا يعقل، وله التصرّف فيها أيضا فلا وجه لهذا التخصيص فأعرفه. قوله:(والمالك هو المتصرّف إلخ) قيل عليه أنه لا يناسب المقام وإنما يلائم كون المالك أولى لأنّ المالكية سبب لإطلاق التصرّف دون الملكية، ويمكن أن

يقال مراده أنّ المالك هو المتصرّف فىب الأعيان المملوكة له كيف شاء، والملك هو المتصرّف بالأمر والنهي في المأمورين الذين هم رعيتة جميعاً، فيتناول تصرّف الأعيان المملوكة وغيرها من المالكين لها وغيرهم، فالمالك من حيث هو مالك دون الملك، وما ذكر من أنّ الملك هو المتصرف بالأمر والنهي في المامورين بناء على أنّ الملك يضاف عرفا إلى ما ينفذ فيه التصرّف بالأمر والنهي، ولا ينافي كونه أكثر حياطة وتصرفا هذا، وما ذكر إنما هو بالنظر إلى اللفظ والى مجرّد مفهومي الفردين، وأمّا بعد الإضافة إلى الأمور كلها، فكونه مالكاً للأمور كلها في يوم الدين في قوّة كونه ملكاً، ولذا قال مالكاً لأمورهم يوم الثواب والعقاب بعد اختيار الملك.

أقول هذا غريب منه مع دقة نظره، فانّ مراد المصنف أنّ الملك بالكسر مختص بالأعيان

من غير العقلاء كالثياب والأنعام، والرقيق أيضاً له حكمها لالحاقه بما لا يعقل، والملك بالضم مختص بالعقلاء، وتملكهم أشرف وأقوى، ومن يملكهم يملك غيرهم بالطريق الأولى، فكيف يكون هذا مرجحا للمالك، وهذا معنى لغويّ لا عرفيّ كما قيل. قولى:(وقرىء ملك بالتخفيف) أي بفتح الميم وسكون اللام بعد كسرها، ولذا سماه تخفيفاً، فإنّ السكون أخف من الكسر، وفعل المكسور والمضموم عينه يجوز تسكينه قياسا بخلاف المفتوح، وهي قراءة شاذة، وظاهر. أنه ليس لغة أصلية، وقد ذهب بعض أهل اللغة إلى أنه غير مخفف وأنه صفة بزنة صعب أو مصدر وصف به مبالغة كما في القاموس. وقوله. (بلفظ الفعل) أي الماضي المفتوح العين واللام ونصب اليوم وفي الكشاف قرأ أبو حنيفة رضي الله عنه ملك يوم الدين بلفظ الفعل إلخ وفي نشر ابن الجزري القراءات المنسوبة لأبي حنيفة التي جمعها أبو الفضل محمد بن جعفر الخزاعي ونقلها عنه أبو القاسم الهذلي وغيره لا أصل لها، قال أبو العلاء الواسطيّ: إنّ الخزاعي وضع هذا الكتاب ونسبه إلى أبي حنيفة، فأخذت خطوط الدارقطني وجماعة على أن هذا الكتاب موضوع لا أصل له قلت وقد

ص: 97

رأيت الكتاب المذكور، وفيه {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء} [فاطر: 28] برفع الهاء ونصب الهمزة، وقد راح ذلك على أكثر المفسرين، ونسبوها إليه، وتكلفوا توجيهها، وأبو حنيفة رضي الله عنه بريء منها انتهى. فإيراد هذه القراءة غير لائق من الشيخين، ومن قال إنها قراءة حسنة لاحتمالها معنى القراءتين لجواز كونه من الملك والملك، وهذه الجملة صفة لموصوف تقديره اله ملك إلخ وهو بدل من المعرفة لوصفه، فقد زاد في الطنبور نغمة وذكر ما يحسن تركه، وقال أبو حيان: إنها جملة لا موضع لها، ويجوز أن تكون حالاً. قوله:(ومالكاً بالنصب على المدح إلخ) وفي بعض النسخ وملكا بدون ألف، وهي قراءة أيضا كما في حواشي الليثي، وقيل نصبه على الحال وفي التيسير أنه على النداء وهو بعيد، ولذا قيل أنّ غيره أولى منه لإفادته علية هذه الصفات للعبادة، فلذا تركه الأكثر، والمراد بالمدح تقدير أمدح ونحوه، وهو في عرف النحاة

في النعت بمعنى القطع إلا أنّ النكرة لا توصف بها المعرفة، فهو تسامح منه أو بناء على ما ذكره بعض النحاة من أنّ النعت المقطوع لا يلزم فيه موافقة منعوتة تعريفا وتنكيراً، وانما يلزم لو تبع منعوته وعلى تنوينه يوم ظرف أو مفعول به، وما قيل من أنه إذا نوّن رفعا ونصبا بألف ودونها منصوب على الظرفية لا غير لأنّ الصفة لا تعمل النصب، واسم الفاعل إنما يعمل بمعنى الحال أو الاستقبال، وصفاته تعالى أزلية ليس بشيء لأنّ نصبه على التوسع فيجوز عطلقا، وأيضا الأزلية لا تنافي العمل لشمولها للحال والاستقبال، وما ذكر غير متفق عليه. قوله:(ويوم الدين إلخ) الدين له معان كالعبادة والملة وسيأتي وقيل بين الدين والجزاء فرق، فإنّ الدين ما كان بقدر فعل المجازي والجزاء أعئم، واختار يوم الدين على غيره من أسماء القيامة رعاية للفاصلة وافادة للعموم، فإنّ الجزاء يتناول جميع أحوال الآخرة إلى الأبد وكما تدين تدان معناه كما تفعل تجازى، وهو من المشاكلة إلا أنه قذم فيه المشاكل وهو جائز وان كان المشهور خلافه كما في البيت، وقد قرّره شرّاج المفتاح في قوله:

أوما إلى الكوماء هذاطارق نحرتني الأعداء إن لم تنحر

وقيل معناه كما تجازي غيرك تجازى، فلا مشاكلة فيه، وهو مثل أوّل من قاله خالد بن نفيل، وله قصة في مجمع الأمثال، وقد تمثل به النبيّ تعليم في حديث رواه أبو الدرداء وهو " البرّ لا يبلى والإثم لا ينسى والديان لا يموت فكن كما شئت كما تدين تدان ") 1 (. وفي التوراة ما معناه كما تدين تدان، وكما تزرع تحصد وفي الإنجيل كما تدين تدان وكما تكيل تكتال، والجارّ والمجرور أو الكاف فيه صفة مصدر مقدّر أي دينا مثل دينك. قوله: (وبيت الحماسة إلخ) أي ومنه بيت الحماسة وأصل معنى الحماسة الشدة والشجاعة وهو اسم الكتاب المعروف لأبي تمام الطائي والشعر المذكور من قصيدة في حرب البسوس لشاعر يسمى الفند الزماني وأوّلها:

صفحنا عن أبي ذهل ولخا القوم إخوان

ولم يبق سوى العدوا ~ ن دناهم كما دانوا

وقوله دناهم جواب لما، والعدوان بضم العين الظلم، وبقية القصيدة، والكلام عليها في

شرح المرزوقي وغيره. قوله: (وأضاف اسم الفاعل إلخ) الظرف إمّا متصرّف، وهو الذي لا يلزم الظرفية، أو غير متصرّف، وهو مقابله، والأوّل كيوم والليلة فلك أن تتوسع فيهما بأن ترفع، أو تجرّأ وتنصب من غير أن يقدر فيه معنى في، فيجري مجرى المفعول به لتساويهما في عدم تقدبر في فيهما، فإذا قلت سرت اليوم كان منصوباً انتصاب زيد في نحو ضربت زيدا ويجري سرت مجرى ضربت في التعدي مجازا، لأنّ السير لا يؤثر في اليوم تأثير الضرب في زيد، ولا يخرج بذلك عن معنى الظرفية، ولذا يتعذى إليه الفعل اللازم ولا يظهر الفرق في الاسم الظاهر، وإنما يظهر في الضمير لأنك إذا أضمرت في قلت سرت فيه، والا قلت سرته كما في بيت الكتاب:

ويوم شهدناه سليما وعامرا قليل سوى طعن النهار نوافله

واذا توسع في الظرف إن كان فعله غير متعد صار متعديا، وان كان متعدّيا إلى واحد

صار متعذيا إلى اثنين

ص: 98

كحفرت بئر اليوم. وان كان متعذيا إلى مفعولين فمن النحويين من أبى الإتساع فيه لأنه يصير متعدياً إلى ثلاثة وهو قليل، ومنهم من جوّزه وان كان متعدياً إلى ثلاثة لم يجز، لأنه يصير متعدّيا إلى أربعة ولا نظير له، وحكى ابن السراج عن بعضهم جوازه هذا خلاصة مذاهب جميع النحاة كما في شرح الهادي، وهذا نصه وتحقيقه أنّ التوسع في الظروف جعل نسبة الفعل إليها وتلقه بها باعتبار كونه واقعا فيها بمنزلة نسبته إلى المفعول به الواقع عليه لما بيبهما من الملازمة والمشابهة لأنّ نحو زيداً المفعول، كمحل الفعل لظهور أثره فيه، فالتوسع هنا تجوّز حكمي في النسبة الظرفية الواقعة بعد نسبة المفعول به الحقيقيّ وأثره يظهر في الإضمار كما مرّ، فلذا كان اللازم معه متعدّيا والمتعدي متعديا لأكثر مما كان يتعدى له فالمتعدي قبله باق على حاله، حتى إذا لم يذكر مفعوله قدر أو نزل منزلة اللازم، ومنه عرفت أنّ الجمع بين الحقيقة والمجاز في المجاز الحكميّ ليس محل الخلاف، ولذا قال الرضيّ: اتفقوا على أنّ معنى الظرف متوسعا فيه وغير متوسع فيه سواء لا ما توهمه بعض أرباب الحواشي، وهذا مما يعض عليه بالنواجذ لكثرة جدواه كما ستراه، وفي قوله اسم الفاعل دون مالك مع أنه أخصر دقيقة وهو أنه على القراءة الأخرى إن قيل أنه صيغة مبالغة كحذر كان ملحقا باسم الفاعل، وله حكمه فيدخل فيه على ألطف وجه، وأخصره وإلا فهو إمّا صفة مشبهة أو ملحق بأسماء الأجناس الجامدة كسلطان، فلا كلام في إضافته، قويل إنه تعرّض لإضافة مالك مع أنه غير مختار عنده، لأنه لا إشكال فيه إذ هو صفة مشبهة مضافة إلى غير معمولها،

فإضافته معنوية، فيوصف به المعرفة، وفي إضافة اسم الفاعل خفاء، فلذا تعرّض لتخصيصها، ونص على ظرفية يوم الدين لإفادة أنّ مملوكيته غير حقيقية، واليوم من الفجر الصادق أو من طلوع الشمس إلى الغروب ويطلق على مطلق الوقت قليلاً أو كثيرا، ويوم القيامة حقيقة شرعية في معناه المعروف ومجرى بضم الميم من الإجراء، وهو اسم مكان مجازفي ويجوز فتح الميم أيضاً قيل: وقد يتوهم أنّ مجرى بزنة موسى دون مرض ليناسب الإجراء، ونحن نجعله على وزن مرضى بفتح الميم ليدل على أنّ المفعول به يجري في هذا المكان بنفسه بخلاف الظرف، فإنه يجري بإجراء المتكلم لأنه ليس مذهبه، نعم لو جعل مجرى مفعولاً مطلقاً كان الأظهر جعله كموسى، وأورد عليه أنّ المفعول المطلق من المصدر لم يسمع وليس معه فعل يكون هو مفعوله وهو غفلة منه، فإنه مصرّح بخلافه في متون النحو، وقد مرّ قريبا ما في الكشاف من أنّ متاعا في قوله تعالى {؟ متاعاً إلى الحول} [البقرة: 245] منصوب بمتاع الأوّل. قوله: (يا سارق الليلة أهل الدار) يقال سرقه مالاً يسرقه من باب ضرب، وسرق منه مالاً يتعدى إلى الأوّل بنفسه، والى الثاني بالحرف، وقد يحذف فيتعدى له بنفسه كما في المصباح، وهذا شاهد على أنّ هذه الإضافة للمفعول المجازيّ كما مرّ، وهو بيان لحكمه في نفس الأمر كما بينه النحاة لا تصحيح لوصف المعرفة به، لأنّ المعمولية غير مناسبة له، ولو كان كذلك لم يصرحوا به بعده، فما قيل من أنه جواب لسؤال مقدر، وهو أنّ هذه الإضافة لفظية إذ هي من إضافة الصفة لمعمولها فكيف وصف به المعرفة، فأجيب بما ذكره المصنف رحمه الله لا وجه له، ثم إنك قد عرفت مما تلوناه عليك أنّ هذا المفعول لا بدّ من زيادته على مفعوله الأوّل إن كان متعدّيا وأكثر أرباب الحواشي هنا لم يقفوا على تفصيله فخبطوا خبط عشواء، فمنهم من قال أنّ انتصاب أهل الدار بمقدر أي احدّر، وقد يجعل مفعولاً أوّل لسارق لأنه قد ينصب مفعولين كما مرّ، فتوهم أنه ينافي نصب المفعول، فاحتاج إلى التقدير أو تعديه لاثنين، وكذا من قال إنّ المفعول الذي صرف النسبة مته إلى الظرف في هذا البيت محذوف كما في مالك يوم الدين وأهل الدار غير ذلك المفعول، فإنه يقال سرقه مالاً وسرق منه مالاً كما مرّ وعلى الثاني أهل الدار منصوب بنزع الخافض، فلا يرد أنه ينافي كونه مجازاً حكميا ذكر المفعول لأنّ المفعول المجازيّ لا يجتمع مع المفعول الحقيقيّ، ولا مع مفعول آخر مجازفي، فلا يقال أجرى النهر الماء، ولا أجريت النهر الزرع انتهى. وهو كله من ضيق العطن لما مرّ فتدبر، وقوله قدس سره: من قال الإضافة في مالك يوم الدين مجاز حكمي، ثم زعم أنّ المفعول به محذوف عامّ يشهد لعمومه الحذف بلا قرينة خصوص، ويرد عليه أنّ

ص: 99

مثل هذا المحذوف المقدر في حكم الملفوظ فلا مجاز حكمي، كما في نحو واسأل القرية إذا كان الأهل مقدراً انتهى ناشىء من عدم تحرير المبحث، ثم قال وأمّا إضافة ملك فلا إشكال فيها لأنها إضافة الصفة المشبة إلى غير معمولها كما في رث العالمين، فهي حقيقية فإنها تضاف إلى الفاعل دون

المفعول، لأنها لا تعمل النصب أصلاً، واذا توسع فيه نصب الظرف نصب المفعول به أو إضيف إليه على معنى اللام، ولم يعتد بالإضافة بمعنى في، وأن رفعت مؤنة الإتساع وما يتبعه من الإشكال إمّالأنّ الاتساع محقق في الضمائر المنصوبة لأنها لا تنصب على الظرفية، فحمل على ما هو محقق، وامّا لأنّ في الاتساع قخامة المعنى فكان أولى بالاعتبار ومن أثبتها نظر إلى الظاهر من غير تحقيق، وأهل الدار منصوب بسراق لاعتماد. على حرف النداء كقولك يا ضاربا زيداً ويا طالعا جبلاً، وتحقيقه أنّ النداء يناسب الذات، فاقتضى تقدير موصوف أي يا رجلَا ضارباً انتهى.

وفيه يحث كا وجوه:

الأوّل أن قوله إنّ الصفة المشبهة لا تعمل النصب مخالف لما صرّحوا به من أنها تنصب معمولها على التشبيه بالمفعول به، فإن قيل المراد أنهالا تنصب حقيقة فهذا المفعول هنا غير حقيقيّ أيضاً فكأنه أراد أنها لا تعمل النصب في محل المضاف إليه لأنه فاعل واذا نصب نصب على التسمح، واذا أضيف ردّ لأصله إذ لا داعي لمخالفته، وهذا من الكشف، وعبارته لأنّ الصفة المشبهة لا تعمل النصب أبدا، ألا ترى إلى قولهم إنّ الصفة المشبهة تضاف إلى فاعلها في بحث الإضافة، وهي ناطة ة بهذا.

الثاني أنّ النحاة صرّحوا بأنّ إضافة الصفة المشبهة غير محضة ليست على معنى حرف، والفرق بين معمول ومعمول تحكم محتاج لنقل.

الثالث أنّ ابن مالك لما ذكر الاعتماد على النداء تبعاً لبعضهم اعترضوا عليه بأنه ليس كالاستفهام والنفي في التقريب من الفعل لاختصا عالنداء بالأسماء، فكيف يكون مقرّباً من الفعل.

". فأجيب بأنّ الاعتماد في مثله على موصوف مقذر، واليه جنح قدس سرّه، إلا أن الرضمى قال في باب الموصول إنّ تقدير الموصوف فيه لا سند له في كلام العرب ولا شاهد لهم على ما ادّعوه هنا، وقال بعض حذاق العصر حرف النداء قام مقام أدهو وهذا يكفي في التقرب، ولو أجيز الاعتماد على المقدر لفات شرط الاعتماد، إذ لا بد للصفة من موصوف تجري عليه ملفوظ أو مقدّر وليس بشيء لأنّ كون يا بمعنى أدعو يقتض ي كون المنإدى مفعولاً، والأصل فيه الاسمية فلا تقريب فيه أيضاً، وليس كل مكان يقذر فيه الموصوف نا لم يكن يقتضيه ويتقاضاه، ثم إنه جعل هنا التوسع والإضافة لأدنى ملابسة مجازاً لغويا وبينهما مخالفة ظاهرة وسيأتي تحقيقه في محله.

بقي هنا فائدة وهي أنّ السعد رحمه الله تعالى صرّح بأنّ الإضافة بمعنى في معنوية وتبعه قدّس سرّه، وقد ذكر الرضى أنّ إضافة مالك يوم الدين سواء كانت بمعنى في أو متوسعا فيها

لفظية لأنّ المضاف إليه إمّا مفعول فيه أو به، وعلى أيّ تقدير هو معمول الصفة، ووفق بينهما بأنّ الأوّل محمول على ما إذا كان معنى في مدلولاً للإضافة، ومالك يوم الدين إذا لم يرد به الماضي أو الاستمرار بل الاستقبال وتعمل الصفة في اليوم لا يكون معنى في فيه مدلولاً للإضافة لأنه قد كان حاصلَا قبلها، وتأثير الإضافة في اللفظ فتدبر. قوله:(ومعناه ملك الأمور يوم الدين) قوله معناه صريح في أنه لم يرد تقدير الأمور في النظم حتى يلزم كون اليوم ظرفا محضا، فيفوت تنزيله منزلة المفعول به وعموم الأمر يفهم من حذف المفعول بلا قرينة الخصوص لتأ هب النفس كل مذهب، أو من جعل مالكيته ليوم الدين كناية عن كونه مالكا للأمر كله لأنّ تملك الزمان كتملك المكان يستلزم تملك جميع ما فيه بناء على أنه لا يلزم في الكناية إمكان المعنى الحقيقيّ، فإنّ الزمان عند بعض المتكلمين معدوم وتملك المعدوم ممتنع، وعلى أنّ الاستلزام بمعنى الانتقال في الجملة لا بمعنى امتناع الانفكاك، فلا يرد منع الاستلزام. قوله:(على طريقة ونادى أصحاب الجنة إلخ) يعني أنّ اسم الفاعل كالمفعول يخالف الصفة المشبهة الدالة على الثبوت، فهو حقيقة في الحال إلا أنه منزل منزلة الماضي في تحقق الوقوع، فاستعير له استعارة تبعية كما في قوله تعالى {وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ} [الأعراف: 44] فإنه بمعنى ينادي، وارادة الماضي منه، ولو بالتنزيل مانعة عن العمل كما أإرادة الحال ولو حكاية كما في قوله تعالى {وَكَلْبُهُم بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ} [الكهف: 8 ا] كافية فيه هذا هو المشهور

ص: 100

وقيل إنه حقيقة فيه، وفي الماضي أيضاً، وأمّا في المستقبل فمجاز اتفاقاً ونقل عن المصنف رحمه الله أنه مجاز في الماضي المنقطع لا مطلقا وهو مخالف للمشهور وبنى عليه أن مالك يوم الدين حقيقة عنده، وان لم يعتبر استمراره وكيف يتأتى هذا مع قوله إنه على طريقة ونادى أصحاب الجنة، وهذا مقرّر في الأصول الفقهية، والمعاني وذكره بعض النحاة وفيه إشكال ظاهر، لأنّ الدال على الزمان وضعا بالاتفاق، إنما هو الفعل وما قالوه مخالف له وليس كالصبوح والغبوق، ولذا ذهب بعض الأصوليين إلى أنه لا دلالة له على الزمان أصلاً وفي شرح المصنف أنه اأحق، ثم إنه قيل إذا كان مجازا في الماضي كما في التلويح كان اسم الفاعلى هنا على تقدير كونه بمعنى الماضي، وقد كان مستعملاً في المستقبل مجازا في المرتبة الثانية وهو مما حرّره السيد في تفسير قوله تعالى {وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَاّ أَنفُسَهُم} [البقرة: 9] والطيبي.

(أقول) هذا زبدة أنظار من كتب الحواشي من المدققين هنا، وفيه نظر أ 14 أؤلأ فانّ قولهم

إنه في المستقبل مجاز اتفاقا غير صحيح لأنّ من أهل الأصول من ذهب إلى أنه حقيقة في الحال والمستقبل، وأمّ ثانياً فما ادّعوه من أنه مجاز في المرتبة الثانية مع ما فيه من التعسف غير مسلم كما يعلم مما سيأتي في تقريره مع أنّ شرط ذلك المجاز المشهور غير مقرّر هنا، وأمّا ثالثاً فالتجوز المذكور إذا كان كالتجوز في نادي مما ذكروه في أكثر الكتب، وأورد نحوه ابن

هشام في رب من المغني، وقد أورد عليه شارحه أنه يقتضي أنّ المستقبل حينئذ عبر به عن ماض متجوّز به عن المستقبل، وهو مع تكلفه ني صحته تردد لا يخفى وجهه فتدبر.، وهذا مأخوذ من الكشف وسيأتي تحقيقه، وأمّا الإشكال فدفعه أنّ الوصف لما كان موضوعاً لذات متصفة بحدث سواء كان في الماضي أو الحال أو الإسنقبال خصه العرف بأحد أفراده تخصيص الداية فصار حقيقة عرفية إمّا لتبادره منه مطلقا أو في حال العمل لأنه يتمّ به مشابهة المضارع، وقوله في المطوّل إنه حقيقة في الحال بالإتفاق غير مرضيّ وليست دلالة التزام لأنه لا يلزمه زمان معين، وقول نجم الأئمة الرض إنه مدلول العمل كأنه أراد به مدلوله في حال العمل وسيأتي تفسير قوله ة {هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ} [البقرة: 2] ما يتممه. قوله: (أوله الملك في هذا اليوم إلخ) عطف على قوله ملك إلخ يعني أنه بمعنى الماضي، أو المراد به الاستمرار لا الحال، أو الاستقبال لتكون إضافته حقيقية فيوصف به المعرفة كما فصله المصتف رحمه الله بعد.

(وههنا بحث) مشهور وهو أن الشيخين في سورة الأنعام جعلا إضافة جاعل إلى الليل في

قوله تعالى: {؟ وتجعل الليل سكناً} [الأنعام: 96] لفظية لأنه دال على جعل مستمرّ، وهنا جعلا الإضافة حقيقية إذا قصد الاستمرار، وبينهما تناف ظاهر، وقد وفق بينهما بوجوه منها أنّ الزمان المستمرّ شامل للأزمنة الثلاثة، فيجوز النظر فيه إلى الماضي، فلا يعمل وتكون إضافته حقيقية، والنظر لمقابله فيعمل، وتكون إضافته لفظية فيراعى ما يقتضيه المقام، فروعي الثاني في الأنعام لئلا يلزم مخالفة الظاهر بنصب سكنا بمقدر، وروعي الأوّل هنا لئلا يقطع مالك عن الوصفية إلى البدلية، ولا يأباه ما في نحو المفتاح من أنّ اسم الفاعل يعمل عمل فعله المبنيّ للفاعل إذا كان على أحد زماني ما يجري عليه، وهو المضارع دون الماضي والاسبتمرار، فإنّ اتباع مذهبه غير لازم وسيأتي ما فيه، ومنها أنّ المذكور ثمة عمله دون إضافتة، فلا منافاة بينهما لجواز أن يكون الوصف عاملاً واضافته حقيقية، لأنّ المستمرّ لما احتوى على الماضي ومقابليه روعي الجهتان معاً فجعلت الإضاءة حقيقية نظراً إلى الأولى، واسم الفاعل عاملاً نظراً إلى الثانية، وليس بشيء لأنّ مدار كون إضافته حقيقية، أو غيرها على كونه عاملاً أو غير عامل، ومنها أنّ الاسنمرار ههنا ثبوتيّ وثمة تجددي متعاقب الافراد، فعمل الثاني لورود المضارع بمعناه دون الأوّل، قيل: والمراد بالثبوت ما لم يعتبر معه الحدوث في زمان لا ما ينافي التجدّد حتى يرد أنّ ما وقع في يوم الدين متجدّد، ومالكية الشيء تتوقف على وجوده واستمرارها يكون متجذدا قطعاً، والباعث على اعتبار التجدّد في جاعل الليل لا هنا عدم مخالفة الظاهر فيهما، فاندفع ما قيل أنّ المصنف جعل إضافة {غَافِرِ الذَّنبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ} [دورة غافر: 3] حقيقية لأنه لم يرد بهما زمان مخصوصر، ولا شك أنّ استمرارها تجددئ فإن أريد بمالكية يوم الدين القدرة ضلى تصرّف الإيجاد والإعدام والنقل من صفة إلى صفة، كقا

ذكره الإمام لم يبق خفاء في أنّ استمرار مالك ثبوتيّ، وستراه عن

ص: 101

قريب مع ما فيه والملك كالملك قال الراغب: يكون بمعنى قوّة التصرّف، وقدرته ويكون بمعنى التصرّف نفسه، وقال الإمام: هو القدرة على التصرّف، والله تعالى مالك الموجودات أي قادر على نقلها من الوجود إلى العدم، وعلى نقلها من صفة إلى أخرى، ومعنى مالك الملك القادر على القدرة آي كل ما يقدر عليه الخلق فهو بإقداره وملك يوم الدين بإحياء الموتى، وليس هذا كله إلاً لله، فهو الملك الحق، فإن قيل المالك لا يكون مالكاً للشيء إلاً إذا كان المملوك موجوداً والقيامة غير موجودة في اكحال، فالواجب أن يقال ملك يوم الدين لا مالكه، ولهذا قالوا لو قال أنا قاتل زيد بالإضافة فهو إقرار، ولو قال قاتل زبداً بالعمل والتنوين فهو وعيد، قيل هذا حق إلاً أنّ قيام القيامة لما كان محققا جعل كالقائم في الحال، وأيضا من مات فقد قامت قيامته فكانت القيامة حاصلة في الحال، فزال السؤال اتتهى. وقد قيل عليه إنّ اسم الفاعل ليس حقيقة في المستمرّ، فيكون مجازا على المجاز، وإنّ معنى الاستمرار هو الثبات من غير أن يعتبر معه الحدوث في أحد الأزمنة، وذلك ممكن في المستقبل كأنه قيل هو ثابت المالكية في يوم الدين، واذا لم يعتبر في مفهومه الحدوث لا يعمل لانتفاء مشابهة الفعل على أنه إذا إريد بالمالكية القدرة على التصرّف لا يبقى في الاستمرار خفاء كما مرّ. بخلاف ما إذا كان مالك بمعنى ملك إذ لا يراد هنا المالكية المستمرّة الغير الحادثة، وهي تتوقف على وجود المملوك، فلذلك يحتاح إلى التأويل.

(أقول) هذا زبدة ما قرّروه وكرروه وزعموا أنهم حققوه وحرّروه، وللنظر فيه مجال، فإنّ الاستمرار اسنفعال من المرور، ولذا ورد بمعنى الذهاب، وعدم البقاء كما في قوله تعالى:{سحر مستمرّ} [القمر: 2] على وجه، وبمعنى الدرام والثبات، وهو المراد هنا إلآ أنه على وجوهـ، فإنه يكون بمعنى الوجود في جميع الأزمنة الثلاثة، وبمعنى عدم اعتبار الحدوث، وماتارنة الزمان له كالأمور الجبلية وعدم الانقطاع أزلم لأ وأبداً كما في الصفات الذاتية، وجاعل ومالك وصفان ثبوتيان، والجعل من صفات الأفعال، وكذا الملك إن فسر بالتصرّف، فإن فسر بالقدرة، كما هو رأي الإمام كان من الصفات الذاتية، واتصافه تعالى بالثانية أزلاً وأبداً متفق عليه، وأمّ الأولى فذهب الماتريدية إلى أنها مثلها من غير فرق فنقل عن أبي حنيفة رحمه الله أنه قال: كان الله خالقاً قبلى أن يخلق ورازقاً قبل أن يرزق، ووافقهم عليه بعض الأشعرية. قال الزركشيّ رحمه الله في البحر: إطلاق الخالق والرازق ونحوهما فى حقه تعالى قبل وجود الخلق والرزق حقيقة، وان قلنا صفات الفعل من الخلق والرزق ونحوهما حادثة ورده ابن شريف: بأنه ممنوع عند الأشعرية القائلين بحدوثها، وفيه بحث فحينئذ يقال لا شك أنّ النحاة بأسرهم اشترطوا في عمل اسم الفاعل غير صلة أل، وفي كون إضافته لفظية أن يكون بمعنى الحال أو الاستقبال ليتمّ شبه المضارع له، فيعمل عمله ولم يخالف فيه غير الكسائيّ،

فالاستمرار بالمعاني الثلاثة يقتضي عدم العمل وأنّ الإضافة حقيقية لتخلف شرطه، فلا غباو على ما نحن فيه، ولا يأباه كونه من صفاته تعالى مطلقاً، وأمّا ما في سورة الأنعام فمشكل، وان لم يكن له تعنق بالإضافة فإنه لا يصح فيه شرط العمل، أمّا على الأوّل فلأنّ الأزمنة الثلاثة تشمل الماضي، وهو مناف لعمله عند الجمهور، وقد صرّح به صاحب المفتاح كما مرّ، وأما على الثاني فلأنه إما أن يلحق بالصفة المشبهة كما صرّحوا به في طاهر القلب ونحوه، أو بالأسماء الجامدة كما قالوه في نحو والد وكاهل، فلا يعمل النصب أو لا يعمل أصلاً، وكذا هو على الثالث بالطريق الأولى مع أنه برمته لا يتسنى لسلامة الأمر في صفاته تعالى كما سمعته ولك أن تقول المراد به الأوّل ثمة فاستمراره بالنظر إلى الحال المستمرة في المستقبل، ولما كان الحال أجزاء من الماضي والمستقبل شمل حكمه الماضي مطلقاً لعدم الفارق والمضارع يستعمل بهذا المعنى أيضا، وبه صرّج السيرافي في شرح الكتاب فقال يجوز أن يكون جاعل في معنى فعل ماض، ويجوز أن يكون في معنى فعل مستقبل، فإذا جعلته في معنى الفعل الماضي ة فتقديره ومعناه قدّر الليل لهذا، وهو الذي جعل لكم الليل لتسكنوا فيه، وهو أظهر الوجهين، وينصب الشمس والقمر بإضمار فعل ومن جعله بمعنى المستقبل، فهو على تقدير يجعل وذلك لأته فعل لم ينقطع لأن الليالي يتصل بها ما قد كان، وما يكون منها

ص: 102

فهو بمنزلة زبد ياكل إذا كان في حال كله قد تقضى بعضه وبقي بعضه انتهى. وهذا قريب من الجواب الأوّل إذا دقق فيه النظر، وقال أبو حيان في البحر: اسم الفاعل إذا كان بمعنى الحال، أو الاستقبال جاز فيه وجهان: أحدهما ما قدمناه من أنه لا يتعرّف بالإضافة لأنه منويّ الانفصال، فكأنه عمل النصب والثاني أن يتعرّف بها إذا كان صفة معرّفة فيلحظ أنّ الموصوف صار معروفا بهذا الوصف، فكان تقييده بالزمان غير معتبر، وهذا الوجه غريب لا يعرفه إلآ من له اطلاع على كتاب سيبويه وتنقيب عن لطائفه وقد قال فيه ما نصه: زعم يونس والخليل أنّ الصافات المضافة التي صارت صفة للنكرة قد يجوز فيهن كلهن أن يكن معرفة، وذلك معروف في كلام العرب انتهى. وهو كلام يض، ج إلى تأمّل تامّ. قوله:(لتكون الإضافة حقيقية) قد عرفته وما له وما عليه، فإن قلت: كون الظرف هنا مفعولاً به على التوسع يقتضي أن اسم الفاعل مضاف لمفعوله، وهو يأبى كون الإضافة حقيقية قلت قال الشريف: كون الإضافة معنوية لا ينافي التوشع في الظرف لأنّ المراد أنه مفعول من حيث المعنى لا من حيث الإعراب، أي يتعلق المالك به تعقق المملوكية حتى لو كانت شرائط العمل حاصلة عمل فيه وفيه تأمّل، وقد بقي في كلام شروج الكشاف كلام كنا ذكرناه هنا ثم طويناه لطوله وسيأتي تتمته في الأنعام إن شاء الله. قوله:(وقيل الدين الشريعة إلخ) قال الراغب الدين الطاعة والجزاء واستعير للشريعة، والدين كالملة لكنه يقال اعتبارا بالطاعة والانقياد للشريعة انتهى. والشريعة وضع إلهيّ سائق لذوي العقول باختيارهم المحمود إلى ما هو خير لهم بالذات كذا عرفها الأصوليون، والدين

كما سمعته يكون بمعنى الملة، وهي أعم من الدين لشمولها الدين الحق وغيره، وهو مقول عليهما بالاشتراك اللفظيّ كما قال تعالى:{لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ} [الكافرون: 6] وهو كثير في الفرآن، ومن عرّفه بما عرفت به الشريعة نظر لمعناه الغالب المتبادر منه عند الإطلاق فلا وجه للاعتراض عليه، ومرضه المصتف رحمه الله لأنه معنى مجازيّ، ومحتاج للتقدير عنده كما أشار إليه قوله:(والمعنى يوم جزاء الدين) قدّره لأنه ليس يوماً للتكاليف، وانما هو للجزاء وهو على التفسيرين قيل، وهو على الأوّل بتقدير مضاف آي جزاء أحكام الشريعة أو جزاء قبول الدين وترك قبوله أو جزاء العمل به من الثواب والعقاب، ويجوز أن تكون إضافته لما بينهما من الملابسة باعتبار الجزاء من غير تقدير، وقيل البلاغة تحكم بأولوية عدم التقدير إذ يقال في يوم ظهور سلطان أحد وغلبة ما يتعلق به إنّ اليوم يوم فلان، فبذلك الاعتبار يقال يوم الشريعة أيضا، وقيل أيضاً إن كان المراد بالطاعة العبادة احتاج إلى التقدير، فإن أريد الانقياد المطلق كما فسر به في كتب اللغة، فلا حاجة للتقدير، فإنّ الناس في الدنيا بين منقاد وغير منقاد بخلافهم في ذلك اليوم لانقياد الكل ظاهرا وباطنا وهو وجه وجيه. قوله:(وتخصيص اليوم بالإضافة إلخ) الإضمافة مصدر المبنيّ للمفعول أي إضافة مالك أو ملك إلى يوم الدين مع كونه مالكاً للأيام كلها ولجميع الأمور وهذا هو المراد، وقد قيل إنه محتمل لوجوه أربعة لأنه إمّا بمعنى كونه مضافاً إليه أو كونه مضافا إلى الدين وعليهما مدخول الباء مقصور أو مقصور عليه، وقوله:(لتعظيمه) أي لتعظيم اليوم المستلزم لتعظيم مالكه، ويجوز أن يكون الضمير لله للعلم به من السياق، وقوله:(بنفوذ الآمر فيه) يقال: نفذ الأمر نفوذا ونفاذاً بالذال المعجمة بمعنى مضى وقيل على الفور بلا تردّد وأصله من نفذ السهم في الرمية إذا خرقها، وأمّا نفذ بالمهملة فمعناه فني وانقطع والأمر هنا مقابل النهي، وفي نسخة الأمور بالجمع. قال الليثيّ في حواشيه: الظاهر الأوامر به له أي خص لتفرده بالتصرّف فيه إذ الأمر يومئذ لله الواحد القفار، ولا ملك لأحد سواه بخلاف أيام الدنيا فإنّ لغيره فيها أمراً ونفوذا ظاهراً وان كان المنفذ له في الحقيقة هو الله، وما ادّعى ظهوره بناء على ما تعارفوه، ووقع في كلام الأصوليين من أنّ الأمر بمعنى القول المخصوص يجمع على أوامر، وبمعنى الفعل والشأن على اً مور وهو مما تفرّد به الجوهريّ واللغة وقواعد العربية لا تساعده وفيه كلام طويل، قيل والأحسن أن يقال: إنه. للإشارة إلى المعاد بعد الإشارة إلى المبدأ بقوله رب العالمين، وبما بينهما لما بين النشأتين كأنه قيل الحمد لمن منه الابداء وباحسانه البقاء وبحكمته إليه الانتهاء، وهو غفلة عما بعده، فإنّ ما ذكر مأخوذ من إجراء

ص: 103

تلك الصفات كما أشار إليه المصثف رحمه الله، فهذا أتم فائدة، وأطلق الإضافة ليشمل القراءتين وقيل الأوّل علة لكونه مالكاً، وهذا لكونه ملكا كقوله تعالى:{الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ} [الفرقان: 26]

واليوم معروف كما مرّ واطلاقه هنا على التشبيه لأنه زمان له مبدأ ومنتهى كما قال تعالى، وإن

يوماً عند ربك كألف سنة، وقيل خص لإفادة ملكه لجميع الأمور لدلالة تملك الزمان والمكان على تملك ما فيه كما مرّ وهو يرجح كون الإضافة لامية لا على معنى في لأنّ كونه مالكا في يوم الدين لا يقتضي العموم كما قاله قدس سرّه. قوله:(وإجراء هذه الأوصاف إلخ) الإجراء هنا مستعار من إجراء الماء إلى ما يستقى به أو من إجراء الوظيفة على من يأخذها بمعنى إيصالها إليه من غير انقطاع، وهو حقيقة عرفية، وإن استعير من الأوّل لجعله صفة تابعة لموصوفها وصار هذا حقيقة عند المصنفين أيضاً، وهذا ملخص ما في الكشاف كما بئنه شراحه.

وقوله من كونه ربا هكذا هو في أكثر النسخ من كونه رباً للعالمين موجداً لهم، وفي نسخة موجدا للعالمين رباً لهم وفي أخرى ربا موجداً للعالمين ربا لهم، وهذه أقلها ولا معول عليها والكل متقاربة ولا خفاء فيه، والتربية دالة على الإيجاد تضمناً أو التزاما فتقديم كونه موجداً رعاية للترتيب في الوجود وتأخيره لتقدم ما يدل عليه رتبة، وقيل إنه لما كانت تربيته للعالمين أنه رقاهم في مدارج الكما اط فإفاضة الوجود واعداد أسباب الكمالات وكان الإيجاد مبدأ التربية جعله كأنه خارج عنها، والأحسن ما قيل من أنّ قوله موجدا وما بعده تفصيل لربوبيته، وقوله رباًيهم تعميم بعد تخصيص لمزيد الاهتمام لأنّ الكمال الأوّل الذي هو أساس جميع الكمالات لا ينبغي إخراجه من مفهوم الربوبية مع أنّ ربوبيته لهم بإضافة سائر الكمالات لا تستلزم كونه موجداً لهم، ولا حاجة إلى أن يقال إنه مبنيّ على كون الرب بمعنى المالك وموجداً، وربا خبراً كون، أو أحدهما خبر والآخر حال. قوله:(منعماً عليهم إلخ) هذا تفصيل لمعنى الرحمن الرحيم فقوله: بالنعم كلي من فحوى كونه المعطي للجلائل والدقائق، فإنه عبارة عن العموم والشمول كما مرّ، وفصل عمومه وفسره بقوله ظاهرها وباطنها. وقوله:) عاجلها وآجلها) من كونه رحمن الدنيا والآخرة، فلا وجه لما قيل من أنّ ما ذكر فهم من قرينة ذكرهما في مقام المدح وانّ الأنسب ذكر جليلها وحقيرها بدل قوله ظاهرها وباطنها، فإنه مذكور في تفسير الرحمن الرحيم، وقد تبع الزمخشريّ في الظاهر والباطن، وزاد عليه العاجل والآجل تفسيراً لهما، فإن النعم الدنيوية ظاهرة والأخروبة باطنة، ومما هو مشهور معروف أنّ الدنيا ظاهر والآخرة باطن قال تعالى:{يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِّنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ} [صورة الروم: 7] ولم يعد لفظ من كونه كما في الكشاف لأنّ المجموع عنده وجه واحد وإعادته تشعر بالاستقلال وقال قدس سرّه: إنّ الوصف الأوّل متعقق بالإبداء والثاني والثالث بالبقاء والرابع بالإعادة وهو ثماأ هر، وليس مبنياً على أنه فسر الرت بالمالك كما توهم. قوله:) مالكاً إلخ) الثواب والعقاب من الدين كما مرّ، وهو تفسير له على القراءتين لأنّ كلاً منهما يؤدّي مؤدّى الآخر إذ لا منافاة بينهما ألا ترى قوله تعالى:{مَالِكَ الْمُلْكِ} [آل

عمران: 26] فليس على إحدى القراءتين كما توهم حتى يقال إنّ المناسب لما اختاره أن يقول ملكاً الأ أنه اختاره لكون أصل التفسير عليه وقوله للدلالة خبر قوله إجراء. قوله: (للدلالة على أنه الحقيق إلخ) في الكشاف، وهذه الأوصاف التي أجريت على الله سبحانه بعد الدلالة على اختصاص الحمد به، وأنه به حقيق في قوله الحمد لله دليل على أنّ من كانت هذه صفاته لم يكن أحد أحق منه بالحمد والثناء عليه بما هو أهله انتهى.

فقال الفاضل الليثيّ رحمه الله إنّ قول المصئف رحمه الله للدلالة إن كان مصدر الدليل بمعنى الحجة وافق ما في الكشاف، والاً وهو الظاهر خالفه لأنّ إفادة الحمد لله الحصر محل خفاء واشتباه، فإنّ المقيد للحصر إمّ اللام الجنسية أو اللام الجارّة وارادة الجنس من حيث هو لا تفيد الحصر في مثل المنطلق زيد وفي مثل الحمد لله إفادته الحصر تتوقف على استلزام استحقاقه تعالى حمداً باعتبار عدم استحقاق غيره له باعتبار آخر وهو محل نظر على أنّ المختار حمل الحمد على الجنس من حيث هو، وأمّا اللام الجارّة ففي مواضع من الكشاف ما يدل على إفادتها الحصر دلالة واضحة وبه صرّح المحقق السعد والسيد السند، وقالا لام الاختصاص

ص: 104

للحصر وقوله قذس سرّه في الحمد لله: دل بلام التعريف والاختصاص على أنّ جنس الحمد مختص به تعالى دال على أنّ لام التعريف للجنس ولام الاختصاص للحصر، ولم يرد أنهما دليلان على الحصر بناء على أنّ تعريف الجنس يفيد الحصر لأنّ إفادته على تقدير الحمل على الاستغراق، والحمد محمول على الجنس نفسه، ولو كان لام الجنس مفيداً للحصر كلام الاختصاص أفاد قوله الحمد لله قصر الحمد على المختص بالله غير متجاوز إلى المختص بغير. أو غير المختص به وهو غير مراد، وذكر السعد رحمه الله في قوله تعالى:{الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً} [المائدة: 48، أنّ دلالة لام الجرّ على الاختضاص الحصري ممنوع، وذكر الشريف مثله في تقديم المسند من المفتاح، ويعضده أنها لو كانت للحصر كان نحو ما المال إلأ لزيد مفيداً لحصر المال في الاختصاص بزيد لا حصره في زيد لحصوله قبل ورود النفي والاستثناء، وقولك الحمد لله مفيداً لقصر الحمد على الاختصاص بالله وكذا قوله الحمد لله على تقدير الحمل على الاستغراق، أو كانت اللام فيها مجردة عن معنى الاختصاص للتعقق الخاص مجازاً والأوّل إفادة ما ليس بمقصود، والثاني يستلزم اشتمال الكلام على المجاوز وزيادة ما والاً وتقديم ما حقه التأخير لإنادة معنى يحصل بدودن ارتكاب شيء منها، وقال الزمخشريّ في سورة التغابن في قوله تعالى: {لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ} [التغأبن: ا] قدّم الظرفان ليدل بتقديمهما على معنى اختصاص الملك والحمد بالله وهو يدل على أنّ هذا الحصر غير مستفاد من الكلام عند التاخير والآ لم يكن التقديم للدلالة عليه ولم يكن للتقديم وهو خلاف الأصل وجه إلاً أنه لما دل كلامه في مواضح اخر على إفادة اللام الحصر. قال في الكشف: أراد تاكيد الاختصاص المدلول عليه بلامي التعريف والتخصيص، ووجه

إفادته تأكيد ذلك الاختصاص مع أنّ المستفاد من التقديم هو حصر الملك والحمدش الاختصاص بالله المدلول عليه باللامين أي اختصاص الملك والحمد بالله تعالى أنّ حصرهما في الاختصاص بالله يتضمن إثبات الإختصاص به تعالى لهما، وهو حاصل على تقدير التأخير أيضا ونفى مقابله عنهما، وهو يتضمن إثبات الاختصاص، فإن نفى أحد الوصفين المسلم س ثبوت أحدهما على ما هو مقتضى القصر يستلزم ثبوت الآخر سيما إذا كان أحدهما سلبا للآخر، لكن الظاهر أنّ هذا الحصر غير مقصود، ويعضدّه جعل الرضى إضافة العام للخاص مطلقا واضافة المظروف للظرف كضرب اليوم بمعنى اللام المفيدة للاختصاص واللام في نحو لأوّل ليلة باقية على اختصاصها الأصلي، والأوّل اختصاص الفعل بالزمان لوقوعه فيه، والثاني اختصاصه بوقوعه بعده، وبالجملة فالظاهر أنّ زيدا ثبت له القيام، وقائم متساويان في عدم إفادة القصر، وأما عدم عدهم اللام من طرق الحصر كسائر الحروف المشعرة به فلأنه في اصطلاحهم كما في شرح المفتاح جعل أحد طرفي النسبة مخصوصا بالآخر بطرق معهودة واللام ليست مفيدة لجعل أحد إلخ لكونها جزءاً من أحد الطرفين، ولذا لم يعد لفظ الاختصاص، ونحوه من طرق القصر، والحق أنّ معناها التعقق الخاص، وأنها قد تفيد الحصر بحسب المقام وقرائن الحال، وتمثيل النحاة شاهد صدق عليه، فحيث كان المقام مقتضيا للحصر، ولم يكن فيه ما يدل عليه غيرها نسب القصر لها، وحيث لم يقتض ذلك أو كان فيه ما هو أدل عليه منها استراحت من الحصر، فلذا ترى العلامة الزمخشريّ نسبه لها في موضع دون موضع من غير تعارض في كلامه كما يوهمه كلام هذا الفاضل رحمه الله، وأمّا كون طرقه خارجة عن طرفي النسبة طارئة عليهما فليس بلازم، ألا ترى أنّ ضمير الفصل منها، وقد قيل إنه مبتدأ نعم ما يدل عليه بصريح الوضع كلفظ خص وحصر لا يعد منها لأنه من وظائف اللغة دون المعاني الناشئة عن خواص التراكيب كما لا يخفى، وقد حرّرنا هذا المبحث بما لا مزيد عليه، فليكن على ذكر منك إذا مست الخاجة له. قوله:(لا أحد أحق به منه) أراد بقوله إنه الحقيق الحصر والمفيد له تقديم المسند إليه أو تعريف الخبر على أنّ المراد به الاستغراق، وظاهر عبارة الكشاف تدلّ على أنّ الحمد حقيق به لا بغيره، حيث قال بعد الدلالة على اختصاص الحمد به وأنه به حقيق، ويفهم من كون المحامد حقيقة به كونه حقيقا بها.

فلم تك تصلح إلا له. ولم يك يصلح الآلها فلذا قال: لم يكن أحد أحق منه يعني أنه

أحق من كل أحد ونسب الزمخشريّ الدلالة إلر، الحمد لله

ص: 105

والمصتف نظر إلى أنّ جملة الحمد إنما تدل على ثبوت المحامد له تعالى على قصر الحقيقة، فنسب الدلالة إلى إجراء الأوصاف، واكتفى بثبوت الحقيقة، أوّلاً نظراً إلى جل النظر، ثم ترقى فقال لا أحد إلخ. ثم ترقى في النظر فالأوّل تدافع بين قوله أنه الحقيق النافي استحقاق غيره بتعريف الخبر وقوله لا أحد أحق إلخ المفيد لمشاركة غيره في الاستحقاق لكن الحصر ادّعائي بتنزيل استحقاق الغير منزلة العدم،

وقيل إنه لم يرد به الحصر لئلا ينافي كونه أحق ولئلا يصير قوله بل لا يستحقه إلخ. لغوا وكون تنزيل استحقاق الغير منزلة العدم بالنسبة إلى استحقاقه لا يستلزم عدم استحقاقه في الحقيقة لا يضرنا إذا دققنا النظر فيه، وقيل: إنه لم يكتف بالقصمر المستفاد منه فزاد هذا للتاكيد والمبالغة ولما فهم من ظاهر نفي الأحقية عن الغير أصل استحقاقه نفاه بقوله بل لا يستحقه على الحقيقة سواه، وقال: على الحقيقة، لأن استحقاقه في الجملة ثابت لا ينكر، وقال قدّس سرّه. المناسب لكون الحمد حقيقا به دون غيره أن يقال: لم يكن غيره حقيقاً بالحمد لأن قوله أحق يدل على أنّ غيره حقيق في الجملة، فكأنه لما أشار أوّلأ إلى انحصار الحمد فيه تعالى نبه هنا كلى أنه ادعائي على ما سبق من التأويل إيماء إلى مذهبه انتهى. والمصنف لما تبعه في أوّل كلامه أضرب عن ذلك بما يدل على أنّ الحصر حقيقي لا ادعائي إيماء إلى مخالفته وفيه نظر، ولا أحق منه كقولهم لا أفضل في البلد من زيد ومعناه أنه أضمل من الكل بحسب العرف إذ يستفاد منه نفي المساواة، وفي شرج المقاصد في بحث تفضيل الصحابة السر فيه أنّ الغالب فيما بين كل شخصين الأفضلية، / أو المفضولية لا التساوي، فلهذا نفى الأفضلية دون المساواة، وانما لم يستحقه سواه على الحقيقة لما قيل من أنّ الأفعال الاختيارية للعباد مخلوقة له تعالى ولا تأثير بل لا مدخل لاختيارهم فيها أصلاً، فلا يستحقون الحمد عليهيا ومعنى الاستحقاق المنفي كونه حقا لازما لهم، وأها الاستحقاق بمعنى ترتبه عليها عقلاً وعادة، فلا نزاع فيه كاستحقاق الئواب، ولا يلزم من نفي الاستحقاق بالمعنى المذكور كون حمد غيرهم مجازاً لأنه لغة الثناء على الجميل الاختياري أي المنسوب إلى الاختيار ونسبته إليه بكونه مسبباً عنه، وله مدخل في حقيقته أو مقارنته له، وأمّا كونه لا اختيار لغير الله عند أهل الحق فيختص الحمد به حقيقة لاختصاصه بالجميل الاختياري، فيلزم أن يكون إطلاقه في حق غيره مجازا ففيه أنه إن أريد نفي الاختيار الذي له مدخل في الفعل، فانمكاؤه مسلم لكن لا يتجه القول بمجازية الحمد إذ أطلق على غيره تعالى، فإنهم قائلون بوجود الاختيار للعبادو بانتساب أفعال العباد إلى الاختيار بالمقارنة، وفي شرح المواتف ليس لقدرة البشر تأثير في أفعالهم بل الله أجرى عادته بأن يوجد في العباد قدرة، واختياراً فإن لم يكن هناك مانع أوجد فيه فعله المقدور مقارنا لهما وساغ إطلاق الاختياري في كلام أهل الحق على أفعالهم، واد أريد نفي الاختيار مطلقا فممنوع.

(أتول) ما ذكره في معنى الاستحقاق تساعده اللغة.

قال في المصباح: قولهم هو أحق بكذا له معنيان أحدهما اختصاصه بذلك من غير مشاركة نحو زيد أحق بماله أي لا حق لغيره فيه. والثاتي أن يكون أفعل تفضيل، فيقتضي اشتراكه مع غيره وترجيحه عليه قاله الأزهريّ واستحق فلان الأمر استوجبه قاله الفارابي

وجماعة انتهى. وكذا ما حكاه من كون حمد العباد ليس بمجازي الأ أنّ الذي نراه أنّ كلام المصنف أظهر مما يذكر فتدبر فيما بعده. قوله: (فإن ترتب الحكم إلخ الما ذكر أنه الحقيق ولا أحق منه، ثم أضرب عن الأحقية إلى نفي استحقاق الغير رأسا أشار إلى وجه ذلك، والحكم هو ثبوت الحمد لله المعلوم من جملة الحمد لله، والترتب المذكور معنويّ فإنك إذا قلت كرم هذا الرجل العالم فهم منه أنّ سبب إكرامه علمه، ولذا قيل إنّ في قوله تعالى:{مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ} [الانفطار: 6] تلقينا للحجة وهو من ألطف الكرم، والوصف وإنّ تأخر عن موصوفه لفظاً، وكذا عن الحكم عليه فهو مقدم عليه رتبة لتقدم العلة على المعلول والسبب على المسبب بالذات والاضتبار فلا يقال إنه ليس من ترتب الحكم على الوصف بل الأمر بالعكس كما توهم وهذا ما وعده قبل بقوله كرّره للتعليل على ما سنذكره، والظاهر أنّ كل واحد من هذه الأوصاف المذكورة علة لاستقلاله في إيجاب الحمد عقلاً كما ستراه لا المجموع كما قيل، وقد قيل عليه إنّ انحصار العلة في المذكورات إنما يتم إن كان الحكم ثبوت

ص: 106

جنس الحمد على وجه الاسنحقاق الحقيقي، والأ فالعلل كثير وفيه نظر وأيضا الإشعار بالعلية لا يفيد حصر الاستحقاق فيه تعالى، وأنما يفيد حصر العلية في الوصف وقد ردّ هذا بأنّ ثبوت العلية مع عدم ظهور علة أخرى يقيد الظن بحصر العلية، وهو كاف في مثله قيل: ولاحتياح ما اختاره المصتف إلى العناية قال في الكشاف: بعد الدلالة على اختصاص الحمد به، فجعل الاستحقاق مستفاداً من اللامين، وفيما مرّ غني عنه، فإن قلت كيف يصح ذلك وله تعالى صفات ذاتية وفعلية موجبة للاستحقاق غير ما ذكر قلت أجابوا بأنّ الصفات الذاتية لا تصلح لأن تكون محموداً عليها بالحقيقة لكونها غير اختيارية، وأما الصفات الفعلية الموجبة للحمد، فليس شيء منها خارجا عما ذكر فيما قيل وقيل: للحصر جزآن، وهذا دليل جزء منه ويدل على عدم استحقاق الغير بمفهوم المخالفة لانتفاء تلك الأوصاف فيه، وفيه أنّ ما بعده يدل على عدم اعتبار المفهوم أوّلاً.

(أقول) ولا يخفى عليك أنا سواء قلنا كل من هذه الأوصاف أو المجموع علة للحمد

سواء كان جنسه أو جميع إفراده، وكل منها لا يوجد في غيره تعالى لزم أن لا يوجد الحمد في أحد سوى الله المحمود في كل أفعاله وأنه لا يستحقه غيره حقيقة، وفرق بين هذه الحقيقة والحقيقة اللغوية التي يذكرها النحاة، وسائر أهل العربية واللغة، فإنها مبنية على المتعارف في التخاطب، ويسمى السبب العادي فيه فاعلاً حقيقياً كمن يقوم به الفعل والوصف دون من أوجده، والمتكلمون والمشايخ لا يطلقون الحقيقي على غير من أوجده ولعدم الفرق بيت الفاعلى اللغوي والفاعل في نفس الأمر وبين الحقيقتين غلطوا في أمور كثيرة كما نبه عليه الأبهري في شرح العضد، وكل جميل هو فعل الله وهو الفاعل له دون من عداه فكيف يحمد غيره عليه أيحبون اًن يحمدوا بما لم يفعلوا، وهو له في الدنيا والآخرة فالحمد لله حمداً يليق

بجنابه. قوله: (وللإشعار من طريق المفهوم) معطوف على قوله للدلالة، وفي نسخة أو بدل الواو إشارة إلى أنّ كلاً منهما نكتة مستقلة، والإشعار على ما ذكره أهل اللغة قاطبة الإعلام يقال أشعرته الأمر وأشعرته به والمصنفون يستعملونه لما ليس بصريح فهو عندهم كالإيماء والإشارة وهو الذي عناه المصتف رحمه الله، فكأنه في اصطلاحهم من أشعر الهدي إذا جعل فيه علامة فهو استعارة مشهورة بمنزلة الحقيقة قيل: ولا يخفى أنّ مؤدّى الإشعار المذكور هو مؤدّى الدلالة السابقة فعطفه عليه ليس بظاهر، وزيادة قوله من طريق المفهوم غير مقيدة لزيادة تسوّغ العطف، فإن فيه تعليق الحكم بالأوصاف المذكورة أيضاً وما ذكر من أن ترتب الحكم إلخ وجه لإفادته انتفاء الحكم عند عدمه، ويمكن أن يقال إنه جعل الإشعار مستندا أيضا لعلة مفهوم المخالفة، وهي أن تعليق الحكم بالوصف يفيد انتفاءه عند عدمه والدلالة بوجه آخر من الدلالة وأيضاف لم يجعل متعلق الإشعار مجرّد استحقاق الغير للحمد بل عدم استحقاقه للعبادة بالطريق الأولى انتهى. وهذا الأخير هو الذي عوّل عليه بعض المتأخرين، فقال إنه ذكر للإجراء فائدتين الآولى أنّ الكلام بمنطوقه دليل على اختصاص الحمد به بواسطة إشعاره بعلية تلك الأوصاف للحكم وبالعلم الضروري بانتفائها عما سواه تعالى. والثانية أنه بمفهوم المخالفة دال على اختصاص العبادة به تعالى لأنّ من لم يتصف بها لا يليق به الحمد فعدم كونه أهلاً لأن يعبد أولى، فالأوّل تأييد لما قبله، وهذا تمهيد لما بعده، فيأخذ الكلام بعضه بحجز بعض، وسياق الكلام لا يلائمه، وتصريحه بالدلالة في الأوّل، وبالمفهوم في الثاتي ينادي على أنّ مراده أنّ الأوّل مبنى إفادته لحصر الحمد، أو استحقاقه فيه تعالى بواسطة الألف واللام ولام الاختصاص، ودلالته على انتفائه عما سواه من توابع المنطوق الملحق به والإجراء تأييد له، أو حجة وبرهان عليه وهذا مأخوذ من طريق المفهوم، فلذا جعل الأوّل دلالة وهذا إشعارا، وصرّح بأنه مفهوم لا منطوق، ودلالة فتدبر. قوله:(لا يستأهل لأن يحمد إلخ) بالهمزة والألف المبدلة منها استفعال من الأهل أي لا يستحق وشوجب وقال الحريري: إنه بهذا المعنى مولد لم يسمع من العرب والمسموع استأهل بمعنى أخذ الإهالة وهي الشحم المذاب، وليس كما زعم فقد قال الأزهري: خطأ بعضهم من يقوله، فأمّا أنا فلا أنكره، ولا أخطىء من قاله لأني سمعت أعرابيا فصيحاً من بني أسد يقول لرجل شكر عنده يداً أولاها تستأهل أبا حازم بمحضر

ص: 107

جماعة من الأعرأب فما أنكروها وأنكره المازني، وقال يستأهل لا يدل على معنى يستوجب لأنّ معناه أن يطلب أن يكون من أهل كذا، وقد بسطنا الكلام عليه في شرح الدرّة، وقوله فضلا مصدر يتوسط بين أدنى وأعلى للتنبيه بنفي الأدنى واستبعاده عن الوقوع على نفي الأعلى، واستحالته عادة وفيه كلام طويل في شروح الكشاف والمفتاح، وصثف فيه ابن هشام رسالة مستقلة، وقوله ليكون بالياء التحتية أو التاء الفوقية أي لتكون الأوصاف المذكورة أو كل واحد منها أو أجزاؤها، وأفرد دليلا لأنه على وزن فعيل أو في عداد الأسماء أو جعلها كشيء

واحد، وهذا مما زاده المصئف رحمه الله على الكشاف. قوله:(فالوصف الأوّل إيخ) قيل عليه إنّ- كلامه أوّلاً يشعر بأنّ الأوصاف المذكورة علل الحمد ويشعر بعليتها ترتب الحكم جمليها وهذا يدل على أن الموجب للحمد مدلول الوصف الأوّل وذكر الأوصافي الأخر لفوائد أخر فكأنه جعل ما يفهم من الأوصاف الآخر مندرجا في معنى الرب إجمالاً اكن اندراج غقاب الكافر في معنى الرب غير ظاهر.

وأجيب بأنه يوفق بينهما بأنّ علية امملربوبية مشروطة بالاتجتيإرأ المستفاد منها، فإن نظر إلى

ذات العلية خكم بأنها الربوبية وإن نظر إلى أنّ الذات بدون الشرط لا تؤثر قيل: كل واحد منهما علة، لأنّ له مدخلَا في العلية، فأوّل الكلام إجمال وآخره تفصيل، وما مرّ من الجواب فيه ما فيه وعدم اندراج عقاب الكافر مع تضمن المالك له يجاب عنه بأنّ تربيته للمؤمن لا يجابه زيادة الشكر ومعرفة قدر الإيمان ونحوه، وقيل: خذا البيان الموجب لثبوت. المحمد فلا ينافي ما تقدم من أنّ علة حصره هو المجموع، وقيل هذا شروع في بيان فائدة كل واحدة منها بعد بيان فائدة مجموعها، ولذا فرعه بالفاء التفصيلية لتفرّع التفصيل على الإجمال كما بينه المصتف رحمه الله.

(أقول) قد جعلوا الفاء- هنا. تفصيلية، ولما فيه من الخفاء قيل ما قيل والظاهر أنها فصيحة جواب لسؤال نشا مما مرّ، فكأنه لما بين أنّ استحقاق جميع المحامد مختص به، وأنّ إجراء تلك الصفات مجموعها أو كل واحدة منها أو الأعمّ منهما دال على علته منطوفاً ومفهومأ قيل هل هذا واجب وما يوجبه فأجيب بما ذكر فهي واقعة في جواب شرط تقديره إذا اختص به، ووجب فالمبين لإيجابه ما ذكر من الصفات أيضاً ففيها مع ما سبق من الفوائد بيان لما يوجبه أو هي تفريعية كأنّ ذلك لما كان ثابتاً للذات بالذات قبل وجود الكائنات تفرع عليه وجوبه عليهم بعد البروز لساحة الوجود فالصفة الأولى لبيان الموجب، وما بعدها تحقيق للإيجاب، فإنه لو كان صدوره عنه بإيجاب، أو وجوب عليه لم يتحقهق الاستحقاق أو كماله لأنه يكون كالملجأ فلا يحمد ويحمد من ألجأه؟ كما قيل:

وكنا كالسهام متى أصابت ~ مراميها فراميها أصابا

ومن وجب عليه دين فأدّاه لا يحمد أو لا يعتدّ بحمده، ولما تمت الفائدة بما ذكر بين أنّ

فائدة ما بعده من تحقيقه تحقيقه للاختصاص الحث على أداء ما وجب بوعده ووعيده، وهذا أمر آخر غير ماتقدم أتمّ فائدة وأحسن عائدة.

واعلم أنّ الإمام رحمه الله قال: إنّ من ذهب إلى وجوب الشكر عقلَا قبل مجيء الشرع استدل بقوله الحمد لله لأنه يدل على أنّ الحمد حقه وملكه على الإطلاق فيدل على ثبوته قبل الشرع ولأنه قال رب العالمين، وقد ثبت أنّ ترتب الحكم على الوصف المناسب يدل على

كون الحكم معللاً بالوصف فلما أثبت الحمد لنفسه ووصفه بكونه رباً للعالمين رحمانا رحيما بهم مالكاً لعاقبة أمرهم في القيامة دذ على ثبوت الحمد له قبل الشرع وبعده، فكأنّ المصثف رحمه الله أشار بما ذكر إلى الردّ عليه، فإنه بيان من الله لإيجابه فهو سمعيّ لا عقليّ فما ذكر دليل عليه لا له فتدبر. قوله:) متفضل بذلك) المذكور من الإيجاد والتربية، ودلالتهما عليه لأنّ المراد بالرحمة في حقه تعالى أثرها من التفضل والإحسان الاختياريين وضمير يصدر راجع إلى ذلك، وانتفاء الإيجاب بالذإت يلزم من كونه مختارا إن فسر الاختيار بصحة الفعل والترك، فإن كان المختار من إن شاء فعل وان شاء ترك لم يلزمه إنتفاء الإيجاب، ففيما ذكره المصنف رحمه الله نظر، وجوابه يعلم مما مرّ، وهو رذ على الفلاسفة وتحقيقه في الأصول.

وقوله أو وجوب عليه ردّ على المعتزلة فإنهم يزعمون وجوب أمور عليه تعالى كثواب المطيع ورعاية الأصلح، وما قيل في بيانه من أنّ الأعمال

ص: 108

السابقة من العبد توجب على الله الآلاء اللاحقة به كما قال تعالى: {لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ} [إبراهيم: 7] وما أورد عليه من أنّ المعتزلة لا يقولون بالوجوب عليه تعالى في غير الثواب والعقاب، كما بين في الكلام ليس بشيء، وقوله قضية مصدر أو اسم مصدو بمعنى القضاء كالعطية بمعنى العطاء والقضاء بمعنى الأداء، كما في قوله تعالى:{فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلَاةَ} [النساء: 03 ا] أي أديتموها وقيل الحكم.

وفي المصباج إنّ استعمال الفقهاء القضاء لما يفعل خارج الوقت مقابلَا للأدأء اصطلاح مخالف للوضع اللغويّ، وهو تعليل للوجوب يعني أنّ الوجوب عندهم لقضاء حق الأعمال السابقة من العبد وأدائها، وهو منصوب على أن مفعول لأجله لقوله وجوب، وقيل ليصدر من حيق التعلق بالوجوب واللام متعلقة بقضية، ونصبه مع أنه ليس فعلاً لفاعل الفعل المعلل لأنه في الحقيقة علة لما هو مضاف إليه الوجوب معنى، وهو الإيجاد والتربية على أنّ الرضمى لم يرض اشتراط ذلك، والمراد بقضاء سوابق الأعمال الإتيان بمثلها من الجزاء، وهذا علة لبعض ما يوجبونه عليه، ومعنى الوجوب عليه اللزوم في موجب الحكمة بحيث يحكم العقل بامتناع عدم صدور الفعل منه، وقد يضم له أنه لو لم يفعل يستحق الذم بمخالفته الحكم، وانتفاؤه يلزم منه كونه متفضلاً كذا قيل، وأورد عليه أنه يصير المعنى حينئذ ليس إيجاد. وتربيته لقضاء سوابق الأعمال، وهو وان تصوّر في بعض أفراده القريبة لا يتصوّر في الإيجاد أن يكون لقضائها، وقد علمت سقوطه مما مرّ وان كانت العبارة لا تخلو عن قصور مّا. قوله:(حتى يستحق به الحمد) هو غاية لقوله متفضل بذلك مختار ومستقبل بالنسبة إليه، فيجوز فيه الرفع والنصب كما في قوله تعالى:{وَزُلْزِلُواْ حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ} [البقرة: 214، وقيل

حتى استئنافية ويستحق مرفوع مسبب عما قبله وقصد به حكاية الحال الماضية وفيه نظر أي لو لما يكن متفضلاً مختاراً لم يستحق الحمد كما مرّ، وهو في الحقيقة متعلق بالتفضل دون الاختيار إذ من أدّى ما يجب عليه لا يحمد أو لا يعتد بحمده، ولذا قال الفقهاء إنّ الهبة بعوض بيع معنى، فلا يرد عليه أنّ الوجوب بالمعنى المذكور يجامع القدرة على الترك والتمكن منه نعم الوجوب بمعنى منافي الاختيار ينافي الاستحقاق، وليس كالوجوب على العبد كما قيل لا لما ذكر من أنّ هذا الوجوب بمعنى عدم قدرته على الترك إذ هو واقع كما عرفت بل لأنّ الوجوب الشرعي عدم منافاته للاختيار ظاهر جدا، فلا يناسب التشبيه إلا أن يكون باعتبار إرادة المبالغة في عدم استلزام الوجوب عليه لسلب الاختيار، وقد عرفت ما يرده واذا ظهر المراد سقط الإيراد. قوله:(لتحقيق الاختصاص) أي اختصاص الحمد بالله وعدم قبول مالكية يوم الدين للشركة فيه ظاهر بخلاف الربوبية والرحمة فإنها بحسب الظاهر بتصوّر فيها الشركة، وان كانت بالنظر للمعنى المراد كما مرّ لا تقبلها أيضاً واختصاص الحمد لاختصاص المحمود به أو عليه، وتضمين إلخ بالجرّ معطوف على تحقيق، والوعد والوعيد من الدين بمعنى الجزاء، وما قيل عليه من أنّ اختصاص الأمور به في يوم الدين لا يوجب اختصاص الحمد لجواز أن يحمد على غير ما في هذا اليوم وأنه لا دخل لتضمين الوعد والوعيد فيما هو بصدده من بيان وجه إجراء الصفات عليه، فكان ينبغي أن يقول واجراء هذه الصفات للدلالة إلخ وللحث على الحمد والنهي عن الإعراض ليرتبط الكلام لا يرد لأنّ الحمد على ما في غيره، واختصاصه أيضاً علم من رب العالمين وقرينيه، وأكد بهذا الظهور اختصاصه، ووعد الحامدين يقتضي استحقاق الحمد وينبه على لزومه فمناسبته للمقام ظاهرة، وعبر بالتضمين لما فيه من زيادة الوعيد مع أنه وعد للمؤمنين أيضا كما قيل:

مصائب قوم عند قوم فوائد

وقوله للمعرضين أي عن حمده أو عنه وعن عبادته. قوله: (ثم إنه لما ذكر إلخ) ثم للعطف مع مهلة، وهي هنا للانتقال من كلام إلى آخر، ولما كانت العبادة أهمّ عطفها بها للدلالة على تفاوت الرتبة أو هو إشارة إلى بعد طريق الخطاب عن طريق الغيبة والضمير للشأن وخالف الزمخشريّ في تقديم ما ذكر لأنه المقصود بالذات قيل: ولو قال بدل ذكر حمد كان أولى وهو اشتغال بما لا يعني وتميز صفة لصفات وعظام جمع عظيمة هنا ويكون جمع عظيم، وجمع عظم أيضاً كما صرّح به صدر الأفاضل، فمن قصره على الأخير فقد وهم وتعفق عطف على تميز بحذف العائد، ووقع في بعض النسخ بدون

ص: 109

واو فهو جواب لما وعلى الأوّل خوطب جوابها وفي نسخة فخوطب بالفاء، وباء بذلك سببية أو ا-لية فالإشارة للتميز أو للفظه قيل والذكر

يحتمل أنه ذكر الله ذلك حكاية عن العباد تعليما لهم، فحصول التميز والتعلّق على ظاهره لكن قوله خوطب ليس على ظاهر إذ هو تعالى ليس بمخاطب في تلك المرتبة بل المراد منه حكاية خطابه تعليماً، ويحتمل أن يراد ذكر العباد ذلك في مقام الحمد والقراءة كما علمهم، فحصول التمييز والتعلق بالنسبة إلى من عنده التمييز والعلم باعتبار التفات جديد لازم للقراءة والخطاب على ظاهره، وقيل وجه سببية الذكر والوصف المستلزمين للتميز والعلم التنزيل الغائب بواسطة أوصافه المذكورة التي أوجبت تميزه وانكشافه حتى صار كأنه يبدل خفاء غيبته بجلاء حضوره منزلة المخاطب في التميز والظهور فيصح إطلاق ما هو موضوع للمخاطب عليه، وظاهره أنّ الحق سبحانه لا يخاطب حقيقة ولا يظهر وجه لصحته كيف ولا يثترط في الخطاب إلاً السماع لا المشاهدة والعيان، والآ يلزم أن لا يخاطب الأعمى حقيقة ولا من هو خارج الدار من في داخلها ولم يقل به أحد انتهى.

(أقول) هذا مشكل من أهمّ المهمات بيانه وكلام كتب المعاني كلها أو جلّها ناطق بمثل باردة، فلا بدّ من بيان معنى الخطاب المدلول عليه بضمائره ونحوها فإنه إن قيل إنّ حقيقته توجد إذا اجتمع المتخاطبان بجث يرى كل منهما الآخر، ويسمعه لم يكن خطاب الداعين لله حقيقيا، وكذا خطاب الأعمى ومن هو خارج الدار ونحوه والبدإهة شاهدة بخلافه، فإن لم يشترط ذلك لزم أنّ كل من وجه له الخطاب غائبا كان أو حاضراً مخاطب حقيقة، وفساده ظاهر فلا بدّ من بيان المراد منه حتى تتميز حقيقته من مجازه، والذي لاح لي بعد إمعان النظر فيه أنّ كل شيء له تحقق في الخارج ونفس الأمر وتحقق ذهناً باعتبار دلالة العبارة عليه، ولا تلازم بينهما فتحقق الخطاب في الأوّل بحيث يعدّ حقيقة يكفي فيه سماع المخاطب ووجوده عنده، وإن لم يحوهما مكان واحد ولم يركل منهما الآخر فالعبد يخاطب الله في دعائه حقيقة لسماعه دعاءنا وهو معنا، وأمّا باعتبار استعمال ما وضع للخطاب كضمائره، فإن وقع ذلك ابتداء في حال التكلّم كان مدلولها مخاطباً حقيقة، والاً فلا، وإن وقع في أثناء الكلام ينظر لما قبله فإن كان لفظاً موضوعاً للمخاطب، فكذلك هو حقيقيّ حتى يعد ما خالفه التفاتا، والاً فهو مجازي، لأنّ الحكم وقع عليه أوّلاً من غير دلالة على توجه النفس إليه توجه الخطاب سواء كان كذلك أو لا حسبما يقتضيه الحال ألا ترى الرجل بين يدي الملك لمهانته يخاطب بعض خدامه، ويقول أنا راج أن يحسن إليّ السلطان ويخلصني بعدله من العدوان، ولا يعدّ التعبير بالغيبة فيه مجازاً والتفاتاً مع أنه بمسمع منه ومرأى، وهكذا جرى القياس ومتعارف الناس، ولما كان الغالب المتعارف كون المخاطب حاضراً محسوساً وغيره ليس كذلك جعلوه معيار الحقيقة والمجاز، ولما ذكر الله هنا بطريق الغيبة جعل إجراء الأوصاف المعينة لتميزه في قوّة التعبير عنه بما يدل على الخطاب، ولما لم يكن كذلك حقيقة جعل التفاتا وهو الذي عناه ذلك الفاضل، فبيته وبين ما أورد عليه بعد المشرقين، وقد وضح الصبح لذي عينين، وهذا سرّ حديث:

" الإحسان: أن تعبد الله كأنك تراه " كما قال الشاعر:

واني لأرجو الله حتى كأنما أرى بجميل الظن ما الله صانع

قوله: (أي يا من هذا شأنه إلخ) فيه إشارة إلى المرجح بعد المصحح، وكأنّ الخطاب المعلل بهذه الفوائد مسبب عما تقدّم، ولما كان في إطلاقه عليه ملاحظة لتلك الأوصاف صار الحكم مرتبا على الوصف المناسب، فكأنه قيل يا من اتصف بتلك الأوصاف، وتميز بها نعبدك فيشعر من طريق المفهوم باختصاص العبادة به، فيكون ما خوطب به أدل على الاختصاص من إياه نعبد لاشتراكهما في الدلالة على الاختصاص بالتقديم، واختصاص الأوّل بالدلالة من طريق المفهوم أو المعنى ليكون الخطاب أدل على الاختصاص من الغيبة، لأنه ربما يفهم من الصفات السابقة معه لا به، وقال قذس سرّه: حاصل ما ذكر أنه لو قيل إياه نعبد واياه نستعين كما يقتضيه السياق ظاهراً لم يكن فيه دلالة على أنّ العبادة له والاستعانة به لأجل اتصافه بتلك الصفات المجراة عليه وتميزه بها عن غيره، لأنّ ذلك الضمير

ص: 110

راجع إلى ذاته بمقتضى وصفه، وليس فيه ملاحظة لأوصافه، وان اتصف بها فالحكم متعقق بذاته فلا يفهم منه تسببه عرفا، واذا قيل إياك بدله نزل الغائب بواسطة أوصافه المذكورة الكاشفة له كما مرّ منزلة المخاطب في التميز والحضور، وأطلق عليه ما هو موضوع له، ففهم منه عرفا أن ذلك لتميزه بتلك الصفات ونظير إياك هنا اسم الإشارة الآتي في قوله أولئك على هدى، فإثبته له في الخطاب بطريق برهاني بخلاف الغيبة فلذا قال أدل. قوله:(نخصك بالعبادة إلخ) قال الفاضل الليثي: فيه تصريح بفائدة التقديم والخطاب والباء داخلة على المقصور لأنّ الاختصاص والتخصيص والخصوص يقتضي بحسب مفهومه الأصلي دخول الباء في المقصور عليه كقوله مخصوص بالمعبود يالحق، وهذا عربي كثير إلآ أن الأكثر في الاستعمال دخولها على المقصور ووجهه استعمال ماذة التخصيص في معنى التمييز أو التميز لكون تخصيص شيء بآخر في قوّة تمييز الآخر به أو تميز. به، وقد تبع في الشريف قدّس سرّه كما حققه في حواشيه على المطوّل حيث قال معنى نخصك بالعبادة نميزك، ونفردك من بين المعبودين فتكون العبادة مقصورة عليه تعالى، وكذأ قوله واختص بوا أي ميز المندوب عن المنادي بوا فتكون مختصة بالمندوب وكذا قوله تعالى:{يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَن يَشَاء} أسورة آل عمران سا الآية: 74] وبالجملة تخصيص شيء بآخر في قوّة تمييز الآخر، وأمّا أن يجعل التخصيص مجازاً عن التمييز مشهوراً في العرف حتى صار كأنه حقيقة فيه، وأمّا أن يجعل من باب التضمين، فيلاحظ المعنيان معا وتكون الباء

المذكورة صلة المضمن، ويقدر للمضمن فيه أخرى فيقال ونخصك بالعبادة مثلاً نميزك بها مخصصين إياها لك (وههنا بحثان (: الآوّل أنّ المصرّح به في كتب اللغة أنّ الباء تدخل على المقصور قال في الأساس خصه بكذا فاختص به، وفي مفردات الراغب: التخصيص تفرّد بعض الشيء بما لا يشاركه فيه الجملة، وكذا قال الجوهرفي خصه بالشيء فاتفقوا كلهم على تفسيره بالتفرّد والتميز وعلى إدخال الباء على المقصور، وهو الوارد في القرآن المجيد كقوله تعالى:{يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَن يَشَاء} [آل عمران: 74] فما الداير إلى ارتكاب التجوّز والتضمين مع ما في الثاني من التكلّف المخالف للمعهود في أمثاله وهو يكون لازما ومتعديا لمفعول بنفسه وللآخر بالباء، وقد يتعدى لمفعولين كقوله:

إن أمر أخصني عمدا مودّته

ويحتمل الحذف والإيصال، فقول الشارح المحقق: المعنى نخصك بالعبادة أي نجعلك منفرداً بها لا نعبد غيرك وهذا هو الاستعمال العربي ولو قال: نخص العبادة، لكان استعمالاً عرفياً انتهى هو الصواب فلله دره والعجب من المدقق بعدما سمع هذا قال ما قال {فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَاّ الضَّلَالُ} [يونس: 32] الثاني: القصر هنا حقيقيّ، فلا يتوهم أنه يكون لردّ خطأ المخاطب، ولا مجال له هنا لأنه في القصر الإضافي ومن لم يفرق بينهما فقد سها، وأعجب منه ما قيل إنه اعترض بأنّ المعنى نخص العبادة، وطلب المعونة بك لا نخصك بالعبادة، وكأنه نظر إلى أنهم علموا أنّ ذلك يكون لغير الله أو له ولغيره فقال: نخص العبادة بك قصر قلب على الأوّل، وافراد على الثاني، فوجب حمل كلام المصتف على القلب، وفيه أن ردّ الخطأ في القصر على المخاطب وهو هنا محال، وأجيب بأنه على سبيل التعريض، وهو غير صحيح كما سيأتي، وهو من قصر الفعل على المفعول قلبا لكن النظر في دفع الخطأ لم يندفع انتهى. قوله:(والترقي من البرهان إلى العيان) الترقي في أكثر النسخ بدون لام، ووقع في بعضها وللترقي مصرحا بها كما في بعض الحواشي، فلذا احتمل أن يكون معطوفا على قوله ليكون أو على الاختصاص، أو على أدل وهذا أبعدها، ولما ذكر أوّلأ المصحح للخطاب والالتفات أتبعه بالمرجح له، وهو أنه أدل على الاختصاص به تعالى كما مرّ، وفيه الترقي المذكور مع فوائد ونكات أخر مفصلة في المعاني قيل وكون ما خوطب به أو الخطاب أدل على الترقي، والانتقال محل نظر، فالوجه أن يعطف على مدخول اللام فيكون ين فوائد الخطاب لكن ترتبهما عليه ليس في الوجود الخارجي بل في الوجود العلمي فإن الترقي والانتقال المذكورين متقدمان على الخطاب، وهذا إذا أريد به الحالتان الداعيتان للخطاب، وأمّا إذا أريد بهما الترقي، والانتفال من حيث التعبير بالعبارة الدالة على الحالين فليسا بمتقذمين عليه، والعيان بكسر العين وفتحها خطأ هو مشاهدة العين

ص: 111

والذات. قوله: (والانتقال إلخ) قيل

ب / بم ا / م 1

حضوراً بنى أوّل الكلام على ما هو مبادىء حال العارف من الذكو والفكر والتأمّل في أسمائه، والنظر في آلائه، والاستدلال بصنائعه على عظيم شأنه، وباهر سلطانه ثم قفي بما هو منتهى أمره، وهو أن يخوض لجة الوصول، ويصيره من أهل المشاهدة، فيراه عيانا إنه عطف تفسيريّ وليس المراد بالشهود الرؤية الحقيقية لعدم وقوعها وإن لم يمتنع بل التوجه التامّ لحضرة القدس والإعراض عما سواه:

وثمّ وراء الذوق معنى يدق عن مدارك أرباب العقول السليمة

وقوله بنى أوّل الكلام إلخ جملة مستأنفة استئنافا بيانياً، أو مفسرة ومبينة لما قبلها فلذا لم تعطف، وقيل: الأولى أن يذكر في مبادي حاله تهذيب الظاهر بوظائف العبادات المستفاد من الحمد إن كان بمعناه العرفي ودلالتة إن حمل على المعنى اللغوي لأنّ من عرف أنّ جميع النعم له يلزمه أن ث ممره بجميع الموارد وقيل أواسط حاله الإيمان بالشرع وما لا طريق للعقل إليه إلاً من جهة الوحي رجاء وعده ووعيده وقد تضمنه {مَلِكِ يَوْمِ الدِّينِ} فلم يفت النظم أواسط حاله وفيه نظر إذ كيف يكون الإيمان بالشرع من أواسط حال العارف بل أواسط حاله تزكية البطن عن الأخلاق الرديئة، والملكات الذميمة وتخلقه بأضدادها والجتة والنار صورة تلك الأخلاق، فمالك يوم الدير، فيه إشارة إليها لكن لا كما توهم، ويمكن أن يقال التحلي بالأخلاق الفاضلة والتخلي عن الملكات الرديئة من مقتض الرحمة الرحمانية لأنه من النعم الجليلة الدنيوية، وجزاؤه في الآخرة من مقتضيات الرحمة الرحيمية فالاسمان يشعران بأواسط حاله، وهذا كله تكلف ناشىء من الغفلة عن قوله العارف فإنه في اصطلاحهم من أشهده الله ذاته وصفاته، وأسماءه وأفعاله والعارف تكفيه الإشارة. قوله:(من الذكر إلخ) الذكر من الجلالة أو من جملة الحمد لله لأنه ذكر للأوصاف الجميلة إجمالاً والفكر في الآفاق والأنفس من رب العالمين، والتأمّل التدبز دماعادة النظر مرّة بعد أخرى في الشيء حتى تعرفه من الأمل، وهو الرجاء كأنك كنت ترجوه والآلاء بالفتح والمد جمع إلى بكسرة الهمزة وفتحها مع فتح اللام، وئبسكونها بمعنى النعمة من الرحمن الرحيم، والاستدلال من مالك يوم الدين، والظاهر أنه من الرحمن الرحيم أيضاً والمشاهدة المذكورة من الخطاب والصنائع جمع صنيعة وهي الإحسان، أو صناعة والتعبير بالتأمّل في الأسماء والنظر في الآلاء ظاهر، والباهر من بهر بمعنى فضل وغلب، السلطان الحجة والولاية والسلطنة وكل منها صحيح هنا، وهو إشارة إلى مقامات العارفين في السلوك والسير إلى الله فتدبر. قوله:(ثم قفى إلخ) قفى بالتخفيف بمعنى تبع وبالتشديد بمعنى أتبعه كأنه جعله خلف قفاه.

قيل وفيه بحث أمّا أوّلاً فلأنّ منتهى حال العارف مرتبة حق اليقين والظاهر أنّ ما ذكره

إشارة إلى مرتبة عين اليقين وامّ ثانياً فلما ذكره بعض العلماء من أنّ الخطاب لا يقتضي إلآ كون المتكلم بحيث يراه المخاطب، ويسمع صوته لا كونه رائيا للمخاطب ومشاهداً له، وفيه نظر لأنه لا يفهم من كلام المصتف استدعاء الخطاب مطلقا شهود المتكلم بل يفهم أنّ الخطاب

الواقع بعد إجراء الصفات الموجبة لليقين يوجب كون المخاطب كأنه مشاهد ولا شبهة في صحة هذا الكلام، والجواب عن الأوّل أنّ هذا منتهى السير إلى الله فلذا عدت منتهى حاله، وفب نظر لا يخفى، ومنتهى اسم مفعول أو مصدر ميمي بمعنى النهاية والخوص الدخول في الماء، والمجة الماء المجتمع من البحار ونحوها وهو استعارة تمثيلية أو يخوض استعارة تبعية بمعنى يشرع، واللجة ترشيح له أو لجة الوصول من قبيل لجين الماء، والمراد من العين الذات المعاينة، والأثر فسر هنا بالخبر، وهو المناسب للسمع ولمراده إذ المراد الدعاء بأن يكون ممن كثف له الغطاء فلم يقف على السماع والمعروف في الأثر المقابل للعين أنه بمعنى العلامة، وفي المثل لا أثر بعد عين، والمناجاة المكالمة، والشفاه مصدر بمعنى المشافهة. قوله:(ومن عادة العرب إلخ) قدّم المصنف رحمه الله نكتة إلالتفات الخاصة بهذا المقام لشدة ارتباطها بتفسيره، وللاهتمام بها.

3 أشار إلى فائدته العامّة من جهة المتكلم وهي التصرّف في وجوه الكلام واظهار القدرة عليها، ولذا قال ابن جني رحمه الله إنه شجاعة العربية، وأردفها بفائدة أخرى من جهة الكلام، وهي التطرية أي تجديد أسلوبه وابراز عرائس المعاني في حلة بعد حلة، وفائدة أخرى من جهة السامع وهي تنشيطه وله فوائد خاصة بكل مقام كما أشار إليه أوّلاً بقوله ليكون إلخ. والتفنن ط لإفتنان الإتيان بفنون، وأنواع من الكلام

ص: 112

وهو أعمّ من ألالتفات لشموله اختلاف وجوه الإعراب في النعوت المقطوعة، والأسلوب بضم الهمزة الطريق والفن ويصمح إرادة كل وإحد منهما هنا، والتطرئة بهمزة بعد الراء أو ياء فهو مهموز وغير مهموز وقيل بمعنى التجديد، إمّا من الطراوة أو من طرأ بمعنى ورد وحدث، وفي المصباح طرو بالواو بزنة قرب فهو طريّ بين الطراوة وطري وزان تعب لغة، وطرأ فلان علينا يطرأ مهموز بفتحتين طرو أصلع فهو طارىء، وطرأ الشيء يطرأ أيضا طرآنا مهموز حصل بغتة وأطريته بالياء والهمزة مدحته اهـ وتنشيط السامع ترغيبه في الاستماع واذهاب كسله وملله من قولهم رجل نثيط أي طيب النفس للعمل، والمصنف رحمه الله جعل التنشيط علة للعدول، والمفهوم من كتب المعاني أنه غرض التطرية والأمر فيه سهل. قوله:(فتعدل من الخطاب إلخ) فأقسامه ستة وهي ظاهرة، وهو عند السكاكي مخالفة الظاهر في التعبير عن الشيء بالعدول عن إحدى الطرق الثلاث إلى غيرها تحقيقاً أو تقديرا، ومنهم من اشترط سبق تعبير بطريق آخر معدول عنه وهو ظاهر كلام الممتف، ويقرب منه التجريد المذكور في البديع، والفرق بينهما بين في محله، ووضع الظاهر موضح المفمر قد يكون التفاتا وقد لا يكون، وهل الالتفات حقيقة أو مجاز والحق أنه قد يكون جمقة وقد يكون مجازاً، ولذا ذكر في المعاني، وقيل إنه حقيقة حيث كان معه تجريد

وهو كلام سطحيّ، وقد اتفقوا على أنّ ما نحن فيه من الالتفات، وأنّ فيه التفاتاً واحداً، وفي شرح التلخيص للسبكي فيه نظر لأنّ الالتفات خلاف الظاهر مطلقاً، فإن كان التقدير قولوا الحمد لله إلخ ففي الكلام المامور به التفاتان أحدهما في الجلالة، وأصله الحمد لك لأنه تعالى حاضر والثاني في إياك لمجيئه على خلاف أسلوب ما قبله، وان لم يقدّر كان في الحمد لله التفات من التكلم للغيبة، لأنه تعالى حمد نفسه، ولا يكون في إياك التفات لتقدير قولوا معها قطعاً، فيلزم الشيخين العلامة والسكاكيّ أحد أمرين، إمّا أن يكون هنا التفاتان أو لا يكون التفات أصلَا إن قلنا برأي السكاكي، وهو مقتضى كلام الزمخشريّ لجعله في الشعر ثلاث التفاتات، وان قلنا برأي الجمهور ولم نقدّر قولوا فلا التفات لأنا نقدر قولوا إياك نعبد فإن قدر قولوا قبل الحمد لله كان فيه التفات واحد في إياك، وبطل قول الزمخشريّ: إنّ في الشعر ثلاث التفاتات اهـ وهذا كلام مشوّس، ويعلم حاله مما قرّروه، فلا يلتفت له فتدئر. قوله:(وبالعكس كقوله تعالى إلخ) متعلق بجميع ما سبق وسكت عن قسمي العدول من الخطاب إلى التكلم، وبالعكس قيل لقلة وقوعهما في التراكيب، أو لأنهما يعلمان بالمقايسة إلى ما ذكر بل بالأولى إذ القرب بين التكلم والخطاب أشد قيل: وفي الوجهين نظر إذ الأوّل غير ظاهر، والثاني لا يختصى بالوجهين، وكون القرب بين التكلم والخطاب أشد من قرب التكلم من الغيبة غير ظاهر، وقد يفال. المصمراع الأوّل من الأبيات إشارة إلى النقل من التكلم إلى الخطاب على طريقة السكاكي، وانكاره القرب بين التكلم والخطاب سهو أو مكابرة، فإنّ بينهما تلازماً ظاهراً بخلاف ائثكلم والغيبة. قوله:(وقوط امرىء القيس إلخ) قائله امرؤ القيس بن عانس بالنون والسين المهملة ابن المنذر بن امرىء القيس بن السمط الكندي على الأصح المعروف عند الرواة، وهو صحابيّ وفد كلى النبيّ صلى الله عليه وسلم وأسلم وكان نزل الكوفة، وفي الصحابة عذة رجال يسمون بامرىء القيس غيره، وقيل: إنّ قائله امرؤ القيس بن حجر الكندي الشاعر الجاهليّ المعروف وهذا هو الثابت في كتاب أشعار الشعراء الستة، وعليه صاحب المفتاح وأكثر أهل المعاني، ونص ابن دريد على أنه وهم.

وقال ابن الكلبي: هو لعمرو بن معد يكرب في قتله بني مازن بأخيه عبد الله واخراجهم

عن بلادهم وأثمد اسم موضع وهو بفتح الهمزة وسكون المثلثة وضم الميم وروي فتحها أيضا، وروي بكسر الهمزة والميم كاسم الكحل والعائر كالعوار القذى الرطب الذي تلفظه العين في الوجع، وبمعنى الرمد أيضأ ويطلق على محله فيحتاج إلى تقدير أي ذي الجفن العائر، والمراد

تشبيه نفسه بذي العائرللأرمد في القلق والاضطراب، وتشبيه ليلته بليلته في الطول، والخليّ الخالي من الحزن وأبو الأسود صاحب له نعاه أو من بلغه خبر أبيه، وأبو الأسود كنيته واسمه ظالم بن عمرو من بني الجون أكل المرار، وهو

ص: 113

ابن عمّ امرىء القيس رثاه بهذه القصيدة، وقيل أبى أب مضاف لياء المتكلم والأسود صفته وهو أفعل من السودر أو السواد، والنبأ الخبر أو خبرس فيه فائدة عظيمة وعما له شالط فهو أخص مته، والشعر هو-هلى ا:

تطاول ليلك بالإثمد ونام الخليّ ولم ترقد

وبات وباتت له ليلة كليلة ذي العائر الأرمد

وذلك من نبا جاءني ونبئته عن أبي الأسود

ولو عن نبأ غيره جاءني وجرح اللسان كجرح اليد

لقلت من القول مايلايزال يؤثرعني يدالمسند

بأقي علاقتنا يزعمون أعن دم عمروعلى مرثد

فإن تدفنوا الهداء لانخفه وأن تبعثوا الداء لا نقعد

وإن تقتلونا نقتلكم وان تقصدوا الدم لم نقصد

متى عهدنا بطعان الكما ة والمجد والحمد والسودد

وملء القباب وملء الجفان والنار والحطب الموقد

وأعددت للحرب وثابة جواد المجيئة والمورد سبوخاجموحاواحصارها كمعمعة السعف الموقد

ومطرد كرشاء الجزو رمن جلب النخلة الأجرد

وذي شطب غامض كله إذاصاب بالعظم لم يتأد

ومسدودة السبك موضونة تضاءل بالطرّ بالمبرد

تفيض على المرء أردانها كفيض الأنيئ على الخدخد

وهي مشروحة في كتب الشواهد، وقال قدس سرّه: اعلم أنّ قوله تطاول ليلك إن حمل

على الالتفات لم يكن تجريداً وان عد تجريداً كقوله:

وهل تطيق وداعا أيها الرجل

لم يكن التفاتا لأنّ مبنى التجريد على مغايرة المنتزع للمنتزع منه حتى ترتب عليه ما قصد

به من المبالغة في الوصف، ومدار الالتفات على اتحاد المعنى ليحصل به ما أريد من إرادة إبراز المعنى في صورة أخرى مغايرة لما يستحقه بحسب الظاهر، فالقول بأنّ أحد أقسام التجريد، وهو مخاطبة الإنسان نفسه التفات مما لا يعتد به، وهذا لم يرتضه بعض الفضلاء وقال فإن قيل مبنى الالتفات على ملاحظة اتحاد المعنى، والافتتنان في التعبير عن معنى واحد

بطرق مختلفة، ومبنى التجريد على اعتبار التغاير ادّعاء قلنا يكفي في الالتفات، والافتتان اتحاد المعنى في نفس الأمر، ولا ينافيه اعتبار التغاير ادّعاء ألا ترى أنّ صاحب المفتاج جوّز أن يكون فائدة الالتفات في مثل تطاول ليلك أنّ المتكلم لشدّة المصيبة وقع شاكاً في اتحاده مع نفسه، فأقامها مقام مكروب يخاطبها فلا ينافي الالتفات أن تعتبر المغايرة أيضا بحيث ينزع منه مصاب آخر نعم لا تلزم المغايرة والانتزاع في الالتفات.

(وأنا أقول) الظاهر أنّ المقصود بالذات في التجريد التغاير لابتنائه على المبالغة الحاصلة

به، وفي الالتفات الاتحاد لابتنائه على تلوين الخطاب المقتضي لاتحاد المعنى، فلا ينافي إيهام خلافه لنكتة ألا ترى أنّ صاحب المفتاح لما نزله منزلة المصاب جعل ذلك لذهوله، فكأنه لو لم يقدر نفسه ذاهلا لا يتأتى التغاير ثم إنه نقل عن المصنف رحمه الله هنا أنه قال إنّ ليلك بفتح الكاف وان كان خطابا لنفسه لأنه أقامها مقام مكروب ذي حرقة، أو مقام المستحق للعقاب على ما صرّح به في المفتاج بدليل الخطاب في لم ترقد، فإنه مذكر والاً قيل لم ترقدي بإظهار الضمير وقيل عليه إنّ ضعف هذا الدليل غنيّ عن التفصيل وسيأني تحقيقه وما فيه، وقد اختلفوا في عدد الالتفات في هذه الأبيات فعذها الزمخشرقي ثلاثة في ليلك لأنّ حقه أن يقول ليلي، وفي بات لعدوله إلى الغيبة بعد الخطاب، وفي جاءني لعدوله بعدها إلى التكلم، واكثر على

ص: 114

أنّ فيها التفاتين فقط، وأنّ الأوّل ليس بالتفات بل تجريد، وقيل إنّ الثاني والثالث ذلك وجاءني ورجحه في الإيضاح أو ذلك وخبرته ورجحه في عروس الأفراح، وقيل فيه أربع التفاتات، وقيل هي سبع في ليلك وترقد وبات وله وذلك وجاءني وخبرته. قوله:(وأيا ضمير منصوب إلخ) ذكر صاحب البسيط فيه أقوالاً سبعة وبينها وأدلتها فذهب الزجاج إلى أنّ أيا اسم مظهر مبهم مضاف للضمائر بعده، والخليل إلى أنه ضمير مضاف للضمير بعده، وكون الضمير يضاف ردّه النحاة، وذهب ابن كيسان وغيره إلى أنّ أياً دعامة وما بعدها هو الضمير، وقوم إلى أنّ إياك بجملته ضمير وآخرون إلى أنّ أيا هو الضمير وما بعده حروف مبنية للمراد به وهو الأصح وقد ارتضاه المصتف رحمه الله تعالى. قوله:(كالتاء في أنت إلخ) أمّا الكاف في أرأيتك بمعنى أخبرني فحرف بلا خلاف في المشهور وأما تاء أنت ففيها خلاف، فمنهم من ذهب إلى أنها ضمير وما قبلها دعامة فلا يصح جعلها مقيسا عليها، وان كان ذلك مما سبق المصتف رحمه الله إليه ابن الحاجب ووجهه أنّ الخلاف فيها ضعيف لم يعتدوا به، ولذا قال في شرح اللب أنها حرف بالإجماع. قوله:(واحتج إلخ) أي الخليل احتج لما قاله من أنه ضمير مضاف

بسماع إضافته للاسم الظاهر، وجره له وكون الضمائر لا تضاف غير مسلم عنده أو هو يقول لا مانع من إضافة هذا النوع منها لأنّ الأحكام العامّة قد تتخفف في بعض الصور كتخلف لدن عن جر غدوة وتخلف لولا عن وقوع الضمير المرفوع بعدها، فكذا هذا تخلف عن حكم المضمرات في منع الإضافة. قوله:(أيضاً واحتج إلخ) قال سيبويه: وحذثني من لا أتهم عن الخليل أنه سمع أعرابيا يقول فذكره، والشوالت بالتشديد جمع شابة كدواث جمع دابة الفتية من النساء بالغ في التحذير، فأدخل أيا على الثواب كأنه توفم أنّ كلا منهما محذر من الآخر أي عليه أن يقي نفسه عن التعرّض للشواب، ونهين عن التعرّض له فعليهن مثل ذلك وهذا شاذ لا يرد على المخالف واعترض عليه بأنه وان كان شاذاً لا يقاس عليه، لكنه لا ينكر شهادته لإضافة أيا إلى ما بعده ولا يصح دفعه بأنه لم يصدر عمن يعتد به مع نقل سيبويه السابق، ومعناه نهيه إذا بلغ هذا السن عن الشواب لأنهن يرغبنه في الجماع وهو مفن له، وفي حواشي الكشاف لابن الصائغ من رواه السوآت بالمهملة والتاء الفوقية جمع سوأة وهي الفعل القبيح فقد صحف ولا خصوصية لبالغ الستين بذلك، وردّ بأنه رواه كذلك صاحب البسيط وقال: إنه أبلغ في التحذير من الجماع عند الكبر، والمعنى ينبغي للشيخ العفة عن كل قبيح، وقال الزركشيّ رحمه إلله تعالى أنه يبطل دعوى التصحيف فيه وفي إياك لغات فتح الهمزة وكسرها وتشديد الياء وتخفيفها وابدال الهمزة هاء وواواً. قوله:(والعبادة أقصى غاية الخضوع) أقصى بمعنى أبعد والمراد البعد المعنوي ففيه إستعارة ويجوز أن يكون تمثيلا والغاية النهاية ولما كان الخضوع والتذلل نهايات ولفظ الغاية شامل لها لكونه اسم جنس مضافا صح إضافة أقصى إليه، كأنه قيل أقص غاياته كما قال قدس سرّه: فاندفع أنّ الغاية والنهاية لا تنقسم لأقصى وأقرب وأوسط إلأ بتجوّز، وليس هنا قرينة تدل عليه، وأنّ أفعل التفضيل لا يضاف إلاً إلى ما هو بعضه مما يصدق عليه، فهو إمّا مفرد نكرة نحو أفضل رجل، أو معرفة مجموعة، أو في معناها نحو البرني أفضل التمر على ما قرّر. النحاة واسم الجنس المضاف هنا في معنى الجمع لكن قيل عليه إنه لا وجه للفرق بينه، وبين اسم الجنس المعرّف باللام إذا لم يقصد به العهد، وفيه نظر فتامّل. قوله:(ومنه طريق معبد إلخ (المذلل هنا إمّا من الذل بالضم بمعنى الإهانة أو من الذل بالكسر وهو السهولة واللين ومعبد كمكرّم بمعنى مذلل بالفتح في كل منهما لكثرة وطئه، وثوب ذو عبدة بفتحتين أي متانة ومثله يكثر لبسه فيذلل، وقيل لما فيه من اللين أو هو ضد والصفاقة بالصاد المهملة والفاء والقاف ضد السخافة، وفي القاموس ثوب سخيف قليل الغزل. قوله: (ولذلك إلخ) 3 ي لكون معنى العبادة ما ذكر اختص بالله سواء كان ذلك بالتسخير أو بالاختيار كما فصله الراغب والاستعمال استفعال من العمل، وفي المصباح استعملته جعلته عاملا واستعملته سألته أن يعمل، واستعمدت الثوب ونحوه أعملته فيما يعدّ له اهـ فالعبادة لما كانت

أقصى غايات الخضوع لم تستعمل إلآ في الخضوع لله

ص: 115

المستحق لذلك، لأنه المولى لأعظم النعم، كالوجود والحياة وما يتبعهما، وأورد عليه أنّ دليله لا يفيد انحصار أقصى غاية الخضوع في الخضوع دلّه إلاً أن يقال أنّ ما لا يقع في موقعه غير معتبر، فهو بمنزلة العدم فناسب أن لا يستعمل ذلك لغيره، وهو منتقض بقوله تعالى:{إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ} [الأنبياء: 98] وغيره مما تكرّر في القرآن، ولسان الشرع إلاً أن يقال العبادة عند عدم التقييد بالمفعول، لا تستعمل إلاً في الخضوع له تعالى، ونقل عن المصئف رحمه الله هنا حاشية لا يرد عليها هذا، وهي قوله أي لا يجوز شرعا ولا عقلاً فعل العبادة إلآ لله تعالى لأنّ المستحق لأقصى غاية الخضوع من كان موليا لأعظم النعم من الوجود، والحياة وتوابعهما، ولنهلك يحرم السجود لغير الله قعالى لأن وضع أشرف الأعضاء على أهون الأشياء، وهو التراب غاية الخضوع اهـ. قيل وهو مبنيّ على أنّ المراد بقوله لا يستعمل لا يفعل ويأباه قوله إلا في الخضوع دثه إذ الواجب حينئذ إلا لله وليس بشيء لأن مراده أنه لم يستعمل في لسان الشرع ولغة العرب المعتد بها مطلقا لغيره تعالى بخلاف العبودية والخضوع والتواضع ونحوه وما ورد في القرآن ونحوه وارد على زعمهم تعريضا لهم ونداء على غباوتهم ولذا حرم السجود لغير الله وخص التحريم به لغاية ظهوره في قصد العبادة، فلا حاجة لأن يقال إنه لا مانع من أن يراد لا يجوز فعل أقصى غاية الخضوع، إلاة في ضمن خضوعه لله تعالى، وسخافته تغني عن ردّه وبتفسير غاية الخضوع بما ذكرناه سقط ما قيل: إنّ العبادة إذا كانت أقصى غايات الخضوع يلزم أن لا يكون أكثر الناس بل أكثر المؤمنين عابدين لله. قوله: (والاستعانة طلب المعونة إلخ) العون الظهير على الأمر والجمع أعوان، واستعان به فأعانه، وقد يتعدى بنفسه فيقال: استعانه والاسم المعونة والمعانة أيضاً بالفتح، ووزن المعونة مفعلة بضم العين فنقلت ضمته لثقلها على الواو، وقيل الميم أصلية مأخوذة من الماعون، فوزنها فعولة على هذا، والمراد بها المعنى اللغوي،. وهو الإعانة مطلقاً لا ما اصطلح عليه أهل الكلام من أنه بمعنى القدرة، وهي الصفة المؤثرة على وفق الإرادة العدم صدقها على شيء مما ذكره المصتف رحمه الله سوى اقتدار الفاعل، ولا القدرة بمعنى ما يتمكن به العبد من أداء ما لزمه بقسميه من الممكنة والميسرة على ما فصله الحنفية في كتب الأصول، وفي بعض الحواشي أنه المراد قيل: وهو مردود من وجوه.

أمّ أؤلاً فلعدم صدقه على شيء مما سيذكره.

وأمّ ثانياً فلأنّ القسم الأوّل من الفدرة يتوقف عليه صحة التكليف كما سيذكره المصئف رحمه الله بطريق المفهوم، فتتوقف عليها العبادة فتتقدم عليها بالضرورة، وطلبه في عامة المهمات الداخلة فيها العبادة بخصوصها يقتضي تأخره عنها فيلزم التنافي، والقسم الثاني وان لم يتوقف عليه صحة التكليف لكن العبادة الواجبة على تقدير كونها ميسرة بالمعنى الاصطلاحي

متوقفة عليه فتتقدم عليه وطلبه فيها يقتضي لتاخر عنها فيلزم التنافي أيضاً.

وأمّا ثالمثاً فلأنّ طلب قدرة قجب بها العبادة ممكنة كانت أو ميسرة، مما لا معنى له إذ

حاصله طلب الوجوب عليه والمقصود طلب الإعانة في تبرئة الذمم عما يجب عليها.

وأمّا رابعا فلأنّ قوله اهدنا إلخ لا يصح أن يكون بيانا للمعونة بهذا المعنى، وألمصئف

جعله بيانا ولعمري لقد أطال بما لم يفد غير الملال والداعى له ما وقع لهم من الاضطراب والاختلال، والحق أنّ المصنف رحمه الله لم يرد شيئا مما قالوه أمّ القدرة فلأنها عند المصتف لها معنى غير ما ذكروه، وهو شافعيّ أشعريّ فلا يليق تفسير كلامه بما في أصول الحنفية مع أنّ ما ذكره المصتف لا يوافقه كما سنذكره، وأمّا المعنى اللغويّ فكذلك لأنّ المعاونة في اللغة والعرف العام المساعدة والمظاهرة بالأمور المحسوسة كالمال والرجال وتكون بالبدن كرفع الحمل الثقيل معه، وبالمقال كبيان حجة، والمطلوب هنا لا يختص بما ذكر ألا ترى إلى قوله:

{اسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ} [البقرة: 153] ونحوه مما يعد استعانة فيهما، فالمراد كما أشار إليه الإمام ومته أخذ المصتف تيسير الله له ما يريده على وفق رضاه وهو معنى لا حول ولا قوّة إلآ. بالله أي لا حول عن معصيته، ولا طاقة لطاعته إلاً بتوفيقه فيشمل الأسباب البعيدة والقريبةاالضرورية وغيرها وتندرىء به الشبهات كما سترأه إن شاء الله تعالى. قوله:

(والضرورية إلخ) سميت ضرورية لتوقف الفعل عليها ضرورة، وهي مناط التكليف بالاتفاق

ص: 116

ولا يصح تفسيرها هنا بالقدرة الممكنة كما في بعض الحواشي لأنها مما يتمكن به المأمور من أدإء ما أمر به بدنيا أو ماليا من غير حرج غالمبا قال صدر الشريعة: إفما قيدفا بهذا لأنهم جعلوا الزاد والراحلة في الحبئ من قبيل القدرة المصكنة على ما بين ثمة، والمصئف رحمه الله سيصرّح نجلافه. قوله:(كاقتدار الفاعل الخ) - قيل عليه لا شبهة في أنّ ما ذكر ليس من إفرأد المعونة وكأنه أراد به مباديه من الأقدار والتصبوير والتحصيل بقرينة تمثيل الثاني بالتحصيل ولذا فسر الاقتدار بإعطاء الاقتدار في بعض الحواشي، ففي كلامه تسامح ووقع في بعض النسخ كإقدار ووجهه ظاهر، وقيل المراد بالمعونة ما يعان به وفيه نظر وضرورية التصوّرلأنّ طلب المجهول وتكليفه لا يتأتى، وتوقفه على المادّة والآلة ظاهر لأنّ الفعل الموقوف عليهما لا يتأتى بدونهما وضمير بها للألة، وفيها للمادّة والجملة مستانفة لا صفة. قوله:(وعند استجماعها إلخ) أي حصولها والمصدر مضاف للفاعل. قال في المصباح: اجتمع القوم واستجمعوا بمعنى تجمعوا واستجمعت شرائط الإمامة واجتمعت بمعنى حصلت فالفعلان لازمان اهـ. والاستطاعة عند الأشعرية بمعنى القدرة وهو المعنى اللغوي عند بعض أهل اللغة أيضا وقال الراغب في مفرداته: الاستطاعة استفعالة من الطوع وذلك وجود ما يصير به الفعل متأتياً، وهي عند المحققين اسم للمعاني التي بها يتمكن الإنسان مما يريده من إحداث الفعل، وهي أربعة أشياء بنية مخصوصة للفاعل، وتصوّر للفعل، ومادّة قإبلة لتأثيره وآلة إن كان الفعل آليا كالكتابة اهـ

وهو مأخذ كلام المصتف وبه يقتدى في المعاني اللغوية في كتابه هذا غالباً. قوله: (يوصف الرجل بالاستطاعة) في نسخة ويصلح أن أي لأن يوصف بالاستطاعة والطاقة المعبر بها عن سلامة الأسباب والآلات إلاً أنّ الاستطاعة لكونها من الطاعة تخص الإنسان دون الطاقة فيقال البعير يطيق الحمل ولا يقال يستطيعه، وقوله بالفعل إن أراد به مقابل القوّة، فظاهر لأنّ تكليف ما لا يطاق وان صح عند الأشعري لكنه غير واقع كما ستراه وان أراد الحدث وواحد الأفعال، فالمراد الصحة المقارنة للوجود وهي تستلزم الوقوع ولذا أخرها عن الاستطاعة، والقدرة عندهم مع الفعل لا قبله فلا يقال إنه لا قرينة على أن المصنف رحمه الله أراد هذا، ولا يرد عليه أنه يجوز تكليف العاجز، وإن لم يقع لا تتوقف صحة التكليف على ما ذكر لأنّ الصحة فيه غير مقارنة للفعل، إن قلت لا بد من رفع المانع وقصد الفاعل، والعزم والشوق إن كان مغايرا للإرادة والتصديق بالفائدة إن لم نقل الإرادة كافية في الترجيح لأنها مما يصح به أصل التكليف فيما قيل قلت: هذه داخلة في الاقتدار والتصوّر من غير احتياح لما قيل من أنّ المصنف أتى بأداة التشبيه إشارة إلى عدم الانحصار فيما ذكره، وأمّا البلوغ فيفهم من التكليف بطريق الاقتضاء، كما يشير إليه ذكر الرجل في عبارته، وإن قيل: الأولى ذكر الشخمى بدله ليشمل المرأة فتأمّل. قوله: (وغير الضرورية إلخ) قيل المراد بالتحصيل تحصيله للفاعل لا تحصيل الفاعل وهذا الفاعل متصف عنده عرفا بالتوفيق والجد. وقوله: (كالراحلة) مثال لما يتيسر به الفعل والمراد بتحصيلها ملكها ذاتا أو منفعة، وهذا من القدرة الممكنة عند الأصولين فإنّ القدرة على السفر لا تتحقق بدونه عادة اهـ وهذا ليس بشيء لأنه على مصطلح الحنفية والشابعية لم يحدّوا القدرة، ولم يقولوا بتقسيمها لما ذكر كما مرّت الإشارة إليه وعطف يسهل على يتيسر عطف تفسيري والمراد بقربه معرفة فائدته المترتبة عليه والداعية الباعثة على الفعل بناء على ما تقرّر في أصولهم قال الأسنوي في شرح منهاج المصنف رحمه الله: مجموع القدرة والداعية يسمى بالعلة التامّة، فإذا وجدت يجب وقوع الفعل وقيل: لا يجب بل يصير الفعل أولى، وإذا عدمت الداعية امتنع وقوعه على المختار الذي جزم به الإمام، ونقل الأصفهانيّ في شرح المحصول أنّ أكثر المتكلمين على أنّ الفعل لا يتوقف عليها. اهـ. قوله:(والمراد طلب المعونة إلخ) العموم من الإطلاق مع خفاء قرينة التقييد ولزوم الترجيح بلا مرجح في الحمل على البعض وقدّمه المصنف رحمه الله لأنه الراجح عنده لما ذكر، ولأنه المروي عن ابن عباس رضي الله عنهما وأمّا تقييده بأداء العبادات (1) بحذف متعلق خاص يقدر هنا بقرينة مقارنة

العبادة، ويظهر تناسب

ص: 117

الجمل وشدة ارتباطها ويظهر كون اهدنا بيانا للمعونة فيتم الاتصال بين الجملتين ووجه التخصيص كمال احتياج والعبادة إلى طلب الإعانة لكونها على خلاف مقتضى النفس، وبكون العموم من حذف المتعلق وتنزيل الفعل بالنسبة إليه منزلة اللازم سقط ما يتوهم من أنّ الفعل لا عموم له كمصدره. قوله:(والضمير المستكن إلخ) المستكن بتشديد النون اسم فاعل من استكن بمعنى استتر هو بمعنى المستتر، وهو ضمير المتكلم مع الغير، ويكون للمعظم نفسه لتنزيله منزلة الجمع الكثير:

فالف س ألف منهموكواحد وواحد كالألف إن أمر عنا

ولكون هذا غير مناسب هنا قال المصئف رحمه الله: إنه له ولمن معه من الحفظة أي الملائكة جمع حافظ وليس المراد حفظة القرآن كما توهم أو للجماعة في الصلاة أو لسائر الموحدين، وأمّا تعميمه لسائر الخلق أو العقلاء فلا يناسب المقام وان قيل إنه الأقرب، لأنّ المشركين أيضا يعبدونه ويستعينون به، ولذا قيل إنه غفلة عما فيه من الحصر إذ هو غير متحقق في المشرك، وهو نكتة اختيار المصتف رحمه الله لفظ الموحدين على المؤمنين لى، فيه من الإشارة إلى توجيه الحصر، فلله دره ما أبعد مرماه وهذه الوجوه بعضها بالنسبة إلى المصلى وقراءتها في الصلاة، وهي المقدّمة اهتماما بها وبعضها بالنسبة لغيره، وقيل هي جميعها للمصلي الآ أنّ بعضها بالنسبة للمصلي مع الجماعة، وبعضها للمنفرد ثم بين وجهه والنكتة فيه. قوله:(أدرج عبادنه في تضاعيف عبادتهم) أي أدخلها في جملتها وأثنائها، وفي الأساس من المجاز هو في أضعاف الكتاب وتضاعيفه في أثنائه وأوساطه قال رؤبة:

والله بين القلب والاضعاف

يريد بواطن الإنسان وأحشاء. اهـ. ولم يفصح عن المراد بالتضاعيف، وأن مرد. ما هو،

وقد ذكره في شرح مقاماته قال التضاعيف جمع تضعيف بمعنى ضعيف وسمى الضعف بالتضعيف كما يسمى النبت بالتنبيت قال رؤبة:

وبلدة ليس بها تنبيت

اهـ وقد أوضحناه في كتابنا شفء الغليل ومن لم يقف على ما فصلناه قال بعدما فسره بما

مرّ لم يذكر في القاموس هذا المعنى للتضاعيف، ثم فسر أضعاف الكتاب بأثناء سطوره وحواشيه، فالظاهر أنه جمع تضعيف فإنه يدل على الكثرة والجمع للمبالغة والمقام يستدعيها، فالمعنى أدرج عبادته في عبادتهم الموصوفة بغاية الكثرة، إذ كلما كان المدرج فيه أكثر كان رجاء القبول ببركة الاندراج أكثر. قوله: (لعلها تقبل ببركتها (قيل ضمير لعلها لمجموع العبادة

والحاجة تنزيلاً لهما منزلة أمر واحد لتمام مناسبتهما فإنّ العبادة ما يتقرّب به العباد إلى ربهم وحاجتهم ما يطلبونه منه من الإعانة، وأيضاً العبادة وسيلة إلى حاجتهم في الجملة، وحاجتهم وسيلة إليها الجملة أيضاً، وهذا على تقدير تعميم الاستعانة، فإن خصت بالعبادة، فحاجتهم وسيلة إلى العبادة دون العكس، وضمير تقبل لعبادته، وضمير بركتها لعبادتهم، وضمير تجاب بصيغة المؤنث وبناء المفعول لحاجته وضمير إليها أي منضمة إليها لحاجتهم على طريق اللف والنثر المرتب، ويجوز أن يكون ضمير إليها لحاجته والظرف قائم مقام الفاعل، فإن إلى قد تكون صلة الإجابة كما في قول صاحب الكشاف ليستوجبوا الإجابة إليها، وقيل عليه: إن تكلفه ظاهر ؤقبول الحاجة مما لا صحة له بظاهره وليس بشيء فإنّ ما ذكره ظاهر لمن تأمّله، والحاجة هنا لما كانت دعاء كان قبولها ظاهرا، وما ذكر من تعدي الجواب بإلى كثير في كلام العرب كقوله:

وداع دعا يا من يجيب إلى الندا فلم يستجبه عند ذاك مجيب

فلا حاجة لإثباته بعبارة الزمخشريّ يعني أنه لما خلط أموره بأمور غيره ممن يقبل منه

ذلك كان ذلك أدعى لقبولها، فإنّ كرمه تعالى يأبى قبول بعض وردّ بعض ونظروا له بما إذا اشترى أحد ثيابا في صفقة واحدة ووجد بعضها معيبا، فليس له ردّ المعيب بل إنما يردّ الجميع، أو يقبل الجميع، فكأنه يقول إلهي رفعت حاجتي مع حاجة خلص عبادك، فاقبلها مني ببركتهم وجملة لعلها مستأنفة أو حال من ضمير إدرج، وخلط أي راجياً ذلك وأيضا في تغليب المخلصين على غيرهم تحاس عن وصمة الكذب بين يدي مالك الملك لأنه قصر الاستعانة عليه تعالى وكثيراً ما يستعان بغيره فيكون فيه مظنة الكذب، وبهذا يسلم منها حتى قال مالك بن دينار

ص: 118

لولا أن الآية مأمور بقراءتها ما قرأتها لعدم صدقي فيها، وروي أنّ العبد إذا قرأها يقول الله تبارك وبعالى كذبت لو كنت إياي تعبد لم تطع غيري، ولو كنت بي تستعين لم ترفع حوائجك إلى ذليك مثلك، ولم تسكن لمالك وكسبك. قوله:(ولهذا شرعت الجماعة) أي مشروعية الجماعة في الصلإة والجمع، ووقوف عرفة والاستسقاء ونحوه رجاء لإجابة دعائهم لا لغير ذلك من الآراء، ولذا شرعت صلاة النوافل في المنازل فسقط ما قيل من أنه لا وجه لتقديم الظرف المشعر بالحصر. قوله:(وقدّم المفعول إلخ) المراد بالتعظيم تعظيمه لشرفه، فهو ذاتيئ والاهتمام ما نشأ من المقام لكونه نصب عينه لا مطلق الاعتناء، فلا يرد عليه ما قيل من أنّ هذا يدلّ على أنّ مجرّد الاهتمام به نكتة مستقلة غير التعظيم والحصر، وليس كذلك بل لا بذ أن يكون بطريق من الطرق المعتبرة كما قال الشيخ عبد ابقاهر لا يكفي أن يقال قدم الشيء للاهتمام به بل لا بد من بيان وجه الأهمية، فحق العبارة أن يقال للاهتمام وهو إمّا للتعظيم أو للحصر اهـ. قوله: (والدلالة على الحصر (أنكر أبو حيان وابن الحاجب وكثير من النحاة دلالة التقديم على الحصر لقوله في الكتاب إذا قلت ضربت زيداً وزيداً ضربت فالتقديم والتأخير

سواء، وردّه في الانتصاف بأنه ليس في كلام سيبويه ما ينفيه بل هو مسكوت عنه، وقد زاده أصحاب المعاني، وكم لهم من دقائق زادوها على النحاة والذي في الكشاف الاختصاص والمصنف رحمه الله عبر بالحصر، والمشهور أنهما بمعنى وفرق بينهما السبكيّ رحمه الله وأفرد لذلك رسالة سماها الاقتناص في الفرق بين الحصر والاختصاص قيل: فلا خلاف بين الزمخشريّ وأبي حيان والاختصاص عنده افتعال من الخصوص والخصوص في نحو ضربت زيداً كون مطلق الضرب واقعا منك على زيد فقد يكون قصد المتكلم لهذه الثلاثة على السواء، وقد يترجح عت ده بعضها ويعرف ذلك بابتدائه فإنّ الابتداء بالشيء يدل على الاعتناء به، من غير قصد لغيره بإثبات أو نفي، ومعنى الحصر نفي غير المذكور، واثبات المذكور ويدل عليه بما والاً وانما، وهو معنى زائد على الاختصاص، وقد استشهد لمدّعاهم بشواهد كثيرة، كقوله ونوحاً هدينا وأنه لو دل على الحصر لم يكن غيره من الرسل مهديا وليس بصحيح، وردّه في الفلك الدائر بأنهم لم يدعوا اللزوم بل الغلبة.

(أقول) : الحق أنّ ما ذكر من الفرق بين الحصر والاختصاص مسلم، فإنّ اختصاص شيء

بشيء ثبوته له على وجه خاص به، فلا يقتضي القصر، وان كان لا ينافيه، ولذا حمل عليه في كثير من المواضع، وكون التقديم دالاً على الحصر وضعا غير صحيح، فإنه لا يمكن أن يقال إنه مدلول وضعي للفظ المقدّم كإياك هنا، فإنّ مدلوله ذات المخاطب لا غير، ولا للتقديم أيضا، فإنه قد يكون لأمور أخر لا سيما في الشعر والإنشاء، وهو أمر معنوي لا معنى لوضعه أيضا فلا يوصف بالدلالة بمعناها المعروف ولا فرق بينه وبين الاختصاص والعناية والاهتمام، فلم يبق إلاً أن يقال إنّ عدول البليغ عما هو الأصل من غير ضرورة لا بد له من وجه، وقد فهم منه أهل اللسان أنه الاهتمام، واهتمام العاقل بشر، ء لا يكون إلأ لمعنى وهو مختلف باختلاف المقامات فقد يكون ذلك المعنى اختصاص المقدّم بما بعده من حكم ونحوه، فان قلت الاختصاص من حيث هو لا يعقل اقتضاؤه للتقديم ألا تراهم التزموا في غيره من الطرق تاخير المقصور عليه كأنما قلت: هذا لو سلم لم يضرّنا، فكم في لسان العرب من أمور متواترة لا يعقلى معناها كالأمور التعبدية في الوضع الشرعي، أو نقول كون الشيء لم يلزم من سواه يقتضي غالبا شهرة انتسابه له، فلذا لم نجعل إة، دته مقصودة بالذت وأخر، ومما ذكرت عرفت أنّ الاختلاف فيه لفظيّ فاعرفه، وما قيل هنا من أنّ في الحصر أشكالاً إذ قل من يصدق في دعواه إلآ أن ئدعي تغليب المخلصين الصادقين على غيرهم جوابه ظاهر مما أسلفناه. قوله:(ولذلك قا ا، ابن عبّاس رضي الله عنهما إلخ) إشارة إلى ما استدل به على إفادة التقديم للحصر كالأثر الذي يرويه عن ابن عباس رضي الله عنهما وهو صحيح مأثور عنه كما رواه ابن جرير وابن أبي حاتم من طريق الضحاك، وعن أبي عبيد أنه قال لامرأة شتمته في جمع من تعني فقالت إئاك أعني فقال خصتني بالشتم، وأورد عليه أنّ تفسير ابن عباس رضي الله عنهما لا يدل

على أنّ الحصر مستفاد من التقديم بل يكفي كون الجملة دالة على الحصر من طريق

ص: 119

الخطاب فإنه لدلالته على الأوصاف يدل على الحصر كما مرّ، ولا يندفع هذا بأن يقال إنه إسناد له إلى أقوى شيء يمكن استناده إليه وأظهره إذ هذه الدعوى غير ظاهرة، وغير مسلمة عند بعضى النحاة كما بيناه، ولذا قيل: إنه ليس باستدلال بل استثناس له، وتقديم لذلك ليس للحصر بل للاهتمام لكون الدلالة مقصودة، وكون لعلة متقدمة في الوجوه. قوله:(وتقديم ما هو مقدّم في الوجود) وفي نسخة المقدم بالتعريف، والمقدم في الوجود مدلول إياك لأنه القديم الواجب وجوده قبل كل موجود فجعل لفظه موافقا لمعناه وهذا إمّا معطوف على التعظيم أو الدلالة ويجوز أيضا عطفه على الحصر ولكونه خلاف الظاهر لم يذهب إليه أرباب الحواشي مع أنه أورد على ما قبله أنّ التقديم المذكور ليس علة للتقديم حقيقة، وانما العلة كونه ضدّماً في الوجود، أو تقدم ما هو مقدم في الوجود في العبارة وهذا أبعد من نحو ضربته للتأديب، وإن اشتركا في أنّ المعلل والعلة واحد في الحقيقة والعلة في الحقيقة أثر المذكور أي التقدم، والتأدب لنوع اشتراك في المفهوم إلاً أن يقال التقديم هنا بمعنى التقدم على أنه مصدر المبنيّ للمفعول أي لكونه مقذما، أو يؤخر من قدم بمعنى تقدم لوروده في اللغة إذ حصول تقديم ما هو مقذم في الوجود غاية لتقدم المفعول أو يحصل ضمنه كما إذا قدم زيد العالم في مجلس يقال قذم زيد على غيره لتقديم العالم، وقيل أيضاً تقديم ما هو المقدم عليه لتقدم المفعول لا العكس كما يقتضيه التركيب الآ أن يقال: إنه من قبيل ضربته للتأديب لا من قبيل قعدت عن الحرب جبناً، والمعنى قدم المفعول ليتحقق تقا- يم ما هو المقدّم في الوجود فتأمّل. قوله:(بل من حيث " أنها نسبة شريفة إليه) النسبة معناها في اللغة الوصلة بالقرابة فتجوّز بها هنا عن مطلق الوصلة ولذا عطفها المصنف رحمه الله عليها عطفا تفسيريا، فالمراد بها التقرّب إلى الله بطاعته وهو وصلة معنوية، وحقيقة العبادة كما في كتاب النثأتين للراغب فعل اختياري مناف للشهوات البدنية يصدر عن نية يراد بها التقرّب إلى الله طاعة للشريعة، وجعلها نفس النسبة، والوصلة مبالغة في تقريبها إلى الله، فما قيل من أنّ في النسبة هنا استعارة فشبه ما بين العابد والمعبود، بما بين الطرفين من الارتباط تكلف مستغنى عت "، وكذا ما قيل من أنّ التنبيه عليه حصل من هيئة تركب الفعل مع المفعول به. قوله:(فإن العارف إنما يحق وصوله إلخ) العارف عند أهل السلوك من أشهده الله ذاته وأسماءه وصفاته وأفعاله، وأمّا في اللغة والعرف فأشهر من أن يذكر، ويحق بفتح ألياء وضم الحاء وكسرها بصيغة المعلوم بمعنى يثبت، ويتحقق ويقع بلا شك، وفعله لازم أو هو من حق بمعنى أوجب، فالوصرل مفعوله واستغرق بمعنى تمحض

معرضاً عن غير ما استغرق أ، وهو إمّا من الاستغراق بمعنى الاستيعاب لاستيعاب أوفاته، أو نظره في ذلك، أو بمعنى اشتغل به، وتفرّغ عن غيره، وفي القاموس فلأنه تغترق نظرهم أي تشغلهم بالنظر إليها عن النظر إلى غيرها لحسنها، والملاحظة من لاحظته ملاحظة، ولحاظا بمعنى رأقبته وأصله النظر باللحظ وهو مؤخر العين يقال لحظته بالعين ولحظت إليه لحظا، والجناب بالفتح الفناء والجانب والقدس بضم القاف والدال وتسكن في اكثر الأفصح بمعنى النزاهة والطهارة، وجناب النزاهة عبارة عنه سبحانه وتعالى بمعنى المقدس، وحظيرة القدس الجثة كما قاله الراغب. وقوله:(حتى أنه إلخ) غاية لاستغراقه لأنه إذا استغرق غاب عن ذهنه كل شيء حتى نفسه. قوله: (1 لأ من حيث إلخ الما كان قوله: فإنّ العارف إلخ تعليلاً لقوله: ينبغي لأنّ العابد إمّا عارف أو بصدد أن يكون عارفاً وعلى الأوّل الاستغراق مقتضى حاله وعلى الثاني هو طالب لأن يكون حاله. وقوله: (من حيث أنها إلخ) ملاحظة إن كان بكسر الحاء اسم فاعل فضمير إنها راجع للنفس وضمير له للجناب كما في بعض الحواشي، وإن كان بفتحها فهو مصدر وفسمير أنها للملاحظة المفهومة من يلاحظ كما ذهب إليه بعض المحشن، وما ارتكبه دعاه إليه تصحيح الحمل والمعنى حينئذ لا يلاحظ نفسه وأحوالها إلاً من حيث أنّ ملاحظتها ملاحظة للمعبود واستبعده بعضهم وقال الأولى أنّ المعنى إلاً من حيث أنّ النفس، وأحوالها اكة ملاحظة له تعالى، ومرآة تشاهد فيها، كما هو شأن كل مصنوع غايته أنه جعل آلة الشيء نفسه مبالغة في كونه آلة ومثله شائع وهو تكلف، وقوله ومنتسبة بالواو

ص: 120

العاطفة وفي بعض النسخ بدونها لأنه كالتفسير لما قبله. قوله: (ولذلك إلخ) أي لأنّ العارف إنما يحق وصوله إلخ أو لأنّ العابد ينبغي أن يكون نظره إلخ فضل لما فيه من ملاحظة الحق قبل نفسه بالتقديم عليها قيل، والوجه هو الثاني لأنّ المحكيّ عن الحبيب فيه النظر إلى المعبود أوّلاً بخلاف المحكيّ عن الكليم، وأمّا من حيث الاستغراق في جناب القدس لا يظهر به وجه التفضيل بل صيغة المتكلم مع الغير في الأوّل والمتكلم وحده في الثاني توهم خلافه إلاً أن يقال شأن المستغرق تقديم ما استغرق فيه ولئن سلم، فالوجه الثاني أظهر في المقصود، ولا يخفى أنه إذا غابت نفسه عنه، وأحوالها من جملة ما تضمنه قوله نعبد كان مقتضاه أن لا يذكر ذلك فضلاً عن أن يقدّم وهذا أبلغ ولذا قدمه، وأمّا ذكر المتكلم مع الغير ثمة وهنا، هو المطابق للواقع فلا وجه لما ادّعاه، ثم إنه قيل هنا لكل وجهة فالحبيب قدّم الاسم لأنه في مقام تسكين روع الصديق بالإرشاد إلى ملاحظة الحق والاعتماد عليه والرجوع في كل مهمّ إليه، والكليم عليه السلام قدّم الظرف في جواب قول قومه {إِنَّا لَمُدْرَكُونَ} [الشعراء: 61] تنبيهاً على اختصاصه ومن تبعه بالمعية، كأنه قال: إنّ معي واتباعي ربي لا معهم فالهداية إلى طريق النجاة لي لا لهم، فإن قيل الكليم أيضا في مقام التسكين لروع قومه قيل: هو وإن

كان كذلك إلأ أنه غير منظور إليه أوّلاً بل إلى ملزومه وهو اختصاصه بالمعية الموجبة للنجاة ردّ للقوم لما جزموا بلحوقهم، ثم إن تعليقه المعية باسم الذات دون الوصف، كما فعله الكليم عليه السلام ما لا يخفى من علوّ شرفه في موارد النبوّة، فإنّ ما حكاه الله عن حبيبه عليه الصلاة والسلام، وان كان أفضل مما حكى عن كليمه صلى الله عليه وسلم من الجهة المذكورة لكن الأمر بالعكس من حيث إفادة الثاني للحصر دون الأوّل قيل إنّ الحصر فيه أيضاً مستفاد من نفس النسبة لامتناع كونه مع المعاندين ناصرا لهم، فإنّ معنى قوله تعالى عنه {إِنَّ اللهَ مَعَنَا} [التوبة: 40] أنه تعالى معنا بالعصمة والمعونة، ثم إنّ في تعبيره بالحبيب والكليم دون محمد وموسى نكتة لطيفة وهي مناسية ذلك للمعية لأنّ المرء مع من أحب، واقتضاء المكالمة للاجتماع ظاهر أيضاً. قوله: (وكرّر الضمير إلخ الاحتمال تقديره مؤخرا عند الحذف، وعذم نصوصية الخطاب في الحصر وعلى تقدير تقديره مقدما وعدم اعتبار تقديره مؤخراً أنّ التصريح بتقديمه تنصيص بخلاف نصب القرينة على تقديمه، وأيضاً يختمل تعلق الحصر بالمجموع وبالتكرار يرتفع ذلك، وفي قوله المستعان به إيماء إلى أنه يتعدى بنفسه وبالباء وأنهما بمعنى.

وقوله لتوافق رؤوس الآي ظاهره أنّ القرآن فيه سجع وسيأتي ما فيه. قوله: (ويعلم إلخ)

يعلم مرفوع ويجوز نصبه أيضا، ويؤيده أنه وقع في نسخة وليعلم، والوسيلة كل ما يتقرّب به يقال توسل إلى الله بوسيلة أي تقرّب إليه بعمل كذا في المصباح: وأدعى أفعل تفضيل من دعاه إلى كذا إذا حثه على قصده أي تقديم السائل على سؤاله شيئاً يرضاه المسؤول منه كهدية أو تعظيم أو ثناء، ونحوه يقتضي إجابتة، ولذا قدمت العبادة على الدعاء في الواقع.

وسن الدعاء عقب الصلوات، فقدم هنا لفظ العبادة على الإستعانة ليوافق ترتيب الألفاظ ترتيب معانيها، فيرشد الترتيب الذكري للترتيب الخارجيّ، ومن خصوصية المادّة يتفطن أنه لكونه أدعى إلى الإجابة، وهذا مراد المصتف رحمه الله تبعا للزمخشريّ في توجيه الترتيب، وهو جواب عن سؤال تقديره إنّ العبادة تقرّبهم لمولاهم، والاستعانة طلب الفعل المولى، فكان ينبغي تقديمه، فلم عكس ذلك، ثم إنهم قالوا قد مرّ أنّ الاستعانة المذكورة طلب المعونة في المهمات كلها، أو في أداء العبادات، وعلى الثاني العبادة مقصودة لذاتها، والإعانة وسيلة لها دون العكسى، فهذا على الوجه الأول فقط، وهو الراجح عند المصنف رحمه الله، فصنيعه أحسن مما في الكشاف لا يقال جائز أن يكون بعض العبادات وسيلة إلى الإعانة على البعض لأنا نقول لا اختصاص، لقوله نعبد ونستعين ببعضها لإطلاقهما، فحينئذ ينبغي أن يقال وجه تقديم العبادة أنّ الإعانة مطلوبة لتكميل العبادة بالزيادة أو الثبات، ويؤيده كون اهدنا بيانا لها،

وطلب ما يزداد به الشيء، أو يدوم متأخر عنه، وإن جعلت الإعانة مطلوبة لتحصيل العبادة ابتداء، فالتقديم لأنها مقصودة بالنسبة إلى الاستعانة وعلى الأوّل إن أريد بالمهمات ما لا يتناول العبادة، لتبادره مع أنه المعروف المناسب على ما اختاره قذس سرّه فكون العبادة وسيلة إلى الإعانة ظاهر، ووجه التقديم

ص: 121

ما ذكره المصتف رحمه الله كما بيناه لك، وان أريد ما يتناولها لعدم قيام القرينة على التقييد يقال: الإعانة المطلقة وان كان بعض أفرادها وسيلة إلى العبادة إلاً أنّ كثيرا من أفرادها يتوسل بالعبادة إليه وهو ما يترتب على العبادة، ويكون نتيجة لها فكونها وسيلة معتبر بالقياس إلى بعض أفراد الإعانة لا إلى جميعها، وتقديمها في الذكر للإشارة لما مّر من أنّ تقديم الوسيلة أدعى للإجابة، وفيه تكلف ظاهر، ولو قيل العبادة وسيلة إلى بعض أفراد الإعانة، ومقصودة من البعض، فتقديمه بالنسبة إلى الأوّل لما ذكر، وبالنسبة إلى الثاني لما سبق كان وجهاً هكذا قرّره الفاضل الليثيّ تبعاً للسيد السند، وهو حاصل ما في شروح الكشاف، ومن لغو القول هنا ما قيل إنّ كلام المصتف رحمه الله مناف لما سيأتي منه في سورة هود في تفسير قوله تعالى:{وَاسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ} [هود: 90] ولا يليق الاشتغال به إلاً أنّ فيما قاله هؤلاء هنا بحثاً، وهو أنّ هذا كما لا يتأتى على الثاني أصلاً، أو بغير تكقف لا يتأتى على الأوّل أيضاً على ما يقتضيه كلام المصتف رحمه الله لأنه قسم المعونة إلى ضرورية يتوقف عليها صحة التكليف، وغير ضرورية يتيسر بها الفعل مطلقاً، فإن بنى كلامه هنا على أنّ المراد مجموع المعونتين، أو الأولى أو الأعنم لزم توقفها على العبادة لتوقف التكليف عليها، فلا يتأتى ما ذكر على الأوّل أيضاً إلأ إذا أريد بالمعونة غير الضرورية، وبالمهمات المهمات الدنيوية لا الدينية، ولا ما يشملهما، فيندرج فيه العبادة، وانما نشأ هذا من توهم اتحاد كلام المصنف وكلام الزمخشريّ، وقد عرفت معنى الوسيلة، وأنها ليست بمعنى السبب كما يتوهم وحينثذ، فالظاهر أنّ المراد بالمهمات كلها مهمات كل عبد في أمور دنياه، فإنه المتبادر منها والمعونة كل ما له مساعدة على فعل، أو تحصيل غرض مّا من الأمور المحسوسة فهي بالمعنى اللغوي فإن قلنا إنها عامة شاملة للعبادة، وكذا إن قلنا إنها إعانة على أداء العبادة، فالجواب ما قيل من أن العبادة مع العلم بأنها مما يتوّسل به إلى إجابة طلب الحاجة، وذكر الاسنعانة المطلوب منها المعونة في العبادة المستلزم كونها وسيلة للعبادة قرينة على أنّ العبادة باعتبار بعض أفرادها وسيلة، وباعتبار بعض آخر يتوسل إليها بالاستعانة فلا إشكال، وعلى ما ذهب إليه المصنف رحمه الله لا بد في الخلاص عما مرّ من التزام ما ذكر إلاً أنه محتاج إلى تكقف فتأمّل. قوله:(وأقول لما نسب إلخ) اعترض عليه بأنّ المتبادر منه أنه من خواصه التي تفرّد بها، وهو بعينه مذكور في التفسير الكبير، والحمل على التوارد، أو أنه دل بذلك عمى اختياره له، كما قيل بعيد كما لا يخفى. وقوله:(تبجحاً) تفعل من البجح بالباء الموحدة

الشهاب / ج ا /

والجيم والحاء المهملة، ومعناه الفرح والسرور كما في الصحاح، وقد فشر بالافتخار الناشىء من العجب والكبر، وهو أنسب بالمقام، ويستتبّ بسين مهملة وتاءين فوقيتين من استتمث الأمر إذا تهيأ واستقام كما في الصحاح، أو هو من التباب بمعنى الهلاك وهو يتبع التمام فكان ما تمّ يطلبه كما في الأساس، وهو منزع حسن وعليه قوله:

إذا تم أمر بدا نقصه ~ تيقن زوالاً إذا قيل تم

وفسر أيضاً بيستمرّ أو يستقل.

وقال الراغب: التبب الخسار وتببته قلت له ذلك، وقضمنه الاستمرار قيل: استتب لفلان

كذا إذا استمرّ اهـ. وما قيل من أنه لم يثبت عند صاحب القاموس، فلذا لم يذكره من قصره باع الاطلاع، وفي كلامه تصريح بأنّ المراد بالمعونة التوفيق، وبه يتمّ التوفيق.

(فإن قلت) : هل هذا جاو على الوجهين أو مخصوص بأنّ الاستعانة في أدأء العبادة على الوجه الراجح المستحسن كما قيل، وعلى كل حال كيف يفهم هذا من قصر الاستعانة على الله وإنما يفيده لو قيل لا يصدر منا أمر الأ باستعانة منك قلت: هذا من قبيل الاحترام، واتباع الكلام يما يزيل إبهامه كقوله:

فسقى ديارك غير مفسدها

وهو من ذكره بعد مطلقاً ومقتض لتأخيره فما ذكر لا وجه له مع أنّ قوله: إنه الراجح من عدم الفرق بين كلام الثيخين بل هو على مقابله أوضح والمعنى المذكور يؤخذ من عدم تقييده بمتعلق ظاهر ولك أن تقول إنه مغاير لما مرّ أيضاً. قوله: (وقيل الواو إلخ) ليس هذا من قبيل قمت واصك وجهه بناء على تجويزه شذوذا، أو تقدير مبتدأ فيه أي، ونحن إياك نستعين كما توهم حتى يورد عليه أنه غير فصيح، أو ينازع في المثال، وان كان الاشتغال

ص: 122

بمثله ليس من دأب المحصلين، فيقال: إنّ الزمخشرفي جعل أصك حكاية حال ماضية، والواو معه عاطفة وتقديره قمت، وصككت وجهه، فابرز في صورة المسمقبل حكاية لتلك الحالة العجيبة الشأن، فإنّ ما ذكره النحاة إذا كان المضارع في صدر جملة أمّا إذا تقدم عليه شيء من متعلقاته، فيجوز اقترانه بالواو لمشابهته للاسمية صورة، وقد أشار إلى ما ذكر ابن مالك في تسهيله، وأمّا تجوبز الزمخشريّ الحالية من غير تقدير فيه، فمعترض عليه كما ستراه، فاحفظه فإنه مما خفي على أرباب الحواشي.

قوله: (وقوئ بكسو النون الخ) هي قراءة الأعمش ونسبت لغيره، وهي لغة قيس وتميم

وأسد وربيعة وهذيل، وهي مطردة عندهم بشرط أن لا يكون ياء مثناة تحتية لثقل الكسرة على الياء على أنّ بعضهم قال: يجل بكسر ياء المضارع من وجل وقركأ أيضا فإنهم يعلمون، وهذا مما يقتض عدم صحة ذلك الاستثاء، وأن يكون ماضيه مكسور العين كعلم أوفى أوّله همزة

وصل كنستعين أو تاء مطاوعة نحو تتكلم، فلا يجوز في نضرب، ونقتل كسر حرف المضارعة ونحوها من الأفعال بشرط أن لا ينضم ما بعدها لاستثقال الخروج من الكسرة إلى الضمة فإن توسط حرف وإن كان ساكنا جاز.

وأعلم أنه قرىء وإياك يعبد بصيغة المجهول بوضع ضمير النصب موضع ضمير الرفع والالتفات وهو غريب نادر لة ول بعض أهل المعاني إنّ وقوع الملتفت والملتفت عنه في جملة واحدة لم يعهد. قوله: (بيان للمعونة إلخ) هو بيان لتناسب الجمل، وارتباطها لا لترك العاطف كما قيل لاختلافها خبراً وانشاء، والقول بأن نستعين لدلالتة على الطلب بمعنى أعنا، فهو إنشاء معنى تبرع لمن لا يقبل وفي الكشاف، والأحسن أن تراد الاستعانة به وبتوفيقه على أداء العبادة، ويكون قوله اهدنا بياناً للمطلوب من المعونة كأنه قيل كيف أعينكم فقالوا: اهدنا الصراط المستقيم، وإنما كان أحسن لتلاؤم الكلام، وأخذ بعضه بحجز بعض، وقال قدس سرّه: أي لتناسب الجمل الواقعة فيه، وانتظام بعضها مع بعض حيث دلّ إياك نستعين على طلب الإعانة على العبادة، وصار اهدنا بياناً للإعانة المطلوبة، فكملت الملاءمة بين الجمل الثلاث لمزيد ارتباط بينها، وربما يقال إتاك نعبد بيان للحمد، واستئناف نشا من إجراء تلك الأوصاف على ما مرّ، فتكون الجمل الأربع التي في الفاتحة متلاصقة متلاحقة وأذا جعلت الاستعانة عامّة، لم يكن اهدنا بياناً للمعونة المطلوبة، ولا المعونة مخصوصة بالعبادة، فلم يكن الاتصال بين الجمل بتلك المثاية اهـ.

فالبيان بمعناه اللغوي لأنه استئناف بياني في جواب سؤال متدّر تقديره ما ذكر فعليه ترك العاطف، لأنه مستأنف لا لكمال الاتصال كما توفم فإنّ تقدير السؤال يأباه، وقيل: إنّ المصثف وحمه الله عنى أنّ ترك الواو إمّا لكمال الاتصال، كما في الوجه الأوّل، أو الانقطاع كما في الثاتي، وفساده ظاهر وسوف يرى إذا انجلى الغبار. قوله:(كانه قال كيف أعينكم) قيل: المناسب لكونه بيانا للمعونة أن يقدر أيّ إعانة تطلبون يعني أنّ البيان حقه أن يكون عين الميين لا فرد منه، وإن كان قد يكون المطلوب منه بيان الكيفية، ولا يخفى أنه مع قيام القرينة على أنّ المراد المعونة في المهمات كلها أو في أداء العبادة يتعين الإعانة، فلا يبقى لهذا السؤال وجه، وإنما يحتاج إلى بيان كيفيته ولذا اتفق الشيخان على تقدير ما ذكر فلا تغفل ثم إنه أورد على ما مرّ من أنّ قوله إياك إلخ بيان للحمد كأنه قيل كيف تحمدونه، فقيل: إتاك نعبد إلخ مع أنه لا حاجة إلي، لا صحة له في نفسه، فإن السؤال المقدر لا بذ أن يكون بحيث يقتضيه انتظام الكلام وتنساق إليه الأذهان والأفهام، ولا ريب في أنّ الحامد بعد ما ساق حمده تعالى على تلك الكيفية اللائقة لا يخطر ببال أحد أن يسأل عن كيفيته على أنّ ما قدر من السؤال غير مطابز، للجواب، فإنه مسوق لتعيين المعبود لا لبيان العبادة حتى يتوهم كونه بياناً لحمدهم، والاعتذار بأنّ المعنى نخصك بالعبادة، وبه يتبين كيفية الحمد تعكيس للأمر، وتمحل لتوفيق المنزل المقرّر بالموهوم المقدّو، وبعد اللتيا والتي إن فرض السؤال من جهته عز وجل فاتت

نكتة الالتفات التي أجمع عليها السلف والخلف، وان فرض من جهة الغير يختل النظام لابتناء الجواب على خطابه تعالى، وبهذا يتضح فساد ما قيل من أنه استئناف جواب لسؤال يقتضيه إجراء تلك الصفات العظام على الموصوف بها، فكأنه قيل ما شأنكم معه، وكيف توجهتم إليه، فأجيب بحصر العبادة والإستعانة فيه، فإن تناسى جانب السائل

ص: 123

بالكلية، وبناء الجواب على خطابه عز وعلا مما يجب تنزيه ساحة التنزيل عن أمثاله، والحق الذي لا محيد عنه أنه استئناف صدر عن إلحاقه بمحض ملاحظة اتصافه تعالى بما ذكر من النعوت الجليلة الموجبة للإقبال الكلي عليه من غير أن يتوسط هناك شيء آخر كما ستحيط به خبراً.

(أقول) هذا مع أنه على طرف التمام مسروق من حواشي الطيبي، وليس أوّل سار غرّه القمر، فإنّ هذا السؤال ليس محققاً ولا مقدراً في النظم حتى يلزم ما توهموه وانما هو أمر ينساق إليه الكلام السابق حتى نزل منزلة السؤال، وماكه إلى اقتضاء ما قبله للخطاب، وحينئذ يكون أشذ اتصالاً به سواء قدر من جهة الله أو لا، ولو جعل استئنافا حقيقيا لم يرتبط به لكونه في حكم كلامين والإلتفات فيه لا يلتفت إليه، ولكون العبادة أجل تعظيم وأظهره صح أن تجعل كالمبين للحمد لأنه أخو الشكر، فتبين أنه ليس بمجرّد اللسان بل ظاهره مطابق لباطنه فيه، ولا يلزم من الالتفات اتحاد الخطاب كما صرح به ابن الأثير، وأشار إليه السكاكي، فما ذكره من التعكيس وغيره ساقط. قوله:(أو أفراد إلخ) وقع في نسخة بالواو يعني أفرد بالذكر كبدل البعض من الكل في الجملة نحو أمدّكم بما تعلمون أمدكم بأنعام وبنين، ولا ينافيه اختلافهما خبرا وانشاء ولا حاجة لتأويل نستعين بأعنا، وقيل إنه توجيه لتخصيص الهداية بالطلب في مقام الجواب عن قوله كيف أعينكم وليس بيانا لكونه من ذكر الخاص بعد العامّ كما في قوله تعالى:{حَافِظُواْ عَلَى الصَّلَوَاتِ والصَّلَاةِ الْوُسْطَى} [البقرة: 238] لأنّ الطريقة المسلوكة فيه العطف بالواو، وكون الهداية للصراط مقصودة لا يضره كونه طريقا وفيه ما فيه ط وأمّا ما قيل من أنه ابتداء دعاء وسؤال حينئذ إذ لم يجعل مربوطا فيكون ترك الواو لكمال الانقطاع بين الجملتين لاختلافهما في الخبرية والإنشائية، فغير سديد كما أشرنا إليه، وقيل: إن كان المراد بالاستعانة طلب المعونة في المهمات كلها، فإن كان المراد بالصراط المستقيم طريق الوصول إليها كان اهدنا بيانا للمعونة المطلوبة، وان كان المراد به ما يخص العبادات كان إفراداً لما هو المقصود الأعظم منها والأوّل وان كان خلاف المتبادر لكنه محتمل، وبه يلتثم الكلامان، وينتظمان أشدّ انتظام، وان كان المراد بالاستعانة طلب المعونة في أداء العبادات كان اهدنا بيانا للمعونة المطلوبة لكون الصراط ما يوصل إلى العبادة، كما هو الظاهر فيتلاءم الكلام وتنتظم جمله أشد انتظام وحكم السيد بأنه على عموم الاستعانة لا يكون اهدنا بيانا للمعونة بناء على حمل الزمخشريّ الصراط المستقيم على ملة الإسلام، فإن قلت: كيف يكون اهدنا بياناً للمعونة المطلوبة، وخلق القدرة ممكة كانت أو ميسرة من المعونة المطلوبة ولا تندرح في الهداية قلت بتقييد اللطف في تعريف الهداية تندرج فيها لإنه عندنا خلق

القدرة على الطاعة كما في شرح المقاصد، فإذا اندرج فيها جاز أن تكون المعونة المطلوبة هي الهداية إلى طريق الوصول إلى المهمات على الأوّل، والى العبادات على الثاني، فيحمل عليه الكلام ليتلاءم، ويجوز أن يقال المراد أنّ المعونة المطلوبة إن كانت الهداية، فاهدنا بيان لها، وان كانت ما يتناولها، فافراد لما هو إلخ ثم إنه سيجيء أنّ المطلوب إمّ زيادة الهدى أو الثبات عليه، أو حصول المراتب المترتبة عليه، فكون اهدنا بياناً بناء على أنّ زيادة الهدى أو الثبات عليه إعانة على بعض ما يستعان فيه قطعاً، وانّ الإعانة على البعض إعانة على الكل لتوقفه عليه، أو على أنّ المستعان فيه تكميل العبادات، أو المهمات بأحد الوجهين الازدياد، أو الثبات وأمّا الهداية إلى المراتب المترتبة عليه، وكونها بيانا للمعونة على أداء العبادات، فإنما يصح إذا كانت وسيلة إلى العبادة، وقد قيل عليه إنّ قوله في صدر كلامه إن كان إلخ غير متأت هنا لأنّ الأوّل يأباه ما في الدرّ المنثور عن ابن عباس وضي الله عنهما من تفسير الهداية إلى الصراط المستقيم بالهام الدين الحق، ولذا فنره في الكشاف، وغيره بملة الإسلام، فهو مخالف لما عليه المفسرون، وكذا كون صراط الذين أنعمت عليهم بدلاً منه.

وقوله وا ن كان المراد بالاستعانة طلب المعونة في أداء العبادات كان اهدنا بيانا للمعونة المطلوبة لكون الصراط ما يوصل إلى العبادة مخالف للمتبادر من كلام المصتف، فإنه يفهم منه إنّ البيان على تقدير تخصيص الاستعانة بالعبادات، والافراد على تقدير تعميمها، وعليه أكثر أرباب الحواشي بل كلهم، وقوله

ص: 124

فإن قلت إلخ قد يجاب أيضا بأنه يمكن أن يقدر متعلق الاستعانة ما ينطبق أحد هذه الأمور عليه، فليتأمّل انتهى وفيه ما فيه. قوله: (والهداية دلالة إلخ (هذا برمته مأخوذ من كلام الرإغب رحمه الله في مفرداته، إلاً أنه وقع في نسخة بدل قوله بلطف بتلطف، والأولى أولى رواية ودراية، وانما قيده به لدلالة اشتقاقه وماذته عليه ولذا أطلق على المشي برفق تهاد وسميت الهداية لطفا، ومن لم يدر هذا قال لاً نها في اللغة الإرشاد، وهو عين اللطف، ولذا قال ابن عطية إنها لغة الإرشاد، وهل يعتبر في هذه الدلالة الإيصال أم لا فيه خلاف سيأتي تحقيقه، ونعني باللطف كما في الصحاح وغيره من كتب اللغة الرفق المقابل للعنف وهو في صفة الأجسام مقابل للغلظ والكثافة، ويكون اللطف واللطافة أيضاً عبارة عن الحركة الخفية، وتعاطي الأمور الدقيقة وقد يعبر به عما لا تدركه الحاسة كما قاله الراغب وهذا تحقيقه باعتبار الوضع اللغوي مطلقا.

وأمّا هو في صفاته تعالى، فمعناه كما قاله الراغب أيضاً إمّ العالم بدقائق الأمور والخفيات

أو الرفيق بالعباد في هدايتهم وغيرها انتهى. وفي شرج الأسماء الحسنى للشيخ بهاء الدين قدس سرّه، اللطيف الذي يعامل عباده معاملة اللطف لأنّ ألطافه في الدارين لا تتناهى، والله لطيف بعباده يرزق من يشاء فيهيىء مصالح الناس من حيث لا يشعرون وتيل اللطيف العليم بالغوامض والدقائق ولذا قيل لكل حاذق لطيف ويحتمل أن يكون من اللطافة مقابل الكثافة، وهو وأن وصفت به الأجسام ظاهراً إلاً أنّ الجسمية لا تنفك عن الكثافة، ولطافتها إضافية، فاللطافة

المطلقة لا يوصف بها الآ نور الأنوار المتعالي عن إدراك البصائر والأبصار، ووصف غيره بها بالإضافة لما هو دونه، فهو من الأسماء الدالة على الصفات الذاتية، وعلى الأولين يرجع إلى الفعل ويقاربه اسم الكريم انتهى. وسيأتي في تفسير قوله تعالى:{وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الأنعام: 53 ا] ما يشير لما ذكر، فما نقل هنا عن السيد السند من أنّ اللطف عندنا خلق قدرة الطاعة في العبد وعند المعتزلة اللطف ما يختار المكلف عنده الطاعة، أو يقرب منها ولا يفضي إلى القسر والإلجاء إن كان تفسيرا لما وصف به العباد، فهو مخالف لما حققه أهل اللغة وإن كان لما وصف به الباري، فهو مخالف أيضاً لما في النظم ولما عليه أئمة التفسير فتدبر. قوله:(ولذلك تستعمل في الخيرا لأنه المناسب للطف كما سمعته. وقوله: (على التهكم) إشارة إلى أنّ ما ذكر ونحوه لا يرد نقضاً، على أنه إنما يستعمل في الخير لأنه معتبر في معناه الحقيقي، وهذا مجاز استعارة تمثيلية أو تبعية، فلا يرد نقضاً، وقيل: ليس هذا من الهداية بمعنى الدلالة بل من الهداية بمعنى التقديم والتخوز أحسن وأبلغ وقوله ومنه الهدية فصله لأنه مغاير له بحسب المعنى واللفظ، لأنّ فعل الأوّل هدى، وفعل الثاني بمعنى الإعطاء أهدى كأهديت الهدية والهدى إلا أنه يشاركه في أصل المعنى والمادّة كما مرّ. قوله:(وهوادي الوحش إلخ) الهوادي جمع هاد وهو العنق، وأوّل القطيع من الظباء ونحوها والوحش بفتح الواو، وسكون الحاء المهملة، والشين المعجمة الوحوس، وهي حيوان البر الواحد وحش ويقال حمار وحش بالإضافة وحمار وحش، فالوحش يكون للواحد والجمع، ولا تختص الهوادي بالوحش كما يوهمه كلام المصنف رحمه الله، وفي الصحاح والهادي العنق، وأقبلت هوادي الخيل إذا بدت أعناقها ويقال أوّل رعيل منها وقول امرىء القيس:

". كأنّ دماء الهاديات بنحره

يعني به أوائل الوحش انتهى. وظاهر كلام أهل اللغة أنه حقيقة في العنق، وإطلاقه على

الأوّل مجاز وإن اشتهر فيه كما في الأساس فقوله لمقدّماتها بفتح الدال المتقدمة منها في الورود ونحوه، أو أعضاؤها المتقدمة كالرأس والعنق لأنها تسمى هوادي أيضاً كما سمعته. قوله:(والفعل منه) أي من الهداية المقصودة بالذكر هنا لا من مجموع ما مرّ فلا يرد عليه أنّ فعل الهدية أهدى كما مرّ. وقوله: (وأصله أن يعدى إلخ) أي إلى المفعول الثاني وقد يحذف منه الحرف فيتعدّى إليه بنفسه كاختار فإنه يتعدى لأحد المفعولين بنفسه وللآخر بمن وقد يتعدى له بنفسه، كقوله:{وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ} [الأعراف: 155] على الحذف، وا لإيصال هذا ما قاله المصنف تبعاً للزمخشري وقيل: هما لغتان كما في الصحاح هديته الطريق لغة أهل الحجاز وإليه لغة غيرهم، والفاء في قوله فعومل فصيحة، وقيل: إنه إذا عدّي باللام مصدره

الهدي، وإذا عدّي بإلى مصدره الهداية كما في الديوان وغيره

ص: 125

ومنهم من فرق بينهما كما قال قدّس سرّه: ونقل عن المصئف رحمه الله إن هداه لكذا أو إلى كذا إنما يقال إذا لم يكن في ذلك فيصل بالهداية إليه، وهداه كذا لمن يكون فيه، فيزداد أو يثبت، ومن لا يكون فيه فيصل. قيل: ولا نزاع في الاستعمالات الثلاثة إلاً أنّ منهم من فرق بينهما بأنّ المتعدّي بنفسه هو الإيصال إلى المطلوب، ولا يكون إلاً فعل الله، فلا يسند لغيره كقوله:{لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} [العنكبوت: 69] ومعنى المتعدّي بالحرف الدلالة على الموصل، فيسند له وللقرآن والبيّ صلى الله عليه وسلم انتهى.

قيل: وعلى الفرق الأوّل يظهر الجواب عن النقض المشهور على تعريف الهداية بالدلالة الموصلة بقوله تعالى: {وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ} [فصلت: 17] إلخ إذ يجوز أن يكون التعريف للهداية المتعدّية بنفسها، والهداية في الآية متعدّية بالحرف، فترك المفعول بواسطة اختصاراً من غير احتياج إلى تجوّز ونحوه، وقيل: الهداية تتضمن معاني يقتضي بعضها تعديتها بنفسها وبعضها التعدية بالحرف، كالإرادة والإشارة والتلويح، وليس بشيء وسيأتي تتمته، واعترض على الفرق الثاني بقوله تعالى حكاية عن الخليل عليه الصلاة والسلام {يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا} [مريم، الآية؟ 43] ونحوه، ودفعه بأنه إسناد مجازيّ مخالف للظاهر. قوله:(لا يحصيها عدّ) أي لا يحصى إفرادها الجزئية أحد يعدّ، وأصل الإحصاء العد بالحصى، ثم صار حقيقة في مطلق العدّ كما هنا، فإسناده إلى العدّ مجاز للمبالغة، ولما كان إطلاق نفيه يوهم عدم انحصار أنواعها وأجناسها استدرك ما يدفع ذلك الإيهام وقيل إنّ المصنف رحمه الله تعالى فسر الهداية المطلوبة بقوله اهدنا بالدلالة السالفة ثم قال وهداية الله إلخ ولم يقل، وهي تتنوّع لأنّ ما ذكر من الإفاضة والنصب والإرسال والإنزال، لا تصدق عليه الدلالة إلاً بضرب من التأويل، ولو سلم فالمقسم لهذه الأجناس خصوص هداية الله تعالى، فالوجه أن يقال المقسم ما يطلق عليه هداية الله بوجه، أو فيه مضاف مقدّر أي أسباب هداية الله.

(أ+دول) الظاهر أنّ الدلالة الساباتة أعمّ من هذه، كما ينطق به وينادي عليه فحوى كلامه، فكون ما ذكر لا يطلق عليه الدلالة غير مستقيم، فإنّ إطلاقه الهداية عليه يأباه والإظهار في مقام يقتضي ظاهره الإضمار إشارة إلى أنه ليس عين ما قدّمه، والمر1د بكونها هداية الله أنها بخلقه وإحسانه، فلا ينافي إسنادها لغيره كما يشهد له ما ذكره من قوله:{يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا} [الأنبياء: 73] فافهم. قوله: (1 لأوّل إفاضة القوى إلخ) المراد بالإفاضة الإيجاد بالفيض، وهو الإحسان والجود الإلهي، والقوى جمع قوّة وهي لغة بمعنى القدرة، والتهيؤ كما فاله

الراغب وفي اصطلاح الحكماء كما قالوه مبدأ التغير من أمر إلى آخر من حيث هو آخر، وهذا هو المراد هنا، وهي عند الأطباء ثلاثة أجناس لأنّ فعلها إمّا مع شعور أو لا، والأوّل يسمى فوّة نفسانية، والثاني إن اختص بالحيوان فقوّة حيوانية والاً فهي طبيعية، وعند الفلاسفة أربعة لأنّ كل قوّة إمّا أن يصدر عنها فعل واحد أو أكثر، وعلى التقديرين إمّا مع شعور أو لا، فالتي فعلها متغير مع الشعور قوّة حيوانية والتي فعلها متغير بدونه قوّة نباتية، والتي فعلها غير متغير مع الشعور قوّة فلكية، والتي بلا شعور طبيعية إن كانت في البسائط كالنار وخاصية في المركب كتخدير الأفيون، وهذه هداية إلى طريق التعقل والإحساس وفيها ما لا يختص بالإنسان، وإلى العامّ منها الإشارة بقوله تعالى:{أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} [طه: 50] واثبات الحواس الباطنة وإن كان رأي الفلاسفة، فقد ذهب إليه كثير من أهل السنة، وقال الغزاليّ: الذي أبطلوه استقلالها بالإدراك والتأثير وما أثبتوه لها مما هو مبنيّ على أصولهم الواهية ومجرّدها لا ضير فيه لما فيه من الحكم البديعة والقدرة الباهرة. وفي شرح المقاصد: لا يخفى إنا إذا جعلنا القوى الجسمانية ا-لة للإحساس، وادراك الجزئيات والمدرك هو النفس ارتفع النزاع، فلا وجه لما قيل: من أنّ اللائق بالمصتف أن لا يذكرها لابتنائها على هذيانات الفلاسفة، ونفصيلها في مطوّلات الكلام، وكتب الحكمة، والمشاعر الحواس الظاهرة جمع مشعر جعلت محلاً للشعور، وهو الإحساس، وجعل الأولى حواس والثانية مشاعر تفنناً. قوله:(والثاتي نصب الدلائل إلخ) الظاهر أنّ المراد بهذه القوّة النظرية والفكر في الأنفس، والآفاق حتى يعلم أنّ له صانعا ورباً قديراً، ولأجل هذا أوح الله فيه العقل والقوى

ص: 126

الظاهرة والباطنة، فظهر من هذا كونه مترتباً على ما قبله، وما قيل من أنّ الحق والباطل إشارة إلى الكمال بجسب القوّة النظرية والصلاح والفساد بحسب القوّة العملية لا وجه له، وقيل: من جملة هذه. الدلائل المعجزات المفضية إلى ثبوت الشرع الموقوف عليه الأدلة السمعية، وفيه نظر. قوله:(وإليه أشار إلخ) أي إلى نصب الدلائل العقلية أشير في هذه الآية الكريمة، والنجد المكان الغليظ المرتفع، وهو مثل لطريقي الحق والباطل في الاعتقاد، والصدق والكذب في المقال، والجميل والقبيح ني الفعال فبين أنه عرفهما كقوله:{إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا} [الإنسان: 3] قيل وما ذكره المصتف تبع فيه الزمخشريّ، والهداية فيه متعدّية بنفسها وليست بمعنى الإيصال بل بمعنى الإراءة ألا ترى إلى قوله:{فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ} قال المصنف: فلم يشكر تلك الأيادي باقتحام العقبة فإنّ الإيصال إلى طريق الشرّ ليس من الأيادي بخلاف إراءته من حيث أنه طريق شر يحترز عنه فإنه يكون خيراً في حقه، وعلى ما يفهم من كلامه أوّلاً من اختصاصها بالخير في قوله:{هَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ} [البلد: 10] تغليب انتهى. ولا يخفى ما فيه من الاضطراب، فإنّ المصتف رحمه الله لم يقل هنا أنّ المتعدي بنفسه

يفيد الإيصال حنى ينافيه ما وقع في النظم، ثم إنه على ما ذكره لا يحتاج إلى التغليب فكان عليه أن لا يذكره أو يجعله وجهاً آخر فتدئر. قوله:(وقال وأمّا ثمود إلخ) قيل إنّ كلامه في تفسيره يدل على أنّ المراد بالهداية فيه ليس الجنس الثاني فقط حيث قال: فدللناهم على الحق بنصب الحجج، وارسال الرسل، ولعله أولى لأنه أدل على شقاوتهم، والرسل هنا رسل الله من البشر. قوله:(والثالث إلخ) قيل الظاهر أنّ المراد بالرسل ما يعم الملائكة ليتناول هذا الجنس من الهداية الأنبياء، ثم جعل المنحصر في الأجناس هداية الله يقتضي أن يكون المراد هداية الله تعالى بإرسال الرسل، وانزال الكتب والعبارة أيضا تفيد هذا المعنى، وعلى هذا في قوله واياها عنى إلخ نظر، فإن قيل الهداية فيها صفته تعالى أسندت إليهم والى القرآن مجازاً كما يقال قطع السكين قلنا لو سلم ذلك في الثاني فلا نسلمه في الأوّل، وقد قال المصئف في تفسير.: وجعلناهم أئمة يقتدى بهم يهدون الناس إلى الحق بأمرنا لهم بذلك، وإرسالنا إياهم حتى صاروا مكملين نعم جعلهم أئمة يهدون بأمره هداية منه تعالى بإرسال الرسل لكن ظاهر قوله واياها عنى بقوله:{وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً} [الأنبياء: 73] إلخ يشعر بأنه إياها عنى بالهداية المذكورة فيه، وقد يتكلف له فيقال المراد بهداية الله المنحصرة في الأجناس الهداية المنتسبة إليه تعالى بوجه، وهداية الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، كذلك لكونها بأمره تعالى، وارساله وبالهداية لإرسال الرسل وانزال الكتب الهداية الحاصلة بهما سواء كانت قائمة بالرسل والمنزل، أو بمن هداه وأمره بالهداية، وقس عليها هداية القرآن إن كان متصفا بها حقيقة، وقال الغزالي: الهادي من العباد الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، والعلماء المرشدون للسعادة الأخروية، والدالون على الصراط المستقيم بل الله الهادي بهم، وعلى اً لسنتهم، وهم مسخرون بقدرته وتدبيره، فالهداية المسندة لهم من هداية الله، ومندرجة- تحت جنس الهداية بإرسال الرسل عليهم الصلاة والسلام بهذا الاعتبار.

(أقول الك أن تجعله شاملاً للأنبياء عليهم الصلاة والسلام من غير تأويل بما ذكره، فإنهم مأمورون أيضاً بما أوحي إليهم كما لا يخفى، وأمّا أمر الحصر والتوفيق بينه، وبين ما ذكر فغير محتاج إلى تكلف ادّعاء مجازية الإسناد مع أنّ الظاهر الحقيقة، ولا موجب للعدول عنها في الآية الأولى بخلاف الثانية، وان توهموا العكس فإنّ قوله تعالى بأمرنا صريح في أنّ الله هداهم حيث أمرهم بالعمل والتبليغ، وهذا مراد المصتف رحمه الله ومحل استشهاده، وأمّا القرآن في نفسه فليس هو الهادي حقيقة فتدبر. وقوله: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يِهْدِي} [الإسراء: 9] أي يدل على خصلة، أو ملة أقوم مما عداها. قوله: (والرابع أن يكشف إلخ) مغايرته

لما قبله ظاهرة لاختصاصه بالأنبياء عليهم الصلاة والسلام والأولياء إذ المراد بالوحي كشف الحقائق وإظهارها لهم بغير الطرق المعهودة ولا وجه لتعميمه والإلهام إلقاء الخير في القلب إذ غيره يقال له وسوسة وأمّا قوله تعالى: {فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا} [الشمس: 8] فمؤوّل كما سيأتي في محله، والمنامات الصادقة هي

ص: 127

الميشرات وهي جزء من أجزاء اليحوّة كما ورد في الحديث المشهور (1) ، وانكشاف الحقائق بها يقيناً مخصوص برؤياهم سواء أوّلت، أو وقعت بعينها. وقوله:(كما هي) أي كما هي هي في نفس الأمر، كقولهم من حيث هو هو وإعرابه مشهور. وقوله:{أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللهُ} [الأنعام: 90] الآية الشاهد فيها في الهداية الأولى أو فيهما والمراد بهداهم ما توافقوا عليه من التوحيد، وأصول الدين كما سيأتي في سورة الأنعام تحقيقه، فلا وجه لما قيل من أنه يمكن حملها على الثالث حتى توهم بعضهم أنه أظهر وأولى، وعدى المصتف رحمه الله الكشف بعلى، لأنه مضمن أو متجوّز به عن معنى جلا وأظهر، وان لم يخل من ركاكة العجمة والنيل الوصول. قوله:(والذين جاهدوا إلخ) قال المصتف رحمه الله في تفسيره: والذين جاهدوا في حقنا، واطلاق المجاهدة ليعمّ جهاد الأعادي الظاهرة والباطنة بأنواعه {لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} [صورة العنكبوت: 69] سبل السير إلينا والوصول إلى جنابنا أو لنزيدنهم هداية إلى سبيل الخير وتوفيقاً لسلوكها إهـ. ولعل هداية سبيل السير إليه تعالى أن يكشف عن قلوبهم السرائر ويريهم الأشياء كما هي، وقال الطيبيّ: طيب الله ثراه الاستشهاد فيه أنه تعالى أثبت لهم الجهاد على لفظ الماضي، وأوقع ضمير التعظيم ظرفاً له على المبالغة أي في سبيلنا ووجهنا مخلصين لنا ولا يكون مثل هذا الجهاد إلاً هداية لا غاية بعدها، ثم قال: لنهدينهم سبلنا على الاستقبال، وصرّح بلفظ سبلنا ولا يستقيم تأويله إلآ بما ذكر من طلب الزيادة بمنح الألطاف اهـ. والسرائر جمع سريرة، وهي ما يسره المرء في قلبه وأواد بها المصتف رحمه الله السرّ الإلهيّ، وليس ببعيد وان كان خلاف المعروف من استعماله. قوله:(أمّا زيادة ما منحوه إلخ) منح بمعنى أعطى يتعدى لمفعولين وهو مبنيّ للمجهول هنا والزيادة نزول الآيات وظهور الأحاديث في زمانه عليه الصلاة والسلام وظهور طرق الاحتياط والأخذ عن أهل العلم بعده، وقال قدس سرّه: إنه يعني أنّ من خص الحمد به تعالى وأجرى عليه تلك الصفات فهو مهتد فكيف طلب الهداية. فالمطلوب لزيادة أو الثبات أو ثمرة ذلك من سعادة الدارين، ثم إن حمل لفظ الهداية على التثبيت، كان مجازاً وان

حمل على الزيادة فإن كان مفهوم الزيادة داخلَا في المعنى المستعمل فيه كان مجازا أيضاً وان جعل خارجاً عنه مدلولاً عليه بالقرائن كان حقيقة لأنّ الهداية الزائدة هداية كما أنّ العبادة الزائدة عبادة فلا يلزم الجمع بين الحقيقة، والمجاز وإن جاز كما سيأتي بيانه وتبعه أرباب الحواشي هنا برمّتهم كما قيل إنه جواب عما يقال من أنّ ما قبله منزل على ألسنة العباد الذين حمدوه وخصوا الحمد به تعالى، ووصفوه بغاية الكمال وخصوه بالعبادة، والاستعانة ومثل هؤلاء لا يصح منهم طلب الهداية إلى الصراط المستقيم بمعنييه لحصوله لهم، ففيه تحصيل الحاصل فأجاب عنه بقوله فالمطلوب إلخ. فهو جواب شرط مقدّر أي إذا انقسمت الهداية لما ذكر، وكثره حاصل لهم فالمطلوب الزيادة والثبات أي مجموعهما، وفي نسخة أو الثبات بأو بدل الواو، وهي الموافقة لما في الكشاف والحاصل أنّ الهداية مطلقة، فتصرف للكمال، وهو بما ذكر من الزيادة أو الثبات أو حصول مراتب أخرى من جنسها، وقد قيل عليه أنه إن أريد بالإيصال المفهوم من الدلالة الإيصال القريب، وبالصراط المستقيم ما يشمل العقائد الحقة والأعمال الصالحة، فلا مرية في أنّ من خص الحمد به تعالى وأجرى عليه تلك الصفات لا يلزم أن يكون مهتدياً بهذا المعنى لأنّ الموصل القريب لها الأدلة وإن أريد البعيد صح ولكن لا يتعين الحمل عليه، وأيضاً جزمه بالتجؤز إذا أريد الثبات وتفصيله في الزيادة فيه بأنه إن جعل الثبات داخلاً في المعنى المستعمل فيه كان مجازا وإلاً فهو حقيقة من غير فرق بينهما تحكم ورد بأنّ الموصل القريب لا ينحصر فيما ذكر، إذ يكون بما عرف سماعا من الشرع، وبالعقل السليم والثبات ليس كالزيادة لخروجه عن مفهومه بغير شك (أقول والهداية منه وإليه أليس كلام المصنف رحمه الله مطابقاً لما في الكشاف حتى يشرح بما شرح به ويورد عليه ما أورد عليه، فإنه في الكشاف لم يتعرّض لشيء مما ذكره المصتف أصلاً، فالحق أن يقال في بيان ما هنا إنه لما فسر الهداية المطلقة بالدلالة بلطف ونوّع منها هداية الله تعالى، وفسر الصراط بما ذكر، صار المعنى يا ربنا دلنا على طريق الحق بسلامة

ص: 128

القوى ووقفنا على أدلة الآفاق والأنفس ووفقنا لتلقي الأدلة السمعية من الرسل عليهم الصلاة والسلام والكتب حتى نصل لها فالتفريع هنا على ما قبله من تنويع الهداية الربانية إذ المطلوب هدايته لما يوصل إليه منها وكلها أو جلها حاصل لهم، فالمطلوب الزيادة إلخ والفاء فصيحة أي إذا تنوّعت الهداية لما هو معلوم الحصول، فالمطلوب ما ذكر وتفريعه على ما في النظم كما في الحواشي أبعد بعيد فعليك بالنظر السديد إذا صعدت من صعيد التقليد. قوله:(من الهدى) قال بعض الفضلاء: الهدى جاء لازماً بمعنى الاهتداء ومتعدّياً بمعنى الدلالة والأوّل هو المراد بقرينة قوله منحوه. والمراد بزيادة الهدى إمّا زيادة الله إياهم الهدى كما في قوله تعالى: {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى} [ئحمد: 17] أو ازدياد الهدى على أنّ المراد بالمطلوب المطلوب الأصليّ الذي يطلب ما أريد بمصدر اهد لأجله، وهو زيادة الله إياهم الهدى أو الهداية، أو زيادة الهدى والهداية الزائدة والمراد

بالثبات، أمّ ثباته تعالى على الهدى بمعنى الهداية على سبيل الاستخدام، أو ثباتهم على الهدى على قياس ما عرفت في زيادة الهدى، وعلى الثاني المراد بالهداية تثبتهم على الهدى أو ثباته تعالى على هدايتهم أي دوامه.

(بقي) هنا أنه قد يقال الصراط بمعنييه لا يخلو إثا أن يراد جميعه أو بعض منه معين أو

غير معين لا سبيل إلى الأوّل لأنّ هؤلاء لم يحصلوا جميع طرقه، وجميع الأعمال الصالحة والعقائد الحقة والبعض المعين لا بد له من قرينة تعيينه ولا قرينة هنا فإن أريد بعض غير معين، فلا ريب في صحة طلب البعض لآخر من غير تأويل أو تجوّز فتأمّل. قوله:(فإذا قاله العارف إلخ) الظاهر أنه تفريع على قوله حصول المراتب المترتبة عليه وأنّ هذا من جملتها، ولذا قالوا إنّ العارف لا يزال مسافرا فكلما ألقى عصاه بدا له سفر، فهو من معنى الهداية المترتبة على أحد الأربعة، وقيل: الحصر فيها بالنسبة إلى السالك، وهذا متفرع عليها بعد التكميل، فلا يرد عليه ما قيل لا يخفى إنّ الإرشاد المذكور جنس خاسى من الهداية، فإنّ الرابع هو هداية السير إلى الله كما سبق، فالحصر في الأجناس الأربعة غير مستقيم، وقد رد أيضا بأنه قد قيل إنّ الفناء عبارة عن نهاية السير إلى الله عر وجل، والبقاء عبارة عن بداية المسير في الله سبحانه والسير إنما ينتهي إذا قطع بادية الوجود بالكلية، وبعده يتحقق السير فيه بالإتصاف بالأوصاف الإلهية، والتخلق بالأخلاق الربانية، وقطع بادية الوجود عبارة عن فناء الحظوظ الدنيوية والأخروية، ويلزمه بقاء طلب الحق سبحانه بل يندرج فيه السير إليه أيضا، كما أنّ قوله تعالى:{لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} [العنكبوت: 69] يشملهما فالحصر مستقيم، والعارف الواقف على الأسرار الإلهية، والسير في الفتوحات أن يكشف له عجائب الملكوت، فتنتقش في جوهر نفسه فيفرّ إلى الله مسافرا عما سواه إلى أن يراه في كل شيء ويطلق عندهم أيضاً على الانتقال من اسم إلهيّ إلى. آخر:

فيا دارها بالخيف إنّ مزارها قريب ولكن دون ذلك أهوال

قوله: (أوشدنا) عذاه بنفسه على الحذف والإيصال، أو ضمنه معنى أرنا لأنه يتعدى بالحرف وفي المصباح أرشدني إلى الشيء وعليه وله قاله أبو زيد، ونمحو بالنون والتاء الفوقية والياء التحتية، وكذا نميط في الوجوه الثلاثة ونمحو بمعنى نزيل، ونميط بمعنى نبعد وننحى، والغواشي جمع غاشية بمعجمتين ما يغشى أي يعرض ويكون بمعنى الغطاء، ومنه غاشية السرج لغلافه فغواشي الأبدان المراد بها هي بأنفسها، أو ما يطرأ عليها من كدورات البشرية وظلمات الهيولى، ونور قدسه الملكات الفاضلة أو الفيوض الإلهية. وقوله:(فنزاك بنورك) أي نشاهدك بما أودعته في سثمكاة قلوبنا من الأنوار، والله نور السموات والأرض، فإذا فهمت فنور على نور. قوله:(والأمر والدعاء) المراد بهما مفهوما هما، أو ما صدقا عليه، كصم وصل أو

المعنى المصدري، وقيل: هذا تكلف من غير حاجة داعية له، فإنّ صيغة افعل لا تدل على مصدر أمر ودعا، وان تحقق عند تحققها وفيه نظر، والمنقول في أصول الشافعية كما في شروح جمع الجوامع أنه لا يعتبر في مسمى الأمر ولا في حدّه علو ولا استعلاء، واعتبر فيه المعتزلة وهو المشهور عنهم، وأبو إسحاق الشيرازي وابن الصباغ والسمعانيّ العلو، وأبو الحسين من المعتزلة، والإمام الرازي والآمدي، وابن الحاجب الاستعلاء،

ص: 129

وتابعهم المصنف وحمه الله هنا وخالفهم في منهاج الأصول، ورذ مذهب المعتزلة المشهور من اشتراط العلوّ قي الأمر وضد. في الدعاء، وقيل بالرتبة وهو مختار الزمخشريّ والاشتراك اللفظي بينهما كونهما بصيغة واحدة في الأكثر، وهي أفعل والمعنوي إنّ فيهما معنى الطلب الذي هو كالجنس لهما. وقوله:(ويتفاوقان) أي يتغايران ويفترقان بأنّ الطلب إن كان استعلاء فأمر، وان سفلا فدعاء والاً فيسمى التماساً وقال بعض المعتزلة: إن كان عالي الرتبة فأمر وان كان سافلها فدعاء هذا ما أراده المصتف رحمه الله، فمن توهم أنه لا مغايرة بين القول الأوّل والثاني فقد وهم لأنّ الاستفعال قد يكون لعد الشيء متصفا بشيء، وان لم يكن كذلك كاستحسنه، وان لم يكن حسناً وكذا التفعل كتحلم وان يكن حليماً فالاستعلاء والتسفل يقابل العلو، والسفل وتفصيله في الأصول. قوله:(والسراط إلخ) السراط هو الطريق السهل، أو الواضح المستوي من سرط الطعام، كفرح ونصر ابتلعه وزرده فقيل: إنه يتصوّر أن يبلعه سالكه، أو يبتلع هو سالكه ألا تراهم قالوا قتل أرضا عالمها، وقتلت أرض جاهلها وعلى النظرين قال أبو تمام:

رعته الفيافي بعدما كان حقبة رعاها وماء المزن ينهل ساكبه

فقوله: كأنه يسترط السابلة تتبع فيه الزمخشريّ، وفي الكشف لو قال لأنهم يسترطون السبل، وهي تسترطهم كان أولى، وفي نسخة يسرط من الثلاثي وهذا بيان لوجه أخذه منه، والسابلة الطريق ومن يسلكها والمراد الثاني. وقوله:(ولذلك) باللام وفي نسخة بالكاف، وهي صحيحة أيضا، واللقم بفتحتين معظم الطريق أو طرفه أو وسطه من الالتقام، وهو الابتلاع ففعل بمعنى فاعل أو مفعول كالسراط، والمصنف رحمه الله اقتصر على الأوّل لوضوحه، وعن الأزهري أكلته لمفازة إذا نهكته لسيره فيها، وأكل المفازة إذا قطعها بسهولة، وقيل: إنّ السابلة إذا ذهبوا من عندنا، فحالهم بالنسبة إلينا شبيهة بابتلاع الطريق، فإذا جاؤوا إلينا، فكأنهم يبتلعون الطريق ويلتقمونه. قوله:(والصراط من قلب السين إلخ) إنما قلبت السين صادا لمناسبة الطاء في الإطباق، وفي انخة اض السين مع تفخيم الراء استثقال للانتقال من سفل إلى علو بخلاف العكس نحو طست لأنّ الأوّل عمل والثاتي ترك كما قرّره أهل الأداء. وقوله:(ليطابق) أي ليوافق مجانسه مع الأطباق والصاد والضاد والطاء والظاء مطبقة، ويقال منطبقة لانطباق اللسان معها على الحنك. وقوله: (وقد يشئم إلخ اليكون أقرب إلى المبدل منه لأنّ

الزاي والسين من المنخفضة المنفتحة، ولأنّ مخرجهما من بين الثنايا، وقيل: ليكتسب بذلك نوع جهر ويزداد قربها من الطاء، والإشمام هنا خلط الصاد بالزاي وعرفه الفرّاء بخلط حرف بآخر وكل وفي الوقف ضم الشفتين مع انفراج بينهما، ولا يدركه إلاً البصير، وله معان أخر سيأني تفصيلها ني سورة يوسف والزاي اسم هذا الحرف المعجم بياء بعد الألف، للفرق يينها وبين الراء المهملة، وفي النشر يقال زاء معجمة بالمد، وزاي بالف وياء وزيّ بالكسئر والتشديد اهـ وعامّة بلادنا يقولون زين، وهو غلط وشين. قوله:(والباقون بالصاد إلخ الغة قريش إبدال السين صادا هنا، وفي كل موضع بعدها عين أو خاء أو قاف باطراد، وقول الجوهري السراط لغة في الصراط لا يقتضي أصالتها، ولذا رسمت صادا لما روي عن عثمان رضي الله عنه أنه قال: إذا اختلفتم في شيء فاكتبوه بلغة قريش، فإنّ القرآن نزل بها وقرىء بالزاي الخالصة أيضا. قوله: (والثابت في الإمام) أي المثبت كتابة وخطأ في مصحف عثمان رضي الله تعالى عنه المسمى إماماً عند القرّاء والمفسرين وغيرهم، فإنّ الإمام لغة ما يؤتم ويقتدى به، فيتبع وان لم يكن من العقلاء، ولهذا أطلق على اللوح والكتاب كما فال تعالى:{وَمِن قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً} [الأحقاف: 2 ا] فسمى الكتاب إماماً على وجه، وقد كان في سنة ثلانين لما سار حذيفة رضي الله عنه لبعض الغزوات وعاد قال لعثمان رضي الله عنه: إني رأيت أمراً عجيباً رأيت الناس يقول بعضهم لبعض قراءتي خير من قراءتك، فإن تركوا ليختلفوا في القرآن، فيكون لذلك أمر، فجمع عثمان الصحابة رضي الله عنهم واستشارهم، فأشاروا عليه بجمعهم على مصحف واحد، فارسل إلى حفصة أمّ المؤمنين رضي الله عنها لترسل الصحف لتنسخ، وكان أبو بكر رضي الله عنه جمعها لما كثر قتل الصحابة رضي

ص: 130

الله عنهم باليمامة، وهو الجمع الأوّل، فأرسلتها إليه، فامر عثمان رضي الله عنه زيد بن ثابت وابن الزبير وسعيد بن العاصن. وعبد الرحمن بن الحارث، فنسخوها في مصاحف اختلف في عددها كما في شرح الرائبة للسخاوي رحمه الله وأرسل إلى كل مصر مصحفا، وحرّق ما سواها، فسمي كل من تلك المصاحف إماماً لا المصحف الذي كان عند عثمان وحده كما قيل.

فإن قلت: قد قيل على ما ذكره المصتف رحمه الله أنّ جميع القراءات السبعة بل العشرة

ثابتة في الإمام لأنهم قالوا: لا بد فيها من أمور ثلاثة صحة السند وموافقة قواعد العربية، ومطابقة الرسم العثماني الثابت في الإمام.

قلت: المراد بالثبوت فيه الثبوت، ولو تقديراً كما فصله في النشر وقال: انظر كيف كتبوا الصراط، والمصيطرون باله ماد المبدلة من السين وعدلوا عن السين التي هي الأصل لتكون قراءة السين، وان خالفت الرسم من وجه قد أتت على الأصل فيعتدلان، وتكون قراءة الإشمام

محتملة ولو كتب بالسين على الأصل فات وعدت قراءة غير السين مخالفة للرسم، فلا إشكال. قوله:(وجمعه شزط الخ) ظاهره أنّ هذا الجمع يكون له مطلقاً سواء ذكر أم أنث ولذا قدّمه، وقد قيل إنه إن ذكر جمع على أفعلة في القلة وعلى فعل في الكثرة كحمار وحمر وأحمرة وان أنث فقياسه أن يجمع على أفعل كذراع وأذرع، وفسر المستقيم وهو الذي لا اعوجاح فيه بالمستوى، وهو من قولهم سوّى الأرض والمكان فاستوى هو بأن لا يكون في سطحه وحدوده اختلاف، ومته قوله تعالى:{لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الأَرْضُ} [النساء: 42] أي يوضع عليهم ترابها ويسطح. وقيل: وصف الطريق به له معنيان: أحدهما أنه مستو بنفسه. والآخر أنّ سالكه يستقيم فيه. وقوله: (كالطريق إلخ) هو مثله معنى وقيل: بينهما فرق، فإنّ الطريق ما يسلك مطلقاً، والسبيل ما هو معتاد السلوك والسراط ما لا عوجاح فيه يمنة، ويسرة فهو أخصها، فإن قيل فما فائدة وصفه حينئذ بالمستقيم قيل: لأنّ الصراط يطلق على ما فيه صعود أو هبوط، والمستقيم ما لا ميل فيه إلى شيء من الجوانب، وأصل الاستقامة في الشخص القائم. قوله:(والمراد به طريق الحق إلخ) هذان التفسيران رواهما ابن جرير عن ابن عباس رضي الله عنهما، وذكرهما المصنف والزمخشريّ إلاً أنّ الزمخشريّ قال المراد به طريق الحق وهو ملة الإسلام قجعلهما متحدين والمصتف رحمه الله تعالى أشار إلى الرد عليه وجعلهما متغايرين، وقد ذهب بعض أرباب الحواشي إلى أنّ الحق ما فهمه الزمخشريّ وقال ابن تيمية الخلاف بين السلف في التفسير قليل جدّا، وهو في الأحكام أكثر وغالب ما روي عنهم من الأوّل راجع إلى تنوّع العبارة وإليه أشار الزمخشريّ، وعلى ما فهمه المصئف هما متغايران إمّا لأنّ ملة الإسلام تختص بالأصول والإعتقاد، وطريق الحق أعمّ لشموله الفروع والأصول سواء فسر الحق هنا بما يخالف الباطل أو بأنه اسم الله فإنه ورد إطلاقه عليه، وهو مخالف لقوله قدس سرّه: إن ملة الإسلام تشمل الأحكام الأصلية والفرعية، وإن قيل: إنه مبني على مسلك الزمخشريّ.

وقيل: طريق الحق مطلقاً تتناول ملة الإسلام، وما فيها من العبادة كما هو المناسب لتنوّع

الهد اية.

وقيل: طريق الحق أخصى لشمول ملة الإسلام للفرق الضالة كالقدرية.

وقيل: اصحق أعمية الحق لشموله السير في الله، وما يترتب على الهداية من المراتب كما

مرّ وقيل الطريق المستقيم هنا العبادة، لقوله تعالى:{وَأَنْ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ} [يس: 61] والقرآن يفسر بعضه بعضاً وفيه نظر، وقول الفاضل الليثي: إنه ليس المراد تعفق الهداية بجميع ملة الإسلام، بل ببعضها سواء أريد به التثبت أو الزيادة ناشىء من عدم النظر للوقوع، وعموم الطلب فتأمّل. قوله:(بدل من الأوّل الخ) بدل خبر مبتدأ مقدر أي هذا بدل

من الصراط الأوّل. وقوله: (بدل الكل من الكل) بدل من البدل، وهو من حسن الإتفاق الذي سماه المتأخرون في البديع تسمية النوع، وقد عاب ابن مالك رحمه الله في بعض كتبه هذه العبارة على النحويين لأنّ الكلية لا تصح في مثل {صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ. اللهِ} [إبراهيم: ا- 2] فإنها إنما تقال فيما ينقسم ويتجزئ، والله سبحانه وتعالى منزه عن ذلك، فالأولى أن يقال فيه البدل الموافق أو المطابق.

والورع البارد في نحوه يغنيك عنه النظرالحامي

ص: 131

وقوله: (وهو في حكم تكرير العامل) هذه عبارة مهذبة صادقة على مذهبي التقدير وعدمه

فلا وجه لما قيل إنّ هذا مذهب الأخفش والرمّاني والفارسي وأكثر المتأخرين، وبدل عليه كلام صاحب الكشاف في بحث البدل من المفصل، لكن ذهب جماعة إلى أنّ العامل في البدل هو العامل في المبف ل منه، وعد الرضي صاحب الكشف منهم. قوله:(من حيث إنه المقصود إلخ) قيل: إنه إشارة إلى ما استدل به الفريق الأوّل على تقدير عامل من جنس الأوّل لكونه مستقلاً أو مقصودا بالذكر، واذا لم يشترط مطابقتة للمبدل منه تعريفا وتنكيراً.

وأجيب: بأنّ استقلال الثاني، وكونه مقصودا يوذنان بأنّ العامل هو الأوّل لا مقدّر آخر

لأنّ المتبوع أذن كالساقط، فكأنّ العامل لم يعمل في الأوّل، ولم يباشره بل عمل في الثاتي والمعتى أنه مهصود بالنسبة دون متبوعه، وبهذا فارق العطف، وأورد عليه أنّ صرف العامل عن المبدل منه إلى البدل ينافي تكريره.

وأجيب عنه بأنه في حكم تكريره مع كلمة بل، وأورد عليه أنه لا يفهم من التكرير إلأ تقرير الأوّل وكلمة بل إضراب عنه، والحق أنّ الإضراب إنما هو من صرف خصوص نسبة العامل إلى خصوص آخر، ىأصل النسبة باق، فإن قلت النسبة تتغير بتغير أحد طرفيها قلت: إذا لم يكن " البدل أجنبيا عن المبدل مته لم تتغير بالكلية خصوصا في بدل الكل، فإنّ الإضراب فيه إنما هو باعتبار الوصف لا الذات، ثم إنما ذكر إنما يتأتى إذا كان للمبدل منه نسبة، فلا ينتقض بإبدال الجمل التي لا محل لها من الإعراب من مثلها، وقد جوّزه النحاة، وأهل المعاني، وترك المصئف رحمه الله ما استدل به في الكشاف لما فيه، كما لا يخفى على من له بصيرة نقادة. قوله:(وفأئدته التثيد إلخ) في الكشاف فائدة البدل التوكيد، لما فيه من التثنية والتكرير والإشعار بأنّ الطريق المستقيم بيانه، وتفسيره صراط المسلمين ليكون ذلك شهادة لصراط المسلمين بالاستقامة على أبلغ وجه، وآكده كما تقول: هل أدلك على أكرم الناس وأفضلهم فلان، فيكون ذلك أبلغ في وصفه بالكرم والفضل من قولك هل أدلك على فلان الأكرم الأفضل، لأنك ئنيت ذكره مجملاً أوّلاً، ومفصلاً ثانيا وأوقعت فلانا تفسيرا، وايضاحا للأكرم الأفضل فجعلته علما في الكرم والفضل، فكأنك قلت: من أراد رجلاً جامعاً للخصلتين فعليه

بفلان، فهو المشخص المعين لاجتماعهما فيه من غير مدافع ولا منازع اهـ.

وهو جواب عن نكتة التكرار والعدول عن الاختصار بأنه لفائدتين إحداهما قصده بالنسبة، وتكرير العامل حكما، والثانية تفسيره وبيانه به، ومذه مشتركة بينه وبين عطف البيان أو هي أظهر في الثاني، ومن دأب المصنف رحمه الله أنه إذا غير عبارة الكشاف، أو أسقط منها شيثاً أنه يشير بذلك إلى ردّ ضمني أو أنه غير مرضيّ، فلذا أسقط هنا تمثيله للبدل بالمنعوت المتقدم عليه نعته نحو أدلك على أكرم الناس زيد لأنه غير مسلم عند علماء المعاني، وفي المطوّل كل صفة أجرى عليها الموصوف نحو جاءني الفاضل الكامل زيد، فالأحسن أنّ الموصوف فيه عطف بيان لما فيه من إيضاح الصفة المبهمة، وفيه إشعار بكونه علما في هذه الصفة، وفي الحواشي الثريفية أنه أشار إلى أن جعله عطف بيان أحسن من جعله بدلاً من وجهين: أحدهما أنه يوضح تلك الصفة المبهمة، والإيضاح من شأن عطف البيان دون البدل والثاتي أنّ الإشعانة بكونه علما فيما ذكر إنما تتفرّع من جعل فلان تفسيرا للأكرم الأفضل، وايضاحا له فجعلته علماً في الكرم والفضل، ولا شك أنّ إيضاج المتبوع وتفسيره فائدة عطف البيان دون البدل، ولك أن تقول أنه اختار البدل في الآية وذكر له فائدتين الأولى تأكيد النسبة بناء على أنّ البدل في حكم تكرير العامل والثانية الإشعار بأنّ الطريق المستقيم بيانه وتفسيره صراط المسلمين فيكون ذلك شهادة لصراطهم بالاستقامة على أبلغ وجه وآكده، ولا خفاء في أنّ هاتين الفائدتين مطلوبتان في الآية الكريمة، فوجب أن يختار فيها البدل لأنّ الفائدة الأولى مختصة به، وأمّا الثانية فتحصل منه أيضا إذ قد يقصد ببدل الكل تفسير المتبوع، وايضاحه كما سيأتي إلآ أن ذلك لا يكون مقصودا أصليا منه كما في عطف البيان، وانما شبهه بقولك: هل أدلك إلخ إذا ورد في مقام ية صحمد فيه تكرير النسبة، وايضاح المتبوع معاً لا مطلقاً، وهناك يتعين البدل ولا يجوز عطف

ص: 132

البيان فضلاً عن أن يكون أحسن، ولا بد من اعتبار هذا التقييد في التشبيه به ليوافق المشبه، ويتحصل به غرضه اهـ. والحاصل أنّ المبدل منه إذا كان وصفاً لفظاً أو تقديرا أثر في العناية بالبدل والقصد إليه فجعله في نية الطرح وجعل اسم الذات تابعاً له يومىء إلى أنّ تلك الصفات كمشخصاته التي يدل عليها اسمه، وانّ ثبوتها له أمر ظاهر مسفم وهي نكتة بديعة يشعر بها الكلام.

وبالغ المصتف رحمه الله في ذلك فجعله نصا فيها إلاً أنهم اختلفوا فيها، وفي منشئها فمنهم من جعله توضيح الموصوف باسم الذات، وجعله مشتركا بين البدل وعطف البيان، والمرجح للبدلية أمر خارج، وهو الفائدة الأولى المخصوصة به، وجعله قدس سرّه مجموع الفائدتين، فيختص بالبدل لأنّ الثانية متفرّعة على التأكيد بالوجهين، والإشعاو بأنّ الطريق المستقيم بيانه، وتفسيره صراط المسلمين، كما أوضحوه والتفصيل بعد الإجمال أبين وأقوى في الشهادة، وتكرير العامل يوذن بالقصد فيجب أن يكون علماً في الصفة المذكورة ليكون،

أوفى بتأدية ما قصد من اتصافه بالصفة المذكورة، فيستحق أن يستأنف القصد إليه، ولذا رجح المدقق في الكشف كونه بدلاً في الآية، والمثال مطلقاً على كونه عطف بيان، لأنّ استئناف القصد يدل على أنه أوضح من الأوّل في إفادة المقصود، فيلزم أن يكون هو الشخص غير مدافع ولا منازع اهـ.

وما أورد على الشريف من أنه يأباه عدم تعرّض الزمخشريّ في بيانها لتكرير العامل والنسبة كما ترى ليس بشيء، فإنه قدس سرّه إنما جزم بما ذكره لقوله في الكشاف لما فيه من التثنية والتكرير لأن جعلهما بمعنى قليل الجدوى، فحمل التثية على تكرير لفظه لتبادره منه وحمل التكرير على تكرير العامل والنسبة، وقرينة الأوّل ظاهرة، وقرينة الثاني اشتهاره في البدل. وقوله:(المشهود عليه) عداه بعلى لتضمته معنى المحكوم أو المجمع، وفي الكشاف المشهود له قيل: وتعبيره أوّلاً بالمسلمين، وثانياً بالمؤمنين إيماء لترادف الإيمان والإسلام وقيل: لاتحادهما صدقا فلا ينافيه تصريحه في شرح المصابيح بتباينهما وأنّ {الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ} المؤمنون، وأن النعمة الإيمان إذ لا نعمة أعظم منه، ولذا أطلق لأنّ المنعم عليه بها كانه منعم عليه بجميع النعم. وقوله:(لأنه جعل إلخ) تعليل للتنصيص. وقيل: إنه تعليل لقوله على آكد وجه. قوله: (من البين الذي لا خفاء فيه إلخ) قيل: عليه جعله بيانا، وتفسيراً للطريق المستقيم يقتضي أن لا يكون كون الطريق المستقيم طريق المؤمنين كالبين الذي لا خفاء فيه بل إنما يقتضي كون طريق المؤمنين علماً في الاستقامة متعينا ليصح تفسير المبهم به، وقيل: إنه إنما يرد إذا كان المقصود من التفسير دفع الإبهام، وأمّا إذا لم يقصد مته ذلك، وقصد كون المذكور في معرض التفسير علماً بيناً متعيناً على ما ذكره بقرينة كمال ظهوره فلا يرد ذلك، فإن فلت: سلمتا أنّ التفسير حينئذ لا يقتضي ذلك لكن كونه من البين الذي لا خفاء فيه من أين يفهم قلت: إذا تقرّر كون طريق المؤمنين كالعلم المتعين في الاستقامة مع ادّعائه أنّ هذه العلمية والتعين مشهود عليه معلوم عند كل أحد يفهم منه ذلك بلا شبهة. قوله: (وقيل الذين أنعمت عليهم الأنبياء إلخ) عطف على ما فهم مما سبق من انه طريق المؤنين مطلقاً وهو المنقول عن السدّي وقتادة، وصراطهم المطلوب هدايتنا إليه ما توافقوا عليه من التوحيد، وأصول الدين دون الفروع المختلف فيها فإنها ليست صراطاً مضافا للكل، أو ما اشتمل على التوحيد والعبادة والعدل واجتناب المعاصي والعمليات التي لم تنسخ، والنبوّة أجل النعم على الأنبياء عليهم الصلاة والسلام والأمم، وفي الدر المنثور عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه فسره بطريق من أنعمت عليهم من الملائكة والنبيين والشهداء والصالحين، ومن أطاعه وعبده، وهو يشمل الأقوال الثلاثة، ويوافق قوله تعالى {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ} [مريم، الآية: 58] الآية. قوله: (وقيل أصحاب موسى الخ) أي المصدقون بهما وبما جاءا به قبل ما صدر من بعضهم من التحريف وقبل نسخ شيء مما جاءا به وهذا منقول عن ابن عباس رضي الله عنهما وخصوا لشهرة أمرهم وكثرتهم ووجودهم في عصر نبينا عليه أفضل الصلاة والسلام والتحريف تغيير ما في الكتابين كذكر نبئنا صلى الله عليه وسلم حيث أرادوا إخفاءه ويابى الله إلاً أن يتم نوره، ولو كره الكافرون، والنسخ رفع بعض الأحكام من شريعتهم وانتهاؤها، قيل: وفيه لف ونشر

ص: 133

مرتب، فالأوّل بالنسبة لأصحاب موسى عليه الصلاة والسلام، والثاني بالنسبة لأصحاب عيسى عليه الصلاة والسلام، والظاهر أن كلاً منهما بالنسبة إلى كل منهما وقيل: هم مؤمنو الأمم السابقة وقيل: هم المؤمنون مطلقاً، وهو الأولى والأنسب، وليس بزائد على ما مرّ كما توهم.

واعلم أنّ التوراة والإنجيل اللذين عند اليهود والنصارى الآن اختلف فيهما هل هما مبدلان ومحرّفان لفظا أو تأويلاً، فأمّا التوراة فأفرط فيها قوم وقالوا كلها أو جلها مبدل حتى جوّزوا الاستنجاء بها، فليست المنزلة على موسى عليه الصلاة والسلام، وذهبت طائفة من الفقهاء والمحدّثين إلى أنّ ذلك إنما وقع في التأويل فقط كما صرّح به البخاري، واختاره الفخر الرازي وغيره لقوله تعالى:{قُلْ فَأْتُواْ بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} [أل عمران: 93] وهو أمر للنبيّ عليه الصلاة والسلام بالاحتجاج بها والمبدّل لا يحتج به، ولما اختلفوا في الرجم لم يمكنهم تغيير آيته منها، وتوسطت طائفة وهو الحق فقالوا: بدل بعض منها وحرف لفظه، وأوّل بعض منها بغير المراد منه، وإنه لم يعط منها موسى عليه الصلاة والسلام لبني إسرائيل غير سورة واحدة، وجعل ما عداها عند أولاد هارون، فلم تزل عندهم حتى قتلوا عن آخرهم في وقعة بختنصر، وبعد ذلك جمع عزير بعضاً منها ممن حفظها، فهو الذي عندهم اليوم وليس أصلها وفيه زيادة ونقص، واختلاف ترجمة وتأويل، وأمّا الإنجيل ففيه تبديل وتحريف في بعض ألفاظه ومعانيه، وهو مختلف النسخ، والأناجيل أربعة كما فصله بعضهم في كتاب عقده لذلك سماه المفيد في التوحيد. قوله:(صراط من أنعمت) فيه دليل على جواز إطلاق الأسماء المبهمة كمن على الله كما ورد في الأحاديث المشهورة يا من بيده الخير ونحوه، فلا يغرنك ما نقله الحفيد عن صاحب المتوسط من منعه. قوله:(والإنعام للصال النعمة إلخ) قال الراغب: النعمة الحالة الحسنة، لأنّ بناء الفعلة بالكسر للهيئة كالجلسة والركبة والنعمة بالفتح للمرّة كالضربة، وهو بمعنى التنعم، ولذا قيل كم ذي نعمة لا نعمة له أي لا يتنعم بما رزقه الله، والإنعام إيصال الإحسان إلى الغير من العقلاء كما قاله الراغب فلا يقال: أنعم على فرسه، ولذا قيل إنّ النعمة نفع الإنسان من هو دونه لغير عوض، والنعماء إزالة الضراء، والنعمى ضد البؤسى ونعمه بالتشديد جعله في نعيم، ولين عيش وناعم وناعمة من

نعومة المسلمين، وأصل معناه لغة من النعمة بالفتح، وأصله في المستلذات الحسية، ثم أطلقت على المعنوية، كنعمة الإسلام لأنّ اللذة عند المحققين أمر تحمد عاقبته، ولذا خصها بعضهم بالمعارف، وقيل: لا نعمة لله على كافر، ولما فيها من الإيصال والإنهاء كان حقها أن تعدّى بإلى لكنها عديت بعلى إشارة لعلو المنعم، ولذا قيل اليد العليا خير من اليد السفلى فقوله: من النعمة بالفتح، وهي اللين ظاهر، وفي نسخة من نعمة الإسلام؟ وهي الدين وهي صحيحة أيضا، وليست تحريفا لأنّ إضافته بيانية قال تعالى:{وَمَن يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللهِ} [سورة البقرة: 211] وكذا ما في بعضها من النعهمة، وهي الدين مع ما فيه من الركاكة، ولا ينافي تخصيصها بنعمة الإسلام الإطلاق المستفاد من ظاهره لشمول الإسلام لكل نعمة، وششلذ. بمعنى يجده لذيذاً وقد يعدى بالباء، وعدى الإطلاق باللام، وهو معدّى بعلى لكونه بمعنى الاسنعمال أي استعملت فيما يلائم من الأمور الموجبة لتلك الحالة، فهو من إطلاق المسبب على السبب. وقوله:(لا تحصى) أي لا تعد أنواعها فضلاً عن أفرادها قال تعالى: {وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ اللهِ لَا تُحْصُوهَا} [النحل: 8 ا] أي نعمه تعالى، لأنّ الإضافة تفيد ما تفيده اللام قيل: وقيه نكتة حيث قال: نعمة دون نعم مع أنّ عدّ الواحد هين بل ليس هو بعدد لاشتمال كل فرد منها على نعم لا تحص كنعمة الصحة مثلاً، لو أريد تفصيلها جزءاً جزءا ظاهرا وباطنا أعجزت العادّ، وفسرها بعض الفضلاء بقوله: إن تشرعوا في عد أفراد نعمة من نعمه لا تطيقوه فتدبر. قوله: (روحانئ كنفخ الروح إلخ) تحقيق التسوية ونفخ الروح على ما نقله في كتاب الروح عن حجة الإسلام أنّ التسوية تهيئة المحل القابل للروح، كطينة آدم عليه الصلاة والسلام ونطفة بنيه، لأن يقبلها كالفتيلة التي تتقد بشرب الدهن لتعلق النار بها، وأصل النفخ إخراح هواء من جوف النافخ إلى جوف المنفوخ، وهو غير متصوّر في حقه تعالى، إلاً أنّ النفخ لما كان سبباً لاشتعال النار في بعض الأجساد، ويعذ ذلك نتيجة له عبر عن نتيجة النفخ بالنفخ وان لم يكن على صورة النفخ، والسبب الذي اشتعل به نور الروح في فتيلة النطفة

ص: 134

صفة في الفاعل وصفة في المحل القابل، فالأوّل الجود الإلهيّ الذي هو ينبوع الوجود على ما يقبله وصفة القابل هو الاعتدال الحاصل بالتسوية، كما قال تعالى:{فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي} [الحجر: 29] وهو في الأصل استعارة تمثيلية أو تصريحية أو مجاز مرسل، ثم صار حقيقة شرعية في فيض الأرواح على ذويها، وسيأني إن شاء الله تعالى تفصيله في سورة الحجر وما قاله المصئف فيه، ثم إنّ المصتف رحمه الله قسم ومثل بالأنعام تسمحاً، أو المراد الحاصل بالمصدر وتقسيمه على سبيل منع الخلو، فلا يرد عليه أنّ معرفة الله تعالى دنيوية وأخروية، ولا حاجة إلى ادّعاء تغايرهما ونحوه، وبدؤه بما ذكر إشارة إلى أنّ الحياة أصل النعم وأنها نعمة في

ذاتها ويتوقف جمليها الانتفاع بغيرها والشيء لا يكمل إلآ إذا أمكن الانتفاع به، وما قيل نقلاً عن التأويلات النهجة أنّ النعم.

إمّا ظاهرة كإرسال الرسل وانزال الكتب والتوفيق لقبوله وإتيانه به والثبات على قدم الصدق ولزوم العبودية.

وإمّا باطنة وهي ما أصاب الأرواح في عالم الذرّ من رشاس نور النور:

وأوّل الغيث قطر ثم ينسكب

فكان على المصنف أن يدخله في تقسيمه ليس بشيء لدخول ما ذكر في الروحاني، إذ

نعمة العقل والفهم إنما تعد نعمة إذا اهتدى بها للتصديق بما ذكر، وقيل: إنه لم يتعرّض لها لأنه لم يلتزم تعداد جزئيات النعم، وانما حصر أجناسها وهذه داخلة في النعم الدنيوية الموهبية، وقد جعل أيضا قسمي الموهبية من الدنيوية نظرا إلى أنها موهبة في الدنيا حالاً، وان كانت من الأخروية مالاً، والروحاني بضم الراء ما فيه الروح، وكذلك النسبة إلى الملك والجن، وهي نسبة على خلاف القياس، وأراد به هنا ما يقابل الجسماني مما يتعفق بالروح، وجسماني بالضم نسبة إلى الجسمان وهو الجسم، والجثمان بالثاء المثلثة بمعناه أيضا، ولك أن تقول إنه الروح لمشاكلته الجسماني. قوله:(وإشراقه بالعقل) ضمير إشراقه للمنفوخ فيه المعلوم من النفخ، وفيل: هو للإنسان أو للبدن كضمير فيه لفهمه من السياق وأرجعه بعضهم للروح لتأويله بمذكر، فإنها مؤنث سماعيّ، والعقل قوّة للنفس تدرك بها الكليات والجزئيات المجردة، ويتبعها ذلك الإدراك ويسمى نطقا وهو المراد بالناطق في تعريف الإنسان، ويكون بمعنى ما يعبر به عما في الضمير، وهذا معناه الحقيقي في اللغة والعرف العامّ، والفكر ترتيب أمور معلومة لتؤدّي إلى مجهول، والكلام عليه مفصل في محله وعلم ما أدى إليه الفكر هو الفهم وهذه أمور كسبية، والقوى جمع قوّة والمراد بها النفسانية التي هي مبدأ النطق وأخويه قيل: وهي عين العقل ومتحدة بقوّة الفهم ويتبعها أيضا سرعة الانتقال إلى المطالب، ويمكن أن يطلق عليه الفهم والذكر، وهو العلم بالشيء بعد ذهابه عن النفس ويطلق عليه الفكر والتعبير عما في النفس نطق، والآخر كسبيّ، والأولان قد يكونان فيما للاختيار دخل فيه، ومباديها قوى موهبية تابعة للعقل، فينبغي أن يحمل عليها إذا عرفت هذا، فالتمثيل بالنطق لا يخفى ما فيه لأنه بمعنى إدراك الكليات كسبيّ، كما برهن عليه في المنطق والقوّة التي هي مبدؤه عين العقل، وهو بمعنى التكقم أو مبدئه جسمانيّ، وجعل للعقل إشراقا على طريق التمثيل لأنه نور إلهيّ، وقد عرّف بذلك وقيل القوى تعم الحواس الظاهرة والباطنة لكن قوله كالفهم إلخ يقتضي تعميمه بحيث يشملهما، وادراكهما وادراك العقل وما يترتب عليه، والفهم المطلق بمعنى الإدراك، والفكر ترتيب المعلومات والنطق إدراك الكليات أو ما يعبر به عنها والقوى البدنية

كالنامية وأخواتها، ويحتمل أن يراد بها ما يعم الحواس، ويراد بالأولى الإدراكات، فإنها يقوى بها العقل فتدبر. قوله:(كتخليق البدن إلخ) البدن والجسد بمعنى، وقد يفرق بينهما وتخليقه إعطاؤه خلقه، وتكميل بنيته والقوى الحالة فيه معطوف على تخليق، والمراد بها القوى الطبيعية التي قسمها الحكماء والأطباء إلى خادمة ومخدومة متصرّفة لأجل التشخص أو لأجل النوع كالنامية والغاذية والجاذبة والدافعة، والهيئات العارضة جمع هيئة، وهي عندهم مرادفة للعرض فقوله العارضة أي للبدن صفة مفسرة. وقوله:(من الصحة إلخ) بيان لها، فإنّ الصحة عندهم هيئة بدنية تكون الأفعال بها سليمة لذاتها ويقابلها المرض، وكمال الأعضاء ظاهر. قوله:(والكسبي إلخ) الظاهر أنّ الكسبي أعمّ من أن يكون ووحانياً كتزكية النفس، أو جسمانياً كتزيين البدن، أو خارجا عنهما وسيلة

ص: 135

إليهما كحصول المال، وقيل: إن الكسبيّ ينقسم أيضاً إلى روحانيّ وجسماني، والمصتف رحمه الله أشار إلى الأوّل بتزكية النفس عن الرذائل وتحليتها بالأخلاق والملكات الفاضلة، وإلى الثاني بتزيين البدن إلخ وأورد عليه أن جعل حصول المال والجاه من الجسماني تكلّف، والمراد بالكسبيّ ما للكسب مدخل فيه، وإن لم يستقل به، ولا يرد عليه الصحة لأنها قد تحصل بمعالجات طبية كما توهم لأنّ أصل الصحة لا دخل للكسب فيها والمعالجات إنما هي لدفع ما يضادّها كما صرّحوا به، وتزكية النفس تطهيرها من دنس النقائمى، وفي كلامه إشارة إلى أنّ التخلية بالإعجام مقدّمة على انتحلية بالمهملة، والملكات شاملة للصانع، والمطبوعة بمعنى المقبولة الراجحة في ميزان الطبيعة، وقد وقع هذا اللفظ بهذا المعنى في كلام من يوثق به كالثعالبي، وقال المرزوقي: الشعر منه مصنوع ومطبوع، فلا عبرة بإنكار بعضهم له. وقوله: إنه لم يوجد في اللغة، وفي مفردات السمين، ومن خطه نقلت طبعت البكيال ملأته لكون الملء، كالعلامة المانعة عن تناول ما فيه، والطبع المطبوع أي المملوء اهـ وكذا قال الراغب.

وفي كلام علي رضي الله عنه العقل عقلان مطبوع ومسموع، وهو فيه بمعنى الجبليّ،

وفسر هنا بالعارضة لنفس البدن كتطهيره من الأوساخ وقمى الشارب ونحوه مما يورث البدن زينة والحلي بكسر الحاء مقصور جمع حلية، وهي الزينة المجاورة للبدن كاللباس، وجوّز فيه ضم الحاء وكسر اللام وتشديد الياء. قوله: (أن ينفر إلخ الم يتعرّض لتقسيمه، كما مرّ لعدم تعفق الغرض به، وقد قسم إلى روحاني كعلم ما لهم من الرضوان وجسمانيّ، كنعيم الجنة المحسوس، ووهبي كمغفرة الله وعفوه، وكسبي كجزاء الأعمال، وقيل: ليس فيها كسبي لأنه لا يجب على الله شيء ولكل وجهة، ويبوّئه مضارع بوّأه بباء موحدة، ثم واو مشددة وهمزة من التبوئة، وهي الإسكان، وعليين أعلى الجتة، أو موضع في السماء السابعة تصعد إليه أرواح

المؤمنين، وهو في الأصل جمع علية أو عليّ بمعنى الغرفة أو لا واحد له، وجمعه جمع سلامة على خلاف القياس، وأبد الآبف ين كدهر الداهرين يستعمل للتأبيد والخلود.

وفي القاموس: الأبد محركة الدهر والجمع آباد وأبود، والدائم والقديم الأزليّ، والولد

الذي أتت عليه سنة، ولا آتيه أبد الأبدية، وأبد الآبدين وأبد الأبدين، كأرضين، وأبد الأبد محرّكة، وأبد الأبيد وأبد الآباد وأبد الدهر، وأبيد الأبيد بمعنى اهـ فالآبدين جمع آبد وهو مبالغة الأبد كما أنّ الداهر مبالغة الدهر لزيادة المبالغة بالياء والنون على خلاف القياس أو المراد بالآبد الدائم جمع بهما تغليباً للعقلاء كالعالمين وإضافة الأبد للمبالغة. وقوله:(فرط منه) بالفاء وتخفيف الراء يقال فرط من باب قتلى إذا تقدّم، والمراد ما فعله قبل من الذنوب، وهو إشارة إلى ما فيه من التخلية والتحلية. قوله:(والمراد هو القسم الأخير إلخ) أي المراد بالإنعام المدلول عليه بقوله: أنعمت النعم الأخروية، وما يتوصل بها إليها من الدنيوية، كتزكية النفس وما معها لا ما قبله لأنه لا يخص المؤمن، فلا وجه لإدراجه في الدعاء بنيله ولا يرد عليه أنه داخل في الوصلة، وإن لم يختص، فلا حاجة إلى حمل ألوصلة على ما يشمل القريبة والبعيدة ويتكلف تاويله والتعبير بالماضي لتغليب ما مضى منه لتوقف النعم الأخروية عليه، وإن كانت أجل، وقيل: إنه لتحققه أو لأن المراد أنعمت عليهم في علمك ففيه استعارة تبعية، والأوّل أحسن وأولى، وفي كلامه إشارة إلى ما ارتضاه من تفسير الذين أنعمت عليهم بالمؤمنين لا أنه شامل لجميع المكلفين كما توهم، وقيل: إنه يلزمه جعل ترك الأولى من الأولياء والأنبياء عليهم الصلاة والسلام من الزلات المغتفرة إلاً أن يجعل الأوّل للمذنب والأخيران للمعصوم مع أنه، وإن خالف صريح كلامه غير محتاج إليه رأساً ولا مخالفة بين المصنف والزمخشريّ، كما توهمه السيوطي، وعبارته في الكشاف: الذين أنعمت عليهم هم المؤمنون، وأطلق الإنعام ليشمل كل إنعام لأنّ من أنعم الله عليه بنعمة الإسلام لم تبق نعمة إلاً أصابته واشتملت عليه، وإنما عدل عنه المصتف رحمه الله إلى ما هو أخصر وأظهر لما يوهم من مخالفة ما تقرّر في الأصول، إذ لم يفرق فيه بين المطلق والعامّ مع ظهور الفرق بينهما، وهذا إنما نشأ من عدم الفرق بين المطلق اللغوي والأصولي، والمراد الأوّل كما أشار إليه في الكشف، وأوضحه قدس سرّه فقال: المراد أنه لم يقيده بشيء معين مما يتعدى إليه بالباء ليستغرق بمعونة

ص: 136

المقام كل إنعام بنعمة ولما كان هذا الشمول ادّعائياً قال: لأنّ من أنعم إلخ ومن لم يفهم ما قالوه هنا قال بعدما أورد من كلامهم أقول ينافي هذا التأويل إسناد العموم إلى الإطلاق إذ لو قيد وقيل: أنعمت عليهم بنعمة الإسلام، أو الذين أنعمتة عليهم يستفاد منه العموم، ولا دخل للإطلاق في إفادة العموم فحينئذ يكون الحذف للاختصار، ويمكن أن يجاب عنه بأنه ليس المراد أنّ مفعول أنعمت المحذوف هو نعمة الإسلام حتى يرد عليه ما ذكر بل هو عام، وجعل المطلوب باهدنا

الذي هو سلوك طريق الإسلام عامّا إنما استفيد من تقييد الطلب بصراط من أنعمت، وتعليقه به على ادّعاء إن الإسلام كل نعمة، وقد خبط خبط عشواء، ولم يهتد للصراط المستقيم وهو أظهر من أن يخفى. قوله:(يشترك إلخ (في بدائع ابن القيم اختلف السلف هل لله على كافر نعمة فقيل: لا نعمة له عليه لظاهر قوله تعالى: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ} [مريم: 58] الآية وقيل: قد يكون منعماً عليه، والصواب إنّ مطلق النعم يعم البرّ والفاجر والنعم التامّة مختصة بالمؤمنين لاتصالها بسعادة الأبد وهو الحق اهـ وهو ملخص كلام الإمام هنا. قوله: (بدل من الذين أو صفة إلخ) قدم البدلية إشارة لترجيحها لما فيها من وجوه المبالغة والنكت السالفة، وهو بدل كل من كل ولم يجعله بدلاً من ضمير عليهم لا لأنه يلزم خلو الصلة عن الضمير لأنّ المبدل منه ليس في نية الطرح حقيقة، كما يتوهم بل لأنه لا يخلو من الركاكة بحسب المعنى، وهذا مختار أبي عليّ، وقول أبي حيان: إنه ضعيف لأنّ غير في أصل وضعه صفة بمعنى مغاير والبدل بالوصف ضعيف ولذا أعربه سيبوبه صفة غير متجه لأنّ غير أغلبت عليه الإسمية، ولذا كان في الأكثر غير مجرى وقدم الصفة المبينة، وهي الكاشفة المنزلة منزلة التعريف كما صرّحوا به، لأنّ المنعم عليهم بالإسلام المهتدين لطريق الاستقامة لا يكونون من أهل الغضب، واذا أريد بهم الأنبياء عليهم الصلاة والسلام فالأمر ظاهر، ولذا لم يبينه صريحاً لأنّ قوله على إلخ يحتمل رجوعه إلى الوجوه الثلاثة أماة الآوّل فلكونه عينه ولأنّ الصفة والموصوف كشيء واحد لما مز، ومنهم من أرجعه إلى الأوّل فقط وجعل قوله هم الذين سلموا نظير ما مرّ من قوله فهو المشخص المعين، وهذا بناء على ما وقع في بعض النسخ، وهو بدل من الذين على معنى أنّ المنعم عليهم هم الذين سلموا من الغضب والضلال، أو صفة له مبينة أو مقيدة على معنى أنهم جمعوا بين النعمة المطلقة، وهي نعمة الإيمان وبين السلامة من الغضب والضلال اهـ وهذه عبارة الكشاف بعينها وفي بعض الحواشي هنا تصخيح هذا الوجه أيضا فيتجه حينئذ وقال قدس سرّه: إذا جعل غير المغضوب بدلاً من الذين أريد بالثاني الذات مع قصد تكرير العامل وتفسير المبهم، فيؤخذ منه تلك المبالغات، فقوله: هم الذين سلموا نظير لقوله: فهو المشخص المعين، وبذلك يظهر أن الإبدال أوقع، وإن جعل صفة كان المعنى أنهم جمعوا بين النعم المطلقة التي أثبتت لهم بطريق الصلة وبين السلامة التي أثبتت لهم بطريق الصفة، وفي قوله: ههنا نعمة الإيمان إشاوة إلى أنّ الإيمان متحد بالإسلام ومشتمل على الأعمال كما هو مذهبه، وحينئذ يكون الوصف بالسلامة من الغضب والضلال بعد إثبات ألإيمان تأكيداً لا تقييداً وتخصيصا، وهو المراد بالصفة المقيدة إلآ إذا حمل الإيمان على التصمديق وحده أو مع الإقرار كما ذهب إليه غيره اهـ. ومما مرّ علم معنى المبينة والمقيدة وأنّ الإيمان إن شمل الأعمال فالصفة مبينة والآ فهي مقيدة، وقد أورد على ما في الحواشي الشريفية أنّ قوله، فهو المشخص المعين حكم على البدل بالتشخص

والتعين بما يشتمل عليه المبدل منه من الصفة الذي هو كالعلم فيها، وقوله: هم الذين سلموا حكم على المبدل منه بالبدل وانحصار الأوّل في الثاني، أو عكسه بل هو حكم بالاتحاد، وهو المناسب لكون الثاني تفسيرا للأوّل فكيف يكون نظيراً له، ويمكن أن يقال إذا أريد به قصر المسند إليه على المسند أفاد ما يفيده. قوله: فهو المشخص المعين إلخ من الحصر. وهذه العبارة في كلام المصتف رحمه الله نظير قوله الطريق المستقيم ما يكون طريق المؤمنين لا نظير قوله: طريق المسلمين هو المشهود عليه بالاستقامة، ثم جعله بدلاً على تقدير كون الموصول عبارة عن كمل المؤمنين المشتمل إيمانهم على الأعمال والمراد بالمغضوب عليهم والضالين مطلقهما كما يشعر به

ص: 137

قوله سلموا من الغضب والضلال، ليكون ذات البدل عين ذات المبدل منه، وان اكتفى في اتحادهما ذاتا بمجرد صدق أحدهما على ما صدق عليه الآخر، فلا يخفى أن ما ذكر من الفائدة يتوقف على ما ذكرنا وتعقب هذا بأنه صح عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، كما في الدرّ المنثور وغيره أن المغضوب عليهم اليهود والضالين النصارى، فلو كان الموصول عبارة عن مطلق المؤمنين وأبدل منه غير الفريقين كان حسناً بلا محذور وحينئذ يفسر قول المصنف رحمه الله سلموا إلخ بالسلامة عن مثل الغضب والضلال الكائن فيهما، ومنهم من قال في تفسيره: إنه قد سبق أنّ المراد بالموصول المؤمنون، وقيل الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وقيل أصحاب موسى وعيسى إلخ فإن كان الأوّل، فالمراد بالمغضوب عليهم والضالين إن كان الذين أريد الانتقام منهم والعادلين عن الطريق السويّ، أو العصاة والجاهلين بالله فالصفة مقيدة إلاً أن يراد المؤمنون إيمانا كاملَا كما يدل عليه قوله فيما سيأتي لأنّ المنعم عليه من وفق للجمع بين معرفة الحق لذاته والخير للعمل به، وإن كان اليهود والنصارى فمبينة بل مؤكدة وان كان الثاني فمبينة على أي تفسير فسر المغضوب عليهم والضالين، وإن كان الثالث فكالأوّل، ثم إنّ قوله فيما سبق والمراد هو القسم الأخير إلخ يشير إلى وجه آخر، وهو أنّ المراد بالموصول المنعم عليهم بالنعم الأخروية، وما يتوصل به إليها من الدنيوية فإن حمل على المنعم عليه بجميع ذلك فالصفة مبينة، وان حمل على المنعم عليه في الجملة فمقيدة على المعنى الأوّل والثاني للمغضوب عليهم والضالين، ومبينة على المعنى الثالث. قوله:(على معنى أنّ المنعم إلخ) قيل فيما مرّ دلالة على أنّ الإيمان ينافي العصيان. وقوله: (على معنى إلخ) إنما يلائم الابدال والوصف الكاشف لا الوصف المقيد المخصص لأنّ المنعم عليه على هذا التقدير يكون أعمّ، فلا يصح الحمل هو هو إذ لا يقال الحيوان هو الإنسان، فكان عليه أن يؤخر قوله أو مقيدة عن هذا التفسير لثلا يقع الفصل بالأجنبي بين المفسر والمفسر، وهذا مع أنه غير مسلم إنما يرد على غير ما في النسخة الأولى، وقيل إنه إشارة إلى حمل الموصول على المؤمنين والنعمة على الإيمان والمغضوب عليهم والضالين على الأوّل أو الثاني، ويجوز أن

يراد أيضاً أنها مبينة بحسب الظاهر، ومقيدة بحسب العاقبة والنظر إلى الموافاة، ثم إنّ لفظ الذين يقع صفة وموصوفاً بخلاف من وما من الموصولات فإنهما لا يوصف بهما كما في الرضى وغيره من كتب العريية، وفي نسخة بين النعم المطلقة التي أثبتت لهم بطريق الصلة، وبين السلامة من الغضب والضلالة التي أثبتت لهم بطريق الصفة وسمي الإيمان نعمة مطلقة لاشتماله على سعادة النشأتين، فكأنه مشتمل على جميع النعم فينصرف المطلق إليه. قوله:(وذلك إنما يصح الخ) إشارة إلى الوصفية أو اصا سبق، وهو جواب عن سؤال مقدّر وهو أن غير أو مثلَا ونحوهما من الأسماء المتوغلة في الإبهام قال النحاة: إنها لا تتعرّف بالإضافة، فلا يوصف بها المعرفة ولا يبدل على المشهور من مغ إبدال النكرة من المعرفة كما سيأتي، فما وجه ما مرّ من تجويز ما ينافيه فأجاب بوجهين إمّا من جانب الموصوف أو من جانب الصفة، فالأوّل أنّ الموصوف هنا معنى كالنكرة، فيصح أن يوصف بها لأنه لم يرد بالذين أنعمت عليهم قوم بأعيانهم ولا جميعهم، فهو عهد ذهني وحكمه حكم النكرة وإن جاز مراعاة لفظه، وظاهره بمعاملته معاملة المعرفة والموصول حكمه حكم المعرف باللام، فتجري فيه أقسامه وأحكامه هذا محصل ما قرّروه هنا، ولما وود عليه أنّ الموصول حمل أوّلاً على المؤمنين أو أصحاب موسى وعيسى أو الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، فهو معهود خارجيّ ولو سلم عدم العهدية في الأوّل، فلا ينبغي سلبها على الإطلاق لعدم جربه على جميع الوجوه أشار الشارح المحقق إلى دفعه بأنه جواب جدليّ أي لا نسلم أنّ غير المغضوب على تقدير الوصفية صفة للمعرفة، ولو سلم فلا نسلم أنه نكرة ومعوّل الزمخشريّ على تعريف غير، ولذا أخره وقال قدّس سرّه: يجوز أن يريد بما ذكره أو لا طائفة من المؤمنين لا بأعيانهم وإذا حمل على الاستغراق المتبادر من العبارة تعين أن يكون ما ذكر في الجواب وجهاً رابعاً لتلك الثلاثة، وهو العهد الذهني كما يشهد له. تشبيهه بقول الشاعر، وذكر بعضهم أنّ المستغرق لا يحيط العلم بحصره لكثرته فاشبه النكرة، وعومل معاملتها، وهذا مع كدم اشتهاره في الاسنعمال يدفعه

ص: 138

ذلك التثبيه دفعاً ظاهراً، واعترض عليه بأنه تعسف يأباه النظر الصحيح، وحمل الموصول على ما ذكر مع بعده غير مناسب لجعل طريقهم مشهودا عليه بالإشقامة علماً فيها مع أنه يؤل بالآخرة لذلك، ولا فرق بين كونه جدلياً، وكونه وجها آخر غير ما قدّمه (بقي ههنا بحبث ينبني التنببه له) : فإنّ أهل الأصول جعلوا الموصول من صيغ العموم. والنحويون وأهل المعاني، جعلوه معرفة، وقالوا تعريفه بالعهد الذي في الصلة على ما حقق في شرح الرسالة الوضعية وكلامهم هنا على أنّ المقصود من الموصول أما المعهود الذي هو حصة معينة من الجنس أو الجنس من حيث تحققه في ضمن فرد مّا، وهذه مسالك متباعدة أو متنافية متنافرة، وقول المحقق هنا بعدما قرّر الجواب نعم يتجه أن يقال: جواز الوصف بالنكرة إنما يكون إذا أريد البعض المبهم كاللثيم ولا

كذلك الموصول ههنا فكأنه مال إلى تعريف غير وعول عليه، ولذا أخره ليس بشاف فليحرّر وقوله كالمحلي باللام هذه عبارة مشهورة لأهل العربية، فيقولون للمعرف باللام محلي جعلوا التعريف حلة للنكرة، فهو استعارة صار حقيقة اصطلاحية فيما ذكر، وقيل إن التعبير إشارة إلى أن اللام لمجرّد تزيين اللفظ من غير زيادة معنى فيه. وفيه نظر. قوله:(ولقد أمرّ على اللئيم إلخ) هذا الشعر لرجل من بني سلول وهو هكذا:

ولقدأمرّعلى اللئيم يسبني فمضيت ثمت قلت لايعنيني

غضبان ممتلئاعليّ إهابه إني وربك سخطه يرضيني

وروى فأعف ثم أقول وكون جملة يسبني صفة أظهر دلالة على المعنى المقصود منه،

وهو التمدّح بالوقار لأنّ المعنى على لئيم عادته المستمرّة سبه لي، وهو اقعد وأدل على ما أراد ولا شك أنه لم يرد كل لئيم ولا لئيماً معينا وأمرّ بمعنى مررت، وعبر بالمضارع حكاية للحال الماضية كما في خصائص ابن جني أو للاستمرار التجددي وهذا أولى من جعل قوله: فمضيت قرينة على أنّ المراد بأمر مررت فمضيت بمعنى أمضي، وعبر به للدلالة على تحقق إعراضه عنه، ولم يرتضوا الحالية في جملة يسبني لأنّ المعنى ليس على تقييد المرور بحال السب بل على أنّ مروراً مستمرّا في أوقات متعاقبة على لئيم مّا من اللئام اتخذ سبه دأبا له، وهو يضرب عنه صفحا لاغضائه عن السفهاء وقد قالوا ما تساث اثنان الآ غلب ألامهما فالسكوت أجمل، وقال بعض الأعراب:

لايغضب الحرّعلى سفلة ~ والحرّ لا يغضبه النذل

إذا لئيم سبني جهده ~ أقول زدني فلي الفضل

ولذا قال تعالى: {وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا} [الفرقان: 63] ولا يعنيني بمعنى لا يريدني أو لا يهمني الاشتغال به، والانتقام منه وقيل: كأنه يسب نفسه في تصوّرها بصورة أخرى وثمت، ثم العاطفة، وتختص زيادة التاء فيها بعطف الجمل عند المازني وخالفه بعض النحاة فيه، وهي هنا للتراخي في الرتبة. قوله:(إني لامرّ إلخ) مثال آخر لما لا يتعرّف بالإضافة، وقد وصف به المعرفة لأنها في معنى النكرة، وهو أظهر في الوصفية من البيت لاحتمال الحال فيه، وذهب الأخفش إلى أنّ اللام في هذا المثال زائدة، وارتضاه أبو علي وابن جني ورده غيرهم من النحاة، وفي الدرّ المصون: إنّ الموصول لإبهامه يشبه النكرة فيصح أن يوصف بالنكرة وإن لم يؤوّل وفيه نظر. قوله: (أو جعل غير معرفة بالإضافة إلخ) قال صدر الأفاضل: غير لها ثلاثة مواضع أحدها أن تقع موقعاً لا تكون فيه معرفة وذلك إذا أريد

بها النفي الساذج نحو مررت برجل غير زيد الثاني أن تقع موقعا لا تكون فيه إلأ معرفة، وذلك إذا أريد بها شيء قد عرف بمضادّة المضاف إليه في معنى لا يضاده فيه إلاً هو، كما إذا قلت مررت بغيرك أي بالمعروف بمضادّتك إلاً أنه في هذا لا يجري صفة، فتذكر غير جارية على موصوف الثالث أن تقع موقعاً تكون فيه نكرة تارة ومعرفة أخرى كقولك مررت برجل كريم غير لئيم اهـ قيل ومن هنا تبين أنّ من قال: إنها لا تتعرّف أصلاً لم يصب، وكذا ما قاله المصتف هنا لأنّ ما ذكر لم يعرف بمضادة المضاف إليه، وهو الشرط فلا تعرف وان سلم فهي لا يوصف بها فلا يفيده ما ادعاه شيئاً، وليس بشيء فإن المغضوب عليه ضد للمنعم عليه، وانكاره مكابرة، وأمّا كونه لا يقع صفة، فلا بدّ له من دليل وكلام صدر

ص: 139

الأفاضل لا يعارض ما قاله مثل الزمخشريّ، وابن السراج، وقد نقله أبو علي في التذكرة عن الفراء، وناهيك به إلآ أنّ أبا عليّ ردّه في التذكرة بقوله تعالى:{رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ} [فاطر: 37] وأجاب عنه ابن الصائغ في حواشيه على الكشاف بأنّ صالحا حال قدّمت على صاحبها، وهو غير الذي أو غير الذي بدل من صالحا، ولو قيل: ضد الصالح الطالح، والذي كانوا يعملون فرد من أفراده، فليس بضد لم يبعد، ثم إنّ ما ذهبوا إليه من عدم تعرّف مثل وغير وحسب وسوى اختلفوا في وجهه فقال ابن السراج والسيرافيّ: هو شدّة الإبهام لأنّ غير صالح لكل مغاير.

وقال سيبويه والمبرد: هو كونه بمعنى اسم الفاعل، وهو مغاير ومماثل وكاف وما ذكره المصثف رحمه الله كما في الدرّ المصون إنما يتمشى على مذهب ابن السراج، وهو مرجوح أمّا على مذهب سيبويه فلا لأنّ ما إضافته غير محضة إذا قصد به الثبوت يتعرف بالإضافة كما مرّ، وأحد الضدين هنا المنعم عليه لأنّ المراد به المؤمنون الكاملون علماً وعملاً، والآخر المغضوب عليهم إن اتحدوا مع الف لين أو مجموعهما إن لم يتحدوا فلا يرد أنه ليس له ضد وإحد بل ضمدان، وضمير هو للضد والضمير في يتعين لغير وقوله تعين الحركة غير السكون في نسخة من غير السكون بمعنى تبينها بها وغيرها.

وبضدها تتبين الأشياء والبحث هنا بأنه كما لا يجوز وصف المعرفة بالنكرة لا يجوز إبدالها منها.

والجواب عنه بأنّ ذلك إنما هو إذا لم يفد البدل معنى زائدا على المبدل منه، فإن أفاده

جاز كمررت بابنك خير منك غير متجه لما عرفته من أنه توجيه للبدلية والوصفية معا صراحة وضمنا لاتحادهما على ما ذكر تعريفا وتنكيراً، وفي جوابه أيضا شيء، فإنهم صرحوا بجوازه مطلقاً، واشترط الكوفيون في إبدال النكرة من المعرفة شرطين اتحاد اللفظ، وأن تكون النثرة موصوفة نحو لنسفعاً بالناصية ناصية كاذبة، ووافقهم ابن أبي الربيع على الثاني وما ذكر لا يوافق

شيئاً من المذاهب فتأمّل. قوله: (وعن ابن كثير نصبه على الحال) قال قدس سرّه فلا بدّ أن يكون نكرة على الوجه الذي أشرنا إليه، وقد يجعل بمعنى مغاير لتكون إضافته لفظية، كما يشهد له إدخال اللام عليه في عبارة كثير من العلماء لكنه مما لا يرتضيه الأدباء، وقالوا لم نجد له شاهدا في كلام يستشهد به اهـ وما أشار إليه هو كون التضاد ليس بمحقق، فيكون نكرة على أصله من مذهب ابن السراح وكونه بمعنى مغاير مذهب سيبويه كما مرّ، وفي قوله لتكون إضافته لفظية قصور ظاهر مما أسلفناه، وأيضا إذا لم يكن دخول اللام عليه مرضيا للأدباء وهم علماء العربية ومنهم أهل اللغة كيف يتأتى استشهاده به. وفي المصباح لم يسمع دخول اللام عليه واجترأ بعضهم، فأدخلها عليه لأنه لما شابه المعرفة بإضافته إلى المعرفة جاز أن يدخل عليه ما يعاقب الإضافة وهو الألف واللام، ولك أن تمنع الاستدلال وتقول الإضافة هنا ليست للتعريف بل للتخصيص والألف واللام لا تفيد تخصيصاً، فلا تعاقب إضافة التخصيص مثل سوى وحسب فإنه يضاف للتخصيص ولا تدخله الألف واللام اهـ وفي الدرّ المصون تعريفه باللام خطأ وجعله حالاً من الذين ضعيف لأنه ليس من مواضع الحال من المضاف إليه، وصرح بأنّ العامل أنعمت مع ظهوره إشارة إلى اتحاد عامل الحال وذيها، فإنّ المشهور لزومه ومنهم من جوز اختلاف العامل في الحال وصاحبها كما نقله الرضى عن المالكيّ، أمّا الأوّل فظاهر، وأمّ الثاني فلأنّ الذي في محل نصب أو رفع عند التحقيق هو المجرور، وقولهم الجارّ والمجرور في محل كذا تسامح، قيل: وهو في غير الخبر وتقدير أعني مذهب الخليل، قيل: وعليه فالمراد بالذين أنعمت عليهم المؤمنون الكاملون كما إذا كان بدلاً أو صفة كاشفة، وهو بناء على ما يتبادر من أنه للتفسير، والمفسر عين المفسر، وقيل عليه: إنه غير لازم لأنه قد يراد أعني منهم، فلا ينافي العموم، وقد قال شيخنا في الآيات البينات إنّ الغالب في كلام المصنفين استعمال أي فيما هو ظاهر وأعني فيما فيه نوع خفاء وقد يستعملان بمعنى قيل وهذه الرواية عن ابن كثير شاذة خارجة عن السبعة. قوله:(أو بالاستثناء إلخ) قد تقرّر في النحو أنّ غيرا يستثنى بها، فتكون منصوبة عن تمام الكلام عند المغاربة، كانتصاب الاسم بعد إلاً عندهم واختاره ابن عصفور، وعلى الحال عند الفارسيّ، واختاره ابن مالك، وعلى التشبيه بظرف المكان عند جماعة، واختار. ابن الباذس وقوله

ص: 140

بالاستثناء يجري على الأقوال والظاهر أنه على الأول منها، والمراد بالقبيلين في كلامه المؤمن والكافر لأنّ مطلق النعم على ما مرّ يشملهما، وقيل: المغضوب عليهم والضالين، والأوّل هو الصحيح وإنما قيده بذلك ليكون الاستثناء متصلاً على الأصل وليس بلازم، وقد ذهب جماعة هنا إلى أنه منقطع فلا حاجة له غير بيان الراجح عنده، وقد اعترض الفراء على الاستثناء بأنّ لا لا تزاد إلاً إذا تقدمها نفي كقوله:

ما كان ب رضى رسول الله فعلتها والطيبان أبو بكر ولا عمر

ومنع مستندا إلى أنها وردت زائدة من غير تقدّم نفي كقوله تعالى: {مَا مَنَعَكَ أَلَاّ تَسْجُدَ} [الأعراف، الآية: 12] وقوله:

وتلحفني في اللهو أن لا أحبه وللهو داع دائب غير غافل

وغيره مما لا يحصى من الشواهد، وكأنه أراد أنها لا تزاد بعد الواو العاطفة، وحينئذ لا

يتم السند فتأمّل. قوله: (والنضب إلخ) الثوران بفتحات كهيجان لفظاً، ومعنى من ثار يثور إذا تحرّك بسرعة، والنفس تطلق على معان منها الذات والروح، والدم والقوى الحيوانية المقابلة للقوى العقلية، كما قاله الغزالي رحمه الله في كتاب معارج القدس. والمراد هنا إمّا النفس الناطقة لأن الغضب من كيفياتها أو الدم كما قال الراغب الغضب ثوران دم القلب لأنه يكون من تحرّك الحرارة الغريزية لحركة النفس ولذا ورد في الحديث:" اتقوا النضب فإنه جمرة تتوقد في قلب ابن آدم " ألم تروا إلى انتفاخ أوداجه وحمرة عينيه، والدم مركب الروح الحيواني، فلذا احمرّ الوجه وانتفخت العروق حينئذ، ويجوز أن يراد بها القوى الحيوانية، والانتقام افتعال من النقمة وهي العقوية قال تعالى:{فَانتَقَمْنَا مِنْهُمْ} [الأعراف: 136] أي عاقبناهم أشد عقوبة، وقوله إرادة منصوب على أنه مفعول له، والغضب فسر تارة بحركة للنفس مبدؤها إرادة الانتقام كما في شرح المفتاح للسعد وتارة بإرادة الانتقام كما في شرح الكشاف له، وتارة بكيفية تعرض للنفس، فيتبعها حركة الروح إلى خارج طلباً للانتقام كما في شرح المقاصد، ويقرب منه ما قيل إنه تغير يحدث عند غليان دم القلب وقال قدّس سرّه: إنه سبب قريب لإرادة الانتقام، وسبب بعيد لنفس الانتقام، وأمّا شهوة القلب للانتقام وميله إليه فمتقدّمة على الغضب، ولذا وفق بعض المحققين بين جعل إرإدة الانتقام متقدمة تارة ومتأخرة أخرى بأن قال: إرادة الانتقام سبب الغضب إرادة بالإرادة الشهوة، وغايته إرادة الضرر، فقول المصتف رحمه الله أرادة الانتقام إمّا علة متقدّمة أو غاية متأخرة، وعلى الأوّل فمراده بالمنتهى الانتقام، وعلى الثاني إرادته أو نفسه إطلاقا لاسم السبب على مسببه القريب أو البعيد. قوله:(على ما مرّ) أي في أسمائه تعالى قال العلامة القرافي في كتاب القواعد: كل ما يستحيل حقيقة عليه تعالى، فهو محمول على المجاز كالرحمة والغضب، واختلف السلف فيه فقال الأشعريّ: المراد به إرادة الإحسان، وارادة العقاب. وقال أبو بكر الباقلاتي: المراد أنه يعاملهم معاملة الراحم والغضبان، فيراد بالأوّل الإحسان نفسه، وبالثاني العقاب نفسه وقس عليه، وفي القرآن مواضع منها ما يشهد للأوّل كقوله تعالى:{وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَّحْمَةً وَعِلْمًا} [غافر:

) 1 (أخرجه الترمذي 92 1 2 وأحمد 3 لم 319 وأبو يعلى 1 0 1 1 من حديث أبي سعيد الخدري مطولاً، قال الترمذي: حسن صحيح اهـ. وفي إسناده علي بن زيد بن جدعان وهو ضعيف.

وأخرجه الديلمي 4313 من حديث أنس.

7] فإن الاقتران بالعلم والوصف بالسعة لعموم تعلق الإرادة، ومنها ما يشهد للثاتي كقوله:{هَذَا رَحْمَةٌ مِّن رَّبِّي} [000:. . .] فإنّ الإشارة للسدّ وهو إحسان منه، ومنها ما يحتملهما كما في الفاتحة اهـ.

وما ذكره المصنف رحمه الله تعالى أخذه بحروفه من التفسير الكبير، وقولهم إنما يؤخذ باعتبار الغايات دون المبادي الحصر فيه إضافيّ، والمراد بالمبادي مبادبه المخصوصة المستحيلة على الله كرقة القلب وثورإن النفس، فلا يرد عليه أنه قد يؤخذ باعتبار الأسباب كما اختاره التفتازاني، وقد يجعل اسنعارة من غير نظر للمباديء والغايات كما سيأني وما في الكشاف من أن معنى غضب الله إرادة الانتقام من العصاة وإنزال العقوبة بهم وأن يفعل بهم ما يفعله الملك إذا غضب على من تحت يده حمله الشارح المحقق على أنّ الغضب مجاز عن سببه، وهو إرادة الانتقام وضبط إنزال العقوبة بكسر اللام عطفاً على الانتقام، وكذا وأن يفعل، وقال قدّس سرّه: الغضب والرحمة من الأعراض النفسانية المستحيل إطلاقها عليه تعالى، فيصرف الكلام عن ظاهره، وذلك من وجوه الأوّل أن تجعل الرحمة إرادة الإنعام والغضب إرادة الانتقام إطلاقا لاسم السبب. على المسبب القريب

ص: 141

الثاتي أن يجعلا مجازاً عن الإنعام والانتقام إطلاقا لاسم السبب على المسبب البعيد الثالث أن يحمل الكلام على الاستعارة التمثيلية، والمصنف اختار في الرحمة الثاني وفي الغضب التمثيلية بأن تشبه حاله تعالى مع العصاة في عصيانهم له، وإرادته الانتقام منهم وإنزاله العقوية بهم بحال الملك إذا غضب على من عصاه فأراد أن ينتقم منه ويعاقبه ألا ترى إلى قوله: وأن يفعل بهم إلخ فإنه نبه به على علاقة المشابهة، وإلى اعتبار التركيب حيث قال: هو إرادة الانتقام، وإنزال العقوية برفع اللام كما في النسخ المعوّل عليها فقوله، وان يفعل مرفوع المحل أيضاً، وتوهم الجر لجعل الغضب مجازاً عن الإرادة لا الانتقام والرحمة الإنعام دون إرادته إشارة إلى سبق رحمته غضبه مخالف للنسخ ولا يكون لقوله: وإنزال العقوبة فائدة وعليه، فالتعرّض للتشبيه مستدوك فالواجب أن يقال لأنّ الملك إذا غضب على من عصاه أراد أن ينتقم منه ونكتة السبق مجرّد تخيل، فإنّ إرادته تعالى إذا تعلقت بأفعاله أفضت إليها إجماعا، والوصف بالإنعام والانتقام أقوى في الترغيب والترهيب من الوصف بإرادتهما، وقال ابن جني: إنه صرح بإسناد النعمة إليه تقرباً وروى عنه إسناد الغضب تأدّباً كأنه قيل: الإنعام فائض من جنابك، وأمّ أولئك فيستحقون أن يغضب عليهم.

(أقول) لنا فيه كلام من وجوه:

(الأوّل) إنّ تأييد الرفع الذي بنى عليه بعض مدّعاه بصحتة رواية لأنه الموجود في النسخ المعتمدة مع أنه ضبط قلم معارض بأن قوام الدين الاتقاني ضبطه بكسر اللام، وقال فيما كتبه عليه: هكذا هو بخط المصنف، كما في بعض الحواشي.

(الثاني، اًنّ قوله: ولا يكون لقوله: وانزال العقوبة فائدة ليس كما قال بل له فائدة أحسن

مما ذكره، وهو تفسير الانتقام إذا وصف به العزيز المنتقم لأنه قد يكون بمعنى الإنكار كما في قوله تعالى:{وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ} [البروج: 8، وتشفي النفس كعطفه عليه عطفاً تفسيريا للاحتراز وأقي فائدة أتتم من هذه.

(الثالث) أنّ ما عوّل عليه من استدراك التشبيه غير وارد لأنّ هذه عبارة السلف كما أسلفناه وفيها معنى دقيق، وهو الإشارة إلى أنّ هذه السببية معروفة مشهورة، وأنها باعتبار غضب العظماء، فإنّ غضب غيرهم لا يلزمه ما ذكر وأن أفعاله تعالى لا ترتبط بالأسباب وانما هو جار على نهج كلامهم فتدبر.

(الرابع (أنه يلزمه أن تكون هذه الاستعارة التمثيلية مما اقتصر فيه على ذكر بعض ألفاظ الهيئة المشبه بها كما سيأتي في قوله تعالى: {أُوْلَئِكَ عَلَى هُدًى} [ممورة البقرة: 5] وأنه إنما يكون إذا كان مدلوله هو العمدة في تلك الهيئة كما حققه ثمة ولا شك أنّ معنى الغضب ليس كذلك بل قيل: إنه ليس من أجزاء الهيئة المشبه بها إذ لا نظير له في الهيئة المشبهة وأمّا قوله وأن يفعل إلخ فظاهر مما مرّ وقيل إنه إشارة إلى أنّ علاقة السحبية في نوع المعنى المجازي كما ذكر أنّ الرحمة مجاز عن إنعامه لأنّ الملك إذا عطف على رعيته ورق لهم أصابهم بمعروفه وانعامه. وقوله هو أي غضب الله إرادة الانتقام لا يلائم الاستعارة التمثيلية فإنها جميع الألفاظ الدالة على الهيئة المشبه بها ولا شيء منها بمستعمل في غير ما وضع له وانما يراد بالمجموع الهيئة المشبهة، فلا يكون معنى غضب الله ما ذكره والآ لكان مستعملَا فيه، وليس كذلك كما عرفته فاعرفه ترشد.

(الخاس) أنّ قوله: ونكتة السبق مجرّد تخيل إلى السبق المذكور ورد في الحديث الصحيح،، فلا يصح أن يقال فيه أنه تخيل وانما أراد أنّ ابتناء تفسير الرحمة بالإنعام، والغضب بإرادة الانتقام عليه مجرّد تخيل لا يدل عليه كلام الزمخشريّ، ولا يقتضيه النظم القرآني، ومثله الغاز لا يليق ببلاغة القرآن، فإن أردت توضيحه فاصح لما يتلى عليك فنقول السبق فسر في الحديث بمعنا. الظاهر، وهو التقدّم، وبالغلبة أي الزيادة الكثيرة، فلما جعلت الرحمة، والغضب تارة من صفات الأفعال وأخرى من صفات الذات جاز حملهما معا على أحدهما، وحمل أحدهما على وجه دون لآخر، فالاحتمالات أربعة والظاهر كونهما على نهج واحد، ولا يعدل عنه إلاً لنكتة يخصصها المقام فيجعل اقتضاؤه قرينة على تغايرهما، والزمخشريّ لما فسر الأول بالإنعام الذي هو صفة فعل، والثاني بالإرادة التي هي صفة ذاتية، ومثله لا يقرع له العصا علم أنه أنسب بالنظم، وهو كذلك لأنه قدم لفظاً وكرر معنى، وص هح بوقوعه في قوله أنعمت، فناسب ذلك تفسيره بالإنعام، لأنه وصف جميل وهو في مقام المدح والامتنان يقتضي الوقوع

عاجلاً وخير البرّ عاجله، فينبغي تفسيره بما يدل على ذلك

ص: 142

وهو الإنعام والانتقام العقاب، فهو وعيد تمدّح بخلفه ولذا قال الطيبي رحمه الله غضبه تعالى على عباده وعيد، وهو كريم يتجاوز عنه بفضله كما قال:

واني وان أوعدته أو وعدته لمخلف إيعادي ومنجز موعدي

فلا يرد عليه أنّ الإرادة صفة ذاتية قديمة، فتفسير الرحمة بالإرادة أوفق للحديث، وأمّا

كونه أنسب بمقام الترغيب والترهيب فقد يقال: المقام مقام ترغيب لا غير فنفي إرادة الانتقام أبلغ من نفيه، وأنسب لحال المؤمنين المقصودين بالذات هنا، ثم إق الغضب وان كان منفيا صريحا فهو مثبت ضمناً، وقد أسند إليه في غير هذه الآية فلا يرد أن ادخمضب منفيّ فلا حاجة للتجوّز فيه، وسيأتي تحقيقه في قوله تعالى:{إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي} [البقرة: 26] الآية وأمّا ما قيل: من أنّ الغضب مشترك بين ما ذكرو.، وبين ما يصح إطلاقه عليه تعالى كالإرادة المذكورة فإطلاقه على الله حقيقة كغيره من الصفات التي تطلق على العباد كالسميع البصير إن أراد أنه كذلك في الوضع اللغوي، فمخالف للمعقول والمنقول، وان أراد في عرف الشرع ولسانه جاز لكنه لا يرد على من حقق مجازيته، ونحن أطلنا هنا فإنه لا يسأم من الخير. قوله:(وعليهاً في محل رفع إلخ (لا يخفى أنّ معنى الإعراب المحليّ أن يكون فيما لا يقبل الإعراب لفظاً، كالمبني والجمل بحيث لو حل محله اسم مفرد خال من موانع الإعراب كلها مستوف لشرائطه أعرب بذلك الإعراب، ولا يشترط أن يكون قابلاً للإتصاف به بالفعل، إذ لا يتصوّر فيما مرّ مع اتفاقهم على إعرابه محلاً، فلا معنى لما قالوه هنا من أنّ في هذا تسمحا إذ ليس في محل الرفع إلاً المجرور، إلاً أنّ الخبر إذا كان ظرفا أو جاراً ومجرورا فهو كله في محل رفع لأنه القائم مقام الخبر عندهم، وفي الحجة أنّ حروف الجر تنزل منزلة بعض حروف الفعل فباء ذهب به بمنزلة همزة أذهبه، وقد تنزل منزلة بعض حروف الاسم المجرور بها في حكم الإعراب، وما قيل من أنّ نائب الفاعل فاعل عند نحاة البصرة ومن تبعهم، وليس بفاعل عند ابن الحاجب وغيره من النحاة، وكلام المصتف بناء على المذهب الثاني إلأ أنه خالفه في سورة الجن في إعراب قوله تعالى: {قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِّنَ الْجِنِّ} [الجن: ا] فأعربه فاعلاً الأمر فيه سهل لمن تدبز. وقوله: (بخلاف الأوّل) هو عليهم في أنعمت عليهم، فإنه في محل نصب على المفعولية. قوله:(ولا مزيدة إلخ) قيل كلمة لا في ولا الضالين مزيدة عند أهل البصرة بل وانما تزاد بعد الواو العاطفة في سياق النفي للتأكيد وا أضصريح، لشمول النفي لكل واحد من المعطوف والمعطوف عليه لئلا يتوهم أنّ النفي هو المجموع من حيث هو مجموع، فليست زيادتها مؤدّية إلى لغويتها وانما ذلك بحسب أصل المعنى المراد والكوفيون يجعلونها هنا بمعنى غير، وقد مرّ أ+نه لم يقل غير الذين غضبت تأذبا فتذكره. قوله:(فكأنه قيل لا المغضوب عليهم ولا الضالين) . قيل على هذا أنّ كلمة لا في قول المصتف رحمه الله لا

لث! اب / ج / م هـ ا

المغضوب عليهم ليست عاطفة، إذ لم يرد اهدنا صراط المنعم عليهم لا صراط المغضوب عليهم، فيتعين كونها بمعنى غير، وهو مقرّر عند النحاة حتى قال السخاوي: إنّ لا فد تكون اسماً مراد، فا أنحير لكنه يظهر إعرابه فيما بعده، لكونه على صورة الحرف، ولذا جاز تقديم معمول ما بعدها عليها كما سيأتي، فلا فائدة في تبديل غير بلا هنا في تصوير المعنى.

وأجيب عنه بأنه لما كانت موضوعة للنفي مشتهرة فيه فهي أمّ بابه والعلم في الدلالة عليه صارت أظهر في إفادة معناه، وهذا هو فائدة التبديل هنا، ثم إنهم قالوا إنّ معنى النفي إمّا لازم معناها كما يفيده كلام السيد السند وإمّا جزء معناها، كما يدل عليه كلام المحقق التفتازاني وعليهما، فإثبات المغايرة متضمن للنفي، فيجوز تكبده بلا، وقد ترد لصريح النفي، ولك أن تقول إنّ الأوّل بحسب معناها الوضعيّ، والثاني بحسب ما يفهم من موارد استعمالها فلا مخالفة بين الوجهين. قوله:(ولذلك جاز أنا زيدا غير ضارب إلخ) أي لأنّ غير لتضمنه معنى النفي صار بمنزلة لا في جواز تقديم ما في حيزه عليه، وإن كان السول إنما يجوز تقدمه إذا جاز تقدّم عامله، والمضاف إليه لا يجوز تقدمه على المضاف، فكذا سوله إلاً أنه لما ذكر صارت إضافته كلا إضافة وانما يمنع النفي تقدم ما بعده عليه إذا كان بما لان، فإنهما لدخولهما على الفعل والاسم أشبها الاستفهام، فطلبا صدر الكلام بخلاف لم، ولن فإنهما اختصا

ص: 143

بالفعل وعملا فيه وصارا كالجزء منه فجاز أن يقال زيدا لم أضرب وعمراً لن أضرب، وأمّ لا فإنها مع دخولها على القبيلين جاز التقديم معها لأنها حرف متصرّف فيه حيث أعمل ما قبلها فيما بعدها، كما في أريد أن لا تخرج وجئت بلا طائل، فجاز أيضاً أن يتقدم عليها سول ما بعدها بخلاف ما إذ لا يتخطاها العامل أصلاً، وإن جوّز الكوفيون تقديم ما في حيزها عليها قياساً على أخواتها.

(أقول) هذا ما قاله قدس سرّه وارتصاه هنا ولا يخفى ما فيه، فإنه لما حقق أنّ صدارة أدوات الئفي إنما هي إذا لم تختص بقبيل، وكانت لا كذلك استشعر منافاته لما هو المقصود فدفعه بأنه جاز فيها ذلك لتخطي العامل رقبتها، وهو مصادرة منافية لما أراد فإنّ تخطيه لها إنما هو لعدم صدارتها وهذا غريب منه، وقد قال أبو حيان رحمه الله بعدما ذكر ما في الكشاف: أورد الزمخشريّ هذه المسئلة على أنها مسئلة مقرّرة مفروغ عنها ليقوّي بها التناسب بين غير، ولا إذ لم يذكر فيها خلافاً، وما ذهب إليه مذهب ضعيف جدّا، وقد بناه على جواز أنا زيدأ لا ضارب، وفي تقديم معمول ما بعد لا عليها ثلاثة مذاهب، وكون اللفظ يقارب اللفظ في المعنى لا يقضي له أن تجري أحكامه عليه، ولا يثبت تركيب إلاً بسماع من العرب، ولم يسمع أنا زيدا غير ضارب، وقد ذكر النحاة قول من جوّزه وردّوه اهـ. قوله:(وإن امتنع أنا زيدا مثل ضارب) تبع المصتف رحمه الله فيه الزمخشريّ وهو أخذه برمته من تفسير الزجاح كما نقله الطيبي، وقد مرّ اعتراض أبي حيان عليه.

(فإن قلت) إذا كان تاويل المضاف بحرف مختلف في صدارته مجوّزاً لتقديم ما في حيزه عليه، فلم امتغ أنا زيداً مثل ضارب مع أنّ مثل بمعنى الكاف، وان كانت العلل النحوية لا يلزم إطرادها (قلت) هذا وارد بغير شبهة، وفي حواشي ابن الصائغ أنّ أبا الفتح بن جني أجازه أيضا لأنّ معنى مثل ضارب أشبه ضارباً أو كضارب، ومنعه ابن السراح على تقدير عمل المضاف إليه، وأجازه على تقدير عمل ما يدل عليه، وبه أخذ أكثر المتأخرين وابن مالك، وذكر الجرجاني في نظم القرآن أنّ فائدة دخول لا في، ولا الضالين نفي توهم عطف الضالين على الذين، وقراءة غير الضالين نسبها السجاوندي إلى عمر وعليّ وأبي بكر رضي الله عنهم، وهي تؤيد كون لا وغير بمعنى لتعاقبهما ولذا أوردها المصنف وحمه الله هنا، وفي القاموس وأمّا قراءة غير الضالين فمحمولة ععى أنّ ذلدث على وجه التفسير، وفيه نظر ظاهر. قوله:(والضلال العدول إلخ) هذا كلام الراغب بعينه، والسوفي والمستوي بمعنى المستقيم، والمراد المسلوك الموصل وفسره بعنصهم بفقدان الطريق السويّ سواء وجده أو لا وهو قريب مما ذكره المصتف. وقوله:) وله عرض عريض) ذكر الأدباء كالمرزوقي وصاحب الموازنة أنّ العرض على ضربين في المجسمات وفي غيرها، وفي الثاني يراد اتساع الشيء وامتداد وقته، وأكثر ما يستعمل فيه العرض دون الطول كنعمة عريضة، وجنة عرضها السموأت والأرض فذو دعاء عريض، وربما جمعوا بينهما فقالوا عشنا زمانا طويلاً عريضا، والدهر العريض الطويل فيراد الكمال والاتساع قال كثير:

بطاحيّ له نسب مصفى وأخلاف لها عرض وطول

فهذا على التشبيه بالمجسمات والقصد إلى السعة، وقد عيب على أبي تمام قوله:

بيوم كطول الدهر في عرض مثله ووجدي 3 ص هذا وهذاك أطول

وقيل جعل للزمان عرضا مع أنه لا حاجة إليه إذ كان بذكر الطول قد استوفى المعنى،

وهذا من قائله ظلم لأنه سلك مثل طريقه كثير من التشبيه بالمجسمة، وهذا كما قال في الأخلاق: لي عرض وطول وكذا في الزمان له كذا في عرض مثله ولا فصل.

(واعلم) أق في هذه العبارة منزعاً بديعا لم ينبهوا عليه، وهو كما أشار إليه في الأساس

أنّ حقيقة الضلال في الطريق المحسوس المسلوك لفقده، حتى لا يصل لقص ره ثم استعير لفقد العلم والعمل الموصل للسعادة، وشاع ذلك حتى صار حقيقة في عرف اللغة والشرع فقوله العدول إلخ إن أريد به ظاهره فهو بيان لمعناه الأصلي، وان أريد ما يطلق عليه الطريق القويم، والصراط المستقيم فهو بيان لمعناه الثاني المراد في النظم وعرض عريض صالح لهما كما مرّ، وان كان ما بعده ظاهراً في الثاني

ص: 144

ويقابله الهداية، ولما كان ما مرّ من تنويع مراتبها يقتضي تنوع

ما هنا أيضاً أشار إلى أنه لا ينضبط، ولا يعتنى به مع أنه قد يهتدي له من التقابل، وفي قوله عرض عريض مبالغة ليل أليل حيث أثبت للعرض عرضاً وما في قوله ما بين زائدة، وأدنى الضلال أقله إثماً كالزلات وأقصاه أعظمه، وهو الكفر قال تعالى:{إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان: 13] . قوله: (وقيل المنضوب إلخ) قيل هذا ضعيف لأنّ منكري الصانع والمشركين أخبث ديناً من اليهود والنصارى، فكان الاحتراز عن دينهم أولى.

(وأتول) الغضب والضلال، وردا جميعاً في القرآن لجميع الكفار على العموم حيث قال:

{وَلَكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِّنَ اللهِ} [ادنساء: 671] وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ اللهِ قَدْ ضَلُّواْ ضَلَالاً بَعِيدًا} [النساء: 167] ولليهود والنصارى جميعا على الخصوص حيث قال في حق اليهود من لعنه الله وغضب عليه إلخ. وفي حق النصارى {وَلَا تَتَّبِعُواْ أَهْوَاء قَوْمٍ قَدْ ضَلُّواْ} [المائدة: 77] كما في التيسير فالاستشهاد بهاتين الآيتين على أنّ المراد بالمغضوب عليهم اليهود وبالضالين النصارى ليس بسديد انتهى.

وقد قيل: على ما ذكره أوّلاً أن ابن أبي حاتم رحمه الله قال: لا أعلم خلافاً بين المفسرين في تفسير المغضوب عليهم باليهود والضالين بالنصارى (1) كما صححه ابن حبان والحاكم وحسنه الترمذي، وأخرجه جم غفير من المحدّثين كما قاله في الدرّ المنثور فهذا لا يصدر إلاً ممن لا إطلاع له على أقوال المفسرين والمحدّثين أعاذنا الله من الجراءة على تفسير كتابه، وقد يقال أيضا: من لا ملة له لا اعتداد به وهؤلاء أشدّ في الكفر والعناد وأعظم في الخبث والفساد، ولذا ضربت عليهم الذلة، وخص النصارى بالضلال لفرط جهلهم في التثليث ولكونهبم أقرب من اليهود للإسلام وصفوا بالضلال لأنّ الضالّ قد يهتدي. قوله:(لقوله تعالى فيهم {مَن لَّعَنَهُ اللهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ} [المائدة: 60] فيهم ليس من لفظ التلاوة بل من كلام المصتف رحمه الله ومعناه في حقهم وشأنهم وهكذا صحح في النسخ كما قاله بعض الفضلاء، ووقع في بعضها منهم بدل فيهم وهو تحريف من الناسخ، فلذا اعترض عليه بأنّ الآية في سورة المائدة وليس فيها منهم، فهو غلط في التلاوة والاستشهاد بالآيتين بناء على أنه ورد عن السلف تفسيرهما بذلك لما مرّ، فلا وجه للاعتراض على المصئف رحمه الله بأنّ الغضب والضلال مما وصف به الكفرة مطلقاً في مواضع كثيرة من القرآن كما في بعض الحواشي. وقوله: (وقيل إلخ) وقع في بعض النسخ بدون واو عاطفة، على أنها جملة مستأنفة لنقل بعض الأقاويل، وفي بعضها بها عطفا على ما علم من السياق من الإطلاق لوقوعه في

مقابلة من أنعم عليه بالنعمة المطلقة، وهي نعمة*الإيمان كما مرّ وفي بدائع ابن القيم ليس المراد بهذا التفسير التخصيص، فإنّ اليهود ضالون والنصارى مغضوبون، وإنما ذكر كل طائفة بأشهر صفاتها، وأخصها وفيه نظر. قوله:(وقد روي مرفوعاً إلخ) أخرجه أحمد في مسنده وحسنه ابن حبان في صحيحه عن عدفي بن حاتم وأخرجه ابن مردوية عن أبي ذرّ رضي الله عنهما بلفظ سالت وسول الله صلى الله عليه وسلم عن قول الله غير المغضوب عليهم قال: " هم اليهود ولا الضالين قال النصارى "(1) وأخرجه ابن جرير عن ابن عباس رضي الله عنهما وابن مسعود رضي الله عنه وقال ابن أبي حاتم: لا أعلم فيه خلافا عن المفسرين، فهذه حكاية إجماع منهم فكيف يعدل عنه بالرأي. قوله:(ويتجه إلخ) أي يسنح، ويظهر ظهوراً موجها وقيل معناه أنه لو فسر بهذا كان كلاماً موجها، وأن خالف ما عليه الجمهور ففيه إيماء إلى أنه ليس أولى كما قاله الإمام رحمه الله، فإنه اختاره في تفسيره فالمنعم عليه العالم العامل وأراد بالحق العقائد الثابتة في نفس الأمر المطابقة للواقع، وعبر عنها بذلك لأنها مقصودة لذاتها والتصديق بها لا للعمل كالفروع الشرعية، وتسمية هذه خيراً ظاهر، وفي ترك التعبير عنها بالحق إشعار بانها خير، وإن أخطأ المجتهد فيها إذ يثاب على العمل بها، ولم يذكر الشرّ للاجتناب عته كما في قوله تعالى:{وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ} أسورة البدد: 10] أي طريقي الخير والشر لدخوله في الخير بهذا الاعتبار واستلزام معرفته وقيل المراد بالحق ذاته تعالى وصفاته والذي عناه المصنف رحمه الله ما مرّ، وهو الموافق للأية الآتية وقوله لذاته متعلّق بالمعرفة، والمراد من كون المخل بالعمل مغضوباً عليه أنه مستحق لذلك عدلاً، فلا ينافي العفو تفضلاً وكرما، فسقط ما توهم من أنّ الغضب الانتقام أو إرادته، وإرادة الله لا تتخلف عن المراد، فيلزمه القطع

ص: 145

بتعذيب المؤمن العاصي، وهو مخالف لما عليه أهل الحق. قوله:(والمخل بالعمل إلخ) في نسخة بالعقل والتقابل في الأولى أظهر. وقوله: (وقرىء ولا الضالين) أي بهمزة مفتوحة مبدلة من الألف اللينة وهذه قراءة أيوب السختياني كما قاله ابن جني، وهي شاذة وهي لغة فاشية، ولا يلزم أن يكون بعد الألف ساكن، فإنه سمع في غيره كقوله:

وخندف هامة هذا العألم

بهمز العالم وقالوا في قراءة ابن ذكوان: منسأته بهمزة ساكنة أنّ أصلها ألف فقلبت بهمزة ساكنة. وقوله: (من جذ) أي اجتهد وبالغ، والهرب من التقاء الساكنين لأنّ التقاءهما إذا كان أولهما حرف لين والثاني مدغماً مغتفر ومن ترك الجائز فقد بالغ في الترك، والهرب مجاز عن الترك هنا، وفي التعبير به لطف لا يخفى.

(فائدة وتكميل) وقد مرّ قول ابن جني رحمه الله أنه أسند النعمة إليه في قوله تعالى

{أَنعَمتَ عَلَيهِمْ} تقرباً وانحرف عن ذلك عند ذكر الغضب إلى الغيبة تأدّباً وقال الشارح المحقق: هو كلام حسن ومعنى الغيبة ترك الخطاب، فكأنه فسره مع ظهوره إيماء إلى أنه افتنان لا التفات وفي المثل السائر وعلى نحو من الالتفات جاء قوله:{صِرَاطَ الَّذِينَ} إلخ فصرح بالخطاب لما ذكر النعمة، ثم قال غير المغضوب عليهم، ولم يقل الذين غضبت عليهم، لأنّ الأوّل موضع التقرّب إلى الله بذكر نعمته، فلما صار إلى ذكر الغضب زوى عنه لفظه تحنناً ولطفاً، فانظر إلى هذا الموضع، وتناسب هذه المعاني الشريفة التي الأقدام لا تكاد تطؤها والأفهام مع قربها صافحة عنها، وهذه السورة قد انتقل في أوّلها من الغيبة إلى الخطاب لتعظيم شأن المخاطب، ثم انتقل في آخرها من الخطاب إلى الغيبة لتلك العلة بعينها، وهي تعظيم شأن المخاطب أيضا لأن مخاطبة الرب تعالى بإسناد النعمة إليه تعظيم لشأنه، وكذلك ترك مخاطبته بإسناد الغضب إليه تعظيم لخطابه، فينبغي أن يكون صاحب هذا الفن من الفصاحة والبلاغة عالماً بوضع أنواعه في مواضعها اهـ وفي عروس الأفراح ذكر التنوخي في الأقصى القريب، وابن الأثير في كنز البلاغة، وابن الغلس في طرق الفصاحة نوعا غريبا من الالتفات، وهو بناء الفعل للمفعول بعد خطاب فاعله كقوله تعالى:{غَيرِ المَغضُوبِ} إلخ وفيه نظر. ولا نظر فيه عندي بل إمّا على رأي الأدباء والمتقذمين في اسنعمال الالتفات بمعنى الافتنان، فلا غبار عليه وأمّ على المتعارف فلك أن تقول على طريق السكاكي الذي لا يشترط تعدد التعبير بل مخالفة مقتضى الطا*ص أنّ المخاطب إذا ترك خطابه، وبنى ما أسند إليه للمفعول، والمحذوف كالغائب، فلا مانع من أن يسمى التفاتا، فكما يجري في الانتقال من مقدّر إلى محقق يجري في عكسه وهو معنى بديع ينبغي التنبه له. قوله:(لقوله تعالى إلخ) قيل عليه إنّ الاستشهاد بما ذكر لا يتم، نإنّ الغضب في المخل بالاعتفاد أيضاً على أنه لا يقتضي كون كل من أخل بالعمل مغضوبا عليه، ويدفعه ما قيل من أنّ مقابلة الضالين بالمغضوب عليهم تقتضي أن يراد بالضالين غير ما أريد بالمغضوب عليهم، ولما ورد الغضب في حق لمفاسق، والضلال في حق المخل بالاعتقاد ناسب أن يراد بالأوّل العصاة وبالثاني الجاهلون بالله تعالى، وليس مبنياً على عدم ورود الضلال في حق الفاسق فتأمّل. قوله:) اسم الفعل إلخ) ءدل عن قوله في الكشاف آمين اسم صوت لأنه غير ظاهر حتى أوّله شراحه بأنه تجوّز لقرب أسماء الأفعال من أسماء الأصوات، ولذا أوردهما النحاة في فصل واحد، أو لأنه اصطلح على أنّ الأسماء التي لا

يعرف وجه وضعها يعبر عنها بالأصوات وأسماء الأفعال مفروغ عنها في كتب النحو ومذهب البصريين أنها أسماء لتنوينها ووجود بعض علامات الأسماء فيها، وقال الكوفيون: أفعال نظرا لمعناها. وقيل: إنها خارجة عن أقسام الكلمة الثلاثة وتسمى عند هؤلاء خالفة وعلى الأوّل الجمهور، وهل هي اسم لمعنى الفعل، أو للفظه قولان، ولا محل لها من الإعراب وقيل: محلها النصب على المصدرية وقيل: في محل رفع على الابتداء، ولا خبر لها لسدّ معمولها مسده وحكمها حكم أفعالها في التعدي واللزوم غالبا ولا علامة للمضمر المرتفع بها قيل: وخرج بقيد الغلبة آمين فإنه بمعنى استجب المتعدي ولم يسمع له مفعول (أقول) قال النحاة: إنه كفعله غالبا ومن غير الغالب آمين وايه بمعنى زد، فإنه لم يسمع له مفعول وقيل لما لم يقع الأ بعد دعاء متقدّم، وكذا بعد حديث أريد به زيادته استغنى عن ذكر مفعوله، فهو إمّا معدى، أو منزل منزلة اللازم وسينه ليست للطلب، وانما هي مؤكدة ومعناه أجب وقال

ص: 146

العصام إنه ليس متعديا، وانما وضع لحدث متعد وهو استجابة الدعاء كالادلاج لسير الليل، ولا يقال أدلج الليل إذا سار ليلاً، فمعناه استجب دعاني والمفعول داخل في معناه، وهو معنى قول ابن مالك رحمه الله إنه لازم في معنى المتعدّي. وقوله:(الذي هو استجب) توضيح لما أراده من أنه اسم مسماه ألفاظ الأفعال، وإن قيل إنه تكلف لأنّ قائل آمين لا يخطر بباله لفظ استجب ولأنه لم يعهد فيما وضع للألفاظ الدالة على معانيها. وقيل: إنها موضوعة للمصادر السادة مسدّ أفعالها وردوه بوجوه مفصلة في شرح الكشاف والخلاف بين الفاضلين والانتصار لكل من الجانبين معروف مشهور، وقيل: إنه أعجمي معرب همين لأنّ فاعيل كقابيل ليس من أوزان العرب وردّ بأنه يكون وزنا لا نظير له ونظائره كثيرة ولذا قيل: إنه في الأصل مقصور وزنه فعيل فأشبع، ومن الغريب ما قيل أنه اسم الله، وتأويله بأنّ الضمير المستتر فيه لما كان راجعاً على الله قيل: إنه من أسمائه أغرب منه. قوله: (وعن ابن عبّاس (1) إلخ) قال الزيلمي رحمه الله في تخريج أحاديث الكشاف: إنه واه جدا، وأخرجه الثعلبي عن أبي صانح عنه، وهو مع مخالفته للمشهور لا يصح في كل مقام نحو لا تعذبنا وليس فيه تأييد لأنه اسم للفظ كما قيل، ولذا قيل إنّ المصنف رحمه الله جعل تفسيره باستجب أصلاً لعدم الثقة بهذه الرواية مع مخالفتها لتفسيره المشهور، وما قيل: من أنّ ما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما يدل على أنّ النهي لطلب الكف، لا لطلب عدم الفعل، وإلاً لكان آمين في مثل لا تهلكنا بمعنى لا تفعل مردود بأن افعل فيه طلب لتعلق الإرادة بما هو المطلوب سواء كان فعلَا أو تركاً لا إيجاد لأثرها، كما يوهمه ظاهر اللفظ وقيل كلمة آمين مثلاً ليست موضوعة للفظ استجب وحده بل لما هو أعمّ مته،

ومن مرادفه أو لكل واحد منهما على الوضع العام للموضوع له الخاص، على أنّ كلام ابن عباس رضي الله عنهما يدل على أنه ليس موضوعا لمجردّ استجب، ولا لأعثم منه، ومن مرادفه فقط، ولا لكل واحد منهما بل للأعمّ منهما ومن لفظ افعل أو لكل منهما، وأما جعل افعل وحده موضوعا له، فبعيد وهو تعسف وتكلف فتدبر. قوله:(بني على الفتح الخفته وثقل الكسر مع الياء ولم يصرح به لظهوره مما نظره به، وما قيل: من أنّ علته إنما ئقتضي البناء على الحركة، فاختيار الفتح للخفة فيما يكثر استعماله أضعف من علة نحويّ فأين هو من قوله كأين واختلف في مده، وقصره أيهما الأصل فذهب إلى كل طائفة وأمّا تشديد ميمه فذكر الواحديّ رحمه الله أنه لغة فيه وقيل: إنه جمع آمّ بمعنى قاصد منصوب باجعلنا، ونحوه مقدراً وقيل إنه خطأ ولحن إلآ أنه لا تفسد به الصلاة وبه يفتي كما قاله شيخنا المقدسي رحمه الله، ولا وجه للفساد، فإنه ليس من القرآن بل دعاء ومعناه صحيح. قوله: (ويرحم الله إلخ) هذا من شعر رواه الأدباء لصاحب الحماسة البصرية لمجنون عامر، وهو قيس بن معاذ المعروف بالملوج وشعره وديوانه مشهور، وفيه من فنون الفنون ما يقول راويه وراثيه أساحر هو أم مجنون، فمنه ما قيل إنه حبئ مع أبيه فقال له تعلق بأستار الكعبة واح الله أن يريحك من حب ليلى فقال: اللهمّ زدني من حبها، فضربه فبكى، وأنشد يقول:

يارب إنك ذو قن ومغفرة بيت بعافية ليلى المحبينا

الذاكرين الهوى والناس قد رقدوا والساهرين على الأيدي مكبينا

باتف رقودا وسار الركب مدلجا وما الأوانس في فكر كسارينا

كأنّ ريقتهامسك على ضرب شيبت بأصهب من بيع الشآمينا

يارب لاتسلبني حبها أبداً ويرحم الله عبداً قال آمينا

وهذا شاهد على المدّ، وقد بسطنا الكلام فيه في الروض النضير في شرح شواهد التفسير. قوله:(أمين فزاد الله إلخ) قال في شرح الفصيح: هو من شعر قائله جبير بن الأضبط، وكان سأل الأسديّ جماله فحرمه، والأسدي اسمه فطحل بفتح الفاء، وسكون الطاء المهملة، وفتح الحاء المهملة، واللام كجعفر، وروى بضمهما والمعنى تباعد لأن سألته، وما زائدة أو موصولة، وأمين مقدّم من تأخير للاهتمام بالإجابة، أو هو تأمين على دعاء مقدّر لعلمه من فحواه وتقديره أبعده الله عني فلا حاجة لما قيل: إنّ حقه التأخير عن قوله فزاد الله إلخ وإن

ص: 147

هذا لضرورة الوزن، وقال ابن درستويه في شرح الفصيح: القصر ليس بمعروف وإنما قصره الشاعر

للضرورة، وقد قيل: تلجىء الضرورات في الأمور إلى سلوك ما لا يليق بالأدب وقيل الرواية فيه المدّ أيضاً وما هنا محرّف وهو هكذا:

تباعد مني فطحل وابن أمه فآمين زاد الله ما بيننا بعدا

ويروى سألته، ولقيتة بدل قوله دعوته. قوله:(وليس من القرآن) أي بالإجماع، وما نقل

في بعض الكتب لا ينبغي نقله كما في التيسير أنها من السورة عند ابن مجاهد ولعدم اعتداد المصئف رحمه الله به قال: وفاقاً فلا حاجة لما قيل: إنه محمول على إجماع من بعد عصر مجاهد، ولذا سن الفصل بيته وبين السورة، ولم يكتب في الإمام، ولا في غيره من المصاحف أصلاً. قوله:(لقوله عليه الصلاة والسلام " علمني جبريل (1)" إلخ) هو تعليل لكونه سنة، ويجوز أن يكون تعليلاً أيضاً لكونه ليس من القرآن لقوله عند فراكي من قراءة الفاتحة، فإنه صريح في أنه ليس منها، وإن كان الأول هو الظاهر، وقد روى ابن شيبة في مصنفه، والبيهقيّ في الدلائل عن أي ميسرة أنّ جبريل عليه السلام أقرأ النبيّ صلّى الله عليه وسقم فاتحة الكتاب، فلما قال: ولا الضالين قال له: قل آمين فقاله (2 (. وروى أبو داود في سننه عن أبي زهير النميري أحد الصحابة أنه قا اط: آمين سثل الطابع على الصحيفة أخبركم عن ذلك خرجنا مع رسول الله صلّى الله عليه وسأ3 ذات ليلة، فأتينا على رجل قد ألخ في المسئلة لحقال عليه الصلاة والسلام: " أوجب إن ختم " فقال رجل من القوم: بأفي شيء يختم؟ فقال: " بآمين " (3) وفي نواهد الأبكار أنه عرف بهذا أنّ المصتف رحمه الله أورد حديثين لا حديثاً واحدا، وأنّ الضمير في قوله وقال للنبيّ صقى الله عليه وسقم لا لجبريل عليه السلام كما يتوهم، وفي الكشاف لقنني بدل قوله عفمني وهما بمعنى، وقوله كالختم وجه الشبه فيه أنه لا يعتد بالدعاء بدونه كما أنّ الكتاب لا يعتد به إذا لم يختم لا ما قيل من أنّ معناه أنه يوجب الاعتداد بالدعاء، كما أنّ ختم القاضي على الكتاب يوجب الاعتداد به لأنه أمر حادث وما للقاضي وكئابه هنا، وفي أكثر الحواشي أنّ معناه أنه يمنعه عن الخيبة وعدم القبول أو يمنغه عن أن يضيع ما فيه لأنّ غير المختوم يطلع الناس على أسراره فيضيع، ولك أن تقول إنّ المراد أنه علامة الإجابة كما تعارفه الناس وهو معنى ما ورد في الأثر أنّ الدراهم خواتيم الله في أرضه. قوله:(وفي معناه قول علئ إلخ) جعله

لقربه منه في معناه وقول الصحابي فيما لا يقال مثله بالرأي في حكم المرفوع لكنه يدل على تشبيهه بالخاتم نفسه وقد قيل الظاهر أنّ قراءته كالختم ونفسه كالخاتم، وفي تخريج أحاديث الكشاف إنّ هذا لم يوجد في شيء من كتب الأحاديث وقال الحافظ السيوطيّ: لم أقف عليه عن عليّ رضي الله عنه وانما خرّجه الطبراني في الدعاء وابن عديّ في الكامل وابن مردوية في التفسير بسند ضعيف عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " آمين خاتم رب العالمين على عباده المؤمنين) (1) والخاتم والطابع بالفتح بمعنى، وهو ما يطبع به أي يختم. قوله: (يقوله الإمام ويجهر به إلخ) عند الحنفية أنه يؤمّن الإمام والمأموم سرّا ومذهب المصتف وغيره من الشافعية كما في شرح الوجيز أنه يستحب لكل من قرأ الفاتحة خارج الصلاة أو فيها أن يقول عقبها آمين بعد سكتة لطيفة ليتميز القرآن عن غيره ويستوي في استحبابها الإمام والمأموم والمنفرد ويجهر بها الإمام والمنفرد في الجهرية تبعاً للقراءة لحديث وائل المذكور، وأما المأموم ففي القديم يؤمّن جهراً أيضاً وفي الجديد لا يجهر واختلفوا فقال الأكثرون في المسئلة قولان: أحدهما أنه لا يجهر كما لا يجهر بالتكبير وان جهر الإمام والأصح، وبه قال الإمام أحمد رضي الله عنه أنه يجهر لما روي عن عطاء وغيره: كنت أسمع الأئمة، ومن خلفهم يقولون آمين حنى إنّ للمسجد ضجة، ومنهم من أثبت في المسئلة قولين إذا جهر الإمام أمّا إذا لم يجهر، فيجهر المأموم لينبه الإمام وغيره، ومنهم من حمل النصين على أنّ قوله لا يجهر الماموم إذا قلوا أو صغر المسجد وبلغ صوت الإمام القوم، وألا يجهروا حتى يبلغ الكل، والأحب أن يكون تأمين الإمام والمأموم معاً، فإن لم يتفق ذلك أمّن عقب تأمينه وعن مالك في أحد قوليه أنه لا يسن التامين للمصلي أصلاً انتهى وهل يقولها الإمام والمأموم أو المأموم فقط لحديث " إذا قال الإمام ولا الضالين فقولوا آمين " (2) وهو رواية عن أبي حنيفة، وبي رواية أخرى " يؤمّنان معاً "، وتفصيله في الفروع وكتب

ص: 148

الحديث، وأجاب الحنفية عما قالوه نجأنه عليه الصلاة والسلام جهر بها للتعليم، ثم خافت أو أنّ ذلك إذا كان فذاً ولأنه دعاء ومن شأنه الإخفاء والجهر به مع القرآن يوهم أنه منه وفيه نظر. قوله:(لما روي عن وائل (3) إلخ) هذا الحديث أخرجه أبو داود، والترمذيّ، والدارقطنيّ، وصححه ابن حبان،

ووائل بهمزة بعد الألف يليها لام، وهو وائل بن حجر بضم الحاء المهملة، وسكون الجيم ابن ربيعة الحضرمي الصحابي كان أبوه من أقيال اليمن أي ملوكها، فإنّ الملك يسمى عندهم قيلَا، ووفد على النبيّ صفى الله عليه وسقم واستقطعه أرضاً فأقطعه إياها وقال: هذا وائل سيد الأقيال، وله مع معاوية رضي الله عته قصة ولما صار خليفة قدم عليه فاستقبله وأكرمه وتوفي رضي الله عنه في عهده، وقد سمعت ما أجيب به عن هذا الحديث. وقوله:(وعن أبي حتيفة إلخ) هدّه رواية عنه ضعيفة جداً موافقة لأحد قولي مالك والذي صححوه عنه ما مرّ كما أشار إليه المصتف رحمه الله. وقوله: (ووفع بها صوته) قد مرّ جواب الحنفية عنه أنه تعليم، ثم خافت وخافتوا وأوود عليه أنّ الصلاة مقام مناجاة فلا يناسب التوجه إلى الغير لقصد العليم، وجوابه ظاهر. وقوله:(لا يقوله) قيل: لأنه داع بقوله: اهدنا ولا يخفى أنه لا تنافي بين كونه داعياً وطالباً للإجابة فتدبر. قوله: (كما روا 0 عبد الله بن مغفل إلخ) العراقي وتبعه من بعده من الحفاظ لم أقف على هذا الحديث من هذه الطريق، وأخرج الطبرانيّ في الكبير عن أبي وائل قال: كان عليّ وعبد الذ بن مسعود لا يجهران بالتأمين، وعبد الذ بن مغفل بن غنم من مشاهير الصحابة توفي بالبصرة سنة ستين ومغفل بضم الميم وفتح الغين المعجمة، وتشديد الفاء المفتوحة وبعدها لام بزنة اسم المفعول. قوله:(إذا قال الإمام (1)) الحديث أخرجه البخارفي ومسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، ووقع في أمالي الجرجاني في آخر هذا الحديث زيادة " وما تأخر " وعليها اعتمد الغزاليّ رحمه الله تعالى في الوسيط، وأحسن ما فسر به هذا الحديث ما رواه عبد الرزاق عن عكرمة رضي الله عنه قال: صفوف أهل الأرض تلي صفوف أهل السماء، فإذا وافق آمين في الأرض آمين في السماء غفر للعبد قال ابن حجر رحمه الله: مثل هذا لا يقال بالرأي فالمصير إليه أولى وفي بعض النسخ كما في وسيط الواحديّ إذا

قال الإمام ولا الضايىن فقولوا إلخ وأورد عليه أن الدليل لا يوافق المدعى وهو تأمين الإمام والمأموم معا لا يراده بعد قوله والمأموم يؤمن معه، وليس في الحديث غير تامين المؤتم، وما قيل: إن تأميبئ الإمام قد علم من الأحاديث الأخر لا وجه له وفي أكثر النسخ كما في التيسير والمعالم هكذا، فإنّ الملائكة تقول آمين والإمام يقول آمين: فمن وافق تأمينه إلخ وعليه فلا إشكال أصلَا.

(أقول) وقد وقع نحو من هذا في البخاري فقال ابن بطال في شرحه بعدما أورد هذا الحديث أنه يعلم مته تأمين الإمام لأنّ المأموم مامور بالاقتداء بالإمام، وقد ثبت في الحديث سابقاً أنّ الإمام يجهر بالتأمين فلزم جهره بجهره، وتعقب بأنه يلزمه أن يجهر الماموم باً لقراءة لأنّ الإمام جهر بها.

وأجيب عته بأن الجهر بالقراءة خلف الإمام نهي عنه فبقى التأمين داخلَا تحت عموم

الأمر باتباع الإمام واستدل بقوله فأمنوا على تأخير تاسين المأموم عن تأمين الإمام لترتبه عليه بالفاء وفيه كلام في كتب الأصول، فذهب بعضهم إلى أنها تدل على التسبب دون التعقيب، وقيل المعنى إ 16 أراد الإمام، وقال الجمهور الفاء في جواب الشرط تدل على المقارنة، والمراد بالملائكة جميعهم وقيل: الحفظة، وقيل: الذين يتعاقبون إن قيل: إنهم غير الحفظة، فالمراد بموافقة الملائكة وقوع تأمين المصلي والملائكة في وقت واحد وقيل المراد الموافقة في الإخلاص والخشوع لأنه المناسب للمغفرة، وقال ابن حجر رحمه الله: المراد الأوّل لما رواه عبد الرزاق عن عكرمة قال صفوف أهل الأرض إلخ وهذا يدل على أنّ المراد بالملائكة غير ما مرّ، وقال بعض فضلاء العصر في حواشيه: المخاطب بقوله عليه الصلاة والسلام قولوا آمين الإمام والمأموم جميعاً، والمعنى أيها المصلون 1 قولوا جميعاً إمامكم ومأمومكم آمين، ويؤيد. أنّ تعليق المغفرة بالموافقة ترغيب، وحث على ما ينبغي أن يعم الإمام والمأموم جميعا، فلا يحرم الإمام هذه الفضيلة ومثله لا يتم بسلامة الأمير فتدبر. قوله:(وعن أبي هريرة إلخ) هو صحابيّ مشهور، - اسمه عبد الرحمن على " الأصح وهريرة تصغير هرّة وهي معروفة، وهو غير منوّن لأنه جزء العلم وتحقيقه مشهور في

ص: 149

محله وابيّ بصيغدة المصغر هو أبيّ بن كعب الصحابي المعروف، وهدّا الحديث صحيح وليس بموضوع كما توهم وان كان آكثر الأحاديث المروية عن أبيّ في فضائل السور موضوعة وضعها رجل من عبادان من الكرامية وهم يرون جواز وضع الحديث للترغيب ويجيبون عن الاستدلال جديث " من كذب علئ متعمداً فليتبوّأ مقعده من النار "(1) بأنه كذب له لا عليه، وقد اعترف به واضعه وقال رأيت رغبة الناس عن حفظ القرآن وتلاوته فوضعته، والمفسرون منهم من ذكره في أوائل السور حثاً على تلاوتها ومنهم من أخره

لأنه صفة لها فحقها التأخير عن موصوفها كما نقل عن الزمخشريّ. وقوله: (ينزل) بالياء التحتية وهو ظاهر وروي بالمثناة الفوقية مع تذكير مثل فقيل: إنه بتقدير سورة مثلها أو لأنّ المراد بالمثل السورة، فروعي معناه وقيل لاكتساب المضاف التأنيث مما أضيف إليه، ورد بأنّ الرضى وغبره صرحوا بأنّ شرط الاكتساب المذكور أن يكون المضاف بعضاً من المضاف إليه، أو كالبعض وهذا لا بد فيه من صحة المعنى مع سقوطه وهذا ليس كذلك وفيه أنه ليس بمسلم، فإن مثل يصح إسقاطها من الكلام مع بقاء المعنى بحاله فتقول في نحو زيد هو مثل الأسد هو الأسد فيؤذي المعنى على وجه أبلغ، كما تقرّر في المعاني على أنّ صاحب الكشاف ذكر في قوله تعالى:{لَا يَنفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا} [الأنعام: 58 ا] على قراءة التاء الفوقية أنها لإضافة الإبمان إلى ضمير المؤنث الذي هو بعضه وقال الشارج المحقق: ثمة أنهم يعنون بالبعض ما هو أعمّ من الأجزاء أو الصفات القائمة بها وسيأتي تفصيله في سورة الأنعام، وما قيل من أن ما نقل عن الرضى شرط لوجوب الاكتساب غنيّ عن الرذ وخصى التوراة والإنجيل لأنهما أعظم الكتب السماوية، وقيل لأنها لم تتل تلاوتهما أو لأن منها ما هو تابع للتوراة لا ناسخ لها. قوله:(قلت بلى إلخ) في الكشاف ما لفظه هكذا، وعن النبيّ صقى الله عليه وسلّم أنه قال لأبيّ بن كعب:" ألا " خبرك بسورة لم ينزل في التوراة والإنجيل والقرآن مثلها قلت: بلى يا رسول الله قال: فاتحة الكتاب " (1) إلخ اهـ قال الشارح المحقق: فيه حذف أيّ قال أبيّ رضي الله عنه: قلت بلى وقال قدس سرّه: ظاهر سياق الكلام يقتضي أن يقال قال: بلى يا رسول الله أي قال أبيئ ذلك في جوابه فلذا احتيج إلى تقدير وعن أبيّ رضي الله عنه أنه قال: قلت لكنه اختصر في العبارة، ولا يكفي تقدير قال وحده كما توهم إذ يصير المعنى قال أبيّ في جواب رسول الله صقى الله عليه وسلّم قلت: بلى وفساده ظاهر بين ورده المدقق الليثي بأنه إن كان المراد نقل ما وقع في مجلس النبيئ صقى الله عليه وسلّم من المكالمة بينه وبين أبيّ، فكما لا يصح تقدير قال وحده كذلك لا يصح تقدير، وعن أبيّ أنه قال إذ يصير المعنى على كل تقدير قال أبيّ في جواب الرسول صلّى الله عليه وسفم قلت بلى، وان أريد نقل كلامه عليه الصلاة والسلام وما وقع من أبيّ رضي الله عنه في غير مجلسه من حكاية قوله، فكلاهما صحيح غايته أنّ ما ذكره الشريف أظهر دلالة على المقصود قيل: ولما كانت عبارة الكشاف تحتاج إلى تكلف كثير عدل عنها المصئف رحمه الله وصرح باسم الراوي حيث قال: وعن أبي هريرة إلخ لئلا يرد عليه ما مرّ لأنّ الظاهر أنّ أبا هريرة رضي الله عنه هو المجيب بقوله بلى إلخ تشوّفا إلى بيانه عليه الصلاة والسلام وان كان المخاطب له عليه الصلاة والسلام في مثله غير متعين

فحاصله أنه روي عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه عليه الصلاة والسلام لما قال لأبي رضي الله عنه: ألا أخبرك إلخ بادرت إلى الجواب وقلت: بلى إلخ وهو كلام لا يرد عليه شيء، ولم يفرق كثير بين كلام الكشاف والقاضي ولم ينبهوا على وجه عدول المصنف رحمه الله بناء على أن أبا هريرة رضي الله عنه روى ما وقع في مجلسه عليه الصلاة والسلام من المكالمة بين أبيّ وبينه والسياق يقتضي أن يقول قال دون قلت: وأورد عليه أنه حينئذ لا فائدة في عدول المصئف رحمه الله إلأ تقوية الإيراد، لأنه يرد عليه ما لا يدفع بما مرّ، إذ رواية أبي هريرة تكون قاصرة عن إفادة المقصود وهو ظاهر وفي بعض نسخ المصتف قال: بدل قلت والمشهور الثاني حتى قيل إن الأولى من تصرّف النساخ ثم إنّ قوله بلى في الحديث مخالف لما اتفق عليه النحاة من أنّ بلى إنما يجاب بها النفي، لكنه وقع في كثير من الأحاديث ما يخالفه كما ورد في مسلم أنت الذي لقيتني بمكة فقال بلى، فلا يلتفت لما خالفه وان اعترض عليه في المغني، وينزل بضم الياء وفتحها.

ص: 150

قوله: (إنها السبع المثاني إلخ) إشارة إلى قوله تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِّنَ الْمَثَانِي} [الحجر: 87] الآية وسيأتي تتمة في محله والقرآن بالرفع عطف على خبر إن والموصول صفته وأوتيته بضم التاء قيل: في الحديث ما يدل على أنّ القرآن العظيم في الآية بمعنى الفاتحة وأنه اسم لها ولم يذكروه هنا ولا في سورة الحجر ولم يعده أحد من أسمائها كالسبع المثاني وأم القرآن، ولا يخفى أنّ القرآن العظيم يطلق على الفاتحة بالمعنى الكلي ولا يطلق عليها بمعنى الكل إلاً مبالغة نحو أنت الرجل، فإن أريد هذا فلا مانع منه، وأمّا كونه اسماً فلا وجه له لأنه لا يلزم من الحمل المساواة. قوله:(وعن ابن عباس رضي الله عنهما (1) إلخ) هو حديث رواه مسلم بمعناه ووسول الله مرفوع مبتدأ خبره مقدر أي جالس ونحوه، ويقال بينا وبينما وتقع بعدها إذا وإذ الفجائيتين وقال الرض اكثر في جواب بينما إذ وفي جواب بينا إذا وما زعمه الحريري من أنه خطأ خطأ وألف بينا للإشباع أو كافة أو بعض من ما، وقال الرضى ة لما قصد إضافة بين إلى جملة ومثله يلزم الإضافة إلى المفرد والإضافة إلى الجمل كلا إضافة زادوا عليها ما تارة وأشبعوها أخرى، وقيل: أصله بين أوقات كذا والجمل مما يضاف إليها أسماء الزمان ثم حذف المضاف الذي هو وقت، وأقيم بين مقامه، والملك في الحديث غير جبريل عليه السلام لما في مسلم بينا جبريل عنده عليه الصلاة والسلام إذ سمع نقيضاً من فوقه فرفع رأسه وتال:" هذا باب من السماء فتح لم يفتح إلاً اليوم نزل مته ملك لم ينزل إلاً اليوم فسقم "(2) إلخ والنقيض بمعجمات هنا صرير الباب، وأبشر كأكرم بمعنى صر ذا بشارة وخبر سارّ، وقوله بنورين أي أمرين عظيمين من الكلام الموحى

إليك يدلان على علمين عظيمين من العلوم اللدنية، والعلم والوحي يطلق عليه النور كص تطلق الظلمة على مقابله قال تعالى:{انظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِن نُّورِكُمْ} [الحديد: 13] . وقوله: (لم يؤتهما) إلخ أي هو مخصوص به صلى الله عليه وسلم من بين الأنبياء، والمرسلين عليهم الصلاة والسلام، وفاتحة الكتاب وما عطف عليه بالجرّ عطف بيان أو بدل مما قبله ويجوز رفعه ونصبه، وخواتم سورة البقر من قوله: ولمن الرسول} [البقرة: 285] إلخ وخواتم بميم بعد المثناة وفي نسخة خواتيم بياء تحتية جمع خاتمة على خلاف القياس وهو مسموع كما نقله الثقات وفي الحديث: " الآعمال بخواتيمها "(1 (وقيل سميا نورين لاشتمالهما على الحروف النورانية، وهي أربعة عشر حرفا مذكورة في أوائل السورة وهو بعيد، والمخاطب النبيّ عليه الصلاة والسلام حقيقة وإن شمل أمّته معنى. قوله: (لن تقرأ حرفاً إلخ) الحرف واحد الحروف المعروفة، ويكون بمعنى الكلمة وكل محتمل هنا وضمير أعطيته راجع له وقيل إنه راجع لما وعده أي أعطيت ما وعدته من الثواب، وقيل إنه راجع للنور الشامل للنورين، وما قيل من أنّ المراد أعطيت ثوابا لأجل قراءة ذلك الحرف سوى ثواب كلماتها وثواب المجموع المؤلف منها أو المراد أعطيت به ما لا يحصيه إلاً الله، أو لن تدعو بحرف منها وفيه دعاء كاهدنا إلاً أجبت، أو المراد أعفيت ذلك الحرف بأن تتصرف به فيما تشاء، لأنّ الملك مظهر الأسماء ومتصرف الحروف العالية التي هي الملائكة لا يدفع ما أورد عليه من أنّ ما ذكر مشترك بينه وبين سائر القرآن الكريم، وان تشبث به ذلك القائل بزعمه. قوله:(وعن حذيفة بن اليمان (2) إلخ) حذيفة بن اليمان العبسي من كبار الصحابة وكان أبوه يسمى حنبلاً، فأصاب دماً وهرب إلى المدينة فخالف بني عبد الأشهل فسماه قومه اليماني لكونه حالف اليمانية، وهو نسبة إلى اليمن وأصله يمنيّ، فعوض عن إحدى ياءيه ألف ورسم بغير ياء كما هو معروف في علم الرسم وكان يقال له صاحب السرّ لقوله حذثني رسول الله صلّى الله عليه وسفم عما كان، وما هو كائن إلى يوم القيامة ومات بالمدائن في ست وثلاثين، وكان عمر رضي إلله عنه استعمله عليها، وهذا الحديث أسند. الثعلبي، وقال العراقي: إنه موضوع. وقيل: إنه ضعيف. والمعنى أن من الناس من يبعث عليه بشؤم معاصيه الموجبة للعقاب عذاب، ثم يؤخر عنهم ببركة قراءة صبيانهم ما

ذكر وحتماً بمعنى واجباً ومقضياً بمعنى أنه تعلق به قضاء الله أزلاً أو قدر، وسطر في اللوج المحفوظ، وفيه دليل على أنّ القضاء يكون غير مبرم فيغير أو يؤخر والمعنيّ برفعه تأخيره لا إزالته لقوله أربعين سنة ولولاه صار حشواً، والكتاب بوزن رمّان هنا بمعنى المكتب، وقد أثبته الجوهريّ واستفاض استعماله بهذا اله سنى كقوله:

ص: 151