الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وأتوا بكتاب لو انبسطت يدي فيهم رددتهم إلى الكتاب
وأصله جمع كاتب مثل كتبة، فأطلق على محله مجازا للمجاورة وليس موضوعا له ابتداء
كما قيل، وقال الأزهريّ عن الليث: إنه لغة، وعن المبرّد الموضحع المكتب والكتاب الصبيان ومن جعله الموضع فقد أخطأ، وفي الكشف الاعتماد على نقل الليث لترجيحه من وجوه. وقوله:(الحمد لله إلخ) منصوب مفعول ليقرأ، أو مرفوع على الحكاية لأنّ المراد به السورة، والعذاب بالنصب مفعول يرفع (تمت) السورة الكريمة بحمد الله، ومنه نفع الله بأسرارها، وأشرق في مشكاة قلوبنا ساطع أنوارها وأعاد علينا شامل بركاتها إنه قريب مجيب، وحسبنا الله ونعم الوكيل.
سورة
البقرة
بسم الله الرحمن الرحيم
قوله: (مدنية وآيها إلخ (مرّ الكلام في المدني والمكي والأقوال فيه مشهورة وكونها مدنية
قيل إنه بالإجماع، وقيل فيها آخر آية نزلت {وَاتَّقُواْ يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللهِ} [البقرة: 281، الآية وقيل هذه الآية ليست بمدنية نزلت في حجة الوداع يوم النحر وهو كلام واه وآي بالمد والتخفيف جمع آية أو اسم جنس جمعيّ لها كتمر وتمرة، وفي وزنها وأصلها كلام معروف في اللغة والتصريف وهي في اللغة العلامة والجماعة والرسالة والمناسبة ظاهرة، وفي عددها اختلاف فقيل مائتان وست وقيل سبع أو خمس وثمانون، والسورة تهمز ولا تهمز كما قاله ابن قتيبة، فمن همز جعلها من السؤر وهو ما بقي من الطعام في الإناء لأنها قطعة من القرآن ومن لم يهمزها أبدل همزتها واوا لسكونها وضم ما قبلها، أو جعلها منقولة من السورة بمعنى المنزلة كأنّ السور منازل، فهي منزلة بعد منزلة، ويؤيده ما في الحديث من استعارة الحال المرتحل للقارىء وهي للمنزلة الحسية والمعنوية، كالمرتبة المرتفعة قال النابغة:
ألم تر أنّ الله أعطاك سورة ترى كل ملك حولها يتذبذب
وقيل: إنها من سور المدينة لإحاطتها بآياتها واجتماعها فيها اجتماع البيوت في الحصن،
ومنه السوار لإحاطته بالساعد أو لارتفاعها بأنها كلام الله، أو لتركب بعضها على بعض من التسوّر بمعنى التصاعد ومنه {إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ} أسررة ص: 21] وفي شرج الشاطبية حد السورة ما يشتمل على آي ذات فاتحة وخاتمة، وأقلها ثلاث آيات وقيل: السورة الطائفة المترجمة توقيفا أي المسماة باسم خاص، وبهذا خرج العشر والحزب والآية وآية الكرسيّ لأنه مجرّد إضافة لا تسمية وتلقيب وفيه نظر، إذ لا بد من قيد كونها مستقلة أو مفصولة من غيرها بالبسملة إذ لولاه دخلت آية الكرسي. وقوله لأنه مجرّد إضافة لا يجدي، فإنّ سورة البقرة بل أكثر السور إضافات، وأسماء السور كلها توقيفية ثابتة بالحديث كما في الإتقان، وسيأتي بيانه وكره بعضهم أن يقال سورة البقرة ونحوه، لما روى البيهقيّ وغيره عن أنس رضي الله عنه مرفوعاً " لا تقولوا سورة البقرة، ولا سورة آل عمران، ولا سورة النساء، وكذا القرآن كله، ولكن قولوا السورة التي تذكر فيها البقرة، والتي يذكر فيها أل عمران وهكذا " واسناده ضعيف وادّعى ابن الجوزي أنه موضوع، وردّه ابن حجر رحمه الله بأنّ البيهقيّ رواه بسند صحيح موقوف عن عليّ رضي الله عنه، وقد صح إطلاق سورة البقرة وغيرها مما منع في هذا الأثر عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، وفي الصحيح عن ابن مسعود رضي الله عنه هذا مقام الذي أنزلت عليه سورة البقرة، وهو معارض له، ومن ثمة أجازه الجمهور من صير كراهة، ولك أن توفق بينهما بأنه كمان مكروهاً في بدء الإسلام وقبل الهجرة لاستهزاء كفار قريش بذلك، وقد أخرح ابن أبي حاتم عن عكرمة أنّ المشركين قالوا سورة البقرة وسورة العنكبوت يستهزؤن بهما فنزل {إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ} [الحجر: 95] ثم بعد سطوع نور الإسلام نسخ النهي عنه، فشاع من غير نكير، وورد في الحديث بيانا لجوازه. قوله:(ألم وسائر الألفاظ إلخ) أي هذه وباقيها فإنّ سائر بمعنى باق أو جميعها إن قلنا به، والخلاف فيه معروف بين أهل اللغة
وسيأتي تفصيله. وقولى:) يتهجى بها (قال في الأساس: هجا الحروف وهجاها وتهجاها وهو يهجوها ويتهجاها ولتهجوها يعددها وقيل لرجل من قيس: أتهجو القرآن فقال: والله ما أهجو منه حرفا، ومن المجاز فلان يهجو فلاناً هجاء يعدد معايبه ونحوه في الصحاح، وفي التهذيب الهجو والهجاء الض اءة فيقال أتقرأ القرآن فيقال: لا أهجو فيه حرفاً أي لا أقرأ، وكنت أروي القصيدة، فلا أهر اليوم منها بيتين أي لا أروي وفي القاموس الهجاء ككساء تقطيع اللفظة بحروفها وهجيت الحروف وتهجيتها، ونقل عن الزمخشرفي في حواشيه المروية عته أنّ التهجي تعداد حروف الهجماء بأشياء منها ألف باء تاء، فإذا وعيت ما ذكرناه لك عن أئمة اللغة، وعرفت أنّ هذا الفعل متعد بنفسه ومفعوله لا يخلو من أن يكون الكلم المنظومة والكلام المركب منها أو الحروف المركبما منها بأنفسها أو أسمائها الدالة عليها، ومعناه على الأوّل القراءة وعلى الأخيرين تعداد الثروف بأنفسها وهو التقطيع أو بأسمائها، وهو ظاهر أو مطلق التعديد، وكلام الأساس ظافر في الأخير وكلام الحواشي فيما قبله، وكلام القاموس في الثاني وكلام الأزهرفي في الأوّل، فإمّا أن نقول هو مشترك بين هذه المعاني المتغايرة، أو هو حقيقة في بعضها مجاز مسموع من العرب في غيره لأنه هو الذي يعتني به اللغويون، وعلى كل حال فمفعوله كالكلم، والحروف ليس داخلاً في مسماه والا لم يكن متعدياً، كأثمر الشجر بمعنى أطلع الثمر، فإنّ الثمر لما دخل في مسماه لم نقل أثمر الشجر الثمر حتى أنّ السكاكيّ لما استعمله متعديا أوّله الشراح، وهو مثل ما تقدم في آمين، وذكر أئمة اللغة له كما سمعته دالّ على ذلك وإنما الكلام في دخول متعلقه المجرور بالباء سواء قلنا إنها للصلة، أو للآلة فيحتمل دخوله فيه دخول البصر في أبصرت زيداً أي شاهدته ببصري فلا يذكر إلا على ضرب من التأويل أو المسامحة أو خروجه خروجا العصا في ضربته بالعصا، فإنه قيد خارج قد يذكر وقد يترك، ولما قال العلامة: الألفاظ التي يتهجى بها أسماء ذكر المدقق في الكشف ما مرّ من كلام اللغويين، وقال إنه
المناسب المطرد في العرف، ونقله سلمه الله عن الأساس وكلام الجوهريّ والأزهريّ ينزل عليه، والباء في قوله بها لتضمين معنى الإتيان أي يؤتى بها مهجوّة اهـ يعني أنه موضوع لتعداد مخصوص، وهو تعداد الحروف المركب منها الكلم بأسمائها وقيد بأسمائها داخل في مسماه، فلذا أوّل ذكره في عبارة الكشاف بالتضمين والشارح المحقق لم يرتضه وجعله خارجا والباء للصلة والآلة، والمعنى يتهجى بها الحروف أي تعدد على حذف المفعول بلا واسطة وقال: إنّ حملها على التضمين أي يؤتى بها مهجوة سهو لأنّ المهجوة المسميات لا الأسماء، وقيل: التهجي مجرّد عن قيد الأسماء، فهو بمعنى عد الحروف مطلقاً، فالمفعول بلا واسطة محذوف والجارّ والمجرور قائم مقام الفاعل، والباء فيه للآلة أو هو مضمن معنى الإتيان أي يؤتى بها مهجوة مسمياتها، أو هو من قبيل أبصرته بعيني، فيبني الفعل للمفعول بواسطة كأبصر بالعين وفيه بعد فأوّل العبارة بوجوه منها ما مرّ ودفع السهو الذي مرّ بتقدير مضاف، كما في قوله أيضاً والسبب في أن قصرت متهجاه، فإنّ المراد متهجى مسمياتها، وقيل عليه: إنه ليس في اللفظ ما يدل عليه، فهو سهو بلا مرية وتمسكه بعبارته الآتية مع احتمالها التأويل لا يجدي، وقوله: إنّ أمثال أبصرته بعيني مستبعد لا ينبغي افإنه كثير في كلامهم، وقد ورد في النظم يقولون بأفواههم مع أنه ليس أبعد مما ارتضاه.
(بقي هنا) أنه على تقدير تسليم أنّ القيد داخل في مفهومه، فالتهجي من المعاني النسبية، كالوضع فيوصف به اللافظ ويقال: هو متهج والحرف نفسه فيقال متهجي بصيغة المفعول، فإذا وصف به اسمه الذي به التهجي، فلا بد من توسط الحرف وذكره فضلاً عن أن يكون زائدا محتاجاً للتأويل كما أنّ الوضع إذا وصف به اللفظ قيل موضوع، فإن وصف به المعنى قيل موضوع له ذلك اللفظ، فإنما يكون كذلك إذا جرى على ما هو له، فأمّا إذا جرى على غيره مما هو لسببية فلا بد من الصلة والعجب أنّ هذا مع وضوحه كيف خفي على هؤلاء الفحول فتدبر. قوله: (لدخولها في حدّ الاسم إلخ (لدلالتها على معنى، وهو حروف المباني دون اقتران بأحد الأزمنة، والاعتوار في الأصل الأخذ باليد ويكون بمعنى التعاقب أيضا، كما في الأساس الاسم تعتوره حركات الإعراب، وتعاورت الرياج
رسم الدار فلا حاجة إلى تكلف أن يقال كأنّ ما ذكر يأخذ هذه الألفاظ على التعاقب، وهو متعد بنفسه والنحاة تعدية بعلى إمّا لتضمته معنى التعاقب، أو لحمله عليه لأنه بمعناه ولتوهم بعضهم أنها حروف أيده المصنف رحمه الله بالنقل عن إمامي العربية الخليل وأبي عليّ الفارسي في كتاب الحخة، وتقديم قوله به للاهتمام لا للحصر وان صح، وفيه من علامات الاسم غير ما ذكر وتركه المصنف رحمه الله لظهوره كما ترك قول الزمخشريّ كالإمالة والتفخيم لأنه غنر مسلم اختصاصه بالاسيم، وقد كفانا المصنف مؤنثه، فلا حاجة للجواب عما أورد عليه، والمراد بالحد التعريف الجامع المانع، أو مصطلح أهل المنطق. قوله: (وما روى ابن مسعود إلخ (هذا الحديث رواه عبد الله
بن مسعود رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " من قرأ حرفاً من كتاب الله فله به حسنة، والحسنة بعشر أمثالها، لا أقول ألم حرف، ولكن ألف حرف، ولام حرف، وميم حرف " وروى ابن أبي شيبة والبزار في مسنديهما عن عوف بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " من قرأ حرفاً من كتاب الله كتبت له به حسنة لا أقول ألم حرف وكن الحروف المقطعة الآلف حرف واللام حرف والميم حرف ". قال الحافظ مدار إسناده على موسى بن عبيدة الربذي وهو ضعيف ورواه الطبراني في الكبير من غير طريقه ولفظه " من قرأ حرفاً من القرآن كتبت له حسنة ولا أقول ألم ذلك الكتاب حرف ولكن الآلف حرف واللام حرف والميم حرف والذال حرف والكاف حرف "(3 (. وقال أبو عمرو الداني في كتاب العدد: إنا على صور الكلم في الرسم دون اللفظ ألا ترى أن صورة ألم في الكتابة ثلاثة أحرف، وهي في التلاوة تسعة أحرف، فلو كانت الكلمة إنما تعدّ حروفها على حال استقرارها في اللفظ دون الرسم، لوجب أن يكون لقارىء ألم تسعون حسنة، فلما قال: إنها ثلاثة أحرف ولقارئها ثلاثون حسنة بكل حرف عشر حسنات ثبت انّ حروف الكلمة، إنما تعدّ على صورة الكتابة دون ايلاوة والثواب جار على ذلك اهـ. وأورد عليه صاحب مصاعد النظر أنّ العامل إنما يثاب على أله لا على عمل غيره، فالقارىء يثاب على نطقه بالحروف سواء كتبت أم لا ثبت ما يكتب في الرسم أم لا، وما قاله يلزمه تعطيل بعض الحروف التي نطق بها بلسانه وهو لا يرضاه أحد، فإن ثوابه على بعض عمله دون بعض تحكم والذي يكشف لك معنى الحديث حمل الحرف على الكلمة، ولما رسمت ألم بصورة كلمة واحدة بين في الحديث أنها ثلاث كلمات، فإنّ المنطوق به أسماء الحروف لا مسمياتها، وكل اسم منها كلمة بلا شك، وهذا ما ارتضاه صاحب النشر وهو حسن وبما ذكرناه سقط ما قيل: إن ما ذكره المصنف لم يوجد في كتب الحديث، فإنه مروقي كما في الترمذي والطبراني، وكثير من كتب الحديث وصححه الحاكم وإن كان فيه اختلاف يسير لا يحوجنا إلى القول بأنه رواية بالمعنى. وقوله: (بعشر أمثالها) متعلق بمقدر أي يجازى بعشر إلخ. قوله: (فالمراد به إلخ) هذا خبر ما في قوله ما روي فإنها
موصول اسميّ مرفوع محلاً بالابتداء، والموصول إذا وقع مبتدأ يجوز أن يقرن خبره بالفاء، لكونه في معنى الشرط، كما قرره النحاة، وهذا جواب عن سؤال تقديره إنّ ابن مسعود رضي الله عنه من كبار الصحابة، وأهل اللسان، وقد أطلق عليها الحرف، وهذا مناف لما قلت فأجاب بأنه إنما يعارضه لو قصد به المعنى المصطلح بين النحاة وهو الكلمة الدالة على معنى، حفي غيرها، وليس بمراد بل لا يصح إرادته هنا فإنّ حقيقة الحرف لغة كما قاله الجوهري طرف كل شيء، وواحد حروف التهجي، وحروف المباني التي تركب منها الكلم، وما ذكر هو حروف المعاني واطلاق الحروف عليها عرف جديد أحدثه النحاة بعد العصر الأوّل، فكيف يصح إرادته في الحديث وتفسيره به، ويكون بمعنى الكلمة كما في قول بعض العرب، وقد قيل له: أتقرأ القرآن فقال: والله لا أهجو منه حرفا، أي لا أقرأ منه كلمة كما ذكره الأزهريّ، وان أهمله الجوهريّ، وصاحب القاموس، وهو معنى حقيقيّ أو مجازفي مسموع من العرب أي مجاز مرسل من إطلاق الجزء على الكل، أو استعارة لأنها من الكلام بمنزلة الحرف من الكلمة، وقوله في الأساس من المجاز، هو على حرف من أمره أي طرف لا يعارض ما قاله الجوهرفي، لأنّ حقيقته الطرف الحسي، ولولا هذا الحمل تناقض كلامه. قوله: (فإنّ تخصيص الحرف به (أي بالمعنى الذي اصطلح عليه
النحاة إن كان المراد بالمعنى الآتي الكلمة، فكونه تخصيصاً ظاهر لأنه قسم منه، ولذا اختاره كثير من أرباب الحواشي فإن لم يرد فالتخصيص ليس في مفابلة الإطلاق بل بمعنى التعيين مطلقاً، كما في قولهم الوضع تخصيص شيء بشيء، فلا حاجة إلى التكفف في توجيهه مثل ما قيل: من أنّ مراد المصنف بالمعنى اللغويّ الطرف وهو متناول لجميع حروف المباني، وأقسام الكلمة لخروج أصواتها من طرف اللسان، فهي حروف بالمعنى المذكور. قوله:(بل المعنى اللنويّ) وهو الكلمات كما مرّ تحقيقه، فقوله ولعله سماه إلخ جواب آخر إذ المراد منه حينئذ حروف المباني، فإن أريد بالمعنى اللغويّ ما ذكر من الحروف المقطعة، وهي حروف المباني بالتحتية فهما جواب واحد، وليس المراد به الطرف كما توهم. قوله: (ولعله سماه باسم مدلوله (هذا ما ذكره الإمام في تفسيره، وعبارته توهم أنه من بنات فكره، وعلى هذا فالحكم على ما ذكر بالحرفية باعتبار مدلوله فهو معنى حقيقي له لا مجازيّ، وما قاله الإمام ومن حذا حذوه من أنه سماه حرفا مجازاً لكونه اسم الحرف واطلاق أحد المتلازمين على الآخر مجاز مشهور ليس بشيء ويعلم مما ذكر غيره مما يشاركه في معناه ولا يرد عليه أنه إذا كان في الحديث بالمعنى اللغويّ يصير معناه من قرأ كلمة من كتاب الله أيّ كلمة كانت بدليل أنه ضم إليه في رواية، كما مرّ ذلك الكتاب، وليست كل كلماته مسماها الحروف حتى يصح تسميته باسم مدلوله فالظاهر أن يقال إنه جعل الكلمات بمنزلة حروفه، ولا يخفى ما فيه من التعسف لأنه على ما ذكر لا يراد بالحروف الكلمات بل حروف التهجي كما بيناه، فهذا تخليط منه وان كان ما ذكره من الرواية ينبو عنه إلا بتوفيق من بيده التوفيق، والحاصل أنّ ما ذكر إنما يدل على حرفية المسميات لا على حرفية هذه الألفاظ
لما اشتهر من أنّ الحكم في القضية على مدلولى الموضوع لا على عنوانه، ولا كلام في حرفية المسمى هنا، والعجب من بعض الناس إذ توهم هذا وجهاً آخر ثمّ قال إنّ المصنف رحمه الله لم يلتفت إليه لأنه غير قطعيّ في سقوط المعارضة، فإنّ كلام المعارض مبنيّ على أنّ ما ذكر من نحو ألف ولام وميم إعلام لا نفسها فيصح أن يطلق كل واحد منها، ويراد به ذلك اللفظ ويحكم عليه بأنه حرف، كما في قولك من حرف جر وضرب فعل ماض ونحوه وهذا لمن له بصيرة نقاذة خلط، وخبط نثر. خير من نشره فإنه ليس من قبيل الألفاظ الموضوعة لا نفسها إذ مدلول لام ل، وهو مغاير لاسمه الدال عليه وان أتفق كونه جزءاً له كلفظ كلمة كلمة الذي هو من جزئياتها كما مرّ نعم عبارة المصنف لا تخلو من الركاكة وهذا هو الذي أوقعه فيما وقع فيه، فإن قلت المقصود من الحديث تكثير الحسنات، وهو لا يناسب جعل ألف حرفا وهي ثلاثة أحرف قلت أجيب بأنّ المراد مسماه وهو بسيط، وفيه أنّ المقروء هنا الاسم والحسنة باعتبار القراءة إلا أن يقال قراءة الأسماء تقتضي قراءة المسميات وفيه نظر، فإن قيل المراد بسائط هو المركب أعني أنه اكتفى بذكر بسيط واحد عن كل واحد من الأسامي الثلاثة اختصاراً فهو بعيد، ولذا قيل إن الأوجه أن يراد بالحرف الكلمة. قوله:(ولما كانت مسمياتها حروفاً وحداناً) وحدان بضم الواو جمع واحد كراكب وركبان وهذا زبدة ما في الكشاف من أنه ووعيت في هذه التسمية لطيفة، وهي أنّ المسميات لما كانت اً لفاظا كأساميها وهي حروف وحدان، والأسامي عدد حروفها مرتق إلى الثلاثة اتجه لهم أن يدلوا في التسمية على المسمى، فلم يغفلوها وجعلوا المسمى صدر كل اسم منها، كما ترى إلا الألف، فإنهم استعاروا الهمزة مكان مسماها لأنه لا يكون إلا ساكنا، ومما يضاهيه في إيداع اللفظ دلالة على المعنى التهليل والحوقلة، وتسميه النحاة نحتا، والمصنف رحمه الله تبعه في ذلك، إلا أنه عدل عن قوله، والأسامي عدد حروفها مرتق إلى الثلاثة إلى قوله وهي مركبة لأنه أخصر وأظهر، وفيه إشارة إلى أنّ ارتقاءه لذلك لا تتوقف عليه هذه اللطيفة، وإنما هو بيان للواقع، وفي شروح الكشاف كلام لا مساس له بعبارة المصنف رحمه الله، وهذا برمّته من كلام ابن جني في سرّ الصناعة حيث قال فيه: كل حرف يقرأ أوّل حروف تسميته لفظه بعينه ألا ترى أنك إذا قلت جيم، فأوّل حروفه ج وإذا قلت: ألف فأوّل الحروف التي نطقت بها همزة، ولما لم يمكن الواضع أن يبتدىء بالألف التي هي مذة ساكنة دعمها باللام قبلها متحرّكة ليتمكن من الابتداء بها
فقالوا لا بزنة ما، فلا تقل كما يقول المعلمون لام ألف فانه خطأ، وخص اللام بالدعامة لأنهم توصلوا للنطق بلام التعريف بأن جعلوا قبلها الهمزة التي هي أختها، فتوصلوا فيها باللام لضرب من المعاوضة بين الحرفين فالألف التي هي أوّل حروف المعجم صورة الهمزة في الحقيقة اهـ. وقال ابن فارس في كتابه فقه اللغة: يزعم قوم أنّ العرب لا تعرف الحروف بأسمائها، والدليل على ذلك ما حكاه عن بعض الأعراب إنه قيل له أتهمز إسرائيل فقال إني إذاً لرجل سوء لأنه لا يعرف من الهمز إلا الضغط، والعصر ويرده أنهم أهل مدر ووبر، ومنهم من يعرف الكتابة
سورة البقرة / الآية 2431 السمع، واستعيرت الهمزة مكان الألف لتعذر الابتداء بها، وهي ما لم تلها العوامل موقوفة والحروف ومنهم من لا يعرفها كالإعرإب اهـ فقول الزمخشريّ ومن تبعه هنا إلاً الألف مخالف لكلام ابن جني، فإنها عنده اسم الهمزة، والألف اللينة اسمها لا التي يعبر عنها المعلمون بلام ألف، كما سيأتي فاللطيفة تامّة بلا توجهية، والهمزة صفة لها لأنها تسهل وتبدل، وذلك كالعصر لها وليس اسما مستحدثاً كما قيل، وذهب غيره إلى أنّ الألف اسم للينة إلا أنها أبدلت همزة لتعذر الابتداء بها وهو المرإد بالاستعارة هنا، فاللطيفة جارية فيها باعتبار أصلها ولم تتخلف اضطراراً.
(تنبيه) قول معلمي الصبيان لام ألف خطأ فإنّ اسمها لا وقول بشار:
يخط في الطريق لام ألف
ليس معناه هذا فإنه في وصف السكران يجرّ رجليه في التراب فأثرهما فيه معوجاً يعود
شكل لام، ومستقيما شكل ألف.
(وأقول) الشعر صريح فيه. قوله: (ليكون تأديتها بالمسمى أوّل ما يقرع السمع) قيل الباء زائدة، كما في قولهم أخذت بالخطام، وأنه ليس المراد بالتأدية الدلالة حتى يقال: كان الأنسب ذكر المسميات في الآخر لأنّ فهم المعنى بعد فهم اللفظ بل إحضار المسمى بذاته لأنهم لما قصدوا أن يضعوا لهذه البسائط أسامي مركبة لمصلحة راعوا هذه اللطيفة في التسمية بأن ركبوا كل اسم من مسماه مع غيره، وقدموا المسمى ليكون أوّل ما يقرع السمع لزيادة مناسبة وللإشارة إلى أنّ هذه التأدية ليست من جنس تلك التأدية، فلو لم يكن الاسم مركبا من عدة حروف والمسمى حرف مفرد لم تتيسر هذه النكتة فيه، فانظر فائدة هذه القيود، ووقوع كل منها في محزه. (أقول الا يخفى أن تأويله بالإحضار وحده لا يدفع ما ذكر، ولا يكفي في أداء ما قصده بدون قيد بذاته، ولا قرينة على تقديره هنا، فالظاهر أنّ ضمير تأديتها راجع لقوله: حروفها وحدانا والباء للملابسة لا زائدة، لأن زيادتها في المفعول غير مقيسة كما صرّحوا به أي إيصال المتكلم لتلك الحروف من جهة كونها مسمى، ومدلولاً عليها أوّل إلخ وأصل معنى التأدية الإيصال، فإنها تفعلة من الأداء قال تعالى: {إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} [النساء: 58] ومنه أداء الدين من الدين، وفي عرف الفقهاء يكون بمعنى إيقاع الفعل في وقته، ويقابله القضاء وهو مضاف للمفعول لأنه متعد بنفسه، والقرع مس جسم باخر بحيث يسمع له صوت والصوت يسمع بوصول الهواء إلى مقعر الأذن شبه وصوله بالقرع، وصار حقيقة فيه، فلذا تال يقرع السمع دون يسمع مع أنه أخصر. قوله:) واستعيرت الهمزة) أي جعلت أوّلاً في مكانها لتعذر الابتداء بها كما مرّ، فالاستعارة ههنا بمعناها اللغويّ على ضرب من التوسع، وهذا إذا لم تكن الألف موضوعة في الأصل للهمزة، واستعمالها في المدة على التوسع كما نقل عن ابن جني لأنها تد تصير مدة، أو هي مشتركة بينهما كما ذهب إليه بعض
أهل اللخة. قوله: (وهي ما لم تلها العوامل إلخ) المراد بكونها تليها أن تتصل وتفترن بها سواء كانت مقدمة أو مؤخرة لأنّ الولي يكون بمعنى الاتصال، كما يكون بمعنى وقوعها بعدها ومنه التالي، وليس هذا مراداً والاً كان الظاهر العكس، وهذا إمّا بناء على الأصل أو المراد به ما كان كذلك حقيقة أو حكماً، فلا يضره فصل الجملة المحترضهه ونحوها، ولا يرد عليه العوامل المعنوية، حتى يقال إنه باعتبار اكثر والعوامل جمع عامل وهو مشهور. قوله: (موقوفة خالية عن الإعراب (قال أبو حيان في شرح التسهيلى الأسماء المتمكنة قبل التركيب كحروف الهجاء المسرودة ألف باء تاء ثاء، وأسماء العدد نحو واحد اثنان ثلاثة أربعة فيها للنحاة ثلاثة أقوال، فاختار ابن مالك رحمه الله أنها مبنية على السكون لشبهها بالحروف في كونها غير عامله ولا معمولة، وهذا عتك. يسمى بالشبه الإهمالي، وذهب غيره إلى أنها ليست معربة لعدم تركبها مع العامل ولا مبنية لسكون آخرها في حالة الوصل، وما قبله ساكن
وليس في المبنيات ما هو كذلك وذهب بعضهم إلى أنها معربة يعني حكما لا لفظا، والمراد به قابلية الإعراب، وائه بالقوّة كذلك ولولاه لم يعل فتى لتحرّكه وانفتاح ما قبله، وهذا الخلاف مبنيّ على اختلافهم في تفسير المعروب والمبني، فإن فسر المعرب بالمركب الذي لم يشبه مبنيّ الأصل شبها تافآ، والمبنيّ بما خالفه فهي مبنية، وان فسرا بما شابهه وخلافه، ولم نقل بالشبه الإهمالي، فهي معربة تنزيلاً لما هو بالقوّة منزلة ما هو بالفعل، وان قلنا المعرب ما سلم من الشبه وتركب مع العامل والمبني ما شابهه فهي واسطة:
وللناس فيما يعشقون مذاهب
فالخلاف لفظيّ، والأمر فيه سهل، وكلام الكشاف مبنيّ على الثاني وكلام المصنف محتمل له ولما، حده وان كان الأوّل أظهر، ثم إنه قيل إنّ المحققين حصروا سبب بناء الأسماء في مناسبة ما لا تمكن له أصلاً، وسموا الأسماء الخالية عنها معربة، وجعلوا سكون أعجازها قبل التركيب وقفاً لا بناء، واستدلوا على ذلك بأنّ العرب جوّزت في الأسماء قبل التراكيب التقاء الساكنين كما في الوقف، فقالوا زيد عمر وصاد قاف، ولو كان سكونها بناء لما جمعوا بينهما، كما في سائر الأسماء المبنية نحو كيف وأخواتها لا يقال ربما عددت الأسماء مساكنة الإعجاز متصلاً بعضها ببعض، فلا يكون سكونها، وقفاً بل بناء لأنا نقول هي قبل التركيب في حكم الوقف سواء كانت متفاصلة، أو متواصلة إذ ليس فيها قبله ما يوجب الوصلة، فالمتواصلة منها في نية الوقف، فتكون ساكنة بخلاف كيف، وأين وحيث وجير إذا عذدت وصلاً، فإن حركتها لكونها لازمة لا تزول إلا بوجود الوقف حقيقة اهـ (أقول) ما ذكر وان كاد زهرة لا يحتمل إلا أنه يرد عليه أنّ صاحب المذهب الآخر يقول: إنّ ما استدلوا به من التقاء الساكنين فيها، وهو لا يجوز في المبنيّ غير تائم لأنه بناء عارض، كبناء المنادي واسم لا والتقاء الساكنين يغتفر فيه لمشابهته للمعرب في أنه على معرض الزوال، وليس هذا بأبعد من نية الوقف فيما لا
يوقف عليه كألف في ألم. وقوله لا يصح الوصل بنية الوقف، في نحو جير غير مسلم أيضاً مع أنه قائل بأن فيها مناسبة لغير المتمكن لمشابهتها للحرف، كما مرّ عن ابن مالك ثم إنّ المصنف رحمه الله عدل في الكشاف لنكتة، كما هو دأبه إذا غير عبارته فأتى مع الإيجاز بعبارة محتملة للمذهبين سالمة عما في قوله: هي أسماء معربة، وإنما سكنت سكون زيد وعمرو وغيرهما من الأسماء حيث لا يمسها إعراب إلخ من شبه التناقض، وان كان مدفوعاً بأنّ المثبت الإعراب بالقوّة، والمنفي ما هو بالفعل فمن توخم أنه عينه فردّ ذلك التوفيق، فهو ممن حرم نعمة التوفيق، ثم إنّ الوقف له معان يكون بحسبها متعديا ولازما، فيكون بمعنى التأخير كقولهم يوقف الميراث لوضع الحمل، وبمعنى الإمساك والمنع، وبمعنى تسكين آخر الكلمة دون بناء لقطعها عما بعدها حقيقة، أو حكماً وهذا هو المراد هنا لا كونها غر معربة ولا مبنية وان صح كما أشرنا إليه، فلذا أورد عليه بعض المتأخرين أنه بهذا المعنى لا يمكن في نحو قولك صيم امرىء ولام الرجل، وهكذا كل مضاف. ذكر على سبيل التعداد، وأجيب بأنه مخصوص بما إذا لم يمنع منه مانع، وفيه نظر لأنه لا تعرف هذه الحركة فيه، كما لا يعرف علامة الإعراب الحرفية، وحال النعت في الأسماء، كما إذا قلت: اثنان ثلاثة وقلت: الفصل الأوّل الفصل الثاني. قوله: (معرّضة له) بزنة اسم المفعول من التعريض أي مهياة له، ومستعدة لقابليتهاءله، كما يقال فلان عرضة للوائم إذا استحق اللوم، وقيل: معناه محل لعروض الإعراب بمعنى الحركات الإعرابية لا بمعنى كونه بحيث لو اختلفت عليه العوامل اختلف آخره، وموجبه أي موجب الإعراب بكسر الجيم، وهو العامل ومقتضيه، وهو المعاني المعتورة عليه من نحو ألفاً علية والمفعولية، والإضافة وليسا بمعنى واحد وهو العامل لأنّ ما ذكر أتم فائدة. قوله:(إذ لم تناسب إلخ) تعليل لكونها معرّضة للإعراب وقابلة له وليس استدلالاً مبنياً على انحصار علة البناء في المناسبة المذكورة، كما قيل لأنّ كلامه غير متعين له كما قدّمناه وكذا ما قيل من أنه أشار إلى أنّ الاسم يبنى تارة لعدم الموجب وتارة لمناسبته مبنيّ الأصل، وان وجد الموجب وما نحن فيه من الأوّل إن حمل على ما ذهب إليه الجمهور من أنّ المبني ما ناسب مبني الأصل أو وقع غير مركب، فان حمل على أنه ما شابه مبني الأصل، وما عداه معرب فالمراد بقوله خالية عن الإعراب خلوّها من ظهور الإعراب لفظا أو تقديرا، فإنه محل نظر ويرد على المصنف رحمه الله أنها مناسبة لمبنى الأصلي عند ابن
مالك لما فيها من الشبه الإهمالي فتدبر. قوله: (ولذلك إلخ) قد عرفت أنه تعليل لكونها غير مبنية وهذا ما ذهب إليه من تقدمه من أهل العربية، فإنهم جوّزوا التقاء الساكنين في الوقف، ولو على غير حدة ولم يجوّزوه في غيره كحالة البناء فسكون هذه الأسماء سكون وقف لا بناء، ولا يرد عليه حيث وجير وغيرهما من المبنيات مما إذا وقف عليه سكن نعم من يقول إنه بناء عارض وهو يجوز فيه ذلك لاشيقول بما ذكره المصنف كما مرّ، والاعتراض على هذا بأنه قياس بغيو جامع في اللغة ظاهر السقوط.
قوله: (ثم إنّ مسمياتها إلخ) شروع في تفسيرها وتوجيه افتتاح السور بها، وقد ذكر في الكشاف وجوهاً ثلاثة أوّلها أنها أسماء للسور، والثاني الإيقاظ، والثالث أنها مقدمة لدلائل الإعجاز، والمصنف وحمه الله ذكر الأخيرين وأخر الأوّل، وأورده بقيل، ثم أورد بلا يقال وجوها أربعة مزيفة، ثم أورد أربعة أخرى بصيغة التمريض فالوجوه أحد عشر، وما ذكر من الوجهين يشتركان في الإشارة إلى أمارة الإعجاز ويفترقان بأنّ الأوّل بالنظر إلى حال الكلام المنزل، والثاني بالنظر إلى حال المتكلم به، والعنصر بضم العين وسكون النون وضم الصاد المهملة، وقد يفتح للتخفيف ووزنه فنعل، ويحتمل أن يكون فعلل على ما بين فالصرف ومعناه الأصل وهو المراد هنا، وبسائط جمع بسيطة وهي الحروف المفردة فقوله التي تركب منها تفسير له فمن قال إنه جمع بسيطة بمعنى مبسوطة وهي المنثورة لم يصب المحز، وعطف بسائطه تفسيري أيضاً، وقوله بطائفة منها أي من الأسماء إذ هي المفتتح بها، وليس فيه تفكيك الضمائر المحذور لظهور القرينة عليه، وتعريف السور للعهد أي التي افتتحت بالحروف، وفي نسخة السورة بتاء الوحدة والأولى أولى رواية ودراية، وأمّا على الثانية فقيل تعريفها للعهد الخارجي، والمعهود سورة البقرة لا للاستغراق لأنّ من السور ما لم يفتتح بطائفة منها مثل ص وق. ويحتمل العهد الذهني على تقدير أنّ المصنف قدّم هذا الوجه لأنه الأصل الأظهر ولطوله فلو أخر أتى بعد ذهاب النشاط فقد لا يحيط به السامع خبرا، وحاصله أنّ المراد بها إمّا مسماها من الحروف المقطعة أو لا، وعلى الأوّل فالافتتاح بها وتخصيص البعض به في أبلغ الكلام لا بد له من وجه فوجه الأوّل بوجهين ولم يجعل كلاً منهما تأويلاً مستقلاً كما فعله الزمخشريّ قصرا للمسافة لتقاربهما واتحادهما مآلا، ثم إنّ بعض أرباب الحواشي أورد هنا ما في الكشاف من السؤال عن رسمها على صور الحروف بأنفسها دون صور أساميها وما أجاب به من أنه مبنيّ على ما. جرت به العادة المألوفة من أنه يقال للكاتب إذا أملى عليه اكتب باء جيم فيكتب مسماها هكذاب ح. ولكونه مع اختصاره مأمون الليس، ولأنّ خط المصحف كخط العروضيين سنة متبعة لا يلتزم أن يجري على قياس الرسم، ولم يتنبه لأنّ هذا إنما يتجه على الوجه الآتي وهو كونها اسماً للسورة، فإنها إذا قصد بها الحروف أنفسها فالمعروف أن تكتب كما هنا إلا أنها في غير المصحف تكتب غير متصلة، فيقال هجاء ضرب ض رب وغفل أيضاً عن إيراد العلامة له ثمة وقوله: استمرّت العادة لمن تهجى أن يلفظ بالأسماء، وتقع في الكتابة الحروف أنفسها. قوله:(إيقاظاً لمن تحدّى بالقرآن) الإيقاظ مصدر أيقظه إذا نبهه من نومه والتنبه منه يقظة بفتحات وتسكين القاف في قوله:
فالعمرنوم والمنية يقظة والمرءبينهما خيال ساري
ضرورة وقيل إنه جائز سعة، وتحدى بصيغة المجهول من التحدي وهو طلب المعارصة
أو المعارضة نفسها كما تقدم أي ليوقظ من تحداه، وعارضه من نومة الغفلة، فينبهه على أنّ ما تلي عليه منظم مما تركب منه كلامهم فعجزهم عن معارضته مع علوّ كعبهم في صناعة الكلام ليس إلا لأنه من غير جنس كلام البشر لأنّ ما فيه من الخواص، والمزايا خارج عن طوقهم، والتظاهر التعاون وأصله أن يسند كل إلى ظهر آخر، ويدانيه بمعنى يقاربه، فإن قيل إعجاز القرآن ليس بتركيب الحروف بل بتركيب الكلمات التي يكون المركب منها معجزاً بمطابقته لمقتضى الحال، فاللائق بما ذكر سرد ما يتركب منه الكلام، وهو الكلمات لا الحروف قيل المراد أن يذكر المادّة التي تتركب منها الكلمة وهي الحروف ومادة الكلام، وهي الكلم أنفسها معاً غير أنه اكتفي بالأول لظهور أن القدرة على الحروف وحدها لا تفي بأداء ما هو بصدده من الإتيان بكلام بليغ
معجز لا يقال حينئذ ينبغي الاكتفاء بالكلمات عن الحروف، لأنّ التركيب من الكلمات يستلزم التركيب من الحروف بلا عكس لأنا نقول هو كما ذكرت إلا أنه لا يحصل بهذه الإيقاظ لأنه لو سردت كلماته موضوعة على هذا النمط توجه الذهب إلى تحصيل معناها وطلب ارتباطها لا إلى ما ذكر من الإشارة فتدبر. قوله:(وتنبيهاً على أن المتلوّ عليهم إلخ) هذا وما عطف هو عليه منصوب على أنه مفعول له، فإن قلت دلالة اللفظ كغيره إمّا وضعية أو عقلية أو طبيعية، والمراد بالوضعية ما للوضع مدخل فيه، فيشمل الدلالات الثلاث والمجاز والكناية، وهذه الألفاظ موضوعة للحروف المقطعة، فكيف تدل على الإيقاظ، وعلى ما يتيقظ له من الإعجاز، ولا يظهر في طريق من طرق الدلالة المذكورة. قلت: هو مما يحتاج للتنبيه عليه والإيقاظ ولم يتعرّض له أحد من أرباب الحواشي والشروح (والذي ظهر لي) بالتأمّل الصادق أنه من الدلالة العقلية، وهي قد تدل على أمور متعددة كصوت غناء من وراء جدار يدل على أن خلفه ناساً في لهو ولعب، واجتماع لما يسرّهم وهنا لما صذر الكلام بهذه الحروف، وليس المراد إفادة مسماها والمتكلم بليغ يصون كلامه عن العبث دل عقلاً على أنّ المراد به الإشارة إلى أنّ ما بعده كلام مركب، ونحن إذا سمعنا المعلم يهجي طفلأ علمنا منه أنه سيقرئه والتنبيه على هذا بخصوصه مع أنه كلام مركب منها لا بد له من وجه، فإذا أصاخ له اللبيب تفطن لما ذكر ولله در العلامة خطيب المفسرين إذ أشار لما ذكر بقوله كالإيقاظ وقرع العصا، فجعله كقرع العصا إيماء إلى أنّ دلالته عقلية صرفة موكولة لفطنة السامع إذ دلالة قرع العصا لذي الحلم المضروب به المثل في قوله:
إن العصا قرعت لذي الحلم
لكونها على خلاف المعتاد تدل على خطئه كما نبه قرع الأسماع هنا على خطا هؤلاء،
وتال في الكبير: بيانه أنه عليه الصلاة والسلام كان يتحداهم بالقرآن فلما ذكر هذه الحروف دتت قرينة الحال على أنّ مراده من ذكرها أن يقول لهم هذا القرآن إنما نزل بهذه الحروف التي أنتم قادرون عليها فلو كان هذا من فعل البشر لوجب أن تقدروا على الإتيان بمثله اه. قوله:
(عن آخرهم) هذه عبارة مشهورة مسموعة من العرب قديماً أي عبارة عن الاستيعاب والشمول. وقال العلامة هو أبلغ من جميعهم لأن عن للمجاوزة، فالمراد عجزوا عجزاً متجاوزاً عن آخرهم وإذا تجاوز العجز عن آخرهم شملهم كلهم أوّلاً وتجاوز عنهم ثانيا، فهو أبلغ من عجزوا جميعا، وقيل عليه بل المعنى عجزاً صادراً عن آخرهم لا متجاوزاً عنه، لأنّ معنى تجاوز عنه عفا عنه، وغفروا ما بمعنى التعدّي فالمجاوزة فيه متعدّية بنفسها، ودفع بتضمين معنى التباعد بمعونة المقام إذ لا محل للعفو هنا مع أنه تعدى بكلمة عن أيضا في كلام من يوثق به، وقيل المعنى حينئذ عجزاً صادراً عن آخرهم إلى أوّلهم، وفيه أن مقابل كلمة إلى من الابتدائية لا عن، فإن قيل هذا تطويل بغير فائدة، إذ قدر التجاوز وضمنه معنى التباعد فهلا قدر التباعد ابتداء، فإنه يتعدّى بعن في كلام العرب كما مرّ في قوله:
تباعد عني فطحل إذ دعوته
قيل بل فيه فائدة، وهي أنّ التباعد عن الآخر هنا بطريق المجاوزة لا بطريق عدم الوصول
إلى الآخر أو المحاذاة، فلو لم يقدّر كذلك توهم هذا، وإن كان المقام قد يأباه، وقيل إنه غير وارد لأن مراد ذلك القائل بيان معنى عن واظهار وجه تعلقه بالفعل، ونظيره قول ابن الحاجب في معنى جلست عن يمينه متراخيا عنه، كأنه متجاوز عن موضعه إلى الموضع الذي بحيال يمينه، وله نظائر ولا يخفى عليك أنه إذا تعلّقت عن بالفعل لا تفيد هذا المعنى الذي ادعاه هذا القائل لأنّ معنى العجز عن الآخر أنهم لا يقدرون على الآخر لا أنّ الآخر عجز وتجاوزه العجز، ولو كان مراده ذلك لقال متجاوزا الآخر، ولا يخفى ما فيه من الخلل، ثم أنهم لم يستندوا في التعدية المذكورة إلى نقل، وقول الشريف من يوثق به أراد به الرضى كما أشار إليه في حواشيه عليه (وأنا أقول) إنه وقع بهذا المعنى معذى بعن في قول أبي تمام:
فلا ملك فرد المواهب واللها ~ تجاوز لي عنه ولا رشأ فرد
قال التبريزي في شرحه: لا نفي لتجاوز الملك، والتقدير لا تجاوز لي عنه الملك الفرد،
ولا الرشأ أي متى ملكني لم يقدر على تنحيتي عنه ملك بذال ولا رشأ فرد اهـ فمثل أبي تمام إذا استعمله، وما يقول بمنزلة ما يرويه كما سيأتي
ومثل التبريزي من أئمة اللغة، وناهيك به لم يعترضه، وأشار إلى تعديه بعن لما فنه من معنى التنحية المعذاة بها كفى دليلاً عليه، وقيل عن بمعنى من مع وجوه أخر متكلفة ضربنا عنها صفحا لركاكتها. قوله:) وليكون أوّل ما يقرع الأسماع إلخ) عطف على قوله: إيقاظا وأظهر اللام تفننا، وللإشارة إلى أنه وجه آخر وحذفت من الأوّل دونه لوجود شرط النصب، وهو كون المفعول له فعلاً لفاعل الفعل المعلل إلا أنه قيل عليه أنه إذا عطف على إيقاظا تعلق بافتتحت، وسببية عنصرية المسميات للكلام للافتتاح المعلل بكون أول ما يقرع الأسماع مستقلاً بنوع من الإعجاز غير ظاهرة فلا يجعل المعطوف
في حكم المعطوف عليه من حيث كونه جواب السائل في مجرّد افتتاح السورة بطائفة منها وفيه ما فيه، اللهمّ إلا أن يقال عنصريتها للكلام تستدعي تقديمها، فناسبه أن يكون ذكر أساميها المستقلة بنوع من الإعجاز أول ما يقرع السمع، ثم إن هذا ظاهر إن كانت البسملة ليست من السورة، والأ فالمراد أنه أوّل ما يقرعه مما يختص بها.
وقال قدس سرّه: إشارة إلى أنّ المقصود من الأغراب في أوائل السور أن يكون دليلأ
على إعجاز ما يرد بعدها ومقدّمة منبهة عليه، فالفواتح على ما قبله نبه بها على أنّ هذا المتلوّ لتركبه مما يتركب منه كلامهم على قواعدهم ليس إعجازه ببلاغته الفائقة إلا لكونه من الله، وعلى هذا نبه بها على أنها لاستقلالها بوجه من الاغراب من حيث صدورها ممن يستبعد منه أمارة على إعجاز ما بعدها بالنسبة إلى حال من ظهر على لسانه اغتراب بكلمة مما يستغرب منه إشارة إلى تكلمه بما يعد منه معجزا، فالوجهان ناظران إلى الوجهين في تفسير قوله تعالى:{فَأْتُواْ بِسورة مِّن مِّثْلِهِ} [البقرة: 23] وفيه أنّ قوله أمارة على إعجاز ما بعدها مع قوله قبله لاستقلالها بوجه من الاغراب فيه تناف يحتاج إلى التوفيق، واعترض بأنه يمكن تعلم أسماء الحروف، ولو بسماع من صبيّ في أقصر مدة فلا إغراب فيه، وأجيب بأنه وإن أمكن ذلك لكن صدوره ممن لم يشتهر أنه تعلم، وهو بين قوم أمّيين مستبعد جدا، وفيه بحث وأما ما يذكر بعده من لطائف تلك الحروف فمع كونه لا يختص بهذا الوجه يبعد كونه من تتمة الجواب، لأنه لا يتفطن له إلاً الماهر في أوصاف الحروف فضلاً عمن لا يقرأ ولا يدرس فكيف يعجزهم، ويتحذاهم بما لا يفهمونه، فلا وجه للجواب عنه بأنه ليس المستغرب مجزد التلفظ بها بل مع رعاية اللطائف التي ذكرت متصلة بها، وقول المصنف رحمه الله سيما إشارة إلى هذا الجواب، والكتاب بضم فتشديد جمع كاتب لا بمعنى المكتب لأنه غير مناسب هنا وان أثبته بعض أهل اللغة، والأميّ الذي لا يقرأ ولا يكتب نسبة إلى الأمّ لأنه خرج من بطن أت أو نسبة إلى أمة العرب لأنهم كانوا كذلك، أو إلى أمّ القرى لأنّ أهلها كذلك والحاصل أنّ ذكرها يدل على إعجازه في نفسه أو بالنسبة إلى من أنزل عليه. قوله: (كالكتابة والتلاوة (إدراجه الكتابة بين تلفظه بأسماء الحروف، والتلاوة الواقعين منه على خرق العادة يقتضي اً نه صلى الله عليه وسلم كتب من غير تعلم بل على خرق العادة وسيأتي فيه كلام في قوله تعالى:{وَمَا كُنتَ تَتْلُو مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ} [العنكبرت: 48، فعلى المشهور التمثيل لمجرّد استغرابه وإن لم يقع. وقوله: (سيما إلخ (الكلام على سيما ومعنى قول بعض النحاة أنه للاستثناء مفصل في حواشينا على الرضى وحاصله أن سيّ بمعنى مثل يقال هما سيان أي مثلان، فمعنى لا سيما لا مثل ما، وما زائدة أو موصولة أو موصوفة، وعدهم له من كلمات الاستثناء لأنه للاستثناء عن الحكم المتقدم ليحكم عليه على وجه أتمّ من جنس
الحكم السابق، والمعروف ذكر اسم بعده معرب بالوجوه الثلاثة كما في قول امرىء القيس: ولا سما يوم بدارة جلجل
وايقاع الجملة الحالية بعده كما وقع في عبارة المصنف رحمه الله وان كثر في كلام المصنفين إلا أنّ النحاة لم يذكروه، كما ننه عليه بعض المتأخرين، وحكى الرض أنه يقال سيما بالتشديد والتخفيف مع حذف لا كما هنا، وقال الدماميني في شرح التسهيل: لم أقف عليه لغيره، وهو كثير في كلام المصنفين، وقال أبو حيان ما يوجد في كلام المولدين من حذف لا لا يوجد في كلام من يوثق به، ونص عليه أبو عليّ الفارسيّ وقال حذفها غير جائز، وكذا في البارع والتهذيب، وقال في المصباح: ربما حذفت لا في الشعر وهي مرادة للعلم بها، والأديب العارف بفنون العربية، وما يلحق بها مما فصل في أوّل شرح المفتاح، وتسميتها أدباً
والعارف بها أديباً من الاصطلاحات المولدة، ومعناه في لغة العرب الأخلاق والصفات الحميدة كما ورد في الحديث " أذبني ربي فأحسن تأديبي " أا (قال المطرزي في شرح المقامات: والأريب بالراء العاقل وجملة وقد راعى حالية. قوله: (وهو أنه أورد إلخ) الضمير راجع إلى ما في قوله ما يعجز وكونها نصفا بإسقاط المكرّر ظاهر ولم يورد الكل لأن أداء ما ذكر تام بدونه، فاقتصر منه على ما هو بمنزلته، وحروف المعجم ليس من إضافة الموصوف للصفة إن كان المعجم مصدراً ميمياً بمعنى الإعجام، أو هو منها إن كان اسم مفعول وقلنا بذلك كصلاة الأولى، أو هو مؤوّل أي حروف الخط المعجم وصلاة الفريضة الأولى أي الذي من شأنه ذلك والإعجام من العجم بمعنى النقط، وقد شاع في كلام المصنفين تخصيص المعجمة بالمنقوطة وتسمية غيرها مهملة، أو هو بمعنى الإبهام والإخفاء، ومنه عجم الزبيبة لاستتاره، والعجم وان كان هنا للإيضاح لا للإبهام، فإنما جاءه هذا من جهة كون همزته للسلب كاشكيته إذا أزلت شكايته، وأشكلت ا. لكتاب أزلت إشكاله، وقالوا أيضا: عجمت الكتاب على التفعيل للسلب كمرّضته بمعنى داويته، وأزلت مرضه، وقذيت عينه أزلت عنها القذى، وهذا رأي أبي عليّ الفارسيّ، وهو حسن ومن لم يقف عليه اعترض بأنّ السلب غير مقيس، وإذا سمع هذا اللفظ بعينه من العرب ودل بفحواه على ما ذكر كان هذا من فضول الكلام ولا يقال عجم مخففاً بل عجم وأعجم. قوله:(إن لم يعدّ الألف إلخ) ضمحر فيها المؤنث لحروف المعجم، وفي بعضها فيه وهو تحريف من الناسخ قال ابن جني في سر الصناعة: أعلم أنّ أصول حروف المعجم عند الكافة تسعة وعشرون حرفاً، أوّلها الألف، وآخرها الياء على المشهور من ترتيب حروف
المعجم إلا أبا العباس، فمانه كان يعدها ثمانية وعثرين حرفا أوّلها الباء الموحدة، ويدع الألف من أوّلها ويقول هي همزة لا تثبت على صورة واحدة، وليس لها صورة مستقرّة فلا أعدها مع الحروف التي أشكالها معروفة محفوظة، وهو غير مرضيّ عندنا اهـ. فإن كان هذا مراد المصنف ليوافق النقل المذكور، فالمراد بالألف الهمزة لأنها غير مستقلة لتبعيتها لغيرها لفظاً وخطاً، وان كان المراد بها المدّة التي هي حرف لين كما قيل: فمعنى عدم عذها برأسها درجها مع الهمزة تحت الألف، أو بأن لا تعتبر أصلاً بناء على أنها مدة منقلبة غالباً عن الواو والياء، وهو المناسب إذ المراد بالألف المعدودة الهمزة ومعنى قوله برأسها مستقلة غير مندرجة مع غيرها تحت اسم واحد، والرأس حقيقتها معروفة ثم إنهم توسعوا فيها لمعان كالأول في قولهم رأس السنة، والرئيس في قوله هو رأسهم أي رئيسهم وهي هنا بمعنى الاستقلال وهو في كلام المولدين مشهور، والعلاقة فيه اللزوم لأنه لا يستقل بدونها. قوله:(بعددها إذا عدّ فيها الألف إلخ) إشارة إلى أنه سلك في الأوّل طريقا فيه عدم عذها ثم سلك في الثاني طريق عدّها اعتباراً لكل منهما واحترازاً عن تعطيل واحد منهما، وقوله مشتملة بالنصب صفة أربعة عشر أو حال منها وكون المذكورات إنصافاً تقريبيّ، لأنّ في بعضها زيادة يسيرة ونقصا يسيرا يجبر كل منهما الآخر. وقيل: قد مرّ أنّ الهمزة اسم مستحدث، فلو جعل الألف حرفا برأسه أيضا، فلا اسم لمسمى الهمزة في زمان نزول القرآن، فالواقع في الفواتح نصف أسامي الحروف على كل حال، وأجيب بأن مراده نصف أسامي جميع الحروف وعلى تقدير عد الألف حرفا برأسه لا يتحقق لجميع الحروف أسامي، وهذا يستلزم عدم تحقق نصف أسامي الجميع وقيل الألف مثترك بين الخاص، وهو المدة والعام الشامل لها وللهمزة وهذا مبيّ على عدها حرفا برأسها، وهو تكلف مبنيّ على أنّ لفظ الهمزة بهذا المعنى لم يثبت عن العرب، وقد مرّ أنه لا أصل له لا يقال ما ذكر من الأنواع اصطلاحات أحدثها أرباب العربية حتى دوّنوها، فكيف تقصد حين نزول القرآن المتقدّم عليها، لأنا نقول المستحدث الأسامي والعبارات لا المعاني المرادة بها، وهي المقصودة ههنا وقيل: إن كون المذكور أنصافا لها باعتبار الأكثر وإلا فقد يشتمل على ثلثي بعض الأنواع كما في حروف الصفير، وهي الصاد والزاي والسين والحلقية وقد يشتمل على تمام النوع كحروف الغنة، وهي الميم والنون الساكنة والحرف المكرّر وهو الراء وأراد بالأنواع مشاهيرها المعتبرة لأنّ بعضهم زاد فيها إلى ما يبلغ أربعة وأربعين إلى غير ذلك. قوله:(وهي ما يضعف إلخ) وقع في بعض النسخ هو بدل هي فذكره باعتبار
الخبر أو لتأويلها بالنوع، والمهموسة اسم مفعول من همست الكلام، وهو متعد من باب ضرب ومصدر. الهمس، وهو في اللغة مقابل للجهر وفسر بالإخفاء كما فسر الجهر بالإعلان، وقيل معناه الخفاء وفي الصحاح الهمس الصوت الخفيّ، والظاهر أنّ حقيقته إخفاء الصوت لا المطلق ثم توسع فيه فأطلق على الخفاء، وتجوّز فيه فأطلق على المهموس نفسه وصار حقيقة فيه، ويوصف به
الكلام والحروف، وتقول العرب ما سمعت له همسا ولا خرساً وهما الخفيّ من الصوت لأنه المسموع قال تعالى:{فَلَا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا} [طه: 108] وفي الاصطلاح ما ذكره المصنف بقوله ما يضعف إلخ وعليه النحاة وأهل الأداء تبعا لما في كتاب سيبويه حيث قال المهموس حرف ضعيف الاعتماد في موضعه حتى جرى معه النفس، ولم ينقطع جريه حتى أمكن أن يتلفظ به ويتنفس فلذا سميت بذلك لجريان النفس معها لضعفها، وضعف الاعتماد عليها في مخارجها قيل وجعل الضعفين علة للجريان أولى من ضمهما إليه وجعل المجموع علة للتسمية ومن ضم الأول خاصة وجعل الثاني بانفراده علة للجريان فتأمّلء قوله:(ستثحثك خصفه) هو تركيب لجمع الحروف المذكورة وضبطها ليسهل استحضارها كقولهم: فحثه شخص سكت ونحوه والسين هنا حرف تنفيس ويشحث بمعنى يلح في السؤال ومثله يكدي وبه فسر في حواشي الكشاف والمكدي السائل وليس لحنا أو مغيراً من محدي، وهو طالب الحداء كما توهمه الحريريّ في الدرة ولا معربا من كدال كردن كما توهمه بعض فضلاء العصر بل هو عربيّ صحيح استعمله من يوثق به، وذكر. الراغب في مفرفى اته، ومن قولهم يستحث أخذ شحاث للسائل الملح وسمي شحاثة برنة ثلاثة، وقال ابن برّي: كغيره أنه محرف من شحاذ فالعلم شحاذة أيضا، وفي القاموس الشحاث للشحاذ من لحن العوام، وأصل الشحذ السن فاسنعير لإلحاح السائل، وقد صحح لغة على أنه من الأبدال، فإنّ الذال تبدل ثاء فلا غلط فيه، وخصفه بفتحات علم ويكون بمعنى سلة التمر وورد في الحديث بمعنى الحصير، وهو المعروف في الاستعمال اليوم، ولو فسر بما ذكر هنا كان أظهر أي ستطلب منك ما ذكر، وما قيل من أنه لا يبعد أن يكون يشحث ماخوذا من شحثاً، وهي كلمة سريانية يفتح بها المغاليق بغير مفتاح أي ستفتح مغاليقك بلا مفتاح خصفه تعسف غير محتاج له، وقوله نصفها بالنصب مفعول لقوله ذكر وقوله الحاء بدل منه، أو عطف بيان تفسير له. قوله:(ومن البواقي المجهورة) معطوف على قوله من المهموسة إلخ والمجهورة اسم مفعول من جهر الشيء يجهر بفتحتين ظهر، وأجهرته بالألف أظهرته يتعدى بنفسه، وبالباء أيضاً فيقال: جهرته وجهرت به كما في المصباح، ولم يعرّف المصنف المجهورة لأنّ ذلك عرف من جعلها مقابلة للمهموسة، فهي ما يقوي الاعتماد على مخرجه ولذلك كان مجهورا لأنه لا يخرج إلا بصوت قويّ يمنع النفس من الجري معه، وهي ثمانية عشر حرفاً، رالمذكور منها نصفها تحقيقاً وهي تسعة أحرف معروفة، وبهذا علم حدها وعدها. قوله:(ومن الشديدة الثمانية) الذي ذكره النحاة، وأهل الأداء من القراء إنّ الحروف إمّا شديدة أو رخوة أو متوسطة بينهما، وسموها بينية نسبة إلى بين بمعنى التوسط وقالوا معنى الشدة على ما ذكره سيبويه امتناع الصوت أن يجري في الحروف، فلو رمت مد صوتك في القاف والجيم مثلاً نحو الحق والحج لامتنع عليك، والشديدة هي
ثمانية المذكورة والمتوسطة بين الشديدة والرخوة فيها خلاف بين النحاة والقراء، فأكثر النحاة على أنها ثمانية يجمعها لم يروعنا أو ولينا عمر، وأكثر القراء على أنها خمسة وهي حروف لن عمر أي كن لينا يا عمر وما عداهما رخوة والرخوة صفة مشبهة مصدرها الرخاوة، ومعناها اللين الذي هو ضدّ الشذة، وقالوا الرخوة حروف ضعف الاعتماد عليها في مواضعها، فجرى معها الصوت فكأنها تلين عند النطق بها، وفي البينية يجري بعض الصوت معها وينحصر بعضه فإن قلت هل بين المجهورة، والشديدة فرق أم لا قلت: قد فرقوا بينهما باعتبار عدم جري النفس في المجهورة وعدم جري الصوت في الشديدة، وكذا الف ق بين الهمس والرخاوة أنّ الجاري في الهمس النفس، وفي الرخاوة الصوت كما في شروح التسهيل والثافية، وقد يجري النفس ولا يجري الصوت كما في الكاف والتاء، وقد يجري الصوت، ولا يجري النفس كالغين والضاد المعجمتين
وما وقع في بعض شروح الجزرية من أنّ الشدّة تمنع النفس من الجري غير صحيح، فظهر أنّ بين المجهور والشديد عموما من وجه إذ ليس كل شديد مجهوراً ولا كل مجهور شديداً وقيل: بينهما عموم مطلق فكلى شديد مجهور، فالشدة تؤكد الجهر ولا عكس، ومادّة الاجتماع على الأوّل حروف أجد قط بكت إلاً الكاف والتاء، ومادتا الإفتراق أحداهما الكاف والتاء، والأخرى جميع المجهورة إلا مادّة الاجتماع المذكورة فظهر لك مما قررناه أنّ ما محره المصنف رحمه الله هنا غير موافق لما عليه الجمهور. وقوله:) عشرة (بناء على أن الألف ليس حرفا برأسه، وأجدت من الإجادة والطبق معروف، والأقط بفتح الهمزة وكسر القاف ثم طاء مهملة طعام يتخذ من اللبن، والحمس بزنة حمر مهمل الحروف جمع أحمس، وهو المشدد في دينه ولذا قيل لقريش الحمس، ومنه الحماسة ويعدى بعلى أي هم أشداء على نصره. قوله: (ومن المطبقة التي هي الصاد إلخ) حروف الأطباق الأربعة المذكورة هي بعضى من المستعلية الآتية، وسميت بها لإطباق بعض اللسان عند خروجها على ما يحاذيه من الحنك الأعلى.
ولذا قال الجعبريّ: الإطباق تلاقي طائفتي اللسان والحنك الأعلى عند لفظها وكون المطبق طائفة من اللسان لا ينافي تسمية الحرف مطبقا مجازا بأن يكون الأصل مطبق عنده أي عند خروجه فاخحصر وقيل مطبق كما قيل للمشترك فيه مشترك، وجوّز بعض شراح الجزرية في بائه الكسر على التجوّز فيه كالتجوّز في المستعلي، والإطباق لغة بمعنى الإلصاق، ويقابله المنفتحة بصيغة اسم الفاعل لا غير من الانفتاج وهو الافتراق سميت بها لانفتاج ما بين اللسان، والحنك عند خروجها والنطق بها، وهو في الأصل مجاز لأن الحروف نفسها لا تنفتح، د ة نما ينفتح عندها اللسان عن الحنك. قوله:(ومن القلقلة وهي إلخ) فيه مضاف مقدر أي حروف
الشهاب / ج ا / م 97
القلقلة أو سماها بالمصدر توسعا، ومثله سهل ويقال لها حروف القلقلة، واللقلقة وكلاهما بمعنى الحركة، وإليه أشار المصنف بقوله تضطرب لأنه افتعال من الضرب معناه ما ذكر قال في المصباح: يقال رميته، فما اضطرب أي ما تحرّك، ومنه اضطراب الأمور بمعنى اختلافها لما يلزمها من ذلك، وإنما سميت بها لأنّ صوتها لا يكاد يتبين به سكونها ما لم يخرج إلى شبه المتحرّك لثدة أمرها، وإنما حصل لها ذلك لكونها شديدة مجهورة، فالجهر يمنع النفس أن يجري معها والشدة تمنع الصوت من جريه معها فاحتاح بيانها إلى تكلف، وحصل ما حصل من الضغط للمتكلم عند النطق بها ساكنة حتى تخرج إلى شبه تحريكها لقصد بيانها، ومنهم من عللها بأنها حين سكونها تتقلقل عند خروجها حتى يسمع لها صوت ونبرة، وفيه تجوز لأنه أراد بتقلقلها مثابهتها للمتقلقل لا تحرّكها حقيقة، وإلا لزم اجتماع السكون، والتحرّك في حالة واحدة، ومن علل بأنها إذا وقف عليها تقلقل اللسان بها عند خروجها فقد سها لأنّ الباء منها، وهي شفوية لا يتحرّك اللسان بها، وقد حرف تحقيق وطبج ماض من الطبج، وهو الضرب على شيء مجوف، وله معان أخر وفي قوله نصفها الأقل تسامح، والمراد أقل من نصفها لأنها لا نصف لها صحيح ولم يزد لقلتها وثقلها. وقوله:(ومن اللينتين إلخ) أنثه لأن أسماء الحروف مؤنثة سماعية وأراد الياء والواو ولم يذكر الألف لما مرّ، وهذا بناء على أنه ليس المراد باللينة الألف، وما يشملها وخصت الياء لأنها أخف وأكثر من أختها، وحروف اللين هذان والألف واللين أعم من المدّ لأنه لا يطلق عليها في المشهور إلا إذا سكنت، وجانسها ما قبلها من الحركة، وسميت بذلك لأنها تخرج بلين، وعدم كلفة على اللسان. قوله:(ومن المستعلية الخ) سميت هذه الحروف مستعلية لاستعلاء اللسان عند النطق بها إلى الحنك الأعلى لأن حقيقة الاستعلاء لغة طلب العلو، وهو الارتفاع وقد يطلق على الارتفاع نفسه، فلذا سمي مقابلها منخفضاً ومستفلاً بالفاء والحنك بحاء مهملة مفتوحة ونون وكاف إن كان حقيقته سقف أعلى الفم، كما في الأساس أو باطن أعلى الفم من داخل فالأعلى صفة كاشفة مؤكدة، وان أطلق على اللحيين فهي مقيدة وتوصيف الحروف بأنها مستعلية قالوا: إنه مجاز في النسبة أو في الطرف لأنّ المستعلي حقيقة اللسان، والظاهر أنّ وقوعه صفة للصوت كما في عبارة المصنف حقيقة، وان كان بتبعية اللسان وقد يقال: إنه مجاز، وفي بعض الحواشي أنّ ما ذكره المصنف رحمه الله أحسن من تعريفها بما يرتفع به اللسان
إلى الحنك لما فيه من الاشتباه بالمنطبقة، وليس بشيء لأنهم صرحوا بأنّ الاستعلاء المذكور قد يكون مع انطباق اللسان على الحنك الأعلى، وقد لا يكون فعلى الأوّل يسمى الحرف مستعليا ومطبقاً، وعلى الثاني يسمى مستعليا فقط، فكل مطبق مستعل وليس كل مستعل مطبقا لأنّ الإطباق يستلزم الاستعلاء والاستعلاء لا يستلزم الإطباق، فهذا أعم ولا ضير في صدقه عليه، واسمهما صريح في ذلك، فإن قلت الخاء المعجمة من المستعلية، وهي من الحروف الحلقية، فكيف يقال إنّ اللسان يستعلي بها قلت: هذا مما استشكله بعض القراء.
فأجيب بأنه يستعلي عند ذلك تبعا وان لم يكن مخرجا لها كما يشهد به الحس وقد
يقال: إنّ المصنف لأجل ذلك عدل عن قولهم يستعلي اللسان إلى قوله يتصعد الصوت كما في بعض شروح التسهيل: إنّ الريح يخرج مستعليا، ولذا منع من الإمالة فتدبر. وقوله:(نصفها الأقل ومن البواقي المنخفضة اليتعادلا، وما وقع هنا في بعض النسخ نصفها الأكثر سبق قلم. قوله: (ومن حروف البدل إلخ) باب الإبدال واسع وقد أطالوا فيه في المفصلات، حخى إنّ ابن السكيت أفرد. بتأليف وقد اختلفوا في عدد حروفه، وزادوا فيها لنحو خمسة وعشرين، والذي ارتضاه النحاة أن حروفه الشائعة في غير الإدغام لأنّ بدل الإدغام يجري في الحروف كلها غير الألف اثنان وعشرون اللام والجيم والدال، والصاد والراء والفاء والشين والكاف، والسين والهمزة والألف والميم والنون والطاء والياء والتاء، والواو والباء والعين والزاي والثاء والهاء، وما بقي منها لا يبدل، وقسموا الابدال إلى ضروريّ لازم وجائز وقالوا: خرج بقيد الشائعة إبدال الذال من الدالى في قرأءة الأعمش " فشرذبهم " وذكر في المفصل أنها ثلاثة عشر، والخلاف فيه كاللفظيّ لأنّ منيم من اقتصر على الاً شهر، ومنهم من استقصاه لكل وجهة، والمراد الحروف التي تبدل من غيرها كالتي يبدل منها غيرها، وأشار بقوله على ما ذكره سيبويه إلى أنّ فيها اختلافا، وأنّ ما ذكر هو الشائع المقيس، وما زاد منه قليل ومنه نادر شاذ ومنه ما وقع ضرورة لقافية ونحوها، والفرق بين البدل والقلب يعلم من كلامهم فيه، وابن جني الإمام أبو الفتح المشهور، وليس منسوبا إلى الجن، وإنما هو معرب كني كما في شرح المغني. وقوله:(الستة) معطوف على مفعول ذكر في أوّل الكلام. وقوله: (أجد إلخ) مثال لما يجمع حروفها واجد أمر من الإجادة، وطويت فعل من الطيّ مسند للضمير ومنها منها، وما ذكر لأجل جمع الحروف تقرؤه كيفما شئت، ولا حاجة لتفسيره حتى يتكلف كما قيل إن اهطمين من الهطم، وهو الكسر. قوله:(وقد زاد بعضهم) ظاهر سياقه أنّ هذه الزيادة على ما ذكر سيبوبه في الكتاب، وليس كذلك فإنّ سيبويه قال في باب الإبدال: وقد أبدلوا اللام وذلك قليل جدا قالوا: أصيلال، وإنما هو أصيلان اهـ وأصيلال اللام فيه مبدلة من النون، فإنّ الأصيل وهو الوقت الذي بين العصر والمغرب جمعه أصل وآصال وأصائل، وقد يجمع على أصلان مثل بعير وبعران، ثم صغروا الجمع فقالوا: أصيلان ثم أبدلوا من النون لاما فقالوا أصيلال، وفي تذكرة أبي عليّ الفارسيّ إن قيل: في أصيلال كيف زعمتم أنّ اللام بدل من النون في أصيلان، وهلا قلتم إنّ اللام مكرّرة والنون بدل منها قيل: إنه لا يجوز لأنّ اللام لو كانت أصلاً لم تثبت في التحقير الألف قبل اللام، ولا تقلب ياء ألا ترى أنه لا يجوز في شملال
شمليل، فلو كان الأصل اللام كان مثل شمليل في التحقير، ولا يكون أصيلال جمعا لأنّ هذا الضرب من الجمع لا يحقر ولكنه اسم اختص به التحقير كسائر الأسماء التي لم تستعمل في التحقير، وفي شرح المعلقات لابن النحاس في قول النابغة:
وقفت فيها أصيلانا أسائلها
أصيلان تصغير أصلان جمع أصيل وقيل: هو مفرد بمنزلة غفران، وهذا أصلح لأن الجمع لا يصغر إلا أن يردّ إلى أقل العدد اهـ. قوله:(والصاد والزاي في صراط إلخ) يعني أنّ سينه أبدلت صاداً وزايا معجمة خالصة أو بالإشمام كما مرّ، وقوله والفاء في أجداف بالجيم ودال مهملة وألف وفاء جمع جدف، وأصله جدث بالثاء المثلثة ومعناه القبر فأبدلت ثاؤه فاء، وقوله والثاء في ثروغ الدلو تعني أنّ ثاءه بدل من الفاء وأصله فروغ، وهو جمع فرخ والفرغ مخرج الماء من الدلو من بين العراقي، وقد دل كلامه على أنّ بين الثاء والفاء تقارضا. قوله:(والعين في أعن) أي العين تبدل من الهمزة، وفي شرح
التسهيل عن الخليل أنّ لغة تميم وقبائل من قيس إبدال العين من الهمزة والهمزة من العين فيتقارضان وهذه اللغة تسمى العنعنة، وهي مشهورة فيقولون في أنّ المشددة المفتوحة والمكسورة عن، وفي أن المصدرية عن، وفي إن الشرطية عن قال ذو الرمة:
أعن توسمت من خرقاءمنزلة ماءالصبابة من عينيك مسجوم
فقول المصنف رحمه الله أعن يجوز فيه فتح العين وكسرها ونونه ساكنة مخففة، والهمزة مفتوحة ووقع في نسخة بفتح الهمزة، وكسر العين وتشديد النون وأصله أانّ. قوله:(والباء في با اسملث) أي تبدل الميم بالموحدة لتقاربهما مخرجا وما استفهامية والاسم معروف، وسمع إبدال ميمه باء أيضا با اسبك بباءين وهذه لغة بني مازن فيبدلونها كذلك قال المازنيّ: دخلت على الخليفة الواثق بالله فقال لي: ممن الداخل فقلت: من مازن فقال لي: با اسبك يريد ما اسمك بلغة قومي في قصة مشهورة، فصارت ثمانية عشر، وقد ذكر منها نصفها وهو تسعة. قوله:(ومما يدغم في مثله إلخ) الإدغام في عبارة الكوفيين أفعال بسكون الدال، وفي عبارة سيبويه ادّغام بتشديدها افتعال، وهو لا يكون إلا في المثلين أو المتقاربين مع أنه يرجع في المتقاربين إلى المثلين، لأنّ المقارب يقلب من جنس الحرف الآخر، وأوّل المثلين يدغم وجوبا إن سكن وفيه تفصيل في المفصلات فيه موافقة للمصنف من وجه ومخالفة من وجه. وقوله: (والهاء إلخ (أورد عليه أنّ النحاة قالوا كما في شرح التسهيل والمفصل: إنّ الهاء تدغم في الحاء نحو أحبه حاتماً وعغسه نحو أمدح هذا إلا أن سيبويه نص على أنه لا تدغم الحاء في
الهاء. وقوله: (لما في الإدغام من الخفة والفصاحة) إشارة إلى وجه اختيار النصف اكثز في هذا والأقل فيما قبله وان أردت بسط هذا وما له وعليه فراجع شروح الكتاب. وقوله: (نصفها) متصوب كما مرّ. وقوله-: (ومن الأربعة إلخ) في النسخ بعد الألف الزاي ياء، فهي معجمة لا غير والسين مهملة فظهر أنّ المذكور نصفها وسقط ما قيل عليه من أنه غير صحيح إن كان الزاء والشين في عبارته معجمتين وكذا إن كانتا مهملتين. قوله:(ولما كانت الحروف الذلقية إلخ) هذه الحروف يقالط لها: ذلقية وذولقية ومذلقة وما عداها مصمتة وفي التمهيد المصمتة غير هذه وغير الألف، فهي اثنان وعشرون حرفاً وفي شرح التسهيل لابن عقيل بعدما نقل هذا إنه يقتضي دخول الهمزة، والواو والياء فيها، وهي طريقة وأسقط الخليل هذه من المصمتة، وسميت مذلقة لخروجها من طرف أسلة اللسان، وهي ذلقة بالسكون كما في التهذيب والتحقيق ما في شرح الشاطبية للجعبري من أنها سميت به لخروجها من ذلق اللسان والشفة والمراد كما حققه بعض فضلاء العصر أنّ بعضها يخرج من ذلق اللسان، وهو طرفه وبعضها من الشفلة التي هي ذلق المخارج، فالذلق مطلق الطرف ثم خص هنا بمطلق طرف المخارج بقرينة المقام، فلا يختص باللسان كما يوهمه قول أهل العربية، كصاحب المفصل حروف الذلاقة ما في قولك مر بنفل والذلاقة الاعتماد بها على ذلق اللسان وذولقه وهو طرفه، ويقابله الإصمات لأنه لم يكد توجد كلمة رباعية أو خماسية معراة من حروف الذلاقة، فكأنها هي المنطوق بها ومقابلها لأنه كالمسكوت عنه مصمت وقال ابن الحاجب في إ يضاحه: هذا غير مستقيم من جهتها في نفسها، ومن جهة أمر مضادها من المصمتة أما من جهتها فلأنها لا يعتمد على طرف اللسان إلا بعضها فالميم والباء والفاء لا مدخل لها في طرف اللسان، فكيف يصح تسميتها بذلك مع خروج بعضها عن ذلك المعنى ومن جهة القسم الآخر المضاد لها فلأنه إنما سمي مصمتا لأنه كالمسكوت عنه، فلا ينبغي أن يقابل المنطوق بطرف اللسان، وإنما الأولى أن يقال: سميت حروف ذلاقة أي سهولة من قولهم لسان ذلق من الذلق الذي هو مجرى الحبل في البكرة لسهولة جريه فيه، فلما كانت كذلك ألزموا أن لا يخلو رباعي أو خماسي منها وكان هذا هو الحكم المعتبر في تسميتها إلا أنهم استغنوا بسببه، وهو الذلاقة فأضافوها إليه، والمصمتة على هذا المعنى تكون ضدها، وهي الحروف التي لا يتركب منها على انفرادها رباعي أو خماسي لكونها ليست مثلها في الخفة، فكأنها صمت عنها لقلتها ولم يقصد في تفسيره إلا إلى ذلك، وإنما وقع الوهم من أخذ الذلاقة من الطرف، وجعها من طرف اللسان
لما ذكرناه اه.
(أقول (ما في المفصل هو بعينه كلام ابن جني في سر الصناعة، وبعيد من مثل هؤلاء الفحول الغفلة كما أورده ابن الحاجب والذي دعاه لما ذكر ما فهمه من اختصاص الذلاقة بطرف اللسان، وقد عرفت أنه لا يختص به، فلا يرد عليه ما ذكر، ولو سلم بناء على أن أئمة اللغة كالأزهريّ والجوهريّ ذكروا ما يقتضيه، فيجاب عما ذكره على فرض تسليمه بأنه غلب فيه طرف اللسان على طرف الشفة مع أنّ في قولهم الاعتماد على طرف اللسان إشارة إلى أنّ المراد أنه آلة للنطق عليها الاعتماد فيه، وهو لا ينافي مشاركة غيره فيه، وقد قال: إنّ الحروف تنسب تارة إلى مخارجها وأخرى إلى ما يجاورها، والأوّل كحرف حلقيّ والثاني كهوائيّ، وقريب منه ما قيل: إنه أراد بالاعتماد على ذلق اللسان الاعتماد عليه حقيقة أو حكما، فإنّ الشفويّ، والمعتمد عليه متقاربان ولتقاربهما سميا ذولقية، ومر أمر منه، والنفل من الغنيمة معروف ومن يعطاه منفل وكثر الحلقية والذولقية معروفة بالاستقراء وصريح أئمة اللغة، ولذا قالوا إنه لا يخلو من الذولقية كلمة رباعية أو خماسية إلا أن تكون معرّبة أو دخيلة او شاذة أو فيها ما يقرب منها فيسد مسدها كالعسجد بمعنى الذهب والدهدقة بدالين منهملتين مفتوحتين وهاء وقاف بمعنى الكسر كما قاله الجاربردي، والزهزقة بزاءين معجمتين بمعنى شدة الضحك، والعسطوس بفتح العين والسين المهملتين اسم لشجر، ولكثرتها ذكر ثلثاها ومن مقابلها أقل من نصفها (بقي هنا بحث) وهو أنّ ما قرّرناه متفق عليه في كتب العربية والقراءات إلا أنه يخالفه ما في الكشاف في سورة التكوير من قوله: إنّ الظاء المعجمة من طرف اللسان وأصول الثنايا العليا وهي أحد الأحرف الذولقية أخت الذال والثاء اهـ فجعله الظاء ثمة بل وأختيها ذولقية ينافي ما تقرّر هنا، وقول أهل العربية والأداء أن مخرج هذه الثلاثة من طرف اللسان وأصول الثنايا العليا ويقال: لها الثوية نسبة للثة وهي اللحم النابت حول الأسنان لمجاورتها إياها لا أنها مخرج كما قيل يقتفخيه أيضا، فإذا كانت من طرف اللسان كما يشهد به الحس، فكيف لا تكون ذولقية كما قاله العلامة في سورة التكوير، وما وجه تركهم لذكرها، وقول المدقق في الكشف كون الظاء ذولقية مخالف لما في المفصل وغيره، وأمّا الاشتقاق من ذلق اللسان وذولقه أي حده فلا يخالف ما في الكشاف أيضا إلخ يشير لما ذكرناه أيضا فتدبر. قوله:(ذكر ثلثيها إلخ) هو جواب لما، وهو من كل منهما أربعة كما لا يخفى. وقوله: (ولما كانت أبنية المزيد إلخ (قال في التسهيل: بعدما قسم الكلم المتمكنة إلى مجرّد، ومزيد فيه ولا يتجاوز المجرد خمسة أحرف إن كان اسما، ولا أربعة إن كان فعلاً ولا ينقصان عن ثلاثة والمزيد فيه إن كان اسما لم يتجاوز سبعة إلا بهاء التأنيث، أو زيادتي التثنية، أو التصحيح أو النسب، وان كان فعلَا لم يتجاوز ستة إلا بحرف التنفيس، أو تاء التأنيث، أو نون التوكيد اهـ وفي شرحه لأبي حيان أنه باعتبار المشهور الأكثر إذ قد ورد من الاسم المزيد ما هو ثماني نحو كذبذبان بتشديد الذال الأولى، ووزنه فعلعلان مع ألفاظ أخر ذكرها فقوله: لا تتجاوز عن السباعية هنا باعتبار الأغلب
أيضاً وتعديته للتجاوز بعن، وليس بمعنى المغفرة قد علمته قريباً وإن منهم من قال إنه لم يرد عن العرب فتذكره. قوله:(اليوم تنساه) وبعضهم جمعها في قوله سألتمونيها وبعضهم في قوله أمان وتسهيل، وهو ألطف وما أحسن قول القيراطي في قصيدته النبوية التي عارض بها بانت سعاد: وفارغ ما له شغل سوى عذلي والناس بالناس في الدنيا مشاغيل
فأين تصريف ألفاظ زوائدها فيها أمان لذي خوف وتسهيل
وقوله على ذلك الإشارة إلى عدم تجاوزها ما ذكر المفهوم مما قبله، فإن قيل كون المذكور سبعة مبيّ على عد الهمزة والاً لف واحدا وكونها عثرة مبنيّ على خلافه، فلا يناسبه قيل: إنها في نفس الأمر عثرة فلذا بني أوّل كلامه عليه، ولما لم يذكر الألف والهمزة معا في أسماء السور ناسب عدّهما واحداً لأنه أمر اعتباريّ بني عليه آخر الكلام إشارة إلى الوجهين كما قيل. قوله:(ولو استقريت) الاستقراء استفعال من القراءة يقال استقرأت بالهمزة، وقد تبدل ياء فيقال استقريت كما وقع في النسخ هنا، ومعناه تتبع
الأشباه لمعرفة أحوالها، والكلم واحده كلمة، وهي معروفة ولما ذكر المصنف رحمه الله أنّ المذكور من أنواعها أنصافها تقريبا أشار هنا إلى أنه، وإن كان بحسب الظاهر كذلك، وهذا أدخل في الإيقاظ إلا أنه لو دتق النظر عرف أن ما ذكر في الحقيقة أكثرها، وجلها فهو منزل منزلة الكل حتى كأنه عدد لهم جميع حروف المباني مشتملة على هذه اللطائف لما ذكر من الإعجاز. وقوله:(مكثورة) أي زائدة عليها، وغالبة لها في الكثرة يقال كاثرته فكثرته إذا غلبته في الكثرة فهو مكثور أي مغلوب، فلا يتوهم أنّ كثر بضم الثاء المخففة كقل لازم، فكيف بني منه اسم مفعول بغير واسطة، ثم إنه لما بين التشارك في المادّة أشار بقوله ثم إلخ إلى أنها تشاركها في الصورة أيضاً ليكون الإلزام أتمّ وأقوى، وتوله إيذانا أي إعلاماً تعليل لذكرها كذلك أو هو تفنن على عادتهم. وقوله:(إلى الخمسة) هذا باعتبار الأصل في المفرد المجرّد كما مرّ. قوله: (وذكر ثلاث مفردات) هي ص ق ن. وقوله: (في الأقسام الثلاثة) ففي الاسم ككاف الضمير وتائه، وفي الفعل نحوق فعل أمر من الوقاية، وهكذا كل أمر من ثلاثيّ معتل الطرفين كوعى وع، وفي الحرف كثير كواو العطف، وقد قيل عليه إنه لا يتصوّر ذكر ثلاث مفردة فيما دون سور، فالبنية موقوف عليها لا تقال بدونها فتدبر، والأربع الثنائية هي طه طس يس حم. وقوله:(لأنها إلخ) تعليل لكونها أربعة، وفيه تسامح لأنه مع عدم ظهوره يرد أنها تكون في الحرف بدون حذف نحو من، وبه
نحو ان المخففة فن الثقيلة بالفتح والكسر كما هو معروف، فالتربيع لهم يتمكبئ له والحواميم ست بإسقاط الشورى، فلو أسقط ما زاده على الكشاف كان أولى وأولى. وقوله:(على ثلاثة أوجه) هي فتح الأوّل وكسره وضممه، والحاصل من ضربها في مثلها تسعة، وفي تسع متعلق بذكر المقدر أو المتقدم، وهو الظاهر. وقوله:(على لغة من جرّبها) احتراز عن غيره فإنها حينئذ تكرن اسما كما فصله النحاة، والثلاثيات الم الر طسم. قوله:(تنبيهاً على أنّ أجمول الأبنية إلخ) هي جمع بناء، وله كما في شرح الهادي ثلاثة " معان الهيئة والصيغة، كقولنا بناء فعل للسجايا وتحويل صيغة إلى أخرى كقول الصرفي ابن لي مثال جعفر، وثبوت أواخر الكلم على حالة واحدة ووجه الضبط أنّ الأوّل لا يكون إلا متحرّكا بثلاث حركات والآخر- غير معتبر، والوسط متحرّك بثلاث حركات أو ساكن، والحاصل من ضرب ثلاثة في أربعة اثنا عشر سقط منها اثنان فعل بضم الفاء، وكسر العين وعكسه؟ لثقلهما وأوّل أصل الأفعال، وهو الماضي مفتوح لا غير، وعينه لا تكون ساكنة فأبنيته ثلاثة ولم يعتبر المجهول لأنه فرع المعلوم فخرج بقوله أصول، ولهذا أقحمه ولم يقل إنّ الأبنية، وقد أورد عليه دئل ونحوه وأجيب عنه في محله والرباعيتان المر في سورتين والخماسيتان كهيعص وحمعسق. قوله: (أصلَا إلخ) المراد بالأصل ما وضعت عليه الكلمة ابتداء، *والملحق الكلمة التي فيها زيادة لم يقصد بها إلا جعل ثلاثي أو رباعي موازنا، لما فوقه محكوماً له بحكم مقابله غالبا ومساوياً له مطلقاً في تجرّده من غير ما يحصل به الإلحاق وفي تضمن زيادته إن كان مزيداً فيه، وفي حكمه ووزن مصدره الشائع إن كان فعلاً نحو علقي الملحق بجعفر، وهو لا يكون إلا في الأسماء والأفعال، فلزم كون هذه القسمة رباعية، والإلحاق له باب مستقل فصك فيه أحكامه، وما قيل من أنّ الكلمة المركبة من أربعة أحرف أو خمسة لا توجد في الحرف بل في الاسم، وليس في الأصول ما هو مركب من خمسة أحرف سهو لوجود لكن المشدّدة ونحوها مما لا حاجة إلى تعداده، وجعفر اسم للنهر وعلم شخص وسفرجل معروف، وتردد بزنة جعفر ملحق به ولذا لم يدغم كمهدد، وهو الجبل أو ما ارتفع من الأرض ويجمع على قرادد وقراديد، وقولهم اركب من الأمر قراديده أي ما شق منه استعارة، وجحنفل بزنة سفرجل ملحق به لأنه من الجحفلة ومعناه ما هو بمنزلة الشفة من الخيل والبغال والحمير، فلذا قيل: جحنفل للغليظ الشفة. قوله: (ولعلها فرّقت إلخ) جواب عن سؤال مقدر تقدير. " إتها إذا ذكرت ألفاظ لإعجاز ما تركب منها أو مبلغها، فلم لم تذكر جملتها أو ما اختير منها دفعة في أوّل التنزيل، فأجاب بأنها فرقت لتدل
على ما ذكره بقوله، ثم إنه ذكرها مفردة إلخ ولو جمعت لم يتنبه لهذا وهو الفائدة المشار إليها بقوله لهذه الفائدة. وقوله:(مع ما فيه إلخ) إمارة إلى جواب ثان، وهو أن فيما ذكر
قوّة ليست في جمعها في محل واحد، وهكذا كل تكريير جاء في القرآن كالواقع في سورة الرحمن. وقوله:(وتكرير الثنبيه) عطف على قوله إمحادة التحدي للتفسير وبيان المراد منه، فإنّ في كل منها إشارة إلى إعجازه المقتضي لطلب التحدي. قوله:) والمعنى أنّ هذا المتحدي به إلخ (كذا هنا كناية عن كونه متحدى به قيل إنه يعني أنّ تقدير الكلام هكذا على أنه جملة اسمية بتقدير مبتدأ لهذه الحروف المكنى بها عن المؤلف المركب منها أو تقدير خبر لها بتأويلها بالمركص من هذه الخروف، والخبر متحدى به، ولا يخفى أنّ " نظم التعداد مستغن عن هذا التأويل مميد لما قصد به من غير تأويل وتقدير، وهو المفهوم من الكشاف فإنها إنما يكون لها حظ من الإعراب عنده إذا كانت أسماء للسور، وقيل إنّ المصنف لم يقصد ما ذكر، وإنما هو بيان لما في المعنى ومحصله من غير نظر لإعرابه وعدمه فلا مخالفة بين كلام الشيخين فيه إلا أد تصريحه بوجهي الكدير ينبو عنه، وإن قيل إنّ مقصوده أنّ المقصود من سياق التعداد مجمل يمكن أن يعبر عنه بكل من الوجهين، وقيل إنه كما يجوز أن لا يكون لها محل من الإعراب كسائر الأسماء المسرودة على نمط التعديد كدإر غلام جارية يجوز أيضاً أن يكون لها محل بتأويلها بالمؤلف منها على ما مر من الوجهين وكلام المصنف محتمل لهما، وإن كان المتبادر منه الأوّل، وفيه إنه سيصرّج بخلاف هذا كله. قوله: (وقيل هي أسماء للسور إلخ (هو عطف على ما تضمنه قوله ثم إنّ مسمياتها إلخ. فكأنه قال: هذه الفواتح أسماء حروف ذكرت لما مر وقيل هي إلخ. وقوله: (وعليه أطباق الأكثر (أي من المفسرين اتفقوا عليه يقال: أطبق الناس على كذا إذا اجتمعوا واتفقوا عليه وأصل معنى أطبق وضع الطبق، ثم الستعمل لما دكر بملاحظة ما فيه من معنى الإحاطة والشمول كما يستعمل للدوام في إطباق الحمى والجنرن، وأتى بصيغة التمريض لأن الأوّل أرجح عنده، ولذا قدمه وقد قيل إنه عنى أنه في غابه الضعف، وإنما ذكره هنا لانتسابه للأكثر وقيل إنه تبع في هذه النسبة الإمام إلا أنّ عبارته هكدأ هو قول أكثر المتكلمين، واختاره الخليل وسيبويه ونعما هي فإق الأكثر لم يذهبوا إليه، ولد أورد عليه ما سيأتي وأقوى ما عليه وان لم يذكروه أنّ أسماء السور توقيفية، ولم ينقل تسميحها بها عن أحد من الصحابة- والتابعين لا مرفوعا ولا موقوفا، فوجب إلغاء القول به وهذا كله. كا ضيق العطن لأنه توهم أنّ مراد الإمام بالمتكلمين أهل الكلام ولا وجه له إذ ليس لأهل الكلام هنا مقال أصلاً وانجما أراد بالمتكلمين المفسرين الذين تكلموا على الآية وبحثوا فيها وما مهـ*اأوّلاً غني غن الردّ، ثم إنه كيف يقول: إنهم لم يذكروه، وقد قال الإمام معترضا هنا: لو كانت
أسماء للسور وجب اشتهارها بها وليس كذلك لاشتهارها بخلافها كسورة البقرة وآل عمران وغير ذلك، ثم إنه كيف يتأتى له ما قاله على سعة حفظه، وقد ورد عن النبيّ عليه الصلاة والسلام: " يس قلب القرآن ومن قرأ حم حفظ إلى أن يصبح) (1) وقال ابن مسعود حم ديباج القرآن، وفي السنن روي حديثا فيه أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم سجد في ص فكيف يدعي عدم الورود وإذا ثبت في البعض ثبت في الجميع إذ لا فارق بينها فقوله إنه لم يشتهر غير صحيح مع أن شهرة أحد علمين لا يضر علمية الآخر فكم من مسمى لا يعرف اسمه لاشتهاره بكنيته أو لقبه كأبي هريرة رضي الله عنه وعدم اشتهار بعضها لكونه مشتركا بينها وبين غيرها، فترك استعماله لعدم تمييزه واحتياجه لضميمة كالم هنا. قوله:(إشعارا بأنها كلمات إلخ) هذا بيان لوجه التسمية وهو الدلالة على أنها كلمات عربية من جنس كلامهم مادّة وصورة كما مرّ وقد قال قدس سرّه الأولى في الاعلام المنقولة أن يراعى مناسبة معانيها الأصلية عند التسمية، وربما تراعى عند الإطلاق باقتضاء المقام ولما كانت هذه السور مركبة من حروف مخصوصة لها أسماء في لغتهم وجعلت تلك الأسماء أعلاما لها كان ذلك لتركبها من تلك الحروف على قاعدة لغتهم فإذا أطلقت عليها لوحظ هذا المعنى لاقتضا التحدي له وحيث كان القرآن نوعاً واحدا، فالإشعار في بعضه إشعار بأنّ المجموع كذلك.
(قلت) وللإشعار بذلك اتضح جعلها لقبا كما سيأتي لدلالتها على أقصى ما يمدح به الكلام، وهو الإعجاز فلا وجه للتوقف فيه، والمقدرة مثلثة الدال مصدر ميمي بمعنى القدرة، ودون معارضتها بمعنى قبل أو عند معارضتها، وتتساقط بمعنى تساقط مبالغة وبما
ذكر فهم أنّ في هذا الوجه إيقاظا للأعجاز أيضاً، كما في الأول إلا أنه كما قيل مقصود إفادته بالذات فيه، وهنا بالعرض لأنّ الإشعار به جاء من لمح الأصل المنقول عنه لترجيح التسمية به دون غيره، وقد قالوا إنّ العرب سصت بها أيضاً غير الحروف المقطعة كلام اسم رجل من طيىء وعين للماء، وغين للسحاب وقاف للجبل وقد نقله بعض اللغويين في جميع أسمائها وأفرده بالتدوين ابن خالويه، والضمير في قوله بأنها للسور. قوله:(بأنها لو لم تكن مفهمة إلخ) فهم كتعب متعد لواحد ويتعدى بالهمزة، والتضعيف لمفعولين فيقال أفهمته المسئلة، ويكون أفهم متعذيا لوأحد أيضا ولا يقال: انفهم، فإنه لحن فمفهمة في كلامه إما بكسر الهاء اسم فاعل من المتعدّي لواحد بمعنى دالة على شيء أو بفتحها اسم مفعول من الافهام أي معلومة المراد منها بحسب العلم بالوضعفكأنّ الواضع أفهمنا المعنى المراد بها.
وفيه تنبيه على أنه لا دخل للرأي في معرفتها بل يجب استفادتها من الغير كما قيل، والمراد بكونها مفهمة أن يراد بها ما يكون طرف نسبة مقصودة في الخطاب، فلا يرد أنها
موضوعة لحروف الهجاء والإفهام لازم للعلم بالوضع، وحاصله أنها إما مفهمة أولاً وعلى الثاني تكون كالرطانة وعلى الأوّل إما أن تفهم منها السور لأنها أعلام لها أولاً والثاني باطل لأنها إما أن تفيد ما وضعت له في لغتهم وهو الحروف ولا معنى له أو غيره ولا يصح لأنهم لا يخاطبون بغير لغتهم فتعين أنها أعلام ولا يخفى ضعفه ووجهه أنه يصح أن يراد بها الحروف، ومعناه أنّ المتحدى به من جنسها كما مرّ ثم إنّ قوله لم تكن مفهمة إن أراد إفهام جميع الناس، فلا نسلم أنه موجود في العلمية، وإن أراد إفهام المخاطب بها وهو هنا الرسول فيجوز أن يكون سرا بينه وبين ربه فلا ينافي كونه عربيا مبينا، ونحوه لأنه كذلك بالنسبة إليه وأما التحدي فليس بجميع أجزائه، وكون أوّل السور ينبغي أن يكون مما يتحدى به ليس بمسلّم. قوله:(كالخطاب بالمهمل) المهمل بزنة اسم مفعول الأبل ونحوها تترك بغير راع، ثم استعير لما لم يوضع أو جعل مجازاً مرسلَا عن مطلق الترك وصار هذا حقيقة في الاصطلاح، ووجه الشبه هنا عدم الدلالة إلا أنّ ما يترتب عليه من عدم الصحة ليس بصحيح لأنه يجوز أن يكون من المتشابه الذي لا يوقف عليه، وان أمرنا بتلاوته فإنه ليس كل ما أمرنا به معقولاً لنا وقوله العربي أي المتكلم بالكلام العربي. وقوله:(بيانا) أي معربا عما في الضمير، وقوله وهدى لأنّ الهداية فرع الدلالة.
وقوله ولما أمكن التحدي به أي بما ذكر أو بالقرآن كله إذ ظهور النقص دليل على أنه من
عند غير الله فيردّ بلا معارضة. قوله: (التي هي مستهلها) المستهل بفتح الهاء وتشديد اللام على صيغة المفعول وأصله من طلوع الهلال، ولما كان الهلال إنما يسمى هلالاً في أوّل الشهر، ثم هو بعده قمر وبدر قيل لكل أوّل مستهل، ثم شاع حتى صار فيه حقيقة فيقال: مستهل القصيدة لأوّلها ومطلعها، وقد أولع بعضهم بكسر هائه على زنة اسم الفاعل، وهو خطأ كما قاله الدماميني في شرح التسهيل، وخطأ بعض الشعراء في قوله:
أنا من أدمعي ووجهك أرّكأت غرامي بمستهل وغرّه
فإنّ التورية إنما تتم له بما ذكر، فليس هذا استعارة من قولهم استهل الصبيّ إذا صاح عند الولادة، فشبهت السورة بالصبيّ الصائح كما قيل، ولا من استهل المطر إذا نزل. قوله:(على أنها ألقابها) قد قدمنا لك بيانه، فإنه يدل على الإعجاز وناهيك به من صفة مادحة، فإنّ اللقب ما أشعر بمدح كمحمد أو ذم كأبي جهل، فإن اشترط فيه أن يدل على ذلك بحسب معناه الوضعي، فتسميتها ألقابا على طريق الادعاء والتشبيه، وهي أعلام منقولة على هذا لا أعلام بالغلبة فلا يرد عليه ما قيل: من أنّ الإشعار هنا خفيّ، ولعل وجهه ما مرّ من أنها كلمات
معروفة التركيب، وأما اشتراط الإضافة، أو دخول أل فهو في الاعلام الغالبة لا المنقولة مع أنه، وان اشقر فيه خلاف إذ لم، يشترطه بعض أئمة العربية. كما في شرح التسهيل.
وقوله وظاهر أنه ليس كذلك يبطله ما مرّ في بيان الوجه الأوّل. وقوله: (لقولمه قعالى) تعليل لما قبله، ويحتمل أن يكون تعليلَا لجميع ما سبق، والأوّل أظهر. قوله:(لا يقال إلخ) منع للاستدلال بأنها لو لم تكن أعلاما يلزم ما ذكر مستنداً إلى جواز الزيادة للدلالة على الاستئناف، ونقله عن قطرب لغرابتة إذ لم يعهد الاسخئناف بمثله بل بقولهم دع ذا ونحوه، كما ذكره الأدباء
والبسملة مغنية عنه مع أنه لا يتأتى على القول بأنها آية من كل سورة وقطرب لقب لإمام في العربية، وهو صحمد بن المستنير تلميذ سيبويه، وهو الذي لقبه به لما كان يبكر إليه فيقول له ما أنت إلا قطرب ليل والقطرب اسم دويبة لا تزال تمشي ليلاً وتسكن نهارا، ولذا أطلقه الأطباء على نوع من الجنون. قوله:(اقتصرت عليها، ألخ) هكذا وقع في النسخ وقد قيل: إنه سهو لأنه مجهول وعليها قائم مقام فاعله أي وقع الاقتصار عليها اقتصار الشاعر في قوله إلخ ولا يصح أن يقال مرّت بهند بتأنيث المجهول لتأنيث المجرور وقد سبقه إلى هذا في المطوّل في قول الخطيب في بحث الفصاحة صوحبت معها، فذكر ما هنا بعينه، وليس كما قالوه فإنّ مثله جائز، ولم يشتهر استعماله وقد قرآه مجاهد في قراءة شاذة: في توله تعالى {إِن نَّعْفُ عَن طَآئِفَةٍ مِّنكُمْ نُعَذِّبْ طَآئِفَةً} [التوبة: 66] كما سيأتي تفصيله ثمة قال ابن جني في المحتسب: عن مجاهد إن تعف عن طائفة بالتاء في تعف، والوجه يعف بالياء لتذكير الظرف ولقولك قصدت هند وقصد إليها لكنه حمل على. المعنى كإنه قال: تسامح وترحم وزاد في الأنس تأنيث تعذب بعده اهـ وهنا أيضاً يحمل على معنى أفردت، وفيه دليل على أنّ المحل للمجرور وأنه المسند إليه في الحقيقة وإذا اكتسب المضاف التأنيث من المضاف إليه، فلا يعد في اكتساب الظرف التأنيث من مجروره والمعترض غافل عن هذا كله، وهذا شروع في إيراده وجوه ضعيفة وردها والمراد بقوله للتنبيه تنبيه المخاطب للكلام الملقى إليه حتى يصغي له مثل ألا وأما في حروف الاستفتاج.
وقوله ملى انقطاع كلام متعفق بالدلالة، وقيل بالتنبيه وعطف الدلالة تفسيرفي، ولا يبعد تنازعهما له، وما نقله المصنف عن ضقطرب نقل عنه في البحر ما يخالفه، أو إشارة معطوفة على مزيدة. قوله:(قلت لها قفي فقالت قاف) هذا من أبيات الكتاب، وهو من رجز للوليد بن
المغيرة عامل عثمان بن عفان رضي الله عنه قاله يخاطب به عديّ بن حاتم، وقد نزل معه لما امتحصه عثمان رضي الله عنه، وقد اتهم بشرب الخمر في قصة مشهورة في التواريغ فقال: قلت لهاقفي فقالت قاف لاخباشدنسينا الإيجاف والنشوات من معتق صاف وعزف قينات علينا عزاف
إلخ وقيل إنّ الصواب ما أورده ابن جني رحمه الله في الخصائص وهو هكذا.
قلت لها قفي لنا قالت قاف
فإنّ ما في نسخ القاضي محزف، وغير موزون وليس كما قاله فإنّ عروض هذا لت قاف
وزنه فعلن، وهو أحد أعاريض الرجز، وهم يكثرون زحافه، ولا يبالون به حتى ذهب كثيرون إلى أنّ الرجز ليس بشعر، وليس هذا محل تفصيله، والإيجاف سرعة سير الخيل. قوله:(كما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما قيل هذا إنما روي عن أبي العالية كما أخرجه ابن جرير وابن أبي حاتم وروايته عن أبي العالية لا تمنع روايته عن غيره، والآلاء بوزن أفعال ممدود مهموز الأوّل والآخر، ومعناه النعم وهو جمع واحده إلى، وفيه لغات فتح الهمزة وسكون اللام، وكسرها وسكون اللام وألو بالفتح والسكون أيضا والى بكسر الهمزة وفتح اللام والقصر كإلى الجازة وقد جوز هذا في قوله تعالى {إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة: 123 كما سيأتي واللطف معروف. وقوله: (ملكه) بضم الميم ويحتمل الكسر قيل المعنى على هذا: أن القرآن يشتمل على آلاء الله ولطفه وملكه، وقيل إنه يحتمل أن يكون المعنى اذكر آلاء الله ولطفه وملكه لتعلم أنّ القرآن من أعظمها إذ لطف بإنزاله على مماليكه رحمة عليهم، وهذا بطريق الرمز والإيماء. قوله:(وعتة أنّ الر إلخ) في الوجه السابق كل حرف إشارة إلى كلمة، وفي هذا فرّقت حروف الكلمة ونظر إلى المرسوم منها دون الملفوظ فلذا أسقطت الألف، وقد قيل إن المعنى المراد منه أنه إذا جمعت هذه الحروف في الكتابة استنبط منها اسم الرحمن لا إنه إذا تلفظ بها تلفظ بالرحمن إذ لشى هنا همزة بعدها راء مشدّدة تليها حاء ساكنة بعدها ميم مفتوحة وألف ونون، ولبعده أخره المصنف رحمه الله وقد أخرجه مسنداً إلى ابن عباس رضمي الله عنهما ابن أبي حاتم كما قاله السيوطي رحمه الله. قوله:) وعنه أنّ الم معناه إلخ) أخرجه عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر، وابن أبي حاتم من طرق عنه، وهذا كالأوّل في أنه حروف مقطعة من الكلم إلا أنه روعي في الأوّل كون الحرف المأخوذ أوّلاً من كل كلمة، وهذا لم يلاحظ فيه ذلك وقوله ونحو ذلك إلخ كما قيل في الر أنا الله أرى، وفي الممأنا الله أفصل، وهو مروقي عن سعيد بن
جبير واستحسنه الزجاج. وقوله: (وعنه إلخ) قيل إن هذا لم يعرف
عن ابن عباس، ولا عن غيره من السلف. وقوله:(أي القرآن إلخ) يعني أنه رمز باقتطاع هذه الحروف من هذه الكلمات إلى ما ذكر، ولا يخفى بعده. قوله:(أو إلى مدد أقوام وآجال) وفي نسخة إلى مدد آجال أقوام وهذا معطوف على قوله إلى كلمات المتعلق بالإشارة وأقوام جمع قوم اسم جمع، وله حكم المفرد في اطراد جمعه، وآجال بالمد جمع أجل وهو العمر أو نهايته والحساب بمعنى العد معروف والجمل بضم الجيم وفتح الميم المشددة يليها لام حساب حروف المعجم وهو كبير وصغير كما هو معروف عند أهله وجوّز بعض تخفيف ميمه، وقال أبو منصور الجواليقي: هو عربيّ صحيح، وما روي عن أبي العالية أخرجه ابن جرير وابن أبي حاتم. وقوله: (بما روي أنه عليه الصلاة والسلام هذا الحديث أخرجه البخاريّ في تاريخه وابن جرير من طريق ابن إسحاق عن الكلبيّ عن أبي صالح عن ابن عباس عن جابر بن عبد الله بن وثاب وسنده ضعيف، وجابر المذكور صحابيّ آخر غير جابر المشهور كما في الاستيعاب. وفي الإصابة أنه أنصاريّ وروايته قليلة جدا وقصته هي أنه مرّ أبو ياسر بن أخطب برسول
الله صلى الله عليه وسلم، وهو يتلو سورة البقرة الم ذلك الكتاب ثم أتى أخوه حيي بن أخطب وكعب بن الأشرف فسألوه صلى الله عليه وسلم عن ألم وقالوا: ننشدك الله الذي لا إله إلا هو الحق أنها أتتك من السصاء، فقال عليه الصلاة والسلام:" نعم كذلك أنزلت " فقال حييّ: إن كنت صادقا إني لأعلم أجل هذه الأمة من السنين ثم قال: كيف ندخل في دين رجل دلت هذه الحروف بحساب الجمل على منتهى أجل مدته إحدى وسبعون سنة، فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال حييّ: فهل غير هذا فقال: " نعم المص " فقال حييّ هذا أكثر من الأوّل هذا مائة واحدى وستون سنة فهل غير هذا قال: " نعم الر ". تال حييّ: هذا أكثر من الأول والثاني، فنحن نشهدك إن كنت صادقا ما ملك أمّتك إلا مائتان واحدى وثلاثون سنة، فهل غير هذا قال:" نعم المر " قال: فنحن نشهدك أنا من الذين لا يؤمنون، ولا ندري بأفي أقوالك نأخذ فقال أبو ياسر: أما أنا فأشهد أنّ أنبياءنا أخبرونا عن ملك هذه الأمة، ولم ئتئنوا أنها كم تكون، فإن كان محمد صادقاً فيما يقول: فإني لأراه يستجمع له ذلك كله فقام اليهود وقالوا: اشتبه علينا أمرك فلا ندري أبالقليل نأخذ أم بالكثير (1) اهـ وهذا تفصيل ما ذكره المصنف رحمه الله. وقوله: (فحسبوه) بزنة ضربوه ماض من الحساب. قوله: (دليل على ذلك إلخ) ذلك إشارة إلى
المدد والآجال المارّة وهذا جواب عن سؤال تقدير. كيف يكون قول اليهود حجة فأجيب بأنّ الدليل هو عدم إنكاره وتقريره لهم على ما ذكروه، وتبسمه صلى الله عليه وسلم ليس للإنكار بل إشارة إلى غلطهم في تعيينهم للمعدود المذكور، وهذا لا يقتضي إنكار أصله وفيه نظر. قوله:(وهذه الدلالة وإن لم تكن عربية إلخ) جواب عما يقال من أنّ هذه الدلالة إن سلم صحتها، فهي غير عربية لانتفاء الوضع العربي فيها والقرآن نزل بلسان عربيّ مبين، فأجاب بأنّ هذه الدلالة لاشتهارها ألحقت بالمعرّبات التي عدت بعد التعريب عربية، فكذا ما ألحق بها، وتلحق مسند للدلالة إسناداً مجازياً. وقوله:(كالمشكاة إلخ) تمثيل للمعرّب وهي الكوّة، وسجيل كسكيت معرّب سنك، وكل أي حجر وطين، والقسطاس بالضم والكسر الميزان وسيأتي بيانها، وظاهره أنها موضوعة في غير لغة العرب، وقد قيل إنه معروف في اللغات القديمة كالعبرانية وهو كثير في التوراة كما في رسالة فضائح اليهود للغزالي، وفي كتاب الملل والنحل أنّ طائفة من الفيثاغورسية ذهبوا إلى أنّ المبادىء هي التأليفات الهندسية على مناسبات عددية حتى سارت طائفة منهم إلى أنّ المباديء هي الحروف المجرّدة عن المادّة، وأوقعوا الألف في مقابلة الواحد والباء في مقابلة الاثنين، ولست أدري لم قدروها ولا على أفي لسان ولغة هي اهـ ولو قيل: إنها مجازية روعي فيها ترتيب أبجد في مراتب الآحاد وما بعدها فهي من دلالة الحالّ على محله ثم على صفته من الأوّلية ونحوها لم يبعد، ولم نر من وجه هذه الدلالة بما يشفي الصدور. قوله: (أو دالة (عطف على قوله مزيدة وهذا قول الأخفش رحمه الله وعبارته أقسم الله تعالى بالحروف المعجمة لشرفها وفضلها، لأنها مباني كتبه المنزلة على الألسنة المختلفة، ومباني أسمائه الحسنى وصفاته العليا، وأصول كلام الأمم بها يتعارفون وبذكرون الله ويوحدونه. قوله: (وما " خطابه
هذا) قيل هذا بيان لخطابه والإشارة إلى القرآن، وقيل: إنه ابتداء كلام أي خذ هذا المذكور من أنه لا يقال لم لا يجوز إلخ وهذا في هذا التركيب، ونحوه مرفوع المحل خبر مبتدأ مقدر أي الأمر والشأن هذا أو مبتدأ خبره مقدر أي هذا كما ذكر أو مفعول لفعل تقديره خذ هذا ونحوه، وقيل ها اسم فعل بمعنى خذ وذا مفعوله ويبعده رسمه متصلاً في جميع النسخ والواو بعده واو الحال لا عاطفة لئلا يلزم عطف الخبر على الإنثاء في بعض الوجوه، وقيل: إنه عطف على قوله لم لا يجوز أي لا يقال هذا في تضعيف ذلك القول وهو كقوله تعالى: {هَذَا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ} [ص: 55] وهو فيه مبتدأ وقال في المثل السائر: لفظ هذا في هذا المقام من الفصل الذي هو أحسن من الوصل، وهي علاقة وكيدة بين الخروج من كلام إلى كلام آخر وذلك من فصل الخطاب الذي
هو أحسن موقعاً من التخلّص، وعندي أنه منصوب بدع مقدرة لأن عادة العرب في مثله أن يقولواح ذا كما قال:
فاع ذا وسل الهتم عنك بحسرة دمول إذا صام النهار وهجرا
وهذا شروع في إبطال مدعي العلمية بعدما بين ما في دليله أو هو معارضة للاستدلال المذكور بعد المناقضة والمنع للملازمة بين عدم كون الفواتح مفهمة، وكون الخطاب بها بالخطاب بالمهمل مسنداً لما ذكر من الوجوه المروية. قوله:(لأنّ التسمية بثلاثة أسماء فصاعدا إلخ) قال تدس سزه التسمية بأسماء معدودة لم توجد في كلامهم، وما ذكره سيبويه كما سنبينه مجرّد قياس، ولذا قال المصنف رحمه الله مستنكر، ولم يقل باطل ولا غير واقع ونحوه، والمستنكر ما ينكره الناس لكونه غير معروف بخصوصه، وإن كان معروفا بتلاوة ألفاظ نحو سرّ من رأى وشاب قرناها وغيره مما ذكر من الجمل، ولذا قال: أسماء، ولم يقل ألفاظا إلا أنّ الفرق بينهما محتاج للتأمّل الصادق وأمّا ما قيل من أنهم لم يسموا السور بهذه الأسماء ويبعد أن تهمل أسماء سماها الله تعالى في كتابه، فتخيل لا أصل له كما مرّ. قوله:) ويؤذي إلى اتحاد الاسم إلخ البعض أرباب الحواشي هنا تطويل بغير طائل كما قيل: إنّ الاسم هنا جزء من المسمى والجزء لا يغاير الكل وإلا لصار غير نفسه وقيل: الاسم جزء خارجيّ من الكل غير ممتاز عنه في الوجود مثلاً إذا قلت سورة البقرة {الم ذلك الكتاب} إلخ واسم هذه السورة ألم اتجه أن يقال: الاسم متحد مع المسمى بالمعنى المذكور لا بمعنى كونه نفسه، فإذا كان موضوعا للكل كان موضوعاً لنفسه، والمراد أنّ الم مثلاً لو كان علما للسورة كان مسماه المجموع الداخل فيه جميع الأجزاء، فكان اسما للجزء أيضا ويلزمه اتحاد الاسم، وسيأتي بيانه وما فيه. قوله: (ويستدعي تأخر الجزء عن الكل إلخ (أي يستدعي تأخر الجزء مع تقدمه عليه فيلزم توقف الشيء على نفسه لتوتفه على ما يتوقف عليه وهو دور، وفيه ما سيأتي بيانه وهذه الشبهة لا تختص بالإعلام بل تأتي في لفظ القرآن، ولفظ سورة الواقعين في النظم وقد أوردها خاتمة المحققين السيد عيسى الصفوي على بعض الألفاظ القرآنية كالضمائر في نحو قوله تعالى {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ} [يوسف: 2] ، فإنها إخبار عن إنزال القرآن وهذه الجملة من جملته والضمير للقرآن ومنه الضمير نفسه، فيعود حينئذ على نفسه حتى اضطز في دفعها إلى جواز كون الكلام خبراً عن نفسه نحو قول القائل: كل كلامي صادق إذا لم يتكلم بغير هذا اللفظ بناء على ما ذكروه في دفع المغالطة المعروفة بالجزء الأصم فتدبر. قوله: (يتأخر عن المسمى بالرتبة (المعروف أنّ التقدم على خمسة أوجه تقدم بالزمان وهو ظاهر، وتقدم بالطبع كتقدم الواحد على الاثنين، وتقدم بالشرف كتقدم أبي بكر على عمر رضي الله عنهما، وبالعلية للفاعل
المستقل بالتأثير كتقدم حركة اليد على حركة القلم، وتقدم بالرتبة وعرفوه بما كان أقرب من مبدأ محدود كتقدم بعض صفوف المسجد، وقد زادوا سادسا وهو التقدّم بالذات، وهنا بعض من النقض والإيراد مذكور في الحكمة، وفي كون هذا التقدّم رتبيا بالمعنى المصطلح نظر. وقوله: الم تعهد إلخ) أي لم تعرف رتشتهر بما ذكر، وهذا كرّ على رد قول قطرب، وما بعده صريحا بعدما رذه ضمنا، ولما دخل النفي هنا على قيد ومقيد، والقرينة قائمة على نفيهما قيل: إنه نفي لما سبق من وجوه إذ لم تعهد مزيدة للتنبيه على انقطاع كلام واستئناف آخر، فما قيل عليه من أنه ليس مدلول
الكلام صريحا وان أمكن استنباطه بضرب من التأويل ليس بوارد، وزاد على هذا أيضا أنه لم يعهد في الكلام زيادة أكثر من اسم، وأمّا ما قيل من أنّ قائل هذا الوجه لا يقول إنها مزيدة بل يقول إنها تفيد بطريق الرمز والإيماء إلى معنى التحدي كما صرّحوا به ولذا فرقت على السور لهذه الفائدة ولإعادة التنبيه على التحدي والمعنى هذا المتحدى به مؤلف من جنس هذه الحروف فليس بشيء لأنه ليس فيما نقله المصنف رحمه الله تعالى عن قطرب شيء مما ذكر بل لا يصح، لأنه يكون قولاً آخر فتدبر. قوله:) والدلالة على الانقطاع إلخ (الدلالة هنا إمّا مجرور بالعطف على ما قبله أو مرفوع بالابتداء يعني أنّ الدلالة على الانقطاع لم تعهد بها وأمثالها وأمّا الاستئناف فحاصل بكل ما وقع في الابتداء، ولا يلزم أن لا يكون له معنى في حيزه وموقعه غير الدلالة على الانقطاع فلم حكم بأنها مزيدة صرفة وليست مما عهد زيادته للاستفتاح نحو ألا، وأما وان رجحه الطيبي. وقوله:) من حيث أنها فواتح السور (بكسر همزة إن، لأنّ حيث لا تطرد إضافتها لغير الجمل وجوّز بعضهم فتحها وخطىء فيه على ما فصله في المغني وشروحه، وقيل عليه: بل يلزمها ذلك من حيث إنها كلمات غير مفهومة المعنى، فيجوز أن لا تدخل في شيء من السورتين المفصولتين بها، فيجوز كون دلالتها على ما ذكر باعتبار عدم الإفهام من غير أن تكون فاتحة السورة أو جزأها، وأجيب بأن احتمال كونها خارجة منها غير متجه لكتابة التسمية قبلها فتعين كونها فاتحة، وبقي الكلام في أنّ دلالتها على ما ذكر من حيث أنها غير مفهمة أو من حيث أنها فاتحة بالمعنى الأوّل لوجود الدلالة على ما ذكر فيما يفهم أيضاً، نعم هو في غير المفهم أظهر إذ لا فائدة فيه غيرها فتدبر. قوله: (ولا يقتضي ذلك إلخ) قيل المطلوب هنا صحة أن لا يكون لها معنى فيستغي عن تكلف جعلها أسماء للسور بلا دليل، فلا طائل لنفي اقتضاء ذلك إذ يكفي لنا ما يصحح وقوع ما ليس فيه إفهام، وقيل التنبيه على ما ذكر إذا لم يتوقف على أن لا يكون لها معنى وتحقق على تقدير أن يكون لها معنى، وكون القرآن هدى وبيانا مع ما هو المتعارف في الخطاب يدل على أن يكون لها معنى فالقول: بأنها ليس لها معنى ترجيح بلا مرجح للمرجوح، وهو غير جائز. نعم لو لم يحصل التنبيه على تقدير كونه مفهماً كان له وجه، وهذا كله تعسف فالحق أنّ مراده أنّ ما ذكر مخالف للمعهود، ومثله لا يرتكب بغير مقتض، ولا مقتضى له هنا فلا وجه لارتكابه فاعرفه،
هاب / ج ا / م 18
وما قيل من أنّ القرآن كلام لا يشبه كلاماً فناسب أن يؤتى فيه بألفاظ تنبيه لم تعهد ليكون أبلغ في قرع السمع، فهو غنيّ عن الردّ. قوله:(ولم تستعمل للاختصار إلخ) جواب عما مرّ أنها مختصرة من كلمات وسنده المنقول عن ابن عباس رضي الله عنهما بأنه لم يرد مثله في كلام العرب والشعر المذكور شاذ، وبؤيده أن حذف بعض الكلم في غير الترخيم لا يجوز عند النحاة، وأمّا ما حمل عليه كلام ابن عباس رضي الله عنهما فيأباه سياقه وما قيل: من أن قاف في البيت أمر من قافاه بمعنى تبعه وبيان معنى البيت بما نقله بعضهم، فمثله من المزخرفات مما لا ينبغي أن تشحن به الدفاتر. قوله:(وأمّا قول ابن عباس رضي الله عنهما إلخ) قيل عليه: إنه يأباه كل الإباء. قوله معناه أنا الله إلخ وليس في كلامه ما يدل على ما ذكره المصنف هنا بوجه من وجوه الدلالة الثلاثة فحمله عليه خروج عن طريق التحقيق ولو كان مقصوده مجزد كون هذه مواد الأسماء لكان ما ذكر من التركيب لا وجه له ولذا منع بعض المتأخرين صحة الرواية وقال: لو صحت لكانت من الرموز التي لا يفهمها إلا صاحب الوحي، أو من تلقى عنه بواسطة أو بدونها كابن عباس رضي الله عنهما. قوله:(ألا ترى أنه عدّ كل حرف إلخ (تقرير لمدعاه بأنه عدها من كلمات متباينة فعدّ الألف تارة من أنا، وتارة من الله وتارة من الآلاء واللام تارة من جبريل، وتارة من لطفه والميم تارة من أعلم وتارة من محمد، وتارة من ملكه واللفظ الواحد لا يمكن أن يكون كذلك. وقوله: (لا تفسير إلخ) عطف على قوله تنبيه. قوله: (ولا لحساب الجمل إلخ) باللام الجازة في أكثر النسخ وهو معطوف على قوله للاختصار ولا لتأكيد النفئي يعني أنّ إلحاتها بالمعزبات فرع استعمال العرب إياها في ذلك ولم يتحقق وفي نسخة بحساب بالباء بدل اللام، وهو معطوف أيضاً على ما عطف عليه ما قبله، واحتمال عطفه على قوله بهذه بعيد، وان قرب، وفي المصباح، واستعملته جعلته عاملاً، واستعملته سألته أن يعمل
واستعملت الثوب ونحوه أعملته فيما يعد له اهـ. واستعمال الألفاظ في معانيها مأخوذ من الأخير وهو محدث ويقال استعمل لفظ الضرب بمعنى السير، وفي معنى السير ولمعنى السير والكل شائع في كلامهم فما قيل من أنّ هذه الباء سهو من قلم الناسخ لأنه لم يقل لم يستعمل به بل له سهو من ابن أخث خالته. قوله:(لجواز أنه عليه الصلاة والسلام تبسم تعجباً من جهلهم) قيل جهلهم لتفسيرهم النازل بلسان عربيّ بما ليس من معاني لغة العرب أو لأنهم بعدما سلموا كونه شرع الله لا وجه لعدم دخولهم فيه لقصر مدّته، ويرد بأنّ كلامهم لا يدل على تسليم كونه دين الله في نفس الأمر لجواز أن يكون قولهم في دين مبنيا على ما يدعيه النبيّ عليه
الصلاة والسلام وهو مما لا شبهة فيه، ثم إنّ أبا العالية رحمه الله لم يستدل بتبسمه المفيد للتقرير بل بما بعد التبسم من تلاوته صثى الله عليه وسغ إياها عليهم بالتريب المخصوص، وتقريرهم على استنباطهم وكما جاز كون التبسم لما ذكر جاز أيضا كونه تعجبا من إطلاعهم على المراد، ولهذا مرجحات عند بعضهم والظاهر أنه صلى الله عليه وسلم فعل ذلك مجاراة معهم ليلزمهم بما يعرفونه فتأمّل. قوله:(وجعلها مقسماً بها إلخ) جواب عن قوله أو دلالة على الحروف المبسوطة مقسما بها والمضمر حينئذ فعل القسم وفاعله، وحرفه وجوابه لخلوّ ذلك الكتاب مما يتلقى به القسم من أنّ واللام، فلا يصلح لكونه جواباً، وأورد عليه أنهم ارتضوا كونها مقسما بها إذا كانت أسماء لله أو القرآن أو السور، ولم يستضعفوه، لما ذكر وتبعهم في ذلك المصنف رحمه الله فإن قيل إنه لشرف معانيها المناسبة للقسم قيل: هذه أيضا شريفة لأنها منبع أسماء الله وخطابه مع أنّ وجه التضعيف وأورد ثمة بلا فرق، والجواب عنه أنها إذا كانت من أسماء الله أو من صفاته كالقرآن كانت صالحة لأن يقسم بها في نفسها فارتكاب تلك الإضمارات شائع في الجملة أمّا ما لا يصلح لذلك، كأسماء الحروف المقطعة، فيبعد ذلك عنه بمراحل، وما ذكره من التأويل إن سلم أنه يصححه لا يقربه، وقول المصنف رحمه الله غير ممتنع إلخ يشير لما ذكرناه وقوله لا دليل عليها أي دليلاً معينا لها فلا يرد أنّ عطفه المجرور في مثل {قاف والقرآن} دليل فمطرد لأنّ واو والقرآن تحتمل التسمية فلا دليل فيها أيضاً. قوله:(والتسمية بثلانة أسماء إلخ) جواب عن أنّ التسمية بثلاثة أسماء مستنكر في لغة العرب بأنّ المستنكر تركيب ثلاثة أسماء تركيبا مزجياً كحضرموت، وأمّا التسمية بها منثورة غير مركبة كذلك بل مسرودة سرد الاعداد فليس بمنكر، وإذا سموا بنحو شاب قرناها وجاز جعل الجمل علماً كما ذكره سيبويه كيف يستنكر هذا، فإن قلت كيف سلموا هنا أنّ تركيب ثلاثة أسماء ممتنع، وغير ثابت من غير نزاع فيه، وقد ورد في اسم المدينة دارابجرد فإنها في الأصل من دار ومن آب ومن جرد قلت قال قدس سرّه في شرح الكشاف: لما مثل به الزمخشريّ دارابجرد علم بلدة بفارس معرب دارابكرد، وهو مركب من كلمتين إحداهما دارا اسم ملك بناها والثانية بكرد، وقيل هو معرّب دراب كرد فيكون ثلاث كلمات في الأعجمية لأن دراب معناه درآب سمي بذلك لأنه وجد في الماء، وصار بالغلبة اسما واحدا فضمت إليه كلمة أخرى وصار المجموع كبعلبك وعلى هذا تتأكد المشابهة بينه، وبين طسم وقد وجد في نسخة المصنف رحمه الله داربجرد بلا ألف بعد الدال، وهو سهو من طغيان القلم والآفات المقصود وهو إثبات موازن له في كلامهم اهـ. أقول إنما تركه المصنف رحمه الله وغيره، وان ذكره سيبويه رحمه الله وتابعه الزمخشرفي لأنه ليس بعربي والمدعى أنه لا يوجد مثله في كلام العرب إلا أنّ ما ذكره الشريف غير تام رواية ودراية. أقا الأؤل فقد قال ياقوت في معجم البلدان: دارإبجرد
بألفين بعد الألف الثانية ياء موحدة ثم جيم ثم راء ودال مهملة ولاية بفارس وداربجرد بدون ألف كورة بفارس عمرها داراب، وهي معرّب داراب كردود اراب اسم رجل وكرد بمعنى عمل قال الأيادي:
يقاتل من قصور درابجرد ويحمي للمغيرة والرفاد
وهي أكبر من دارابجرد اهـ. فما وقع في خط العلامة صحيح والموازنة فيه ثابتة بحسب الأصل لأنّ دراب بمنزلة طس، وهو ظاهر لا غبار عليه نعم التسمية بأسماء منثورة لم توجد في كلامهم، وما ذكره سيبويه مجزد قياس محتاج للإثبات كما ذكره السيد أيضاً. وقوله: (نثرت (بنون وثاء مثلثة وراء مهملة من النثر ضد النظم
والمراد لم تركب أصلاً. قوله: (وناهيك إلبئ) ناهيك بمعنى حسبك، ويكفيك تقول هذا رجل ناهيك من رجل وتأويله أنه بجده وغنائه ينهاك عن تطلب غيره، وهذه امرأة ناهيتك من امرأة تذكر وتؤنث وتثنى وتجمع لأنه اسم فاعل فإذا قلت نهيك أو نهاك لم تثن، ولم تجمع لأنه مصدر في الأصل، وهو مستعمل في المدح لأنه لغاية كفايته كأنه ينهاه عن طلب غيره، وهو كالدليل الآخر هنا، والباء متعلقة به لأنه بمعنى اكتف، وهكذا نقل سماعه عن الثقات قال ابن الأنباري: رحمه الله في الزاهر قولهم ناهيك بفلان معناه كافيك به من تولهم قد نهى الرجل باللحم، وأنهى إذا اكتفى به وشبع اهـ. فلا حاجة لما في بعض الحواشي من أنها زائدة أو متعلقة به نظراً لمآل المعنى، وقيل إنها زائدة في المبتدأ وناهيك خبر مقدم له وربما توهم عكسه، وهو فاسد معنى وصناعة، وفيه نظر، وقيل إنها متعلقة بالتمسك أي ناهيك التمسك بتسوية سيبويه، وأنت في غنية عنه بما مرّ، وتسويته هو قوله في بالب العلم وباب الترخيم لو رخمت تأبط شرّاً من الأسماء لرخمت رجلأ مسمى بقول عنترة:.
يا دار عبلة بالجواء تكلمي
اهـ وهو أظهر من أن يذكر. قوله:) والمسمى هو مجموع السورة إلخ (جواب عن أنه يؤدّي إلى اتحاد الاسم، والمسمى قال العلامة: ليست هذه التسمية تصير الاسم والمسمى واحد لأنها تسمية مؤلف بمفرد، والمؤلف غير المفرد ألا ترى أنهم جعلوا اسم الحرف مؤلفا منه ومن حرفين مضمومين إليه نحو صاد يعني أنهما متغايران ذاتا، وصفة فلا يلزم من تسمية المؤلف بالمفرد اتحاد الاسم، والمسمى كما لا يلزم ذلك من عكسها في أسماء الحروف، وما ذكر من الشبهة مندفع لأن مغايرة الكل لجزئه لا تستلزم مغايرته لكل جزء منه حتى يلزم المحذور فسقط ما قيل من أنّ الجواب المذكور لا يرد لزوم تسمي الشيء باسم نفسه لأن لهذا الجزء حظاً في المسمى بالاسم، ولو مقرونا بسائر الأجزاء. قوله:) وهو مقدّم من حيث ذاته
إلخ) جواب عن شبهة الدور الذي أوردوه، ودفع فساده لإفساد وجود الكل بدون الجزء، وان استلزمه يعني أنّ ذات الجزء متقدمة على ذات الكل، وأمّا ذات الاسم فلا يجب تأخره عن ذات المسمى بل ربما كان جر اً كما في الفواطح فيتقتمه، وربما انعكس الحال فيجب تأخره عن المسمى كما في أسماء الحروف، وإذا لم يكن الاسم جزءاً من المسمى، ولا كلاً له لم يوصف بالتقدم، ولا بالتأخر بأحد الاعتبارين المذكورين نعم وصف الاسمية متأخر عن ذات المسمى لا يقال وقوع الفواتح أجزاء للسور من حيث أنها أسماء لها فإذا كانت الاسمية متأخرة لزم تأخر الجزء أيضا لأنا نقول اللازم على*ذهلد الئقدير تأخر وصف الجزئية عن ذات الكل، ولا استحالة فيه كما حققه خاتمة المدققين فسقط ما قيل من أنّ هذا " الجواب مدخول لأنه إنما وقع جزءا من حيث أنه اسم للسورة على ما هو المفروض فالأولى أن يجاب بمنع لزوم تأخر الاسم عن المسمى بحسب الوجود العيني كما سمعته، وجعله اسما يتوقف على تصوّر الكل لا على تحققه ألا تراك تسمي ولدك قبل أن يولد، وجعله جزءا عند التحقق لا عند التصوّر، وما قيل من أنّ تسمية من سيولد ليست بتسمية حقيقية بل تعليق لها أي إذا ولد كان هذا اسما له. رذ بقوله تعالى:{وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ} [الصف: 6] فالبعدية باعتبار الإتيان، والرسالة، والتسمية، ولا يجوز صرف القرآن عن ظاهره بلا موجب، ونظائره كثيرة كيف، وتصوّر الموضوع- له بتشخصه عند الوضع ليس بشرط بل يكفي تصوّر، بوجه مّا على ما مرّ بيانه. قوله:(فلا دور) بطلان الدور واستحالته على ما قزروه، لأنه يستلزم تقدم الشيء على نفسه، وهو ضرورفي الاستحالة على ما بين، وبرهن عليه في الكلام، وهنا لما قال أنّ الاسم مؤخبر عن المسمى، والمسمى- هو الكل، وما تأخر عن الكل تأخر عن جميع أجزائه ضرورة، فإذا كان الاسم جزءا لزم تأخر الاسم عنه، فيلزم تأخره عن نفسه، وتأخر الشيء عن نفسه مستلزم لتقدّمه على نفسه، وهو ظاهر البطلان، وحاصل جوابه أنّ الجزء مقدّم من حيث ذاته مؤخر من حيث وصفه، وهو الاسمية فانفك الدور باختلاف الجهة والشيء الواحد يجوز أن يتقدم من جهة، ويتأخر من أخرى (ومما يتعجب منه هنا) ما قيل من أنّ المحذور المذكور لزوم تأخر الجزء عن الكل حال كونه جزءا متقدما على الكل لا لزوم الدور حتى يحتاج إلى دفعه باختلاف الجهة فلعله أراد أنّ لزوم تأخر الجزء عن الكل على تقدير اسمية الجزء لا يخلو عن
لزوم الدور فإن اسمية الجزء للكل موقوفة على وجود الكل، ووجود الكل موقوف على وجود الأجزاء، ومن جملتها الجبزء الذي هو اسم الكل، وهذا دور لأنه توقف الشيء على ما يتوقف عليه فحاصل الجواب ط أن توقف الجزء على الكل إنما هو في وصف الاسمية فيتأخر عن الكل وضعا، وتوقف الكل إنما هو على ذات الجزء لا على وصف اسميته فيتقدم على الكل ذاتا فلا دور. قوله:(والوجه الأؤل أقرب إلخ) يعني به الوجهين الأوّلين لأنهما عنده وجه واحد كما مرّ لاتحادهما بحسب المراد والفال كما مرّ، وصاحب الكشاف جعل كلاً منهما وجهاً على
حدته، وله وجه، وكونه أقرب إلى التحقيق لظهوره، وعدم التجوّز فيه، وسلامته مما يرد على غيره، ولأنّ كونها أسماء الحروف المقطعة محقق لا محالة بخلاف غير.، وقيل المراد تحقيق إعجاز القرآن لأنّ الدلالة فيه على التحدي بالقصد الأوّلي بخلاف غيره، وقوله وأوفق للطائف التنزيل لدلالته على الإعجاز قصداً، وعداه باللام، وفي بعضها بلطائف معدّى بالباء، وكل منهما صحيح، وأورد عليه أنّ كل ما ذكر من النكات على الوجه الأوّل ينافي العلمية أيضا، وأجيب بأنّ الانتقال إلى اللطائف على كونها تعدادا للحروف أسرع إذ على تقدير كونها أسماء للسور يتوجه الذهن ابتداء إلى مسماها فربما غفل عن تلك اللطائف لوجوب التوجه إلى المسمى ابتداء، وليس ذلك موجودا على الأوّل لأنّ احتمال الغفلة عنها منتف هناك إذ لا تحصل بدونها فائدة الخطاب فتأمّل. قوله:(وأسلم من لزوم التقل إلخ (الذي هو الأصل لا سيما في ألفاظ القرآن، وكلمة من هنا للتعليل، ومن التفضيلية مقدّرة، والمعنى أسلم من الوجه الآخر لأجل لزوم النقل في الثاني وليست صلة والاً يلزم سلامة الوجه الثاني أيضا كما أشار إليه بعض الفضلاء فسقط ما قيل من أنه كان الظاهر أن يقول سالم لأنه يقتضي أنّ في الأوّل نقلَا، وليس كذلك، وكون من غير تفضيلية ظاهر، وأمّا كونها تعليلية فلا حاجة إليه إذ الظاهر أنها صلة لأن سلم يتعدّى بمن فيقال سلم من العيوب، وإذا بنى أفعل مما يتعدّى بمن قد تذكر صلته وتترك من التفضيلية كما وقع في الحديث أقربهما منه لأنّ قرب يتعدى بمن أيضا فتأمّله، وقوله وقوع معطوف على لزوم، وقوله من واضع واحد إشارة إلى أنّ الاشتراك مع تعدد الواضعلا محذور فيه، والاشتراك واقع في بعضها كالم، وهو مناف لمقصود العلمية، وهو التمييز، ثم إنّ الألفاظ وتلك اللطائف، وان وجدت في العلمية لكنها بطريق التبع لا بالقصد الأوّل كما في مختاره فلا ينافي قوله في العلمية سميت بها إشعاراً إلخ، وأمّا كونه مذهب سيبويه، وغيره من المتقدّمين فما صدر عنهم ليس نجص فيه لاحتمال أنهم أرادوا أنها جارية مجراها كما يقولون قرأت بانت سعاد ورويت قفا نبك، وقرأت {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} وإنما نعني ما أوّله واستهلاله ذلك فلما غلب جريانها على الألسنة صارت بمنزلة الاعلام الغالبة فذكرت في باب العلم وأثبت لها أحكامه. قوله: (وقيل إنها أسماء القرآن إلخ) هذا معطوف على ما عطف عليه قيل الأوّل والمراد بالقرآن مجموعه لا القدر المشترك لاتحاد الاسم فيه، والمسمى بحيث لا يدفع ولا ضير في تعذد الاسم لأنه يدلّ على شرف المسمى، وهذا أخرجه ابن جرير عن مجاهد، وأخرجه عبد الرزاق وعبد بن حميد عن تتادة، ولذا قيل إنه أرجح مما اختاره المصنف رحمه الله فإنه لم ينقل عن أحد من السلف. وقوله: (ولذلك أخبر عنها إلخ (لأنّ المتبادر منهما إرادة الجميع، وأنه عين المبتدأ وان احتمل خلافه والإخبار بالكتاب ظاهر كما
في قوله: {الَر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ} [هود: ا] ونحوه، وأمّا القرآن فقيل إنه عطف تفسيريّ، وفيل إنه إشارة إلى قوله:{طس تِلْكَ آيَاتُ الْقُرْآنِ} [النمل: ا] أو إلى ما في قوله: {الر الَرَ تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَقُرْآنٍ مُّبِينٍ} [الحجر: ا] وفيه نظر لأنه لم يخبر بالقرآن صريحا كما في الكتاب، وإنما جعلت من آياته في الأوّل، وفي الثاني عطف على ما أضيف إليه الخبر لا على الخبر. قوله:(وقيل إنها أسماء الله إلخ (أخرجه ابن جرير، وإبن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن مردويه، والبيهقي في الأسماء والصفات عن ابن عباس رضي الله عنهما بسند صحيح فالمعنى هنا يا الم، وما بعده مستأنف، وقوله: (وبدل عليه أن علياً رضي الثه عتة إلخ (أخرجه ابن ماجه في تفسيره من طريق نافع بن أبي نعيم القارىء عن فاطمة بنت عليّ بن أبي طالب أنها سمعت علياً رضي الله عنه يقول يا كهيعص اغفر لي، وقوله: (ولعله أراد إلخ) تأويل له بتقدير مضاف فيه إذ لا يظهر له معنى مناسب كسائر أسمائه
وأسماؤه توقيفية، وقيل: إنما المقدر يا عالمهما لاختصاصه بذلك العلم على حقيقته، وقيل إنّ هذا التأويل يرده ويأباه ما ورد في الأحاديث مثل ما أخرجه ابن أبي حاتم عن الربيع بن أنس في قوله: كهيعص قال: معناه يا من يجير ولا يجار عليه فتدبر. قوله: (وقيل الألف إلخ) هذا مع اختصاصه بألم ليس واقعا في محله فهو كالدخول بين العصا ولحائها، وما قيل من أنه تأويل من استغرق في ذكر الله بحيث لا يشغله عن ذكره شاغل حسيّ، أو عقليّ لا يسمن ولا يغني من جوع، وقيل: إنه تتمة لما قبله وهو توجيه لتسميته تعالى به ولا يخفى بعده، ولذا قيل: ليس هذا تعليلاً لأنها أسماء الله متمما لما قبله كما يقتضيه ظاهر الكلام، وسياقه إلا أنه متصل به لقربه، وان كان الإيماء المذكور جاريا فيه وفي غيره، وهو قليل الجدوى. وقوله:(من أقصى الحلق) أي أبعده مما يلي الصدر والمراد بالألف الهمزة، فإنه مخرجها أو الألف اللينة فإنه مخرجها في قول أيضا وقيل: إنها من الجوف أي جوف الفم أو ما يشملهما. قوله: (إنه سر استأثر الله بعلمه) استأثر بالشيء استبد به أو اختص، وهو لازم كما في كتب اللغة وعليه ما هنا في أكثر النسخ وفي الحديث:" من ملك استأثر " وهو مثل أي من قدر آثر نفسه بالدنيا، وأصله أنّ داود عليه الصلاة والسلام، لما أمره الله تبارك وتعالى ببناء بيت المقدس بنى لنفسه بيتاً مثله، فأوحى الله عز وجل له قد أمرتك ببيت لي، فبنيت لنفسك مثله فقاله ووقع في بعض النسخ استأثره الله بعلمه بتعديته للضمير فذهب أرباب الحواشي إلى أنّ حقه أن يتركه لمخالفته للاستعمال وكتب اللغة، وقيل: إنه حمله على خصه، فعداه تعديته والضمير للرسول صلى الله عليه وسلم والياء داخلة على المقصور وقيل: إنه يقال آثره الله بكذا أي أكرمه، وهذا استفعال
منه والضمير للرسول صلى الله عليه وسلم أيضا أي أكرمه الله بعلمه دون غيره، وهذا القول ارتضاه كثير من السلف والمحققين وسئل الشعبي رحمه الله عنها فقال: إن لكل كتاب سرّاً وسر القرآن فواتح السور، فدعها وسل عما بدا لك، فهي من المتشابه الذي لا يعلم تأويله إلاً الله. قوله:(وقد روي عن الخلفاء إلخ) فعن الصدّيق رضي الله عنه في كل كتاب سر وسز الله في القرآن أوائل السور، وعن عمر وعثمان رضي الله عنهما الحروف المقطعة من السرّ المكتوم الذي لا يفسر، وعن عليّ رضي الله عنه أيضاً ما هو بمعناه، والحاصل أنه تفسير مأثور عن أكثر السلف فهو أرجحها ولذا اقتصر عليه بعض المفسرين. وقوله:(ولعلهم إلخ (ضمير أرادوا للحلفاء أولهم وللذاهبين إلى هذا القول، وإنما أوّل بما ذكر اقتداء بالإمام وانتصاراً لمذهب الشافعي رضي الله عنه في المتشابه وأن الله والراسخين يعلمونه كما سيأتي تحقيقه في آل عمران والذي اختص الله تعالى به من علم الغيب هو علمه تفصيلَا ذاتا وزمانا من غير واسطة أصلا فلا ينافيه علم بعض الأولياء والأنبياء عليهم الصلاة والسلام له بواسطة ذلك أو إلهام من الله. وقوله: (إذ يبعد الخطاب إلخ (هو دليل الشافعية في تفسير المتشابه والمخالف فيه يقول لا حاجة إلى هذا التأويل ولا يلزم اللغو والعبث لجواز كون بعض القرآن لا للإفهام بل للتنبيه على اختصاص بعض الأسرار بعلمه تعالى على أنّ فيه فائدة، وهي الثواب في تلاوته وابتلاء الراسخين بمنعهم عن التفكر فيما يوصلهم إلى مبلغهم من العلم كما يبتلى الجهلة بتحصيله، ولكل وجهة فتأمل. قوله: (فإن جعلتها إلخ) شروع في بيان إعرابها بعدما بين معانيها واستوفى الأقوال المشهورة منها وما لها وعليها، وحظها في الوجوه الثلاثة ظاهر لأنها أسماء منقولة من مفرد أو مركب وإعرابها بالوجوه الثلاثة، فالرفع على أنها خبر مبتدأ محذوف أي الله أو القرآن أو السور الم، أو على الابتداء وتقدير ما ذكر مؤخراً وهذا إن لم يكن بعدها ما يصلح للحمل عليها نحو (الم الله) و {الم ذَلِكَ الْكِتَابُ} [البقرة: 1] فإن كان جاز عدم التقدير كما فصلوه. وقوله على الابتداء أو الخبر والخبر مصدر بمعنى الخبرية لعطفه على الابتداء الصريح في المصدرية أو الابتداء مؤول بالمبتدأ كضرب الأمير بمعنى مضروبه. قوله: (أو النصب بتقدير فعل القسم إلخ) فالنصب بفعل القسم المقدر بعد حذف حرفه، وإيصاله للمقسم به نحو الله لأفعلن كما قالوا استغفر الله ذنبا، لكن في القسم لا يحذف حرفه إلا مع حذف الفعل، فلا يقال حلفت الله في فصيح الكلام وظاهر تقديم المصنف رحمه الله النصب ترجيحه على الجز، لأنه يضعف عند بعض النحاة حذف حرف الجرّ
وإبقاء عمله من غير عوض عنه وان لم يضمر القسم أضمر اذكر ونحوه مما يناسب المقام فقوله: أو غيره بالجرّ معطوف على فعل القسم، وذكره النصب من غير إيماء لمرجوحيته في بعض المواضع مخالف لما في الكشاف فإنه زيفه لعدم استقامته في {ن وَالْقَلَمِ} [القلم: 1] و {يس وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ} [يس: 1] لاستكراه أئمة العربية له لما فيه من اجتماع قسمين على مقسم واحد، ولا يجوز كون الواو عاطفة للمخالفة في الإعراب، ولذا جاز على تقدير الجرّ فيه، وقيل: لا مخالفة بينهما فإنّ مبنى وكلام المصنف رحمه الله على التوزيع والتفصيل دون التعميم فتجري كلها فيما يصح فيه وبعضها فيما يصح فيه البعض دون البعض إذ لم يدع جريان جميع الوجوه في كل واحدة منها حتى يمتنع حمل كلامه على ما ذكر، فإن قلت كيف منعوا أو استكرهوا توارد قسمين على مقسم عليه واحد من غير عطف لأحد القسمين على الآخر،، فلم يقولوا والله والرسول لأفعلن كذا- مع أن القسم مقوّ ومؤكد للجواب ولا مانع من ورود تأكيدين بل تأكيدات بغير عطف على مؤكد واحد نحو قام القوم كلهم أجمعون أكتعون، وأيضاً إذا اجتمع القسم والشرط على جواب واحد يجعل ذلك الجواب لأحدهما لفظاً ومعنى، وللآخر معنى فقط من غير استكراه أصلاً، فلم لا يجوزون ذلك هنا من غير استكراه، وما السرّ فيه قلت: - قد- صرحوا بأنه المسموع من العرب ووجهه، كما قاله السيد السند تبعاً للسراج قصور العبارة عما قصد من التشريك في المقسم عليه لإيهامه أن كل قسم يقتضي جوابا برأسه، وقيل: إنه لو جعل الواو للقسم كان كل واحد قسماً مستقلَا بقصد يقتضي ارتباط الجواب به ارتباط الجزاء بالشرط، فينتقل من كلام إلى آخر قبل تمامه، فإن القسم الأوّل إنما يتمّ بالمقسم عليه، وقد فصل بينهما بالقسم الثاني فاقتضى القياس منعه إلا أنّ الثاني لما توجه لما توجه له الأوّل لم يكن احتياجا من كل الوجوه، فجار على استكراه، ولا يخفى ما فيه، فإنه لا مانع- من جعل أحد القسمين مؤكدا للآخر من غير عطف فيكتفي بجواب واحد، أو يقال: هما لما كانا مؤكدين لشيء واحد وهو الجواب جاز ذلك، فأي وجه للاستكراه إلا أن لما قاله سيبويه والخليل رحمهما الله تلقوه بالقبول، فليس على مستمع هذا الكلام غير تصديق حذام، وكأنّ هذا هو الداعي للمصنف رحمه الله غلى ترك ما في الكشاف فتدبر. قوله:(أو الجرّ الخ) قال في المغني: من الوهم قول كثير من المعربين والمفسرين في فوقح السور أنه يجوز كونها في موضع جرّ بإسقاط حرف القسم، وهذا مردود، فإنّ ذلك مختص عند البصريين باسم الله سبحانه، وبأنه لا أجوبة؟ - " للقسم في سورة البقرة وآل عمران، ويونس، وهود ونحوهن، ولا يصح أن يقال قدر ذلك الكتاب في البقرة و {اللهُ لا إِلَهَ إِلَاّ هُوَ} [آل عمران: 2] في آل عمران جوابا وحذفت اللام من الجملة الاسمية كحذفها في قوله:
ورب السموات العلا وبروجها ~ والأرض وما فيها المقدر كائن
لأنّ ذلك على قلته مخصوص باستطالة القسم اهـ، ولعمري قد استسمن ذا ورم، وفد
وهمهم وهم الواهم وقد ساقه هنا بعضهم ظنا منه أنه وارد غير مندفع، وهو كلام واه فإنّ إتباع
البصريين ليس بفرض، فكفى لصحة ما ذكر كونه على مذهب الكوفيين، وأمّا اعتراضه الثاني بأنه ليس في تلك السور أجوبة، فجوابه ظاهر لأنه كثيراً ما يستغني عن الجواب بما يدل عليه كمتعلقه في قوله تعالى:{يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ} [النازعات: 6] أي ليبعثن وهنا المقسم عليه مضمون ما بعده، فهو قرينة قريبة وقد صرح بهذا في التسهيل وشروحه، وأمّا حديث الاستطالة، وهو حذف اللام الجوابية لطول القسم كقول بعض العرب أقسم بمن بعث النبيين مبشرين ومنذرين، وختمهم بالمرسل رحمة للعالمين هو سيدهم أجمعين فهو إلخ جواب حذفت لامه لما ذكر، فليس بلازم بل هو الأغلب كما صرّح به ابن مالك رحمه الله وإن قال أبو حيان في شرح التسهيل: لم يذكر أصحابنا لاستغناء عن اللام وعن إنّ في الجملة الاسمية، فينبغي أن يحمل على الندور بحيث لا يقاس عليه، ولم يخص المصنف رحمه الله الإضمار بالباء، كما في الكشاف حتى يحتاج إلى الاعتذار له بأصالتها في القسم وكثرة استعمالها فيه دون الواو والتاء، وأخر هذا الوجه لما فيه مما سمعته، وعبر بالإضمار دون الحذف، لأنهم فرقوا بينهما بأنّ الإضمار الحذف مع بقاء الأثر لأنه يشعر بوجود مقدّر له، والحذف أعم منه، وقد يستعمل كل
منهما بمعنى الآخر كما يعلم بالاستقراء. قوله: (ويتأتى الإعراب إلخ) أي يجوز من غير محذور ويتسهل قال في المصباح: وتأتى له الأمر تسهل وتهيأ، وتأتى في أمره ترنق، وهو قريب منه، ولما بين الإعراب فيها تممه ببيان كونه لفظاً أو محلاً فقال: إنه في المفرد والمركب الذي على وزن المفردات كحم بزنة قابيل يكون ملفوظا أو محكيا بأن يسكن حكاية لحاله قبله ويقدر إعرابه، وما خالفهما نحو كهيعص يحكي لا غير لأنه ليس مفرداً ولا بزنته. وقوله:(والحكاية) هي أن يجيء باللفظ بعد نقله على صورته الأولى، وقد تبع المصنف رحمه الله الزمخشريّ فيما ذكره، وأورد عليه أنّ الحكاية في الاعلام إنما تجري في الجمل كتأبط شرا الرعاية صورها المنبئة عن أسباب نقلها إلى العلمية وفي الألفاظ التي وقعت إعلاماً لأنفسها، كقولك ضرب فعل ماض لحفظ المجانسة مع المسمى والإشعار بأنها لم تنقل عن أصلها بالكلية، وأمّا في غيرهما، فلا وجه للحكاية سواء كان مفرداً أو مركباً إضافياً أو مزجياً، ألا ترى ضرب إذا سميت به مجرّدا عن الضمير لم يحك، وما نحن فيه من هذا القبيل، فيتعين فيه الإعراب لا الحكاية والنوع الأوّل لا يمكن فيه الإعراب، فوجب أن يحكي ضرورة ولا ضرورة في الثاني.
وأجيب بأنّ أسماء الحروف كثر استعمالها مقدرة ساكنة الإعجاز موقوفة حتى صارت هذه
الحالة كأنها أصل فيها، وما عداها عارض لها، فلما جعلت أسماء للسور جازت حكايتها على تلك الهيئة الراسخة فيها تنبيهاً على أنّ فيها شبهاً من ملاحظة الأصل لأنّ مسمياتها مركبة من مدلولاتها الأصلية أعني الحروف المبسوطة، والمقصود من التسمية بها الألفاظ وقرع العصا، فتجويز الحكاية مخصوص بهذه الأسماء إعلاماً للسور، فلو سمى رجل بصاد، أو بسورة الفاتحة لم تجز الحكاية، وكذا غاق علماً معرب لا محكيّ على بنائه، وأمّا غاق حكاية صوت
الغراب فقد أريد به لفظه فلذا حكي بناؤه.
(أقول (هذا ما حققه قدس سرّه، وهو زبدة ما في شروح الكشاف، والذي في الكشاف
برمّته من كتاب سيبويه حرفاً بحرف، ولا غبار عليه، وما اتفقوا عليه من أنّ الحكاية تختص بالاعلام المنقولة كدرّاج وبالألفاظ التي جعلت أسماء لأنفسها نحو من حرف جرّ غير متجه لمخالفته لما صرّح به في باب الحكاية كما في التسهيل وغيره، فإنهم أطبقوا على أنّ المفردات تحكى بعد من وأيّ الاستفهاميتين كما تقول لمن قال: رأيت زيداً من زيداً وبدونهما أيضا كقولهم دعنا من تمرتان، فكيف يختص هذا باسم السور، ويعلل بما ذكر وأنت إذا راجعت الكتاب وشروحه اتضح لك ما قلناه، فلا تكن من الغافلين. قوله:(والحكاية ليس إلخ) في نسخة ليست أي ما لم يكن مفرداً، ولا موازيا لمفرد ليس فيه غير الحكاية لما كان عليه ولا يعرب نحو كهيعص لأنه موقوف على تركيبه وجعله اسما واحدا، وهو فيما فوق الاسمين خروج عن قانون العرب ولا خفاء في امتناع إعراب عذة كلمات بإعراب واحد قيل: الحكاية مبتدأ خبره ما بعده أي الحكاية ليس يتأتى إلا هي فيما عدا ذلك. وقوله: (فيما عدا ذلك) أي ما يجاوز المفرد، وما وازنه وزاد عليه، وهو خبر ليس والأولى تقديم الخبر لأنه من تتمة الصفة، وقد منع كثير قصر الصفة قبل تمامها وأراد بالموصوف الحكاية، وبالصفة الكون فيما عدا ذلك، وبالقصر أن لا يتصف بهذا، لكون غيرها، وهذا صريح في أنّ ضمير ليس لا يرجع إلى الحكاية بل إلى يتأتى، وكلام المصنف صريح في رجوع الضمير إلى الحكاية، وكون فيما عدا خبر ليس غير ظاهر بل هو ظرف للحصر والتقدير الحكاية ليست الحالة المتأتية إلا إياها فيما عدا المفرد، وموازنه كما يقال في جاء زيد ليس إلا المعنى ليس الجائي إلا زيدا فالمعنى ليس المتأتي إلا إياها، فحذف المستثنى لفهم المعنى، وقد جوزه النحاة بشرط كون أداة الاستثناء إلأ، أو غير وتقدم النفي بليس وأجازه بعضهم مع لا يكون وتفسيره بفقط بيان لحاصل المعنى. قوله:(وإن أبقيتها على معانيها إلخ) عطف على قوله: فإن جعلتها أسماء، وأبقيتها بالألف بمعنى جعلتها باقية وفي نسخة وبقيتها بدونها مشددة القاف، وفيه مخالفة لما في الكشاف من قوله: ومن لم يجعلها أسماء للسور لم يتصوّر أن يكون لها محل من الإعراب، فردّه بأنها إنما تكون كذلك إذا كانت مسرودة على نمط التعديد فإنها لا تعرب لعدم المقتضى، والعامل كما في قولنا دار غلام جارية، وهذا لا يستلزم نفي محلية الإعراب عند إبقائها على معانيها مطلقاً إلا أن ما ذكره الزمخشريّ بناء على الظاهر قبل
التأويل. وقوله: (فإن قدرت إلخ) إشارة إلى التأويل الذي صارت به مبتدأ أو خبراً. وقوله على ما مرّ إشارة إلى قوله سابقاً، والمعنى هذا المتحدى به مؤلف من جنس هذه الحروف، أو المؤلف منها، ومن هنا تبين المراد به ثمة، فان قلت: موجب كون هذه الأسامي معرضة للإعراب لعدم مناسبتها مبنى
الأصل أن يكون إعرابها لفظياً لا محليا قلت: إذا أوّلت بما ذكر كانت واقعة في التركيب معرضة لما ذكر إلا أنه لما تعذر فيها الإعراب اللفظيّ. لاشتغال آخرها بالسكون المحكيّ قدر إعرابها لأنّ الحكاية تستلزم إبقاء صورته الأولى. قوله: (وإن جعلتها مقسماً بها إلخ) إشارة إلى ما قدّمه من جعل الحروف، المبسوطة مقسماً بها لشرفها من حيث أنها بسائط أسماء الله ومادّة خطابه. وقوله علىء الالغتين ة لعد حذف حرف الجرّ وتقدير. فإنّ فيه لغتين النصب والجر. وقوله:(تكون كل كلمة منها منصوبة أو مجرورة) وفي نسخة منصوبا أو مجروراً والظاهر أنّ المحل لمجموع الاسم لا لأجزائه، 1. لذا قيل إنّ المراد بالكلمة ما وقع في افتتاح كل سورة دمالاً فمجموع المذكورة مقسم به لأزا 4 تعدد القسم على مقسم عليه واحد مستكره كما مرّ، وامّا أنّ المجموع استحق إعرابا وكل- فىء منه صالح له فيقدر الإعراب في كل جزء نحو جاؤوا ثلاثة ثلاهلة حيث أجرى إعراب الحالى " 3 على كل منهما والحال واحدة بتأويل مفصلاً بهذا التفصيل، فتكلف بعيد لا يرتكب من غير داع هو ثمة موجود لظهور إعرابه على أجزائه، وقيل الرفع بالابتداء أيضا جائز على تقدير القسب ها بأن يقدر ألم قسمي كما ذكروه في لعمرك لأفعلن ورد بما صرح به الرضى وغيره من أن هذا الى " ررير مخصوص بما إذا كان المبتدأ صريحا في القسمية ومتعينا لها.
(بقي ههنا) أنّ جعل بعض الفواتح منصوبة نحو {ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ} [. . . .:. . . .] مع جرّ ما عطف عليه مستلزم لمخالفة المعطوف للمعطوف عليه أو لاجتماع قسمين علرلأ مقسم عليه واحد ولذا قيل إنه مقيد بما إذا لم يمنع منه مانع كأحد هذين المحذورين " ءحينئذ يتعين الجرّ ولا يأباه تفسير كل كلمة بما مز فتدبر. قوله: (وإن جعلتها أبعاض كلمات إلخ) الأبعاض جمع بعض، والمراد به الحروف المقتصر عليها، كما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما والمناقشة في هذا بأنه يجوز أن يكون لها محل بتنزيلها منزلة ما هي أبعاض له واهية جدّاً، وإن ذهب إليه صاحب الدرّ المصون وقال: إنه يجري عليها إعراب كلها، كالأسماء المرخمة نعم في التعليل قصور، لأنها ليست أبعاضا حقيقية حتى يقال: إنّ أبعاض الكد أت لا يتصوّر أن تعرب لأنها أسماء أبعاض فلا يتمّ ما ذكر ألا ترى أنّ قاف في قلت لها قاف " لها محل لأنها مفعول القول والمراد بكونها أصواتا كونها مزيدة للفصل ونحوه لمشابهتها لاسماء الأصوات وترك قول أبي العالية أو أدخله في الأصوات، فإنّ بعض أرباب الحواشي قال: إنه يدخل فيها ستة وجوه الأوّلان، وهما الألفاظ وكونها أسماء، وما قاله قطرب وأبو العالية وما حكاه بقيل من أن الألف من أقصى الحلق إلخ وما روي عن الخلفاء وان كان الظاهر- لأفه، والجمل المبتدآت هي المستأنفة التي لا محل لها من الإعراب، والمفردات المعدودة هي االمسرودة على نمط التعديد، ولا إعراب لها أيضاً لفظا ومحلاً وأورد مثالين ليطابق الممثل له من الفواتح، فإنّ بعضها مركب كالجمل وبعضها مفرد، وقد أشرنا إلى أنّ
تفصيل المصنف رحمه الله مخالف لما في الكشاف من قوله ومن لم يجعلها أسماء للسور لم يتصور أن يكون لها محل في مذهبه.
(فائدة) قال ابن القيم في بدائع الفوائد: ألم مشتملة على الهمزة من أوّل المخارج من لحروف اعتمادا على اللسان، والميم من آخر الحروف لبداية والوسط والنهاية، وكل سورة افتتحت بها، فهي لمبدأ والمعاد وعلى الوسط من التشريع والأوامر فتأملها وتأمل الحروف المفردة فإن سورها مبنية عليها نحو ق إذ ذكر فيها القرآن والخلق، وتكرير القول ومراجعته والقرب وتلقي الملك قول العبد السائق والقرين والإلقاء في جهنم والتقدم بالوعيد وذكر المتقين والقلب والقرون والتنقيب والقيل، وتشقيق الأرض، وإلقاء الرواسي، عيد، ومعانيها مناسبة لشدة القاف، وجهرها وعلوها وانفتاحها وص ذكر فيها الخصومات مع النبيّ صلّى الله عليه وسلّم
والاختصام عند داود صلى الله عليه وسلم، فإذا تأملت علمت أنه يليق بكل سورة ما بدئت به وهو سرّ من الأسرار البديعة اهـ. قوله:(ويوقف عليها وقف التمام إلخ) التمام بفتح التاء وميمين هذا هو الصحيح الموافق حدة فإن صحت، فالمعنى كوقف الكلام التامّ والوقف قطع من أهل الأداء إلى كامل وتام وحسن وناقص، وهو الذي رسموه قبيحا لأنه إما أن يتم الكلام عنده أم لا، والثاني الناقص نحو بسم ورب والأوّل إما أن يستغني عن تاليه أم لا، والثاني إما أن يتعلق به من جهة المعنى، فالكافي أو من جهة اللفظ، فالحسن والأول إما أن يكون استغناؤه استغناء كلياً أو لا، فالأوّل الكامل كأواخر السور والمفلحون في أول البقرة، والثاني التام كنستعين، وأحوال الوقف القرآني مفردة بالتاليف، وهي معلومة عند أهلها. قوله:(إذا قدرت بحيث لا تحتاج إلى ما بعدها) في الكشاف يوقف على جميعها وقف التمام إذا حملت على معنى مستقل غير محتاج إلى ما بعده وذلك إذا لم تجعل أسماء للسور ونعق بها كما ينعق بالأصوات، أو جعلت وحدها أخبار ابتداء محذوف كقوله عز قائلا:{الم اللهُ} [عمران: 1] ، أي هذه ألم ثم ابتدأ فقال {اللهُ لا إِلَهَ إِلَاّ هُوَ} اهـ فأشار إلى شرطي الوقف التام وهما كون الموقوف عليه غير محتاج لما بعده، وكون ما بعده أيضا مستقلا بنفسه غير مرتبط بما أصلاً والمصنف رحمه الله أخل بالشرط الثاني، فورد عليه أنه يصدق على الوقف على ألم إذا قدر قبله مبتدأ له خبران أحدهما ألم والثاني الله، وعنه احترز الزمخشري بقوله جعلت وحدها اخبار ابتداء محذوف مع أنّ الوقف حينئذ ليس بتام لفقد أحد شرطيه، والزمخشري أشار بالتمثيل إلى اعتبار الأمرين معا والمصنف رحمه الله لم
يذكره فورد عليه ما ورد، وقول بعضهم: تركه اعتماداً على ما أشار إليه من الأمثلة المستقل ما بعدها بقوله إذا قدرت لا يخفى بعده، وكذا ما قيل: من أنّ مراد المصنف رحمه الله من الاحتياج التعلق بينهما بوجه مّا. قوله: (وليس شيء منها آية) هذا هو الصحيح كما في مصاعد النظر للبقاعي فما نقل عن المرشد من أنّ الفواتح في السور كلها آيات عند الكوفيين من غير تفرقة، وكذا ما في الكشف عن بعض الحواشي من أن ألم في آل عمران ليست بآية لا يعارض النقل الصحيح. قوله:(وهذا توقيف لا مجال للقياس فيه) في الكشاف هذا أي عد الآيات القرآنية علم توقيفي لا مجال للقياس فيه كمعرفة السور اهـ (أقول) أمّا عدد الآيات ففيه مذاهب خمسة مدنيّ ومكيّ وكوفيّ، وبصرفي وشاميّ، فالمدنيّ رواه شيبة المدنيئ مولى أمّ سلمة عنها، ويزيد بن القعقاع المدنيّ، والمكيّ رواه ابن كثير وغيره من أهل مكة عن أبيئ وابن عباس رضي الله عنهم، والكوفي عن حمزة بن حبيب الزيات مسنداً إلى عليّ رضي الله عنه، والبصريّ عن المعلى بن عيسى عن عاصم والشاميّ عن ابن ذكوان وابن عامر ومن ثمة اعترض الكوراني في كشف الأسرار بأنّ التوقيف من رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يوجد في الآيات إذ لو كان كذلك لم يقع فيها اختلاف وليس كذلك لاتفاق أهل الأداء على نقل هذه المذاهب، وقد نقل ابن الصائغ في حواشي الكشاف عن شيخه الجعبريّ ما يقرب منه والجواب عنه ما في مصاعد النظر من أنّ موجب اختلافهم في هذا التوقيف كالقراءة قال أبو عمرو: وهذه الأعداد وان كانت موقوفة على هؤلاء الأئمة، فإن لها لا شك مادّة تتصل بها وإن لم نعلمها إذ كل واحد منهم لقي غير واحد من الصحابة وسمع منه، أو لقي من لقي الصحابة مع أنهم لم يكونوا أهل رأي واخترع بل أهل تمسك واتباع، وقال السخاوي رحمه الله: لو كان ذلك راجعاً إلى الرأي لعذ الكوفيون) الر " آية كما عدوا " ألم " ومثله كثير، وأمّا السور فقالوا إنّ عددها علم توقيفاً من رسول الله صلى الله عليه وسلم على ما روى أبيئ رضي الله عنه ما كنا نعلم آخر السورة إلا إذا قال عليه الصلاة والسلام: " اكتب بسم الله الرحمن الرحيم ") 1 (. وأمّا ترتيبها الذي في مصاحفنا، وهو الذي في المصحف العثمانيّ المنقول من مصحف الصديق المنقول مما كتب بين يدي النبيّ عليه الصلاة والسلام وعليه القراء فهو توقيفي أيضا إلا أنه أورد عليه ما في صحيح مسلم عن حذيفة رضي الله عنه قال: صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات ليلة، فافتتح البقرة فقلت يركع عند المائة، ثم مضى فقلت يصلي بها في ركعة، فمضى فقلت
يركع
بها، ثم افتتح سورة النساء، ققرأها ثم افتغ آل عمران فقرأها (1) إلخ فإنه كما قال القاضي عياض وحمه الله: يدل لما قيل من أنّ ترتيب السور وقع باجتهاد من المسلمين حين كتبوا المصحف لا من النبيّ صلى الله عليه وسلم بل وكله لأمته بعده، وهو قول مالك رحمه الله وجمهور العلماء، وقال أبو بكر الباقلاني: هو أصح القولين مع احتمالهما، فليس بواجب في الكتابة والقراءة في الصلاة وغيرها، ومن قال بأنه توقيفيّ يؤوّل ذلك على أنه كان قبل التوقيف في العرضة الأخيرة، ولا خلاف في أنّ ترتيب آيات كل سورة على ما هو عليه الآن توقيفيّ كما فصله في شرح طيبة النثر. قوله:(ذلك إشارة إلخ الما لم تصح الإشارة إلى لفعل ألم على بعض الوجوه بين حينئذ أنه اسم للسورة أو ما يؤوّل بالمؤلف على الوجهين الأوّلين أو القرآن ولا يتأتى على بقية الاحتمالات السابقة المذكورة لعدم صحة الحمل والوصف الذي هو في معناه، وذلك في قول المصنف ذلك إشارة فيه إبهام ولطف ظاهر، وقيل: إنه يحتمل أن يراد به نفسه، وأن يراد به الإشارة إلى ما في قوله تعالى: {ذَلِكَ الْكِتَابُ} [البقرة: ا] ولا يخفى أنه يحتاج حينئذ إلى تكلف في اعتبار البعد، وهو بريء من التكلف. قوله: (أو فسر بالسورة إلخ) الكتاب كالقرآن يطلق على المجموع وعلى القدر الشاثع بين الكل والجزء، وهو معنى حقيقيّ لغويّ إذ الكتاب بمعنى مطلق المكتوب فيصح إطلاقه على السورة بلا تكلف، فإذا كان تعريفه للعهد الحضوري أي هذا المقدار الحاضر منه تمّ المراد، فما قيل من أنّ السورة حينئذ يراد بها جميع القرآن مع مخالفته لما عليه اكثر من تفسيرها بالسورة يأباه كل ذوق سليم وكذا كون الكتاب اسم الكل تجوز به عن البعض منه، فإنه تعسف مستغنى عنه. قوله:(فإنه لما تكلاً به وتقضى إلخ) اختلف النحاة فيما وضعله اسم الإشارة فقيل: منها ما وضع للقريب ومنها ما وضح للمتوسط، ومنها ما وضع للبعيد وقيل إنما هي على قسمين بعيد وقريب دون توسط، وكلام المصنف رحمه الله تعالى محتمل للمذهبين ولما كانت الإشارة هنا لألم، وقد ذكر آنفاً فليس ببعيد تبادر الذمن للسؤال عنه، فبينه بوجهين أردفهما الزمخشريّ بثالث هو من تتمة الثاني كما ستراه قريباً، فالأوّل أنّ ذلك لتقضي ذكره، والمتقضي كالمتباعد والإشارة إليه بما يشار به إليه مشهور جار في كل كلام، ولذا قيل:
ما أبعد ما مض، وما قد ناتا
وفي المثل أبعد من أمس فهو لكونه متقضياً معداً للعدم في حكم البعيد لا بعيد عن
الوجود كما قيل، وليس المراد أنه لفظ من قبيل الأعراض السيالة الغير القارّة فكل ما وجد منه اضمحل، وتلاشى وصار صتقضيا غائبا عن الحس وما هو كذلك في حكم البعيد كما توهمه بعضهم، فإن هذا ناشىء من عدم فهم المراد، وسيأتي توضيحه وأنه لا يختص بالألفاظ بل يجري فيها، وفي المعاني والأجسام القارّة ألا ترى تمثيل العلامة لهذا بقوله تعالى:{لَاّ فَارِضٌ وَلَا بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ} [البقرة: 68] فافهم ترشد والثاني أنه لما وصل من المرسل إلى المرسل إليه وقع في حذ البعد كما تقول لصاحبك، وقد أعطيته شيئا احتفظ بذلك وهذا أمر مطرد في العرف أيضا واعترض عليه بأنه قبل الوصول إلى المرسل إليه كان كذلك.
وأجيب بأنّ المتكلم إذا ألف كلاماً ليلقيه إلى غيره فربما لاحظ في تركيبه وصوله إليه
وبنى كلامه عليه، وقيل: لم يرد بالمرسل إليه النبيّ صلى الله عليه وسلم بل من وصل إليه حال إيجاده بمنزلة السامع لكلامك كملك الوحي، وردّ بأنه مخالف لما يفهم من العبارة، وأيضا إن أراد باللفظ الذي وصل للسامع لفظ ألم، فذلك ليس إشارة إليه وان أراد لفظ جميع السور أو المنزل فقبل أن يصل إليه الجميع كان ذلك على حاله كذا قال قدس سرّه تبعا للفاضل المحقق، ثم قال: ذكر بعضهم إنّ السؤال مخصوص بكون ألم اسما للسورة، وهو عام ويؤيده قوله أي ذلك الكتاب المنزل هو الكتاب الكامل ونحوه، ويمكن أن يقال لما كان مجموع المنزل مرموزا إليه غر مصرح به كالسورة نزل لذلك منزلة البعيد أيضاً، ثم إنّ اسم الإشارة موضوع للمشار - إليه إشارة حسية، ولا يستعمل كي غيره إلا بتنزيله منزلته كما قال السكاكيّ المشار إليه باسم الإشارة امّا مدرك بالبصر أو منزل منزلته، فذلك إن كان إشارة إلى ألم فمدلوله سواء كان اسما للسورة، أو رمزاً لجملة المنزل ليس مبصرا بل منزل منزلته، فإن نظر إلى ابتداء نزوله كان كمعنى حاضر يجعل كالمشاهد لذكره، وفي حكم ألبعيد لزوال ذكره وتقضيه، وان نظر إلى أنه لم ينزل كلتمامه
كان كتائب ضمير يجعل كالمشاهد البعيد لما ذكر، وجاز أن تعلل مثاهدته بالذكر وبعده بتقدير وصوله إلى المرسل إليه ووقوعه في حال البعد، وقد توهم بعضهم أنّ المشار إليه إذا كان مذكورا مع اسم الإشارة صفة له لم يلزم أن يكون محسوساً فضلَا عن أن يكون مشاهدا فلا حاجة لتأويله، وليس بشيء لأنّ المعتبر هنا الإشارة الحسية التي لا تتصوّر في غير مشاهد، فغيره منزل منبزلته فإنّ كل غائب عينا أو معنى إذا ذكر يشار إليه بالقريب نظرا لذكره، وبالبعيد لتقضيه نحو بالله الغالب الطالب في ذلك أو وهذا قسم عظيم لأفعلن كذا، والأغلب أن يؤتى بالقريب اهـ.
(أقول) : ما في الكشاف، وكلام المصنف مأخوذ من أئمة العربية وتحقيقه كما نقله أبو
حيان في شرح قوله في التسهيل: قد يتعاقب صيغة البعيد والقريب مثارا بهما إلى ما ولياه كقوله تعالى في: قصة عيسى عليه الصلاة والسلام {ذَلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ} [آل عمرأن: 58] ثم قال {إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ} [آل عمران: 62] وله نظائر في الكتاب
الكريم ونقله الجرجاني وطائفة من النحويين وأنشدوا تأمّل حقاً إنني أنا ذلكا.
وقال السهيلي: إنه باطل لأنّ الشاعر إنما أراد ذلك الذي كنت تحدث عنه، وتسمع به
هو أنا، والذي حداهم إليه قوله تعالى {ألم ذَلِكَ الْكِتَابُ} [البقرة: ا] فإنّ معناه هذا الكتاب ألا تراه قال في آية أخرى، وهذا كتاب أنزلناه فهذا وذلك فيه بمعنى، وليس كذلك لأنّ الإشارة في هدّه الآية إلى ما حصل بحضرتنا وانفصل عن حضرة الربوبية بالتنزيل، فصار مكتوبا مقروءا، فالمعنى ذلك الكتاب الذي عندك يا محمد والمتكلم يقول هذا لما عنده وذلك لما عند المخاطب أو غيره، وقوله: ألم بحروف التهجي التي تقطع بها الحروف، وتكتب حرفا حرفا، والكتابة والتلفظ إنما هو في حقنا وإذا لم تذكر هذه الحروف قيل هذا كتاب أنزلناه، لأنه عنده سبحانه على ما هو عليه حقيقة، وعندنا هو متلوّ مكتوب كما يليق به، فاقتضته البلاغة والإعجاز فصلاً بين المقامين وتفرقة بين الإشارتين اهـ.
(أ-دول) هذا معنى بديع ونظر لطيف رفيع علم منه معنى الوجهين المذكورين هنا أمّ الأوّل
فقد مرّ ما يكفيك مؤنة بيانه، والمراد من الثاني أنّ من أعطى غيره شيئا أو أوصله إليه، ثم ذكره فإن ى ن عنده، أو لاحظ كونه عنده عبر بهذه لأنه في حضرة القرب منه، فإذا أوصله لغيره أو لاحظ وصوله له عبر بذلك لأنه بانفصاله عنه بعيد، أو في حكمه كما قيل: كل ما ليس في يديك بعيد.
وليس هذا هو البعد والقرب الرتبي كما يوهمه كلام الشرّاح هنا، ولما لم يتفطن له بعض أرباب الحوإشي صرح به لظنه أنه اهتدى له ومن لم يهد الله فما له من هاد، وقول المعترض: إنه كان قبل الوصول كذلك مبنيّ عليه، فالاعتراض وجوابه ليس بشيء وتخصيصه بالألفاظ لا يطابق قول العلامة، كما تقول لصاحبك، وقد أعطيته شيئا: احتفظ بذلك. وكون المراد بالمرسل إليه ليس هو النبيّ صلى الله عليه وسلم لا مرية في صحته لمن تحقق ما حكيناه عن النحاة آنفا وكونه مخالفا لما يفهم من العبارة دعوى قام الدليل على خلافها. وقوله وأيضاً إلخ كلام فارغ لا حاصل له، وقد قيل عليه إنه إن أراد أنّ ألم ليس بمشار إليه مطلقا، فممنوع، وان أراد من حيث لفظه فمسلم، لكن المدعي أنه مشار إليه من حيث كونه رمزا للمؤلف من الحروف، وما قيل: من أنّ رجوعه له من هذه الحيثية رجوع لمسماه فيرد عليه ما يرد عليه لا يخفى ما فيه، وأمّا ردّه على الفاضل، فغير وارد لما في شرحه للمفتاج من أن وضع أسماء الإشارة للإشارة إلى محسوس وان كان استعمالها في غيره أكثر من أن يحصر وإذا شاع مثله وقارنه الوصف الدال على المشار إليه تقوى بذلك حتى صح أن يقال إن مثله حقيقة في عرت التخاطب، وله شواهد " لولا خوف الإطالة أوردناها والعجب منه أنه أنكر هذا أشد إنكار، ورجح ما هنا على ما في المفتاح بأنه صار حقيقة فيه فما الفرق بين اللفظ المتقدم والمتأخر، ثم
إنّ صاحب المفتاح ومن تبعه من أهل المعاني ذهبوا إلى أنّ نكتة الإشارة هنا تعظيم المشار إليه بالبعد تنزيلاً لبعد درجته، ورفعة محله منزلة بعد المسافة، وقد يقصد به تعظيم المشير كقول الأمير لبعض حاضريه ذلك قال: كذا ولم يذكروا ما في الكشاف لظنهم أنه مصحح لا مرجح، كما ذهب إليه بعضهم، فلا مخالفة بين المسلكين وكلام المطوّل يميل له، وأمّا كونه محصل الوجه الثاني لأنه بعد رتبي مآله التعظيم فتعسف ياباه النظر السديد، فالحق أنّ المصحح هنا كونه محسوساً أو منزلاً
منزلته والمرجح تقضي لفظه وتقدّمه ملاصقاً له أو وصوله من المرسل، وقد قالوا: إنّ ما في الكشاف أرجح لأنه أشهر في العرف، وأجدى في المراد، حتى ادعوا انه صار حقيقة وقد سمعت قول الإمام السهيلي رحمه الله أنه مقتضى المقام والإعجاز. وقوله بالله الطالب الغالب وقع كذا من النحاة والفقهاء، وقد قيل عليه إنّ إطلاق الغالب على الله قد ورد في القرآن في قوله تعالى {غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ} [يوسف: 21] وأمّا الطالب فلم يسمع إلا في حديث ضعيف قاله السيوطي رحمه الله تعالى، وهذه مشاحة في المثال. قوله:(وتذكيره متى أريد إلخ) جواب عن سؤال مقدر، وهو إذا كانت ألم اسم السورة فلم لم يؤنث وأمّا كون ألم علماً لمنزل مخصوص ولا تانيث في لفظه فحقه أن يشار إليه بمذكر واطلاق السورة لا يقتضي تأنيثه إلا إذا عبر به عته كما إذا عبر عن زيد بالتسمية، فقد أجيب عنه بأنه لما اشتهر التعبير عن ذلك المنزل بالسورة، واستمرّ ذلك حتى صار كأن حقه أن يعبر عنه بها، فيقال سورة البقرة مثلَا، وقصد بوضع العلم تمييزه عن سائر السور كان اعتبار كونه سورة ملحوظا في وضعه له، وكان قوله ألم في قوّة قوله هذه السورة، فحقه أن يؤنث بخلاف إعلام الأماكن والقبائل التي يعبر عنها تارة بألفاظ مذكرة، واخرى بالفاظ مؤنثة ولم يستمرّ فيها شيء منهما فإنه يجوز تذكيرها وتانيثها، فكون مسماه لا يعرف إلا بلفظ مؤنث يقتضي أنه مؤنث سماعيّ، وسيأتثي تحقيقه في سورة آل عمران، فما قيل من أنه لا حاجة لتوجيه التذكير لأنّ الإشارة إمّا للفظ ألم أو لمسماه، وليس واحد منهما بمؤنث غنيّ عن الجواب، وما قيل عليه: من أنه لا وجه لاعتبار الكتاب صفة، وجعل ذلك إشارة إليه إلا أن يحمل الكتاب على المعنى اللغوي أي المكتوب، واللام على الجنس، فإن جعلت للعهد لا يظهر هذا، وأنه يبعد تذكير العائد إلى المذكور بلفظ مؤنث خاص به بمجرّد أنه يجوز التعبير عته بلفظ مذكر غير خاص به مع أنّ الكلام في ابتداء النزول قبل الاشتهار، اللهمّ إلا أن يلاحظ حال الانتهاء كما مرّ نظيره، ليس بوارد عليه لأنّ وصف الإشارة بمذكر هو عينه لتبيينه به لا محذور فيه، كما إذا قلت مكة ذلك المكان الذي شرّفه الله، وليس هذا كتذكير الضمير حتى يرد عليه ما سيأتي عن ابن الحاجب رحمه الله، وما قيل: من أنّ كلام المصنف رحمه الله يدلّ على أنه إذا لم يرد به السورة بل المؤلف، أو المتحدى به لم يحتج تذكيره لتاويل ردّ بأنّ ما ذكر لا يصلح وحد. لأن يكون
مسمى السورة لصدقه على الجميع وما قيل من أنّ لفظ تذكير في قوله لتذكير الكتاب فيه لطف لإيهامه إرادة الموعظة بعيد عن السياق جدّاً. قوله: (فإنه صفته إلخ الا ياباه كونه جامدا لأنه جائز في اسم الإشارة كما ذكر النحاة، وقيل: إنه عطف بيان وعلى هذا ذلك الكتاب خبر (ألم) وإذا كان خبرا، فالجملة خبره واسم الإشارة سادّ مسد العائد وهذا إشارة إلى ما قاله ابن الحاجب في الإيضاح: من أنّ كل لفظتين وضعتا لمعنى واحد واحدهما مؤنثة والأخرى مذكرة، وتوسطهما ضمير، أو ما يجري مجراه كاسم الإشارة، لأنه يوضمع موضع الضمير كما صرح به النحاة جاز تأنيثه، وتذكيره واعتبار الخبر أولى لأنه محط الفائدة، وأمّا الاستشهاد له بمن كانت أمّك فغير مسقم لأنه لا يتعين رجوع الضمير لأمّك لاحتمال رجوعه لمن باعتبار معناه، ولذا تركه المصنف رحمه الله وقد قيل إنّ القاعدة المتقولة عن ابن الحاجب إنما هي في الخبر، ولم يذكرها النحاة في الصفة، فكأنهم قاسوها عليه، لكن تعليل ابن الحاجب يقتضي الفرق بين الصفة والخبر.
وأجيب بأنّ قولهم الأوصاف قبل العلم بها اخبار تصريح بذلك مع أنّ المثبت مقدم على النافي. وقال الزمخشريّ: إذا جعل الكتاب صفة، فاسم الإشارة إنما يشار به إلى الجنس الواقع صفة له، والذي هو هو صفة الخبر أي عينه ويعلم منه حال الصفة بالمقايسة عليه. قوله:(أو إلى الكتاب الخ) فتكون صفته، وهي الكتاب هي المشار إليه حقيقة لا ما قبله لأنّ اسم الإشارة مبهم إلذات وإنما يتغير ذاته ويرتفع إبهامه بالإشارة الحسية أو بالصفة ولذا التزم في نعته أن يكون معرفا بأل أو موصولاً لأنه بمعناه، وأوجبوا فيه المطابقة وعدم الفصل، وظاهر كلام الزمخشريّ أنّ تعريفه للجنس كما مرّ. وقيل: إنه إشارة إلى الكتاب الحاضر، فاللام للعهد الحضوري وقال ابن عصفور كل لام واقعة بعد اسم الإشارة، او أيّ في النداء، أو إذا الفجائية فهي للعهد الحضوري
فالكتاب مثار إليه صريحا لا ضمناً كما في الوجه الأول فوجب أن يطابقه في تذكيره، وان كان بمعنى المؤنث، وأمّا أنّ السورة مسماة بالكتاب، فجاز أن تذكر الإشارة إليها لذلك مع قطع النظر عن الخبر، فهو وجه آخر توهم بعضهم إنّ قول الزمخشريّ صريحاً إشارة إليه، كما قال قدس سرّه والإشارة إلى الصفة لا غير والمصنف رحمه الله جوّز أن يشار إليه، والى ألم فتدبر. قوله:(والمراد به الكتاب إلخ) ظاهر. أنه على هذا أعني الوصفية الكتاب هو الموعود وتعريفه للعهد الخارجي وهو مخالف لما في الكشاف فإنه جعله وجهاً مستقلاً فقال: وقيل: معناه ذلك الكتاب الذي وعدوا به، وقال شراحه: إنه جواب آخر بأنه ليس إشارة إلى ألم بل إلى الكتاب الذي وعدوا به على لسان موسى وعيسى عليهما الصلاة والسلام أو بقوله {سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا} [المزمل: 5] لتقدم نزوله، لكن قيل:
الأنسب على هذا وعد به، ولما لم يكن هذا الجواب مختارا أخر. وان اقتضى ترتيب البحث تقديمه بأن يقال ليس ذلك إشارة إلى ألم وان حمل عليه فهو في حكم البعيد لجعل بعد ذكره في العدة بمنزلة بعده نفسه، وقيل: جعل كالمحسوس بناء على صدق الوعد والموعود إذا حمل على ما في التوراة والإنجيل، وهو القرآن فلا يصح حينئذ أن يكون ذلك الكتاب خبرا لا لم، لكونه جزأه لا هو إلا أن يراد بألم القرآن كله أو يجعل موعوداً في ضمن كله، أو يجعل مبالغة كانت الرجل علماً، وإذا حمل على الموعود الآخر صح، وفيه نظر، لأنّ الموعود هو النبيّ عليه الصلاة والسلام لا الأنبياء السابقون، وإنما هم مبشرون أو واعدون لتبليغهم الوعد فالجمع على كل حال للنبيّ عليه الصلاة والسلام وأمّته ثم إنّ كلام المصنف رحمه الله مخالف للكشاف، لأنه جعل الوعد توجيهاً للبعد والمصنف رحمه الله جعله توجيها للتذكير، ولم يخصه بالوصفية والمصنف خصه، ولا يخفى أنّ مسلك العلامة أظهر، فلا وجه للعدول عنه. قوله:(وهو مصدر إلخ) فهو كالخطاب سمي به المكتوب كالضرب بمعنى المضروب جعل لكمال تعلقه به كأنه عينه للمبالغة قال الراغب: الكتب ضم أديم إلى أديم بالخياطة يقال: كتبت السقاء وفي المتعارف ضم الحروف بعضها إلى بعض، والأصل في الكتابة النظم بالخط، وقد يقال ذلك للمضموم بعضه إلى بعض باللفظ لكن قد يستعار كل واحد للآخر، ولذا سمي كتاب الله وإن لم يكن كتابا والكتاب في الأصل مصدر ثم سمي المكتوب كتاباً، والمكتوب فيه كالكتاب في الأصل اسم للصحيفة مع المكتوب فيها اهـ، وهو مأخذ المصنف رحمه الله وحاصله أنّ أصل حقيقته في اللغة مطلق الضم، ثم خصى بفرد منه وهو ضم الحروف بعضها إلى بعض في الخط، وصار حقيقة فيه لغة أيضاً، ثم شاع في عرف اللغة إطلاقه على الخط والصحيفة المكتوب فيها، فلا يسمى قبل الكتابة كتابا وليس هذا مجازاً من إطلاق الحال على المحل فمن نقل عن الراغب ما اعتوض به على المصنف رحمه الله لم يصب. قوله:(وقيل فعال بمعنى المفعول إلخ) هو على هذا التقدير وما قبله بمعنى المكتوب خطا إلا أنه على الأوّل مجاز وعلى هذا حقيقة، ثم عبر به عن المنظوم عبارة قبل أن تنضم حروفه التي يتألف منها في الخط تسمية له بما يؤول إليه مع المناسبة، والانضمام الاجتماع لانضمام الحروف لفظا أو خطاً، ولا وجه لما قيل من أنه فيهما مجاز غير أنّ التجوّز في الأوّل في الإسناد وفي الثاني في تفسير الكلمة. وقوله:(وأصل الكتب الجمع) بيان للعلاقة بين الكتاب والعبارة في ضمن بيان ما وضع له أو لا، والأصل له معان في اللغة فيكون بمعنى ما يبني عليه غيره، وبمعنى المحتاج إليه كما في المحصول، وبمعنى ما يستند تحقق الشيء إليه كما في المنتهى، وما منه الشيء ومنشؤه، والمراد هنا الأخير وله في الاصطلاح أيضا معان الدليل والراجح والقاعدة الكلية والصورة المقيس عليها وقوله ومنه الكتيبة هي الجيش، أو جماعة الخيل المغيرة من مائة لألف، وفصله بقوله منه على عادة أهل اللغة في بيان ما يؤخذ من الأصل لمناسبة معنوية وان لم تكن ظاهرة.
واعلم أنه على خبرية الكتاب معناه أنّ ذلك هو الكتاب الكامل كأن ما عداه من الكتب
في مقابلته ناقص وهو المستأهل لأن يسمى كتاباً كقوله:
هم القوم كل القوم يا أمّ خالد
لإفادة هذا التركيب الحصر لأنه لا عهد فلامه جنسية ووصف بالكامل تنبيها على أنّ المقصود من حصر الجنس حصر الكمال، وإلا لم يصح إلى آخر ما فصل في الكشاف وشروحه
والمصنف رحمه الله لم يتعرّض له لما فيه من الخفاء والإبهام، وقوله: بمعنى المفعول ظاهر، وفي بعض النسخ بني للمفعول، وهو إن صح فبنى معناه صيغ لبيان معنى المفعول، وهو أحد معاني البناء المارة. وقوله:(ثم أطلق على الننظوم إلخ) ولم ينظر حينئذ إلى أنه حروف مجموعة وأصله الجمع مطلقا لأنه أصل مهجور هنا فلا يقال إنه مضيّ إلى المجاز بلا ضرورة كما توفم. قوله: (معناه أنه لوضوحه إلخ (جواب عن أنه كيف نفى الريب استغراقا مع كثرة المرتابين والريب، أي هو لوضوح شأنه، ونير برهانه لا يرتاب فيه ذو نظر صحيح فتعين أنه وحي معجز وما سواه بمنزلة العدم لا يعتد به، ولا بارتيابه فمعنى نفيه عنه أنه ليس محلاً له، ولا مظنة عند العاقل المنصف ولذا قيل إنه لنفي اللياقة، والسطوع ظهور النار والنور، وارتفاعهما استعير لغاية الظهور وقوله بحيث خبر أن وما بينهما اعتراض، وحد الإعجاز له معنياه نهايته ومرتبته والإضافة بيانية أي النهاية التي هي الإعجاز، أو مرتبة هي الإعجاز، وسيأتي تنويره في تفسير قوله تعالى {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} [النساء: 82] وقد قيل عليه: إن بلوغه حذ الإعجاز هو برهانه الساطع، فالأولى أن يقتصر على كونه وحيا، ولا يذكر قوله بالغا حد الإعجاز، وقيل السطوع إجمال والبلوغ المذكور تفصيل له، والإجمال لا يغني عن التفصيل، على انّ قوله بالغاً إلخ من تتمة بيان محل الارتياب المنفي بعد النظر الصحيح وتلخيصه أنّ ظهور برهانه بحسب نفس الأمر يوجب نفي الارتياب بعد النظر الصحيح في كونه بالغا حذ الإعجاز، فهذا كالعلة لعدم الارتياب في كونه وحياً، فليس في الكلام ما يستغنى عنه حتى يقال: إن الأولى تركه والأحسن أن يقال: إنّ قوله لوضوحه أي لظهور أحواله المخصوصة به علة لكونه وحيا وسطوع برهانه أي كونه في القوّة والنور المبين غير خفيّ علة لبلوغه حد الإعجاز، ففيه لف ونشر. قوله: (لا أنّ أحداً لا يرتاب فيه إلخ) عطف على معناه أي المعنى هذا لا هذا، وقوله: ألا ترى بتاء الخطاب تأييد للنفي وعبر بما ذكر للدلالة على أنه لغاية وضوحه كالمحسوس الذي يرى وبعض الطلبة يقرؤه بالياء التحتية المضمومة تأدبا، والرواية بخلافه أو عدل عن قوله في الكشاف ما نفى أن أحداً لا
يرتاب فيه وإنما المنفي كونه متعلقاً للريب، ومظنة له لأنه من وضوح الدلالة، وسطوع البرهان، بحيث لا ينبغي لمرتاب أن يقع فيه إلخ. فغير العبارة وقدم وأخر إشارة إلى ما فيه مما لا يرتضيه لأنه كما اتفق عليه شراحه كان الظاهر أن يترك لا من قوله إنّ أحدا لا يرتاب إلخ لثلا يفسد المعنى لأنّ نفي نفي الريب إثبات له، وقد وجه بما لم يصف من الكدر فقيل: لا زإئدة وليس بشيء، وقيل: في نفي ضمير مستتر راجع للريب بقرينة السؤال وقيل: إن قبل أنّ حرف جرّ مفدّر، لأنها مفتوحة رواية ودراية، فكسرها توهم فارغ وتقديره ما نفى الريب بأنّ أحدا، أو لأنّ أحداً، أو على معنى أنّ أحداً لا يرتاب فيه، وردّ بأنّ المنفي حينئذ العلة، والتفسير فلا يقابله قوله وإنما المنفي إلخ. فالواجب أن يقال: وإنما نفي لعلة، أو على معنى آخر، وفيه نظر والأحسن ما قاله المحقق من أنّ في الكلام نقصا نوّه عنه لما أشار إليه بعض الفضلاء من أنّ المقابلة نظرا لمآل المعنى، ومحصله أو هو وارد على خلاف مقتضى الظاهر مثلاً بل المعنى ومثله أكثر من أن يحصر، وقيل: معناه ليست القضية الماتي بها سالبة هي هذه فالنفي بمعنى الإتيان بالخبر سالباً لا بمعنى الإعدام، فتصح المقابلة لا أنّ الكلام في استعمال النفي بهذا المعنى مع أنّ الحكم بزيادة لا أقل تكلفا منه كما قال قدس سرّه: والظاهر أنّ النفي بهذا المعنى في كلام المصنف، وعرف التخاطب غير عزيز، وما ذكره من المقابلة غير مسلم، فإنّ المنفي في قوله: إنما المنفي ليس بذلك المعنى، فلا تصح المقابلة ظاهرا والتكلف في تصحيح الأوّلين أقل من التكلف في هذا، ثم قال قدس سرّه: وفي مبالغته في الحصر بقوله وإنما إلخ إشارة إلى أنه ليس المنفي ههنا إلا كون القرآن محلاً صالحا في نفسه لتعلق الريب به، ومظنة له بل هو لوضوج الدلالة وسطوع البرهان على كونه حقا منزلاً من عند الله بحيث لا ينبغي لأحد أن يرتاب فيه، وهذا معنى صحيح لا يقدح في صدقه ارتياب جميع الناس فضلاً عن ارتياب بعضهم "، وفي اختيار إنما إشعار بأنّ كون المنفي ما ذكره أمر مكشوف، كما تقول بعد تلخيص مسئلة على وجه صواب هذا مما لا شك، ولا شبهة فيه مع تردّد المخاطب فيها تريد أنها يقينية لا يليق بأحد أن يشك فيها
وتقول لمن ينكر أمراً لا إنكار فيه أي ليس هو محلاً للإنكار وخليقا به هذا زبدة ما حققه السيد السند وفيه مؤاخذات مفصلة في حواشي المطول لا حاجة لإيرادها هنا، والحق كما قاله بعض الفضلاء أنّ في عبارة الكشاف تعسفا على سائر الوجوه فلذا عدل عنها المصنف رحمه الله، فلفه دره. قوله:( {وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا} [البقرة: 23] ) قيل: إنّ مراد المصنف أنّ وجود الريب وان تحقق إلا أنه منزل منزلة العدم لأنه لا يصدر عن عاقل تدبره، وما يصدر عن غيره لا عبرة به، فكأنه غير موجود رأسا فنفيه عنه نفي لكونه محلَا له، ومظنة لثبوته والدليل على أنه أراد هذا تأييده ما مرّ بقوله ألا ترى إلخ، فليس حاصل جوابه تخصيصا لنفي الريب، كما توهم بل يثير إلى ما نقل هنا عن بعض الفضلاء من أنّ ما في الكشاف معناه ليس القرآن مظنة للريب، ولا ينبغي أن يرتاب فيه، فقيل
عليه: إنه مثنة لريب المرتابين ومع تحقق المئنة كيف يصح نفي المظنة وقول المصنف لا يرتاب العاقل بعد النظر الصحيح تخصيص لنفي الريب العام، ولو صح هذا ما أشكل على أحد، وقد استشكله مهرة المفسرين، فالأصح أنّ معنى ما في الكشاف أنّ الريب بمعنى جنسه منفي على عمومه، وإن كان المتقي في الحقيقة استحقاق الريب ولياقته به لا هو نفسه، وليس المراد تقدير الاستحقاق فيه، ولا أنّ المنفي وجوده بل تعلقه بالقرآن تعلق الوقوع من غير نظر إلى تعلقه بالمرتاب فضلَا عن أن يكون المنفي هو التعلق الثاني، وذلك أنّ الارتياب له نسبة إلى الطرفين، وكل ما هو كذلك يجوز أن يكون مناط إيجابه، وسلبه تعلقه بأحد الطرفين ليس إلا كما بين في محله، فإن قلت إنهم قالوا قراءة لا ريب بالفتح نص في الاستغراق لأنّ نفي الجنس مستلزم له قطعا، فكيف يتأتى ادّعاء التخصيص قلت: هذا غير مسلم لما قاله بعض المدققين: من أن الموجبة الجزئية والسالبة الجزئية لا يتناقضان، فيجوز أن ينتفي الجنس في ضمن فرد ويثبت في ضمن فرد آخر، إلا أن يقال المفهوم بحسب العرف من نفي الجنس بلا تقييد نفيه بالكلية، وأيضا لا يظهر الكلام على رأي من جعل اسم الجنس موضوعا بازاء فرد، ومن ههنا تبين لك أنه لا فرق بين كلام الشيخين لمن كان صادق النظر. قوله:(فإنه ما أبعد عنهم الريب إلخ) أي لم يجعل الريب بعيداً عنهم فما نافية لا تعجبية وقد أورد عليه أنّ قوله ما أبعد إلخ لا يناسب ما قبله بل المناسب له أن يقول إنّ إن الشرطية هنا بمعنى إذا إلا أنه قصد توبيخهم على الإرتياب، فصوّر بصورة ما لا يثبت إلا على سبيل الفرض والتردد لوجود ما يقلعه من أصله، أو على من لم يقطع بارتيابه على المرتابين وأيضاً إنّ ظاهر قوله:{وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ} [البقرة: 23] الآية لا يفيد القطع بوجود الريب فلا يلائم قوله: لا أن أحداً لا يرتاب إلخ ليحصل التأييد، فالمناسب أن يؤيد بقوله:{مَا هَذَا إِلَّا إِفْكٌ مُّفْتَرًى} [سبأ: 43] ونحوه وأجيب بأنّ القطع بوجود الريب كما أنه ينافي القطع بانتفائه كذلك تجويز الريب ينافي القطع بانتفائه واختيار هذه الآية لوجود لفظ الريب فيها وليس بشيء لمن تدبر السياق، لأنّ المصنف رحمه الله قصد بما ذكر. تنوير أمرين أحدهما إنّ معناه نفي ارتياب العاقل بعد النظر الصحيح. والثاني عدم إرادة نفي الإرتياب مطلقاً بقوله ما أبعد الريب إلخ أي جوّزه بكلمة الشك وان كان تجويزه لا يستلزم نفي إبعاده لجواز أن يجوز أمر بعيد لأنه إنما يتأتى إذا كانت كلمة الشك على حقيقتها، وليس كذلك فإنه عبر هنا بصورة الشك عن ريب محقق قطعاً إشعاراً بأنه ليس في محله لسطوع برهانه، وبقوله بل عرفهم الطريق المزيح إلخ فإنه يفيد نفي الارتياب بعد الإزاحة، فظهر أن لا ريب نفي لجنس الريب، رآلمراد منه نفي الريب الخاص، كما مرّ للعلم بوجود جنس الريب بدليل العقل والنقل، وتعيين هذا المعنى المجازي بسطوع البرهان، فلا وجه لما تكلف من البيان. قوله:(عرّفهم الطريق المزيح الخ) المزيح بضم الميم وكسر الزاي المعجمة والياء المثناة التحتية، ثم حاء مهملة كالمزيل لفظاً ومعنى وضمير له
للريب وهو للطريق، لأنه يذكر ويؤنث أو للمزيج، لأنه ففسر له، والاجتهاد في الأمر أن يأتي به على أبلغ ما في وسعه وطاقته، ومنه الاجتهاد في الأمور الشرعية، والنجم المقدار عنه الذي يحصل به التحدي، والنجوم المقادير المفرقة والقرآن نزل نجوما، ونجم عليه الك ين نجعله نجوماً أي مقادير معينة يقال: نجمت المال إذا وزعته، كأنك فرضت أن تدفع إليه عند طلوع كل نجم نصيبا، - ثم صار
متعارفا في تقدير دفعه بأي شيء قدرت ذلك كما قاله الراغب والجهد بالضمّ الطاقة وما يقدرون عليه. وقوله: (أن ليس فيه مجال للشبهة) هذا ناظر لقوله لا يرتاب العاقل بعد النظر الصحيح، وأصل المجال محل الجولان، وهو الحركة في الجوانب، وهو كناية عن نفي الشبهة على أبلغ وجه كما يقال لا محل له. قوله:(وقيل معناه إلخ) هذا معطوف على معناه السابق، وهو جواب آخر عن السؤال السابق في توجيه نفي الريب والمرتابين كما مرّ، وعلى هذا فيه صفة لاسم لا وللمتقين خبر لا، ومرّضه المصنف رحمه الله الما قيل عليه من أنّ المعروف في الظرف الواقع بعد لا أن يكون خبراً لا صفة، والمناسب لمقام المدح نفي الريب مطلقا مع أنه ينبو عن وصل المتقين بالذين إذ المعنى حينئذ لا شك في حقيته للمتقين المصدقين بحقيته، ولا يخفى ما فيه، والظاهر توجه النفي إلى القيد حينئذ فيختل المعنى إذ يلزمه وجود الريب إذا لم يكن هاديا مع تنافي القيد، والمقيد ظاهراً وما قيل: من أنه قيد للنفي لا للمنفي حتى لا يرد ما مرّ لا يدفعه، لأنه إثبات لما هو منشأ الإشكال، ونفي لما لم- يصدر عن صاحب هذا المقال، فإن أريد الرذ على غيره، فلا مشاحة ولا جدال.
(أقول) ما توهمه من أنّ منشأ الإشكال كونه قيدا للنفي ليس بصحيح إنما منشؤه أنه إذا لم
يكن هديا اقتضى ثبوت الريب فيه للمتقين، وهو فاسد لأنّ المتقي لا يرتاب أصلاً، ولذا قيل إنّ الحال على هذا الأزمة، فلا يبقى للإشكال مجال، وأمّا جعله قيدا للنفي، كما في قوله تعالى:{فَمَا أَنتَ بِنِعْمَتِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلَا مَجْنُونٍ} [الطور: 29] وقوله ونجي التلخيص لم أبالغ في اختصاره تقريبا فهو مستقيم لكنه لا يدفع الإشكال، وكونه لا يقول به صاحب هذا المقال دعوى غير مسموعة نعم تمريض المصنف له ظاهر لعدم املاءمته للسياق، وقلة جدواه، فإنّ المتقي لا يتصوّر منه الريب حتى ينفي. قوله:(وهدي حال من الضمير المجرور) نفي الراجع على القرآن والمصدر يقع حالاً مبالغة بجعله عين الهدي أو مؤوّلاً بالتأويل المشهور. وقوله: (والعامل فيه) أي في الحال، لأنها تذكر وتؤثث والمراد بالظرف لفظ فيه لأنّ الظرف يطلق على أسماء الظروف نحو عند وحيث، وعلى الجارّ والمجرور لا سيما وفي الجارّة هنا ظرفية وفيه تسامح لأنه أراد بالظرف متعلقه وهو حاصل أو استقرّ، لأنه هو الصفة والعامل حقيقة في الضمير محلاً فلا يرد عليه أنّ العامل في الحال، وهو متعلق الظرف غير العامل في ذيها، وهو في الجارّة حتى يقال إنه على رأي من لم يثترط إتحاد عاملهما قيل: وهذا هو السرّ في إطناب
المصنف هنا بقوله والعامل إلخ وأما تعلق فيه بريب، فردّ بأنه يكون مطوّلا، فيتعين نصبه على اللغة الفصيحة، وإن وجه بأن المراد أنه معمول لما دلّ عليه الريب لا له نفسه كما في الدرّ المصون. قوله:(والريب في الأصل) أي هذا معناه في أصل اللغة ثم استعمل في الشك والكذب والتهمة، وهو مصدر أيضا لكنه بحسب أصل اللغة مجاز من استعمال المسبب في السبب كما أيثحار إليه بقوله: لأنه يقلق قال أبو زيد: يقال رابني من فلان أمر إذا كنت مستيقنا منه بالريب، فإذا أسأت به الظن ولم تستيقن منه بالريب قلت: أرابني من فلان أمر هو فيه إرابة وقد أبان الفرق بين راب وأراب بشار في قوله:
أخوك الذي إن ربته قال إنما ~ أراب وان عاتبته لان جانبه
والارتياب يجري مجرى الإرابة كما قاله الراغب. وقوله. حصل بتشديد الصاد المهملة
من التحصيل، والريبة بكسر الراء، وقلق النفس أصله عدم السكون والقرار كتقلب المريض على فراشه، والإضطراب بمعناه لأنه افتعال من الضرب ويقابله الإطمئنان، ثم عمّ الحركات الحسية والمعنوية. قوله: (سمي به الشك إلخ (ظاهر قوله سمي أنه حقيقة في معنى الشك ويشهد له ظاهر كلام الأساس وغبره من كتب اللغة إلا أن سياقه. وقوله. (لأنه يقلق إلخ (يأباه، ولذا قال: أرباب الحواشي إنّ المصنف رحمه الله أراد أنه عدل به عن معناه المصدري واستعمل في معنى الشك مجازا بعلاقة السببية بذكر المسبب وإرادة السبب، ولو أريد معناه الأصلي لقيل لا ريب له فسمي هنا بمعنى استعمل وهو كثيراً ما يستعمل بهذا المعنى، وان كان الأكثر أنه بمعنى وضع الاسم العلم أو مطلق الوضع، وقيل عليه: إن القرآن لا يتوهم أن يكون رائباً حتى يقال: لا ريب له بل لو كان مصدراً كان الواجب لا ريب فيه، وهو على كل حال مصدر لأنه تجوّز في فعله أيضاً، وهذا من عدم
الوقوف على مراده فإنّ مراده بالمصدر المصدر الحقيقي أي القلق، وهو يتعدّى باللام يقال قلق له وان تعدى الشك بقي، وفيه إشارة إلى أنه مجاز في الأصل صار حقيقة في الاستعمال، وعوف اللغة وظاهر. ترادف الشك والريب إلا أنه قيل عليه أنه ليس كذلك لأنّ الريب شك مع تهمة، ولذا قال الإمام: الريب قريب من الشك وفيه زيادة كأنه ظن سيء وقال الراغب الشك وقوف النفس بين شيئين متقابلين بحيث لا يترجح أحدهما على الآخر بأمارة، والمرية التردد في المتقابلين، وطلب الإمارة مأخوذ من مري الضرع إذا مسحه للدّرّ، فكأنه يحصل مع الشك تردد في طلب ما يقتضي غلبة الظن، والريب أن يتوهم في الشيء أمر مّا ثم ينكشف عما توهم فيه، وقال الحوي: يقال الشك لما استوى فيه الاعتقادان، أو لم يستويا ولكن لم ينته أحدهما لدرجة الظهور الذي تنبني عليه الأمور، والريب لما لم يبلغ درجة اليقين، وان ظهر نوع ظهور ولذا حسن هنا لا ريب فيه للإشارة إلى أنه لا يحصل فيه ريب فضلاً عن شك، وعلى هذا ينبني ما في كتب الأصول من الفرق بين الشك
والظن إلا أنّ المصنفين يفسرون بالأعمّ ونحوه كثيراً من غير مبالاة منهم ومثله تعاريف لفظية مبنية على التسامح. وقوله: (لأنه) أي الشك إشارة للعلاقة والطمأنينة السكون ويقابلها القلق وهو الحركة يقال: اطمأنّ القلب إذا سكن، ولم يقلق والاسم الطمأنينة، وأطمأنّ بالموضع أقام به واتخذه وطنا وقال بعضهم: الأصل في اطمأنّ القلب إذا سكن، ولم يقلق والاسم الطمأنينة، واطمأنّ بالموضع أقام به واتخذه وطنا وقال بعضهم: الأصل في اطمأنّ الألف مثل احمارّ واسوادّ، فهمزوه فرارا من الساكنين وقيل الأصل همزة متقدمة على الميم، فقلب على غير القياس بدليل قولهم طأ من الرجل ظهره إذا حناه، والهمزة يجوز تسهيلها. قوله:(وفي الحديث دع ما يريبك الخ (1)) استشهد به على أنّ الريب له معنى غير الشك، وهو القلق كما مرّ إذ لو اتحدا لكان قوله فإنّ الشك بمنزلة قولك فإنّ الأسد غضنفر، وهو من لغو الحديث وقد قالوا: إنّ هذا الحديث رواه الترمذيّ، والنسائيّ وحسناه، وصححه الحاكم هكذا: دع ما يريبك إلى ما لا يريبك فإنّ الصدق طمأنينة والكذب ريبة) 2 (والمعنى دع ذلك إلى ذلك أي استبدله به أو دع ذلك ذاهباً إلى غيره على التقدير أو التضمين. وقوله: (فإق إلخ) معلل، وممهد لما تقدمه. قيل: والمعنى إذا وجدت نفسك ترتاب في الشيء فاتركه فإنّ نفس المؤمن تطمئن إلى الصدق، وترتاب في الكذب، فارتيابك في الشيء ينبىء عن كونه باطلأ، فاحذره واطمئنانك إلى الشيء يشعر بكونه حقاً فاستمسك به، وهذا خاص بذوي النفوس القدسية الطاهرة من وسخ الطبائع، فظهر أنّ قوله: فإنّ الشك ريبة لا يستقيم رواية ودراية، وردّ بأنهما ممنوعان أمّا الدراية، فلأنّ الشيخين بيناه بما لا مزيد عليه، وأمّا الرواية فإنّ إحدى الروايتين لا تبطل الأخرى وكان عليه أن يبين الأخرى التي ادّعاها فإنّ مثله لا يقال بالتشهي، وقد صحح الحافظ ابن حجر ما في الكتاب بعينه وقال: إنه رواه الطبرانيّ، وروى البيهقي " فإن الشرّ ريبة والخير طمأنينة " (3 (فاستشهد به كما مرّ على أنّ الريبة غير الشك، والاً لم يفد الكلام وبمقابلتها للطمأنيثة علم أنها موضوعة للقلق، فانطبق الاستشهاد على تمام المدعى ويريبك في الحديث روي بضمّ الياء وفتحها والثاني هو المناسب هنا.
(بقي) إنّ الظاهر أنه ليس معنى الحديث ما قاله وتبعه فيه الشرّاح بل معنا. كما قاله
المحدثون خذ ما تيقنت حله وحسنه، واترك ما شككت في حله وحسته، كما ورد في الحديث الصحيح " اتقوا الشبهات فإنّ من حام حول الحمى يوشك أن يقع فيه " (1) ومما هو صريح في ذلك ما روي أنّ وابصة بن معبد رضي الله عنه قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم:" جئت تسال عن البرّ والإثم ". فقال: نعم فجمع أصابعه فضرب بها صدره وقال له: " استفت نفسك يا وابصة ثلاثاً، البرّ مات اطمأنت إليه النفس، واطمأنّ إليه القلب، والإثم ما حاك في النفس، وتردّد في الصدر، وإن أفتاك الناس وأفتوك) (2) فلا وجه لما زعموه من اختصاصه بالأنفس القدسية فتدبر. قوله:(ومنه ريب الزمان) أي مما نقل من القلق إلى ما هو سببه من الشدائد وفصله بقوله: ومنه والضمير للريب المتجوّز فيه مطلقاً، لأنه ليس بمعنى الشك وإنما شاركه فإنّ أصله القلق فسمي به ما هو سبب له كما قال الهذلي:
أمن المنون وريبه تتوجع
وقال الرازي: إنّ هذا قد يرجع إلى معنى الشك، لأنّ ما يخاف من الحوادث محتمل،
فهو كالمشكوك فيه وكذا ما يختلج بالقلب وفيه نظر، والنوائب جمع نائبة، وهي الحادثة من حوادث
الدهر خيراً كانت أو شرّاً كما في حديث مسلم نوائب الحق وقال لبيد:
نوائب من خير وشرّكلاهما شلا الشيم ممدود ولا الشرّ لازب
لكن خصت بما يحدث من الشرّ والمصائب وهو المراد هنا وهو المناسب للقلق. قوله:
(يهديهم إلى الحق) إشارة إلى أنه مصدر في الأصل، والمراد به هنا الهادي بأحد الوجوه المعروفة في أمثاله وعبر بالمضارع إشارة إلى الاستمرار التجدّدي، فإنه وان كان مما يدلّ عليه غير المضارع إلا أنّ اسم الفاعل والمفعول يدلان على ذلك في الجملة. وقوله:(في الأصل) إشارة إلى أنه هنا ليس المراد به ذلك، كما عرفته، وهذا وزن نادر في المصادر لم يرد منه فيما قيل إلاً الهدي والتقى والسري والبكي بالقصر في لغة، وزاد الشاطبيّ لغي بالضمّ في لغة أيضا، ولذا قال كالسري إلخ إشارة إلى أنه ليس من أوزان المصادر المطردة المشهورة، وما قيل من
أنّ كلام سيبويه مضطرب فيه، فمرّة قال: هو عوض من المصدر لأذ فعلاً: لا يكون مصدراً وأخرى يقول هو مصدر هدي يدفع بأنّ مراده أنه اسم مصدر لا مصدر لمخالفته لصيغ المصادر، واسم المصدر مصدر عند اللغويين. قوله:. (ومعناه الدلاله إلخ) اختلف السلف في الهداية فقيل: هي الدلالة على ما يوصل إلى المطلوب وقيل هي الدلالة الموصلة إلى المطلوب، ورجح كثير الأوّل ومنهم المصنف، وقيل: مراده الدلالة بلطف بقرينة ما: قدمه في الفاتحة، وإلا كان بين كلاميه مخالفة مّا وليس بشيء، ونسب، الثاني إلى البعض ونقض بقوله تعالى:{وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى} [فصدت: 17] والأوّل منقوض بقوله {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} واحتمال التجوز مشترك وللمناقشة في امتناع حمله على هك االمعنى مجال لإمكان أنّ الهداية فيمن لا يهتدي بمعنى الدلالة على ما يوصل أي أنت لا تتمكن من إراءة الطريق، لكل من أحببت، وإنما نحن نمكنك لمن أردنا كقوله {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ} [الأنفال: 17] وما قيل / عليه:. من أنه يأباه ما قاله الجمهور من أنها نزلت في أبي طالب وطلب النبيّ صلى الله عليه وسلم إيمانه عند وفاته،، واعراضه لتعيير قريش، وسؤق الاية إذ لا فائدة يعتد بها حينئذ، والهداية بهذا المعنى أي الدلالة واقعة منه بلا خفاء، والكلام في الإيصال ليس بوارد لأنّ المراد تسليته صلى الله عليه وسلم، فكأنه قيل له ليس لك من الأمر شيء فلا تحزن، ويؤيده التمثيل بقوله وماءرمت ولا يتوهم أنّ للمناقشة في امتناع حمل الأية الأولى على المعنى الثاني أيضا مجالاً بأن يقال: معناها أوصلناهم إلى المطلوب فتركوه، فإنه خلاف الواقع وخلاف ما عليه المفسرون ولفظ الاستحباب مناد على خلافه، ووقاءل الفاضل المحقق: إنها تتعدّى بنفسها وبإلى واللام ومعناها على الأوّل الإيصال وعلى غيره إراءة الطريق، ولذا أسند الأوّل لله، والثاني للنبيّ صلى الله عليه وسلم تارة وللقرآن أخرى نحو {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} [الإسراء: 9] فيندفع النقض وفيه أنه ينتقض حصر إسناد الفتعدي ينفسه إلى الله بقوله: {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} [القصص: 56] وحصر المتعذي بالحرف في غيره بقوله: {يَهْدِي مَن يَشَاء إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} [البقرة: 213] إلا أن يقال إنه أغلبيّ أو مخصوص بالإثبات كما قيل: ولا يخفى ما فيه. وقال الجلال الدواني: إنّ المذكور في كلام الأشاعرة أنّ المختار عندهم هو القببرل الثاني وعند المعتزلة القول الأوّل، والمشهور هو العكس. وقيل: يمكن التوفيق بينهما بأنّ كلام الأشاعرة في المعنى الشرفي المراد في أغلب استعمالات الشارع، والمشهور مبني على المعنى اللغوي أو العرفي ويخدشه أنّ صاحب الكشاف مع تصلبه في الاعتزال اختارا الثاني هنا مع أن الظاهر في القرآن هو المعنى الشريئ فالأظهر التوفيق بعكس ما ذكر وأما عند أهل الحق فالهداية مشتركة بين المعنيين المذكورين وعدم الإهلاك فيندفع ما مرّ كما ذكره بعض مدققي أهل الكلام وفيه تفاصيل أخرى تركناها خوف الملل. وقوله:(إلى البغية) بالموحدة والمعجمة بمعنى
المطلوب، والمقصود ويجوز في بائها الكسر والضمّ قال في المصباح: ولي عند. بغية بالكسر، وهي الحاجة التي تبغيها وضمها لغة. وقيل: بالكسر الهيئة، وبالضمّ الحاجة اهـ. قوله:(لأنه جعل مقابل الضلالة إلخ) هذا شروع في مرجحات الثاني الذي ارتضاه الزمخشريّ، واقتصر عليه والمصنف أخره، ومرّضه مخالفاً له وطوى بعضه لما سيأتي عن قريب وهذا هو الدليل الأوّل على ترجيح الثاني، وحاصله أنه مقابل في القرآن والإستعمال بالضلالة
والضلال، ولا شك أنّ عدم الوصول معتبر في مفهوم الضلال، فلو لم يعتبر الوصول في مفهوم الضلال لم يتقابلا، وأورد عليه أنّ المقابل للضلال هو الهدي اللازم الذي بمعنى الاهتداء مجازا، أو اشتراكا وكلامنا في المتعدي، ومقابله الإضلال، ولا استدلال به إذ ربما يفسر بالدلالة على ما لا يوصل لا بجعله ضالاً أي غير واصل وأجيب بأنه لا فرق بين اللازم والمتعدّي في باب المطاوعة إلا بأنّ الأوّل تأثر، والثاني تأثير فإذا اعتبر الوصول في اللازم كان معتبراً في المتعدي أيضاً وحينئذ يكون الضمير في مقابله راجعا إلى اللازم على طريق الاستخدام، وهو فاسد لأنّ التمسك بالمطاوعة وجه مستقل، فذكر المقابلة حينئذ مستدرك، فإنّ اعتبار الوصول في الاهتداء مستغن عن الدليل كذا قاله قدس سرّه، وقيل: عليه اعتبار عدم الوصول في مفهوم الضلال ليس لكونه فقدان المطلوب بل فقدان طريق من شأنه الإيصال إليه، كما صرّح به الثقات، وفي الإضلال لاراءة ضده، فمقتضاه كون معنى الهداية اللازمة وجدان طريق من شأنه الإيصال، ومعنى الهداية المتعدية الدلالة على ذلك الطريق، ولو سلمناه، فاستعمال الهداية في أحد فرديها بقرينة المقابلة والكلام في مطلقها.
وههنا أبحاث:
(الأوّل) أنه إذا فسرت بمطلق الدلالة على ما من شأنه الإيصال أوصل أم لا، وفسر الضلال المقابل لها تقابل الإيجاب والسلب بعدم تلك الدلالة المطلقة لزم منه عدم الوصول لأنّ سلب الدلالة المطلقة سلب للدلالة المقيدة بالموصلة إذ سلب الأعمّ يستلزم سلب الأخص كالحيوان، والإنسان، فليس في هذا التقابل ما يرجح الثاني كما لا يخفى، وقوله: فلو لم يعتبر الوصول لم يقع في حيز القبول.
(الثاني) أنّ قوله لا فرق بين اللازم والمتعدي في باب المطاوعة مبنيّ على أنّ المعنى المصدري أمر نسبي بين الفاعل والمفعول متحد بالذات مختلف بالاعتبار كالتعليم والتعلم، وهو وأن اشتهر مشكل لأنّ الأوّل صفة قائمة بالأستاذ، والثاني صفة قائمة بالتلميذ فيلزم أمّا قيام الصفة الواحدة بمحلين متغايرين أو اتحاد، وصفين ونسبتين متغايرتين وكلاهما ظاهر الفساد وقد أجاب عنه بعض الفضلاء بأنّ معنى كونهما واحداً أنّ في المتعلم حالة مخصوصة يسمى قبولها تعلماً، وتحصيلها له تعليما ولا استحالة في قيام صفة واحدة بالذات بمحل يكون لمباينة
معها تعلق التحصيل والتأثير كما هو الواقع في جميع تاء المطاوعة، ولم يريدوا أنّ النسبتين واحدة لأنهما بالضرورة متغايرتان، ففي كل طرف غير ما في الطرف الآخر، ولكن متعلقهما صفة واحدة قائمة بطرف واحد فلا يرد عليه شيء.
(الثالث) إنّ القول بفساد الجواب لاستدراك المقابلة، ولأنّ التمسك بالمطاوعة وجه مستقل مدفوع بأنهما متغايران بالإعتبار، فإنّ مقابلة الضلال المعتبر فيه عدم الوصول تدل على اعتبار الوصول في الهدي أخذاً من مقابله وضده:
وبضدها تتبين الأشياء
والمطاوعة الدالة على الوصول تدلّ على اعتباره فيه باعتبار أنه لازم له لا ينفك عنه، فالفرق مثل الصبح ظاهر. قوله:(ولأنه لا يقال مهديّ إلخ) وفي الكشاف: ويقال: مهديّ في موضع المدح كمهتد، ولا يمدح إلا بالوصول إلى الكمال، واعترض بأنّ التمكن من الوصول أيضا فضيلة يصح أن يمدح بها، وبانّ المهدي فيما ذكر أريد به المنتفع بالهدي مجازاً، ودفع الأوّل بأنّ التمكن مع عدم الوصول نقيصة يذمّ بها كما قيل:
ولم أر في عيوب الناس عيبا كنقصالقادرين على التمام
والثاني بأنّ الأصل في الإطلاق الحقيقة، كما حققه قدس سرّه، والمراد بقول الزمخشريّ
في موضع المدح أنها صفة مادحة وضعاً، وإنما يتمدح بها بهذا المعنى فلا يرد عليه أنّ مقام المدح قرينة لذلك، وانّ المصنف لدّلك عدل عنه، فبين كلاميهما مخالفة، وقيل: عليه إنّ التمكن مع عدم الوصول ليس بنقيصة لمن هو بصدده مجد في بلوغه، وكون الأصل في الإطلاق الحقيقيّ إنما يفيد إذا اسنعمل بلا قرينة والمدح قرينة، وقد مرّ ما يعارضه من الآيات، وما قيل من أنه مجاز عن إفاضة أسباب الاهتداء، وازاحة العلل ردّ بأنّ الأصل الحقيقة، ولولا قرينة الضدح والمقابلة لم يتبادر منه إلا مطلق الدلالة وعليه أكثر أئمة اللغة والتفسير ولا يضرّ. مخالفة الزمخشريّ، فلذا أخره ومرّضه، وكون المهدي لا يستعمل إلا بمعنى المهتدي غير مسفم عندهم.
(بقي هنا دليل) تركه المصنف، وهو إن اهتدى مطاوع هدي، والمطاوعة حصول الأثر
في المفعول
بسبب تعلق الفعل المتعدي به، فلا يكون المتعدي مخالفاً لأصله إلا في الأثر والتاثر كما مرّ، فلو لم يكن في الهدي إيصال لم يكن في الاهتداء وصول، ونقض بنحو أمرته فلم يأتمر وعلمته فلم يتعلم، وردّ بأنّ حقيقة الائتمار صيرورته مأموراً، وهو بهذا المعنى مطاوع للأمر ثم اسنعمل في الامتثال مجازا وشاع حتى صار حقيقة عرفية وليس مطاوعا بهذا المعنى، وان ترتب عليه في الجملة على صورة المطاوعة وأمّا نحو علمته فلم يرد به حقيقته أعني حصلت فيه العلم بل المعنى المجازيّ وهو وجهت إليه ما قد يفضي إلى العلم وليس التعلم
مطاوعاً إلا لمعناه الحقيقيّ، فلا حاجة إلى ما قيل: من أنّ المتأثران كان مختار ألم يجب أن يوافق المطاوع أصله والاً وجب نعم كثر في المختار استعمال الأصل في معناه المجازيّ، ولهم في هذه المسئلة أقوال لا يلزم من وجود الفعل وجود مطاوعه مطلقاً يلزم مطلقاً التفصيل بين المختار وغيره، وارتضاه السبكيّ واستشهد لوجوده بدون المطاوع بقوله تعالى:{وَمَا نُرْسِلُ بِالآيَاتِ إِلَاّ تَخْوِيفًا} [الإسراء: 59] وبقوله: {وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَاّ طُغْيَانًا} [الإسراء: 60] لوجود التخويف بدون الخوف وأنه يقال علمته فما تعلم، ولا يقال كسرته فما انكسر، والفرق بينهما مفصل في كتاب عروس الأفراح، والمصنف رحمه الله لم يلتفت لهذا الدليل إمّا لأنّ مذهبه تخلف فعل المطاوعة، أو لأنه مختلف فيه، أو لأنّ الدليل الأوّل، وهو مقابلته بالضلال مبنيّ على المطاوعة، فالأدلة ثلاثة وهي عند التحقيق اثنان كما قيل، وأعلم أنهم اختلفوا في الهداية هل هي حقيقة في الدلالة المطلقة مجاز في غيرها أو العكس، أو هي مشتركة بينهما، أو موضوعة لقدر مشترك ذهب إلى كل طائفة، والمصنف رحمه الله اختار الأوّل إلا أنّ فيه بحثاً لأنه فسر الهداية بما يخالف ما هنا بحسب الظاهر، ونوّعها إلى أنواع رابعها كشف الأمور بوحي ونحوه، مما يختص بالأنبياء عليهم الصلاة والسلام والأولياء، وهي دلالة موصلة بغير شك، والجواب عنه ظاهر لمن تدبر. قوله:(واختصاصه بالمتقين إلخ) قيل: إن أراد بالمتقين المتقين عن الشرك وجعل الذين ابتداء كلام فقصر الاهتداء ظاهر، وان أراد الكاملين في التقوى، والموصول موصول بالمتقين، فالقصر باعتبار كمال الاهتداء، وهذا جواب عن سؤال مقدّر تقديره ظاهر على الوجهين، لأنّ الهدي سواء كان مطلق الدلالة، أو الموصلى منها حاصل بل غير خاص بالمتقي إن أريد المتقي غير الكامل، أو الكامل نعم هو على الأوّل أظهر، فمن قدره بقوله لم خص الهدى بالمتقين مع أنه الدلالة وهي عامة، وقال: صرح به الإمام قصر في فهم المرام، والمراد بالاختصاص في كلام المصنف وحمه الله تعالى التخصيص الذكري الواقع في النظم المستفاد من اللام كالانتفاع في قوله: المنتفعون لأنّ اللام للانتفاع، وعلى للمضرّة في نحو دعا له، وعليه لأنّ هذه اللام زائدة للتقوية، والقول بأنها تفيده في الجملة تكلف لا حاجة إليه مع أنّ مدلول اللام ليس الاختصاص بمعنى الحصر كما حقق في محله، والحاصل أنّ هنا أمرين يختلجان في الصدر إذا سمع النظم الكريم.
الأوّل أنّ المتقي مهتد فما فائدة جعله هدي له وهو تحصيل الحاصل.
الثاني أنّ هداية القرآن عامة للناس، فلم خصت بهؤلاء.
واذا فسرت بالدلالة الموصلة، ورد محذور آخر وهو المهتدي لمقصوده دلالته على ما يوصله إليه لغو، والعلامة اقتصر في الكشاف على دفع الأوّل وقال: هو كقولك للعزيز المكرّم أعزك الله، وكرمك تريد طلب الزيادة إلى ما هو ثابت فيه، واستدامته كقوله {اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ} [صررة الفاتحة: 6] ووجه آخر، وهو أنه سماهم عند مشارفتهم لاكتساء لباس التقوى متقين كقول رسول الله صلى الله عليه وسلم:" من قتل قتيلَا فله سلبه "، ولم يقل الضالين لأنهم فريقان فريق علم بقاؤه على ضلاله ولا يهتدي وما ليس كذلك حق التعبير عنه الصائرين إلى التقوى، فاختصر ليكون سلما لتصدير أولى الزهراوين التي هي سنام القرآن بذكر المرتضى من عباده، وقال قدس سرّه: لا بد من أحد أمرين إمّا أن يراد بالهدي زيادة الهدي إلى مطالب أخر غير حاصلة والتثبيت على ما كان حاصلَا، كما في اهدنا أو يراد بالمتقين المشارفون للتقوى والأوّل مختاره فإن قلت قد ثبت أنّ الهدي في التثبيت مجاز قطعاً، وفي الزيادة إمّا مجاز، أو حقيقة فكيف جمع بينهما قلت أراد أنّ اللفظ مستعمل في الزيادة فقط والتثبيت لازم له تبعا لا يقال تأويل نحو أعزك الله لازم لأنه طلب مختص بالاستقبال، فلو لم يؤول كان تحصيل الحاصل بخلاف
{هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ} إذ يجوز أن يكون معناه هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ المهديين بذلك الهدى، كما في السلاج عصمة للمعتصم أي سبب لها إذ لم يفهم منه أن هناك عصمة أخرى مغايرة لما كان معتصماً به، لأنا نقول إذا عبرت عن شيء بما فيه معنى الوصفية، وعلقت به معنى مصدرياً مطلقا فهم منه في عرف اللغة أن ذلك الشيء موصوف بتلك الصفة حال تعلق ذلك المعنى به لا بسببه، فإذا قلت ضربت مضروباً فهم منه أنه موصوف بالمضروبية بضرب آخر حال تعلق ضربك به لا بسبب ضربك إياه، فأخذت مضروبيته على أنها صفة مقزرة له وان لم يضرب، فإذا أردت أنه مضروب بضربك هذا كان مخالفاً للظاهر مجازاً باعتبار الأوّل، فقولك هدي لزيد أو للضالّ واضلال لبكر، أو للمهتدي جار على ظاهره بخلاف هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ واضلالى للضالّ، وحديث العصمة لا يجدي إذ لم يرد معناها المصدري المتضمن للحدوث بل الحاصل بالمصدر، وهو معنى مستقرّ ثابت يضاف للمعتصم فإن أريد المعنى المصدري احتيج لأحد التأويلين، وما يتوهم من أنّ متعلقات الأفعال، وأطراف النسب حقها على الإطلاق أن يعبر عنها بما يستحق التعبير به حال التعفق والنسبة لا حال الحكم بالنسبة حتى لو خولف ذلك كان مجازاً منظوراً فيه، لأنّ قولك عصرت هذا الخل في السنة الماضية مشيراً إلى خل بين يديك لا مجاز فيه مع أنه لم يكن خلَا زمان العصر، وقولك سأشرب هذا الخل مشيراً إلى عصير عندك مجاز باعتبار المآل، وان كان خلَا حال الشرب، فالواجب في ذلك كما قال قدّس سرّه أن ترجع إلى وضمع الكلام، وطريقته فإنه كثيراً ما يعتبر زمان النسبة، كما في الأمثلة المتقدّمة، وربما يعتبر زمان إثباتها كما في هذين المثالين، ثم المجاز باعتبار المآل قد يكون بطريق المشارفة، كما في " من قتل قتيلآ " فإنه قتيل حقيقة عقيب تعلق القتل به بلا تراخ كما في تمريض المريض، وقد يكون بطريق الصيرورة مجرّدة عن المشارفة، كما في قوله:{وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا} [سورة نوح: 27] فإنّ الإتصاف بالفجور والكفر متراخ عن الولادة.
(أقول) اختلف أهل العربية، والأصول في الوصف المشتق هل هو حقيقة في الحال، أو الاستقبال، وهل المراد زمان النسبة، أو التكلم من غير واسطة بينهما وما ذكره هنا مخالف للفريقين، والذي عليه المحققون أنه زمان النسبة، فما ذكر. الشارح الفاضل هنا وفي التلويح موافق لما قاله الجمهور، وهو الذي ارتضاه في الكشف، ويرد على ما ادّعاه من أنّ تعلق المعنى المصدري يقتضي- كون اتصافه بالمعنى الوصفي مقرّر مستحقاً له قبل التعلّق أنّ اسم الفاعل نحو السلاج عصمة للمعتصم يكون حقيقة في الماضي، وهو مرجوح، فإن قلت إنه لو لم يكن كذلك يكون لغوا من الكلام إذ لا مفاد لإثبات القتل لمقتول به في من قتل قتيلاً. وما ضاهاه، وهو الداعي لارتكاب ما ارتكبه كما أشار إليه قلت: نعم لو صدر من غير بليغ قصد ظاهره كان كما زعمت أنا إذا قصد أنّ القتل المتصف به صادر عن هذا الفاعل دون غيره فكأنه قيل لم يشاركه في قتله غيره، فسلبه له دون غيره، كما يشير إليه تقدّم له كان كلاما بليغا يفيد الحصر بقرينة عقلية فمعنى المال غنى للغنيّ، لا غنى له إلا بالمال، وكذا إذا قلت الذليل من أذثه الله، فالمعنى هنا لا هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ إلا بكتاب الله المتلألىء نور هدأيته، وإذا وعيت هذا عرفت أنّ الحق مع الفاضلين السعد، وصاحب الكشف، ولا خلاف بينهما إلا في أنّ من قتل قتيلاً حقيقة أم لا، وقد ذهب إلى أنّ الحق هو الأوّل الكرماني والسبكي حتى خطآ من قال: إنه مجاز وأمّا الشبهة الموردة بنحو عصرت هذا الخل، فليست بواردة ولذا قال بعض المدققين بعدما ساق كلام السيد: السند إذا وجد اسم الإشارة مثل أن يقول عصرت هذا الخل، أو هذا المتصف بالخمرية، أو الخلية فالمعتبر زمان الإشارة لا زمان الحكم السابق، فإن صح إطلاق الخل على المشار إليه، وا-لصافه بالخلية مثلاً في زمان الإشارة مع قطع النظر عن الحكم السابق كان حقيقة ولا فمجاز، والحاصل أنه إذا علق حكم على اسم الإشارة الموصوف بما مرّ ففي الحقيقة هنا تعليقان تعليق الحكم السابق بذات المشار إليه وتعليق الإشارة به فالمعتبر زمان الإشارة لا زمان الحكم السابق، وهكذا ينبغي أن يفهم هذا المقام المشتبه على كثير من الأقوام ولذا بسطنا الكلام فيه لأنه يحتاج إليه في مواضع مهمة ستراها في محلها إن شاء الله تعالى، فما نحن فيه غير محتاج للتأويل وليس من المجاز إذ المتقي مهتد بهذا الهدي حقيقة، وهذا ما جنح إليه المصنف رحمه الله ودفع
السؤال بوجهين الأوّل أنّ الهداية بمعنى مطلق الدلالة والإرشاد، وان عمت جميع الناس كما صرّح به في قوله تعالى:{هُدًى لِّلنَّاسِ} [البقرة: 85 ا] لكن غيرهم لما لم ينتفع بها كانت هدايتهم كالعدم، فلذا أضرب عنهم صفحا لتنزيلهم منزلة الجماد.
وأعلم أنّ الهداية على مراتب أربعة مرّت في الفاتحة، والتقوى أيضا على مراتب ثلاثة توقي الشرك، وتجنب المعاصي، واجتناب ما عاق عن الحق، وإذا ضربت أنواع الهداية في التقوى فهي اثنا عشر إلا أنّ الهداية بالمعنى الأوّل لا دخل للكتاب فيها، والرابعة وان كانت
تتصوّر فيه لو أريدت، فالمراد بالمتقين الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وهو صحيح ويراد حينئذ من التقوى المرتبة الثالثة، لكنه غير مناسب ومنه يعلم أنّ التقوى بالمعنى الثالث غير مرادة، فبقي من الهداية قسمان نصب مطلق الدلائل، أو السمعي منها وهما يحصلان بالقرآن ومن الهداية قسمان تجنب الشرك وتجنب الآثام، فالصور الباقية أربع، وكلام المصنف رحمه الله في هذا الوجه محتمل لها والمعنى لا ينتفع بالدلائل مطلقاً، أو الدلائل القرآنية إلا المسلمون، أو إلا المجتنبون للمعاصي لعلمهم بما ظهر منها، والأولى أوفق بكلامه، ولا مجاز في النظم على هذا كما توهم. قوله:(بنصبه) قيل هو بضمتين كل ما جعل علامة كما في القاموس، وليس جمعاً هنا وان كان في غير هذا المحل يكون جمعاً لنصاب بمعنى الأصل، وقيل: إنه بفتح النون وسكون الصاد المهملة والباء الموحدة مصدر والمعنى نصب الله تعالى إياه دليلَا على ذلك لهم دون غيرهم، وفي بعض النسخ بنصه على أنه واحد النصوص، وعليه اقصر بعض أرباب الحواشي، وقال في تفسيره: أي بنص من نصوصه وآية من آياته وليس هذا بتحريف كما قيل، فإنه أقرب مما فالوه نعم هو المناسب للمقام كما سيأتي، وهو الحامل للقائل على ادعاء تحريفه قيل: وهنا نكتة لأنه يؤخذ من قوله {هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ} وقوله: {هُدًى لِّلنَّاسِ} [البقرة: 185] أنّ المتقين هم الناس كما قال:
وما الناس إلا أنتمو لا سواكمو
(وههنا بحث) وهو أنه إذا حكم على الوصف بضده وما يقتضي زوال معناه سواء كان
ذلك حمليا كبلغ اليتيم، أو شرطيا كأعط اليتيم ما له إذا بلغ وإذا شفي المريض عرف قيمة العافية، فالوصف ليس متصفاً بمعناه حال تعفق ذلك الحكم به، فهل هو حقيقة أو مجاز، والظاهر أنه حقيقة إمّا لأن اتصافه بمعناه لما لاصق الاتصاف بضده، وقرب منه كان زمانهما في حكم زمان واحد، فيراد اتصافه في زمان الحكم حقيقة أو حكماً، أو لأنه يعتبر الزمانان المتلاصقان زماناً واحداً ممتداً تصف بهما على التعاقب فيه فالحقيقة بالنظر إلى أوّله، والحكم ناظر إلى جزئه الأخير، والظاهر أنّ هذا لا محيد عنه، كما سيأتي في أوّل سورة النساء في {آتُواْ الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ} [النساء: 2] حيث جعله المصنف رحمه الله حقيقة بالنظر إلى أصل اللغة، أو بتقدير إذا بلغوا وهو لا يخالف ما في التلويح كما قيل لأنّ كلام المصنف مبنيّ على تقدير الشرط بقرينة الآية الأخرى {فَإِنْ آنَسْتُم مِّنْهُمْ رُشْدًا} [النساء: 6، وما في التلويح مبنيّ على إرادة معنى ذلك من غير تصمريح، ولا تقدير. وقوله:(وإن كانت دلالته عامة) أي على المختار عنده، وكذا قوله وبهذا الإعتبار، فلا منافاة بين قوله هنا {هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ} وقوله في أخرى:{شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ} [البقرة: 85 ا] فلا حاجة لتخصيص الناس فيه. قوله: (أو لآنه لا ينتفع بالتأمّل فيه إلخ) التأمّل
بمعنى التدبر والتفكر كما في كتب اللغة يقال: تأمّلته إذا تدبرته، وفي المصباح هو إعادتك النظر فيه مرة بعد أخرى حتى تعرفه اهـ. فكان معرفته مما تؤمله وترجوه، وصقل بالتخفيف بمعنى جلا من صقل السيف والمرآة، وقد يكون في غيره كالثوب والورق فشبه العقل بالمرآة وجعل النظر والفكر مرارا بمنزلة صقله وهو ظاهر، وضمير لأنه راجع للكتاب والتأمّل النظر الصحيح في معانيه فإنه دليل إذ به الإرشاد، ويمكن التوصل بصحيح النظر فيه إلى المطلوب، واستعمله بمعنى أعمله فيما ذكر والضمير للعقل. وقوله ة (في تدبر الآيات) التدبر أصله النظر في أدبار الأمور وعواقبها، والآيات هنا العلامات، والأدلة الدالة على وجود الصانع ووحدانيته، واتصافه بصفات الكمال، وتنزهه عن سمات النقصان كما قال:
وفي كل شيء له آية ~ تدل على أنه الواحد
ولا يصح حملها هنا على آيات القرآن لمن تدبر. وقوله: (والنظر في المعجزات) أي معجزات النبيّ صلى الله عليه وسلم وتعرّف النبوّات بالأدلة الدالة على ثبوتها، وثبوت ما لا بد منه للنبيّ صلى الله عليه وسلم ليصدق به، وثبوته
بالأدلة العقلية المثبتة لها وقد أجاب المصنف رحمه الله عما أورد على تخصيص الهدى بالمتقين بوجهين استصعب الناظرون فيه الفرق بينهما حتى قيل: إنّ هذا الجواب الثاني هو الأوّل بعينه لأنّ معنى صقل العقل صونه عن طوارق الثبه، وصد الآراء الفاسدة، وتجريده عن انتقاش الصور الباطلة الشاغلة له عن ارتسام الصور الحقة، وهو عين التقوى فلا يحسن عطفه عليه بأو، إلا أن يقال هذا بحسب التقوى في القوّة النظرية، والأوّل بحسبها في القوّة العقلية، فعطف بأو نظرا للقوّتين، وقريب منه ما قيل حاصل الأوّل اختصاصهم بهداه بسبب اختصاصهم بالعمل به، والثاني بحسب معرفة معانيه وإسراره لأنّ غير المتقي لا يصقل عقله باستعماله في تدبر آياته المفضي إلى المعرفة (وقد أعملت بريد النظر هنا) ووقفت على ما في الحواشي، فرأيته دائرا بين أمرين الخطأ في فهم كلام المصنف، كالذي ذكر آنفا والتدليس بالإجمال الغير المفيد مثل ما قيل: إن الفرق بين الوجهين أنّ محصل الأوّل إنّ دلالة الكتاب، وان عمت المتقي وغيره والمسلم والكافر إلا أنّ دلالته نزلت منزلة العدم بالنسبة لمن لم ينتفع بها، والثاني أنّ دلالته عامّة لكل ناظر وإنما يكون حجة بالنسبة للمسلم المصدق بوحدانية الباري وصفاته، وبالرسالة وحقوقها، وهذا إنما يكون لمن صقل عقله عما يمنعه عن الوصول للحق، واستعمله في التفكر فيه وفي دلائله، فلا يكون هدى إلا للمتقي عن الكفر وما يؤدّي إليه (وإن أردت تحقيق هذا المقام) فاعلم أنّ المصنف رحمه الله اقتدى بالإمام حيث قال القرآن كما هو هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ ودلالة لهم على وجود الصانع وعلى دينه وعلى صدق رسوله صلى الله عليه وسلم فهو أيضا دلالة للكافرين إلا أنه تعالى ذكر المتقين مدحا ليبين أنهم الذين اهتدوا وانتفعوا به كما قال:{إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرُ مَن يَخْشَاهَا} [النازعات: 45] مع عموم إنذاره ومن فسر الهداية بالدلالة الموصلة فالسؤال زائل عته لأنّ
إيصال القرآن ليس إلا للمتقين ثم قال كل ما يتوفف صحة كون القرآن حجة على صحته لا يكون القرآن هدى فيه كمعرقة ذات الله وصفاته ومعرفة النبوّة فليس من شرط كونه هدى أن يكون هدى في كل شيء بل يكفي فيه أن يكون هدى في بعض الأشياء كتعريف الشرائع، أو يكون هدى في تأكيد ما في العقول وهذا أقوى دليل على أنّ المطلق لا يقتضي العموم، فإنه تعالى وصفه بكونه هدى من غير تقييد لفظاً مع استحالة أن يكون هدى في إثبات الصانع وصفاته، وإثبات النبوّة فثبت أنّ المطلق لا يفيد العموم اهـ ومنه أخذ المصنف رحمه الله ما هنا برمّته، فمعنى الجواب الأوّل أنّ الهداية مطلق الدلالة، وهي لا تختص بالمتقين وإنما خصوا بالذكر، لأنهم أكمل الأفراد وأشرفهم إذ هم المنتفعون بالدلالة وثمرة الإيصال لا أنها مختصة بهم فهي هنا على الحقيقة وكذا التقوى حقيقة في المرتبة الثانية ومعنى الثاني أنّ المراد بهداية " القرآن أيضا دلالته حقيقة، والتقوى حقيقة بمعنى التبري عن الشرك في المرتبة الأولى، ودلالة القرآن أي كونه دليلاً على ما فيه لا يكون إلا بعد الإيمان بالله ورسله وبما جاؤا به عليهم الصلاة والسلام بناء على ما ذهب إليه الماتريدية وبعض الأشعرية من أنّ ثبوت الشرع موقوف على الإيمان بوجود الباري وعلمه وقدرته، وكلامه وعلى التصديق بنبوّة النبيّ صلى الله عليه وسلم بدلالة معجزاته، ولو توقف شيء من هذه الأحكام على الشرع لزم الدور كما قرّر في الأصلين، فدّكر المتقين على المعنى الثاني لأنّ دلالة القرآن موقوفة على التقوى بهذا المعنى، لأنها إنما تثبت بالعقل على المشهور، والانتفاع المذكور في كلام المصنف أوّلاً الانتفاع بالهداية، وهو الاهتداء والانتفاع الثاني الانتفاع بالقرآن، وما فيه من الدلالة بعد وجود ما يتوقف عليه من التصديق، وهم توهموا الانتفاعين بمعنى فخبطوا خبط عشواء فلذا عطفه بأو وأخره لأنه خلاف المشهور عن الأشاعرة كما سيأتي، وبهذا ظهر أنّ ما قيل: إن المعنى أنه مرشد للمؤمنين منتفعون به في تحصيل سائر مراتب التقوى ليس له وجه فظهر وجه التخصيص وعلم فائدة التعلق كما مرّ، ويتبين بطلان ما قيل أنّ تقرير الثاني أنّ المراد به التثبت على ما كان حاصلاً من التقوى فيختصى بهم، ولا يتخطاهم وانّ الحاصل أنّ الهدى حقيقة على الجواب الأوّل، ومجاز على الجواب الثاني ولا حاصل له ولا طائل وقيل: إنّ الثاني فيه المتقي مجاز بمعنى العاقل المتدبر المشارف لها لأنها جلاء عقله عن صد الغفلة، والفساد فانطبع فيها الأدلة
السمعية وقيل حاصل الأوّل إن اختصاصه بالمتقين لاختصاصهم بالاهتداء والانتفاع بالقرآن، وحاصل الثاني أن الاختصاص بهم، لأجل أن العلم بأسرار الآيات ودقائقها والاستدلال على صفات الصانع وآثاره كما ينبغي يختص بالمتقين وقد عرفت حقيقة الحال المغنية عن القيل والقال. قوله:(لأنه كالفذاء إلخ) كما قال أبقراط: البدن الغير التقيّ، كلما غذوته إنما تزيده شرّا ومنه أخذ المتنبي قوله:
إذا أنت أكرمت الكريم ملكته وان أنت أكرمت اللئيم تمزدا
ولم يقل- كالدواء س لأنّ الغذاء الحافظ للصحة دواء أيضا، ويزيد عليه أنه يلزم دائماً، كالهداية بخلاف الدواء، فإنه يكون أحياناً للضرورة، فلا يقال الظاهر أن يقول دواء ليطابق ذكر الشفاء في الآية، وسمي شفاء لأنه يشفي من مرض الجهل والعلم يسمى حياة وشفاء، وليس المراد أنه يستشفى به في الرقى، كما توهم فالكتاب لا يجلب نفعا ما لم يكن الإيمان بالله ورسله حاصلاً. قوله:(قوله كمالى: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاء} الآية [الإسراء: 82] ) من بيانية مبينة لما لجوار تقدمها على المبين على ما بين في النحو لا تبعيضية على أنّ المعنى أن منه ما يستشفى به كالفاتحة، وآيات الشفاء، لأنه غير مناسب للسياق إذ المراد أنه شفاء من مرض الجهل والضلال في الدنيا، كما هو رحمة في الآخرة أو في الدارين، وخص الشفاء بالمؤمنين، كما خص الهدى بالمتقين هنا والمراد بالظالمين الكفرة لقوله:{إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان: 13] ، والخسار لتكذيبهم به، وعدم قبولهم لما جاء به كالمريض الذي لا يفيده العلاج وربما كان الدواء زيادة في الداء. قيل فالوجه الثاني هو المختار إذ علنى الأوّل لا يحسن جعل الذينء يؤمنون صفة، ولا مخصوصا بالمدح رفعا ونصباً، ولا استئنافا لأنّ الضالين الصائرين إلى التقوى ليسوا متصفين بشيء مما ذكر وحمل الكلي على الاستقبال، والمشارفة يأباه سياق الكلام وفيه نظر. قوله:(ولا يقدح ما فيه إلخ) القدح الطعن من قدح الزناد، وهو ضرب بعضه ببعض والمراد به الاعتراض، وهذا جواب عن سؤال تقديره جميف يكون الكتاب هدى ودالاً، وفيه ما لا يفهم من المجمل والمتشابه، كما قاله الإمام وأجاب عنه بما ذكره المصنف، وهو على مذهب الشافعية القائلين بأنّ المتشابه يعلمه غير الله من الراسخين في العلم، كما سيأتي نن سورة آل عمران، وأمّا عند غيرهم، فينبغي أن يقال: إنه لا يستليزم كونه هدى هدايته باعتبار كل جزء منه، وإنما ذكر فيه ذلك ابتلاء لذوي الألباب بما لا تصل إليه العقول، ولما لم يخل عند المصنف من مبين يعين المراد منه كان بعد التبيين فيه هدى ودلالة، وتوقف هدايته على شيء لا يضر فيها، كما أنه على رأي متوقف على تقدم الإيمان بالله ورسله، ومن هنا عرف وجه تأخير ما هنا لتوقفه على ما قبله وارتباطه به، والمعين العقل أو السمع كما صرّحوا به، فسقط ما قيل إذا بين ذلك المراد منه لم يكن هدى في نفسه، وإنما يكون كذلك لو أفاد ابتداء ما يفيده الكتاب. وقوله:(لما لم إلخ) بكسر اللام الجارّة وتخفيف الميم من ما المصدرية أي لعدم انفكاكه إلخ ويجوز فتح اللام مع تشديد الميم إلا أنّ قوله لا يقدح ينبو عنه في الجصلة. قوله: (والمتقي إلخ (أي هو اسم فاعل اتقى مطاوع وقي أبدلت واوه تاء على القاعدة المعروفة، وما ذكر مذهب الزمخشرفي، وخالفه في لباب التفاسير والدرّ المصون، وهو ظاهر كلام أهل اللغة لأنّ الافتعال " له معان: منها الإيجاد قالوا ومنه
اتقى، وقد بين معناه لغة وشرعا، وذكر له مراتب وأراد بالشرك مطلق الكفر، وهو شائع فيه حتى صار كأنه حقيقة، فلا يقال حقه أن يبدل الثرك بالكفر، ولا إلى الجواب بأنّ المراد هذا وما في حكمه مما يوجب العذاب المخلد من وجوه الكفر. وقوله:(والوقاية إلخ) مثلث الواو والفرط بفتح الفاء وسكون الراء المهملة والطاء المهملة بمعنى الزيادة والمبالغة لأنه يكون بمعنى مجاوزة الحدّ كما في القاموس وفيما قاله شيء، لأن المذكور في كتب اللغة تفسيرها بالحفظ والصيانة، وما ذكره من الزيادة زيادة كأنه أخذها من المادّة وما قاله بعض الفضلاء من أن ما ذكر. المصنف لا يوجد في شيء من كتب اللغة المشهورة لا وجه له. وقوله:(في عرف الشرع) أي نقلت لصيانة مخصوصة لها مراتب والمعنى اللغوي شامل لها كما لا يخفى، وإن لم يكن ذلك لازماً. وقوله:(بقي نفسه) في بعض النسخ يتقي عما إلخ بالتاء، وبإسقاط لفظ نفسه وما ذكره بيان للمتقي، ويعلم منه التقوى. قوله:(1 لتجنب عن كل ما يؤثم) التجنب الترك
والاحتراز، وأصل معناه الأخذ في جانب غير الجانب الذي هو فيه ويؤثم تفعيل من الإثم أي يوجب استحقاق الإثم أو يوقع فيه. وقوله:(من فعل أو ترك) لأنّ ما به حصول الإثم عام يتناولهما معاً، ولذا قيل إنّ حق العبارة وترك بالعطف بالواو وترك أو، وقد أجيب عنه بأنه مطلق مفسر بأحدهما لكنه وقع بعد ما يتضمن النفي فيفيد الإستغراق كأنه قيل: لا يفعل ما يؤثم من فعل أو ترك أي لا يفعل واحدا منهما كما في قوله: {وَلَا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا} [الإنسان: 24] وسيأتي تحقيقه إن شاء الله تعالى في محله، والمراد بكلمة التقوى في قوله تعالى:{وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى} [الفتح: 26] كلمة التوحيد، وهي لا إله إلاً الله، وسيأتي بيانها، وكون التقوى فيها بمعنى الإيمان ظاهر. قوله:(حتى الصغائر) في كون اجتناب الصغائر مشثروطاً في وجود التقوى وتحققها قولان فإذا لم يجتنبها هل يقال له متق أم لا، والكلام فيما إذا لم يصرّ عليها وتغلب على حسناته، كما ذكره الفقهاء في كتاب الشهادة، وقالوا: إنه حينئذ تسقط العدالة، وقيل: إنّ هدّا الاختلاف مبني على أن ما يستحق العقوبة بسببه هل يتناول الصغائر أم لا، فمن ذهب إلى تناولها قال احتياجها للتكفير دلّ على أنها سبب لاستحقاق العقوبة، ومن اختار عدمه تمسك بأنها وقعت مكفرة فلم يظهر للاستحقاق بها أثر، فكأنه لا استحقاق فلا تندرج فيما يستحق به العقوبة عند الإطلاق، وقيل: إن فرط الصيانة مقتض لاجتناب الصغائر وكذا حديث: " لا يبلغ العبد أن يكون من المتقين حتى ياع ما لا بأس به حذرا مما به باس) (1) إن صح وفي كلام المصنف رحمه الله تعالى إشارة إلى أنّ المختار أنّ
اجتنابها غير معتبر في مفهوم التقوى لا لما مرّ قبيله فإنه رأي المعتزلة بل لأنها لا تنافي التقوى ومرتكبها لا يخرج عن زمرة المتقين والاً لخرج الأنبياء عليهم الصلاة والسلام لعدم عصمتهم عنها عند الجمهور ولأنه قلما يخلو عنها أحد متق والحديث محمول على أكمل المراتب، وهي المرتبة الثالثة، وما زعمه من أنه مذهب المعتزلة ليس كذلك فإنه عليه كثير من المحدثين، وأهل السنة، ولا وجه لتردّده في صحة الحديث مع رواية الترمذي له، وورود ما يعضده مما هو بمعناه في الأحاديث الصحيحة. وقوله:(والمعنئ إلخ) المعنيّ بكسر النون وتشديد الياء اسم مفعول أي المقصود لأنّ عطف اتقوا على آمنوا يؤذن بأنّ المراد بالتقوى فيه الإتيان بالأعمال الصالحة وتجنب المعاصي. قوله: (أن يتنزه عما يشغل سرّه إلخ) أي يبعد نفسه عن ذلك، لأن أصل معنى التنزه البعد كما حقق في اللغة، ويشغل سرّه بمعنى يلهيه يقال شغله الأمر شغلاً من باب نفع، والاسم منه الشغل بالضم وشغلت به أي تلهيت، والسرّ الحديث المكتوم في النفس قال تعالى:{يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ} [صورة التوبة: 78] والمراد به محله من القلب أو الفكر، والحق الظاهر أن المراد به هنا الله تعالى. قال الراغب: الحق الموجد للشيء بحسب ما تقتضيه الحكمة، ولذلك قيل في الله تعالى هو الحق، ويجوز أن يراد به معناه المعروف إلا أنّ المنايسب للتبتل هو الأوّل لأنه الانقطاع إلى الله تعالى بالعبادة، واخلاص النية انقطاعاً يختص بالله لأنّ معنى البتل القطع كالبت. قوله:(بشراشره) أي ينقطع إليه بكليته ونفسه قال صاحب القاموس في شرح الديباجة: الشراشر الأثقال الواحدة شرشرة يقال: ألقى عليه شراً شره أي نفسه حرصا ومحبة وشراشر الذنب ذباذبه، وقد مرّ الكلام فيه مفصلاً في آخر شرح الديباجة. قوله: (وهو التقوى الحقيقي إلخ أليس المراد بالحقيقي مقابل المجازي، بل هو مبالغة في الحقيق كدواريّ أي الأحق بتسميته تقوى، لأنه تقوى خواص الخواص، وإنما فسر هذه الآية به لأن مقتضى النظم المبالغة في التقوى، كما في حق اليقين والأمر فيه للندب لا للوجوب حينئذ، لأنه يلزم أن يأثم كثير من المؤمنين بل هو للحث على تكميل النفس وقطع المراتب ومثله كثير، ولا ينافيه تفسير المصنف رحمه الله هذه الآية بقوله:{حَقَّ تُقَاتِهِ} [آل عمران: 102] حق تقواه وما يجب منها، وهو استفراغ الوسع في القيام بالمواجب، والاجتناب عن المحارم وقيل إنها منسوخة بقوله تعالى:{فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن: 16]
وفي الكشاف يطلق على الرجل اسم المؤمن لظاهر الحال والمتقي لا يطلق إلا عن خبرة كما لا يجوز إطلاق العدل إلا على المختبر. قوله: (وقد فسر إلخ) فمعناه على الأوّل ذلك الكتاب هدى لمن اتقى الشرك فأمن، وعلى الثاني هدى لمن اتقى جميع الآثام، وعلى الثالث هدى لمن لم يشتغل عن مولاه وانقطع عما سواه، ويجوز أن يفسر بما يعمها، وهذا كله مأخوذ من
تفسير الراغب وقيل: وجه تعلق الهدى بهم على الأوّل أنّ المراد به الهدى الذي حصل به ذلك التقوى، أو الزائد عليه من المرتبتين الباقيتين وكذا الثاني، وأمّا الثالث فعلى التفسيرية يتعين إرادة الهدى الذي حصل به ذلك التقوى إذ لا مرتبة بعدها، ولا يخفى ما فيه وأنه لا يتنزل على كلام المصنف بعد التأمّل. قوله:(وأعلم إلخ) هذا معطوف على مقدر أي احفظ ما ذكرناه هـ وأعلم أو استئناف وعادة المصنفين أن يأتوا به في صدر الكلام الذي يهم للدلالة على الشروع في أمر غير ما قبله حثاً عليه وتحريضا، وقد استعمله العرب قديما قال:
وأعلم فعلم المرء ينفعه ~ أن سوف يأتي كل ما قدرا
والأوجه جمع وجه ومعناه الحقيقي معروف، وله معان أخر مجازية، وشاعت حتى صارت كالحقيقي منها النوع وفي الأساس لهذا الكلام وجه صحة أي نوع وضرب منها. وقوله:(ألم مبتدأ إلخ (لم يذكر بقية الاحتمالات السابقة لأنها غير ملائمة لقوله (وذلك إلخ) وجوّز في) ألم) ثلاثة أوجه، فإذا كان اسم السورة فالألف واللام في الكتاب للعهد، والمراد به السورة أو القرآن بالمعنى الكلي، وهو الوحي المقروء وكونه بمعنى الكلي يحتاج إلى تأويل، وإذا أريد به القرآن فهو ظاهر، وإن أريد به المؤلف منها كما سيأتي، فهو أعم من القرآن والمحمول لا بد أن يكون أعم، أو مساوياً ولا يجوز أن يكون أخص، فلذا أوّله بأنّ المراد به مؤلف معجزاً، وهو يخصى القرآن فتساويا، ولا يضرّه كونه أعمّ بحسب الأصل، والأصل له معان مرت والمراد منها القاعدة الكلية، أو الأغلب لا ما يبتنى عليه غيره. قوله:(أو مقدّر إلخ) يعني أنه مؤوّل بهذا بقرينة المقام، وليس المراد التقدير اللفظي، وان أوهمه اللفظ بأن يحذف الجار ومتعلقه، ويقام المجرور مقامه، كما توهم لأنه مع بعده فيه تعسف ظاهر. قوله:(وإن كان أخص إلخ) إشارة لما ترّر في المعقول من أنّ معنى القضية الحملية صدق المحمول على ما اتصف بمعنى الموضوع، فلو كان أعم لزم صدق الأخصى عليه، فلا يكون الأعم أعم والأخص أخصى، ووجهه ما ذكره المصنف بعد*ـ، فهو مثل الإنسان زيد، فإنّ معناه الإنسان الكامل ولولاه لم يصح الحمل، وما قيل: من أنّ الأحسن الأبلغ أن يراد في مثله بالمحكوم عليه الجنس على إطلاقه، ويحمل عليه فرد خاص من افراده بادّعاء أنّ الجنس منحصر فيه، كما يقال زيد هو الإنسان، وهو الرجل كل الرجل كأنّ ما عداه لا يدخل تحت الجنس، ولا
يسمى باسمه لعدم الاعتداد به بالنسب إليه غير موافق لما نحن فيه، فإنّ المحمول هنا ذلك، وهو اسم لجزئي لا لجنس، ولو. كان الكتاب بدونه أمكن ذلك مع أنّ ما ادّعاه من وجه الأبلغية موجود بعينه فيما ذكره المصنف رحمه الله، فالخبر المذكور أخص من المبتدأ ظاهراً، وبحسب الإرادة مساو له. كوله:(الكامل في تأليفه البالغ إلخ) المراد بكونه في أقصى درجاتها أنه أقصى ما وجد منها في الخارج، وأعلى-ما خرج من القوّة إلى الفعل، فلا يرد عليه ما قيل من أن كون القرآن، أو السورة في أقصى درجات البلاغة، والفصاحة غير مسلم، لأنه تعالى قادر " على أن يوجد ما هو أعلى منه، وذلك وإن كان. إشارة لجزئي، فالصفات المذكورة كلية،، وضم الكليّ للكلي لا يفيد نكتة إلا أنه يفيد انحصار موصوفها في شخصه بحسب الخارج، لأنه معلوم نزول بعضه، وتعجيزه لهم، فكأنه قال المؤلف المعلوم عندهم بصفاته ذلك إلخ والدرجات المراقي كالسلم واحدها درجة والمراتب جمع مرتبة وهي محل الرتوب وهو الاستقرار استعير للشرف، كالمنزلة والمكانة والرتبة كما يخاطب العظيم بالمجلس السامي تأدّبا، وليس ما هنا مجرّد تفنن لأنّ المرقاة توصل للرتبة فهي أعلى منها، فلذا أتى بها في البلاغة، إشارة إلى أنها أشرف من الفصاحة، كما تقرّر في محله. قوله: (والكتاب صفة ذلك) هذا حكم الاسم الواقع بعد كل اسم إشارة على المشهور ولا يكون إلا معرفا بأل، وقال ابن مالك إن كان جامدا محضا فهو عطف بيان، وأكثر المتأخرين يقلد بعضهم بعضا في أنه نعت ودعاهم إليه أنّ عطف البيان لا يكون إلا أخص من متبوعه، وهو غير صحيح وممن ذهب إلى أنه عطف بيان الزجاج وابن س جني، وقال ابن عصفور: من حمله على النعت لحظ- فيه محنى الاشتقاق كأنه قال الحاضر والمحسوس، وهو مبني على " أنّ النعت لا يكون إلا بمشتق أو مؤول به، وقد قال ابن الحاجب: إن التحقيق خلافه فما ذهب إليه المصنف أحد الآراء في هذه المسئلة، وأل فيه إذا كان صفة عهدية، وإذا كان عطف
بيان حضورية وهي قسم منها، وهذا مما جزم به النحاة، وبعض الناس قال هنا اللام فيه عهدية لأنه المتبادر أيضا لا فائدة في الإخبار عن السورة، أو القرآن بأنه أي المؤلف المخصوص يصدق عليه جنس الكتاب فإنّ قصد الحصر في اسم الإشارة، ثم حمل ذلك الكتاب على القرآن ظاهر، وأمّا على السورة أو المؤلف، فباعتبار صحة إطلاق الكتاب علة الكل والجزء بالاشتراك، فأثبته بالدليل، وهو غني عنه ما في دليله عن المنع الظاهر. قوله:(وأن يكون ألم خبر مبتدأ) قيل تقديره القرآن أو السورة أو المتحدي به ألم أي المؤلف من نجنس طذه الحروف التي ألفوا منها كلامهم، والمقصود من الإخبار الإلزام والتبكيت، وقيل تقديره هذه ألم وصحة الإخبار عن هذه بألم على معنى أن هذه السورة المشهورة بالفضل، والكمال بلاغة وهداية أو على أنها مسماة بهذا الاسم،: ولا يخفى قصوره فإن هذا الإعراب عند المصنف على الوجوه الثلاثة، كما صرّح به في أوّل كلامه إلا أن يكون صرح ببعض الوجوه وأحال الباقي على القياس. قوله:(ولا رب في المشهورة إلخ) المشهورة
صفة لمقدّر أي القراءة المشهورة المتواترة، وهي قراءة الفتح على البناء عليه. وقوله:(لتضمنه) معنى من هو مذهب محققي النحاة فعلة البناء تضمن معنى الحرف الذي هو من الاستغراقية، كما أنّ ما جاءني من رجل نص في الاستغراق بخلاف ما إذا رفع ما بعدها سواء أعملت أو ألغيت، وقيل: إنما بني لتركب لا مع اسمها تركيب خمسة عشر، وقيل إنه معرب حذف تنوينه، وهو ظاهر كلام سيبويه في الكتاب ومنهم من أوّله ومنهم من ردّه، وقالوا: إنّ قراءة الفتح إنما كانت نصاً في الاستغراق، لأنّ نفي الجنس مستلزم له قطعاً وأورد عليه أنّ الموجبة الجزئية، والسالبة الجزئية لا تتناقضان فيجوز أن ينتفي الجنس في ضمن فرد، ويثبت في ضمن فرد آخر إلا أن يقال المفهوم عرفا من نفي الجنس بلا تقييد نفيه بالكلية، وأيضا لا يظهر الكلام على من جعل اسم الجنس بازاء فرد مّا، وليس بوارد لأنّ من ذهب إلى أنها نص في الاستغراق يقول إنها لعموم النفي لا لنفي العموم كما صرّحوا به، وقالوا: لا يجوز لا رجل في الدار بل رجلان ورجال، فكيف تكون سالبة جزئية. قوله:(لأنها نقيضتها) بهاء التأنيث في بعض النسخ، وفي بعضها نقيضها بدون هاء يعني أنها حملت على أنّ في العمل، كما يحمل النقيض على النقيض، لأنّ لا لتأكيد النفي العامّ، وإنّ لتاكيد الإثبات، أو تلك موضوعة للنفي، وهذه للإثبات، أو هو من حمل النظير على النظير استعمالاً لملازمة لا العاطفة لا مطلق لا للأسماء كانّ، وأبو الشعثاء بشين معجمة مفتوحة وعين مهملة ساكنة وثاء مثلة تليها ألف ممدودة، وهو سليم بن الأسود المحاربي التابعي راوي هذه القراءة الثاذة. قوله:(مرفوع بلا إلخ) هذا هو المشهور بين النحاة في رفع ما بعدها على أنها عاملة عمل ليس، وقال ابن مالك: لو ذهب ذاهب إلى أنها لا تعمل عمل ليس كان حسناً إذ لا يحفظ في نظم ولا نثر سوى قوله: تعزفلا شيء على الأرض باقياً ولا وزرمما قضى الله واقيا
وبالجملة في ذلك ثلاثة أقوال الجواز وهو مذهب سيبويه، والمنع وهو مذهب الأخفش والمبرّد، والثالث أنها عاملة في الاسم، وهما جميعا في موضعالابتداء ولا تعمل في الخبر، وحكي عن الزجاح، وسماع نصب الخبر قاض بالمذهب الأوّل. قوله:(وفيه خبره) ضمير خبره راجع للأعلى المذهب المشهور من أنها العاملة الرافعة للخبر وذكر باعتبار اللفظ، أو إلى ريب لأنه مبتدأ بحسب الأصل، فالخبر له واختلفوا في رافع الخبر هل هو لا وحدها أو مع الاسم أو المبتدأ وعلى هذا، فضمير صفته الآتي راجع إليه كضمير خبره من غير تفكيك أو تقدير مضاف أي صفة اسم والمراد على قراءة الرفع أيضاً الاستغراق، لأنه لم يرد نفي ريب واحد كما في البحر، وعلى كونه خبراً على القراءتين محله مختلف، فإن قلت من هذه زائدة كما في المغني وغيره، فكيف يتأتى دلالتها على الاستغراق والزائد لا معنى له وأيضاً الزائد إذا
لم يذكر لا يقدر، فكيف قالوا بالبناء والاستغراق لتضمته معناها، وفي كلام الشريف ما يقتضي الفرق بين ذكرها وعدمه وهو مناف لذلك ظاهراً قلت: الزائد في فصيح الكلام ليس زائداً من كل الوجو.، ولذا يسمى صلة تأدّباً وتحاشيا عن إيهام اللغوية، والفرق بين التضمين، والتقدير ظاهر فيفيد التأكيد لما يدل عليه الكلام والنكرة في سياق النفي
ظاهرة في العموم فإذا أكدت تقوى ذلك فصار نصاً في العموم فتدبر. قوله: (ولاً يقدم إلخ) قال قدس سرّه: لما كان المقصود بالنفي ليس هو الريب بل كونه متعلقا له كان مظة لتوهم أن النفي ليس متوجها إلى أصل الريب بل إلى متعلقه الذي هو الظرف فكان ذكره أهمّ، فهلا قدم أجاب العلامة بأن النفي متوجه إلى الريب لا إلى متعلقه، لكن لم يقصد بنفي الريب عته أنه لم يرتب فيه أحد بل قصد إثبات أنه حق وصدق، وأن الريب فيه غير واقع موقعه، ومن المعلوم أنّ هذا القصد لا يقتضي تقديم الظرف، على أن ثمة مانعا منه وهو أنه لو قدم لأفاد معنى بعيداً عن المراد، وهو أنّ الريب ثابت في كتاب آخر لا في هذا الكتاب، وهذا المعنى سواء استقام أو لا لا يناسب المقام إذ لا منازعة فيه، وفي المفتاج أنه لو قدم لدل على أنّ ريباً في سائر كتب الله تعالى، وهو باطل ولا خفاء في اً نه توجيه آخر، وأما لا فيها غول، فإن نظر إلى حاصل المعنى كان قصر الصفة الاغتيال على خمور الدنيا وان روعي القاعدة القائلة بأنّ تقديم المسند يفيد الحصر المستدير قصراً للموصوف على الصفة أي الغول مقصور على عدم الحصول في خمر الجتة لا يتجاوزه إلى عدم الحصول فيما يقابلها أي عدم الغول مقصور على الحصول فيها لا يتجاوزه إلى الحصول في هذه الخمور، والغول الصداع أو مصدر غاله إذا أهلكه، وقد بقي هنا أمور لعل النوبة تفضي إلى بيانها بإذن الله تعالى، وقد أورد على الزمخشريّ أنه لا محذور فيما ذكره لوقوع الريب في كثير من الكتب، وأجيب بأنّ المراد لزوم الريب في الكتب السماوية، وقيل عليه: إنها لما فيها من التحريف محل ريب فلا محذور أيضا وفيه بحث، وقيل: لو قدم لزم نفي حصر الريب فيه فيلزم مشاركته لغيره في الريب، وهذا بناء على أنّ ملاحظة الحصر قبل دخول النفي والأمر بالعكس كما صرّحوا به (وههنا بحث) أورده بعض المتأخرين، وهو أنّ لا ريب فيه لا يصح تقديم الخبر فيه إذ لا يجوز لا فيه ويب من غير تكرار لا لأنه إذا فصلى بينها وبين اسمها وجب الرفع والتكرير ولا عديل للمنفي هنا حتى يصح تكريرها أو يقدر، وهذا وان صح في قراءة أبي الشعثاء، فالزمخشريّ ذكره في المشهورة وسوق القاضي على العموم، ورد بأن وجوب تكريرها فيما ذكر ليس متفقاً عليه لذهاب المبرد وابن كيسان إلى جوازه ولا يخفى أنه قول مرجوح عند النحاة، فإنه عندهم ضرورة، على أنه على فرض جوازه غير فصيح، وانكار أبي حيان إفادة تقديم الخبر للحصر هنا مما لا يلتفت إليه، وان أورد في بعض الحواشي. قرله:(أو صفتة إلخ) معطوف على قوله خبره، وما قيل عليه: من أنّ فيه تفكيك
الضمائر، ولو قال: صفة بدون ضمير كان أوجه لسلامته مما ذكر ليس بشيء لإمكان اتحاد مرجعها كما مرّ، مع / أنّ التفكيك لا محذور فيه إذا ظهر المراد، وذكر في الخبر ثلاثة اأوجه تقريرها ظاهر من كلام المصنف رحمه الله، وحذف الخبر كما في لا ضير أي فيه هو الأفصح الأكثر وقد التزمه بعض العرب وجعله لازما مع القرينة، وحينئذ يصح الوقف على ريب لتط م اللفظة والمعنى قال في المرشد: إن جعلت (لا ريب) بمعنى حقا، فالوقف عليه تامّ، ولا حاجة لتقدير فيه ولولاه كان قبيحاً، وقال الإمام: الأولى الوقف على فيه ليكون الكتاب نفسه هدى وقد ورد في آيات كثيرة وصفه بأنه نور أو هدى وفيه نظر، وهذا الوقف لنافع وعاصم، وقوله على أنّ فيه خبر هدى أي لفظ فيه المذكور وخبر لا فيه أخرى مقدرة. قوله:(وهدى نصب إلخ) ذو الحال ذلك أو الكتاب والعامل على كلا التقديرين اسم الإشارة، ويجوز أن ويكون حالاً من الضمير المجرور في فيه والعامل ما في الظرف من معنى الفعل، وجعل المصدر حالاً على الأوجه المشهورة في أمثاله، وإذا كان العامل فيه ما في هذا من معنى الإشارة فاتحاد عامل الحال وذيها على اشتراطه موجود فيه، وسيأتي إن شاء الله تحقيقه في قوله تعالى:{هَذَا بَعْلِي شَيْخًا} [هود: 72] فلا نطيل الكلام بذكره. قوله: (وأن يكون ذلك مبتدأ إلخ) وصف الكتاب بالكامل إيماء إلى أن المقصود من حصر الجنس حصر الكمال، وإلا لم يصح أي لأنه لكماله في بابه ونقصان ما سواه يستحق دون غيره أن يسمى كتابا، كأنه الجنس كله نحو هو الرجل، وهم القوم، وقد مرّ تحقيقه في تقديم الخبر، وأمّا لزوم نقصان غيره من الكتب السماوية فدفع بأنه لعدم الإعجاز، أو استكمال الأحكام الشرعية، ونقصان الفاضل عن الأفضل لا يخرجه عن كونه فاضلاً خصوصاً إذا اقتضى ذلك حكما ومصالح بخلاف الريب، وهو التردّد في أنها من عند الله
فإنه لا يليق، وقد مرّ وجه آخر فتذكره، وإنما لم يقدم هذا على قوله ولا ريب، وينظمه في سلك الوجهين السابقين، لأنهما يعمان الاحتمالات، وهذا خاص بما إذا أريد بألم القرآن كما تنطق به عبارته، وفصله وقيل: إنه أخره إيماء إلى ضعفه، لأنّ ألم إذا كان اسما للسورة، وذلك إشارة إليها كان حصر الكمال فيها إثباتاً للنقصان في سائر السور، فإنها المقابلة لها دون الكتب السالفة، فأما ملاحظة الحصر في السورة باعتبار قرآنيتها لا خصوص كونها سورة، وأن يراد بالسورة القرآن مجازاً، فخلاف الظاهر، ويستأهل بمعنى يصير أهلا المراد به يستحق كما مرّ تفصيله، ولك أن تقول أخره لأنّ ما يليه مبني عليه. قوله:(والأولى أن يقال إلخ) متناسقة بمعنى متناسبة مرتبطة بدون عاطف من نسقت الدر إذا نظمته، ومنه عطف النسق ففي قوله متناسقة إيهام نسق العطف وليس بمراد لأن اللاحقة تقرّر ألسابقة وتؤكدها، ولما بين المؤكد والمؤكد من الاتصال لا يعطف أحدهما على الآخر كما اتفق عليه
أهل المعاني، وإن صرّح النحاة بخلافه في نحو {كَلَّا سَيَعْلَمُونَ ثُمَّ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ} [النبأ: 4- 5] كما سيأتي، ولما ذكر ما ذكره من الإعراب الناظر للمفردات، وكان المتبادر منه أنها جملة واحدة، أو في حكمها كما سيظهر للنظر الصادق فيما قدمه أشار إلى أنه لا يليق بجزالة البلاغة، وفخامة المعنى، ومقتضاها أن تجعل جملاً متعددة، فبين ذلك بوجهين وقال فالم إلخ، بالفاء التفصيلية. قوله:(جملة دلت إلخ (كونه جملة اصطلاحية حقيقة إن قدّر خبراً أو مبتدأ، وجعل علما، فإن أريد به طائفة من الحروف للإيقاظ، وأولت بما مرّ فهي في حكم ذلك إن قلنا لها محل من الإعراب، فإن لم نقل به لا يتأتى ما ذكر وإليه أشار بقوله على أنّ المتحدي به هو المؤلف وفي الكشاف نبه على أنه أي (ألم) الكلام المتحدّى به فجعل ألم هو المبتدأ والمتحدي به خبره المقدر والمصنف عكسه، ففيل في وجهه إنه نظر إلى أنّ اتصاف الكتاب بأنه المتحدى به معلوم مكشوف دون اتصافه بأنه المؤلف من جنس ما يركبون منه كلامهم، ولا يخفى ما فيه، فإنّ كونه مؤلفاً من جنس الحروف لا غطاء عليه حتى يكشف بل الظاهر أنه غير مفيد فائدة تامة لظهوره، فلذا أخبر عنه بما ذكر ليجدي، وهذا اظاهر محلى إرادة الحروف، وعلى العلمية لإشعارها بذلك كما مرّ، ولم يلتفت لبقية الأقوال لضعفها عنده. قوله:(مقرّرة لجهة التحدي إلخ) بأنه متعلق بقوله مقرّرة، واتصافه بغاية الكمال في لفظه، ومعناه فهو هاد بالمعنى، والعبارة بخلاف غيره من الكتب، فلا يقال: كيف يفضل بكماله في التحدي على غيره من الكتب ولا إعجاز لها، وفي شرح التلخيص معنى ذلك الكتاب أنه الكامل في الهداية لأنّ الكتب السماوية إنما تتفاوت بحسنها لا غير، فإن قلت: قد تتفاوت الكتب بجزالة النظم وبلاغته كالقرآن الفائق على جميع الكتب بإعجاز نظمه فلت: هذا داخل في الهداية لأنه إرشاد إلى التصديق به ودليل عليه.
(أقول) الحروف المقطعة دالة على الأعجاز الدال على أنه ليس من صنيع البشر بل من
كلام خالق القوى والقدر على ما مرّ وهو المراد بجهة التحدي هنا، فالمقرّر المؤكد له هو كونه هاديا لجميع العباد لخيري المعاس والمعاد، فإنه مقتض أيضا لأنه أمر إلهي، فلا حاجة لإدخال الإعجاز فيما تدل عليه الجملة الثانية بل لا وجه له إذ هو مع أنه كالمصادرة غير مثترك بين الكتب، فلا يلتفت لما قيل في بعض حواشي المطوّل من أنه كلام على السند الأخص، وأن كون البلاغة سبباً في نفسها مما لا يمكق إنكاره غاية الأمر أنه صار سببا لكمال آخر هو الهداية انتهى، وفي نسخ القاضي هنا اختلاف بالزيادة والنقصان. قوله:) ثم سجل إلخ) أي قرّره وأثبته، وفسره الشريف رحمه الله بحكم به حكماً قطعيا ويقال سجل مشددا
وأسجل قال المعري:
طويت الصبا في السجل وزادني ~ زمان له بالشيب حكم وأسجال
وفي شرح مقامات الزمخشريّ له يقال سجل عليه بكذا إذا شهره كأنه كتب به عليه سجلاً
اهـ. فهو استعارة للتشهير والنداء والمصنف رحمه الله استعاره للإثبات وهو قريب منه ولا حجر في المجاز وتعديه بعلى وبالباء ووجهه يعلم مما مرّ أي أظهر كماله بنفي الريب عنه فإن المعجز المرتدي بالكمال لا يرتاب فيه عاقل، وعطف هذا بثم لما بينهما من التفاوت الرتبي فإنّ ما قبله دال على الإعجاز وبلوغ غاية الكمال، وهما صفتان جليلتان
لازمتان له وهذا نفي للريب وإثبات للحقيقة، وبينهما بون بعيد. قوله:(لأنه لا كمال أعلى إلخ) في الكشاف لا كمال أكمل مما للحق واليقين، ولا نقص أنقص مما للباطل والشبهة، وقيل لبعض العلماء فيم لذتك فقال في حجة تتبختر اتضاحا، وفي شبهة تتضاءل افتضاحا وقوله لا يحوم الشك حوله مبالغة في كونه يقينا لا تعتريه شبهة أصلاً لأنه إذا نفى قربه منه علم نفيه عنه بالطريق الأولى، ويحوم مضارع حام الطائر حول الماء إذا دار به، وفي الحديث:" من حام حول الحمى يوشك أن يقع فيه " أي من قارب المعاصي ودنا منها قرب وقوعه فيها وهذه استعارة مكنية بتشبيه اليقين بعين عذبة والشك بطائر يريد الشرب منه، ولا يصل إليه، واثبات الحومان تخييل أو هو استعارة تمثيلية وقيل هو كناية كقوله:
فما جازه جود ولا حل دونه ~ ولكن يصير الجود حيث يصير
فيفيد مبالغة مأخوذة من جعله نفس الهدى.
وأعلم أنّ المصنف تبعاً للزمخشريّ ذكر أنّ هنا جملاً أربعا كل منها مؤكد لما قبله والسكاكي خالفه في ذلك بعدما وافقه في أصل التأكيد، فقال: إنّ بعضها منزل منزلة التأكيد المعنوي لاختلاف معناهما، وبعضها منزلة التأكيد اللفظي لاتحاده، فلا ريب بالنسبة إلى ذلك الكتاب بمنزلة التأكيد المعنوي ولما بولغ في وصف الكتاب بأنه بلغ أقصى الكمال بجعل المبتدأ ذلك، وتعريف الخبر باللام الجنسية المفيد للحصر حقيقة أو ادعاء، أفاد أنّ ما سواه ناقص، وأنه المستحق لأن يسمى كتابا فجاز أن يتوهم أنه رمي به جزء مّا، فاتبع ذلك الكتاب بلا ريب فيه، لنفي ذلك التوهم ووزانه وزان نفسه و {هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ} معناه إن ذلك الكتاب بلغ في الهداية درجة لا يدرك كنهها، فهو كزيد زيد إلخ ما فصلى في شروحه وحواشيه، وقال قدس سرّه: لا إشكال فيما سلكه الزمخشريّ، ومن تابعه وما في المفتاح، وكتب المعاني يتجه عليه
أنّ الأنسب أن يعطف هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ على لا ريب فيه لاشتراكهما في أنهما تأكيد لذلك الكتاب عندهم ولا امتناع فيه إنما الممتنع عطف التوكيد على المؤكد لا عطف أحد التأكيدين على الآخر والتفصي عنه أن يقال لما كان لا ريب فيه مؤكداً للجملة الأولى اتحد بها، فالجملة السابقة التي يتوهم العطف عليها هي ذلك الكتاب معتبرا معه ما هو من تتمته، واليه أشار في المفتاح.
(أقول) قد استحسن هذا بعض الفضلاء، وقال: إنه يظهر منه وجه عدم العطف في نحو
قوله تعالى: {فَسَجَدَ الْمَلآئِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ} [الحجر: 30] مع اتحاد كلهم وأجمعون في التأكيد به للملائكة، وليس الاستحسان بحسن فإنّ التأكيد إذا تعدد سواء كان من نوع أو لا لا يصح عطفه إذ لم يسمع، ولم يقل به أحد من النحاة ثم إنه قيل عليه أنه يقتضي أن يكون من أسباب الفصل كون الثانية مؤكدة لما أكد بالجملة الأولى، ولو قيل أنه لم يعطف على لا ريب فيه لئلا يتوهم عطفه على ذلك الكتاب جاز، وهو أحسن مما ذكره السيد وأقرب ولا يلزمه اختراع سبب آخر للفصل، ثم إنه قيل إنّ سبب عدول صاحب المفتاح عما في الكشاف أنه لا يجوز أن يكون للتأكيد تأكيد في المفرد المقيس عليه، وان ترك العطف فيما اختاره لأنّ بين اللفظي والمعنوي مباينة تقتضي الفصل، وأنه لا يصح العطف على أمر هو من تتمة أمر آخر، ولا يخفى أنه يرد عليه أنه مخالف لذلك أيضاً في الجملة الأولى، وفي تقديم التأكيد المعنوي على اللفظي، والمعروف خلافه، وقد وجه بما تركه أحسن من ذكره، فالحق أنّ ما ينزل منزلة الشيء لا يلزم أن يكون مثله من جميع الوجوه وما استصعبوه أهون من أن يستصعب فافهم ترشد. قوله:(أو تستتبع كل واحدة إلخ) هذا معطوف على قوله تقرّر اللاحقة منها السابقة. وقوله: (استتباع) بالنصب مفعول مطلق وعامله تستتبع، وهو إمّا نوعي أو تشبيهي كخبط خبط عشواء لأنّ الاستتباع طلب التبعية، والمراد به الاستلزام، وهو على ضروب منها استلزام الدليل لمدلوله أو المراد ما يقرب منه، ويشبهه لما بينهما من التلازم لاستلزام الإعجاز غاية الكمال، وغاية كمال الكلام البليغ ببعده من الريب والشبه لظهور حقيقته، وذلك مقتض لهدايته، وإرشاده فإن نظر إلى اتحاد المعاني بحسب المآل كان الثاني مقرّرا للأوّل، فيترك عطفه وهو الوجه الأوّل، وان نظر لأنّ الأوّل مقتض لما بعده للزومه له بعد التأمّل الصادق، فالأوّل لاستلزامه لما يليه، وكونه في قوّته بجعله منزلاً منه منزلة
بدل الاشتمال لما بينهما من الملابسة، والملازمة فوازنه وزان حسنها في أعجبتني الجارية حسنها، فيترك العطف لشدّة الاتصال، كما قرّره أهل المعاني في قوله:
أقول له ارحل لا تقيمن عندنا
وهذا مراد المصنف رحمه لملا لا أنّ الثاني مترتب على الأوّل ترتب المدلول على الدليل، كما توهموه لقصور النظر، فورد عليهم أنّ المعروف في مثله اقتران الثاني بالفاء التفريعية كما عقال العالم متغير وكل متغير حادث، فالعالم حادث وهى وإن لم تكن عاطفة فهي أداة وصل كواو الحال، لأنّ المعتبر عندهم في مثله كونه عاطفا بحسب الأصل والصورة، فدفع بأنّ الظاهر أنه من القسم ااثانن من الاستئناف البياني، وهو أن يكون جوابا عن سؤال عن غير السبب المطلق والخاص، كأنه لما قيل إنه متحدي به مع أنه من جنس كلامكم قيل: فما يلزم من هذا قال إنه يكون هو الكامل دون غيره، وهكذا يقدر فيما بعده إلى أن ينتهي السؤال وينقطع الجواب، ولا يخفى أنه ليس في كلامه ما يدل على ما ذكره وإنما يريد أنه لكون الجملة الثانية معناها لازم للأولى حتى كأنه مستفاد منها اقتضى ترك العطف، كما عرفته آنفا، ولم ينظر إلى تفريعه عليه حتى يقال أيضاً: إنّ الظاهر الفاء، كما في قوله ضرب فانفجرت، وقيل: إن نكتة الفصل على هذا أنّ اللاحق نتيجة السابق، فبينهما كمال الاتصال ففي هذا الوجه كل سابق مقرّر للاحق على عكس التوجيه السابق، وهو لطيف جداً إلا أنا لم نعثر عليه في كلام القوم، والمطابقة لقواعدهم جعل اللاحق مقرّراً للسابق، لأنه لكونه نتجا له متضمنا له، فذكره يتضمن ذكره والفصل على هذا الوجه، لكون اللاحقة مقرّرة للسابقة، فان قلت لم يعهد ذكر النتيجة بلا رابطة فحسن هذا التوجيه، وقبوله يتوقف على استغناء النتيجة عن الرابطة نعم لا تعطف النتيجة، لكن تربط بحرف التعقيب أوالتفريع فقد أحوجه هذا الوجه إلى نكتة ترك حرف التفريع بل إلى وجه صحته قلت: إذا قصد الاستدلال والاستنتاج، فلا بدّ من حرف التفريع، ولم يقصد هتا بل قصد الإخبار بكل جملة استقلالاً إلا أنه كان كل لاحق نتيجة للسابق، فلهذا لم يحسن العطف لعدم صحة عطف النتيجة على الدليل ولما لم يقصد الاستدلال لم يكن لإيراد حرف التفريع معنى اهـ. ولا يخفى ما فيه من الخبط، والخلط فعليك بض النواجذ على ما قدمناه والمراد بالاستتباع هنا الاستلزام كما مرّ، وفي اصطلاح أهل البديع أن يساق الكلام لمدح ونحوه ثم يلوّح ب لمعان أخر كما في قوله:
نهبت من الأعمارما لو حويته ~ لهنئت الدنيا بأنك خالد
وهو قريب منه، ويتشبث بمعنى يتعلق وهو استعارة هنا، ولا محالة بفتح الميم والبناء
على الفتح بمعنى لا بد. قوله: (وفي كل واحدة منها إلخ) يعني أنّ هذه الجمل المتناسقة مع ما تضمنته من الفوائد الجمة في نظمها بدائع أخر، والنكتة الدقيقة اللطيفة معنوية كانت أو لفظية، والمراد الثانية وأصلها من نكت في الأرض بقضيب ونحوه يؤثر فيها، والجزالة مصدر جزل الحطب بالضم إذا عظم وغلظ فهو جزل، ثم استعير في العطاء فقيل أجزل له العطاء إذا وسعه وفي الرأي، فيقال: رأي جزل أي قويّ محكم ومنه ما هنا. وقوله: (ففي الأولى) أي الجملة
الأولى وهي ألم على تقدير التقدير هذه ألم إن جعلت اسماً للسورة، أو أولت نكتة، وهي ما يقتضيه الحذف، وهو من الإيجاز المستحسن، وجعله نفسه نكتة تسمحا والرمز الإشارة الخفية إلى إعجازه لتحديهم بما هو من جنس كلامهم وأصله الإشارة بالشفة أو الحاجب، وهو في الاصطلاح كناية مخصوصة، وهو المراد والمقصود هر التحدي، والتعليل هو أنهم إنما عجزوا عنه لأنه كلام الله، وليس هذا التعليل البديعي المسمى بحسن التعليل، لأنهم اشترطوا فيه أن لا يكون علة في الواقع بل أمر تخييليّ ادعائي كما في قول ابن الرومي:
رأيت خضاب المرء بعد مشيبه ~ حدادا على شرخ الشيبة يلبس
والجملة الثانية ذلك الكتاب، وفخامة التعريف الجنسي لإفادته للحصر لكماله، كما مرّ وإيهام الباطل في الثالثة، وهو كون غيره من الكتب السماوية محلاً للويب وهي منؤهة عنه كما هو مسلك السكاكي، فإن حملت قوله فيما مضى لأنه لم يقصد تخصيص نفي الريب بة على هذا، فالأمر ظاهر، والاً فلما كان فيه وجثان بين أحدهما فيما مضى، والآخر هنا استيفاء للنكات، وقيل: المراد بإيهام الباطل إيهام ما ليس بمقصود، وكل ما ليس بمقصود
باطل أو إبهام الريب في كتب الله أو في بعض الصور وهو باطل، وهذا هو الحامل على الوجه الأوّل لئلا يخالف ما مرّ، ومن لم يتنبه لهذا فسر. بالثاني، وفسر السابق بما مرّ، ولك أن تقول ما نحاه الزمخشريّ هو المقصود الأعظم من النظم، وما نحاه السكاكي دفعا لما يوهمه عرض الكلام، فلا منافاة بينهما وأمر الرابعة ظاهر. قوله:(وتخصيص الهدى بالمتقين إلخ) معطوف على قوله الحذف، فهو من جملة نكات الرابعة والاستئناف فيه بعيد وهذا لا ينافي قوله: وفي كل واحدة منها نكتة بالتوحيد لتعدد لنكات في كل واحدة منها، لأنه جعل مجموع ما في كل واحد واحداً لتعلقه بأمر واحد، وقيل: المعنى أنّ شيئا من تلك الجمل لا يخلو عن نكتة واحدة البتة، وهو لا ينافي الزيادة والمراد بالغاية غاية الهدى وفائدته، وهو الانتفاع به كما مر وقيل المراد بالغاية المآل ومجاز الصيرورة كتسمية العصير خمراً والفرق بينه وبين المشارفة أن مجاز الأول إن حصل على الفور نحو: من قتل قتيلاً فهو مجاز المشارفة، وإن كان بعد زمان فهو مجاز الصيرورة، فمآل الوجهين إلى أنّ المتقي مهتد لكنه علق به الهدى باعتبار المآل مشارفة، أو صيرورة إلا أنه كان الظاهر حينئذ العطف بأو دون الواو، وكونها بمعنى أو بعيد، قيل هما وجه واحد وإنّ قوله باعتبار الغاية بيان لعلاقة المجاز لشموله الصيرورة والمشارفة وتسمية إلخ بيان صنفها، وقيل: إنه حقيقة عنده والمجاز على تقدير حمل المتقين على الدرجة الثالثة للتقوى، لأنه يتقي بذلك الهدى، وقيل أوّله بناء على أنه حقيقة وما بعده مجاز فتدبر. قوله:(إيجازاً وتفخيماً إلخ) مع ما فيه من حسن المطلع بتصدير سنام القرآن، وأولى الزهراوين
بأشرف عبارة وعبادة، والإيجاز لأنّ أصله الضالين الصائرين للتقوى، وهذه نكتة تجري في كل مجاز، وقيل لأنّ أصله ينفع هداه ولا وجه له، وضمير لشانه للهدى تعظيما له بأنه لا يليق أن يشد إلا إلى أشرف المخلوقين، ومنهم من أرجعه للمتقي بمعنى من هو بصدد التقوى لمدحه وجعله، كأنه متق بالفعل، ولا يرد عليه أنه لا يليق حينئذ إجراء الذين يؤمنون إلخ عليه لأنّ من هو بصدده نزل منزلة المتصف بالفعل مع أن يؤمنون وما بعده مستقبل وفي بعض شروح الكشاف البحث عن مناسبة الكلم المفرد، وان كان أرسخ في البلاغة إلا أنّ ملاحظة الإرتباط فيما بين الجمل أدق، وألطف لأنها في الأغلب بين الجمل باعتبار المعاني العقلية، وفي المفردات باعتبار المعاني الوضعية، ولا شك أنّ الأولى ألطف، وأخفى وهذا منه بناء على أنّ أحكام الفصل، والوصل تجري في المفردات، كما صرّح به عبد القاهر وأن تبادر من كتب المعاني خلافه فتأمّل. قوله:(أمّا موصول بالمتقين إلخ) ذكر فيه وجوها معلومة من كلامه، والذين يحتمل الرفع والنصب والجرّ على أنه نعت تابع للمتقين، وجوز فيه البدل وعطف البيان، والرفع والنصب على القطع المدحي بتقديرهم، أو أعني ونحوه والابتداء على الاستئناف وأولئك خبره، ثم إنّ الوصف يذكو لأمور كالكشف والتعريف وذلك إذا اتحد مفهومه بمفهوم الموصوف، كالجسم الطويل العريض العميق متحيز، والتمييز إذا كان مفهومها غير مفهوم الموصوف نحو زيد التاجر عندنا، والمدح كما في صفات الباري الذي لا يخفى على أحد ولا يشاركه شيء فيميز عنه، وقد يقصد مدح الصفة نفسها، والدلالة على أنها خصت بالذكر، لأنها أشرف من سائر الصفات كما سيأتي، وفرقوا بين المدح صفة والمدح اختصاصاً بأنّ الوصف في الأوّل أصل، والمدح تبع والثاني بالعكس، وبأنّ المقصود الأصلي من الأوّل إظهار كمال الممدوح، والاستلذاذ بذكره ومن الثاني إظهار أنّ تلك الصفة أحق باستقلال المدح من غيرها إمّا مطلقا أو بحسب المقام، والمصنف قسمها إلى مقيدة وهي ما أفادت قيداً، ومعنى لا يفهم من الموصوف وموضحة وهي بخلافها ومادحة وهي ما لا يقصد به التقييد، ولا الإيضاح وقدم الأولى لأنها الأصل الأغلب. وقوله:(موصول) أي متصل معنى يدخل فيه النعت المقطوع لأنه تابع حقيقة ومعنى، وإن خرج صورة بخلاف المستأنف، وفي تعبيره بالموصول هنا لطافة لا تخفى لما فيه من التورية. قوله:(إن فسر التقوى إلخ) قد مرّ أنّ للتقوى معنى لغويا وهو الصيانة أو فرطها وشرعيا، وله مراتب مرّ تحقيقها، وما ذكر هنا خارج عنها بحسب الظاهر، فأمّا أن يكون معنى آخر عرفياً لها، كما ذهب إليه العلامة في شرح الكشاف، والمراد بالعرف فيه عرف أهل اللغة، أو العرف العام
لا عرف الشرع حتى يعود الاستشكال، أو يقال هو من الشرعي، وان لم يكن داخلاً في قسم من الأقسام السابقة على التعيين لأنّ المقصود من تلك المراتب بيان حدّها الأدنى والأوسط والأعلى، فلا ينافي أن يكون بينها مراتب أخر مركبة أو مفردة منها، فسقط ما قيل من أنه إن حمل هذا على المرتبة الأولى،
فالصفة مقيدة باعتبار الصلاة فيما بعدها، لكن لا يتعين فيه ترتيب التحلية على التخلية لأنّ الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر، فتقتضي اجتناب المنكرات كلها وهي تحلية أيضاً إلا أن يتكفف وان حمل على المرتبتين الأخيرتين فليست بمقيدة، أو هو لغويّ، لأنّ التقوى في اللغة الاحتراز، وأورد عليه أنّ المراد هنا احتراز خاص فلا يكون حقيقة لغوية، ولذا قيل إنها مقيدة إن فسرت التقوى بما يناسب معناها اللغوي الذي هو الاجتناب أعني ترك ما لا ينبغي شرعاً من المعاصي والمنهيات، ولا يخفى أنه مع ما فيه لا يجدي نفعاً، كالقول بأنه نوع من اللغوي خص لاقتضاء المقام له، والحق اًنّ هذا معنى حقيقي شرعي، أو لغوي كما في الكشف، وهو الأظهر ولا يرد عليه ما مرّ، لأنه إنما يكون كذلك إذا لم يخص بتعريف بأل، أو إضافة وأمّا في ذلك، فلا مرية في أنه معنى حقيقي فرجل وغلام عام أو مطلق لو أريد به زيد وعمرو كان مجازا، ولو قيل الرجل والغلام بالتعريف العهدي وأريد ذلك، فلا وهو أشهر من أن يذكر، والمراد بالمتقي هنا من يتجنب القبائح والمنهيات سواء امتثل لأوامر وأتى بالحسنات أم لا، فالصفة مخصصة كزيد التاجر لدلالتها على ما هو خارج عن معنى الموصوف فإن قيل اجتناب المعاصي لا يتصوّر بدون فعل الطاعات لأنّ ترك الطاعة معصية، كما قال تعالى:{لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ} [التحريم: 6] قيل إن مبنى هذا على أنّ المعصية فعل ما نهى الله عنه وأنّ الترك ليس بفعل، وقيل المراد بالمعاصي ما تعلق به صريح النهي، وترك المأمور به منهي عنه ضممناً، وأورد عليه أنّ الأوّل ضعيف لأن السائل استدل على أن ترك الطاعة معصية بآية {لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ} [التحريم: 6] فلا يدفعه مجرّد أن يقال إنّ المعصية مخصوصة بغير الترك على أن ترك الطاعة بمعنى الكف عنها مما يعاقب عليه، فيكون حراما والكف عن المعصية مما يثاب عليه فيكون واجبا كما تقرّر في الأصول، ويلزم الثاني أن لا تبطل التقوى بارتكاب المنهيات الضمنية المستفادة بإشارة النص أو الاقتضاء، والدلالة وليس كذلك مع أنه يختل بالواجب الذي وقع الوعيد على تركه صريحا فإنه يدخل هذا الترك في المعصية، وبالجملة لا يظهر تخصيص التقوى بما يتعلق صريح النهي به، فإنها الاحتراز عن المعصية مطلقا، وليس بوارد، لأنه ليس الكلام في أنّ هذه الأمور معصية، وان ترك المنهيات، والمعاصي مطلقاً تقوى إنما الكلام في أنها داخلة في مفهوم هذه التقوى أم لا وعلى الثاني، فلزوم اجتنابها مفهوم من الصفة المقيدة، وعلى كل حال فلا بدّ من اجتنابها، ولكن هل يؤخذ هذا من الموصوف، أو من الصفة وعلى كل لا محذور فيه حتى يرد على ما أورده. قوله:(بترك ما لا ينبغي الخ) ينبغي مطاوع بغاه يبغيه إذا طلبه، ويكون لا ينبغي بمعنى لا يصح، ولا يجوز وبمعنى لا يحسن، وهو بهذا المعنى غير متصرف لم يسمع من العرب إلا مضارعه، كما في قوله تعالى:{لَا الشَّمْسُ يَنبَغِي لَهَا أَن تُدْرِكَ الْقَمَرَ} [يس: 40] وقد قيل إنه يدخل فيه ترك الكفر، وترك العقائد الفاسدة، وجميع المناهي والإخلال بالأعمال الصالحة،
وترك الكفر عين الإيمان، وإلا لزم ثبوت المنزلة بين المنزلتين، وأمّا دخول جميع الأعمال فقد مرّ مع جوابه، ومن تخلى عما ذكر يجوز تحليه بالطاعات وعدم تحليه بها فلهذا كانت هذه الصفة على هذا مقيدة وقد علم مما مرّ أنه مما ينبغي فكان عليه أن يقتصر على المناهي فافهم ترشد.
(تنبيه في فائدة مهمة) قال الآمدي رحمه الله في ابكار الأفكار: الترك في اللغة يطلق على
عدم الفعل يقال ترك كذا إذا لم يفعله سواء تعرّض لضده أم لا، سواء كان له قصد أم لا كالنائم والغافل، ولا مانع منه لغة وخالفه بعض المتكلمين فشرط أن يكون الفعل مقدوراً له في العادة، فلا يقال ترك خلق الأجسام، وقد يطلق الترك على مقدور مضاف لمقدور آخر عادة نحو ترك الحركة بالسكون وعكسه وعلى هذا إن أوجبنا ربط الثواب، والعقاب بالأفعال، فلا يكون مرتبطا بالترك بمعنى عدم الفعل بالاصطلاح الأصولي، وان لم نوجب ارتباطه بالفعل بل جوزنا نصب العدم علامة على الثواب والعقاب، فلا مانع من ارتباطه بالترك بالمعنى اللغوي على كلا الاصطلاحين فيمتنع إطلاق ترك خلق العالم في الأزل
عليه تعالى إذ تحقق أنه في الأزل غير مقدور، ويخصى امتناع ذلك على الاصطلاح الأصولي إذ الترك لذلك فعل مضاف لخلق العالم، وتقدير فعل الله تعالى في الأزل اهـ ومنه علم أنّ الترك فيه خلاف هل هو عدم صرف أم لا، فليكن هذا على ذكر منك، فإنه ينفعك في مواضع كثيرة. قوله:(ترتب التحلية على التخلية) الترتب في كلام المصنفين التفرّع على الشيء، ووقوعه بعده مطلقا أو بحيث يكون الأوّل مقتضياً للثاني بسببية ونحوها، والذي في كتب اللغة رتب رتوباً إذا ثبت، ولم يتحرّك كترتب، فهذا مجاز يظهر وجه التجوّز فيه بالتأمّل، والتحلية الأولى بالحاء المهملة بمعنى التزين من الحلي، والثانية بخاء معجمة من الخلوّ والتفريغ هذا هو الصحيح رواية ودراية، لأنّ ما أريد تزييته، بنقش ونحوه ينظف ويفرغ، ثم يزين وما في بعض الحواشي من أنّ هذه تجلية بالجيم، وأنّ التجلية بالجيم داخلة في التخلية بالمعجمة، لأنه تنظيف الصدإ وما ضاهاه وفسرها بتصفية الباطن عن الكدورات ورذائل الأخلاق، والتوجه إليه تعالى فمن صقل باطنه تحلى بالصور الحقة الفائضة من المبدأ الفياض، وهو بالخاء المعجمة المرتبة الأولى، وهي تهذيب الظاهر عما لا ينبغي، والتصوير والتصقيل إشارة إلى مرتبة التجلية بالجيم، فتجتمع المراتب الثلاث اهـ تعسف نشأ من لفظ التصقيل لاتحاد الصفاء، والجلاء وإنما أراد المصنف تالتخلية ترك ما لا ينبغي، وبالتحلية فعل ما ينبغي، وهو معنى قول الإماء كمال السعادة لا يحصك إلا لترك ما لا ينبغي، وفعل ما ينبغي، فالترك هو التقوى، والفعل إمّا فعل القلب، وهو الإيمان أو فعل الجوارح، وهو الصلاة والزكاة، وقدم التقوى لأنّ القلب كاللوح ألقابل لنقوش العقائد الحقة، والأخلاق الفاضلة، واللوح يجب تطهيره أوّلا عن النقوش الفاسدة نتمكن إثبات النقوش الفاضلة، فلهذا قدم ترك ما لا ينبغي على فعل ما ينبغي اهـ فالتصوير والتصقيل بيان للتحلية،
والتخلية إلا أنا لم نر التفعيل من الصقل في كتب اللغة، ولا في كلام من يوثق به، وقد يقال: إنه للازدواج والمشاكلة، وقيل نقل لباب التفعيل ليفيد المبالغة. قوله:(أو موضحة إلخ) يجوز فيه تخفيف الضاد وتشديدها على أنه من الأفعال أو التفعيل، وهو مرفوع معطوف على قوله مقيدة، والضمير المستتر ثمة في إن فسر للتقوى وذكره نظرا للفظ أو الاتقاء وهذا هو المرتبة الثانية من المراتب الشرعية وفي الكشاف يحتمل أن ترد على طريق البيان والكشف، وهو مراد المصنف أيضاً إذ الموضح يطلق على مقابلة المخصمى، ولا يلزم فيه المساواة وعلى الكاشف الذي هو كالتعريف ولا بدّ فيه من المساواة تصريحاً أو تلويحا، وهو المراد هنا، كما في شروح الكشاف، فمن قال لا حاجة في كونه موضحاً إلى جعل الإيمان والصلاة والصدقة مشتملة على جميع العبادات، لأنه يكون أعم، والوصف بالأعم كالوصف بالمساوي يفيد التوضيح كزيد التاجر فقد غفل عن الفرق بين الاصطلاح واللغة، وفي شرح المفتاح الشريفي إن حمل المتقي على معناه الشرعي أعني الذي يفعل الواجبات بأسرها، وترك السيئات برمتها، فإن كان المخاطب جاهلَا بذلك المعنى كان الوصف كاشفاً وان كان عالماً كان مادحاً وان حمل على ما يقرب من معناه اللغوي كان مخصصاً. قوله:(لاشتماله على ما هو أصل الأعمال) ضمير اشتماله للوصف، وهذا جواب عن سؤال تقديره أنّ الصفة الموضحة كالتعريف فينبغي أن تستوفي الطاعات والاجتنابات كلها وتقريره ظاهر، وهذا معنى ما في الكشاف من قوله لاشتمالها على ما أسست عليه حال المتقين من فعل الحسنات وترك السيئات أمّا الفعل فقد انطوى تحت ذكر الإيمان الذي هو أساس الحسنات ومنصبها، وذكر الصلاة والصدقة لأنّ هاتين أمّا العبادات البدنية والمالية، وهما العيار على غيرهما إلا أنه قيل إنّ في الكشاف لطيفة خلا عنها كلام المصنف رحمه الله، وهي أنه جعل الإيمان أصل العبادة، وأساسها لتوقف صحتها عليه مع عدم انفكاكه عنها وجعل الصلاة والصدقة أمي العبادات البدنية، والمالية لا أساسها، فإنهما وان كانا أصلين لها لا يتوقف صحتها على صحتهما لعدم توقف الولد على الأم بقاء بخلاف الأساس، وهذه النكتة صاحب الكشاف أبو عذرتها وتبعه من بعده كالشريف في شرح المفتاح وغيره، وقيل: إنّ الإيمان بيان لأساس الحسنات، والصلاة والصدقة بيان للأصل بمعنى الأمّ على اللف والنشر غير المرتب، فهو مشتمل على تلك النكتة ولا
يخفى أنه خفيّ مشوّس، وعلى هذا فالأساس مغاير للاصل وعلى الأوّل هما بمعنى، ويؤيده قوله: فإنها أمّهات جمع أمّ، وهي يتجوّز بها عن المبدأ، والمتقدّم وعن المشتمل المحتوي لمشابهته لها في ذلك، وعن الأصل والمعزف لأنّ الشيء يعرف بأصله، ونسبه وعما يتوقف عليه الوجود، أو يضاهيه كالصحة، وهو المراد هنا وقال الطيبي رحمه الله: الأعمال إمّا قلبية: وأعظمها اعتقاد حقية التوحيد، والنبوّة والمعاد إذ لولاه كان كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء، أو بدنية:
وأصلها الصلاة لأنها الفارقة بين الكفر والإسلام، وهي عمود الدين والأمّ التي تتشعب منها سائر الخيرات، والمبرات أو مالية، وهي الإنفاق لوجه الله وهي التي إذا وجدت علم الثبات على الإيمان، والنفسانية نسبة للنفس على خلاف القياس كما يقال روحاني، وكثيراً ما يزاد في النسب ألف ونون للمبالغة أو الفرق، والأعمال جمع عمل، وهو الفعل الصادر بالقصد فلذا لا ينسب للجماد والغالب فيه استعماله في أفعال الجوارح الظاهرة وقد يطلق على غيرها كما هنا. قوله:(المستتبعة لسائر الطاعات) الاستتباع هنا بمعنى اللزوم العرفي المقتضي لوقوع غيره تبعا له كالفروع للأصول وهذا بيان لاشتماله على جميع العبادات قلبياً وقالبياً فعلاً وتركا حتى يتم كونه كاشفاً ومحددا لموصوفه، وقيل لأنه كناية عن فعل جميع الحسنات، وترك جميع السيئات كما قرّروه، وقيل: في ذكر هاتين العبادتين وجعلهما دليلاً فائدتان الاختصار والإفصاح عن فضلهما بانهما أصلان تبعهما ما سواهما، فلا حاجة إلى ذكره معهما فسائر العبادات مفهومة تبعا لا داخلة فيما استعمل فيه اللفظ، وكذا ترك السيئات ومنهم من زعم أنه كناية وحينئذ تكون الطاعات بأسرها مذكورة بلفظ بعضها، فلا ينحصر المذكور فيما هو عنوان لها، وهو مخالف لما يتبادر من عبارة الكشاف ولا حاجة إليه فإنّ المعاني التبعية لم تستعمل فيها الألفاظ، وليست أيضا أجزاء لما استعملت هي فيها وردّ بأنّ اعتبار الكناية غير مناف لما ذكره المصنف من أنّ المذكور في الآية، كالعنوان لسائر العبادات، فتجرّها وتستتبعها فإن ذلك بالنظر إلى أصل الوضع والمعنى المكنى عنه (لا يقال الا حاجة إلى اعتبار الكناية، فيكفي فهم سائر العبادات تبعاً بلا استعمال (لأنا نقول الا يخفى أنّ الكشف عن مفهوم المتقين يحصل بجميع الصفات بلا مزية لبعض على الباقي في ذلك الكشف، وان كان بعضها أكمل في نفسه من سائرها، وهذا البعض يستلزم الباقي في الوياقع، ولا يخفى إنّ المتبادر من الاستتباع اللزوم وليس بمجاز فيكون كناية، وكلامه لا ينافيه لأنه كالعنوان لا عنوان فلا حاجة لتأويله بما ذكره، وكلامه قدس سرّه مبني على دلالة الكلام بغير الطرق الثلاثة الحقيقة، والمجاز والكناية وسيأتي ما فيه ومن هنا علم حال ما قيل من أنّ ذكر الصلاة، والزكاة من باب إطلاق البعض على الكل وشرط مثله من المجاز إيراد أشرف ما في ذلك الشيء لأنّ معظم الشيء وجله ينزل منزلة كله لتضمن هذا المعنى أفضلية هاتين العبادتين، ولهذا قال مع ما في ذلك من الإفصاح عن فضل هاتين أي لزم من ذلك هذا على سبيل الادماج، وامنا على الثاني، فلم يذكر المذكورات لاستجلاب الغير بل هي المرادة أوّلاً وإنما ترجح ذكرها لفضلها على غيرها اهـ وعبر بالصدقة ليعمّ الزكاة وغيرها. وقوله: (غالباً) قيد للمستتبعة للأمرين، فإنّ استتباع الأصول للبواقي ليس أمراً كلياً تحقيقيا، كما لا يخفى. قوله:(ألا ترى إلى قوله تعالى إلخ) هو بيان لاستتباع التجنب وقدمه وان كان المبين به مؤخراً، لظهور دلالته على ما قصد، ولشرف الآية-- اد الحديث وفيه إيماء إلى ضعفه كما سيأتي وسيأتي معنى
الآية في محلها. وقوله: (الصلاة عماد الدين (1) إلخ) بيان لاستتباع سائر الطاعات، ففيه لف ونشر غير مرتب، وليس هذا حديثاً واحدا، وان أوهمه كلام المصنف لا بل حديثان، وقال الإمام النوويّ في شرح الوسيط: إنّ الأوّل حديث منكر باطل وقال ابن حجر ليس كذلك فقد أخرجه أبو نعيم عن بلال بن يحيى مرفوعاً، وهو مرسل وسنده رجال ثقات إلا أنّ لفظه " الصلاة عمود الدين) وأخرجه بلفظ " الصلاة عماد الدين " البيهقي في شعب الإيمان عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه مرفوعاً بسند فيه انقطاع، وقال الحافظ العراقي: أخرجه الديلمي أيضاً في الفردوس عن عليّ بن أبي طالب رضي الله عته، وفي معناه حديث الترمذي عن معاذ بن جبل رضي الله عنه
" رأس الأمر الإصلام وعموده الصلاة "(2) وأمّا حديث " الزكاة قنطرة الإسلام "(3 (فأخرجه الطبراني في الكبير والبيهقي في شعب الإيمان عن أبي الدرداء رضي الله عنه مرفوعاً بسند ضعيف، والعماد الدعامة من عمدت الحائط إذا دعمته والعمود معروف والقنطرة الجسر، وما ارتفع من الأرض وفي كتب الفقه أنّ الجسر ما يوضع ويرفع، والقنطرة ما يحكم كما في فتاوى قاضيخان، فكأنه معنى عرفيّ عندهم والدين الشريعة والإسلام، والإيمان متقاربان والكلام عليهما مفصل في الكتب الكلامية، وكون " الصلاة عماد الدين على التشبيه أو الاستعارة لأنها أشرف أعماله التي لا تسقط فرضيتها إلا نادراً) الزكاة قنطرة لأنّ مؤدّيها طهر ماله ونفسه وبين خلوصه، والقنطرة كالجسر يستعار للموصل كما قال أبو تمام:
لا يطمع المرء أن يجتاب لجته ~ بالقول ما لم يكن جسراً له العمل
فإن قلت: وقع في الحديث الصحيح المشهور " بني الإسلام على خمس " وعدّ منها الزكاة
فيه، فجعلت ثمة عمادا داخلة وهنا قنطرة خارجة عنه فما النكتة فيه قلت: هو تجوّز لا حجر فيه، فمن حيث أنها من شعائر الإسلام تعدّ ركنا منه ومن حيث أنّ المال بصرفه يجعل بازله داخلاً في الإسلام تعد قنطرة أو ذاك باعتبار من رسخ إصلامه وقدم، وهذا باعتبار من حدث إيمانه فتأمّل. قوله:(أو مسوقة للمدح بما تضمته) أي المتقون وفي نسخة أو مادحة بما تضمنه، والمعنى واحد وهو معطوف على مقيدة أو موضحة، وترك كونها مؤكدة كنفخة واحدة لأنّ التاسيس أولى لا سيما إذا اشمل على نكتة. وقوله:(وتخصيص الإيمان إلخ) إشارة إلى جواب سؤال تقديره لم اختص المدح بهذه دون غيرها مما تضمنه. وقوله: (إظهار) أقحم لفظ الإظهار الحماء إلى أنها في الواقع كذلك، وأنّ في الوجه الأوّل إشارة إليه أيضا، وإنما الفرق بينهما بالقصد وعدمه، فلا يقال إنه يجوز جعل وجه التخصيص ما مرّ من كونها أمهات وأصولاً، مع أنه مناسب للاستتباع دون المدح كما لا يخفى وقيل إنّ في قوله مسوقة إشارة إلى أنه أقل من أخوبه، ولذا أخر. لأنّ لفظ السوق يشعر بأنه لا يفيده بنفسه ولذا غير الأسلوب. وأعلم أنّ من الناس من قال: إنّ كون الذين يؤمنون مادحاً إنما يحسن إذا حمل المتقين
على حقيقته دون المشارفة إذ ليس الإيمان، وما بعده حاصلَا للضالين الصائرين للتقوى فجعل الصفة كاشفة إذا أريد بالتقوى ما في المرتبة الثانية، وجعلها مخصصة على الأولى وإذا جعلت مادحة فالمراد ما هو في المرتبة الثالثة. وقيل: إن كان المخاطب جاهلَا بالمعنى فالصفة موضحة والاً فهي مادحة، وفيه ما فيه كما سيأتي قريبا فتدبر. قوله:(أو على أنه ماخ منصوب إلخ) الجاز والمجرور معطوف على الجارّ والمجرور السابقين في قوله على أنه صفة مجرورة وجعل المصنف رحمه الله المنصوب والمرفوع موصولاً بما قبله كالمجروو، لأنهما تابعان له معنى وصفة له بحسب الأصل، وان خرجا صورة ولفظا، ولذأ سماه النحاة قطعا بخلاف المستأنف، ووجه دلالته على ما قصد به في الاتباع، والقطع من المدح ونحوه أنه صفة حميدة علم ثبوتها فيفهم عها ذلئا، وقيل: إنّ هذا علم من تغييو الإعراب لأنّ تغيير المألوف يدل على زيادة ترغيب في استماعه ومزيدى اهتمام لشأنه لا سيما مع التؤام حذف الغععل، أو إ أحبتدأ ولا يخفى أنّ دلالة الإعواب المقدّو على ذلك غير ظاهرة مع أنها مادحة على الاتباع أيضا كما صرحت به أيضاً متون العربية، وفي قوله هم الذين تسامع لأن المقدر هم فقط*قوله:) وإمّا مفصول إلخ) معطوف على قوله موصولى، وإنما انفصك لأنه قصد الإخبار عنه بما بعده لا إثباته
لما قبله وان فهم ذلك ضمنا فهو، وان لم يجر عليه كالجاري ويكفي هذا في ارتباط الكلام سواء كان الاستئناف نحوياً أو بيانياً، فيكون جواباً عن سؤال تقديره ما بال المتقين خصوا بذلك الهدى، فلا يتوهم ضعف هذا الوجه لعدم الارتباط فيه كما نقل عن أبي حيان، ولا إنّ الظاهر على هذا إنّ بينهما كمال الانفصال، وتقدير السؤال يقتضي الاتصال وكونه كالجاري عليه لا ينافي كون الوقف تاماً كما ستسمعه قريبا، وقال قدس سرّه: حاصل ما قرّره من الاحتمالات أنّ المتقي إن حمل على المعنى الشرعي، فإن كان خطاباً لمن عرف مفهومه مفصلَا كانت الصفة مادحة، والاً كاشفة وأن حمل على مجتنب المعاصي كانت مخصصة، ولما كان الاستئناف أرجح لم يكن في الترجيح بين هذه الأقسام
فائدة، ثم إنّ المتقين إن أريد بهم المشارفون لم يحسن أن يجعل الذين يؤمنون بالغيب صفة، ولا مخصوصاً بالمدح نصباً أو رفعاً ولا استئنافاً أيضا، لأن الضالين الصائرين إلى التقوى ليسوا متصفين بشيء مما ذكر، وحمل الكلام على الاستقبال والمشارفة يأبا. سياق الكلام عند من له ذوق سليم اهـ. وقيل: يمكن دفعه بأنّ في هذا النوع من المجاز زمانين زمان النسبة وزمان إئبات النسبة، واعتبار المشارفة بالنظر إلى زمان نسبة الهدى واعتبار حقيقة التقوى بالنظر إلى زمان إثبات الهدى فلا إشكال، ونظيره أن يقال قتلت قتيلاً كفن في ثوب كذا ودفن بموضع كذا، فإنّ اعتبار المشارفة بالنظر إلى زمان نسبة القتل واعتبار حقيقة القتل، والتكفين والدفن بالنظر إلى زمان إثبات نسبة القتل، وقيل: أيضاً يمكن أن يكون المتقين مجازاً بالمشارفة، والصفة ترشيحاً له بلا مشارفة، ولا تجوّز أصلأ كما هو المعهود في ترشيح المجاز والاستعارة.
(أقول الا يخفى ما في هذا أمّا الآوّل فلأنّ أهل الأصول اختلفوا في أنّ المعتبر زمان الحكم، أو زمان التكلم، ورجحوا الأوّل، وما ذكره هذا المجيب منتحت من القولين، فهو بناء على غير أساس، وسقوطه ظاهر بلا التباس. وأمّا الثاني فهو إن لم يبعد عن الصواب إلا أنه مسلم للإشكال وتوجه وروده وليس كذلك لأنا إن حملنا المتقين على حقيقته فظاهر وان حملناه على المشارفة فالمشارفة ثابتة في الحال والتقوى الحقيقية عقبه، كما هو شأن المشارفة فلتعقبها لها، كأنها واقعة فيمدح صاحبها بما يتصف به بعد ذلك في المستقبل من غير محذور، وإذا علم المخاطب ثبوت وصف حميد في المستقبل لموصوف، فما المانع من المدح به كما يقول المؤمن نبينا محمد صلى الله عليه وسلم الشفيع في المحشر، فالإشكال ليس بوارد أصلاً. قوله: (فيكون الوقف إلخ) قال السخاوندي: الوقف إمّا لازم، وهو الذي إذا وصل غير المعنى المراد نحو وما هم بمؤمنين يخادعون الله لأنّ القصد نفي الإيمان ولو اتصل لم يفد.، ومطلق وهو ما يحسن الابتداء به وهو الذي عناه العلامة بقوله مقتطع، وجائز وهو ما استوى وصله وفصله وهو المراد بقوله حسن غير تامّ لأنّ اعتبار الوصفية يقتضي الوصل، واعتبار الفاصلة يقتضي الفصل، وفي الكشف اعتبار الفاصلة في الوقف لا يقول به السخاوندي والكواشي،
والظاهر أنّ مثله يجوز في الآيات إذا قصد البيان خاصة لما مرّ من أنّ التامّ عند القرّاء والزمخشريّ هو الوقف على جملة مستقلة لا ترتبط بما بعدها، وأمّا الحسن فقيل: هو الوقف على جملة لها ارتباطاً بما بعدها ارتباطاً لا يمنع الاستقلال، وقيل الوقف على كلام مستقل بعده ما لا يستقل كالحمد لله وفي تسميته حسناً نظر، وعلى القطع هو في المعنى وصف، فلذا كان الوقف غير تامّ واعترض بأنه على تقدير كونه مبتدأ خبر. أولئك ينبغي أن يكون الوقف غير تامّ أيضاً لأنه استئناف على تقدير سؤال نشأ عما قبله فهو كالجاري عليه معنى، فلا فرق بينه وبين النعت المقطوع وأجيب بأنه لم يتغير في المقطوع ما قصد من إجرائه عليه في المعنى بخلاف الاسنئناف، فإنّ المقصود فيه الاخبار عنه بما بعده وان فهم وصفه به ضمنا فليس جاريا عليه معنى ورذ بأنّ ما فهم عن الزمخشريّ في تعريف التامّ، ونقل عن القرّاء كما مرّ غير صادق على المستأنف فإنه مرتبط بالمستأنف عنه معنى كما صرّح به المجيب، ولا يخفى أنّ الارتباط من الثاني لا الأوّل، والمعتبر في التامّ عكسه فتأمل. قوله:(والإيمان في اللغة التصديق) وفي نسخة عبارة عن التصديق، فالإيمان أفعال من الأمن، وقد كان متعدياً فتعدى بالهمزة لاثنين كامنته غيري أي جعلت غيري آمناً منه، وقيل إنّ همزته تحتمل أن تكون للصيرورة كاغد البعير إذا صار ذا غدة وقول المصنف رحمه الله كأنّ المصدق إلخ يشير إلى الأوّل، وقوله بعده صار ذا أمن يشير إلى الثاني، واستعماله متعدياً لاثنين يأباه، وما توهمه وهم فإنه معنى آخر، وهمزة التعدية فيها معنى الصيرورة بمعنى الجعل كما لا يخفى، واستعماله في التصديق إمّا مجاز لغوي لاستلزامه إيا. لأنّ من صدقك أمنك تكذيبه كما يشعر به كلام الكشاف أو حقيقة لغوية، كما في الأساس ووفق بينهما بأنّ كلامه في المعنى الحقيقيّ الذي وضع له اللفظ أوّلاً في اللغة، ثم وضع فيها لمعنى آخر يناسبه، وهو دأبه في تحقيق الأوضاع الأصلية وبيان مناسبات المعاني اللغوية بعضها لبعض مع كون اللفظ حقيقة لغوية في كل منهما
فلا خلاف بين كلاميه وهو الحق ولذا قال المحقق في شرح المختصر: إنه في اللغة التصديق بالإجماع، وقال الراغب: الإيمان التصديق الذي معه أمن، وإذا كان مجازا فالمناسبة بينه وبين المعنى الأصليّ مراعاة وكذا إذا كان منقولاً، ولذا قال المصنف رحمه الله مأخوذ من الأمن. قوله:(كأنّ المصدّق) بكسر الدال أمن المصدق بفتحها، وأتى بكأنّ إشارة إلى أنه قطع فيه النظر عن معناه الأصليّ فلا يخطر ببال من يستعمله إلا نادرا، وهذا دأبهم فيما لا يظهر فيه مراعاة المعنى الأصلي، ولخفائه هنا أنكره بعضهم ولا وجه له وبهذا التقرير سقط ما قيل: هنا من أنه إن أريد به الأمن من تكذيب المصدّق فهو محقق فلا وجه لقوله: كأنّ وان أريد الأمن من تكذيب غيره فهو غير صحيح، وقد يقال ة الأمن في الحال لا يستلزم الأمن في الاستقبال، فيجوز أن يكون ذكر كأنّ باعتباره أو إشارة إلى أنّ الظن في مثله كاف. وقوله:) وقد يجيء بمعنى الوثوق) وفي نسخة " وقد يطلق) وهما بمعنى وهذا أيضاً مأخوذ من المعنى الأوّل. وقوله بمعنى الباء صلة أو
بمعنى في وقيل إنّ الجار والمجرور حال لأنّ الإطلاق لا يتعدى بالباء، وهذا المعنى محتمل لأن يكون مجازاً أو حقيقة، وقد ذهب إلى كل منهما بعض الشراح والظاهر الثاني وقوله ما أمنث أن أجد صحابة حكاه أبو زيد عن العرب، وأنه يقوله ناوي السفر إذأ عوّقه عنه عدئم الرفيق أي ما وثقت أن أظفر بمن أرافقه فأمنت فيه بالمدّ لازم أو متعدّ لواحد، وأن أجد منصوب محلاً والظاهر أنه على نزع الخافض أي بأن أجد، فإنّ حذفه فيه مطرد وهذا هو الصحيح وصحابة بفتح الصاد ويجوز كسرها في الأصل مصدر يقال صحبه صحابة وصحبة ثم جعل جمع صاحب، أو اسم جمع له على الأصح وهو المراد هنا. قوله:(من التكذيب والمخالفة) تبع فيه الزمخشريّ وقال السكوتي في كتاب التمييز الذي بين فيه ما في الكشاف من الدسائس الاعتزالية إنّ قوله المخالفة المراد به مخالفة الشرع بالكفر، وارتكاب الكبائر فإنّ مرتكبها عندهم غير مؤمن مخلد في النار وان لم يطلقوا عليه أنه كافر، ولك أن تقول إنه عطف تفسيري والمراد به مخالفة خاصة بالكفر، فلا يرد عليه ما ذكر، ولو تركه كان أولى. قوله: (وتعديته بالباء إلخ الما ذكر أنه بمعنى التصديق، وهو متعدّ بنفسه وجه تعديته بالباء بما ذكر، وتضمنه يكون بمعنى يدل عليه ضمنا وبمعنى التضمين المصطلح عليه، وكلامه محتمل لهما إلا أنهم اقتصروا على الثاني هنا لتبادره، والتضمين المصطلح كما قال السيد السند أن يقصد بلفظ فعل معناه الحقيقيّ، ويلاحظ معه معنى فعل آخريناسبه ويدل عليه بذكر صلته كأحمد إليك فلاناً أي أنهى حمده إليك، وفائدة التضمين إعطاء مجموع المعنيين فالفعلان مقصودان معاً قصداً وتبعاً قال المصنف رحمه الله: من شأنهم أن يضمنوا الفعل معنى فعل آخر فيجرونه مجراه فيقولون هيجني شوقا معدّى إلى مفعولين، وان كان معدى بإلى لتضمنه معنى ذكر المشدّد واختلفوا فيه فذهب بعضهم إلى أنّ المضمن مراد بلفظ محذوف يدل عليه ذكر متعلقه، فتارة يجعل المذكور أصلاً في الكلام، والمحذوف قيدا فيه على أنه حال كقوله:{وَلِتُكَبِّرُواْ اللهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ} [البقرة: 185] أي حامدين وتارة يعكس فيجعل المحذوف أصلاً، والمذكور مفعولاً كما مرّ في أنهي حمده، أو حالاً كما في {يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} أي يعترفون مؤمنين به، ولما كانت مناسبته للمذكور بمعونة ذكر صلته قرينة على اعتباره جعل كأنه في ضمنه، ومن ثمة كان جعله حالاً وتبعا للمذكور أولى من عكسه، وما توهم من أنّ ذكر صلة المتروك يدل على أنه المقصود أصالة مدفوع بأنّ ذكرها إنما يدل على كونه مرادا في الجملة إذ لولاه لم يكن مراداً أصلاً، وذهب آخرون إلى أنّ كلا المعنيين مراد بلفظ واحد على طريق الكناية إذ يراد بها معناها الأصلي ليتوسل بفهمه إلى ما هو المقصود الحقيقيّ، فلا حاجة للتقدير إلا لتصوير المعنى، وفيه أنّ المعنى المكنى به قد لا يقصد ثبوته وفي التضمين يجب القصد إليهما والأظهر أنّ اللفظ مستعمل في معناه الأصلي قصداً وأصالة لكن قصد بتبعيته معنى آخر يناسبه من غير أن يستعمل فيه اللفظ، أو يقدر له لفظ آخر فلا يكون إضمارا ولا كناية بل
حقيقة قصد بمعناها الحقيقيّ معنى آخر يناسبه، ويتبعه في الإرادة وحينئذ يكون معنى التضمين واضحاً بلا تكلف إلى هنا ما أفاده قدس سرّه.
(وفيه بحث حا وجوه) :
(الأؤل)
أنّ اعتراضه بقوله إنّ المعنى المكنى إلخ لا اتجاه له إذ لا يبعد أن يلتزم في بعض الكنايات شيء، ولذا سمي باسم خاص ومنه علم أصاً أنه لا يرد على الوجه الأوّل إنه من قبيل الحذف لقرينة، فلا معنى لتسميته تضميناً.
(الثاني) أنّ ما استظهر. بعيد لجعل المتعلق معمولاً من غير تقدير عامل لمجرّد فهم معناه
لا سيما نصب المفعول، واعمال المذكور فيه من غير استعماله في معناه، ألا ترى أنه لا ينصب بحرف التنبيه فهذا أولى.
(الثالث) أنه يرد على الوجه الأوّل في صورة جعله مفعولاً أنّ فيه جعل الجملة مفعولاً ومعمولاً لما لا يعمل في الجمل، وتاويله بالمصدر من غير سابك مخالف لأحكام العربية، ثم كون المقدّر تابعا للمذكور أولى عنده وقد عكسه المدقق في الكشف وناهيك به، وقد تبعه هو في شرح المفتاح في أوّل القانون الأوّل، وتخصيص التضمين بالفعل في عبارته لا ينبغي فكأنه الأصل الغالب وهكذا الناس مع الغالب، وأيضا هو لا ينحصر في الطرق المذكورة ألا ترى إلى تقديرهم التضمين في قوله:{الرَّفَثُ إِلَى نِسَآئِكُمْ} [البقرة: 187] بالرفث، والإفضاء بالعطف وهو لم يذكر في طرقه، ومن تتبع موارد الاستعمال وجد له طرقا كثيرة، وقد ذكرنا طرفا منها في كتابنا طراز المجالى، وما قيل: من أنّ الأحسن أن يقال ويدل على الثاني إئا بذكر شيء من متعلقاته كما مرّ، أو حذف شيء من متعلقات الأوّل كما في قوله: هيجني شوقاً بحذف إلى ليس بشيء لأنّ المفعول الصريح معمول المحذوف، ومعمول المذكور لم يتعرّض له وليس من مهمات التضمين.
(الرابع) أنّ ما ارتضاه مبنيّ على أنّ اللفظ قد يدل على معنى دلالة صحيحة بغير الطرق الثلاثة الحقيقة والمجاز والكناية، وفيه ما لا يخفى من أنّ مستتبعات التراكيب لا يمكن إنكارها، فإنها الشمس في وسط النهار إنما النظر في كونها مقصودة منه بدون الطرق الثلاث، وكونها عاملة في المتعلقات مما لا يعهد مثله في بليغ الكلام، فإن قلت كيف يكون مضمنا معنى الاعتراف، وقلما يوجد في الكلام آمنت الله بل لم يسمع أصلاً للزوم الباء فيه، وقد قال نجم الأئمة الرضى أنه إذا كان الغالب في فعل التعدية بحرف فهو لازم متعد بالحرف وأيضاً اعتبار الاعتراف يشعر بلزوم الإقرار باللسان في الإيمان شرعا على ما سيأتي بيانه فيه قلت: هذا ما أورد. بعض الفضلاء، ولم يجب عنه ولا يخفى اندفاعه فإنه مجاز وقد أجازوا فيه أن يلتؤم، وتهجر الحقيقة فأيّ مانع هنا مما ذكر خصوصاً واللزوم إنما نشأ من نقله شرعا إلى هذا المعنى
مع أنه غير مسلم، ولزوم الإقرار فيه مما ذهبوا إليه في بعض المذاهب فتأمّل. قوله:(وكلا الوجهين حسن في يؤمنون بالغيب (أي يعترفون به أو يثقون بأنه حق، فالوثوق بمعنى اعتقاد حقيته وهذا بالنظر إلى المعنى اللغوي، وأمّا بالنظر إلى المعنى الشرعي، فالحمل على التصديق ظاهر الجرحان للإجماع على أنّ الإيمان المعتبر نفس التصديق، أو هو داخل فيه كما في الكشف. قوله: (وأمّ في الشرع إلخ) لما كان المعنى الشرقي منقولاً من اللغوي قدمه، وبين أنّ حقيقته الأصلية جعله آمنا وقد يكون بمعنى الوثوق حقيقة، ثم إنه صار في عرف اللغة حقيقة في التصديق، وضمن معنى الاعتراف، وأمّا الشرقي فاختلف فيه أهل القبلة على عشرة أقوال أصحابها فرق أربع على ما فصله الإمام، فهو منقول من مطلق التصديق إلى التصديق بأمور مخصوصة، كما عرف في مثله من الحقائق الشرعية، والتصديق هو الإذعان والتسليم والرضا به من غير تردد وشك فيه لا مجرّد العلم والمعرفة، إذ من الكفار من يعرف الحق ولا يقرّ به عناداً، والضرورة ما لا يحتاج إلى نظر واستدلال بحيث تعلمه العامّة، وهو العلم الضرورفي المراد هنا فكونه من الدين ضروريّ، وأن كان في نفسه يتوقف على النظر والاستدلال، ويكفي الإجمال فيما يلاحظ إجمالاً ولا يشترط التفصيل إلا فيما يلاحظ تفصيلاً حتى لو لم يصدق بوجوب الصلاة عند السؤال عنه، ومجرمة الخمر إذا سئل عنها كان كماقراً، وقيل: هو التصديق بالقلب واللسان، وهو منقول عن أبي حنيفة، ومشهور عن أصحابه ومحققي الأشاعرة فهما ركنان له إلا عند العجز قال ابن الهمان: والاحتياط واقع عليه، وذهبت الكرّامية إلى أنه الإقرار باللسان فقط، فإن طابق القلب فهو ناج والأ فهو مخلد في النار، فإن قلت ما المراد من التصديق بما اشتهر كونه من الدين بحيث تعلمه العاثة من غير نظر واستدلال، فإن أريد
التصديق بجميع ذلك لزم أنّ من صدق بالله وملائكته وكتبه ورسله، واليوم الآخر، والقدر خيره وشره، ولم يصدّق بغير ذلك لأنه لم يبلغه لأنه في دار الكفر أو لقوب عهده بالإسلام لا يكون مؤمناً، وهو مؤمن بالإجماع، وإنما الخلاف في الإيمان المجمل، وهو أن يقول آمنت بالله كما هو بأسمائه وصفاته وقبلت جميع أحكامه، وان أريد التصديق في الجملة، ولو ببعضه كالتوحيد فهو غير كاف بالإجماع قلت قد أورد هذا بعض الفضلاء، وأجاب عنه بأنّ المراد التصديق بجميع ذلك بشرط بلوغ الخير إليه وعلمه بكونه من ضروريات الدين، وفيه بحث فتدبر. قوله:(ومجموع ثلانة أمور إلخ) هو مرفوع معطوف على التصديق في قوله فالتصديق إلخ وأن المراد بالحق هنا هو الله بل خلاف الباطل وتعريفه للعهد لأنّ المراد به ما مز، وهو المعلوم من الدين بالضرورة، وقيل: هو الحكم الثابت بالشرع علميا كان او عمليا، ولا يخفى أنه لا يصح على إطلاقه، فلا بد مما قلناه والاعتقاد افتعال من العقد، وهو عقد القلب أي الجزم به، وهو
مجاز صار حقيقة عرفية وفي بعض النسخ ومجموعة ثلاثة أمور بالإضافة إلى الضمير الراجع للإيمان وليست سهواً كما توهم. نعم الأولى أولى رواية ودراية، والمراد بالإقرار ما يعتبر شرعاً وهو كلمة الشهادة والعمل فيما إذا كان عملياً ولم يقيد به لظهوره، فإن قلت إن أراد أن أصل الإيمان ما ذكر فمذمب السلف من المحدثين ليس كذلك لعدم تكفيرهم لمن أخل ببعضها، ولا واسطة والاً كان عين المذهبين الآخرين وان أراد أنه الكامل منه لم يتفرع عليه ما ذكر، ولذا قيل الظاهر أن يأتي المصنف بالواو مكان الفاء قلت قال: بعض المدققين أنّ من جعل الأعمال جزءاً من الإيمان منهم من جعلها داخلة في حقيقته حتى يلزم من عدمها عدمه وهم المعتزلة، ومنهم من جعلها أجزاء عرفية لا يلزم من عدمها عدمه كما يعد في العرف الشعر والظفر واليد والرجل أجزاء لزيد مثلاً، ومع ذلك لا يعدم بعدمها، وهو مذهب السلف كما في الحديث " الإيمان بضع وستون شعبة " إلخ فلفظ الإيمان عندهم موضوع للقدر المشترك بين التصديق والأعمال، فإطلاقه على التصديق فقط، وعلى مجموع التصديق والأعمال حقيقي كما أنّ المعتبر في الشجرة بحسب العرف القدر المشترك بين ساقها فقط، ومجموع الساق مع الأوراق والشعب ولا يتطرّق إليها الانعدام ما بقي الساق، وكذا حال زبد فالتصديق بمنزلة أصل الشجرة، والأعمال بمنزلة عروقها وأغصانها، فما دام الأصل باقيا يكون الإيمان باقيا وان انعدصت الشعب، ومن قال: إنها خارجة عنه لا يمنع من إطلاق الإيمان عليها كما في الحديث مجازاً، فلا مخالفة بينهم إلا في أنّ الإطلاق حقيقي أو مجازي، وهو بحث لفظي، ومن هنا علم لطف إطلاق الشعب في الحديث لما فيه من الإيماء إلى ما ذكر، وفي شرح المقاصد أنّ الإيمان يطلق على ما هو الأصل والأساس في دخول الجنة، وهو التصديق وحده أو مع الإقرار وعلى ما هو الكامل المنجي بلا خلاف، وهو التصديق مع الإقرار والعمل على ما أشير إليه بقوله تعالى:{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} [الأنفال: 2] إلى قوله: " {أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا} [الأنفال، الآبة: 74] وموضع الخلاف أنّ مطلق الاسم للأوّل أو للثاني وهذا لا ينافي كونه لفظياً لأنه يرجع بالآخرة إليه وما قيل من أنّ المراد اتفاق هذه الفرق في هذه العبارة يعني مجموع الثلاثة لا يسمن ولا يغني من جوع. قوله: (فمن أخل بالاعتقاد إلخ) يقال أخل إذا افتقر لأنه صار ذا خلة أي فقر، وأخل بالشيء إذا تركه، أو قصر فيه وهو المراد هنا وعبر به لإخراح العجز في أخويه لأنه لا يضرّ واشارة الأخرس المفهمة في حكم الإقرار فتدخل فيه، وقيل عليه: إنّ من أخل بالاعتقاد والعمل أيضا منافق، فينبغي ترك قوله وحده كما في بعض النسخ، ولذا قال في الكشاف: فمن أخل بالاعتقاد، بأنّ شهد وعمل، فهو منافق ولم يقيد الإقراو والعمل به لأنّ المخل بالإقرار كافر مطلقاً والمخل بالعمل فاسق مطلقا، ولشى بوارد لأنّ المخل بالاعتقاد والعمل ليس بمنافق وفاقا لأنه كافر عند الخوارج، وخارج من الإيمان عند المعتزلة والمنافق من يظهر الإيمان ويبطن الكفر، فإذا جعل
قوله وفاقا قيد الجميع ما قبله اندفع ما ذكر بلا مرية، وقد قيل: إذا ظهر المراد، فلا إيراد وعدل عما في الكشاف تنبيها على ما قصده لا لغفلة منه كما توهم، وقد يقال: إنّ من ينافق قد يتركهما خفية
وهذا لا يخرجه عن النفاق كما قال تعالى: {وَإِذَا لَقُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ قَالُواْ آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُواْ إِنَّا مَعَكْمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُونَ وإذا ختوا إلى شياطينهم قالوا إتا معكم إنما نحن مستهزؤن} [البقرة: 14] وهو لا يرد هنا. قوله: (ومن أخل بالإقرار إلخ) أي من أخل بالإقرار عامداً معانداً متمكنا منه، وقد تقدم أنّ إشارة الأخرس المفهمة إقرار والمراد بقوله كافر أنه كافر مجاهر بكفره بخلاف المنافق لإخفائه للكفر، وما قيل: من أنّ في هذا نظر لما قاله الإمام من أنّ من عرف الله بالدليل ولم يجد من الوقت ما يتلفظ فيه بكلمة الشهادة هل يحكم بإيمانه وكذا لو وجد من الوقت ما أمكنه التلفظ به فيه، فعن الغزالي فيهما: أنه مؤمن والامتناع من النطق يجري مجرى المعاصي التي مع الإيمان والأحاديث الصحيحة شاهدة له كحديث " يدخل الجنة من في قلبه خردلة من للمان " والذي يعتذر له أنّ المراد بالإخلال هو أن يقصد به الجحود والعناد مدفوع بأنه الراجح عند الأشاعرة، فإنّ الراجح عندهم إنّ الإيمان مجرّد التصديق، والقول الآخر أنه التصديق مع الإقرار، وهو الراجح عندنا معاشر الحنفية الماتريدية إلا أنّ الشفي رحمه الله قال في العمدة على ما نقله ابن الهمام في المسايرة إنّ الإيمان هو التصديق، فمن صدق الرسول صلى الله عليه وسلم فيما جاء به فهو مؤمن بينه وبين الله تعالى والإقرار شرط الأحكام وهو بعينه القول المختار عند الأشاعرة، والمراد بالأحكام أحكام الدنيا من الصلاة عليه ودفنه في مقابر المسلمين ونحو ذلك قال ابن الهمام رحمه الله: واتفق القائلون بعدم اعتبار الإقرار على أنه يلزم أن يعتقد أنه متى طلب منه أتى به فإن طولب فلم يقرّ فهو كفر عناد اهـ فاعتراضه بما ذكر على الزمخشريّ وهو من الحنفية أو المعتزلة لا وجه له، وأمّا من أورده على المصنف فله ذلك فتأمل. قوله:(ومن أخل بالعمل ففاسق إلخ) أي أنه مؤمن فاسق، وعند بعضهم كافر فاسق لأنّ الفسق يطلب على الكفر أيضا. قال تعالى:{وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [النور: 55] لأنه من فسق الرطب إذا خرج عن قشره وهو أعمّ من الكفر وأكثر ما يقال الفاسق لمن التزم حكم الشرع، وأخل ببعض أحكامه والفرق بين مذهب الخوارج والمعتزلة أنه لا واسطة بين الكفر والإيمان عند الخوارج، وبينهما واسطة عند المعتزلة إذ شرط الإيمان، أو شطره ترك الكبائر أو الذنوب مطلقاً عندهم، وما قيل: من أنه يفهم من كلام المصنف أنّ المخل بالعمل وحده مؤمن فاسق وليس بكافر عند جمهور المحدّثين أيضاً فينا في ما قالوه من أنه مجموع الثلاثة ساقط لما مرّ. قوله: (والذي يدلّ على أنه التصديق إلخ) أي مما يدل على
أنه وضع في الشرع لتصديق القلب دون عمل اللسان والجوارح، والإضافة في اصصلاج النحاة مشهورة، وكذا في اصطلاح غيرهم والمراد بها هنا معناها اللغوي، وهو في الأصل الإمالة وتطلق على تعلق خاص، وهو كونه صفة له وملابأ ملابسة تامّة، فإنه جعل في هذه الآيات مظروفا تارة، وأسند إليه أخرى فيكون من أحواله لا من أحوال الجوأرج، وهو لا يضاف إليها إلا بتأويل، وعطف العمل عليه يدل على التغاير، وكونه من قبيل حافظوأ على الضلوات والصلاة إنوسطى خلاف الظاص يائماه كثرته، وكذا تخصيصه بالنوأفل بناء على خروجي، وقرنه بالمعاصي وأس دن على الطاعة لم يقرن بضدها وهذا وإن دلّ على خروج ألأعمال دون الإقرار كاف في ردّ القول؟ نه مجموع الثلاثة وفيه تظر، واسنشهاده بآية {لَمْ يَلْبِسُواْ} إلخ لأن اللبس لا يقتضي وفعه بك مخالطته وهو مبني على ما يقتضيه ظاهرها من أنه مطلق القلم الشامل لجميع المعاصي حتى الشرك فإن خصص بالشرك كما سيأتي في تفسيرها، فإن صت أشرك عنادا سمي تصديقه إيماناً، وان لم يعتبر شرعا لعدم شرطه، فلا يرد على المصنف وحمه الله أنه لا يصح إيراد هذه الآية هنا لأنّ الظلم فيها بمعنى الشرك ثم إنه أورد على المصنف أنه تبع فيما ذكر الإمام، وهو مخالف لمذهبه فإنه صح عن الشافعي رضي الله عنه أنه قال الإيمان قول وعمل يزيد وينقص وقد تقدم ما يدفعه، والمراد بالكتابة في الآية إثباته، والإقرار والعمل غير مثبت فيها وقد قيل: إنّ كؤ واحمي من هذه الأدلة، وان كان محلاً للمناقشة، لكن بالمجموع تحصل الطمأنينة والاستدلال بآية، وان طائفتان لأنه سماهم مؤمنين مع عصب ن أحد الفريقين. قوله: (فع ما فيه من قلّة التغيير إلخ (هذا ما وقع في بعض النسخ، ومعناه أنه في اللغة مطلق التصديق، وعلى هذا هو تصديق خاص
والإطلاق والتقييد تفاوت ما بينهما قليل، وهو المعروف في المنقولات بخلاف قولهم إذ فيه مع التغيير زيادة الإقرار والعمل، وليس معنى هذه العبارة ما قيل: من أنّ المراد بالتصديق الاعتقاد الجازم المطابق للواقع، وهو قلما يقبل التغيير بتشكيك مشكك يخلاف القول والعمل لأنه متغير، وغير دائم فإنه تكلف وعدول عن جادّة الطريق. وقوله:(وإنه إلخ) المراد بالأصل المعنى اللغوي المنقول عنه وفي بعض النسخ فإنه بالفاء على أنه تعليل لما قبله، قيل سر هذا الاختلاف، وترجيح ما ذكر راجع إلى أن المكلف الروج فقط والبدن آلة لها ومركب أو البدن أو مجموعهما، فإن قلنا بالأوّل وهو الأظهر فهو التصديق وان قلنا بغيره يعتبر عمل اللسان والجوارج. قوله:) وهو متعين الإرادة إلخ) الظاهر أن هذه جملة حالية والواو واو الحال لا عاطفة على ما قبله، كما قيل لما فيه من التعسف وكذا
قوله مع ما فيه أيضاً أي يدلّ على مجرّد التصديق ت ذكر مقرونا بما فيه إلخ والوفاق المذكور بيننا وبين المعتزلة، والقصر إضافي ناظر لإرادة المجموع لا حقيقيّ والتعين بالنسبة إلى ألمعنى الشرفي، فلا يرد عليه ما مرّ من قوله وكلا الوجهين حسن في يؤمنون بالغيب لتعدي وثق بالباء أيضاً، وقد قيل إنه إنما يتم لو تعين أنّ الباء للتعدية وسيجيء أنّ فيها احتمالات أخر مع أنه على التضمين يتعدى بالباء لتقديره بمعترفين بالغيب كما مرّ، وأيضا ظاهر عبارته أنه يراد التصديق على أنه معنى شرقي كما بينا لك، وليس كذلك لقول الإمام أجمعنا على أنّ الإيمان المعدى بالباء يجري على طريقة أصل اللغة أمّا إذا ذكر مطلقا غير معدّي، فقد اتفقوا على أنه منقول عن المسمى اللغوي، وهو التصديق إلى معنى آخر والجواب أنّ التعدية هي الأصل المتبادر، ولذا قدمها المصنف فيما سيأتي فلا يلتفت لما يخالفها، وما ذكر الإمام مخالف للجمهور وليس مما يعوّل عليه فعليك بالتتبع والنظر السديد إن أردت أن تميط لثام الشبه، ومن الناس من قال: إنّ الضمير في قول المصنف، وهو متعين رأحر إلى الأصل فهو عين كلام الإمام وبنى على ما فهمه ما تركه خير من ذكره. قوله:(ثم اختلف في أنّ مجرد التصديق إلخ) هذا مترتب على أنه التصديق وحده الدال عليه قوله والذي يدلّ إلخ أي اختلف القائلون بأن حقيقته التصديق لا غير هل يكفي ذلك التصديق وحده في كونه مؤمنا، فإنه حقيقته الموضوع لها لفظه أو يثترط له شرط خارج عن مسماه، وهو الإقرار بالنطق بكلمة الشهادة للتمكن منها كما مرّ تحقيقه، وان المعتبر منه حقيقة ذلك أو ما هو في حكمه كإشارة الأخرس وليس الخلاف في الحكم بإيمانه ظاهرا، واجراء أحكام الإسلام بل في كونه كذلك في الآخرة ناجيا من العذاب المخلد كما أنّ المصز على عدم الإقرار مع طلبه بلا مانع منه كافر اتفاقاً كما مرّ، ولم يجزم المصنف رحمه الله باشتراطه إذ قال ولعل إلخ لتعارض الأدلة كما مرّ، وبما ذكر من كون الاختلاف في الشرط الخارج عن ماهيته علم أنه مذهب آخر فلا يصح تفريعه على ما قبله. وقوله:(لا بذ من انضمام الإقرار) ينافي قوله وحده، والتمكن القدرة يقال مكنته وأمكنته من الأمر، فتمكن واستمكن إذا قدر، والمعاند هو الذي عرفه وصذق به وامتني من الإقرار به، والتشنيع عليه وقع في آيات كثيرة كقوله تعالى:{وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ} [النمل: 14] والجاهل هو الذي لا يعرف ذلك لقصور. وتقصيره في النظر الصحيح. وقوله: (للإنكار) أي لكون سكوته عن الإقرار مع تمكنه ومطالبته به دليل الإنكار القلبيّ وعدم التصديق به، فيؤل لما ذكر فتدبر. قوله:(والغيب مصدر وصف به إلخ) أي أقيم مقام الوصف، وهو غائب للمبالغة بجعله كأنه هو وقيل إنه بمعنى المغيب، فأطلق المصدر وأريد به
المفعول نحو خلق الله ودرهم ضرب الأمير، وردّه أبو حيان في البحر بأنّ الغيب مصدر غاب، وهو لازم فلا يبني منه اسم مفعول وكونه تفسيراً بالمعنى لأنّ الغائب يغيب بنفسه تكلف من غير داع، والشهادة ما يقابل الغيب لأنها ما يحس ويشاهد فهي مثله في المصدرية والوصفية. قوله:(والعرب تسمي المطمئن إلخ) روي بكسر الهمزة وفتحها فبالكسر اسم فاعل، وبالفتح اسم مكان وهو الوهدة المنخفضة في الأرض، والخمصة بفتح الخاء وسكون الميم وفتح الصاد المهملة وهاء تأنيث تليها النقرة والحفرة، وما يشبهها في ظاهر الجسد
أو باطنه، ويقال للجوع أيضاً لانخفاض البطن به كما في قولهم ليس للبطنة خير من خمصة تتبعها، والبطنة هي الامتلاء من الطعام والكلية بالضم ويقال كلي بطنه عند الخاصرة، وقيل تسمية الأرنها مطمئنة مجاز وتذكير اسم الفاعل باعتبار المكان كأنه قيل المكان المطمئن من الأرض والأظهر جعله صفة لبعض كما يشعر به من التبعيضية، وشهادة تسمية الأرض ليست بينة لاحتمال أن يكون فيه فيعلَا وليس بشيء لأنّ من بيانية وان جاز فيها أن تكون تبعيضية أيضاً، وليس مراده الاستشهاد بل الاستئناس، والإشارة إلى أنه استعمل اسماً جابدا بمعنى قريب مما نحن فيه. قوله:(أو فيعل خفف إلخ) القيل بفتح القاف وسكون الياء المخففة واحد أقيال وأقوال وهو ملك حمير، ويقال يقول لأنه يقول ما شاء، فينفذ قوله أو هو من دون الملك، وأصله قيل مثدّداً قال أبو حيان: لا ينبغي أن يدعى في قيل وأمثاله ذلك حتى يسمع من العرب مثقلَا كنظائره من نحو ميت وهين فإنها سمعت مخففة ومثقلة، ويبعد أن يقال التزم تخفيف هذا خاصة مع أنه غير مقيس عند بعض النحاة مطلقاً أو في الثاني وحده، ولا يخفى أنّ قيلاً وان لم يسمع مشذداً إلا أنّ أئمة اللغة صرحوا بأنه أصله كما قاله بعضهم في سيف، وريحان لكن بينهما فرق فإنه واوي فلولا ادّجماء ما ذكر لم يكن لقلب الواو ياء وجه فتأمّل. قوله:(والمراد به إلخ) بديهة العقل والرأي ما لا تحتاج إلى فكر ونظر من بده بدها، وبداهة إذا بغت وفاجأ، وفي الكشاف المراد به الخفي الذي لا ينفذ فيه ابتداء إلا علم اللطيف الخبير، وإنما نعلم نحن منه ما أعلمناه أو نصب لنا دليلاً عليه، ولهذا لا يجوز أن يطلق، فيقال: فلإن يعلم الغيب اهـ وهذا بعينه ما ذكره المصنف، ومن الناس من توهم أنه غيره لأنه بظاهره يدل على أنه مطلقاً لا يتعلق به علم أحد سوى الله، وهو افتراء عليه لما سمعته، وهو بعينه مأخوذ من الراغب قال في مفرداته: الغيب ما لا يقع تحت الحواس، ولا تقتضيه بداهة العقول وإنما يعلم بخبر الأنبياء عليهم الصلاة والسلام اهـ. والمراد إدخال البديهي الغير المحسوس فيما ليس بغيب في الظهور، فلا يرد عليه ما قيل من أنه لا تقابل بين الحس، وبديهة العقل إلا أن يراد به البديهي الأولي للعقلى فيبقى كثير من الضروريات داخلة في الغيب اهـ. لأن ما يدركه العقل من غير نظر وفكر، ولا يدركه الحس مقابل لما يدركه الحس تقابل الشيء لما هو أخص من نقيضه، كما إذا أريد البديهي
الأوّلي للعقل وإدخال الضروريات التي لا يدركها الحس، وفيها خفاء في الغيب لا محذور فيه بل هو أمر مستحسن. قوله:(وهو المعني بقوله تعالى إلخ) قيل: إنه جعل كون مفاتح الغيب عنده كناية عن اختصاص غيب لا دليل عليه به تعالى، وهو مبني على أن المفاتح جمع مفتح بالكسر بمعنى مفتاح أمّا إذا كان جمع مفتح بالفتح، وفسرت بالمخازن، فلا حاجة لادّعاء الكناية لأن قوله لا يعلمها إلا هو صريح في ذلك الاختصاص، وسيأتي بيانه في تفسير هذه الآية، والمراد بهذا كل ما استأثر الله بعلمه. قوله:(وقسم نصب إلخ) نصب الدليل واقامته عبارة عن بيانه على الوجه المعروف، وهو مجاز في الأصل صار حقيقة اصطلاحية فيه. وقوله:(كالصانع) أي كإثبات وجود الصانع وهو الله عر وجل، واطلاقه على الله تعالى ورد في حديث مسند وهو " إن الله صانع كل صانع وصنعته " (1) فلا حاجة لقول السبكي جواز إطلاقه لوروده في قوله تعالى:{صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ} [النمل: 88] فإنه إنما يتمشى على رأي من يكتفي بورود المادّة ولا حاجة إليه وما ورد إطلاقه على الله وثبت بإخبار الآحاد يجوز تسميته به على خلاؤ، فيه في شروح الصحيحين وقوله وهو المراد إلخ فالغيب الذي آمنوا به الله وصفاته وما يجب اعتقاده، فإن قلت على هذا يشمل الغيب الله، ويطلق عليه ضمنا والغيب والغائب ما يجوز عليه الحضور والغيبة واطلاق المتكلمين في قولهم قياس الغائب على الشاهد لا يصح سنداً له.
قلت: السلف مطبقون على تفسيرها بما ذكر، وليس فيها إطلاقه عليه بخصوصه فليس
هذا من تبيل التسمية، وفي بعض الحواشي فرق بعض أهل العلم بين الغيب والغائب فيقولون الله غيب وليس بغائب ويعنون بالغائب ما لا يراك ولا تراه، وبالغيب ما لا تراه أنت فتدبره. قوله:(هذا إذا جعلته إلخ) الصلة في اصطلاح النحاة صلة الموصول والمفعول به بواسطة الحرف، وتطلق على الزائد كما مرّ
فقوله وأوقعته إلخ تفسير له بالثاني لأنه المقصود، وهذا إشارة إلى المراد أي كون المراد بالغيب القسم الثاني من الخفيّ المذكور على هذا التقدير لا إلى كونه بمعنى الغائب، أو الخفيّ على التقديرين كما قيل، لأنّ القسم الأوّل ليس مما يلزم الإيمان به إلا إجمالاً بأن يعتقد غيباً لا يعلمه إلاً الله فتأمّل. قوله:(وإن جعلته حالأ إلخ) فالإيمان على الأوّل مضمن معنى الإقرار والاعتراف أو مجاز عن الوثوق، ومعنى الغيبة صفة للمؤمن به أي يؤمنون بما هو غائب عنهم، وعلى هذا هو بمعنى التصديق بلا تضمين ولا تجوّز والغيبة صفة للمؤمنين والمؤمن به محذوف للتعميم والمبالغة أي يؤمنون بجميع ما يؤمن به في
حال غيبتهم كما يؤمنون حال حضورهم لا كالمنافقين، وهذا الوجه يختص بغير الصحابة رضي الله عنهم لمشاهدتهم للنبيّ صلى الله عليه وسلم ومعجزاته، وهو مما يجب الإيمان به، فليس إيمانهم كله بالغيب، وكذا في الوجه الأوّل ويجوز أن لا يخصص أمّا على أنه من إسناد ما للبعض إلى الكل مجازاً كبنو فلان قتلوا قتيلاً، وهو المناسب لظاهر الحصر في أولئك هم المفلحون لئلا ينتفي الفلاح عنهم، أو التخصيص بالغيب نظرا كثر. كالله وصفاته وأحوال الآخرة من الحشر وتحوه، ولفضل الإيمان بالغيب أو خروج الرسول، ونعته عنه لا ضير فيه لأنه معلوم بدلالة النص والطريق الأولى، أو المراد أنهم يؤمنون بالغيب كما يؤمنون بالشهادة، فهو للدلالة على قوّة إيمانهم، وأنهم استوى عندهم المشاهد وغيره. قوله:(أو عن المؤمن به) المؤمن بفتح الميم الثانية اسم مفعول وهذا معطوف على قوله: عنكم والمؤمن به النبيّ عليه الصلاة والسلام كما في كلام ابن مسعود رضي الله عنه، وهذا هو الظاهر أو الأعئم الشامل. وقوله:(لما روي أنّ ابن مسعود إلخ) هو عبد الفه بن مسعود الصحابي المشهور رضي الله عنه، وهذا أثر صحيح عنه مخرج في السنن موقوفاً عليه وقد قال له الحارث بن قيس: عند الله نحتسب ما سبقتمونا به من رؤية رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال ابن مسعود: عند الله نحتسب إيمانكم بمحمد صلى الله عليه وسلم، ولم تروه إنّ أمر محمد صلى الله عليه وسلم كان بينا لمن رآه، والذي لا إله إلا هو ما آمن أحد أفضل من إيمان بغيب ثم قرأ {ألم ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ} إلى قوله:{الْمُفْلِحُونَ} كذا أخرجه الدارمي في سننه وصححه الحاكم، وقراءته للآية مستشهدا بها على ما ذكره تدلّ على أنها محمولة عنده على هذا المعنى وبمعناه ما روي مرفوعاً في السنن أيضا أنّ أبا عبيدة بن الجزاح قال: يا رسول الله أحد خير منا أسلمنا وجاهدنا معك قال: " نعم قوم يكونون بعدكم يؤمنون بي ولم يروني ") 1 (وما قيل: من أنه يفضي إلى أن الصحابة أجمعين غير داخلين في الآية، وأنها مخصوصة بغيرهم ومعنى كونهم أفضل إنهم أعجب حالاً ليس بشيء لأنهم خارجون على تفسير ابن مسعود ولا
محذور فيه وليس معنى الخيرية ما ذكر لأنها تختلف بحسب الإضافات، والاعتبارات فالصحابة خير الناس لنيلهم شرف القرب من الرسول صلى الله عليه وسلم واشراق باطنهم وظاهرهم بنور النبوّة ولزوم سيرة العدل والصدق والتنز. عن دنس المعاصي، وهو المراد بحديث " خير القرون قرتي) (1) إلخ وخيرية غيرهم بإيمانه بالغيب، ورغبته ومحبته لله ورسوله مع انقضاء مشاهدة الوحي وآثار. وفساد الزمان كما قال القائل لله درّه:
رأيت عبيد الذ أكرم من مشى وأكرم من فضل بن يحيى بن خالد
أولئك جادوا والزمان مساعد وقد جاد ذا والدهر غير مساعد
وكذا ما قيل: من أنّ في عبارة المصنف رحمه الله إيجازا مخل لجواز أن يراد به الغيب
عن المؤمنين، فكأنه اعتمد على ما في الكشاف من أنّ أصحاب عبد الفه ذكروا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وايمانهم فقال ابن مسعود رضي الله عنه: إنّ أمر محمد صلى الله عليه وسلم كان بينا إلخ. قوله: (وقيل المراد بالغيب القلب إلخ) فالغيب القلب لأنه غائب مخفيّ قيل: ويعضده التعبير بالمضارع، لأنّ إيمان القلب مستمرّ. وقوله:(والمعنى يؤمنون بقلوبهم) في بعض النسخ بدله والمؤمنون بقلوبهم. قوله: (قالباء على الآوّل إلخ) قيل يراد بها تصيير الفعل اللازم متعدياً أي مساويا له معنى، فمعنى ذهب بزيد أذهبه، وقد يراد بها ما هو لازم لكل حرف جر، وهو إفضاء معنى متعلقها إلى مدخولها، وهو متعين للإرادة هنا، وحينئذ لا تحس
ن مقابلة الآلة لها إذ التعدية بالمعنى الثاني موجودة فيها، إلا أن يقال المراد إفضاء معناها بحيث يصير مفعولاً به وفي الآلة ليس كذلك، وهو كلام مشوّس لأنّ ما بعد إلا هو عين ما ادّعى تعين خلافه، فالحق أنّ التعدية هنا بالمعنى الأوّل لأنّ معنى قوله يؤمنون بالغيب على الأوّل يصدّقونه، ويتيقنونه فهو مفعول به. قوله:(وعلى الثاني للمصاحبة) قيل إذا جعلت الباء للمصاحبة لا يلزم أن يكون المتعلق محذوفاً حتى يكون حالاً لأنك إذا قلت: دخلت عليه بثياب السفر ليس معناه دخلت مصحوباً بثياب السفر لتعلق الباء بالدخول بل معنى الصحبة يدل عليه الباء، فالوجه تعلق الباء بالإيمان، وما مرّ من تقدير الحال معنى انسحابي لا من حاق اللفظ.
(قلت) قالط نجم الأئمة الرض تكون الباء بمعنى مع، وهي التي يقال لها باء المصاحبة
نحو، وقد دخلوا بالكفر وهم قد خرجوا به، واشترى النار بآلاتها قيل ولا تكون بمعنى مع إلا مستقراً، والظاهر أنه لا مانع من كونها لغواً اهـ. وما ذكره هو الذي ارتضاه النحاة، وما استظهر. بطريق البحث هو مختاره، وعليه شارح اللباب أيضاً فالحالية في كلام المصنف محمولة على ظاهره، وما ظنه تحقيقا حاله في الضعف ظاهر. قوله:(أي يعدّلون أركانها إلخ) فسرت الإقامة بأربعة أوجه، وهي كما في شروح الكشاف على الأوّلين استعارة تبعية، وعلى الأخيرين مجاز مرسل، وقيل: هي في بعض الوجوه كناية وستسمع ذلك وما له وعليه وأركان جمع ركن كقفل وأقفال وركن الشيء جانبه ولذا اصطلحوا على عد أجزاء الماهية أركانا بخلاف ما توقف الصحة عليه ولم يكن داخلا فيها والتعديل التسوبة، وتعديل الأركان إيقاعها مستجمعة للفرائض والواجبات، أولها مع الآداب والسنن، والأوّل أوسع دائرة للمهتدين بهداية الكتاب والثاني 31 فائدة وأنسب بشأن الصلاح والمدح والزيغ الميل عن الاستقامة. وقوله:(من أقام العود إلخ) إشارة إلى أنه استعارة تبعية شبه تعديل أركان الصلاة وحفظها بتقويم العود وتسويته بازالة اعوجاجه فهو قويم تشبيها له بالقائم، ثم استعير من تسوية الأجسام لتسوية المعاني كتعديل الأركان، وأخذ منه الثاني لزيادة المناسبة بين المعاني وقيل حقيقته جعلها قائمة أو قويمة، واسنعمال أقام العود بمعنى سوّاه أكثر من أقام زيداً إذا جعله منتصباً وان رجع القويم لمعنى المنتصب والحق أنه حقيقة فيما مرّ لأنّ التقويم يقع على الأجسام والمعاني على السواء بل وصف نحو الدين والرأي بالتقويم أكثر، فلا حاجة إلى الاستعارة، فكأنهم جعلوا النقل من المحسوس، وهو الانتصاب إلى المحسوس، وهو تسوية العود ونحو. ثم منه إلى المعقول وهذا ما آثره الزمخشريّ، ولا يخفى ما فيه فإنّ مجازيته في المعاني لا شبهة فيها رواية ودراية، وما ذكره لا يثبت إلا كثرة استعمالها فيها، فهو مجاز مشهور أو حقيقة عرفية وقيل إن ما استند إليه من أنّ التقويم عامّ للقبيلين من الأعيان، والمعاني وحقيقة فيهما لا يستلزم كون الإقامة كذلك إذ معناها جعل غير المستقيم مستقيما بإزالة اعوجاجه ولا شك أنّ التسوية المتعلقة بالمعاني معناها الإتيان بالمعنى على ما ينبغي لا جعلها مستقيمة بعد أن لم تكن، وقد قيل على هذا الوجه إنه غير متجه ولا يفهم من إقامة الصلاة إلا أداؤها، وايقاعها من غير نظر للتقويم المذكور، وهذا مع أنّ مآله ترجيح الوجه الأخير قد رذ بأنه لو أريد ذلك قيل يصلون والعدول عن الأخصر الأظهر بلا فائدة لا يتجه في كلام بليغ فضلاً عن أبلغ الكلام ومن هنا علمت وجه تأخير الأخير فتأمّل. قوله:(أو يواظبون عليها إلخ) وظب على الأمر وظبا ووظوباً وواظب عليه لازمه وداومه وفيه على هذا استعارة تبعية أيضا كما يدلّ عليه تصريحهم بالتشبيه وهذا معنى قول الزمخشريّ أو الدوام عليها والمحافظة عليها كما قال عز وعلا: {الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ} [المعارج: 23]، {الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ} [المؤمنون: 9] من قامت السوق إذا نفقت إلخ ونفاق السوق رواح ما فيها من الأمتعة، وكثرة الطلاب فيها يقال نفقت السلعة والمرأة نفاقا بالفتح كثر طلابها وخطابها كما بين في كتب اللغة، وهذا المعنى كما في بعض الحواشي يحتمل أن يكون معنى أصلياً في اللغة، وأن يكون من قام العود تشبيهاً للنفاق بالانتصاب في حسن الحال والظهور، وقال الطيبي: إنها في هذأ الوجه كناية تلويحية عبر عن الدوام بالإقامة، فإن إقامة الصلاة بمعنى تعديل أركانها وحفظها من الزيغ مشعر بكونها
مرغوبا فيها، وإضاعتها في تعطيلها تدلّ على ابتذالها كالسوق إذا شوهدت قائمة دلت على نفاق سلعتها ونفاقها يدلّ على توجه الرغبات إليها، وتوجه الرغبات يستدعي الاستدامة بخلافها إذا لم تكن قائمة، فالمراد بقوله من قامت السوق أنه من بابه فهو مثله لا منقول منه، وردّ بأنه مخالف لصريح لفظه ولا يبقى حينئذ للاستشهاد بالبيت معنى، لأنّ إقامة الصلاة بمعنى التعديل إذا صارت شائعة جاز أن تجعل كناية كيف والكلام فيه، وقال قدّس سرّه: نفاق السوق كانتصاب الشخص في حسن الحال، والظهور التام فاستعمل القيام فيه والإقامة في إنفاقها أي جعلها نافقة، ثم استعيرت منه للمداومة على الشيء، فإنّ كلاً من الإنفاق والمداومة يجعل متعلقه مرغوبا متنافسا فيه متوجها إليه، وقد أورد عليه أنّ هذه المشابهة خفية جداً، وأيضا الأصل أعني أقام السوق مجاز فالتجوّز منه ضعيف، ودفع الأوّل بالحمل على المجاز المرسل بعلاقة اللزوم فإنّ الإنفاق يستلزم المداومة عادة، وأنت تعلم أنّ هذا الحمل على تقدير صحته خلاف ما في الكتاب والثاني بأنه صار بمنزلة الحقيقة اهـ وقيل في دفع الأوّل أيضاً: بأنّ في ذلك الخفاء دقة لا تفضي إلى التعقيد المعنويّ بل تجعله غير عامي مبتذل للطفه حتى لا يقف عليه إلاً الخواص، وهذا موجب للمدح لا مقتض للقدح، فإن قلت: إذا كان بمعنى المداومة والمحافظة والمواظبة ينبغي أن يتعدى بعلى لأنها تتعدّى بها، كما قال تعالى:{الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ} [المعارج: 23] قلت إذا تجوّز بلفظ عن بمعنى آخر، وكان عملهما في الحرف الذي تعدّيا به مختلفاً يجوز فيه إعماله عمل لفظ الحقيقة، وعمل لفظ المجاز ويكون ذلك كالتجريد والترشيح ألا ترى أن نطقت الحال بكذا بمعنى دلت وتعديه بعلى، وسيأتي تفصيله إن شاء الله تعالى. قوله:(أقامت غزالة إلخ) غزالة علم امرأة شبيب الخارجي الذي قتله الحجاج، وهي من شجعان النساء لما قتل زوجها خرجت بعسكر على الحجاح تطلب دمه، وحاربته سنة كاملة وهجمت عليه، فهرب فصلت في جامعه صلاة الصبح بسورة البقرة إظهاراً لامتهانه، وقصتها مشهورة كما في كامل المبرد واليها يشير القائل يهجو الحجاج: أسدعليّ وفي الحروب نعامة فتخاءتنفرمن صفيرالصافر
هلا برزت إلى غزالة في الوغى إذ كان قلبك في جناحي طائر
وهذا البيت من قصيدة طويلة من بحر المتقارب، لأيمن بن خريم الأنصاري أوّلها:
أبى الجبناء من أهل العراق على الله والناس إلا سقوطا
أيهزمهم مائتا فارس من السافكين الحرام العبيطا
وخمسون من مارقات النسا يجرّون للمندبات المروطا
وهم مائتا ألف ذي قونس) 1 (يئط العراقان منه أطيطا
رأيت غزالة إذ طرّحت بمكة هودجهاوالغبيطا
سمت للعراقين من سومها فلاقى العراقان منها البطيطا (2 (
ألا يتقي الله أهل العراق إذا قلدوا الغانيات السموطا
وخيل غزالة تغتالهم فيقتل كهل الوفاءالوسيطا
وخيل غزالة تحوي النهاب وتسبي السبايا وتجبي النبيطا
أقامت غزالة سوق الضراب أهل العراقين حولاً قميطا
وسوق الضراب استعارة مكنية وتخييلية أو تمثيلية أو تصريحية في السوق، وفي الأساس
رأيته يكر في سوق الحرب في حومة القتال ووسطه، والعراقان البصرة والكوفة، وقميط بالطاء المهملة بمعنى تامّ وقيل إنه كناية عن التمام كأنه شدّ في قماط أي حبل، وترك في جانب والضراب كالقتال لفظاً، ومعنى والحول والعام والسنة بمعنى. قوله:(فإنه إذا حوفظ إلخ) إشارة إلى وجه الشبه فيهما وهو الرغبة كما مرّ بيانه. قوله: (أو يتشمرون إلخ) قال في المصباح: التشمر في الأمر السرعة فيه والخفة، ومنه قيل شمر في العبادة
إذا اجتهد وبالغ وشمر ثوبه رفعه، وشمرت السهم أرسلته مصوباً على الصيد والأداء في اللغة حقيقته دفع ما يحق دفعه، وتوفيته كأداء الدين والأمانة قال تعالى:{فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ} [البقرة: 283] ، وأصله على ما قاله الراغب من الأداة وهي ما يتوصل بها إلى الشيء كالحبل للاستقا من البئر، وهو في الاصطلاح أخص منه لأنه فعل الشيء الذي عين له الشارع وقتا معيناً فيئ وقته أوّلاً، ويقابله القضاء والإعادة على ما تقرّر في الأصول لأنّ ما عين له وقت كالصلوات الخمس إن وقع في وقته المعين ولم يسبق بأداء غير مختل فأداء والاً فإعادة، فإن وقع بعده ووجد فيه سببه فقضاء، والأداء هنا بمعناه اللغوي أو الشرعي ولا محذور فيه، والتجلد المبالغة في إظهار الجلد والقوّة لا تكلفه كما في قوله:
وتجلدي للشامتين أريهم
وفي الكشاف او التجلد والتشمر لأدائها وأن لا يكون في مؤدّيها، فتور عنها ولا توان من قولهم قام بالأمر وقامت الحرب على ساقها، وفي ضدّه قعد عن الأمر وتقاعد عنه إذا تقاعس
وتثبط اهـ (والكلام هنا في أمرين الأوّل) أنّ ما ذكره المصنف رحمه الله هل هو بعينه ما في الكشاف أم بينهما فرق (الثاني) أنّ الباء في قام بالأمر هل هي للتعدية ليلزم الجدّ لأن جعل الأمر قائما لا يتأتى بدون جد، أو للملابسة فإنه لا يقال عرفا قام بالأمر إلا إذا تلبس به على وجه الاهتمام قال قدس سزه: حقيقته قام متلبساً بالأمر والقيام له يدل على الاعتناء بشأنه ويلزمه التجلد والتشمر، وأطلقوا القيام على لازمه فهو مجاز مرسل كما مرّ، ومنه قاصت الحرب على ساقها إذا اشتدت كأنها تشمرت لسلب الأرواح وتخريب الأبدان، واعترض عليه بأنّ الإقامة إذا كانت مأخوذة مما ذكر كان معناها على قياس التعدية جعل الصلاة متجلدة متشمرة لا كون المصلي متشمرا في أدائها بلا فتور كما ذكر، ووصف الصلاة بالتجلد إنما يصح بوصفها بما لفاعليها كجد جدّه، ولا يخفى بعده وليس لك أدن تقول باء قام بالأمر للتعدية، فالمستعمل بمعنى التجلد والاجتهاد هو الإقامة في الحقيقة لأنّ قولهم في ضده قعد وتقاعد عن الأمر يبطله، وأيضا القيام يناسب التشمر لا الإقامة كما أنّ القعود يلائم الكسل لا الإقعاد اهـ. ومنه يعلم أنّ ما أورد على الكشاف من أنّ كلامه لا يشعر بوجه التجوّز والعلاقة، ودفعه بأنه ليس بلازم ساقط من درجة الاعتبار، وقيل: إنّ المصنف عدل عما في الكشاف، وضمّ إليه إقامة إشارة إلى أن قام بالأمر وأقامه بمعنى جد فيه، فأقامه من باب الحذف، والإيصال والقيام بالشيء يدلّ على التشمر له فكذا الإقامة، وزعم هذا القائل أنه جواب عما أورد على المصنف من أنّ كلامه يدلّ على أنّ معنى قام بالأمر وأقامه واحد، وليس كذلك لأنّ الباء في قام به ليست للتعدية، فلا يكون بمعنى أقامه، واقامة الأمر ليست بمعنى التجلد أيضاً ولو كان أقام من القيام بمعنى الجد لكانت الصلاة مجدة، ولا يخفى فساده لأن أقام متعد، وعلى الحذف والإيصال إمّا أن يكون لازما أو مفعوله مقدر، وكلاهما غنيّ عن الردّ، وقيل: إنه أشار بضمّ الإقامة إلى أنّ الباء للتعدية، وبقوله إذا جد فيه وتجلد إنى أنّ الجد والتجلد على تقدير كون الباء للتعدية أيضاً صفة المصلي دون الصلاة بطريق اللزوم فإن معناه نصبه بعد انخفاضه أو سوّاه بعد اعوجاجه، فيكون مسببا عق الجد والتجلد، ويؤيده قول عين المعاني والكواشي قام بالأكحر إذا قوّمه وأتمه هذا زبدة القال والقيل.
(وأنا أقول) معتمدا على من بيده الهداية إلى سواء السبيل.
اعلم أنّ قول المصنفين من قولهم كذا أو من كذا قد يريدون به بيان حقيقة المجاز أو أصله، ومأخذه المنقول عنه، فتكون من ابتدائية وقد يريدون أنه من قبيله، وأمثاله فتكون من بيانية وما نحن فيه من الثاني لا من الأوّل على ما سيأتي، وقام بالأمر معناه جد فيه، وخرج عن عهدته بلا تأخير ولا تقصير، فكأنه قام بنفسه لذلك الأمر، وأقامه أو رفعه على كاهله بجملته كما قال:
شديدا بأعباء الخلافة كاهله
فقد قام وأقام وحينثذ يصح فيه أن يكون استعارة تمثيلية أو مكنية أو تصريحية، وحقيقته
ما ذكرناه، ويجوز أن يكون مجازا مرسلاً لأنّ من قام لأمر على أقدام الاقدام، ورفعه على كاهل الجدّ فقد بذل جهد.، وتمثيله بقامت الحرب على ساقها إلى الأوّل أميل إلا أنّ كلام الشريف رحمه الله لا يخلو من الإشكال لأنّ قوله ملتبساً لا يفيد ما ذكرناه على أنه لو كان معناه قام له كان الأنسب جعل الباء سببية، فكلامه بفحواه
شاهد على خلاف مدّعاه. وقوله: (كأنها تشمرت إلخ) يناسب الاستعارة لا المجاز المرسل الذي أطبقوا عليه، وكان هذا هو الباعث للمصنف رحمه الله على إهمال ذلك المثال وما ذكره من الاعتراض غير وارد لما عرفت من أنّ معنى فام به أقامه، والتشمير والجد لازمه أو حاو معناه وهو المعنيّ بقوله، وليس لك أن تقول إلخ وهو معناه بعد التعدي بالباء أو الهمزة، وما اعتمد عليه من أنه لا يتأتى في ضدّه لتعيينه لأنه معنى الثلاثيّ بدون تعدية مدفوع لأنه توهم أنّ عن ليست للتعدية، فكذا الباء وهو تخيل فارغ فإنها تأتي للتعدية كما في رضي الله عنه وأرضاه، فأيّ مانع من جعل قعد عته بمعنى أقعده أي تركه وأهمله، أو جعل ضد القيام المتعدّي القعود اللازم على أنا نبهناك قبل عن أنّ اللفظ المتجوّز فيه يعمل بكلا العملين عمل المعنى الحقيقي والمعنى المجازيّ، وأمّا حديث التجوّز في الإسناد، فنحن في غنية عنه.
واذا تامّلت ما قصصناه عليك عرفت أنّ منهم من لم يفصح عن المراد، ومنهم من لم
يحم حول موارد السداد، وقد أوردناه بعرضه وطوله، لتفرق بين فضله وفضوله. قوله:(وضذّه إلخ) أي ضد قام بالأمر وأقامه إذا جد فيه وتجلد والضدية باعتبار أصل المعنى، وهو القيام والقعود ولازمه وهو الاجتهاد والتكاسل، وقيل إنما هي باعتبار المعنى اللازم لهما، فاذا كان ذلك في الأوّل الجذ، والتجلد يكون في الثاني التكاسل، والتهاون بالضرورة والمصنف لم يذكر الثأني اكتفاء بالأوّل وصاحب الكشاف عكس ذلك. قوله:(أو يؤذونها إلخ) يعني أنّ الإقامة هنا عبارة عن مجرّد الأداء أي فعل الصلاة وايقاعها، كما عبر عنها بالقنوت في قوله وكانت من القانتين أي المصلين إذ القنوت يطلق على القيام في الصلاة، ويسمى السكوت فيها قنوتاً أيضاً كما في قوله:{وَقُومُواْ لِلّهِ قَانِتِينَ} [مورة البقرة: 238] والركوع معروف، ويطلق على الصلاة كما في قوله:{وَارْكَعُواْ مَعَ الرَّاكِعِينَ} [البقرة: 43] أي صلوا معهم، والسجود كذلك كما في قوله {وَكُن مِّنَ السَّاجِدِينَ} [الحجر: 98] وكذا التسبيح كقوله {فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنْ الْمُسَبِّحِينَ} [الصافات: 143] واطلاق هذا يدل على إطلاق غيره بالطريق الأولى كما سيجيء وقد مرّ أنّ المحقق السعد قال إنه لا يفهم من إقامة الصلاة إلا أداؤها وايقاعها دون غيره من المعاني السابقة ويؤيده عندي تعينه في كثير من الأحاديث الصحيحة كحديث البخاري " أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله الأ الله وأنّ
محمدا رسول الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة فإذا فعلوا ذلك فقد عصموا مني دماءهم وأموالهم الأ بحق الإسلام " ولا يخفى على ذي لب تعينه فيه.
وفي الكشاف عبر عن الأداء بالإقامة لأنّ القيام بعض أركانها كما عبر عنه بالقنوت إلخ
قال قدّس سرّه تبعاً للشراح إن أراد أنّ القيام يطلق على الصلاة لكونه بعض أركانها ثم يؤخذ منه الإقامة ورد عليه أنّ الهمزة إن جعلت للتعدية، كان معنى إقامة الصلاة جعل الصلاة مصلية، وان جعلت للصيرورة كان معنى أقام صار ذا صلاة، فلا يصح ذكر الصلاة معه إلا أن يجعلها مفعولاً مطلقاً والكل مما لا يرتضيه طبع سليم، وان أراد أنّ القيام لما كان ركناً منها كان فعله، وايجاده أعني الإقامة ركنا لها أيضا توجه عليه أنّ ركنها فعل القيام بمعنى تحصيل هيئة القيام في المصلي حال الصلاة لا بمعنى تحصيلها في الصلاة وجعلها قائمة، فإن قيل لعله أراد أنّ القيام جزء منها فيكون إيجاده أي الإقامة جزءا من إيجاد جميع أجزائها الذي هو أداؤها فعبر عن أدائها بجزئه، قلنا فمعنى يقيمون حينئذ يؤدّون الصلاة (فيحتاج في ذكر الصلاة معه إلى ارتكاب كونها مفعولأ مطلقا، ولا إشكال في استعمال قنت ونحوه بمعنى صلى إذ لا يذكر معه الصلاة، وفي قوله لوجود التسبيح فيها إشارة إلى أنه ليس ركنا منها فإذا جاز أن يعبر به عن الصلاة، فالتعبير عنها باركانها أولى، وذكر بعضهم أنّ الإقامة تستعمل بمعنى جعل الشيء قائماً في الخارج أي حاصلاً فيه، فإنّ القيام بمعنى الحصول في الخارح شائع الاستعمال، ومنه القيوم وهو الحاصل بنفسه المحصل لغيره، فأقيموا الصلاة من الإقامة بهذا المعنى أي حصلوها وأتوا بها على الوجه المجزيء شرعاً وهو معنى الأداء اهـ. وهذا على أنه مجاز مرسل من إطلاق الجزء على الكل.
(وقد أمعنت النظر) ، فرأيت ما ذكروه لا يخلو من الكدر بل فيه عبرة لمن اعتبر، فإنه كله ناشىء من عدم تدبر كلام الشيخين، وتنويره أنهما جعلا الإقامة مجازا، وعبارة عن الأداء، ومعنى يقيم يؤذي لا يصلي حتى يلزم ما لزم، وبينهما
بعد المشرقين، وقد بينا لك أنّ معنى الأداء لغة واصطلاحا الفعل، فيؤدّي الصلاة بمعنى يفعلها مطلقا، أو في وقتها المعين فلا إشكال في كون الصلاة مفعولاً به بل لا بد منه ووجه التجوّز حينئذ أنّ الأداء المراد به فعل الصلاة والقيد خارج خروج البصر عن العمى عبر عنه بالإقامة بعلاقة اللزوم إذ يلزم من تأدية الصلاة، وايجادها كلها فعل القيام، وهو الإقامة لأنّ فعل الشيء فعل لأجزائه، أو العلاقة الجزئية لأنّ الإقامة جزء أو جزئي لمطلق الفعل، ويجوز أن يكون استعارة لمشابهة الأداء للإقامة في أنّ. ور منهما فعل متعلق بالصلاة، فإن قلت إذا كان التجوّز في التعبير عن الأداء
بالإقامة فلم قال الزمخشريّ: لأنّ القيام بعض أركانها، وهل ترك المصنف رحمه الله له، وتعبيره بالاشتمال لمخالفته له، أو هو مجرّد تفنن في الطريق قلت: لما كان فعل الأداء الصلاة الإقامة فعل القيام بين أنه من أركانها ليكون فعله لازماً لفعلها كما بينا. وعدول المصنف ليشمل التسبيح من أوّل الأمر إن حمل على ظاهره لأنه ليس ركناً، ولذا عطفه الزمخشريّ عليه وقال: وقالوا إلخ كما سيجيء، وهذا مما يرجح كون العلاقة اللزوم لأنه يكفي فيه اللزوم العرفي، فلا يرد عليه ما قيل من أن هذا الكل لا يستلزم الجزء هنا، وأجيب بأنّ المراد القيام في الصلاة، وهو يستلزمه قطعاً ولما ذهبوا بأسرهم إلى علاقة الجزئية، وأنّ معنى يقيمون يصلون لزمهم ما لزم فتفرّقوا أيدي سبأ، فمن قائل لما كان القيام جزءاً من الصلاة كانت الإقامة التي هي إيجاد القيام جزءا من إيجاد الصلاة الذي هو أداؤها فعبر عن الأداء بالإقامة وعلق بالصلاة لتعيين المؤدى، وتلك العلاقة لا يلزم إطرادها إلى آخر ما تكلفه مما لا يجدي، ومن قائل معنى إقامتها جعلها قائمة أي ذات قيام كعيشة راضية، ثم جعل ذات قيام كناية عن أدائها، وعبر بالقيام لأنه ركن يشتمل على أشرف الأركان، وهو قراءة القرآن، وقيل الإقامة كناية عن الأداء، ومنهم من رأى أنّ ما حاولوه لا يتم بحال ولا يخلص من الإشكال، فاختار شقاً آخر وزعم أنه أحسن مما ذهبوا إليه فقال: إنه استعارة، وأنه شبه الصلاة المركبة من القيام الذي هو صفة المصلي بشخص قائم لاشتراكهما في القيام؟ فتولد منه تشبيه من يوقع الصلاة بمن يجعل الشخص قائما، وأطال من غير طائل. قوله:(والتسبيح) قال الراغب: التسبيح تنزيه الله تعالى، وأصله المرّ السريع في عبادة الله تعالى، وجعل ذلك في فعل الخير كما فعل في الإبعاد للنشر فقيل أبعده الله، وجعل التسبيح عاما في العبادات قولآ كان أو فعلاً أو نية وقوله، فلولا أنه كان من المسبحين قيل من المصلين والأولى أن يحمل على نيتها اهـ وقد قدمنا ما قاله الشريف، وفي التجوّز به كلام سيأتي في محله. قوله:(والأوّل أظهر) أي حمل النظم الكريم على تعديلهاوحفظها عن العدول عن اللائق بها أظهر من بقية الوجوه، لأنه المروقي عن سيد مفسري السلف، وهو ابن عباس رضي الله عنهما كما أخرجه ابن جرير وابن أبي حاتم من طرق عنه.
قال قدس سرّه: لما كان يقيمون الصلاة في معرض المدح بلا دلالة على إيجاب، كان حمله على تعديل الأركان كما قرّره أوّلاً أولى، فإنه المناسب لترتيب الهدي الكامل والفلاح التام الشامل، وهذا معنى قول الإمام الأولى حمل الكلام على ما يحصل معه الثناء العظيم، وذلك لا يحصل إلا إذا حملنا الإقامة على إدامة فعلها من غير خلل في أركانها وشرائطها، فإنّ عدم ذلك الخلل هو عين التعديل المذكور، وأمّا إدامة فعلها فهو من صيغة المضارع والاستمرار التجددي فيه، أو من لازمه لأنّ من لم يخل بركن منها كيف يحل بجملتها بتركها أحياناً فليس هذا هو المعنى الثاني، كما توهمه الطيبي فقال: هذا أولى من قول القاضي لما مز في تقرير
الكناية فإنها جامعة جميع المعاني المطلوبة فيها، ومن هنا علم وجه آخر لترجيحه على الثاني لأنه متضمن له، فهو أفيد منه مع ما ذكره وهو معنى كلام الراغب لا ما فهمه بعضهم عنه من أنه الوجه، وإنما غرّهم لفظة الإدامة، وقد عرفت المراد منها. وقوله:(أشهر) إشارة إلى اشتهار هذا التفسير بين السلف كما مرّ، والى شهرة الإقامة بهذا المعنى في لسان الشارع والقرآن قال الراغب في مفرداته: إقامة الشيء توفية حقه قال تعالى: {لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّىَ تُقِيمُواْ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ} [المائدة: 68] أي توفوا حقهما بالعلم والعمل ولم يأمر تعالى بالصلاة حيثما أمر، ولا مدح بها حيثما مدح إلا بلفظ الإقامة تنبيها على أنّ المقصود منها
توفية شروطها لا الإتيان بهيئاتها وقوله: {رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ} [إبراهيم: 40] أي وفقني لتوفية شرائطها اهـ وقول المحقق في شرحه هنا أنت خبير بأنّ المفهوم من إطلاق إقامة الصلاة ليس إلا أداؤها، وايقاعها في الخارج من غر إشعار بما اعتبره من التقوّم على الوجه المذكور إلخ لا وجه له لما عرفت من أنّ المفهوم من النظم الكريم خلافه، كما بينه الراغب مع أنّ حقيقة الإقامة المتقدمة جعل الشيء قائما وارادة ما ذكر منها والعدول عن يصلون الأخصر الأظهر لا بد له من وجه، ومثله لا يسلم بسلامة الأمير، ولذا لم يعرج السيد عليه. قوله:(وإلى الحقيقة أقرب) لأنّ حقيقته إقامة العوج وتسويته في الأجسام كما في قوله تعالى فوجدا فيها جدارا يريد أن ينقض فأقامه، وتعديل المعاني والأركان أقرب شيء لهذا لظهور اشتراكهما في وجه الشبه، وقد مرّ قول المدقق في الكشف إن أقام العود بمعنى سوّاه أكثر استعمالاً من إقامه إذا جعله منتصباً، وقوله: إنّ استعماله في تعديل الأجسام، والمعاني على السواء بل التقويم في نحو الدين والرأي أكثر، وفي كلام المصنف رحمه الله إشارة إليه إذ جعل مأخذ الأوّل أقام العود ولا مرية في أنه أقرب إلى الحقيقة من قامت السوق الذي هو مأخذ الثاني، ومن قام بالأمر الذي هو مأخذ الثالث إذ لا قيام فيه على الحقيقة بل هو مأخوذ منه، واعتبار قيام الصلاة نفسها فيه ما مرّ. قوله:(وأفيد) أفيد بالياء وأفود بالواو أفعل تفضيل من الفائدة لأنه واويّ ويائيّ، كما في القاموس وغيره والأوّل أشهر، ولذا اقتصر عليه بعض أهل اللغة وقال: يقال هما يتفايدان ولا يقال يتفاودان، والفائدة ما استفدت من علم أو مال، وتخص في العرف العام بالربح. وقوله:(لتضمنه إلخ) أي لتضمن قوله (يقيمون) على هذا التفسير التنبيه على ما سيمدحون به من قوله أولئك إلخ فهو توطئة، وبها يأخذ بعض الكلام بحجز بعض، ويحتمل أن يريد كما قيل إنّ هذه الجملة تفيد المدح فإذا حمل على ما ذكر كانت منبهة على وجه استحقاق المدح فيرجح بهذا كونها صفة مادحة، وحدودها بمعنى أوصافها وأحكامها المختصة بها شبهت بالحد الذي لا يجوز تجاوزه. قوله: (ولذلك ذكر في
سياق المدح إلخ) أي لما مرّ من كونه أشهر وأقرب وأفيد، أو للتنبيه المذكور لأنّ من راعى حدودها لا يتركها فهو داخل فيه أو مفهوم بالطريق الأولى فلا يرد عليه أنه لا يدل على مدعاه من أن الأوّل أولى إذ يمكن أن تكون الإقامة بمعنى المواظبة والمداومة، والساهون عن الصلاة كما نقل عن ابن عباس رضي الله عنهما المنافقون الذين يتركونها إذا غابوا عن الناس، ويؤدّونها إذا حضروا والمصنف رحمه الله بنى تفسيره على الحقيقة الظاهرة، والمعرض ضبطه في شرح الشافية بفتح الميم وكسر الراء وهو موضع العرض أو العروض، والمشهور كسر الميم وفتح الراء وهو الذي صرح به أئمة اللغة كما في شرح الفصيح للمرزوقي ومعناه اللباس الذي تتزين به الجارية إذا عرضت للبيع، فاستعير للسياق أو للعبارة الواقعة فيه. قوله:(والصلاة فعلة من صلى) فعلة بفتح العين على الظاهر المشهور وجوّز بعضهم سكونها فتكون حركة العين منقولة من اللام وشبهها بالزكاة المأخوذة من التزكية وهي التنمية أو التطهير لمشابهتها لها لفظا ومأخذاً ورسماً. وقوله: (من صلى إذا دعا) أي مأخوذة ودائرة الأخذ أوسع من دائرة الاشتقاق أو هو بناء على أنّ أصل الاشتقاق الفعل لا المصدر على المذهبين المشهورين في التصريف، فالصلاة لغة الدعاء، ونقلت في الشرع إلى العبادة المخصوصة والدعاء يكون بمعنى النداء والتسمية والسؤال مطلقاً أو من الأدنى للأعلى وهذا هو المراد، فإن قلت: سيذكر المصنف رحمه الله في تفسير قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ} [الأحزاب: 56] صلى الله عليه وسلم أنّ الصلاة مشتركة بين الرحمة والاستغفار والدعاء، وهو المشهور في أصول الفقه قلت: قال في المصباح المنير: إنه قول لبعض أهل اللغة فمشى المصنف رحمه الله على قول هنا، وعلى قول ثمة وسيأتي تحقيقه في محله. قوله:(كتبتا بالواو إلخ) التفخيم له ثلاث معان ترك الإمالة، واخراح اللام مغلظة من أسفل اللسان كلام الله إذا لم تل كسرة، والإمالة إلى الواو.، وهذا هو المراد هنا كما ذكره شراح الكشاف لا أن تمال فتحة اللام نحو الضمة لمناسبة الواو الأصلية كما توهم، لأنه لا وجه شخصيصه باللام، كما هو أحد الوجوه المروية عن ورش لأنّ ذكر زكى يأباه، وكون التفخيم علة لذلك
ليس بمرضيّ عند المحققين من القراء قال الإمام الجعبري في شرح الرائية: اتفقت المصاحف على رسم الواو مكان الألف في مشكاة ونحاة ومناة وصلاة وزكاة وحياة، حيث كن موحدات مفردات محلاة باللام، وعلى رسم المضاف منها كصلاتي بالألف وحذفت من بعض المصاحف العراقية، واتفقوا على رسم المجموع منها بالواو على اللفظ ووبمظ كتابة الواو الدلالة على أنّ أصلها المنقلبة عنه واو وهو اتباع للتفخيم، وهذا معنى قول ابن قتيبة بعض العرب يميل لفظ الألف إلى الواو، ولم اختر التعليل به لعدم وقوعه في القرآن العظيم وكلام الفصحاء اهـ ولفظ المفخم ضبطه أرباب الحواشي هنا تبعاً لشراح الكشاف بكسر الخاء المعجمة المشددة على زنة اسم الفاعل، ولا
مانع من الفتح على زنة اسم المفعول على أنه من إضافة الموصوف للصفة، فإنه كعكسه وارد في كلام العرب، وان كان لا ينقاس. وقوله:(لاشتماله على الدعاء) فهو من إطلاق الحال على المحل، وهو الظاهر لا من إطلاق الجزء على الكل، وان جاز إن لم نقل بأنه مثروط بأن يكون مما يزول الكل بزواله كالرأس والرقبة على ما سيأتي. قوله:(وقيل أصل صلى إلخ) تمريض لقوله في الكشاف وحقيقة صلى حرّك الصلوين لأنّ المصلي يفعل ذلك في ركوعه وسجوده، ونظيره كفر اليهوديّ إذا طاطأ رأسه وانحنى عند تعظيم صاحبه لاً نه ينثني على الكاذتين وهما الكافرتان، وقيل للدّاعي مصل تشبيهاً له في تخشعه بالراكع والساجد اهـ.
وقال الفاضلان في شرحه إنه يريد أنّ صلى ماخوذ من الصلا بمعنى حرك الصلوين وهما العظمان الناتئان في أعالي الفخذين يقال: ضرب الفرس صلويه بذنبه أي ما عن يمينه وشماله ثم استعمل صلى بمعنى فعل الهيئات المخصوصة مجازا لغوياً لأنّ المصلي يحرّك صلويه في ركوعه وسجود.، ولما اشتهر في هذا المعنى استعير منه لمعنى دعا تشبيهاً للداعي بالمصلي في خضوعه وتخشعه وفيه ضعف من وجهين. الأوّل إنّ الاشتقاق مما ليس بحدث قليل الثاني أنّ الصلاة بمعنى الدعاء شائعة في أشعار الجاهلية، ولم يرد عنهم إطلاقها على ذات الأركان بل ما كانوا يعرفونها، فأنى يتصوّر لهم التجوّز عنها فالصواب ما ذهب إليه الجمهور من أنّ لفظ الصلاة حقيقة في الدعاء مجاز لغويّ في الهيئات المخصوصة المشتملة عليها كما حقق في أصول الفقه، فإن قيل إذا ثبت صلى بمعنى حرّك الصلوين كان الأنسب أن يؤخذ منه لفظ الصلاة بمعنى الهيئة المخصوصة، ثم يشتق منه صلى بمعنى أحدثها، فلماذا عكس المصنف رحمه الله قلنا: لأنّ المناسبة بين تحريك العضو وإحداث الهيئة أقوى منها بين تحريكه ونفس الهيئة، ولذلك أيضاً جعل الزكاة من زكى الشرعي المأخوذ من زكى اللغوي على أنّ قوله الصلاة من صلى قد يراد به أنها من جنسه أي يتلاقيان في الاشتقاق بلا تعيين للمشتق منه فجاز أن يحمل على اشتقاق صلى من الصلاة، وكذا الحال في الزكاة، وأورد عليه في الكشف أيضاً أنه مخالف لمذهب المعتزلة فإنها عندهم حقائق مخترعة شرعية وليست منقولة من معان لغوية، والقائلون بالنقل، وهم الجمهور قالوا: إنها منقولة من الدعاء، وفي الروض الأنف: الصلاة أصلها انحناء وانعطاف من الصلوين وهما عرقان في الظهر إلى الفخذين، ثم قالوا: صلى عليه أي انحنى عليه رحمة وسمواً الرحمة حنوّا وصلاة وعطفاً وأصله في المحسوسات فجعل في المعاني مبالغة وتأكيدا، ولذلك لا تكون الصلاة بمعنى الدعاء على الإطلاق، فلا تقول صليت على العدوّ أي دعوت عليه إنما يقال صليت عليه في الرحمة والتعطف لأنها في الأصل الإنعطاف، ولذا عديت بعلى، ولا تقول في الدعاء إلا دعوت له باللام فهذا فرق مّا بين الصلاة والدعاء، وأهل اللغة لم يفرقوا بينهما.
(أقول) ما تقدّم هو الشائع أمّا ما اختاره العلامة فهو ما ذهب إليه المحققون من أهل اللغة
والعربية فقال أبو عليّ الفارسيّ الصلاة من الصلوين لأنّ أول ما يشاهد من أحوال الصلاة تحريك الصلوين للرّكوع، فأفا القيام فلا يختص بها قال ابن جني وهو قول حسن وكذا رجحه السهيليّ في الروض كما سمعته، وما قاله شراح الكشاف مردود على ما فيه من المؤاخذات، وما ذكر. من معنى الصلويق أحد الأقوال فيه فقيل: عظمان ناتئان في جانبي الذنب. وقيل: أعلى الفخذين. وقيل: عرقان في الظهو. وقيل: في الفخذين. وقوله: (ولما اشتهر إلخ) توجيه لنقلى المجاز عن المجاز، لأنّ شرطه شهرة الأوّل حتى ينزل منزلة الحقيقة، وقوله إنّ
الاشتقاق مما ليس بحدث قليل مردود لأنه وان إشتهر، ومثلوا له باستنوق الجمل وأبك إذا أحسن رعي الإبل وسبقه إليه غيره إلا أنه غير تام لأنهم إن أرادوا به ملاحظة معنى اسم الجنس في الفعل ومتصرّفاته مطلقا، فهو أكثر من أن يحصى ويحصر كطين الحائط إذا طلاه بالطين، وأترب الكتاب إذا وضع عليه التراب وزفت الإناء وقيره واثبات القلة النسبية موقوف على الاستقراء التام وهو متعذر وان أرادوا أنّ اسم الجنس وضعه الواضع أوّلاً، ثم أخذ منه الفعل ومتصرفاته كاستنوق والناقة فهو وان كان الوقوف عليه لغير الواضع عسيراً إلا أنه يستدذ عليه بشهرة الجامد دون ما أخذ كالإبل وابل، وهذا ليس كذلك لشهرة صلى والمصلي دون الصلا والصلوين وفيه نظر. وقوله إنّ الصلاة بمعنى الدعاء شائعة مسلم، وعدم ورود إطلاق الصلاة على ذات الأركان من العرب باطل، وان تبع غيره هنا وهو ظاهر كلام السيوطي في المزهر في الفصل الذي عقده للألفاظ الإسلامية لأنهم إن أرادوا أنّ الصلاة بمعنى العبادة المخصوصة ولم يكن قبل شرعنا مسمى، واسم فليس كذلك لورود ما يخالفه في آيات كثيرة كقوله تعائى حكاية عن إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام {رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِن ذُرِّيَّتِي} [إبراهيم: 40] والاستدلال عليه بظاهر قوله {وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} [البقرة: 125] أي المصلين من ضيق العطق، والمخصوص خصوص هذه الأقوال والأفعال وان أرادوا أنها لم تسم صخلاة قبل شرعنا وأنه لم ينقل عن العرب قبل الإسلام، فليس كذلك لنقل أئمة اللغة كالجوهرفي ما يخالفه، وان اختلف في أنه حقيقة لغوية أم لا، ولا خلاف في أنه حقيقة شرعية وتحقيقه ما قاله ابن فارس في كتابه فقه اللغة، وعبارته كانت العوب في جاهليتها على إرث من إرث آبائهم في لغاتهم، فلما جاء الله تعالى بالإسلام حالت أحوال، ونقلت ألفاظ مبن مواضع إلى مواضع أخر بزيادات، ومما جاء في الشرع الصلاغ، وأصله في لغتهم الدعاء، وقد كانوا عرفوا الركوع والسجود، وإن لم يكن على هذه الهيثة فقالوا:
أو درّة صدفية غواصها ~ بهج متى يرها يهلى ويسجد
(وقال الأعشى:
يراوح من صلوات الملي ~ ك طوراً سجوداً وطوواً جؤارا
وهذا وان كان كذا، فإن العرب لم تعرفه بمثل ما أتت به الشريعة من الإعداد،
والمواقيت والتحريم للصلاة والتحليل منها وكذلك الصيام والحج والزكاة اهـ. فقد عرفت أنّ العرب سمتها بذلك قديما وأنّ قوله لم يرد عنهم إطلاقها على ذات الأركان وأنهم ما كانوا يعرفونها لا أصل له، وما ذكره من السؤال والجواب قد قيل في توجيهه أيضاً: إنه إنما جعل الصلاة من صلى لعدم استعمال التصلية بمعنى الدعاء، وفي القاموس يقال: صلى صلاة ولا يقال تصلية اهـ وما في القاموس تبع فيه الجوهريّ وبعض أهل اللغة، وليس بصحيح وان اشتهر قال الإمام الزوزني في أفعاله: التصلية غازكرون، وفي أمالي ثعلب إمام أهل اللغة أنشد لبعض العرب:
تركت القيان وعزف القيان وأدمنت تصلية وابتهالا
وقال في تفسيره يقال صليت صلاة وتصلية ههـ وكذا في العقد لابن عبد ربه، وإنما تركه
أهل اللغة لأنه من المصادر القياسية، وعادتهم تركها وأخذ الصلاة من الصلوين، واطلاق المصلي على ثاني خيل الحلبة مما لا يثك فيه أحد من أهل اللغة وقول المصنف رحمه الله حرّك الصلوين وقع في بعض النسخ الصلا مفردا بدله، وما أورده صاحب الكشف عليه من أنه مخالف لمذهب المعتزلة وأهل السنة إشارة إلى ما تقرّر في أصول الفقه من أنّ الألفاظ المستفادة من الشرع هل لها حقيقة شرعية أم لا فقال القاضحي أبو بكر رحمه الله: إنّ الشرع لم يستعملها إلا في الحقائق اللغوية، فالمراد بالصلاة المأمور بها الدعاء إلا أنّ الشرع أقام أدلة على أنّ الدعاء لا يقبل إلا بشرائط مضمومة إليها، وأثبتها المعتزلة وقالوا نقل الشارع هذه الألفاظ عن مسمياتها اللغوية، وابتدأ وضعها لهذه لا لمناسبة، فليست حقائق لغوية، ولا مجازات عنها، والحق أنها مجازات اشتهرت، فصارت حقيقة شرعية والزمخشريّ ليس بمقلد للمعتزلة
في كل ما يقولونه خصوصا فيما يتعلق بالعربية والكلام على هذه المسئلة مع أدلته مفصل في الأصول. قوله: (واشتهار هذا اللفظ إلخ) هو رذ لما في التفسير الكبير من أنّ ما اختاره الزمخشريّ من الاشتقاق يفضي إلى الطعن في كون القرآن حجة، لأنّ الصلاة من أشهر الألفاظ، واشتقاقه من تحريك الصلوين من أبعد الأشياء معرفة فلو جوّزنا ذلك وقلنا: إنه خفي واندرس بحيث لا تعرفه إلاً الآحاد لجاز مثله في سائر الألفاظ ولو جاز ما قطعنا بأنّ مراد الله من هذه الألفاظ ما يتبادر إلى أفهامنا لاحتمال إرادة تلك المعاني المندرسة ولما كان مبناه على أنّ ما اشتهر لا ينقل من الخفيّ أجاب عنه بما ذكر مع أنه غير مسلّم مطلقا أيضاً لأنه إن أراد بهذا اللفظ لفظ الصلاة، فهو كذلك وان أرأد لفظ صلى أو مادّته فغير مسقم ديمانّ المصلي بمعنى السابق، وثاني خيل الحلبة مشهور مستفيض بل قد يقال إنه قبل الشرع أشهر منه، والمراد بالمعنى الثاني العبادة ذات الأركان المعلومة الدال عليها قوله لأن المصلي يفعله، وقيل إنه أراد بالثاني المنقول إليه المتنوّع إلى نوعين الدعاء والفعل المخصوص، وردّ بأنّ قوله وإنما سمى إلخ مرتبط بقوله لأنّ المصلي يفعله إلخ وحينئذ يكون هذا فصلَا بين العصا ولحائها، والظاهر
أنه تكلف مستغن عن الردّ وأنه كله مقول القول فإنه بعينه كلام الكشاف. وقوله: (لا يقاخ) أي لا يضرّه، وهو مجاز من قولهم قدح في عرضه ونسبه إذا عابه هذا هو المراد بنوع تسمح، والقدح بمعنى العيب كما في الأساس من قدح الدود في العود إذا وقع فيه، والقدح في عرف الأطباء إدخال الميل في العين إذا انصب فيها مادّة تمنع النظر ومنه قال بعض المتأخرين من الشعراء:
إذا انصبّ ماء اليأس في مقلة الرجا فليس لها عند اللبيب سوى القدح
قوله: (وإنما سمي الداص إلخ) قد علمت أنه من مقول قوله قيل: فإنه برمته كلام الكشاف، وهو بيان لما في الواقع عنده من أنها في الدعاء استعاوة من الصلاة المشهورة لا أصل لها واطلاقها عليها مجاز من إطلاق الحال على المحل أو الجزء على الكل، وقد أورد عليهم أنهم اشترطوا فيه أن يعدم الكل بعدمه وأن يكون الجزء مقصودا من الكل، وأنه لا يصح حينئذ إطلاقه على صلاة الأخرس، وهو كله مخالف للواقع وقيل إنه معنى متعلق بالأخير وهو كون الصلاة من تحريك الصلوين، فكأنه جواب عن سؤال تقديره ما وجه استعمالها على هذا في الدعاء إلى آخر ما فصله مما لا حاجة إليه. قوله:(الرزق في اللغة الحفظ إلخ) هذه الجملة معطوفة على الصلة وما موصولة أو موصوفة أو مصدرية وقوله في اللغة الحظ وقيل: العطاء. وقيل: الملك تبع فيه، وفي استشهاده بهذه الآية الراغب كما هو دأبه وقال في تفسيرها: تجعلون نصيبكم من النعم تحرّي الكذب اهـ.
وقيل الرزق في لغة أزد يكون بصعنى الشكر وهو المراد في هذه الآية وقيل شكر فيها
مقدّر له هو مع أنه خلاف الظاهر محتاج إلى التأويل والتجوّز إذ لا يكون التكذيب شكرا إلا على التنزيل منزلته والتهكم، فلا يرد على المصنف رحمه الله ما قيل: من أنه لا استشهاد في الآية وقيل: الظاهر من الحظ الاسم بمعنى الجدّ والنصيب لا المصدر من حظظ الشيء بالكسر بمعنى بهر منه شدّة، وإن جاء في اللغة لكليهما، ويؤيده استدلاله بالآي، ولا يخفى أنّ المناسب أن يفسر الرزق بالمعنى المصدري لأنّ المذكور فيها أن والفعل. قوله:(والعرف خصصه بتخصيص الشيء إلخ) هذا يناسب المعني المصدري إلا أن يقال المراد بالشيء المخصض إلخ لأنّ تخصيص الشيء إنما يكون ببعض أفراده والتض عيص ليس من أفراد الحظ، والرزق بالفتح لغة الإعطاء لما ينتفع الحيوان به، وقيل إنه يعمّ غيره كالنبات، والرزق بالكسر اسم منه ومصدر أيضاً بمعناه، لكن المفهوم من كلامهم أنه ليس بمصدر، ثم إنّ المعنى اللغوي وهو النصيب شامل للغذاء ولغيره وللأمور الحسية والمعنوية وللحلال والحرام، ولذا قال:
والعرف خصصه والتخصيص جعله خاصاً به لا يتعذاه، وتمكينه من الانتفاع به بحيث لا يمنعه مانع منه يقال مكنته من الشيء أي جعلت له عليه قدوة فتمكن منه، واستمكن وكذا أمكنته، ويقال أمكنه الأمر إذا سهل وتيسر، والانتفاع به بأكله وشربه ولبسه ونحوه والمراد بالعرف عرف اللغة، أو الشرع وشتعمل الرزق بمعنى المرزوق المنتفع به، وهو النصيب المعطى لأنه يتعدّى لمفعولين، فيصح تسمية كل منهما مفعولاً
إلا أنّ المتبادر منه الثاني إذا أطلق لأنّ الأوّل آخذ فهو فاعل معنى كما صرّح به النحاة، فمن قال الظاهر أنّ المرزوق الشخمى الذي وصل إليه الرزق لا نفس الحظ فقد خلط وخبط، وتمكن الانتفاع صحته منه، وإن لم يكن بالفعل فهو بمعنى ما قيل من أنه سوق الله إلى الحيوان ما ينتفع به كما هو عند الجميع، والفرق ما سيأتي من فسره بما ساقه إلى العبد ليأكله فهو باعتبار الأغلب أو التغليب، وما أعطاه الناس لغيرهم داخل فيه لتمكنهم منه أو هو رزق نظراً للغير الواصل إليه كما قال:
لم لا أحبّ الضيف أو أرتاح من طرب إليه
والضيف يثل رزقه عندي ويشكرني عليه-
وقيل هو ما به قيام الحيوان وبقاؤه. قوله: (والمعتزلة لما استحالوا إلخ) ردّ على الزمخشريّ، وقد اختلفوا في أنّ الحرام رزق أم لا وليس الخلاف في معناه اللغوي، فإنه ما ينتفع به مطلقاً كما صرّحوا به وليس هو مما ينبغي ذكره في علم الكلام وليس أيضاً نزاعا لفظياً راجعا لتفسيره بل النزاع في معناه شرعا بعد الاتفاق على أنّ الإضافة إلى الله الرازق معتبرة في مفهومه، ولذا فسر تارة بما أعطاه الله عبده ومكنه من التصرّف فيه بحيث لا يكون لغيره المنع منه، فلا يكون الحرام رزقاً وتارة بما أعطاه الله لقوامه وبقائه خاصة فقالت المعتزلة: لما كانت الإضافة إليه تعالى معتبرة فيه لزم أن لا يصدق على الحرام بناء على أصلهم الفاسد في عدم إسناد القبائح إليه تعالى وأهل السنة قالوا كل من عند الله، والإضافة لا تمنع كون الحرام رزقا وفي الكشف الاتفاق على أنه من فضل الله عليهم كما تفضل بالى ئجاد وسائر أسباب التمكين، فليس عدم الاستناد لكونه ليس من فعله تعالى، كما توهم بعضهم بل لأنهم يقولون لا يحسن أن يسند إليه تعظيماً له ولأنّ فيه شوباً من فعل العباد، لأنهم أكسبوه وصف الحرمة فنقول التعظيم في إسناده إلى الله تعالى لئلا يوهم إيجاد العبد ما لا يستقل به اتفاقا، وأمّا وصف الحرمة، فلو سلم أنه ليس بإيجاده لم يفد كيف، وقد ثبت بالقاطح العقل والنقل أنّ الكل منه وبه واليه، نعم لا يوصف الفعل بالصفات الخمس إلا من حيث قيامه بالى مملف لا من حيث صدوره عنه تعالى، وهذا أصل نافع وقد ذهب إلى مذهب المعتزلة بعض أهل السنة بناء على أنه لا يملكه لخبثه كما قال النسفي، وفي أحكام القرآن للجصاص: إطلاق اسم الرزق إنما يتناول المباح دون المحظور، وما اغتصب وأخذ بالظلم لم يجعله الله رزقا له لأنه لو كان رزقاً جاز إنفاقه، والتصدّق والتقرّب به إليه تعالى، ولا خلاف بين المسلمين في أنّ الغاصب محظور
عليه الصدقة بما اغتصبه وفي الحديث: " لا يقبل الله صدقة من غلول " اهـ.
(أقول) ما ذكره من عدم الخلاف لا يخفى ما فيه قال ابن القيم في كتابه بدائع الفوائد لو
عمل الخير بمال مغصوب اختلف فيه فقال ابن عقيل رحمه الله: لا ثواب للغاصب لأنه آثم مستحق للعقوبة ولا لرب المال لأنه لا نية له ولا ثواب بدون فصد ونية، وإنما يأخذ من حسنات الغاصب بقدر ماله، وقيل إنه نفع حصل بماله وتولد منه، ومثله يثاب عليه كمن له ولد برّ يؤجر به وان لم يقصده والمصائب إذا ولدت خيرا الظاهر أنه يؤجر عليها وعلى ما تولد منها، وكذا الغاصب فإنه وأن تعدّى واقتص من حسناته فما كان يعمله يؤجر عليه لأنه لو فسق به عوقب مرّتين على الغصب والفسق، فإذا عمل به خيراً ينبغي أن يثاب عليه فمن يعمل مثقال ذرّة خيراً يره، ومعنى استحالوا عدّوه محالاً لأنّ الإقدار على القبيح قبيح كخلقه عندهم، واعترض على المصنف رحمه الله بأنّ وصف التمكين ليس معتبرا عند أهل الستة وبأنّ التمكين لا ينافي المنع والزجر كما في سائر المعاصي، ألا ترى أنهم قالوا بإرجاع المحامد إليه تعالى دون القبائح باعتبار أنّ الأقدار على الحسن حسن والتمكين من القبيح ليس بقبيح، وقد اشتهر أنه تعالى خالق القوى والقدر وأجيب بأنّ الأقدار والتصكين على وجهين: الأؤل إعطاء القدرة الصالحة لصرفها إلى الخير والشرّ، وذلك غير قبيح وحاصل منه تعالى على زعمهم. والثاني جعل الشيء خاصاً بأحدهما داخلاً تحت تصرّفه قريبا من الانتفاع بالفعل، وذلك غير واقع في زعمهم فلا إشكال. قوله:(ألا ترى إلخ) في الكشاف وأسناد الرزق إلى نفسه للإعلام بأنهم ينفقون الحلال الطلق الذي يستاهل أن يضاف إلى
الله تعالى ويسمى رزقاً منه وقال قدس سرّه: تمسك بالإسناد فقط نظرا إلى أنّ الرزق لغة يتناول الحرام أيضا وتخصيصه بما عداه عرف شرعي كما ينبىء عنه قوله رزقا منه، وقد يقال بنى كلامه على التقدير أي إن قدر أنّ الحرام يسمى وزقا شرعا أو لغة فالإسناد إلى نفسه يخرجه قطعا، وهو إشارة إلى ما قيل من أنه إذا أسند 10 لى الله تعالى فالمراد به الحلأل بالإتفاق فلا يكون هذا مؤيدا لمذهبه، ولم يرتض الجواب بأنّ المؤيد له قوله ويسمى رزقا، لأنّ الظاهر من قوله منه أنه للتقييد، فلا يصلح أيضا له وحمله على أنه تجريد بناء على أنّ الإضافة إليه معتبرة في مفهومه خلاف الظاهر والطلق بكسر الطاء وسكون اللام وقاف الحلال كما في النهاية يقال أعطيته من طلق مالي أي من صفوته وطيبه فالوصف للمبالغة، والأولى تفسيره بالخالص وفي المصباح وشيء طلق وزان
حمل أي حلال، وافعل هذا طلقاً لك هـ أي حلالاً ويقال الطلق المطلق الذي يتمكن صاحبه فيه من جميع التصرّفات فيكون فعل بمعنى مفعول مثل الذبح بمعنى المذبوح اهـ. قوله:(فإنّ انفاق الحرام إلخ) بيان وتعليل للإيذان، ولا يرد عليه قول الفقهاء إذا اجتمع عند أحد مال لا يعرف صاحبه ينبغي له أن يتصدّق به، فإذا وجد صاحبه دفع قيمته أو مثله إليه، فهذا الإنفاق مما يثاب عليه لأنه لما فعله بإذن الشارع اسنحق المدح لأنه لما لم يعرف صاحبه كان في يده وله التصرّف فيه، وانتقل بالضمان إلى ملكه وتبدلت الحرمة إلى ثمنه فتامل. قوله:(وذمّ المشركين إلخ) عطف على قوله وأسند إلخ وهذا دليل ثان لهم بأنهم ذموا على جعل بعض الحرام رزقا فيقتضي أنه ليس كذلك، ولا يخفى ضعفه فإنهم إنما ذموا على جرأتهم على التحريم والتحليل وهو لا يليق بغير الشارع وسيأتي ما فيه. قوله:(وأصحابنا إلخ) حاصله منع كون الإسناد للإيذان المذكور بل لأمر آخر، وهو تعظيم الرزق لأنه جل وعلا إنما يضاف إليه، وينسب ما عظم كبيت الله، وقال تعالى حكاية {وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ} [الشعراء: 80] فإنه إنما يضاف إليه الأفضل فالأفضل وتعظيم الرزق يتضمن معرفة قدر النعمة وهو أوّل مراتب الشكر وأمّا التحريض وهو الحث على الإنفاق فلأنّ الرزق إذا كان منه وله لا ينبغي الإمساك، وقد قيل الجود بالموجود ثقة بالمعبود، ومن أيقن بالخلف جاد بالعطية، ومن تحقق أنّ معطيه ذو الجلال والإكرام كيف يضن بما لديه من الحطام ولذا قال عليه الصلاة والسلام:" أنفق بلالاً ولا تخش من ذي العرش إقلالاً "(1) . وقيل إنه لتعظيم حق الإنفاق بأن يعرف أنه معط من مال الله لعبيده فلا يضيفه لنفسه لأنه أمين يصرف ماله لمستحقه، وهذا مع ظهوره خفي على من قال إنّ التحريض غير ظاهر، وهو إنما يفهم من المدح، وقد يوجه بأنّ الرزق والإنفاق يشتركان في أنهما صرف الشيء إلى الغير، فإذا كان الرزق صفة كمال لنسبتة إلى الله تعالى كان الإنفاق كذلك وهذا مما يقضي منه العجب. قوله:(والذم لتحريم ما لم يحرّم) مبني للفاعل ##########
#######كونه أهمّ كأنه قال: ويخصمون بعض المال الحلال بالتصدّق به، وقال قدّس سرّه: الجارّ والمجرور مفعول للفعل على الإطلاق تنبيهاً على أنه بحسب المعنى مفعول به أي بعض ما رزقناهم، وان كان بحسب اللفظ صفة مفعول مقدّر أي شيئاً مما رزقناهم وأمّا كونه أهمّ فلقصد الاختصاص مع رعاية الفاصلة لا يقال إدخال من التبعيضية يغني عن التقديم للتخصيص، فإنّ إنفاق البعض يتبادر منه عدم الشمول ومن ثمة كان فيه صيانة وكف لأنا نقول يجوز مع إنفاق البعض الشمول بأن يكون الباقي مسكوتا عنه، وان كان احتمالاً مرجوحاً، فإذا قدم زال ذلك الاحتمال بالكلية لظهور الفرق بين بعض مالي أنفقت وأنفقت بعض مالي، فإن قلت: تخصيص الإنفاق بالزكاة إذا فسرت به نفي لما يقابلها من التطوّع، والمقام يأباه قلت: لما عبر عنها ببعض ما رزقناهم كانت بهذا الاعتبار مقابلة لجميع المال، فالنفي. توجه نحوه، وقد عرفت غير مرّة وجه صلوح المطلق لتناول. الكل، ومن البين أنّ مقام المدح يناسب العموم (أقول) المذكور في كلام القوم أنّ تقديم المعمول يفيد الحصر فيما يدل عليه صريحا وأنه المقصور عليه فإذا قلت من التمر أكلت كان المعنى ماكولي التمر دون الزبيب لا بعض التمر دون كله فادّعاء الحصر فيما يفيده المفهوم وجعله
قيدا يتوجه إليه النفي الذي هو فبه بالقوّة لأنه بمعنى ما، وإلا على تقدير صحته لا يخفى بده وتكلفه وكأنّ الداعي له إلى ارتكابه أنه إنما يناسب مذهب أهل السنة فإنه إذا عمّ الرزق الحلال والحرام كان الإنفاق الممدوح به بعضه، وهو الحلال دون البعض الآخر، فيتأتى الحصر بلا تكلف أمّا على مذهبه، فلا ينبغي تفسير الاهتمام بالحصر، ولذا قيل إنه لشرف المكتسب بإسناده إليه تعالى، وقيل تقديمه لأنّ المكتسب مقدّم على الإنفاق في الخارج. قوله:(والمحافظة على رؤوس الآي) بالمد جمع آية وهي في الأصل العلامة والمراء بها بعض مخصوص من القرآن، وهذا بناء على أنّ في القرآن سجعا، وقال البقاعي في كتاب فصاعد النظر: اختلف فيه السلف فقال أبو بكر الباقلاني في كتاب الإعجاز: ذهب أصحابنا الأشاعرة كلهم إلى نفي السجع عن القرآن كما ذكره أبو الحسن الأشعريّ في غير موضع من كتبه، وذهب كثير ممن خالفهم إلى إثباته اهـ. والقول الثاني فاسد لما في القرآن من اختلاف أكثر فواصله في الوزن والرويّ، ولا ينبغي الاغترار بما ذكره بعض الأماثل كالبيضاوي والتفتازاني من إثبات الفواصل والسجع فيه، وأنّ مخالفة النظم في مثل هارون وموسى بحسبه، ونقل أبو حيان في قوله تعالى:{وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ} [فاطر: 21] في فاطر أنه لا يقال في القرآن قدم كذا أو أخر كذا للسجع لأنّ الإعجاز ليس في مجرّد اللفظ بل فيه، وفي المعنى ومتى حوّل اللفظ لأجل السجع عما كان لا يتمّ به المعنى بدون سجع نقض المعنى، وقيل عليه إنه نسي ما قاله في الصافات من أنّ التعبير بما رد ومريد للفاصلة، ثم أنه قال لو كان في القرآن سجع لم يخرج عن أساليب كلأمهم ولم يقع به إعجاز ولو جاز أن يقال سجع معجز
جاز أن يقال شعر معجز، والسجع مما تألفه الكهان، وقد أنكر النبيّ صئى الله عليه وسلّم على من سجع عند 5 (1) على ما عرف في كتب الحديث، ولو كان سجعا كان قبيحا لتقارب أوزانه واختلاف طرقه فيخرح عن نهجه المعروف، ويكون كشعر غير موزون وما احتجوا به من التقديم والتأخير ليس ببئميء فإنه لذكر القصة بطرق مختلفة (أقول) أطال بلا طائل لتوهمه أنّ السجع كالشعر لالتزام تقفيتة ينافي جزالة المعنى.
وبلاغتة لاستتباعه للحشو المخل وأنّ الإعحاز بمخالفته لأساليب الكلام فثغ على هؤلاء الاعلا 3، وليس بشيء، والعجب منه أنه ذكر كلام الباقلاني مع التصريح فيه بأنّ من السلف من ذهب إليه، والحق أنه في القرآن من غير التزام له في الأكثر وكأنّ من نفاه نفى التزامه أو أكثريته، ومن أثبته أراد وروده فيه في الجملة، فاحفظه ولا تلتفت لما سواه، وهذا مما ينفعك فيما سيأتي ولت افصلناه هنا لتكون على ثبت منه، والذي عليه العلماء أنه تطلق الفواصمل عليه دونل السجع. قوله:(وإدخال من إلخ) قد مرّ أنّ الجارّ والمجرور في محل نصب لأنه صفة مفعول 1 مقدر قد قام مقامه لا مفعول حقيقة ميلاً مع المعنى لأنه اسم تأويلَا كما سياتي في قوله (ومن الناس) وقد قيل: إنّ هذه النكتة مبنية على أنّ المراد بالإنفاق مطلقه 1 الأعئم إذ الزكاة لا تكون بجميع المال، واً نه مخصوص بمن لم يصبر على الفاقة ويتجرّع مرارة الإضا- قه، وقد تصدّق بعضهم بجميع ماله، ولم ينيهره- عليه النبيّ صلى الله عليه وسلم، وما في بعض الحواشي من أنّ المصئف تبع في هذا الزمخشريّ، وهو نزغة اعتزالية وهم فاسد. قوله:(ويحتمهل إلخ) المعاون بوزن المساجد جمع معونة، وهي ما يستعان به وينعكع من العون، وهو المساعدة والمظاهرة ويقال: استعانه واستعان به، والاسم منه المعونة والمعانة بالفتح، ووزن المعونة مفعلة بضم العين، وبعضهم يجعل الميم. أصلية، فوزنها فعولة وجمعها على معاون قياس، فلا يقال إنه لم يوجد في كتب اللغة المشهورة، وأنه ركيك وهي عامّة لما ينتفع به في قوام البدن وبقاء الروح، فيشمل المال والعلوم والمعارف، والإنفاق حينئذ بمعنى الإيصال مطلقا بالبذل والتعليم وغير ذلك، فهو مجاز من استعمال المقيد في المطلق فليس فيه جمع بين الحقيقة والمجاز كما توهم، والرزق رزق الأبدان وهو معلوم، ورزق القلوب وهو المعارف، وأجلها معرفة الله تعالى، ومقام المدح يقتضي التعميم، لكنه خلاف الظاهر المعروف في استعمال الرزق والإنفاق، ولذا أخره والإنفاق من المعارف يزيدها ومن الأموال ينقصها وهذا من كلام الراغب. وعبارته: الإنفاق كما يكون من المال والنعم الظاهرة يكون من النعم الباطنة كالعلم والقوّة والجاه، والجود التامّ بذل العلم ومتاع
الدنيا عرض زائل، وقال بعض المحققين
في الآية: ومما خصصناهم به من أنوار المعرفة يفيضون قيل في بعض النسخ معادن بالدال بدل الواو جمع معدن، وهو موضع العدن بمعنى الإقامة، ومعدن كل شيء مركزه، وهو تحريف من جهلة النساخ نشأ من لفظ الكنز، فلا ينبغي ذكره. قوله:(ويؤيده قوله عليه الصلاة والسلام إنّ علماً لا يقال به (1) إلخ) هذا هو الصحيح الموافق للحديث كما سيأتي وفي نسخة يقاد وفي نسخة يقال فيه وهذا حديث أخرجه ابن عساكر في تاريخه عن ابن عمر مرفوعاً وأخرج الطبراني في الأوسط " مثل العلم الذي يتعلم به، ثم لا يحدث به كمثل الكنز الذي لا ينفق منه)) 2 (وأخرح ابن أبي شيبة عن سلمان علم لا يقال به كنز لا ينفق منه، ومعنى يقال به يحدث ولذا عداه بالباء كما يقال: قال بيده إذا أهوى بها، وقال برأسه إذا أشار بها. وقوله: (وإليه ذهب إلخ) ففسره هذا القائل بإفاضة أنوار المعرفة، وخصها لشرفها أو لأنها غير متبادرة فلا يرد عليه أنه غير مطابق لما قبله لأنه خص الرزق بالمعرفة ولم يعمم، وأنوار المعرفة كلجين الماء لأنّ النور ظاهر بنفسه مظهر لغيره، فأطلق على كل مظهر، ولذا سمي العلم والكتب الإلهية والرسل نورا وافاضة الأنوار انتشار أشعتها مستعارة من إفاضة الماء، وما في مما رزقناهم تحتمل المصدرية والموصوفة والموصولة، وأقربها الأخير، وعليه فالعائد محذوف تقديره على ما قاله أبو البقاء رزقناهموه أو رزقناهم إياه وأورد عليه في الدرّ المصون أنه على الأوّل يلزم اتصال ضميرين متحدي الرتبة والانفصال في مثله واجب، وعلى الثاني يمتنع حذفه، لأنّ العائد متى كان منفصلاً لزم ذكره كما نصوا عليه وعللوه بأنه لم ينفصل إلاً لغرض، وإذا حذف فاتت الدلالة عليه، وأجاب عن الأوّل بأنه لما اختلف الضميران جمعاً وافراداً جاز اتصالهما، وإن اتحدا رتبة كقوله:
وقدجعلت نفسي تطيب لضغمة لضغمهماهايقرع العظم نابها
وردضاً فإنه لا يلزم من منع ذلك ملفوظاً به منعه مقدّر الزوال القبح اللفظي، وعن الثاني
بأنه إنما يمنع لأجل الليس ولا لبس هنا اهـ.
(وأنا أقول) هذا غير مسقم لأنّ الذي يمنع حذفه ما كان انفحماله لغرض معنويّ كالحصر
لا مطلقا، كما قاله ابن هشام في الجامع الصغير، وقال الرضيّ: شرط حذفه أن لا يكون منفصلاً بعد إلاً نحو ما جاءني الذي ما ضربت إلا إياه، وأما في غيره فلا منع نحو ضيع
الزيدان الذي أعطيتما أي إياه واعترض عليه الأستاذ الخال رحمه الله بأنه كان ينبغي له أن يقول إلاً لغرض معنويّ، ولا يقيده بإلاً فتأمّل. قوله:(ومما خصصناهم به من أنوار المعرفة يفيضون) قد مرّ بيانه، وقد أورد عليه أنه تفسير للقرآن بخلاف ظاهر اللفظ من غير ضرورة ومثله لا يجوز نعم يجوز أن يقال: إنّ مثله يستفاد بطريق الإشارة، وأصل الفيض ما فاض من الماء لامتلاء الإناء ونحوه، ثم استعير لغيره كالحديث فيقال: حديث مستفيض أي شائع وهو المراد لما في التعليم من الإشاعة. قوله: (هم مؤمنو أهل الكتاب إلخ) قدّم هذا الوجه لرجحانه رواية ودراية لأنه مأثور عن الصحابة، كابن عباس وابن مسعود رضي الله عنهم، ولأنّ التغاير هو الأصل في العطف، والحاصل أنّ المعطوف إمّا أن يكون مقابلاً للمعطوف عليه ومباينا له أو لا وعلى الأوّل المعطوف عليه الذين يؤمنون بالغيب أو المتقين وعلى الثاني، إمّا أن يكون المعطوف متحدا بالمعطوف عليه بالذات أو طائفة منه، فالوجوه فيه أربعة وسيأتي بيانها، وعبد الله بن سلام بتخفيف اللام، وهي مثددة في غيره من الأعلام صحابيّ أنصاريّ بطريق الحلف وهو من اليهود وبني إسرائيل من بني قينقاع من ولد يوسف النبيّ صلى الله عليه وسلم وكان اسمه الحصين فسماه النبيّ صلى الله عليه وسلم عبد الذ وكان صلى الله عليه وسلم كثيرا ما يغير الأسماء، وقد جمع السيوطيّ رحمه الله من غير النيّ عليه الصلاة والسلام اسمه في جزء له، وقد شهد له النبيّ صقى الله عليه وسلّم بالجتة، ونزلت فيه آيات كقوله تعالى:{وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ} [الأحقاف: 10] وقوله: {وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ} [الرعد: 43] واختلف في زمان إسلامه دون وفاته فإنه توفي بالمدينة سنة ثلاث وأربعين من الهجرة النبوية وله قصة مع اليهود مذكورة في كتب الحديث والأضراب جمع ضرب بفتح الضاد وكسرها ورجح الزمخشريّ الثاني، وقيل جمع ضريب كشريف وأشراف، وقال النوويّ أضرأب أشباه جمع ضرب وبمعناه ضريب، وجمعه ضرباء ككريم وكرماء وانكار القاضي عياض له وهم
وأصله كما في الفائق من يضرب قداح الميسر، ثم تجوّز به عن كل نظير وشاع فيه، وفي الأساس ضرب القدح، وهو ضريبي لمن يضربها معك وهم ضربائي، ومنه ضرب وضريب وقوله قدّس سرّه: أضرابه أمثاله والجمهور على أنه جمع ضرب بالفتح وعند المصنف رحمه الله بكسرها فعل بمعنى مفعول كالطحن وهو الذي يضرب به المثل، ولا بد أن يكون مماثلَا للمضروب فيه، ويعضده مثل وشبه، وهو مخالف لما حقق في اللغة كما سمعته، وفي بعض النسخ أصحابه أي الذين صاحبوه في الإيمان من أهل الكتاب. قوله:(معطوفون على الذين إلخ) أي سواء كان منقطعا عن المتقين أو موصولاً به، وهذا بخلاف عطف، والذين يؤمنون على المتقين كما في الوجه الآني، فإنما يصح على تقدير الوصل دون
الانقطاع كما صرّح به الفاضل المحقق، وذلك لما- فيه من الفصل بين المعطوفين بأجنبيّ كما سيأتي ومعطوفون خبر ثان للفظ هم وكذا داخلون، ودخول أخصين بالنصب على أنه مفعول مطلق، وأخصين يجوز فيه كسر، الصاد وفتحها على أنه جمع مذكر سالم لا خمى باعتبار المعنى أو مثنى باعتبار أنهم فريقان، وأعتم بالإفراد المراد به المتقون وأفرده لوقوعه في مقابلة الجمع أو المثنى. وقوله:(إذ المراد إلخ) تعليل لما يدل عليه المقام من تغاير المتعاطفين بالذات، وأولئك إشارة إلى الذين يؤمنون بالغيب المعطوف عليه، والذين. آمنوا خبر لقوله: المراد وآمنوا بمد ألف بعد الهمزة، وعن الشرك والإنكار وقع في نسخة عن شرك وإنكار منكرين أي آمنوا إيماناً منتقلَا أو متباعداً عن ذلك، وهم من لم يكن من أهل الكتاب ويجوز قصرها، وليس هذا الوجه مقطوعا به حتى يرد عليه ما قيل: لأنه لا ينبغي والظاهر أن يبدل ما ذكر بقوله على أنّ المراد إلخ لأنّ ذكر ما يقابله يأباه قطعاً، وأما القول بأنّ التغاير بالصفات لا بالذات أرجح لاشتراك الفريقين في الإيمان بالمنزلين، فقد دفع بأنّ المتبادر من العطف أنّ الإيمان بكل منهما على طريق الاستقلال، وهو مختص بأهل الكتاب لأنّ إيمان غيرهم بما. أنزل من قبل إنما هو على طريق الإجمال والتبع للإيمان بالقراًن لا سيما في مقام المدح كما هنا، وقد قال تعالى:{الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ} [الأنعام: 20] إلى قوله: {يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُم مَّرَّتَيْنِ} [القصص: 54] كما ورد في الصحيح أنّ لأهل الكتاب أجرين بواسطة ذلك إلاً أنه قيل عليه أنّ قوله تعالى: {قُولُواْ آمَنَّا بِاللهِ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ} [البقرة: 136] الآية بالعطف مع عمومها لسائر المسلمين يمنع التبادر لخفاء التغاير الذاتي بينهما، وقيل: التغاير باعتبار آخر وهو أنّ الإيمان الأوّل بالعقل، وهذا بالنقل، وأمن الفريق الأوّل عن الشرك أنّ شأنهم ذلك، وجلهم كذلك وان كان فيهم من لم يشرك أصلَا كعليّ رضي الله عنه، فلا يرد ما قيل إنه يخرج عن الطائفتين من نشأ على الإسلام، ولم يتدنس بشرك إلاً أن يقال الإيمان المتضمن للاعراض عن الشكر لا يوجب سبقه، ثم قال: الأوجه أنّ المراد بالذين يؤمنون بالغيب من عدا أهل الكتاب لأنّ إيمانهم بما عرفوه كما يعرفون أبناءهم، وإنّ أولئك على هدى إشارة إلى الطائفة الأولى لأنّ إيمانهم بمحض الهداية الربانية، {وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} إشارة إلى الثانية لفوزهم بما كانوا ينتظرونه، وهم يقاتلونهم. لأنهم لم يشركوا ولم ينكروا، والمراد لجالفريقإ الأوّل مجموعهم لا جمصهم إذ هم ليسوا كذلك، فلا يرد النقض بمن مرّ مع أنه مغمور بينهم، فيدخل على حد بنو فلان قتلوا قتيلاً، وتقديم الإيمان بالغيب لسبقه ذاتا وزمانا وعدم شرك أهل الكتاب ظاهر، وأمّا ما ذكره المصئف رحمه الله تعالى في تفسير قوله تعالى ما كان إبراهيم يهودياً فستراه وما فيه. قوله:(وهو قول ابن عباس رضي الله عنهما إلخ) أخرجه ابن جرير مسنداً، فلا وجه للتردّد فيه، والقول بأنه إن صح عنه فهو تفسير للموصول الثاني
بالسمع، ويؤيده أنّ صدور الإيمان عنهم مرّتين سابقاً قبل ظهور الإسلام، ولاحقاً بعده أدخل في المدح والعطف لا يقتضي المباينة الكلية لجواز أن يراد بالموصول الأوّل ما يعم الثاني، وعطف الأخص على الأعمّ لمزيد الاهتمام شائع وفيه ما فيه. قوله:(أو على المتقين) هذا هو الوجه الثاني وهو مشارك للأوّل في أنه أريد فيهما بالذين يؤمنون بما أنزل إليك مؤمنو أهل الكتاب ولذا قدمه على ما بعده. وقوله: (وكأنه قال هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ عن الشرك إلخ) إشارة إلى وجه التغاير بيم، المتعاطفين، نإنّ المراد بالمعطوف عليه من آمن من العرب الذين ليسوا بأهل كتاب وبالمعطوف من آمن بالنبيّ صلى الله عليه وسلم من أهل الكتاب، وإنما بينا هذا مع ظهوره، لأنه قيل: إنه
لتخصيص الذين يؤمنون بمن آمن عن الثرك، لتكون الصفة مقيدة للمتقين، وهو تكلف لا حاجة إليه وبهذا علم أنه لا وجه لما قيل هنا من أنه لا معنى لإخراجهم من المتقين مع اتصافهم بالتقوى إلاً أن يحمل على المشارفين، فيتعين العطف عليه لتعذر الحمل على المشارقة في المعطوف، وكذا ما قيل إنه كان على المصنف رحمه الله أن يؤخر هذا عن الاحتمال الذي بعده لئلا يفصل بين الوجهين المتناسبين بأجنبي، فإنّ الاحتمال من عطف الذين على الذين بتوسيط العطف على المتقين بينهما لا ينبغي، وقد مرّ ما قاله الفاضل المحقق من أنّ العطف على المتقين إنما يصح على تقدير الوصل دون الانقطاع لما يلزمه من الفصل بالأجنبي بين المبتدأ، وهو الذين يؤمنون بالغيب وخبره أعني أولئك أو بين المعطوف والمعطوف عليه بأجنبيّ، وهو الذين يؤمنون بالغيب أيضا، وقد قيل إنّ هذا ليس بممتنع لأنّ المستأنف مرتبط بالمستأنف عنه، فليس بأجنبي من كل الوجوه وفيه نظر. قوله:(ويحتمل أن يراد إلخ) أشاروا بالتعبير بيحتمل هنا إلى أنّ هذا التفسير غير مأثور وأنه من بنات الأفكار، وأورد عليه قدس سرّه أنّ الإيمان بالكتب المنزلة مندرح في الإيمان بالغيب، وأجاب بأنه للاعتناء بشأنه كأنه العمدة، وأورده هنا بعض أرباب الحواشي، وهو غير ملاق لكلام المصنف رحمه الله لأنه بين عقبه أنّ المراد عنده بالإيمان بالغيب الإيمان بما يدرك بالعقل، كالإيمان بالله وصفات جلاله واليوم الآخر وأحواله، والإيمان بما أنزل إليه وأنزل من قبله الإيمان بما يدرك بالسمع كالكتب، وبما تضمنته فبينهما تغاير باعتبار المفهوم والصفات، لا أنه من قبيل عطف ملائكته وجبريل، وهذا إن لم يرد على الشريف لعدم تصريح الزمخشريّ بما ذكوه يرد على من أورده هنا من أرباب الحواشي والأعيان جمع عين بمعنى الذات أي ما صدقت عليه الأسماء الموصولة في النظم متحد بحسب الذات متغاير بحسب المفهوم والصفات كما سيأتي. قوله:(ووصط العاطف إفي) جواب عن سؤال مقدّر، وهو أنّ العطف يقتضي المغايرة واتحاد الأعيان ينافيه، وعدد الشواهد إشارة إلى أنه يجري في الأسماء والصفات باعتبار تغاير المفهومات ويكون بالواو والفاء، وثم باعتبار تعاقب الانتقال في الأحوال. وقوله:
(إلى الملك إلخ) بيت من قصيدة من المتقارب، والقرم بفتح فسكون أصله الفحل، ثم قيل للسيد والهمام العظيم، وإنما تصف العرب به الملوك لعظم هممهم أو لأنهم يفعلون ما يهمون به لما عرف من عزائمهم، والكتيبة بالتاء المثناة الفوقية الجيش، والمزدحم موضع الازدحام وهو التدافع لضيق المجلس بكثرة من فيه، ومنه استعير ازدحام الغرماء على المال والمراد به هنا المعركة. قوله:(يا لهف إلخ) هو من شعر لابن زيابة التيمي أجاب به عن شعر قاله الحارث بن همام بن مرّة بن ذهل بن شيبان وهو:
أيا ابن زيابة إن تلقني لاتلقني في النعم العازب
وتلقني يشتد بي أجرد مستقدم البركة كالراكب
(فاجابه بقوله) :
يا لهف زيابة للحارث الصابح فالغانم فالآيب
والله لولا لاقيته خالياً لآب سيفانا مع الغالب
أنا ابن زيابة إن تدعني آتك واللعن على الكاذب
والعازب البعيد في المرعى، والنعم الإبل أي تلقني حاضرا، وهذا تعريض له بأنه راعي
الإبل لا سيد في قومه والأجرد الفرس القصير الشعر، وهو ممدوح في الخيل والبركة، بكسر الموحدة وسكون الراء المهملة بمعنى الصدر هنا، وزيابة اسم أبي الشاعر وقيل اسم أمّه كما في شروح إلحماسة، وما قيل من أنّ قول الطيبي أنه اسم أبي الشاعر وهم هو الوهم أي يا حسرة أبي أو أمي من أجل ذلك الرجل، والصابح بالباء الموحدة المغير صباحاً ويكون بمعنى الآتي صباحاً كالمصبح يتأسف على أنه فعل ذلك وهو غائب، فيقول: ليتني أدركته أو أنه قدّر ذلك في نفسه، ويجوز أن يكون تهكما، وسيفاناً تثنية سيف مضافا للمتكلم مع الغير، وقوله مع الغالب التفات أي معي، أو هو من الكلام الصصمى بالأسلوب النصف أي يقتل أحدنا صاحبه، فيرجع
كذلك كما قاله التبريزيّ، ولما كانت الغنيمة تعقب الغارة والإياب يعقبها عطف بالفاء، وإن كان موصوفها واحداً. قوله:(على معنى إلخ) متعلق بقوله وسط وعداه بعلى إلى ما وقع التوسط عليه من الوجه المخصوص به، كما يقال بنيت الدار على طبقتين، فيعدّى بعلى لأسلوبه الخاص كما حققه الفاضل الدواني في حواشي الشمسية في تعدّي الترتيب بعلى، وهو بيان لأنّ التغاير بحسب المفهوم والصفات، وأنّ الجمع المستفاد من العاطف واقع بين معاني الصفات المفهومة من المتعاطفين، وهي في المعطوف عليه التصديق بالغيب مع الإتيان
باماراته، وفي المعطوف التصديق بما أنزل إليه وإلى من قبله. وقوله:(جملة) أي مجملاً، وهو منصوب بنزع الخافض أو على الحالية، وخصه بهذا لأنه كما مرّ الإيمان بالله وصفاته والآخرة وأحوالها، وذلك لا يمكن الوقوف على كنهه وتفصيله. وقوله:(والإتيان إلخ) مجرور معطوف على الإيمان والضمير في يصدّقه راجع إليه، فأثبت التغاير بينهما بعد تغاير مفهوميهما بوجهين.
الأوّل: أنّ الإيمان بالأوّل إجمالي وبالثاني تفصيلي.
والثاني: أنّ الأوّل عقل والثاني نقل والمصدّق العبادات البدنية والمالية المفهومة من قوله: {يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ} إلخ فإن قلت: الإتيان بهذا المصدق فرع الإتيان بما لا طريق إليه غير السمع، لأنه يعلم بالوحي والكتب المنزلة، فعلى هذا ينبغي أن يقدّم الإيمان المنزلين على الإتيان بالصلاة والزكاة، قلت الإيمان بالغيب أهم وأعظم، ولخفائه احتياجه للمصدّق أقوى، ولذا جعله بعضهم داخلاً في الإيمان، وينبغي اتصاله به. وقوله:(غير السمع) قيل: إنه أتى فيه بالحصر، ولم يأت به فيما قبله لأنّ ما قبله يجوز أن يدرك بالسمع أيضاً بخلاف هذا، فإته لا يدرك ابتداء بغير السمع، وفيه أنه قد يدرك بالعقل فيعرف أنه كلام الله بالإعجاز المدرك بالعقل والذوق فتأمّل. قوله:(وكرّر الموصول إلخ) جوأب عما يقال كان يكفي فيما ذكر عطف الصلات بعضها على بعض وهو ظاهر، وأمّ إعادة الموصل فيما أنزل فغير محتاح للتوجيه، لما فيه من التغاير الحقيقيّ، فلا يرد عليه أنه يحتاج أيضاً إلى نكتة كما قيل: والمراد بالقبيلين قسما الإيمان المذكوران في النظم والسبيلين طريقا الإدراك من العقل والنقل، ووجه دلالة إعادة الموصول على ذلك ما فيه من الإشارة إلى استقلال كل من الوصفين وتنزيل تغاير الوصفين منزلة تغاير الذاتين، وفائدة العطف ما مرّ من معنى الجمع، وقال قدس سرّه: رجح هذا الاحتمال على الأوّل بأنّ الإيمان بالمنزلين مثترك بين المؤمنين قاطبة، فلا وجه لتخصيصه بمؤمني أهل الكتاب، ولا دلالة للأفراد بالذكر في الآية على أنّ الإيمان بكل منهما بطريق الاستقلال ألا ترى إلى قوله تعالى {قُولُواْ آمَنَّا بِاللهِ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ} [البقرة: 136] صلى الله عليه وسلم فقد أفرد فيه الكتب المنزلة من قبل، ولم يقتض الإيمان بها على الانفراد وبأنّ ما ذكر في تقديم بالآخرة، وبناء يوقنون على هم إنما يقع موقعه إذا عمّ المؤمنين، وإلاً أوهم نفيه عن الطائفة الأولى، فإنّ أهل الكتاب لم يكونوا مؤمنين بجميع ما أنزل من قبل، فإنّ اليهود لم يؤمنوا بالإنجيل، وما يقال: من أنّ اشتمال إيمانهم على كل وحي إنما هو بالنظر إلى جميعهم، فاليهود اشتمل إيمانهم على القرآن والتوراة والنصارى اشتمل إيمانهم على القرآن والإنجيل مردود بأنّ المفهوم المتبادر من استعمال ما نحن فيه ثبوت الحكم لكل واحد، وبأنّ الصفات السابقة ثابتة لمن آمن من أهل الكتاب، فتخصيصها بمن عداهم تحكم وجعل الكلام من قبيل عطف الخاص على العامّ لا يلائم المقام، وقد يرجح الاحتمال
الأوّل بأنّ الأصل في العطف التغاير بالذات، ويجاب بأنّ هناك تفصيلاً هو أنّ أداة العطف إن توسطت بين الذوات اقتضت تغايرها بالذات، وان توسطت بين الصفات اقتضت تغايرها بحسب المفهومات وكذا الحكم في التأكيد والبدل ونحوهما، وان وقعت فيما يحتملهما على سواء كان الحمل على التغاير بالذات أولى، فلا يحكم في مثل زيد عالم وعاقل فأن الحمل على تغاير الذات أظهر، وقد رجح في الآية الكريمة الحمل على عطف الصفة بأن وضع الذين على أن يكون صفة، فالظاهر عطفه على الموصول الأوّل على أنه صفة أخرى للمتقين بلا تقسيم مع أنّ ما تقدم من وجوه الترجيح شاهد له (أقول) المتبادر من السياق استقلال كل منهما لا سيما في مقام المدح، لأنهم يؤتون أجرهم مرتين كما مرّ
من الإشارة إلى التصريح في الآيات والأحاديث وأمّا قوله تعالى {قُولُواْ آمَنَّا بِاللهِ} [البقرة: 136] الآية ففيها صارف عما ذكر معنى ولفظا.
أمّا الأوّل فلأنّ الخطاب للمسلمين فلا يقتضي الإيمان بكل منها على الانفراد. وقوله:
(قولوا) دالّ عليه، فإنه تكليف بقوله دفعة واحدة.
وأمّا الثاني فلأنه لم يعد فيه الإيمان، والمؤمن بل جعل ذلك إيمانا واحداً لعدم الاستقلال، فلا يرد نقضا كما لا يخفى، والإيهام المتوهم من قوله {وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ} مدفوع بأنّ مدح الفريق الأوّل بالإيمان الكامل، ودخول الآخرة في الإيمان بالغيب دخولاً أوّليا صارف عنه بغير شبهة، وإنما هو تعريض بأهل الكتاب، وما كانوا مليه قبل الإيمان بما أنزل إلينا، فإذا كمل إيمانهم بهذا علم كمال إيمان غيرهم بالطريق الأولى، وأمّا أنّ اليهود لم يؤمنوا بالإنجيل، وكون دينهم منسوخاً حتى قيل: المراد باهل الكتاب هنا أهل الإنجيل فقط، فقد أجيب عنه فأن الإنجيل ليس بناسخ للتوراة بل مبين لها كما في الملل والنحل وغيره وسيأتي بيانه، أو الكلام على التوزيع، وليس خلاف المتبادر كما لا يخفى، وأمّا كون إقامة الصلاة، وما معه. مشتركا بين القبيلين، فمسلم لكنه لا يضرنا لأنه مذكور في الأوّل صريحا وفي الثاني التزاماً لاستلزام الإيمان بما أنزل له وأمّا جعل الصفة الثانية داخلة تحت الأولى صريحاً وفي الثاني التزاماً لاستلزام الإيمان بما أنزل له وأمّا جعل الصفة الثانية داخلة تحت الأولى ومنفردة بالذكر، فغير ظاهر إلاً أن يقال الإيمان بالله وان كان أصلاً لكن طريق سعادة الدارين مستفاد من الكتب، وجعل الإيمان بالآخرة مقصوداً أصلياً من ملة الإسلام ظاهر، فإن قلت كيف يكون تعويضاً بأهل الكتاب والمفهوم منه إنّ الإيقان بالآخرة حقيقة مختص بأهل القرآن دون أهل الكتب السماوية السالفة، فالمستفاد منها خلاف حقية الآخرة، وهو غير صحيح فانّ أهل الحق من أهل الإسلام، وأهل الكتاب يعتقدون حقيتها، وأهل الباطل منهم جميعاً، كالملاحدة والمحرّفين ليسوا كذلك، فلت قد أجاب عن هذا بعض المدققين بأنّ الكتب السالفة لم تتعرّض لتفصيل أحوال الآخرة، فلذا ظن أهلها ظنونا فارغة بخلاف القرآن الناطق بتفصيلها وبيانها،
أو
وفي شرح الطوالع: أنّ موسى عليه الصلاة والسلام لم يذكر المعاد الجسماني، ولم يذكر في التوراة، وإنما ذكر في كتب حزقيل وشعيا والمذكور في الإنجيل إنما هو المعاد الروحاني فتدبر. قوله:(أو طائفة منهم الخ) معطوف على قوله الأوّلون وضمير منهم لهم، والمراد بالطائفة مؤمنو أهل الكتاب والأوّل عامّ عطف عليه بعضه، وأفرد بالذكر لنكتة أشار إليها بقوله تعظيما لشأنهم إلخ وفي نسخة بدله إشادة بذكرهم، وهو بالدال المهملة معناه رفع الصوت بالنداء تجوّز به عن التعظيم ورفع القدر، والترغيب فيه ظاهر قيل وكونه كذكر جبريل وميكائيل عليهما السلام بعد الملائكة في مجرّد ذكر الخاص بعد العامّ لنكتة، وهي ترغيب أهل الكتاب في الدخول في الإسلام وفيه نظر، إذ الظاهر اشتراكهما في التعظيم والأفضلية باعتباو أنهم يعطون أجرهم مرّتين، وقد يكون في المفضول ما ليس في الفاضل، كما قيل في أفرضكم زيد فلا يرد عليه أنه لا تتمّ فيه النكتة المذكورة فيما استشهد به من التنبيه على أنهم لشرفهم كأنهم لم يدخلوا في العامّ لئلا يلزم تفضيلهم على الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم، والتشبيه في مجرّد التخصيص، ولذا مرّض هذا الوجه وأخر، وقال قدس سرّه: إنه غير مناسب للمقام إذ ليس في السياق ما يقتضي التخصيص، وفيه نظر يعلم مما مرّ، وقيل في قول المصنف ذكرهم إلخ ما يدفعه وفيه نظر. قوله:(والإنزال إلخ) كون هذا حقيقة النزول وأصل معناه مما لا شبهة فيه وليس هو في الإقامة أصلاً أيضاً كما توهم إلا أنه شاع فيه حتى صار حقيقة فيه في عرف اللغة، فإن كان هذا مراده لم يرد عليه شيء، وكونه صفة للذات بالذات، ولغيرها بالعرض مما لا غبار عليه أيضا فاستعماله فيما هنا ونحوه مجاز حكمي لجعل ما للمحل للحال أو لغويّ على أنه استعارة، أو جعل بمعنى أوصلها وأظهرها. قوله: (ولعل نزول الكتب إلخ الما ذكر أنّ نزول القرآن عبارة عن نزول الملك المبلغ له، كما يقال نزل أمر الأمير من القصر إذا نزل به بعض خدامه، وهذا ملخص من قول الإمام حيث قال: المراد من إنزال القرآن أنّ جبريل عليه السلام في السماء سمع كلام الله، فنزل به على الرسول صقى الله عليه وسلّم، كما يقال نزلت رسالة الأمير من القصر، والرسالة لا تنزل، ولكن كان المستمع في علو، فنزل وأدى في سفل، وقول
الأمير لا يفارق ذاته، فإن قيل كيف يستمع جبريل عليه السلام كلام الله عر وجل، وكلامه ليس من الحروف والأصوات، قلنا يحتمل أن الله تعالى يخلق له سماعا لكلامه يقدره على عبارة يعبر بها عن ذلك الكلام القديم فيسمع له كلام بلا صوت، كما يرى بلا كم وكيف عند الأشعريّ رحمه الله، ويجوز أن يكون الله عز وجل خلق في اللوح المحفوظ كتابه بهذا النظم المخصوص، فقرأه جبريل عاجه السلام، فحفظه ويجوز أن يخلق أصواتا مقطعة بهذا
النظم المخصوص في جسم مخصوص، فيتلقفه جبريل عليه السلام ويخلق له علماً ضرورياً بأنه هو العبارة المؤدّية لذلك المعنى القديم اهـ. وإنما عبر عنه بقوله ولعل وعادة المصنفين أن يعبروا به فيما اخترعوه للإشارة إلى أنه ليس بمأثور، فلا ينبغي الجزم بأنه مراد الله تأدّباً منه، وهذا دأبه فاحفظه ولذا ذهب بعض السلف إلى أنه من المتشابه أي يجزم بالنزول من غير معرفة بكيفيتة، وهو الحق إذ مثل هدّا من التدقيقات الفلسفية لا ينبغي ذكره في التفسير، كقول بعض الحكماء: إنّ نفوس الأنبياء عليهم الصلاة والسلام زكية نقية فتقوى على الاتصال بالملأ الأعلى، فينتقش فيها من الصور ما ينتقل إلى القوّة المتخيلة، والحسن المشترك فيرى كالمشاهد وهو الوحي، وربما يعلو فيسمع كلاماً منظوما، ويشبه أنّ نزول الكتب من هذا والتلقف بالقاف والفاء الأخذ بسرعة ويلقنه من التلقين، وهو معروف وفي نسخة فيلقيه بالتحتيتين والروحاني بضم الراء، وقد تفتح منسوب إلى الروح على خلاف القياس والمراد بكونه روحانياً أنه يلقى في قلبه من غير صوت، وأوود عليه أنه غير صادق على ما نزل صحفاً وألواحاً ولا ضير فيه كما لا يخفى. قوله:(والمراد بما أنزل إلخ) معنى بأسره بجملته، والأسر ما يشدّ به الأسير وإذا أعطي الأسير بقيده فقط أعطي بكليته ثم أريد به ذلك مطلقاً. وقوله:(عن آخرها) بمعنى إلى آخرها وقد مرّ تحقيقه، والمراد بجملتة ما نزل، وما سينزل سواء كان وحياً متلوّاً أو لا لأنه المطابق لمقتضى الحال، فإنه يلزم المؤمن أن يؤمن بما نزل، وبأنّ كل ما سينزل حق وان لم يجب تفصيله وتعيينه، وهذا هو المناسب للهدى والفلاح فلا يقال إنه يصح حمله على ما أنزل قبل وقت الخلاب بلا تأويل لأنّ من آمن ببعضه مؤمن بكله لعدم القائل بالفارق، وما قيل: من أنّ الإيمان بما سينزل ليس بواجب إلاً أنّ حمله على الجميع أكمل، فلذا اقتصر عليه لا وجه له، وأمّا كون الوحي ما هو خفيّ، فالتغليب لازم على كل حال إلاً أن يلتزم أنه بواسطة ملك أيضاً، فبمعزل عما نحن فيه. قوله: (وإنما عبر عنه بلفظ المضئ إلخ الما تعين أنّ المنزل عليه المراد به جميعه لاقتضاء السياق، والسياق له من ترتيب الهدى والفلاح الكاملين عليه، ولوقوعه في مقابلة ما أنزل قبل ولدلالة يؤمنون على الاستمرار المقتضي له، وكان جميعه لم ينزل وقت نزول هذه الآية وجهوه بوجهين الأوّل أنه تغليب لما وجد نزوله على ما لم يوجد، وتحقيقه أنّ إنزال جميع القرآن معنى واحد يشتمل على ما حقه صيغة الماضي، وما حقه الاستقبال فعبر عنهما معاً بالماضي، ولم يعكس تغليبا للموجود على ما لم يوجد فهو من قبيل إطلاق اسم الجزء على الكل، والثاني تشبيه جميع المنزل بشيء نزل في تحقق النزول لأنّ بعضه نزل، وبعضه منتظر سينزل قطعاً، فيصير إنزال مجموعه مشبهاً بإنزال ذلك الشيء الذي نزل، فتستعار صيغة الماضي من إنزاله لإنزال المجموع، فاضمحل بهذا ما توهم من لزوم الجمع بين الحقيقة والمجاز في كل واحد من الوجهين، ولا يشتبه عليك أنّ المجاز المرسل،
والاستعارة المذكورين يتعلقان بصيغة أنزل وحدها بلا اعتبار لمادّته، هذا ما حققه قدّس سرّه وقد تبع في هذا الشارح المحقق حيث قال: يرد على كلا الوجهين.
أوّلا أنه جمع بين الحقيقة والمجاز، ولا يتصوّر معنى مجازي يعمهما ليكون من عموم المجاز، وأجاب بأنّ الجمع هو أن يراد باللفظ معناه الحقيقي والمجازي على أنّ كلا منهما مراد باللفظ، وهنا أريد المعنى الذي بعض أجزائه من إفراد الحقيقة دون البعض.
وثانياً إنّ وجوب اشتمال الإيمان على السالف والمترقب لا ينافي الإخبار عنهم في ذلك الوقت بأنهم
يؤمنون بالفعل بالسالف إذ الإيمان بالمترقب إنما يكون عند تحققه، وإن أريد الإيمان بأنّ كل ما نزل، فهو حق فهذا حاصل الآن من غير حاجة إلى اعتبار تحقق نزوله، وأجاب بأنه لما وجب ذلك وجب في مقام الإخبار عنهم بأنهم يؤمنون بكل ما يجب الإيمان به أن يتعرّض لذلك سيما، ولفظ يؤمنون المضارع منبىء عن الاستمرار بلا اقتصار على المضيّ وهذا ظاهر إن أريد بالذين يؤمنون مطلق المؤمنين، فإن أريد مؤمنو أهل الكتاب فلا يخلو عن تكلف، وكأنّ وجه التكلف أنّ من آمن منهم الآن لا يعرف ما نزل، حتى يتحقق عنده ويجب عليه الإيمان به تعيينا، وقد خفي وجهه على الناظرين فوجهوه بما هو أشد تكلفاً منه، وكانوا فيه كمن فرّ من السحاب، فوقف تحت الميزان ققيل إنّ وجهه أنّ إيمان أهل الكتاب بالسالف قد تحقق من قبل، فلا يظهر فيه الاستمرار وعدم المضيّ وقيل وجهه أنّ بعض المؤمنين من أهل الكتاب لم يدرك جميع القرآن بل بعضه فلا يحسن أن يحكم بانهم مؤمنون على الاستمرار التجددي بحسب تجدّد المنزل عليه، وفيه أنّ مطلقهم يدركه كمطلق المؤمنين على الإطلاق، وإن اعتبر الاستغراق لم يصح ذلك في الفريقين وقيل: إنه لا تتمشى حينئذ المقدمة الخطابية، لأن تمدحهم بجمعهم بين الكتابين في الإيمان بكل واحد على الخصوص بخلاف سائر المؤمنين، فلا تروج هذه المقدّمة، ولا يخفى ضعفه لمن له أدنى تأمّل، وفي الكشف فإن قلت: فهلا قيل ينزل ليطابق يؤمنون. قلت: لمطابقة ما أنزل من قبلك وللتنبيه على أنّ المترقب كائن لا محالة ولأنّ إيمانهم يتعلق بشيء قد أنزل بعضه، وسينزل باقيه فلو قيل بما ينزل لم يشمل الماضي، وفسد المعنى، ولو ذكر الم يطابق البلاغة القرآنية واختصاراتها.
(أقول) هذا زبدة ما ذكره القوم، وفيه أنّ التغليب باب واحد وما دفع به الشبهة لا يتأتى
في مثل قولهم حكم العمران وضي الله عنهما بكذا، فإنّ المقصود الإسناد إلى كل منهما استقلالاً لا إلى المجموع من حيث هو حتى يكون كل منهما جزءا ملحوظا على وجه الإجمال، وأمّا الجواب عنه بأنّ التجوّز في مثله في الفرد وليس في إطلاقه استقلال، وإنما الاستقلال والتفصيل مستفاد من التثنية فلا يصح فإنه لو كان التجوّز في عمر فإن قيل إنه تجوز به عن الشيخين فلا يخفى بعده، وإن قيل تجوز به عن أبي بكر يكون كتثنية العينين للباصرة
والذهبية، ومثله ليس من باب التغليب وادّعاء أنه بمعنى صدر الخلفاء من غير اعتبار تفصيل فيه مع ركاكته أقرب من هذا على أنهم كما في التلويح وغيره، اشترطوا في إطلاق اسم الجزء على الكل أن يكون التركيب حقيقياً له اسم على حدة وأن يكون الكل يعدم بعدم ذلك الجزء حقيقة، أو ادعاء كالرأس للإنسان والعين للربيئة، وهذا ليس كذلك مع أنه لم يعهد تشبيه الجزء بالكل، لما يلزمه من تشبيه الشيء بنفسه وهو كما قيل:
وشاعر أوقد الطبع الذكي له ~ وشبه الماء بعد الجهد بالماء
واستعارة الهيئة دون المادّة الذي أشار إليه بقوله بلا اعتبار لمادّته في الاستعارة التبعية فيه
كلام في حواشي المطوّل، وفي كلام الكشف إشارة إلى أنه يجوز أن يجعل من المشاكلة لوقوع غير المتحقق في صحبة المتحقق وان ذكره بعضهم على أنه من بنات أفكاره إلاً أنه لا يصفو من الكدر، ولو قيل: إنّ المراد به الماضي حقيقة، ويدل على الإيمان بالمستقبل بدلالة النص كان أحسن من هذا كله. قوله:(ونظيره قوله إلخ) عدل عن قوله في الكشاف، ويدل عليه قوله {إِنَّا سَمِعْنَا} إلخ فجعله دليلَا لما ذكر من وجهي التعبير بصيغة المضيّ، لأن إرادة مجموع الكتاب متبادرة عند الإطلاق خصوصا، وقد قيد بكونه منزلاً من بعد موسى صلى الله عليه وسلم لا بعضه، ولا القدر المشترك بينه وبين كله، وهو عبر عن إنزاله بلفظ المضيّ مع أنّ بعضه كان حينئذ مترقباً فوجب تأويله بأحد هذين التأويلين، وأما سمعنا ففيه تغليب للمسموع على غيره مما لم يسمع قي إيقاع السماع على أنّ الكتاب المراد به الكل مع أنه لم يسمع إلاً بعضه، وإنما عدل المصنف رحمه الله عما في الكشاف من جعل هذه الآية دليلاً إلى جعلها نظيراً لأنه لا فرق بينهما في احتياج كل منهما إلى التأويل بل هذه أحوج له، ولذا قال الفاضل في شرحه في قوله تعالى {إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنزِلَ} [الأحقاف: 30] الآية إشكال قويّ، فإنّ السماع لم يتعلق إلاً بما تحقق إنزاله بالحقيقة، فكيف يكون سبيله سبيل ما ذكر في جعله غير المتحقق بمنزلة المتحقق غاية الأمر أنّ الكتاب اسم للمجموع فيجب أن يراد به البعض، أو يحمل على المفهوم الكلي الصادق على الكل والبعض، فوجب التأويل في هذه الآية أيضا، ولم يمثل للتغليب بأنا، وأنت فعلنا لما
فيه من الإشكال أيضاً وسيأتي تفسير هذه الآية في محلها وبيان قوله {مِن بَعْدِ مُوسَى} مع أنه من بعد عيسى أيضاً صلى الله عليهما وسلم. قوله: (وبما أنزل من قبلك إلخ) معطوف على قوله {بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ} في قوله والمراد {بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ} إلخ ولم يذكر الشريعة هنا اكتفاء بما في ضمن الكتب، وللإشارة إلى أنها منسوخة. وقوله بهما بضمير التثنية، والمراد ما أنزل إليه وما أنزل من قبله، وجملة بمعنى إجمالاً وكونه فرض عين أي فرض على كل أحد بعينه ظاهر، والمراد بالأوّل ما أنزل إليك والعلم به تفصيلاً فرض كفاية
أي فرض على بعض غير معين، فإذا قام به سقط عن الباقي لأنه لوكان فرض عين شغلهم عن معاشهم مع ما فيه من الحرج والمشقة وعدم تيسره لكل أحد، وقال جلال الملة والدين في شرح العقائد العضدية: يجب على الكفاية تفصيل الدلائل الأصولية بحيث يتمكن معه من إزالة الشبه والزام المعاندين، وإرشاد المسترشدين وقد ذكر الفقهاء أنه لا بد أن يكون في كل حدّ من مسافة القصر شخص متصف بهذه الصفة، ويسمى المنصوب للذب، ويحرم على الإمام إخلاء مسافة القصر عن مثل هذا الشخمى كما يحرم إخلاء مسافة العدو عن العالم بظواهر الشريعة والأحكام التي يحتاج إليها العامّة، وإلى الله المشتكى من زمان انطمس فيه معالم العلم والفضل، وعمر فيه مرابط الجهل وتصدّى لرياسة أهل العلم والتمييز. بينهم من عرّي عن العلم والتمييز متوسلاً في ذلك بالحوم حول الظلمة سعياً لتحصيل مرامهم خذلهم الله ودمّرهم تدميرا وأوصلهم قريباً إلى جهنم وساءت مصيرا:
إلى الله أشكو أنّ في الصدر حاجة ~ تمرّ بها الأيام وهي كما هيا
وقيل: إنه لا بدّ من شخص كذلك في كل إقليم، وقيل يكفي وجوده في جميع البلاد المعمورة الإسلامية والمعاس بفتح الميم تكسب الناس الذي يعيشون به أي يبقون لأنه من العيش وهو الحياة وهو في الأصل مصدر ميمي كالمعيشة، وقد يكون اسم زمان ومكان. وقوله:(متعبدون) بفتح الباء وكسرها أي مكلفوق. قوله: (أي يوقنون لمقاناً إلخ) هذا بناء على ما رجحه من لحفسير الموصول الثاني بمؤمني أهل الكتاب خاصة، وما ذكره يفهم من قصر الإيمان بالآخرة عليهم مع أنّ جميع أهل الكتاب يؤمنون بالآخرة، فلو لم يخص بما ذكر بطل الحصر، ووصف الإيقان بقوله زال معه اإلمخ إشارة إلى ما سيأتي في معنى اليقين، واختلافهم بالرفع عطف على ما كانوا أو بالجرّ على أنّ الجنة، ومن قاًل بأنه ليس من جنس هذا ااضعيم منهم من قال: إنهم لا يتناكحون ولا ياكلون ولا يشربون، وإنما يتلذذون بالروائح الطيبة والأصوات الحسنة والسرور، فإن غيره لأجل النماء والبقاء، وهي في غنية عنه فألحصر على أنّ المراد به إيقاد خاص لا يوجد في سائرهم. قوله:(وفي تقديم الصلة إلخ) هذا معنى ما في الكشاف وهو قوله وفي تقديم الآخرة وبناء يوقنون على هم تعريض بأهل الكتاب وبما كانوا عليه من إثبات أمر الآخرة على خلاف حقيقته، وأنّ قولهم ليس بصادر عن إيقان وأنّ اليقين ما عليه من آمن بما أنزل إليك، وما أنزل من قبلك، فهنا تقديمان:
تقديم الصلة وهي الجارّ والمجرور، وهو يفيد تخصيص إيقانهم بالآخرة، فإن قلت: هذا التقديم يفيد أنهم يؤمنون بالآخرة لا بغيرها وهو غير صحيح هنا ولا يفيد التعريض المراد. قلت: المراد بغير الآخرة المتقيّ عنهم إيمانهم بالآخرة التي يزعمها أهل الكتاب، فالمعنى أنّ إيقانهم مقصور على حقيقة الآخرة لا يتعداها إلى ما هو خلاف حقيقتها ففيه تعريض بأنّ ما عليه مقابلوهم ليس من حقيقة الآخرة في شيء كأنه قيل يوقنون بالآخرة لا بخلافها كبقية أهل الكتاب.
الثاني تقديم المسند إليه الذي أخبر عنه بجملة يوقنون، وهو يفيد التخصيص، وأنّ الإيقان بالآخرة منحصر فيهم لا يتجاوزهم إلى أهل الكتاب وفيه تعريض بأنّ اعتقادهم في الآخرة جهل محض وتخيل فارغ، فإنّ الضمير المقدّم أو المزيد المنفيّ يأتي لإفادة الحصر وقد يأتي للتقوّي أيضاً كما حقق في المعاني ففي النظم قصران، وتعريضان لا قصر واحد كما قيل، وتفصيل ردّه في شروح الكشاف والمراد بالبناء جعله خبرا لا خبرا مؤخراً، كما قيل إلاً أن يراد بيان الواقع هنا، فإنّ البناء كما مرّ يكون مقابل الإعراب وصوغ الكلمة والبنية والاخبار، لأنّ المحمول كأئه مبنيّ على الموضوع، كما يشعر به
تعبير المحمول والموضوع أيضا وما نقل هنا من أنه قال بناء يوقنون دون تقديم هم لأنّ التقديم يكون عن تاخير واعتباره ليس بلازم هنا نقض للبناء لأنه لو لم يقدر ذلك لم يفد الحصر المدّعي. وقوله: (بمن عداهم إلخ) توطئة لما عطف عليه، وهو المقصود على نهج أعجبني زيد وكرمه وفيه لف ونشر مرتب لأنّ قوله غير مطابق ناظر إلى تقديم الصلة وقوله ولا صادر ناظر إلى بناء يوقنون وجوّز بعضهم فيه أن يكون نشرا على خلاف الترتيب. قوله:(واليقين إتقان العلم إلخ) قيل عليه: إنّ المذكور في كتب الأصولط، والكلام أنّ اليقين متناول للضروري فإنهم عرّفوا اليقين بالاعتقاد الجازم الثابت بحيث لا يزول بتشكيك مشكك المطابق للواقع وهو يشمله، ويكفي في الإتقان عدم تطرق الشك والشبهة، ولذا لم يعتبر صاحب الكشاف غيره إلا أنّ المف مرين اختلفوا فيه فذهب الإمام الرازي والواحدي وجماعة وتبعهم المصنف رحمه الله إلى أنه ما يكون عن نظر واستدلال فلا يوصف به الضروري ولا علم الله تعالى، وذهب الإمام النسفي وبعض الأئمة إلى خلافه وقالوا: هو العلم الذي لا يحتمل النقيض مطلقاً.
وقال الإمام القشيري في كتاب مقامات الصوفية: اليقين علم لا يتداخل صاحبه ريب على
مطلق العرف، ولا يطلق في وصف الحق سبحانه وتعالى لعدم التوقيف اهـ.
(أقول) إذا كان فيه طريقان ومذهبان، فكيف يعترض على إحدى الطريقتين بالأخرى وعدم إطلاقه على الله على الأوّل ظاهر، وعلى الثاني لعدم التوقيف كما سمعته، وأمّا
الضروري فقد قال الإمام: لا يقال بيقين إنّ الكل أعظم من الجزء وذكره قدّس سرّه من غير نكر، والمراد بالضروري البديهي الأوّلي فإنه قد يفسر به كما في شرح المطالع وإن كان الضروري يعمّ جميع اليقينيات وهي الحدسيات والمتواترات والمحسوسات الظاهرية والباطنية، كالتجربيات والأوّليات، وهي قضايا مجرّد تصوّر طرفيها كاف في الجزم بنسبتها، والمراد بنفي الشك والشبهة بالاستدلال أن يكون قابلاً لذلك في حال من الأحوال، ولا يلزم كون ذلك بالفعل، أو دائما فيدخل بعض المشاهدات إذ قد يرد عليها الشك، فعين اليقين عين ما كان متيقنا فسقط ما مرّ من أنهم فسروا اليقين بالاعتقاد الجازم إلخ مما يشمل الضروري والمصنف رحمه الله غيم عبارة الكشاف، فوقع فيما وقع إلاً أن يقال له معنيان وقد أيد هذا بأنه صرّح به في الإحياء حيث قال: اليقين مشترك بين معنيين.
الأول عدم الشك، فيطلق على كل ما لا شك فيه سواء حصل بنظر أو حس أو غريزة
عقل أو بتواتر كوجود مكة أو دليل، وهذا لا يتفاوت قوّة وضعفاً.
الثاني وهو ما صرّح به الفقهاء والصوفية وكثير من العلماء، وهو ما لا ينظر فيه إلى التجويز والشك بل إلى غلبته على القلب حتى يقال فلان ضعيف اليقين بالموت، وقويّ اليقين بإثبات الرزق، فكل ما غلب على القلب، واستولى عليه فهو يقين وتفاوت هذا قوّة وضعفا ظاهر، ومما قيل عليه أيضاً إنه مناف لما ذكره في تفسير قوله تعالى {لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ} [التكاثر: 7] أي الرؤية التي هي نفس اليقين، فإنّ علم المشاهدة أعلى مراتب اليقين فجعل المشاهد المحسوس يقينا وهو من الضروريّ، فناقض نفسه وليس بوارد أما على القول الآخر فظاهر، وأما على ما اختاره هنا فيدفع أيضاً بأنّ الشيء قبل رؤيته يكون يقينا، فإذا شوهد وصاو ضرورياً انتقل إلى مرتبة من العلم أعلى من الأولى والمعلوم شيء واحد أحواله متعدّدة، كأحوال الآخرة في الدنيا والآخرة غايته أنّ في قوله أعلى مراتب اليقين تسمحاً على أنه بمعنى أعلى من جميع مراتب اليقين، كيوسف أحسن اخوته وظق الفرق بين اليقين والإيقان وهم.
قال الجوهريّ رحمه الله: اليقين والعلم وزوال الشك يقال منه يقنت الأمر بالكسر يقنا وأيقنت واستيقنت وتيقنت كلها بمعنى، وما ذكوه المصنف رحمه الله مطابق له ولما في الكشاف فتدبر. قوله:(والآخرة تأنيث الآخر) أي الآخرة تأنيث آخر اسم فاعل من أخر الثلاثي بمعنى تأخر وإن لم يستعمل ويسمع من العرب كما أنّ الآخر بفتح الخاء اسم تفضيل منه، والآخرة صفة في الأصل كالدنيا، فإنها فعلى صفة أيضاً من الدنوّ وهو القرب فغلبت على ما يقابل الآخرة قال الزمخشريّ: الغلبة تكون في الأسماء كالبيت على الكعبة والكتاب وفي الصفات كالرحمن، وفي المعاني كالخوض بمعنى مطلق الشروع غلب على الشروع في الباطل
خاصة، وقد قرق بين ما غلب من الصفات على موصوف معين
لكثرة جريه عليه وبذلك خرح عن الوصفية في الجملة كأسماء المكان والزمان لأنّ أصل الصفة أدط توضع لمعنى قام بذات غير معينة وبين ما جرى مجرى الأسماء، كالأجرع والأبطح بحذف الموصوف وعدم جريه عليه حتى يتيادر منه الذات، فضاهى الأسماء الجامدة، ومنها ما اشتدت غلبته حتى الحق بالأعلام، وما لم يصر علماً قد يلمح أصله، فيوصف به وقد يترك كما يقال: الدار الآخرة والحياة الدنيا، إلاً أنه قليل كذا قرّره قدّس سره تيعاً لغيره فيه، وقال الرضى: الغلبة تخصيص اللفظ ببعض ما وضح له فلا يخرح بها عن مطلق الوصف بل عن الوصف العامّ، فلا يطلق على كل ما وضع له، ولا يتبع الموصوف، فلا يقال فيد أدهم وفي حواشيه للشريف السرّ فيه أنّ خصوصية الموصوف صارت بالغلبة داخلة في مفهوم الوصف مع ملاحظة اتصافه بمفهوم المشتق منه، فلا يصح إجراؤه على غيره ولا على عيته أيضاً إذ- يصير معنى أدهم قيد فيه دهمة، وهذا منه يقمفمي امتناع إجرائمه على الموصوف، وما مرّ عنه يقتضي جوازه فبين كلامية تعارض ولذا اعترض به عليه، وأجيب بأن ما هنا هو الواقع في نفس الأمر وأما ثمة فلعدم الاعتداد بالناثر وتنزيله منزلة العدم فلا تعارض، وهو تلفيق بارد والحق أنه لا تعارض رأساً فإنّ المذكور هنا غلبة الوصفية وثمة غلبة الاسمية والفرق بينهما ظاهر، والأدهم من القبيل الثاني لأنه يسيحمله من لا يخطر بباله معنى الدهمة أصلاً فلا يجري إلاً على خلاف الأصل بضرب من التأويل كرجل أسد. قوله:(فغلبت كالدنيا) غلبت بفتح اللام وتخفيفها، والدنيا حقيقتها ما على الأرض من الهواء والجوّ، وقيل كل المخلوقات من الجواهر والأعراض مما قبل قيام الساعة، وهو الراجح وتطلق على أجزائها مجازا، وهي صفة من الدنوّ أي القرب لسبقها الأخرى أو لقربها من الزوال " وكونها صفة للدار ليس بلازم فقد وصف بها النشأة أيضا كقوله تعالى {يُنشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ} [العنكبوت: 20] وقد تضاف الدار لها، كقوله تعالى {وَلَدَارُ الآخِرَةِ خَيْرٌ} [يوسف: 109] أي دار الحياة الآخرة، وقد تقابل الآخرة بالأولى كقوله {لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآخِرَةِ} [القصص: 70] . قوله: (وعن نافع إلخ) التخفيف هنا نقل حركة الهمزة إلى الساكن قبلها، واسقاطها وهو نوع من أنواع تضيفد الفمزة المفردة، وهو لغة لبعض العرب اختص بروايته ورش بشروطه كما في كتب القراءات، ونقله السفاقسي هنا، فنقل المصنف له عن نافع فيه مخالفة، إلاً أن يقال أنه ظفر بروايته عنه، ثم أنّ الواو إذا ضمت ضمة غير عارضة، كما فصل في العربية يجوز باطراد إبدالها همزة كما قيل في وجوه جمع أجوه وأما إبدال الواو هنا همزة فلمجاورتها للمضموم أعطيت حكمه وهو من أحكام الجوار كما قيل:
قد يؤخذ الجار بظلم الجار
على ما فصله ابن جني في كتاب الخصائص، واستشهد له بما ذكر من البيت، ومحل الشاهد فيه المؤقدان ومؤسسي، فإنهما رويا بالهمزة كما صرّح به ابن جني، والبيت من قصيدة طويلة من الوافر لجرير مدح بها هشام بن عبد الملك أوّلها:
عفا النسران بعدك فالوحيد ~ ولا يبقى لجدّته جديد
(ومنها) :
نظرنا نار جعدة هل نراها ~ علاها بعد ضوء أم همود
لحمب المؤقدان إليّ مؤسى ~ وجعدة إذا أضاءهما الوقود
(ومنها) :
تعرّضت الهموم لنا فقالت ~ جعادة أيّ مرتحل تريد
فقلت لها الخليفة غير شك هو المهديّ والحكم الرشيد
(ومنها) :
هشام الملك والحكم المصفى ~ يطيب إذا نزلت به الصعيد
يعم على البرية منك فضل ~ وتطرف من مخافتك الأسود
وإن أهل الضلالة خالفوكم ~ أصابهم كما لقيت ثمود
وأمّا من أطاعكم فيرضى ~ وذو الأضغان يخضع مستفيد
والقول بأنّ الشعر لأبي. حية النميري غلط نشأ من إنّ هذه القراءة معزوّة له، وموسى وجعدة ابناه، والشاهد فيه في موضعين كما مرّ واللام في قوله لدبئ لام القسم وحب فعل ماض أصله حبب بزنة كرم فادغم، ويجوز فيه نقل ضمة العين إلى الفاء، فتكون الحاء مضمومة، ويجوز إبقاؤها على الأصل من الفتح، وقد روي
بالوجهين هذا البيت وغيره كما في كتب العربية، وهو من أفعال المدح بمعنى ما أحبه وهو جامد في حكم نعم، ولذا لم يؤت بقد بعد لام القسم والنار نار القري أو السفر قيل: والأولى أولى لأنها التي يمدح بها وكنى بإضاءة الوقود عن الاشتهار والوقود بضم الواو مصدر وبالفتح ما يوقد، وقد رويا هنا، ومؤسي وجعدة عطفا بيان، أو، بدل من المؤدين المثنى الواقع فاعلَا لحب كذا قالوا، والظاهر أن مؤسي هنا هو المخصوص بالمدح وإعرابه معروف، وإذ أضاءهما بدل من مؤسي وجعدة أيضا كقوله تعالى {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انتَبَذَتْ} [مريم: 16] . قوله: (الجملة في محل الرفع إلخ) أولئك مبتدأ خبره الجار والمجرور، وهذه الجملة إمّا مستأنفة وإمّا خبر عن الذين الأوّل أو الثاني، وجؤز أن يكون أولئك وحده خبرا وعلى هدى حال وأن يكون أولئك بدلاً من الذين والظرف خبر وأولئك اسم إشارة يمدّ ويقصر، ويزاد في رسمه الواو وللفرق بينه وبين إليك الجار والمجرور، وكلام المصنف رحمه الله ظاهر غنيّ عن الشرح، وقيده بالفصل لأنه
على الوصل ليس بمبتدأ كما مرّ. وفوله: (خبر له) خبر بعد خبر عن لفظ الجملة، وعدل عن قول الزمخشريّ {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} إلخ إلى قوله أحد الموصولين إشارة إلى منا فيه من الإهمال، وإن اعتذر له بأنه اقتصر على الأقوى، وأشار إلى الوجه الآخر فيما بعده لأنه أخصر وأفيد، ولا وجه لما قيل من أنّ قول المصئف وكأنه إلخ إنما ينتظم على غير مسلكه كما لا يخفى وهذا أيضاً وإن كان علم بما مرّ الآ أنه ذكر توطئة لما بعده من تحقيق الاستئناف وأحد الموصولين وإن شمل الأوّل بدون الثاني كعكسه، لكنه لما كان فصل الأوّل يستلزم فصل الثاني بحسب الظاهر، إذ لا يقطع المعطوف عليه دون المعطوف تركه لظهوره لأنّ القرينة العقلية قائمة على المراد مع ما فيه من الإشارة إلى أنّ الفصل أولاً، وبالذات إنما يعلق بأحد الموصولين، والثاني منفصل بتبعيته وفي التعبير بالموصول لطف كما مرّ. قوله:(وكأنه لما قيل) عبر بكأنّ إشارة إلى أنه أمر فرض غير محقق أي لما خصهم بالهدى فقط، أو بالهدى والإيمان بالغيب، كما تدلّ عليه اللام الجارة نشأ منه سؤال هو ما بالهم إلخ. فأجيب بقوله الذين إلخ أي جيء بما له استحقوا أن يلطف بهم ويخصوا بالتكريم العاجل والآجل لأنهم استحقوا ذلك لعقائدهم وأعمالهم، فالسبب تلك الأوصاف، ولا يخفى عليك أنّ قول المصنف خصوا بذلك مبهم، فالمراد به هداية أهل التقوى أو هداية المتقين المؤمنين بالغيب، وكذا قوله {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ} إلخ محتمل للموصولين، وللثاني فقط لعدم ذكره لصلة يؤمنون، فأجمله ليشمل ما أشار إليه من الوجهين، وإن اقتصر على الموصوف في قوله كأنه لما قيل هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ لأنه العمدة في منشأ السؤال خصوصاً إذا كان الوصف مؤكدا، فلا يرد عليه ما توهم أنّ مدعاه شامل لوجهين وما ذكره قاصر على جعل الذين يؤمنون بالغيب فقط مبتدأ فيحتاج إلى أن يعتذر له بما قيل من أنّ في جعل الذين الثاني مبتدأ تكلفاً لا يرتضيه المحققون، ولذلك أخره الزمخشبريّ وأشار في تقريره إلى أنه مجرّد احتمال والمصنف أدخله في صدر كلامه للإيجاز إشارة إلى جوازه، وتركه في التفصيل والبيان إيماء إلى أنه غير مقبول عنده لأنّ الموصول الثاني إن اتحد بالأوّل حينثذ بحسب الذات فحقه أن يجري على ما جرى عليه الأوّل، فإن قطع وجعل مبتدأ، فإن لم يجعل الاختصاص الحاصل من تعلق الحكم بالوصف الذي يتضمنه المبتدأ تعريضاً بما ذكره، فقد قطع عن حقه وضيعت فائدة الاسنئناف أيضاً بلا داع مع تكراره، وإن جعل تعريضاً به كان فائدة مطلوبة يرتكب لها خلاف الظاهر، والوجه فيه أنه لما عبر عن المؤمنين بأنهم جامعون في الإيمان بين المنزلتين قابلهم بهذا الاعتبار من انفرد بأحدهما، وهم كفار أهل الكتاب، فعرّض بأنّ ظنهم أنهم على الهدى ظن كاذب، وطمعهم في نيل الفلاح تخيل فارغ، ومعنى الكلام إنّ الكتاب هدى للذين آمنوا به، والذين لم يؤمنوا به ليسوا على هدى وإن ظنوه ولا فلاح وإن طمعوا فيه، فالجملنان بحسب المعنى، وإن تقابلنا في إثبات الإيمان وسلبه وتوافقتا في الظرف ليسا على حذ يحسن العطف بينهما، فإنّ الأولى في وصف
الكتاب بكمال الهداية للمؤمنين، والثانية لسلب الاهتداء عن طائفة أخرى لم يؤمنوا به، وقيل المعنى على التعريض أنّ الكتاب
هدى للمتقين وليس هدى لمن عداهم، فالجملتان متناسبتان غاية التناسب، وفيه أنّ سلب كونه ليس هدى لغيرهم ليس صفة كمال له، فلا يناسب ما مرّ من أوصافه الفاضلة التي يشدّ بعضها بعضاً بخلاف سلب الاهتداء عمن لم يؤمن به لما فيه من الإشارة إلى كماله، وإن اختلف الموصولان بالذات كان الأولى بالثاني أن يعطف على الأوّل تقسيماً للمتقين، فإن جعل مبتدأ بلا تعريض فقد ترك الأولى بلا سبب، وفات أيضاً نكتة السؤال المقدّر وكان التخصيص المستفاد من المعطوف منافياً في الظاهر لما استفيد من المعطوف عليه، وإن قصد التعريض كان أظهر، ولم يكن التخصيص قي المعطوف مقصودا بل وسيلة إلى التعريض، ويتعين أن يكون بالقياس إلى المعرّض بهم والحال في العطف، كما سلف وجعل الواو اعتراضية خلاف الظاهر، وهذا زبدة ما حققه شراح الكشاف وارتضوه.
(وفيه بحث الما سيأتي مما يأباه ولأنه إذا عطف على أوّل الكلام من قوله ألم إلخ على
أنه من الأوّل إلى هنا في وصف الكتاب، وكماله والمعطوف عليه في صفة من آمن به، وبما فيه من حيازة خير الدارين كما إذا قلت هذا كتاب السلطان والذي يمتثل في الخير والأمان، فإنّ المناسبة بين الرسالة والمرسل إليه إن لم تكن تامّة، فليست بخفية وإنما جاء هذا من جعله معطوفاً على صفات الكتاب وما بعده بأن يعطف على جملة {هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ} كما صرّحوا به، وأمّ قول العلامة في هذا الوجه: إنه يجعل اختصاصهم بالهدى والفلاح تعريضا باهل الكتاب الذين لم يؤمنوا بنبوّته عليه الصلاة والسلام، وهم ظانون أنهم على الهدى طامعون في نيل الفلاح فقد يقال إنه لدفع التكرار بين هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ وعلى هدى لا تأويل له بجعله من صفات الكتاب، ولو سلم فليس ما-له أنه ليس هاديا لهم حتى يلزم أنها ليست بصفة كمال بل إنّ معناه لا ينالون هدى وفلاحاً بدونه وإن قرءوا الكتب السالفة، ومحصله أنه لا نافع سواه، وكونها صفة كمال أظهر من أن يخفى وأمّا جعله من عطف القصة من غير ملاحظة خصوصية، فيأباه أنّ الأنسب حينئذ عطف إنّ الذين كفروا عليه كما في {إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ} [ألانفطار: 13-14] كما في الكشف. قوله: (ما بالهاً خصوا بذلك إلخ) البال يكون بمعنى القلب والخاطر والشأن والحال، والمراد الأخير وما استفهامية خبر أو مبتدأ، وبالهم خبر أو مبتدأ أي ما الحال والثأن الذي خصصهم فجملة خصوا مفسرة أو عطف بيالط، أو بدل من البال أو حال وذكر الفاضل في سورة آل عمران أنها حال لا غير وأنها لا يجوز اقترانها بالواو لأنه لم يسمع كما في قوله:
ما بال عينك منها الكحل ينسكب
واعترض على الزمخشريّ في قوله ما باله وهو امن، ويرده قول جرير:
ما بال جهلك بعد الحلم والدين ~ وقد علاك مشيب حين لاحين
وسيأتي منا تحقيقه إن شاء الله إذا اقتضاه الحال، وخصوا مبني للمجهول وأبهم قوله
بذلك لما مرّ.
وقال قدس سرّه أي ما بالهم مختصين بذلك، وهل هم أحقاء به فمآل السؤال إلى أنهم
هل يستحقون ما أثبت لهم من الاختصاص، والجواب مشتمل على هذا الحكم المطلوب مع تلخيص موجبه، وقد ضمّ فبه إلى الهدى نتيجته تقوية للمحبالغة التي تضمنها تنكيره كأنه قيل: هم مستحقون للاختصاص والسبب فيه تلك الأوصاف التي رتب عليها الحكم، فاستغنى عن تأكيد النسبة ببيان علتها، وقد يقال المقصود من السؤال هو السبب فقط أي ما سبب اختصاصهم، واستحقاقهم إلاً أنه بين في الجواب مرتباً عليه مسببه، فإنّ ذلك أوصل إلى معرفة السبب، فلا حاجة أصلاً إلى تأكيد الجملة، وربما قيل قصد به مجموع الأمرين أي هل هم أحقاء بذلك وما السبب فيه حتى يكونوا كذلك، وقال في شرح المفتاح: فإن قلت إذا قدر السؤال هكذا ما للمتقين اختصوا أو ما بالهم اختصوا كان معناه أيّ أسباب تأخذت في شأنهم حتى استحقوا تلك الهداية، واختصوا بها فكان سؤالاً عن السبب، فلا يطابقه الجواب إذ لا دلالة له على السبب قلت: الكلام السابق مشتمل على تفصيل السبب إلا أنّ السامع لم يتنبه له، فنبه عليه إجمالاً باسم الإشارة الدالة على ذوات المتقين باعتبار تميزهم بتلك الصفات حتى صاروا كالمحسوس، واليه أشار بقوله وأجيب إلخ وأورد عليه أنّ بين كلاميه تعارضاً، فإنه جعل هذه العبارة في شرح المفتاح سؤالاً عن
سبب الاستحقاق، وهنا جعلها سؤالاً عن وجود الاستحقاق وجعل الجواب لاشتماله على علة الاستحقاق مستغنياً عن التأكيد وهو، وإن كان معقول المعنى غير معروف بين أهل المعاني أنّ الجواب جملة اسمية، وهي من جملة المؤكدات عندهم.
(أقول) ما في شرح المفتاح هو الحق الحقيق بالقبول لأنّ منطوق السؤال الذي قدّروه صريح فيه بل لا يحتمل غيره بوجه من الوجوه، وقد يقال: إنه ذكر الوجوه المحتملة التي تضمنها كلامهم واقتصر في شرح المفتاح على ما هو الحق عنده فتدبر. قوله: (فأجيب إلخ (أورد عليه أنه إذا فصل الموصول الثاني تكون الجملة معطوفة على ما سبق لا جواباً لسؤال والاً يجب الفصل، وردّ بأنه لا يرد عليه لأنّ قوله أجيب إلخ ينادي بأنّ مراده بيان حاصل المعنى على تقدير مفصولية الموصول الأوّل وحاصل الجواب لأنّ تمكنهم من الهدى، واستقرارهم عليه بتوفيق من ربهم متميزين عما سواهم خصهم بهداية الكتاب على الوجه الأتم وقد عرفت أنّ عبارته شاملة للوجهين إلاً أنّ ما ذكره بناء على ما وقع في نسخته كما حكاه، وهو وأجيب بقوله {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} والذي عندنا الذين يؤمنون فقط بدون ذكر بالغيب فالإيراد
باق مجاله، وإن كانت الواو غون استئنافا، فيصدر بها الكلام المستأنف، كما ذكره في المغني ومثل له بقوله تعالى {لِّنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاء} [الحج: 5] ونحو لا تكل السمك وتشرب اللبن فيمن رفع إلاً أنّ المراد به الاستئناف النحوي لا البياني كما لا يخفى، ومن هنا ظهر حسن صنيع الزمخشريّ إذ ضعف هذا الوجه وأخره، والمصنف رحمه الله لما خلطه وقع فيما وقع فيه. قوله:(وإلا فاستئناف الخ) أي إن لم يجعل أحد الموصولين مفصولاً فوصلا بما قبلهما فالجملة حينئذ مستأنفة إمّا استئنافاً نحويا لا يقدّر فيه سؤال أصلاً أو بيانياً وفيه نظر، ولما كان ما قبله مستلزما له فهو مستفاد مته، وفي ضمنه حتى كأنّ نتيجة له كان بينهما كمال الاتصال المقتضي لترك العطف، والمراد بالأحكايم ما وصف به الكتاب وبالصفات صفات المؤمنين الدال عليها بالموصولين، فلا يرد عليه إن كونه نتيجة ليس من جهات الفصل بل هي مقتضية للرّبط بالفاء، وهذا غفلة عن قوله كانه بالتذكير أي الكلام، وفي نسخة كأنها أي الجملة. قوله:(أو جواب سائل قال إلخ) هو معطوفءلمى قوله نتيجة أي ما سبب اختصاص الموصوفين بهذه الصفات بهدى الكتاب الكامل، فاجيب بأنه تمام روخهم على كمال الهدى منه تعالى والهدى منه توفيق وإعانة بلا مرية والظاهر أن يقال في تقريره: إنّ سبب اختصاصهم بالانتفاع بهداية الكتاب أنه تعالى قدّر في الأزل سعادتهم وهدايتهم، فجبلتهم مطبوعة على الهداية، والسعيد سعيد في بطن أمّه لا سيما إذا انضم إليه الفلاح الأخروي الذي هو أعظم المطالب فيندفع س قيل عليه في شرح الكشاف من أنّ هذا مجرّد احتمال لظهور أن ليس لهذا السؤال أعني ما للمستقلين بهذه الصفات قد اختصوا بالهدى زيادة توجه، ولا للجواب بأنّ اختصاصهم بالفوز بالهدى غير مستبعد كبير فائدة وزيادة بيان، بل هو إعادة للدّعوى بعينها، وكذا ما قيل من أنه لا وجه للسؤال لأنّ الأوصاف التي أجريت عليهم مقتضية، لذلك الاختصاص اقتضاء ظاهرا لكن السائل كأنه قد غفل عن اقتضائها فسال، فلذا أجيب بإعادة المدعى بعيته تنبيها على أنّ التامّل فيه يرفع مؤنة السؤال إلاً أنه غير وجه النسبة بين الهدى والمتقين، وزيد التصريح بالنتيجة دفعاً لبشاعة التكرار وهذا زبدة ما قاله الفضلاء تبعاً للمدقق في الكشف، وعلى ما ذكوناه لا يرد ما قالوه نعم هو لخفائه لا ينافي مرجوحيته وسياتيك عن قريب إن شاء الله تعالى ما يثلج صدوك ويقرّ عينك، وقيل أيضاً إنّ المعنى الشرعي للتقوى مشتمل على الجواب ومغن عن السؤال فتدبر. قوله:(ونظيره أحسنت إلى زيد الخ) هذا خلاصة ما في الكشاف حيث قال: واعلم أنّ هذا النوع من الاستئناف يجيء تارة بإعادة اسم من استؤنف عنه الحديث كقولك: قد أحسنت إلى زيد زيد حقيق بالإحسان، وتارة بإعادة صفته كقولك أحسنت إلى زيد صديقك القديم أهل لذلك منك، فيكون الاستئناف بإعادة الصفة أحسن وأبلغ لانطوائها على بيان الموجب وتلخيصه، وتبعه السكاكي وغيره من أهل
المعاني قال المحقق: يعني النوع المشتمل على إعادة ما عنه الحديث جواباً عن سؤال سبب
الحكم، بخلاف النوع الذي لا يكون كذلك
كقوله:
قال لي كيف أنت قلت عليل سهر دائم وحزن طويل
فإن قلت: الإعادة باسم الإشارة من أيّ قبيل أمن هذا النوع قلت: الظاهر إنه من قبيل
الإعادة بالصفة لأنه إشارة إلى الموصوف بالصفات لا إلى نفس الذات، فالاستئناف ههنا سواء وقع على الذين أو على أولئك وارد على الوجه الأحسن، لكن الثاني لا يزيد على إعادة الدعوى، وودّه المدقق وقال: أراد أنه جواب عن سؤال اسنحقاقه لما نسب إليه، فإذا قيل أحسنت إلى زيد اتجه أن يقال: هل هو حقيق بذلك فإن أجيب بذكر اسمه فقد ترك تأكيد الجملة على خلاف مقتض الظاهر، وإن أجيب بذكر صفته أفاد الحكم المطلوب مع بيان سببه القائم مقام تكيده، وليس ما مرّ بشيء لأنه إذا فيل ما سبب الإحسان إليه، واستحقافه إياه كان ذلك طلباً لتصوير سبب مخصوص بعد العلم بأن هناك سبباً في الجملة، فلا يصح في جوابه زيد حقيق بالإحسان إذ لا يفهم منه سبب مخصوص أصلاً، وقد يتوهم أنه على الثاني من إعادة الاسم ولذلك كان مرجوحاً ويدفعه قوله فأجيب إلخ، وقوله وفي اسم الإشارة إلخ، وقال في حواشي المطوّل: إنه كلام مختل فإن الحكما المثبت لزيد في المثال المذكور هو إحسان المخاطب إليه، وليس يقدّر هنا سؤال من المخاطب عن سبب إحسانه كيف وهو أعلم من غيره
باسباب أفعاله الاختيارية نعم يتصوّر ذلك إذا نسي، أو أراد أن يمتحن غيره هل يعرف ذلك، لكنه عما نحن فيه بمراحل، فالصواب تقدير هل هو حقيق بالإحسان.
(أقول) هذا تتحير فيه البصيرة التقادة، فإنّ ما ذكره قدس سرّه من الإيراد وارد عليه بعينه،
لأنّ ما ارتضى تقديره إن كان من المخاطب بأحسنت أعني المحسن ورد عليه ما أورده وردّت
بضاعته إليه، فيحتاج إلى ادّعاء النسيان أو قصد الامتحان، وإن كان من سامع غيرهما صح
أيضأ قصذه فيما ذكره الفاضل، وهو لماذا أحسن إليه على أن يكون أحسن ماضياً مجهولاً لا
مضارعا معلوماً، وقد جوّز. هو فيه فادّعاء أنه غير صحيح غير صحيح كما لا يخفى، وقول
بعض الفضلاء ربما يتكفف في دفع ما أورده الشريف، ويقال يجوز أن يكون السائل هو السامع
لا المخاطب، فيكون الاستئناف جوابا لسؤاله حينئذ لا وجه له، وأمّ اذعاء أنه تكلف فكأنه نشأ
من الخطاب في قوله صديقك إذ هذا يقتضي ترك الخطاب، وأن يقال صديقه ونحوه، ويوجه
بأنّ السؤال لعدم التصريح به لم ينظر إليه وطبق آخر. على أوّله، وقد أورد مثله بعض
المتأخرين على الالتفات في سورة الفاتحة ومرّ ما فيه، ثم إنّ ما أورده قدّس سرّه هنا مندفع
أيضماً بأنّ السؤال عن سبب الإحسان لا الاستحقاق والإحسان، فلا شك في أنّ كونه حقيقاً به
سبب معين من أسبابه غاية الأمر أنّ هذا السبب له سبب، ولا ضرر فيه على أنّ لك أن تقول إنّ
قوله أحسنت إلى زيد لم يقصد به فائدة الخبر لأنه من لغو القول بل لازمها وهو علمه بذلك،
فالسؤال المقدّر من المخاطب سؤال عن علمه، ومعرفتة أيضاً من غير نسيان ولا امتحان كما لا يخفى على الفطرة السليمة، أو يقال إنّ هذا السؤال يلوح به عرض الكلام من غير نظر لسائل معين، والنظر لمثله تكلف يجرّ تكلفات أخرى ألا ترى أنّ ما في هذه الآية الكريمة لا يصح أن يقدّر السؤال فيها من رب الكلام، وهو الله مسبب الأسباب العالم بسائر الخفيات ولا من الملقى إ ايه الكلام أوّلاً، وهو النيّ عليه الصلاة والسلام، والمؤمنون لعلمهم بأنه لا يسأل عما يفعله مع ظهور ذلك عندهم، ومن عداهم لا يسلم الهداية من أصلها فلا يسئل عن سببها، ولذا لم يعرج عليه المفسرون فتدبر ترشد. قوله:(فإنّ اسم الإشارة ههنا الخ) في الكشاف وفي اسم الإشارة الذي هو أولئك إيذان بأن ما يرد عقيبه فالمذكورون قبله أهل لاكتسابه من أجل الخصال التي عدّدت لها كما قال حاتم:
ولله صعلوك مناه وهمه
ثم عدد له خصالاً فاضلة، ثم عقب تعديدها بقوله:
فذلك إن يهلك فحسنى ثناؤه وإن عامى لم يقعد ضعيفاً مذمماً
قال قدّس سرّه تبعاً للشارح المحقق: قد توهم أنّ الإيذان المذكور مختص بما إذا وقع الاستئناف على أولئك، والصواب أنه جار على الأوجه الثلاثة، وذلك أنّ أسماء الإشارة حقها أن يشار يها إلى محسوس مشاهد، أو إلى ما ينزل منزلته في تميزه وظهوره، ولما كانت الصفات المجراة على المتقين مميزة لهم جاعلة إياهم
كانهم حاضرون مشاهدون وضع أولئك موضمع الضمير إشارة إليهم من حيث أنهم موصوفون بها، كأنه قيل: أولئك المتميزون بتلك الصفات، فيكون الكلام من ترتب الحكم على الأوصاف المنامبة، ومفيدا للعلية بخلاف الضمير، فإنه راجع إلى الذات وليس فيه ملاحظة أوصافها، فإن قلت قد تقدّم منك في قوله ليكون الخطاب أدل على أنّ العبادة له لذلك التميز ما يدل على أن في الضمير إيذاناً في الجملة، وسياق الكلام هنا ينافيه قلت: إذا حمل التنوين في إيذاناً على التعظيم زالت المنافاة اهـ. وفي شرحه للمفتاح أنّ من اللطائف الداعية لأن يورد اسم الإشارة التنبيه على أنّ المشار إليه إنما استحق ما ذكر بعده لأجل الصفات السابقة إلاً أنه من إخراج الكلام لا على مقتضى الظاهر، وقد قيل عليه أنه من لطائف كون المسند إليه اسم الإشارة لا من اللطائف الداعية إليه لأنّ الإيذان المذكور يحصل بالموصول أيضاً، ولذا لم يعدّه السكاكي من الدواعي وذكر في المثال المذكور داعياً آخر يعني كمال العناية بتمييزه وتعيينه لما اف ف به من المحامد هذا زبدة ما ذكروه.
وفيه بحث كا وجوه
(الأول) إنّ ما ادّعوه من أنه جار على الأوجه الثلانة، وتخصيصه توهم غير ظاهر، لأنه
على وجهي الابتداء بالموصول الذي هو معنى الوصف المفيد للعلية، كما صرّحوا به لا وجه حينئذ للعدول إلى اسم الإشارة لأجل ذلك لسبق ما يفيده ولا يقتضي التأكيد فيتعين أنه لكمال العناية به كما في المفتاح، فما عدّوه توهماً هو النظر السديد.
(الثاني) أنّ سؤاله قدّس سرّه وجوابه ليس بقويّ لأنّ ما مرّ في الفاتحة من العدول إلى الخطاب لا إلى الضمير مطلقا وفي أولئك خطاب أيضاً فتأمّل.
(الثالث) أن ما أورد عليه مدفوع بما ذكر في حالة الإضافة من أنّ الداعي إليها أن لا يكون إلى إحضاره طريق سواها أصلاً أو طرق سواها أخصر، واسم الإشارة أخصر من الموصول فترجيحه ظاهر على أنّ ما ذكر ليس بوارد رأساً فتدبر. قوله. (كإعادة الموصوف بصفاته إلخ) الجار والمجرور أعني ض له بصفاته متعلق بإعادة لا بالموصوف أي إعادة المستأنف عنه المذكور أولاً بواسطة صفاته الدالة عليه ضمناً، وهذه العبارة أخصر وأحسن من قوله في الكشاف بإعادة اسم من استؤنف عنه الحديث، أو إعادة صفته لما يرد عليه من أنّ الصفة لم تذكر أوّلاً حتى تعاد وإن اعتذر له بأنه أراد به إعادة ذكر من استؤنف عنه الحديث باسمه أو بصفته إذ هو مشاكلة، ومن لم يتنبه لهذا قال بعدما ذكر قسمي الاستئناف، ومثل لما يجيء بإعادته بصفته بأحسنت إلى زيد الكريم الفاضل ذلك الموصوف بتلك الصفات حقيق بالإحسان معترضاً على المصئف إنّ مثاله لا يناسب الممثل له، فالمناسب له أن يمثل بما؟ كر. قوله:(لما فيه) أي لما في الاستئناف بإعادة الصفة الدال عليها اسم الإشارة من البيان لمقتضى الحكبم، وهو الوصف المناسب المشعر بالعلية لترتب الحكم عليه. وقوله:(وتلخيصه) بالجرّ معطوف على بيان، والتلخيص هما بمعنى الاختصار لأنّ اسم الإشارة أخصر من تلك الصفات لو أعيدت. وقوله:(الموجب له) أي المقتضي لاستحقاقه تفضلَا منه، كما قال تعالى {أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} [طه: 50] وهذا لا كلام فيه إنما الكلام في الإيجاب عليه تعالى بمعنى لحوق الذمّ الذي ذهب إليه المعتزلة، وليس بمراد. قوله:(ومعنى الاستعلاء إلخ) الاستعارة فى الحرف بتبعية متعلقة وهو المعنى الكلي الشامل له كما حققوه، فلذا قال: معنى الاستعلاء دون معنى على والتمثيل ضرب المثل والإتيان بمثال، ومطلق التشبيه والمركب منه، وهذا ظاهر لا نزاع فيه وإنما النزاع في الاستعارة التبعية هل تكون تمثيلية أم لا، فذهب الفاضل المحقق إلى جوازه متمسكاً بما صرح به العلامة في مواضع من كشافه كما صرّح به هنا، وقد سبقه إليه الطيبي وقال: إنه مسلك الشيخين الزمخشريّ والسكاكي، ولم يرتضه المدقق في الكشف، وأوّل ما في عباراتهم، وتبعه فيه السيد وشنع على الفاضل حتى كأنه أبو عذرته وهي
المعركة العظمى التي عقدت لها المجالس وصنفت الرسائل مما هو أشهر من قفا نبك.
قال قدس سرّه بعدما ذكر قول الزمخشريّ: ومعنى الاستعلاء في قوله على هدى مثل لتمكنهم من الهدى، واستقرارهم عليه وتمسكهم به شبهت حالهم بحال من اعتلى الشيء وركبه إلخ يريد أنه استعارة تبعية شبه فيها تمسك المتقين بالهدى باستعلاء الراكب على مركوبه في التمكن والاستقرار، فاستعير له الحرف الموضوع
للاستعلاء، وقوله مثل أي تصوير فإن المقصود من الاستعارة تصوير المشبه بصورة المشبه به إبرازا لوجه الشبه بصورته في المشبه به، ثم إنه قدم تصوير وجه الشبه أعني التمكن والاستقرار على تصوير المشبه الذي هو التمسك، لأنه المقصود الأصلي بالقياس إليه، ومن الناس من زعم أنّ الاستعارة في على تبعية تمثيلية، وانّ كونها تبعية لجريانها في متعلق معنى الحرف، وكونها تمثيلية لكون كل من طرفي التشبيه حالة منتزعة من عدة أمور، فورد عليه إنّ انتزاع كل من طرفيه من عدة أمور يستلزم تركيبه من معان متعددة، ومن البين أنّ متعلق كلمة على، وهو الاستعلاء معنى مفرد كالضرب، فلا يكون مشبها له في تشبيه تركب طرفاه، وإن ضم إليه معنى آخر وجعل المجموع مشبها له لم يكن معنى الاستعلاء مشبهاً به في هذا التشبيه، فكيف يسري التشبيه والاستعارة إلى معنى الحرف، والحاصل إن استعارة على استعارة تبعية تستلزم كون الاستعلاء مشبها به، وتركب الطرفين يستلزم أن لا يكون مشبهاً به، فلا يجتمعان وقد أجيب لأنّ انتزاع كل من طرفيه من عدة أمور لا يوجب تركبه بل يقتضي تعددا في مأخذه وردّ بأنّ المشبه مثلا إذا كان منتزعا من أشياء متعددة، فلا يخلو من أن ينتزع بتمامه من كل واحد منها وهو باطل، فإنه إذا أخذ كذلك من واحد منها كان أخذه مرّة ثانية من آخر لغوا وتحصيلاً للحاصل، أو ينتزع من كل واحد منها بعض منه فيكون ضرورة مركبا أو لا يكون لا هذا ولا ذاك، وهو أيضا باطل إذ لا معنى حينئذ لانتزاعه من تلك الأمور المتعددة على أنه صرح بخلافه في قوله تعالى {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَاراً} [البقرة: 17] وهو لا يشتبه على ذي مسكة.
(واعلم) أنّ على هدى محتمل لثلاثة وجوه:
(الأوّل) لثيه تمسكهم بالهدى باعتلاء الراكب.
(الثاني) تشبيه هيئة منتزعة من المتقى والهدى وتمسكه به بهيئة منتزعة من الراكب والمركوب، واعتلائه عليه فتكون تمثيلية تركب كل من طرفيها لكن لم يصرح من الألفاظ التي
بإزاء المشبه به إلا بكلمة على فإنّ مدلولها هو العمدة في تلك الهيئة، وما عداه تابع له ملاحظ في ضمن ألفاظ منوية، وأن لم يقدر في نظم الكلام وبينهما فرق، فليس في على استعارة أصلاً بل هي على حالها لو صرّح بتلك الألفاظ.
(الثالث) أن يشبه الهدى بالمركوب فعلى قرينة التخييلية هذا زبدة ما ارتضاه، ومن
الفضلاء من ردّه وانتصر للسعد سعد جدّه فقال: هو ممنوع أمّا المقدمة الثانية، فإنّ الاستعلاء المطلق متعلق لمعنى مطلق كلمة على لكن خصوصياتها متعلقات خاصة مثلاً هنا استعلاء الراكب على المركوب استعلاء ملتبس بوجه التمكن والاستقرار، وذلك لأنّ متعلق معنى الحرف ما يرجع إليه بنوع استلزام، وقد يعبر عن ذلك المعنى في العرف به وهذا الاستعلاء الخاص لازم لمعنى على هنا لزوم العامّ للخاص ويجوز تفسيره بذلك عرفاً، ولا شك أنّ المشبه به هنا ليس مطلق الاستعلاء بل الاستعلاء الخاص، فإن قيل إنه مقيد لا مركب قيل نعم لكن في حواشي المطوّل له ردّ كون الترشيح خارجا عن الاستعارة بواسطة كون المستعار مقيدا به بدون تركيب، لأنه إذا كان المشبه به هو المقيد من حيث هو مقيد، فلا بدّ أن يستعار منه ما يدلّ عليه من حيث هو كذلك فلا تتض تلك الاستعارة بدون ذلك القيد، فلا يكون متعلق معنى الحرف مدلولاً بلفظ مفرد وكذا معنى الحرف نفسه لا يدلّ عليه بلفظ مفرد وإن كان معنى واحدا مقيدا بقيود غاية الأمر أن يكون الموضوع بإزائه لفظا مفردا، والحاصل أنّ معنى الحرف في أدائه يحتاج إلى ألفاظ متعددة كالمعنى المركب إلا أنّ المقصود الأصلي فيه تشبيه المقيد دون القيد وفي المركب المجموع، وأمّا المقدّمة الأولى، فهو أنّ مبنى التمثيل هنا على تشبيه الحالة المنتزعة من أمور متعددة بمثلها، ومعنى انتزاعها حصولها منها عند وجودها على وجه اللزوم وقيامها بها، ولا يخفى أنه يجوز أن يكون شيء بتمامه منتزعا من مجموع قائماً به بدون التركيب والتكرار وبلا قيام بكل جزء كالنقطة في الخط، والإضافة في محلها عند القائل بوجودهما، وكذا جميع الأعراض التي لا تسري في محالها: كما حقق فالكلام، فعلى هذا يجوز أن تسري الاستعارة التمثيلية في معنى الحرف المفرد بهذا الوجه وينتزع منه الأمور المتعدّدة كما مرّ، فإنّ معنى على هنا نسبة بين الراكب والمركوب على وجه الاستقرار قائمة بينهما مسببة عنهما
ولا يضره أنه لم يلاحظ الأمور المتعددة قصداً بألفاظ كثيرة، أو التفصيل والتركيب في المأخذ لا في نفسه وما ذكروه من أنّ الوجه مركب في التمثيل، فباعتبار المأخذ، وعلى هذا يحمل ما قيل إنه لا معنى للتشبيه المركب إلاً أن ينتزع كيفية من أمور متعدّدة، فتشبه بكيفية أخرى مثلها نعم لا تجري الاستعارة التمثيلية بالمعنى المشهور في الحرف، فإنها في مجموع الكلام المركب من ألفاظ متعددة مفصلة بلا تصرّف في الأجزاء كما في أراك تقدم رجلَا، وتؤخر أخرى إذ يراد بمجموعه أراك متردّدا في أمر كذا، وقد اعترف بذلك جدي والحاصل أنه يجري في الحرف التمثيل بمعنى انتزاع الحالة من الأمور المتعددة ولا يجري فيه معنى التشبيه في المفصل المركب قصدا على أنه ينبغي أن يعلم أنّ معنى الاستعارة التمثيلية بالمعنى المشهور في الآية بعيد غير ظاهر، فإنه لا يقصد بها تشبيه حال المجموع بل تشبيه التمسك بالهدى بتلبس الراكب بالمركوب في استقراره عليه، وأيضاً لا وجه لاعتبار ألفاظ المشبه به في هذا التركيب بعد دخول على على الهدى وجعله خبراً عن أولئك المشار به
للمتقين مع أنّ الهدى، وأولئك من أجزاء المشبه، فإن قلت: قد يطوى ذكر المشبه في التشبيه، كما يطوى في الاستعارة بحيث لا يكون في حكم المذكور، ولا يحتاج إلى تقديره في النظم إلاً أنه يكون منسياً في الاستعارة منويا في التشبيه كما في قوله تعالى {وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ} [فاطر: 2 ا] الآية فإنّ البحرين مستعملان في معناهما الحقيقيّ، وقد أريد تشبيه الإسلام والكفر بهما، ولا يقدر اللفظ إلاً في مجرّد الإرادة فكذا بالنسبة إلى المشبه به في الاستعارة، قلت الفرق ظاهر فإنّ التشبيه قد يكون ضمنياً مكنياً كما في قوله:
فإن تفق الأنام وأنت منهم
إلخ إذ مجموعه مفيد لتشبيه المخاطب إ، لمسك في الانفراد عن بني جنسه فقوله {وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ} إلخ أيضا مفيد للتشبيه غاية الأمر أنّ اعتبار لفظ المشبه فيهما يغير نظم الكلام بخلاف قوله {أُوْلَئِكَ عَلَى هُدًى} فإنّ المجموع ليس كناية عن الاستعارة، ووجود أجزاء المشبه فيه ينافي اعتبار ألفاظ الاستعارة، فإنّ التشبيه ينسى فيها أصلا، وبالجملة لا وجه لدخول على على الهدى وأيضاً الاستعارة مجاز أي كلمة مستعملة في غير معناها لعلاقة التشبيه، وإذا لم تذكر ألفاظها ولم تقدّر يبعد اعتبار التجوّز (بقي هنا إشكال) على اعتبار الاستعارة التمثيلية في المركب مطلقاً، فإنّ المقصود فيه التشبيه بين الحالتين المنتزعتين من الأمور المتعدّدة الواقعة في الطرفين ولم يظهر وضع أمر بإزاء حالة، حتى يصرف عنها إلى أخرى بعلاقة التشبيه، وبالجملة لا يظهر في تلك إلاستعارة ما يتصرف فيه بالتجوّز وأمّا الهيئة التركيبية فموضوعة بإزاء الإثبات أو النفي، وظاهر أنه لم يقصد التشبيه فيها، فلا تجوز فيه إذا عرفت ما تلونا. عليك، وهو زبدة ما في هذا المقام فالذي يخطر بالبال بعد طيّ شقة القيل والقال، إنّ الخلاف بينهم في حرف واحد إذ لا خلاف في أنّ التمثيل التفصيليّ المعروف يستدعي تركب الطرفين حقيقة وإنّ التمثيل الآخر الذي هو محل النزاع هل يشترط فيه التركيب بعد الاتفاق على أنه لا يلزم التصريح بأجزائه لفظاً ولا تقديرا، فذهب الشريف إلى أنه يشترط فيه أن تكون أجزاؤه مرادة منوية، فلا يكون ما اقتصر عليه من الحرف، ونحوه مما هو عمدة المعنى المجازي مستعملا في معنى مجازي بل حقيقة والأكان مجازا مفردا لا تمثيلاً. أو لا يشترط فيه ذلك بل يكفي تركب المأخذ المنتزع منه ذلك، ويكون الحرف المذكور مع ما يدلّ عليه بالالتزام من طرفي التشبيه، وما يتممها متجوّزا فيه، وإلا لم يصح دخول على على الهدى كما مشى عليه السعد ومن مشى على جادّته، فالنزاع كاللفظيّ وأمّا الإشكال الذي أورده ولم يجب بم ضه فقد استصعبه بعض المتأخرين، فيدفعه أنّ اللفظ المركب له هيئة ومادّة دالة على معنى مجموع مركب موجود في الخارج ومجموع المادّة والهيئة موضوع له بالوضعالنوعي أو بأوضاع مفرداته على الخلاف المعروف فيه، وهو المتصرف فيه لا الهيئة فقط، ولا المفردات وسنحققه في محله إن شاء الله نعم يرد على ما مرّ من أنّ الاستعلاء الخاص المقيد تمثيل أنه لو اقتضى ذلك لم يكن لنا
استعارة تبعية أصلَا لاستلزامها لهذا التركيب، والمراد بالاستعلاء العلو لا طلبه، وهي قد اشتهرت بهذا المعنى وتمكنهم بمعنى ثباتهم ودوامهم، فعطف الاستقرار عليه لتفسيره وتوضيحه. قوله ة (بحال من اعتلى
الشيء إلخ) فيه تسمح والأصل تمثيل حالهم في تمكنهم، واستقرارهم بحال من اعتلى إلخ إن قلنا: إنّ التمثيل بمعناه المشهور أو تمثيل تمكنهم بالاعتلاء على المركوب إن كان التمثيل بمعنى مطلق التشبيه، فالاستعارة تبعية على ما أسلفناه، ووجه الشبه إيصاله إلى المقصد الاً عظم في الدارين. قوله:(وقد صرحوا به إلخ) أي صرّحوا بالتمثيل، فإنه استعارة لم يصرح فيها به وان كانت مبنية عليه، أو المراد صرّح فيه بالمركوب المرموز إليه في التبعية لأنّ معنى امتطى ركب كما سيأتي، وقال قذس سرّه: إنه لما ذكر استعارة على للتمسك بالهدى رام منه تشبيه الهدى ونظائره بالمركوب، وقد يتبادر إلى الوهم أنه استعارة، فأزاله بأنّ هذا التشبيه فيما ذكرناه ضمني غير مقصود من الكلام، وقد صرّحوا به وجعلوه مقصوداً في مواضع أخرى وعدل عن قوله في الكشف، وفيه إشارة إلى أنّ التشبيه هنالك ضمني لأنّ الاستعلاء لازم الحرف لا نفس معناه لما فيه من الخفاء كما لا يخفى. قوله:(امتطى الجهل وغوى) هذا هو الصحيح وغوى فيه فعل ماض كنوى بمعنى ضل وفي بعض النسخ، والغوى معرفا بالألف واللام، وكأنها تحريف لأق الغوي كالهوى فساد الجوف فجعله بمعنى الغواية وان كان له وجه تكلف، والجهل هنا بمعنى البغي والتجاوز، وهو أصله الشائع في كلام الفصحاء قال:
ألالايجهلن أحدعلينا فنجهل فوق جهل الجاهلينا
وورد أيضا فيما يقابل العلم كما هو المستعمل، والتصريح بما ذكر إتا في صورة التشبيه كقولهم: جعل الغواية مركبا، فإنه في قوّة قولك الغواية مركب، أي كالمركب وإمّا في صورة الاستعارة كقولهم اقتعد غارب الهوى إذ شبه فيه الهوى بالمطية على طريقة الاستعارة المكنية، وخيل بإثبات الغارب ورشح بذكر الاقتعاد، فإنه من اقتعد بمعنى ركب، وهو في الأصل افتعال من القعود، والغارب له كما في كتب اللغة معان ما بين السنام، والعنق ومنه استعير حبلك على غاربك ومقدم السنام، وما يعلوه راكب البعير من مطلق الظهر، وهو المراد المناسب هنا فمن فسره بما قبله وقال: إنّ فيه إشارة إلى إشراف مرتكب الهوى على السقوط لم يصب، وأنا قولهم امتطى الجهل، فإن جعل بمنزلة قولك ركب مطا الجهل كان استعارة بالكناية، وان جعل في قوّة قولك اتخذ الجهل مطية كان تشبيها، وأياً ما كان فثبيه الجهل بالمطية مقصود منه كما في قوله:
إنّ الشباب مطية الجهل
وذلك إنما يحصل باسنفراغ الفكر، وادامة النظر فيما نصب من الحجج؟ والمواظبة
على محاسبة النفس في العمل، ونكر هدى للتعظيم، فكأت أريد به خير لا يبلغ كنهه، ولا
في رواية وهو المراد بكونه مصرحا به، وقيل: امتطى استعارة تبعية شبه اتصافه بالجهل، واستقراره عليه بامتطاء المطية، واستعير لفظ المشبه به للمشبه، فسرت الاستعارة إلى الفعل وذكر المفعول قرينة لها- وفيه بحث إذ لا فرق حينئذ بينه وبين قوله {عَلَى هُدًى} في أن تشبيه الهدى والجهل ليس مقصوداً فيهما، فكيف يجعل مصرّحا به ة ب أحدهما دون الآخر، ولا يخفى أنّ دلالة الفعل على الحدث، وهو الركوب والإمتطاء ليست كالحرف فتدبر، وفي الكشف عدّ امتطىء الجهل تشبيهاً خطأ بين سواء كان معناه ركب مطاه فيكون كغارب الهوى، وقد سلم فيه الاستعارة، أو اتخذه مطية فيكون نظير قوله:
قتل البخل وأحيا السماحا
نعم لو ذكر ترجمته كان تشبيها ومنه أتى على من أتى وقد نوّر هذا بأنّ معنى امتطى الجهل اتخذه مطية على سبيل الحقيقة دون التشبيه، فلا بد من الاستعارة إذ لا يمكن تقدير الأد اة.
نعم إذا ذكرت الترجمة يمكن جعله تشبيهاً والتصريح بحسب الأصل لا يقتضي القصد بل مجرّد الظهور دون استبعاد ولا شك في أنّ تشبيهه الجهل بالمركب في هذا المثال أظهر من تشبيه الهدى به بحيث لا يخفى على أحد سواء اعتبر فيه الاستعارة بالكناية أو التبعية أو التشبيه بل نقول اسم الإشارة في قوله: صرّحوا بذلك إشارة إلى تشبيه حال المهتدي بحال الراكب، فإنّ ذلك خفيّ يحتاج إلى النظر والتوضيح:
وقدبقيت يا صاح في النفس حاجة لعل بفضل الله يوما أقضيها
قوله (وذلك إنما يحصل إلخ) إشارة إلى التمكن والاستقرار المار أي لا يحصل إلا بتكميل القوّتين النظرية والعلمية، فاستفراغ الفكر، وادإمة النظر إشارة إلى الأولى ومحاسبة النفس إلخ إشارة إلى الثانية، وفي قوله استفراغ إيماء إلى تشبيه الذهن بقليب يستقى منه، وتشبيه ما يفيده بماء عذب ومحاسبة
النفس بجعلها كعامل أو وكيل واعمالها بمنزلة أموال عندها والعقل حاكم عليها يحاسبها، وفيه لطف لا يخفى. قوله:(ونكر هدى إلخ) إنما أفاد التنكير التعظيم لما فيه من الإبهام الذي يفيده نحو الحاقة ما الحاقة لأنه في معنى هدى أيّ هدى أي هدى عظيم لعظمته لا تعرف حقيقته ومقداره، واليه أشار المصنف بقوله خير وفي نسخة ضرب أي نوع منه وهو الصحيح الموافق لما في الكشاف. وقوله:(لا يبلغ) ببناء المجهول أي لا يدرك، والكنه الحقيقة والنهاية كما في كتب اللغة أي لا يصل أحد إلى حقيقته أو نهايته، ويقادر بضم الياء وفتح الدال المهملة مجهول من قادره بالقاف كضاربه، وقدره بسكون الدال ويجوز فتحها أي لا يعرف مقداره، وفي الأساس قدرت الشيء قدره وهذا شيء لا يقادر قدره، وهو
من قولهم تقادر الرجلان إذا طلب كل منهما مساواة الآخر في المقدار قيل: ويحتمل أن يكون التنكجر للإفراد أي على هدى واحد ألا لا هدى إلاً هدى ما أنزل إليك لنسخه ما قبله.
وفي الكشاف تفسير من ربهم بقوله أي منحوه من عنده وأوتوه من قبله وغيره المصنف
لما فيه من الركاكة بزيادة أي التفسيرية بين المبتدأ والخبر وتقدير ما لم يدل عليه دليل والقصد أن من ابتدائية {وَمِّن رَّبِّهِمْ} صفة وتفسيره الهدى باللطف والتوفيق، لأنه مذهب المعتزلة، وعندنا هو خلق الاهتداء وقا. قدم ما يغني عنه وسيأتي تتمته. قوله:(ونظيره إلخ) في نسخة ومثله قول الهذلي: وفي نواهد الأبكار أنه في الديوان المجموع لشعر هذيل قطعة لا قصيدة، وهي ثلاثة أبيات لا رابع لها وقد روي لها رابع وهي بجملتها على ما صححه الرواة وارتضاه الفاضل في شرحه:
لعمرأبي الطيوالمربة غدوة على خالدلقد وقعت على لحم
فلاوأبي لاتأكل الطيرمثله عشية أمسى لايبين من السلم
وانك لو أبصرت مصرع خالد بجنب الثنار بين أبرق فالحزم
لأيقنت أن البكرغيررذية ولا الناب لا ضمت يداك على غنم
والشعر لأبي خراس وهو خويلد بن مرّة الهذلي يرثي به خالد بن زهير الهذلي، وقد قتل
في وقعة مشهورة مذكورة في شرح أشعار هذيل وأبو خراس كان من فرسان العرب وفصحاء شعرائها، وكان يعدو على قدميه فيسبق الخيل، ثم أسلم وحسن إسلامه ومات في زمن عمر رضي الله عنه من نهش حية وخالد المرثي كان رفيع الشأن في هذيل، والمربة بضم الميم وكسر إلراء المهملة، وتشديد الباء الموحدة والهاء بمعنى الملازمة من أرث وألب باللام أقام بالمكان، وقد نقل أنّ الزمخشريّ كان يقول ما أفصحك من بيت إذا أنشده فإنه استعظم لحمه ولذا نكره وسبب استعظامه له أنه استعظم الطير الواقعة عليه حيث أقسم بأبيها، أو بها إن قلنا إنّ لفظ الأب مقحم كما ذهب إليه بعضهم، والطير مجرورة بإضافة الأب إليه، فإن قيل إنه مضاف لياء المتكلم فهو مرفوع على أنه ناعل فعل مقدر مفسر بما بعده وعلى الأوّل التكنية والقسم لتعظيمه ولا ردّ لما يتوهم من تحقيره بأكل الطير له أو زائدة وجواب القسم لقد إلخ. وقوله:(وقعت) بكسر التاء المثناة خطاب للطير على أنه التفات على هذه الرواية، وقد روي وقعن، وعلقن أيضاً فلا التفات فيه، والإقسام بها لوقوعها على اللحم العظيم فيه تعظيم للمقسم عليه نفسه كما في قول الطاني:
وثناياك إنها اغريض
وقوله تعالى {حم وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا} [الزخرف: 2] وقيل
أبو الطير خالد نفسه لوفوعها عليه كما يقال أبو تراب وأبو الزند لصاحب الملازمة له ولا حاجة
إلى جعل أبي جمعاً وأصله أبين، فسقطت نونه للإضافة كما قيل: وإنشاد المصنف له، فلا
وأبي الطير المربة بالضحى إلخ تبع فيه الزمخشريّ وقال السعد هو في ديوان الهذليين هكذا:
لعمرأبي الطيرالمربة غدوة على خالدلقدعلقن على لحم
إلخ وفي حواشي الكشاف لابن الصائغ، ومن خطه نقلت نقلاً عن الرضى الشاطبي أنه
هو الصواب، وهو كما قال وإنما استدل به لأنه لو لم يقصد التعظيم كان لغواً من القول فتأمل.
قوله: (وكد تعظيمه إلخ) قيل: إنه لما توهم أنّ الهدى لا يكون إلا من الله، فما فائدة قوله من
ربهم بين أنه تأكيد لتعظيمه بإسناده إليه تعالى كما يستفاد من فحو بيت الله، والتوفيق هو اللطف
الداعي إلى أعمال الخير كما أنّ العصمة هي اللطف المانع
عن أعمال الشر، وقيل: معنى
كونهم على هدى من ربهم خلق الهدى فيهم وإعطاؤه لهم لا اللطف والتوفيق كما هو رأي
المعتزلة، وهذا من ضيق العطن، فإنه لم يفسر الهدى به كما فعله الزمخشريّ على أنه لو قاله
لم يكن به بأس فتدبر. قوله: (وقد أدغمت إلخ) الغنة صوت يخرج من الخيشوم والنون أشدّ
الحروف غنة والأغن الذي يتكلم من قبل خياشيمه، وقد قال القراء: إنه يجب إدغام النون
الساكنة والتنوين في اللام والراء بلا غنة عند الجمهور، وعليه العمل كما في الشاطبية
وشروحها، وذهب كثير من أهل الأداء إلى الإدغام مع بقاء الغنة ورووه عن نافع وابن كثير وأبي
عمرو وابن عامر وأبي جعفر ويعقوب.
وقال الإمام ابن الجزري رحمه الله: وردت الغنة وصحت من طرق كتابنا عن أهل
الحجاز والشام، وأطال في تقريره في النشر وقد أظهر النون والتنوين عند الراء واللام ابن عون
عن قالون وأبو حاتم عن يعقوب، وأوجب غيرهم الإدغام كما قاله الجعبريّ ففيها عند أهل
الأداء ثلاثة وجوه، ووجه الإدغام تلاصق المخرح أو تجاوره، ووجه وجوبه عند الجمهور كثرة
الدور ووجه حذف الغنة المبالغة في التخفيف واتباع الصفة الموصوف، أو تنزيلهما لشدّة
لمناسبة منزلة المثلين النائب أحدهما مناب الآخر ووجه بقاء الغنة أنّ الأصح بقاء الصوت
المدغم، كما في شرح الطيبة ومنه علم أنه لا غبار على ما قاله الشيخان، وإنّ ما في شرح
الفاضل المحقق من أنه بحسب العربية وأمّا بحسب الرواية عن القراء فاكثر أنه لا غنة مع الراء
واللام لا وجه له وإن اقتفوا أثره فيه. قوله: (كرر فيه اسم الإشارة إلخ) هذا بعينه ما في
الكشاف من قوله وفي تكرير أولئك تنبيه على أنهم كما ثبتت لهم الأ. لرة بالهدى فهي ثابتة لهم
بالفلاح إلخ. والأثرة بفتح الهمزة وفتح الثاء المثلثة وراء مهملة، وهاء لغة بمعنى الاستئثار
والاستبداد وقيل هي التقدم والاختصاص من الإيثار ويجوز فيه ضم الهمزة وسكون المثلثة
وفسرها بعفنهم بالمكرمة المتوارثة وقال: إنها إشارة إلى أنه تعالى أكرم بها آدم عليه الصلاة والسلام وخواص بنيه، فكأنها انتقلت لهم إرثا وهو تكلف، والمراد بالأثرتين تمكنهحم من الهدى في الدنيا وفوزهم بالفلاح في العقبى مما دل عليه محمول القضيتين في النظم. يعني أنّ هؤلاء الموصوفين بتلك الصفات يستحقون بذلك الاستقلال بالتمكن في الهدى والاستبداد بالفلاح. والاختصاص بكل منهما، ولو لم يعد أولئك لربما توهم أنّ الاستقلال بالمجموع لا بكل واحد منهما، وإنما أفاد ذلك الاختصاص لدلالته على الصفات، وأنه في المشتق كما مرّ فيفيد العلية لثبوتهما لهم والعلة لا تخلف عن المعلول فيقتضي الاختصاص بهما والتميز.
وفي الإشارة ما يغني عن الكلم.
ومن غفل عن هذا قال: إنّ هذا الوجه إنما يستقيم إذا أفاد مجرّد تعريف المسند إليه التخصيص ليحصل في الجملة الأولى أيضا وهو مختلف فيه، فكأنه تبع صاحب الكشاف في القول بالحصر في نحو {اللهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاء} [الرعد: 26] وقد تجعل أولئك الثانية إشارة إلى المتقين الموصوفين بكونهم على هدى من ربهم وبجعل الفلاح مترتبا على كونهم على تلك الهداية الواصلة إليهم من ربهم المترتبة على الأوصاف السابقة، فلا تكرأر حينئذ إلا بحسب الظاهر، وقد أشار قدس سرّه إلى أنّ كلام الكشاف محتمل له فإنه قال: وفي تكرير أولئك تنبيه على أنهم كما ثبتت لهم الأثرة بالهدى فهي ثابتة لهم بالفلاح، فإنّ الفاء في قوله: فهي تحتملى الزيادة، والدلالة على أنّ الأثرة بالهدى سبب الأثرة الأخرى، والمصنف عدل عنه. وقوله:(وأنّ إلخ) كالعطف التفسيري، وما ذكر هنا قريب من الإيماء إلى وجه بناء الخبر المذكور في المعاني في تعريف المسند إليه بالموصولية فتدبر. قوله:(ووسط العاطف إلخ) هذا جواب سؤال مقدّر يلوح به ما قبله من التكرير في المبتدأ أو كفاية كل من الأثرتين، فإنه يوهم أنّ المقام يقتضي عدم العطف كما في الآية الأخرى يعني أنّ على هدى والمفلحون مع تناسبهما معنى مختلفان مفهوماً ووجودا فإنّ الهدى في الدنيا والفلاح في العقبى، واثبات كل منهما على حدة أمر مقصود في نفسه، فالجملتان المشتملتان عليهما المتحدتان في المخبر عنه بين كمال الاتصال والانفصال فلذا عطفت إحداهما على الأخرى، وأمّا كالأنعام والغافلون، وان اختلفا مفهوما فقد اتحدا مقصودا إذ المراد بالتشبيه بالانعام المبالغة في الغفلة فالجملة
الثانية مع مشاركتها للأولى في المحكوم عليه مؤكدة لها فلا مجال للعطف.
(فإن قلت) إن أريد الاختلاف والاتحاد بحسب أصل المعنى وباعتبار اللوازم فلا فرق
(قلت) نعم يجوز إجراء كل منهما فيهما إلا أنّ الأوّل أظهر في الأوّل والثاني أظهر في
الثاني كما لا يضنى، وقيل الفصل في الثانية لأنها كالمتصلة بالأولى لأنها جواب سؤال نئأ من
قوله بل هم أضل كأنه قيل لم كانوا أضل، فاجيب بأنهم غافلون عن رعي مهمات مصالحهم،
فالأنعام لا تفوتهم رعايتها، وهذا أنسب وأظهر وفيه نظر، والتسجيل أصله كتابة- السجل
والصك ويتجوّز به عن إثبات الحكم القطعي والتشهير، وهذا هو المراد وقيل معنا. رميهم
بالغفله وفي القاموس سجل به رمى به من فوق على أنه مأخوذ من التسجيل بمعنى الحجارة
والأوّل أنسب وأقرب. قوله: (وهم فصل إلخ) ضمير الفصل، ويسمى عماداً له فوائد فصل
الخبر، وتميزه عن النعت فلذا سمي فصلاً، وهو أغلبيّ لأنه قد يتوسط بين غيرهما كما ذكر
النحاة ويؤكد ألنسبة والحكم الخبري، وقيل إنه لتأكيد المحكوم عليه لمطابقتة له، وضعف بأنه
لو كان كذلك لم يفد التخصيص كما لا يفيده زيد نفسه أكرم الناس، وادخال اللام عليه في
نحو إن زيدا لهو الظريف ربما دل كلى أنه من تتمة المحكوم به، ويفيد اختصاص المسند
بالمسند إليه لا عكسه كما ذهب إليه بعض شراح المفتاح، وهذا مما أطلقوه وأثبتوه بقوله تعالى
{كُنتَ أَنتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ} [المائدة: 17 ا] وهو إنما يتم إذا ثبت القصر في مثل
كان زيد هو أفضل من عمرو مما الخبر فيه نكرة، والاً فتعريف الخبر بلام الجنس يفيد قصره
على المبتدأ، وان لم يكن فصل كزيد الأمير، وتعريف المبتدأ بلام الجنس يفيد قصره على
الخبر وان كان مع ضمير الفصل نحو الكرم هو التقوى أي لا كرم إلا التقوى، وفي الفائق ما
يشعر بأنّ مثله يفيد قصر المبتدأ كلى الخبر سواء عرف المبتدأ والخبر أو لا لأنه صرح بأنّ
معنى، فإنّ الدهر هو الله أن جالب الحوادث هو الله لا غيره، وفي المفتاح ما يخالفه، وقال
الفاضل المحقق: التحقيق أنّ الفصل قد يكون للتخصيص بقصر المسند على المسند إليه نحو
زيد هو أفضل من عمرو وزيد هو يقاوم الأسد وفي الكشاف في قوله تعالى {أَنَّ اللهَ هُوَ يَقْبَلُ} [التوبة: 104] هو للتخصيص والتوكيد، وقد يكون لمجرّد التأكيد إذا كان
التخصيص حاصلاً بدونه بأن يكون في الكلام ما يفيد قصر المسند على المسند إليه نحو أنّ الله
هو الرزاق أي لا رزاق إلاً هو أو قصر المسند إليه على المسند نحو الكرم هو التقوى،
والحسب هو المال أي لا كرم إلا التقوى إلخ ولذا قيل إنّ كلامه محتمل لأمرين أن يكون إشارة
إلى المدعى، وهو الحق والا يتعارض كلاماه وأن يكون إشارة إلى الدليل وهو فاسد وفيه نظر.
قوله: (أومبتد " جعله قسيماً للفصل بناء على ما اشتهر من أنّ ضمير الفصل لا محل له من
الإعراب وذهب بعضهم إلى أنه رابطة، وحرف فلا يرد عليه أنّ فيه جعل الشيء قسيما لنفسه
لأنّ من النحاة من ذهب إلى أنّ ضمير الفصل في محل رفع على الابتداء. قوله: (والمفلحون
خبره) قال الطيبي: فعلى هذا تكون الحملة من باب تقوّي الحكم أو من باب التخصيص على
نحو هو عارف قلت: المراد الأخير لتطابق الوجوه في إفادة الحصر، ولا حاجة لما ذكره لما تقدّم من أنّ أولئك في معنى الصفة المشتقة، ومثله يفيد علية مبدأ الاشتقاق ويفيد الحصر. قوله:(والمفلح بالحاء والجيم إلخ) هذا بناء على ما عليه قدماء أهل اللغة من أنّ المشاركة في أكثر الحروف اشتقاق يدور عليه معنى المادّة، فيتحد أصل معناها ويتغاير من بعض الوجوه كما يعرفه من طالع التهذيب والعين ونحوهما من كتب اللغة القديمة، ولذا اعتبروا ني الترتيب الأوّل، وما يليه ولم ينظروا إلى الأخير كما فعله الجوهريّ، والمراد بقوله بالحاء والجيم تفسير اللفظ من حيت اللغة وإلا فالقراءة بالحاء المهملة لا غير ولم يقرأ بالجيم في شيء من الشواذ والفلح بالحاء بمعنى الشق والفتح، وكذا الفلج بالجيم أيضاً كما في كتب اللغة، والظاهر أنهما معنيان فإنّ الشق قد يقع من غير فرجة والفتح قد يكون بغير شق كفتح الباب والكتاب، فبينهما عموم وخصوص وجهي وقوله الفائز بالمطلوب هذا هو المعنى العرفي المعروف في الاستعمال والشق والفتح معناه الحقيقي الأصلي. وقوله:(كأنه إلخ) بيان للملابسة والمناسبة بينهما واكتفى بذكر الفتح فيه لاشتماله على الشق في الغالب فلا يقال المناسب لما بعده أن يذكره، لكنه لو صرّح به كان أحسن والوجوه جمع وجه، ومعناه النوع أو الطريق
فقوله وجوه الظفر كما في بعض النسخ أنواعها أو طرقها، وفي نسخة وجوه اللطف وهو بضم فسكون معروف، وهو الرفق والتوفيق وبفتح اللام والطاء ويقال بالهاء لطفة أيضا، وهو اسم بمعنى البرّ ولم يشتهر في الهداية قال الزمخشريّ في شرح مقاماته الألطاف بمعنى الهدايا واحدها لطف قال:
كمن له عندنا التكريم واللطف
وغبارة المصئف رحمه الله تحتملهما والظاهر الأوّل وأفلح بمعنى فاز ببغيته دنيوية وأخروية وهي سعادة الدإرين، وما قيل من أنّ قوله انفتحت يدل على أنّ همزة أفلح للصيرورة فيه نظر ظاهر. قوله:(وهذا التركيب) أي تركيب فلح، وهو ظاهر وفلق بمعنى شق وفلذ بالذال المعجمة بمعنى قطع، وفلى بالفاء من فليت الشعر إذا فتحته لتنظر ما تحته من الهوام، أو من فلوته بالسيف إذا ضربته، وفي الضرب معنى الشق هنا أو من فلوته عن أمّه إذا فطمته. قوله:(وتعريف المفلحين إلخ) هذا زبدة قوله في الكشاف، ومعنى التعريف في المفلحون الدلالة على أنّ المتقين هم الناس الذين عنهم بلغك أنهم مفلحون في الآخرة، كما إذا بلغك أنّ إنسانا قد تاب من أهل بلدك، فاستخبرت من هو فقيل زيد التائب أي هو الذي أخبرت بتوبته، فاللام حينئذ لتعريف العهد الخارجي، ولا حاجة إلى اعتبار قصر كما إذا قلت الزيدون هم المنطلقون إشارة إلى معهودين بالانطلاق ولك أن تعتبر كلمة هم فصلاً، وتقصد قصر المسند
على المسند إليه افرادا نفياً لما عسى يتوهم من أنّ المعهودين بالفلاح يندرج فيهم غير المتقين أيضاً. وقوله: (كما إذا يلنك إلخ) تركه المصئف رحمه الله اختصاراً لا لما قيل: من أنه لأجل أنه اعترض عليه بأنّ المطابق للسؤال أن يقال: التائب زيد حتى لو اقتصر على زيد كان خبر المبتدأ محذوف، ورد فأن الضمير في من هو راجع إلى التائب أي من التائب، فمن مبتدأ والتاثب خبره، كما هو مذهب سيبويه والمعنى أزيد التائب أم عمرو فالمطلوب بالسؤال أن يحكم بالتائب على شيء من تلك الخصوصيات، فالصواب ما في الكتاب ليكون الجواب مطابقا للسؤال، والمثال موافقا للتنزيل في تعريف الخبر العهدي فإن جعل من خبراً مقدما، فالحق ما ذكره المعترض فتفوت موافقة المثال، وهذا مع ظهوره خفي على جماعة حتى زعم من لم يتنبه له أنّ دعوى رعاية المطابقة منقوضة بأنّ من قام جملة اسمية، ويجاب بفعلية، ولم يدر أنّ السائل بمن قام لطلب الحكم بالقيام على زيد أو عمرو، فإذا أجيب بقام زيد طابق سؤاله في المعنى، وان خالفه لفظا بفعلية لسرّ ستراه بخلاف ما نحن فيه، فإنّ التقديم فيه يوجب اختلاف المحكوم عليه فتفوت المطابقة المعنوية التي تجب رعايتها في نحو زبد أخوك وأخوك زيد. هذا ملخص ما ارتضاه قدّس سرّه مخالفاً فيه للفاضل المحقق وتبجح به في غير موضوع وسلمه له عامة الفضلاء إلاً من رمى ربقة التقليد من جيد فكره كما قال بعض الفضلاء: إنه مردود لمخالفته لكلام القوم، فإنهم صرّحوا بأنّ من لطلب التصوّر لا لضلب الحكم والتصديق، فتأويله لا يجدي في مقابلة خرق إجماعهم ولذا قيل إنّ من يسأل بها عن تشخيص ذي العلم وتعيينه، فالمقصود بمن قام تعيين الفاعل مع تقرير الفعل بحيث لا يشك فيه، وليس لطلب مطلق الحكم بالقيام، فالمطابق في الجواب أن يقال: زيد قام إذ المقصود الفاعل وتقرير الفعل أمر ذكره مجرّد اعتبار نحوي، ولذا قالوا إنّ قوله تعالى {أَأَنتَ فَعَلْتَ هَذَا} [الأنبياء: 62] لو كان لتقرير الفعل كان الجواب فعلت أو لم أفعل، والحاصل أنّ في قام زيد إبهاما لتردّد السائل في الفعل، وتقرير المجيب إياه، وقد قال محققو أهل المعاني: إنّ الهمزة يليها المسؤول عنه ذاتا أو غيرها فيقال أضربت زيدا إذا كان الشك في نفس الفعل، وأأنت ضربت إذا كان في الفاعل مع تقرير الفعل، ولا شك في أن خلق السموات والأرض مقرّر لا مرية فيه، والتردّد إنما هو في تعيين الفال فلا يكون من خلق السموات والأرض جملة فعلية معنى بل اسمية لفظا ومعنى، ولا ينبغي أن يكون من قام في معنى أقام زيد أم عمرو بل في معنى أزيد أم عمرو قام لما عرفته، والنكتة في ذكر الجملة الفعلية في جواب من خلق أنه على خلإف مقتضى الظاهر للتعريض بغباوة المخاطبين، وأنهم لا ينبغي لهم التردّد في الفاعل أصلاً، كما وقع فلو كان هنا تردّد كان في أصل الفعل وقيل الضابط هنا أنّ الشيء إذا كان له صفتان تعرّفانه، وقد عرف السامع اتصمافه بإحداهما دون الأخرى
فأيهما عرف اتصاف الذات بها، وهو طالب لأن يحكم عليه بالأخرى يجب تقديم الدال عليه وجعله
مبتدأ وتأخير غيره فإذا عرف مثلاً زيدا بعيته واسمه دون اتصافه بالأخوّة وطلب أن تعرّفه ذلك قلت: زيد أخوك وإذا عرف أخا لم يعينه بذاته قلت أخوك زيد، ولا يصح. غيزه وهذا موافق لقوله في الدلائل
إنك في قولك زيد منطلق وزيد المنطلق تثبيت فعل الانطلاق لزيد لكته في الأوّل لم يسمع السامع أنه كان وفي الثاني سسه، ولكنه لم يعلمه لزيد فإذا بلغك أنه كان من إنسان انطلاق مخصوص وجوّزت أن يكون من زيد ثم قيل زيد المنطلق انقلب الجواز وجوبا بحصوله منه، فإذا قصد تاكيده قيل زيد هو النطلق وإذا قيل المنطلق زيد، فالمعنى أنك رأيت منطلقاً لم تعلم أزيد هو أم عمرو فيقال لك المنطلق زيد أي ما تراه من بعيد هو زيد وهكذا ما نحن فيه، فإنك عرفت المتقين وبلغك أنّ قوما مفلحون في الآخرة وجوّزت كونهم المتقين فطلبت الحكم عليه بالفلاح، وهذا مراد الزمخشريّ بعبارته السالمه نجأفى يبهون معنى من هو أزيد هو وافراده بالذكر لما يقتضي الاهتصام به، ولما كان ظاهره أنّ معناه أزيد التائب أم عمرو إلخ ورد عليه الاعتراض فأن المناسب التائب زيد لأنك عرفت أنّ إنساناً قد تاب، وطلبت الحكم عليه بأنه زيد أو غيره، فمقتضى تلك الضابطة أنك إذا عرفت التائب، وقلت من هو كان معناه أزيد التائب أم عمرو إلخ، فالترديد إنما هو في الخصوصيات والمطلوب الحكم حمبى التائب بواحدة منها، كما ذكره الثخ في المنطلق زيد فلا يصح حينئذ زيد التائب بل التائب زيد فظهر فساد الجواب بأنّ الضمير للتائب كما مرّ، فإنه لا يدفع الاعتراض لعدم مطابقته للضابطة المقرّرة قيل: وبهذا ظهر ما في كلام الشارحين من الاختلال وتبين التوفيق بين كلامي الشيخ فإنّ كل مقام ر " مقال (أقول) هذا جملة ما يعتد به مما وقع هنا من القيل والقال (وها أنا بأذل) لك جهد المقول مما بقي فيه فأقول راجيا من الله القبول المطابقة المتفق عليها هي جعل مطلوب المخاطب محكوما به ومحط الفائدة، وهي كما قاله الشيخ والسكاكي إنما تخفى إذا تعرّف إلطرفان والجملة اسمية لأنه إدّا نكر أحدهما يكون هو الخبر إذ هو من شأنه أن يكون غير معلوم، فإذا تعرّفا كان معلوما بطريق من طرق التعريف ليصح التعريف والاً عرف حينئذ محكوم عليه والمعروف من وجه المجهول من وجه محكوم به لأنه لو عرف من كل و. جه لم يطلب، فإذا بلغك أنّ قوما معينين من أهل بلدة أو محلة انطلؤ / منهم واحد وأنت تعلمهم بمشخصاتهم، وتعلم السنطلق بوجه مّا وتجهله من غير ذلك الوجه تعين في جواب من المنطلق زيد المنطلق ولا يصح عكسه، ولو شاهدت من بعيد شخصاً منطلقاً، ولمم تعرفه بذاته ومشخصاته وقلت من المنطلق كنت عارفا بالمنطلق. بمشاهدته، والمجهول لك ما يشخصه، فتعين حينئذ المنطلق زيد وهذا مرادهم كما ستسمعه في الدلائل فقوله في الكشاف: إذا بلغك أنّ شخصا قد تاب إلخ إشارة إلى ما يصحح تعريفه وهو كونه معلوما بوجه لا من كل الوجوه حتى يتعين أنه مبتدأ كما توهموه، فإنه فرية بلا مرية ومن هنا نثا الاعتراض، وليس هذا مبنيا على إعراب من مبتدأ أو خبراً لأنّ من شاهد المنطلق إذا قال: من المنطلق، فمطلوبه ما
يشخصه، فحق المنطلق أن يكون مبتدأ ومن خبره، وأنما عكسه سيبوبه لأنه يراه ملتزم التقديم، والمسؤول عنه أهم بالذكر وادّعاء التقديم عن تأخير خلاف الظاهر مع أنه فكرة، والكلام ليس فيه وجملته إنشائية لا خبرية حتى يلاحظ فيه الملقى إليه الخبر، فليس مما نحن فيه، وليس الاختلاف فيه مبنيا على هذا قطعاً، فلا حاجة إلى تكلف ادّعاء أنه مبتدا لأنه معرفة تأويلَا لأنه في معنى أزيد أم عمرو إلخ مع أنه لا يتم لأنّ التأويل المذكور لا يتأتى في أفعل التفضيل، وكم في نحوكم مالك لأنها في معنى أمائة أم ألف أم أكثر، فقول السعد هنا إنّ المناسب حينثذ التائب زيد إلخ مردود بما مرّ من أنّ قوله بلغك إلخ مصحح لتعريف التائب، وجعله معهودا كما أشار إليه بقوله الذي أخبرت بتوبته، ولا يقتضي أن لا يكون مجهولاً ومطلوبا من وجه، فما ذكر ليس بشيء، وقوله قدس سرّه: حتى زعم إلخ ردّ له كما فصله وهو وارد عليه كما يعلم مما قدمناه، وقول الشارح الفاضل: أورد الشيخ عبد القاهر في دلائل الإعجاز كلاما يؤيد أوّله كلام المصنف، وآخره كلام المعترض ليس بشيء، فإنهما متفقان وهو غفلة عما حققوه، وعبارة الدلائل إنك في قولك زبد منطلق وزيد المنطلق تثبت فعل الانطلاق لزيد لكنك تثبت في الأوّل فعلاً لم يسمع السامع من أصله أنه كان وفي الثاني فعلاً قد علم السامع أنه كان، ولكن لم يعلمه لزيد فإذا بلغك أنه كان من إنسان انطلاق مخصوص وجوّزت أن يكون ذلك من زيد، ثم فيل لك زيد المنطلق انقلب ذلك الجواز وجوابا وزال الشك، وحصل القطع بأنه كان من زيد اهـ. يعني أنّ المخاطب لما علم زيداً بمشخصاته وبلغه أنّ إنسانا انطلق كان المنطلق حاضرا في ذهنه فيصح أن يعرف بالتعريف العهدي، ولكنه لما لم يتعين كان مطلوبا لتردده فيه فتعين جعله خبراً، لكونه هو المجهول عنده من وجه بخلاف الصورة الآتية، وهذا بعينه ما في الكشاف، إلا أنّ المعتر ضومن سلم اعتراضه لم يهتد لتطبيقه، ثم قال الشيخ: وإذا قيل: المنطلق زيد فالمعنى على أنك رأيت إنسانا منطلقا بالبعد منك، فلم يثبت ولم تعلم أزيد هو أم عمرو فقال: لك صاحبك المنطلق زيد أي هذا الشخصى الذي تراه من بعد هو زيد، وقد تشاهد لابس ديباج وقد كنت تعرفه فنسيته، فيقال لك اللابس الديباج صاحبك الذي كان معك في وقت كذا، فيكون الغرض إثبات أنه ذلك الشخص المعهود لا إثبات لبس الديباج لأنه شاهده يعني أنك لما شاهدت انطلاقه ولبسه الديباج كان اللابس والمنطلق محسوسا عندك لا تردّد فيه، ولا تطلبه وإنما تطلب تشخيصه، وتعيينه فتعين جعله مبتدأ وزيدا خبراً بخلاف ما مرّ من عكسه لأنّ زيدا محسور أو بمنزلته، والمنطلق لم تعرفه إلا بأنّ ثمة شخصاً صدر منه انطلاق، فأنت لم تشاهده ولم يعينه المخبر عندك، فلذا جعل خبرا فقد وافق أوّل كلامه آخره من غير شبهة، وهو بعينه ما في الكشاف فقد انكشف لك المراد بما لا مزيد عليه، وتبين أنّ ما ارتضاه الشريف المرتضى، وادّعى أنه لا يتزلزل فيه من له رسوخ قدم في علم المعاني غنيّ عن البيان الهادم لما أسسه من البنيان لما عرفت من أنّ المراد أنك شاهدت شخصا منطلقا، ولم
تعرفه بعيته وقلت من هذا المنطلق تعين أن يقال لك المنطلق زيد سواء كان من مبتدأ أو خبراً، فإنك إذا لم تشاهده نأخبرت بأنّ شخصاً من قوم معلومين لك بأعيانهم انطلق فقلت من المنطلق يقال: زيد المنطلق على القولين في باب من لأنّ مبنى الخلاف أمر آخر غير ما توهمو.، وسيأتي إن شاء الله تعالى تحقيق هذه المطابقة في محله، فإنه هنا جملة معترضة لا محل لها لم يتعرّض لها شراح الكشاف، وهذا من الحور المقصورات في الخيام التي من بها الملك العلام. قوله:(أو الإشارة إلى ما يعرفه كل أحد إلخ) في الكشاف أو على أنهم الذين إن حصلت صفة المتقين وتحققوا ما هم، وتصوّروا بصورتهم الحقيقية فهم هم لا يعدون تلك الحقيقة، كما تقول لصاحبك هل عرفت الأسد وما جبل عليه من فرط الإقدام إنّ زيدا هو هو اهـ. وهذا بعينه ما ذكره الشيخ في دلائل الإعجاز فقال اعلم أن للخبر المعرّف بالألف واللام معنى غير ما ذكرت لك وله مسلك دقيق، ولمحة كالسحر يكون التأمّل عندها، كما يقال تعرف دينك وذلك قولك هو البطل الحامي، وهو المتقى المرتجى وأنت لا تقصد شيثا مما تقدّم، فلست تشير إلى معنى قد علم المخاطب أنه كان ولم يعلم ممن كان كما مض في قولك زيد هو المنطلق، ولا تريد أن تقصر معنى عليه على معنى أنه لم يحصل لغيره على الكمال، كما كان في قولك هو الشجاع ولا تقول ظاهر أنه بهذه الصفة كما كان في قوله، ووالدك العبد ولكنك تريد أن تقول لصاحبك هل سمعت بالبطل الحامي، وهل حصل معنى هذه الصفة، وكيف ينبغي أن يكون الرجل حتى يستحق أن يقال ذلك له وفيه، فإن كنت قلته علما وتصوّرته حق تصوّره فعليك صاحبك، واشدد به يدك فهو ضالتك وعنده بغيتك، وطريقه طريق قولك هل سمعت بالأسد وهل تعرف ما هو، فإن كنت تعرفه فزيد هو هو بعينه اهـ المقصود منه، وهذه قصة في شرحها طول، وقد وقع النزاع في مراد الشيخ بين الفاضلين فقال المحقق: السعده نجوّر الله مرقده أطلق الناظرون في الكشاف على أنه يريد بذلك تعريف الجنس، وتعيين الحقيقة المسه ى بالعهد الذهني، ثم منهم من زعم أنه لقصر المبتدأ على الخبر نظرا إلى قوله لا يعدون تلك الحقيقة على عكس ما تحقق، وتقرّر في مثل زيد الأمير وعمرو الشجاع، ومنهم من ذهب إلى أنه لقصر المسند إليه قصر قلب وعلى تقدير العهد قصر إفراد وينبغي أن تعلم أنه إشارة إلى معنى آخر لتعريف الجنس، وقال قدس سرّه:
يرد عليه في ادّعائه أنّ مراد الثيخ معنى غير تعريف الجنس أز، اللام حينئذ لتعريف الجنس المسمى بتعيين الحقيقة، والمعرّف بلام الجنس قد يقصد به تارة حصره في المبتدأ إمّا حقيقة أو ادّعاء نحو زيد الأمير إذا انحصرت الإمارة فيه أو كان كاملاً فيها كأنه قيل زيد كل الأمير، وقد يقصد به أخرى أنّ المبتدأ هو عين ذاث الجنس ومتحد به، فكأنه تجسم منه لا أنّ ذلك الجنس مفهوم مغاير للمبتدأ منحصر فيه على أحد الوجهين، فهذا معنى آخر للخبر المعرّف بلام الجنس غير الحصر وهو مراد الشيخ بالعبارة المذكورة، وقد وضحه وكثر أمثلته، وقال: هذا كله على معنى الوهم والتقدير وأن
يتصوّر في خاطره شيئاً لم يره، ولم يعلمه ثم يجريه مجرى ما علمه، وإنما قال ذلك لأنّ دعوى كون زيد عين حقيقة الأسدية مثلاً إنما تتأتى إذا صوّرت تلك الحقيقة في الوهم بصورة تناسب تلك الدعوى، فإنها لو تركت على حالها لم يكن ادّعاء كون زيد متحدا بها مستحسناً فتبين أنّ تعريف الخبر بهذا المعنى تعريف جنسي اعتبر معه تصوّر الحقيقة بصورة وهمية توصلَا إلى دعوى الاقحاد فهو من فروع الجنس كما يحمل على الكمال كيف لا، وتعريف اللام منحصر في العهد والجنس.
(فإن قلت) ظهور الاتصاف بمض صمون الخبر ليس شيثا منهما.
(قك) هو راجع إلى الجنس أيضا كأنه بعدما جعل خبرا عرّفه باللام إشارة إلى حضور الجنس في الذهن من حيث أنه صفة للمخبر عته، وهذا معنى ظهور اتصافه به واختار المصئف رحمه الله في المفلحين دعوى الاتحاد على حصر الجنس لأنه ألطف وأبلغ. وقوله:(لا يعدون إلخ) تأكيد للاتحاد لا بيان لحصر المبتدأ في الخبر، كما توهم فإنه مخالف للقاعدة المقرّرة من أنّ تعريف الخبر الجنسي يفيد قصره على المبتدأ لا عكسه، وان أشعر به كلام الفائق في تفسير، فإنّ الله هو الدهر بأنّ الله هو الجالب للحوادث لا غيره الجالب (فإن قيل) إن ادّعى أنّ المتقين عين حقيقة المفلحين لم يتصوّر هناك حصر أصلاً، فكيف يستعمل فيه الفصل (قلنا) يجرّد حينئذ لتمييز الخبر عن النعت وتأكيد الحكم معاً أو لأحدهما، وكذا الكرم هو التقوى أي لا كرم إلا التقوى.
(أقول) هذا المقام قد انسحبت فيه أذيال الكلام، ونم يكشف عن وجوه مخدراته اللثام،
فإنّ السعد لما خالف الشراح وادعى أنه نوع آخر من التعريف لم يعينه، ولم يبين أنه أيّ معنى هو من معاني أل المحصورة في العربية، والشريف لما قال إنه لتعريف الجنس إلاً أنه حصر فيه لم يعرج على مراد الشيخ، فإنه بالغ في وصفه بالدقة وقال: إنه سن عجيب الشأن له مكان من الفخامة والنبل، وهو من سحر البيان الذي تقصر العبارة عن تأدية حقه ومجرّد تعريف الجنس معنى مكشوف ينادي عليه في الطرق ادخل السوق واشتر اللحم، وهو أوّل ما يشترى وأيضا تمثيلهم بهل عرفت الأسد خفاؤه أشد وأشدّ، وهذا مما لم يظهر لي حاله، ولم يتضح مع إمعان النظر إشكاله.
(فاعلم) أنّ الثيخ نوّر الله مرقده ذكر قبيله أنّ الخبر المعرّف بلام الجنس فيه ثلاثة وجوه.
(الأؤل) أن يقصر الجنس على المخبر عنه لقصد المبالغة نحو زيد هو الجواد أي الكامل
في الجود إلاً أنك تخرجه في صورة توهم أنه لا يوجد إلاً فيه لعدم الاعتداد بغيره.
(الثاني) أن يقصر جنس المعنى الذي تفيده بالخبر على المخبر عنه، لا على عدم الاعتداد بغيره بل على دعوى أنه لا يوجد إلاً منه ولا يكون إلاً إذا قيد بشيء يخصصه، ويجعله
في حكم نوع برأسه نحو هو الوفيّ حين لا تظن نفس بنفس خيرا.
(الثالث) أن يقصد قصره في جنسه لا على ما ذكر بل على وجه آخر جاء في قول الخنساء:
إذا قبح البكاء على قتيل ~ فإنّ بركاءك الحس الجميل
أرادت أنه قد قرّ في جنس ما حسته الحس الظاهر الذي لا ينكر ولا يشك فيه شاك، ثم
لما فصل هذه الأقسام قال: للخبر المعرّف باللام معنى آخر غير ما ذكرت لك، وله مسلك دقيق إلخ وقد مرّ بعضه فوص فه بالحسن والدقة الزائدة وصرّح بأنه غير الوجوه الثلاثة السابقة، والمغايرة لها يحتملى أنها في النوع فلا يكون من تعريف الجنس، وهو ما ذهب إليه الفاضل التفتازاني، وهو السابق إلى الفهم، ويحتمل المغايرة في المفاد والوصف أعني الحصر، لأن الأقسام الثلاثة منها ما يفيده عنده، وهذا يغايرها بعدم إفادته وهذا ما ارتضاه الشريف المرتضى وفي كلامه ما يؤيده بحسب الظاهر، كقوله: ولا تريد أن تقصر معنى عليه
ونحوه مما يظهر لمن أحاط به خبراً وهذا منشأ الخلاف فيه، فأمّا تصفيته من غش الخفاء وكدر الشقاق فالحق أن يقال إنّ الشيخ أراد بالتعريف هنا الحقيقة والماهية، وإذا جعل فرد من أفرادها عينها كان ذلك ادّعاء وتقديراً، ولما كان هذا أظهر في زيد هو الأسد أتى به تنويرا له لأنّ اتحاد المباين إذا صح وأفاد المبالغة، فهذا أظهر وجعل الفرد عين ماهية وصفه يقتضي تحقق اتصافه به، وأنه جدير به ومستحق له وو-4 الدقة المحتاجة إلى زيادة التأمّل إنّ أهل المعقول، وان ذهب كثير منهم إلى وجود الماهية في ضمن أفرادها إلاً أن جعلها عين فرد فيه من المبالغة ما لا يخفى لجعلها محسوسة ث اهدة، ولهذا صار ضربا من السحر ولام الطبيعة والحقيقة من أقسام الجنس لافحصارها عند الجمهور في العهد والجنس، كما أشار إليه قدس سرّه إلا أنه بقي ههنا أمران: الأوّل إنّ الثارح الفاضل لم يصرّح فر، كتبه بأنها على هذا ليست من الجنس، رأسا عند الشيخ بل قال: إنه تعريف آخر للجنس عنده، فلك أن تقول مراده بقوله آخر أنه مغاير لأفراد التعريف الجنسي الذي قدّمه، وهو الأقسام الثلاثة التي قرّرناها فمآله إلى ما ذكره الشريف فلا وجه لتشنيعه عليه فهوكما قيل:
ولم تزل قلة الإنصاف قاطعة ~ بين الرجال ولوكانوا ذوي رحم
الثاني أنّ في كلام الشيخ نظراً ظاهراً، فإنّ تشبيهه بالموصول يقتضي أنّ ما نحن فيه تعريف عهديّ، وقد أشار في حواشي المطوّل إلى دفعه، ومن ذهب إلى القصر تمسك بما يقتضيه من قوله لا حقيقة لهم وراء ذلك وقوله (لا يعدون) تلك الحقيقة، وقد اعترف الشريف في حواشي المطوّل بأنها موهمة لذلك، وعبارة الدلائل لما فيها من التصريح بعدم القصر فيه تدفع ما ذكر وأمّ كلام الكشاف فليس فيها ما يمنعه، ولذا قيل لا وجه لتخطئة من ذهب إليه من
شراح الكشاف، وقد قيل إنه لما شبه معنى التعريف بقولك هل سمعت بالأسد وهل تعرف حقيقته فزيد هو هو بعينه وهذا لم يقصد فيه الحصر أصلاً علم إن ما توهمه عبارته ليس بمراد أيضاً وبما قرّرناه لك علم سقوط ما قيل إنّ قول الشيخ لا حقيقة له وراء ذلك لا يوهم القصر وإنما معناه اتحاد الحقيقة معه بخلاف قول الزمخشريّ: لا يعدون تلك الحقيقة إذ معناه أنهم غير متجاوزين لها وهو معنى القصرة وقد بقي هنا أمور مفصلة في حواشي كتب المعاني من أرادها فليرجع إليها. قوله:) من حقيقة المفلحين) إشارة إلى أنها على هذا لام الطبيعة والحقيقة، كما قرّرناه آنفا. وقوله:(وخصوصياثهم) عطفه على الحقيقة عطف تفسير إشارة إلى أنّ المراد بالحقيقة المفهوم المختصى بهؤلاء لا ما علمه أهل المعقول وخصوصيات جمع خصوصية من خصه بكذا إذا أفرده به فاختص أي انفرد.
قال الجوهرفي خضه بالشيء خصوصاً وخصوصية بالضم والفتح والفتح أفصح.
واعلم أنّ في الخصوصية وأمثالها طريقين إحداهما أنها مصدر وضع هكذا كالطفولية والرجولية وهو كثير فيئ المصادر المأخوذة من أسماء الأجناس فياؤه كياء كرسيّ كما في التسهيل والارتثاف الثانية أن الفعولة بالضم كثرت في المصادر المأخوذة من الجوامد كالأبوّة والبنوّة والفعولة بالفتح نادرة فيها، فلما ضعفت في باب المصدرية ألحق بها ياء المصدرية تأكيدا وايذانا بأنها جارية مجرى أسماء الأجناس في قلة تصرفها وبناء الأفعال منها كما قاله المرزوقي في شرح الفصيح وعليهما فالتاء للتأنيث اللفظي كتاء أبوّة ولا بد منها على الطريقة الثانية لأنها تلزم المصدر الذي بواسطة الياء فيقال عالمية لا عالمي كما نص عليه الرضي في بحث الحروف المشبهة بالفعل والمرأوقي في شرحه للفصيح أو هي تاء النقل إلى المصدرية، فلا وجه لما قيل من أنها للمبالغة، فإن قلت الضم هو اكثر فيه لشيوعه في نحو رجولية وطفولية وعبودية وغيرها، فكيف يكون الفتح أفصح.
قلت: قال المرزوقي في شرح الفصيح الضم في هذه أكثر وحكى الفتح في النصوصية والخصرصية والحرورية بمعنى الحرية لكن الفتح هو المستفصح في هذه الأحرف الثلاثة: ولا يمتنع أن يكون الأقيس أقل استعمالاً فلا يستفصح اهـ فقد علمت أنّ فتح خصوصية أفصح سماعا، ومن ردّ على الجوهريّ فقد وهم، ثم إنّ ما ذكره المصنف رحمه الله تلخيص لما في الكشاف من غير مخالفة، ومن الناس من ظن أنه مخالف، وأنه إشارة إلى أنها لتعريف الجنس
الشامل للإفراد وأنه مفيد للقصر عنده، وقيل إنه يحتمله ويحتمل ما ذهب إليه العلامة وقيل إنه أراد أنها للاستغراق والذي غرّة لفظ الخصوصيات، وقد مرّ بيانها حتى قيل إنها هنا ليس لها وجه ظاهر (واعلم) أنهم أطبقوا على أنّ الألف واللام حرف تعريف هنا مع أن الداخلة على اسم الفاعل موصولة عند الجمهور، وهذا إذا لم تكن للعهد، أمّا إذا كانت له كما في قولك جاءني ضارب، فأكرمت الضارب فلا كلام في حرفيتها، ولا خلاف فيه كما في أكثر نسخ
الرضي، ولا يسمع إنكاره كما في بعض شروح المغني فكأنه لأنّ المراد الثبات على الفلاح، فهو حينثذ مما غلب عليه الاسمية أو ألحق بالصفة المشبهة، وتخريجه على مذهب المازتي بعيد، وما ذكر صرح به المبرد في الكامل كما بيناه في نكت المغني. قوله:(تنبيه تأمّل إلخ) التنبيه مصدر نبهه من نومه إذا أيقظه، وهو في اصطلاح المصنفين ترجمة كالمسئلة لما يعلم مما قبله لا بطريق التصريح أو لما يدرك بأدنى إشارة والتفات إليه حتى كأنه مما غفل عنه، وهو إمّا معرب خبر مبتدأ مقدّر ونحوه أو ساكن موقوف غير معرب كالأسماء المعدودة لأنه لم يقصد تركيبه، وتاقل أمر من التأمّل يقال تأمّلت الشيء إذا تدبرته، وهو إعادتك النظر فيه مرّة بعد أخرى حتى تعرفه وقوله كيف نبه كيف في الأصل للاستفهام عن الأحوال، فيقال: كيف زيد أي على أيّ حال، وقال الأستاذ ابن كمال قد تكون كيف أسما للحال من غير معنى السؤال فتجرّد لجزء معناها وهو المراد هنا، ومنه ما حكاه قطرب عن بعض العرب انظر إلى كيف تصنع أي إلى حال صنعك اهـ. ويتجوّز بها أيضاً عن التعجب كقوله {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ} [البقرة: 28] وقد يقال إنه المراد هنا أي ما أحسن ما نبه فتكون معمولة لنبه مقدّمة عليه باقية على صدارتها، وقد جوّز بعض النحاة في أمثاله خروجه عن الصدارة، فهو حينئذ معمول لتأمّل ولذا قيل معناه تأمّل كيفية تنبيه الله تعالى، فانسلخ عنها معنى الاستفهام للظرفية، أو هي مفعول به كما وقعت مضافا إليها في قول البخاري رحمه الله باب كيف كان بدء الوحي، وعبارة الكشاف، فانظر كيف فقال قدس سرّه: لما كان النظر وسيلة إلى العلم كان متضمنا لمعناه فجاز إيقاعه على الإستفهام، وكذا التأمّل هنا أنه معلق هنا كما يعلق العلم إلا أنه تسمح في العبارة، وقوله بنيل متعلق باختصاص، من وجوه متعلق بنيل، وشتى بمعنى متفرّقة مفرد أو جمع شتيت والوجوه أربعة: الأول منها متعلق بالجملتين والباقي مختص بالجملة الثانية، وقيل كلها متعلقة بالجملة الثانية، ويصح في قوله بناء الجرّ والرفع والنصب، وافادة اسم الإشارة للتعليل بدخول الصفات فيه كما مرّ وبناء الخبر على الصفة ونحوها قد يشعر بالعلية، والإيجاز بدلالتها على ما فصل قبلها ويفيد أيضاً الاختصاص وقوله وتكريره معطوف على بناء، ويجوز في هذا أن يكون مشتركا أيضاً لأنّ التكرير يكون بمعنى مجموع الذكرين أيضاً كما يكون للثاني والأوّل وقد سبق تفصيله، وتعريف الخبر الدال على الحصر أو المبالغة بجعلهم عين الحقيقة، وتوسيط الفصل الدال على الحصر أو التأكيد. قوله:(لإظهار قدرهم) تعليل للتعريف والتوسيط، وقدر بسكون الدال وهو اكثر وتفتح، وهو الموازن لأثرهم الواقع في أكثر النسخ وفي بعضها آثارهم بالجمع والمراد بالقدر شرفهم وأصله مقدار الشيء ومبلغه قال في المصباح: قدر الشيء ساكن الدال والفتح لغة سبلغه يقا اط: هذا قدر هذا وقدره أي مماثله ويقال ما له عندي قدر، ولا قدر أي حرمة ووقار اهـ والاقتفاء الإتباع والاقتداء. وقوله:(في اقتفاء) متعلق
بالترغيب، أو بقوله نبه وما قبل هذا بالنسبة إليهم أنفسهم وهذا بالنسبة إلى غيرهم، وبقي هنا أمور أخر تعلم مما مرّ كالتمكن واضافة التشريف والترغيب بذكر ما يرغب فيه من الهدى والظفر. قوله:(وقد تشبث به الوعيدية إلخ) أي تمسكوا واستدلوا بما في هذه الآية كما سيأتي بيانه إلاً أنه تمسك ضعيف جدا، ولذا عبر بالتشبث بالمثناة والشين المعجمة والموحدة والثاء المثلثة وحقيقه التعلق مع ضعف، ولذا قيل للعنكبوت شبث فهو استعارة يشير إلى أنه أوهن من بيت العنكبوت، وضمير به لما ذكر من الآيات أو لقوله {أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} وقيل للاختصاص، وفيل للإخباو بنيل ما ذكر، والوعيدية نسبة إلى الوعيد لتمسكهم بظاهر آيات الوعيد، والأحاديث الواردة فيه على خلود الفساق في النار، وهذه العبارة في غاية الإيجاز لدلالتها على سبب التسمية، وشمولها للمعتزلة والخوارج
ومن قصرها على الأوّل فقد قصر، وتقريره كما في التفسير الكبير أنّ المفلح من اتصف بهذه الصفات فغير. ليس بمفلح فيخلد في النار أو يحرم النعيم، وترتب الحكم على الوصف، وما في معناه يشعر بعليته للحكم فعلة الفلاح الإيمان وفعل الصلاة والزكاة فمن أخل بشيء منها لم يفلح، والقبلة بالكسر في الأصل اسم للحالة التي عليها المقابل كالجلسة والقعدة، وفي التعارف صار اسماً للمكان المقابل المتوجه إليه للصلاة وإذا أطلق يراد به الكعبة كقوله تعالى {فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا} [البقرة: 144] وأهل القبلة كناية عن المسلمين، وهو المراد. قوله:(وردّ بأنّ المراد إلخ) الرادّ هو الإمام في تفسيره يعني أنّ المراد بالمفلحين هنا الكاملون في الفلاح والنجاة، فمن عداهم ليس بكاملا لا غير مفلح، وكذا ما ذكر من العلية علة لكماله لا لأصله، فلا يرد عليه شيء وقيل نفي السبب الواحد لا يقتضي نفي المسبب لجواز أن يكون له سبب آخر كعفو الله هنا، وما قيل من أنّ الأحسن في الجواب أنّ المراد بالمتقين المجتنبون للشرك ليدخل العاصي فيهم، فإن قلت كيف جاز أن يسمى العاصي مفلحاً قلت: كما جاز أن يكون مصطفى في قوله تعالى
{ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا} [فاطر: 32] إ أخ اهـ فلا يخفى ما فيه، فإنه ليس إشارة إلى المتقين فقط، ولذا تركه الشريف وغيره، وكون الصفة مادحة لا يجدي ولذا قيل إنه جواب جدليّ، وفي الكشف لا استدلال للمعتزلة فيه على خلود الفساق، كما عرّض به المصنف لأنّ الفلاح عدم الدخول، أو لأنّ انتفاء كمال الفلاح لا يقتضي انتفاءه مطلقاً على الوجهين في اللام اهـ. قوله:(لا عدم الفلاح لهم رأساً) أي أصلاً لاستلزام الرأس لوجود الحيوان فإذا أنتفت انتفى وهو منصوب بنزع الخافض، وأصله لا عدمه برأسه أي بجملته. قوله:(خاصة عباده وخالصة أوليائه إلخ) الخاصة خلاف العامة والتاء للتأكيد، وعن الكسائيّ الخاص والخاصة واحد كذا في المصباح فخاصة العباد أكرمهم عند الله والخالص في الأصل كالصافي.
وقال الراغب: الخالص في الأصل ما زال عنه شوبه بعد أن كان فيه، والصافي قد يقال
لما لا شوب فيه، ويقال: هذا خالص وخالصة نحو واهبة وواقية اهـ. فالتاء فيه للمبالغة، وخالصة أوليائه من اشتد إخلاصه لله من صالح عباده المتقين وفي نسخة خلاصة وهو قريب منه، والمراد بصفاتهم ما تضمنته الآية من قوله المتقين إلى قوله أولئك وأهله أي جعله أهلَا أي مستحقاً من قولهم هو أهل لكذا أي خليق وجدير، والهدى في الدنيا والفلاح في العقبى لأنهم السعداء في الدارين، وهذا معنى قوله {أُوْلَئِكَ عَلَى هُدًى} إلخ. قوله:(عقبهم بأضدادهم إلخ) جواب لما يقال عقبه تعقيباً إذا جاء بعده من العقب وهو مؤخر القدم، والأضداد جمع ضد والضدان المتنافيان اللذان تحت جنس واحد كالبياض والسواد، فإن لم يندرجا تحت جنس كالحلاوة والحركة لم يكونا متضادّين قال الراغب: الضد أحد المتقابلين المختلفين اللذين كل واحد منهما قبالة الآخر ولا يجتمعان في شيء واحد في وقت واحد، وذلك أربعة أشياء الضدّان كالبياض والسواد والمتضايفان كالضعف والنصف، والوجود والعدم كالبصر والعمى، والإيجاب والسلب، وكثير من المتكلمين، وأهل اللغة يجعلونها كلها متضادّة إلى آخر ما فصله، والعتاة جمع عات من عتا إذا استكبر وجاوز الحد والمردة كفسقة جمع مارد، وقد فسروه بالعاتي والظاهر أن يفسر بما هو شديد العتوّ حتى يكون من الترقي. وقوله الذين لا ينفعهم إلخ بيان لما به التضاد لأنّ الأوّلين على هدى مؤمنين بالآيات، وهؤلاء بخلافه واجمال لحال هؤلاء توطئة لما بعده مع ما فيه من الإشارة إلى ارتباطه بم قبله حتى جاء على عقبه من غير فاصل فإنه لا بد منه، وان لم يكن مصححاً للعطف، والنذو بضمتين جمع نذير. قوله:(ولم يعطف قصتهم إلخ) في الكشاف ليس وزان ما هنا وزان نحو قوله {إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ} [الانفطار: 13] لأنّ الأولى فيما نحن فيه مسوقة لذكر الكتاب وأنه هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ، وسيقت الثانية لأنّ الكفار من صفتهم كيت وكيت فبين الجملتين تباين في الغرض والأسلوب، وهما على حد لا مجال فيه للعاطف فيه، وهذا إذا كان الذين يؤمنون جاريا على المتقين، وكذا إذا كان مبتدأ فالاستئناف مبنيّ على تقدير سؤال، فذلك إدراج له في حكم المتقين وجعله تابعا له في المعنى، وإن كان مبتدأ في اللفظ، فهو في الحقيقة كالجاري عليه، وذكر السكاكي
في الفصل والوصل فيما ترك عطفه للانقطاع، وإن كان بينهما جامع غير ملتفت إليه لبعد المقام عنه فقال من هذا القبيل قطع إنّ الذين كفروا عما قبله، ليكون ما قبله حديثا عن القرآن، وأنّ من شأنه كيت وكيت وهذا حديث عن الكفار وتصميمهم في كفرهم، والفصل لازم للانقطاع فالعطف في مثله برز في معرض التوخي للجمع بين الضث والنون، وقال قدس سرّه: تباينهما في الفرض لأنّ المقصود من الجملة الأولى بيان اتصاف الكتاب بغاية الكمال في الهداية تقريرا لكونه يقيناً لا مجال للشك فيه، وتحقيقا لكماله في
جنس المتحدي لإعجازه، ومن الجملة الثانية بيان اتصاف الكفار بالإصرار على الكفر والضلال بحيث لا يجدي فيهم الإنذار، وفي الأسلوب وهو الفن والطريق لأنّ طريق الأداء في الأوّل الحكم على الكتاب مع حذفه لفظاً بما جعل المتقين قيدا له، وفي الثانية أن يحكم على الكفار، ضدا مع ذكرهم لفظاً لإصرار لا إقلاع معه أصلَا مصدرا بأنّ المؤذنة بالانقطاع والشروع في نوع آخر من الكلام، لا يقال هما مسوقتان لبيان حال الكتاب وأنه هدى لطائفة، وليس هدى لضدهم فيحسن العطف لأنا نقول إنّ الثانية سيقت لبيان إصرار الكفار وأنّ وجود الإنذار وعدمه سواء عليهم، وأمّا كون الكتاب لا يفيدهم هدى فمفهوم تبعا، ولو كان مقصودا أيضا لم يحسن العطف لأنّ الانتفاع به صفة كمال له يؤيد ما سبق من تفخيم شأنه، واعلاء مكانه بخلاف عدم الانتفاع، وعلى الاستئناف وان انقطع عنه ظاهراً فهو مرتبط به ارتباطا معنوش صار به متصلَا بما قبله اتصال التابع بمتبوعه لعدم استقلاله لأنه مبنيّ على سؤال مبنيّ على ما نثا منه، فهو من مستتبعاته، فإذا لم يصلح المنشأ وهو هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ، لأن يعطف عليه إنّ الذين كفروا لم يصلح لذلك ما هو من توابعه، وأمّا على الوجه الأخير، وهو جعل {والَّذِينَ يُؤْمِنُونَ} مبتدأ خبره {أُوْلَئِكَ عَلَى هُدًى} فهو وان كان جملة مستقلة معطوفة على ما قبلها، فلا مانع من أن يعطف عليها جملة وصف الكفار كما في الآيات اللاحقة لكنه وجه مرجوح لم يلتفت إليه وبنى الكلام على ما ارتضاد، وربما يستدل بهذا على ضحفه، وأيضا قد عرفت أنّ هذه الجملة محمولة على التعريض، ومعناها يناسب وصف الكتاب بالكمال، ولذا جاز عطفها على سابقتها، ومن الظاهر أنّ جملة إنّ الذين كفروا لا مدخل لها في ذلك، ومنهم من زعم أنّ خلاصة جواب هذا الكتاب أن الذين يؤمنون بالغيب إلخ استئناف جواب سؤال وأنّ قوله {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا} لا يصلح للجوابية، فلذا امتنع العطف، ورذ بأنه مغار لكلام المصئف وغير مستقيم فإنه إذا قيل ما بال المتقين مخصوصين بكون الكتاب هدى لهم حسن أن يقال إنّ الموصوفين بتلك الصفات أحقاء بذلك، والكفار المصرّون لا ينتفعون به بل يستوي عليهم وجوده وعدمه، فيكون هذا المعطوف مؤكدا لاختصاصه بالمتقين عن غيرهم وتوهم جماعة أنّ ترك العاطف في الآية لأنه استئناف آخر كأنه قيل ثانيا: ما بال غيرهم لم يهتدوا به فأجيب بأنهم لأعراضهم، وزوال استعدادهم لم ينجع فيهم دعوة الكتاب إلى الإيمان، وليس بشيء لأنه بعد ما تقرر أنّ تلك الأوصاف المختصة هي للمقتضية لم يبق لهذا السؤال وجه، وتخيل آخرون أنّ تركه لغاية الاتصال والاتحاد وهو فاسد جداً لأنّ شرح تمرّد الكفار لا يؤكد كون الكتاب كاملاً في الهداية هذا زبدة ما في الشروح وكتب المعاني.
(أقول) ما ذكره قدس سرّه: من أنه على الوجه الثالث يصح العطف لا وجه له، ولا
معنى للتردّد فيما نحن فيه من كمال الانقطاع، لأنه لا بد فيه من قصد التعريض كما مرّ وكفى به مانعا، فاستدلاله به على ضعفه صلح لم يرضه الخصمان على أنه لو لم يقصد التعريض لم يصح أيضا لأنّ قوله {هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ} مبين لما اتصف به الكتاب، ومقرّر لعلوّ شأنه وهذه الجملة إمّ معطوفة عليها أو قيد لها وحال منها فكيف يعطف عليها ما يباينها أتم مباينة، وقد جزم به في شرحه للمفتاح فقال: فإن قلت كيف يصح هذا العطف مع أنّ الجملة الأولى بيان حال الكتاب والثانية ليست كذلك قلت: من حيث إنّ المراد بالثانية التعريض المذكور، فكأنه قيل: هو هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ، وليس هدى لليهود فالثانية في حكم صفة الكتاب وقيل: الواو للحال وليس بظاهر، وإذا جعلت هذه الجملة من مستتبعات وصف الكتاب امتنع عطف {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ} على ما قبله في هذا الوجه أيضا، كما في الوجهين السابقين لا يقال. إذا كان
تعريضا بكفار أهل الكتاب يكون التشنيع على الكفار مناسبا لأنا نقول المقصود حينثذ التعريض بأنهم لما لم يؤمنوا بما أنزل عليه لم يصح إيمانهم، وهذا غير مناسب لما بعده، وأمّا قوله تعالى {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاء وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إَلَاّ خَسَارًا} [الإسراء: 82] فشيء آخر وهو تصريح لا تعريض فتدبر (ثم إنه بقي ههنا أمر لا بدّ من التعرّض له) وهو إنّ المباينة في أسلوب الأداء وطريق التعبير السابق تقريره جعلها الزمخشريّ مقتضية لترك العطف، ولم ينوّره أحد منهم ووجهه أنّ قوله {إن الذين كفروا} إلخ يتضمن عدم انتفاع هؤلاء الكفار بالآيات والنذر، وهو في قوّة أن يقال إنهم لم يهتدوا بهدى هذا الكتاب وهذه جهة جامعة لو لوحظت جاز العطف كما تقول إنّ المتقين اهتدوا بنور الكتاب وانّ الكافرين هاموا في مهامة العقاب إلاً أنه لم يلتفت لهذا، وأنما قفصد أن ينعي حالهم ويشنع عليهم، فنزه قدر التنزيل عن النظر إلى تعاميهم عنه، فإنه ذنب عقابه فيهم، وقد جعل العلامة مباينة الأسلوب كناية عن عدم الالتفات لهذه الجهة الجامعة واليه أشار السكاكيّ بقوله، وان كان بينهما جامع غير ملتفت إليه لبعد المقام عنه فلذ درّه ما أبعد مرماه وأحسن مغزاه، فمباينة الأسلوب متممة لمباينة الغرض، ولذا أدرجها المصنف فيها ولو صرّح بها كان أحسن، فما قيل من أنه لم يذكر التباين بي الأسلوب كما في الكشاف لأنّ التباين في الغرض هو الأصل في الفصل والتباين في الأسلوب من توابعه، ولوازمه كما لا يخفى على المتأمّل، ولهذا فرع صاحب الكشاف التباين في الغرض والأسلوب معاً على ما يوجب التباين في الغرض فقط، وهذا مما لم يتعرّضوا له مع لزومه ليس مما يشفي الغليل، وإنما سكت عن تغاير الأسلوب لظهوره، وقيل إنما لم يتعرّض له المصنف لأنه نظر إلى أنّ العمدة في وصل الجملتين بالواو، وهو وجود الجامع المعنوي بينهما وتناسب الجملتين في الغرض جامع معنويّ معتد به يحسن به عطف الثانية على الأولى بخلاف الأسلوب، فإنه أمر لفظيّ وكثيراً ما يغيرون أسلوب المعطوف عن سنن المعطوف عليه لنكتة داعية إليه، ولما كان التباين في الأسلوب غير ضارّ في العطف إذا كان بينهما جامع مصحح للعطف لم يجعل من أسلوب القطع وهذا كله غفلة عما حققنا، فاشدد يدك عليه ولا تنظر لما بين يديه. قوله:{إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ} [الانفطار: 13] سيأتي تفسيرها واتحاد الأسلوب فيها ظاهر وأما الجامع، فلأنها سيقت فيها الجملة الأولى
لبيان ثواب الأخيار والثانية لذكر جزاء الأشرار مع ما فيها من الترصيع والتقابل، لتضادّ كل من طرفي الجملتين، وقد عد أهل المعاني التضادّ وشبهه جامعاً يقتضي العطف، لأنّ الوهم ينزل المتضادين منزلة المتضايفين، فيجتهد في الجمع بينهما في الذهن حتى قالوا: إنّ الضد أترب خطورا بالبال مع الضد من الأمثال. قوله: (وإنّ من الحروف التي إلخ) يعني أنها شابهت الفعل الذي هو أصل العوامل فعملت لشبهها له مادّة وهيئة ومدخولاً ومعنى وعمله هو الرفع والنصب، إلاً أنه قدم من معمولاته المرفوع لأنه عمدة وأخر المنصوب لأنه فضلة على مقتضى الأصل وعكس فيها تنبيها على فرعيتها وحطاً لرتبتها وعدد الحروف ثلاثة، وهي أقل ما ينبني عليه الفعل وبنى على الفتح آخرها، ولزمت الأسماء ولها معان مثله كالتأكيد والاستدراك، وهو ظاهر. وقوله:(والمتعذي) بالنصب معطوف على الفعل أي وشابهت الفعل المتعدي فيما ذكر، وما قبله في مشابهة الفعل مطلقا، والإيذان الإعلام، وضمير بأنه راجع إلى الحرف المعلوم مما قبله ودخيل فيه أي ليس بأصيل في العمل لأنه عمل لمشابهته للفعل يقال هو دخيل في بني فلان إذا انتسب إليهم ولم يكن منهم، وقال: حروف دون أحرف لأنه المشهور في جمع حرف بمعنى كلمة أو جزئها وأحرف مشهورة في الحرف بمعنى اللغة كما في الحديث " أنزل القرآن على سبعة أحرف ") 1) وهو وان كان جمع كثرة وهي ستة إلاً أنه بعد دخول الألف واللام بطلت جمعيته فجاز استعماله في القليل والكثير. قوله: (كان مرفوعاً بالخبرية إلخ) فيه تسمح لأنّ العامل فيه عند الكوفيين المبتدأ أو الابتداء والباء للسببية واعتمد على شهرته وظهور المراد منه، فاندفع ما قيل عليه من أنه لم يقل أحد إنّ العامل في الخبر الخبرية بل من نحاة الكوفة من قال: العامل في الخبر المبتدأ كما إنّ العامل في المبتدأ الخبر إذ المعنى المقتضي للرفع فيه
الخبرية والعامل المبتدأ أو بقاء الخبرية باعتبار كون اسم إنّ كان مبتدأ، وهو الآن كذلك محلاً بناء على أنه لا يشترط فيه بقاء المحرز قال ابن يعيش في شرح المفصل: ذهب الكوفيون إلى أنّ هذه الحروف لم تعمل في الخبر الرفع، وإنما تعمل في الاسم النصب لا غير والخبر مرفوع على حاله كما كان مع المبتدأ، وهو فاسد لأنّ الابتداء قد زال وبه وبالمبتدأ كان يرتفع الخبر فلما زال العامل بطل أن يكون هذا معمولا فيه ومع ذلك فإنا وجدنا كل ما عمل في المبتدأ عمل في خبره نحو كان وأخواتها وظننت وأخواتها لما عملت في المبتدأ عملت في الخبر
وليس فيه تسوية بين الأصل والفرع، لأنه قد حصلت المخالفة بتقديم المنصوب على المرفوع اهـ. فقوله ة وهي أي الخبرية باقية على حالها قبلها، فيعمل ما كان عاملَا فيها استصحابا له أي إبقاء له مصاحباً له كما كان، لأنّ أصل ما اتصف بشيء أن تبقى صفته، ويعمل بمقتضاها حتى يتحقق ضده، والاستصحاب من جملة الأدلة عند بعضهم كالشافعية ومنهم المصنف، وأدلة الأحكام الفقهية تجري في العربية حتى إنّ بعض المتأخرين دوّن للنحو أصولاً كأصول الفقه، وهذا تقرير لدليل الكوفيين. وقوله:(قضية) بالنصب مفعول له على أنه مصدر لقضى بمعنى حكم أي حكماً للاستصحاب، وابقاء الأثر أو مفعول مطلق أي مقتضية للرفع اقتضاء، ولام الاستصحاب لام التقوية. قوله:(فلا يرفعه الحرف) أي لا يرفع استصحاب ما كان من العمل الأوّل ويزيله لضعفه، فالرفع بمعنى الإزالة، أو لا يرفع الخبر فالرفع بالمعنى المصطلح. وقوله:(بأنّ اقتضاء الخبرية إلخ) جواب عما استدلّ به الكوفيون من أن إنّ ليست هي العاملة، كما مرّ وفي قوله الخبرية ما مرّ من التساهل وتخلفه في خبر كان لنصبه بها، فلو كان رفع الخبر بلا شرط شيء دام ما دامت الخبرية مطلقاً، فلما تخلف علم أنه مشروط بالتجرّد من العوامل اللفظية. وقوله: (وفائدتها إلخ الم يقل معناها لأنه ليس كغيره من المعاني الوضعية المعبر عنها، ولذا توهم بعضهم زيادتها في كلام
العرب والتأكيد والتوكيد تقوية الشيء، فلذا عطف عليه قوله وتحقيقها عطفاً تفسيرياً لاً نه من حققت الأمر أحقه إذا تيقنته، أو جعلته ثابتا لازما وفي لغة بني تميم أحققته بالألف، وحققته بالتشديد مبالغة، وفيه إشارة إلى أنّ التوكيد هنا ليس بمعناه المصطلح، وجعلها مؤكدة للنسبة الحكمية دون أحد الطرفين لتأثيرها فيها، واستدلّ عليه بوقوعها في جواب القسم لأنّ القسم، كما قال النحاة جملة إنشائية يؤكد بها جملة أخرى، فئاذا كان الجواب جملة اسمية يصدّر في الإثبات إذا كان القسم غير طلبي بلام مفتوحة أو أن مثقلة أو مخففة، ولا يستغني عنها دون استطالة إلاً شذوذاً. وهذا مراد المصنف، ولا يرد عليه شيء لأنه لم يدع الكلية، وأمّا ذكرها في الجواب فلأنّ السائل متردد فيحسن تأكيد جوابه، كما تقرّر في علم المعاني، والأجوبة جمع جواب، وهو معروف إلا أن ابن الجوزي قال في كتاب غلط العوامّ: قال العسكري: العامّة تقول في جمع الجواب جوابات وأجوبة، وهو خطأ لأنّ الجواب مثل الذهاب لا يجمع، وقد قال سيبويه: الجواب لا يجمع وقولهم جوابات وأجوبة كتبي مولد اهـ 0 ولم أر من ذكره غير صاحب المصباح إلا أنه لم ينقله ومشبه للوثوق به لا يطالب بالنقل. قوله: (وتذكو في معرض الشك (أي تذكر أنّ لتأكيد ما فيه شك للمخاطب أو لغيره، ومعرض بفتح الميم وكسر الراء محل عروض الشك كذا في شرح الشافية، فهو كالمظنة والمئنة وضبطه شراح الفصيح بكسر الميم وفتح الراء كاسم الآلة وأصله
ثوب تلبسه الجارية المعروضة للبيع، فيكون من العرض والأوّل من العروض، وهو على هذا المعنى ما يظهر الشك ويبرزه لمن يريده، وفي لو المصباح يقال: عرفته في معرض كلامه قال بعض العلماء: هو استعارة من المعرض وهو الثوب الذي تجلى فيه الجواري، وكانه قيل في هيئته وزيه وقالبه، وهذا لا يطرد في جميع أساليب الكلام فإنه لا يحسن أن يقال ذلك في موضمع السبّ والشتم بل يقبح أن يستعار ثوب الزينة الذي هو أحسن هيثة للشتم الذي هو أقبح هيئة، فالوجه أنه مقصور من معرا ضواحد المعاريض وهو التورية وأصله الستر اهـ. وهو كلام واه وضثعفه ظاهر لمن له معرفة بالبغة، ولم يذكر الإنكار لأنه وان علم بالطريق الأولى، فشهرته تغني عن ذكره وسيأتي التصريح به في كلام المبرد جوإبا لأبي إسحاق المتفلسف الكندي لما قال له: إني أجد في كلام العرب كما فصله في المفتاح، وقد تذكر أنّ لمعان أخر كما في شرح المفتاح. وقوله:(ويسئلونك) إلخ مثال للأجوبة، ويجوز أن يكون للشك أيضا، ولم يذكر القسم لوضوحه. قوله:(وتعريف الموصول إلخ) كذا في الكشاف، وفي الحواشي الشريفية تعريف الذي وتصاريفه ص من بين الموصولات كتعريف ذي اللام في كونه للعهد تارة،
- وللجنس أخرى سواء جدلت من المعرّف باللام كما ذهبت إليه شرذمة أو لا كما عليه المحققون والوجه في العهد إنّ هؤلاء أعلام الكفر المشهورون به فهم لذلك كالحاضرين في الأذهان، ولا يخفى ما فيه، فإنّ تخصيص الذي وتصماريفه دون من، وما مما ليس فيه أل لا وجه له، وإنما دعاه له ظاهر قول الكشاف تعريف الذين، ولذا عدل عنه المصنف إلى قوله تعريف الموصول إشارة إلى أنّ الزمخشريّ إنما اقتصر عليها لأنها أمّ الباب، وهذا مما ينبغي التنبيه عليه، وهم مطبقون على أنّ تعريف الموصول بالعهد الذي في الصلة، والقول بأنه بأل واه لا يلتفت إليه سواء قلنا إنه موضوع للخصوصيات بوضع عام أو لأمر عام بشرط استعماله فيها، وستسمع تحقيقه عن قريب، وقدم التعريف العهدي لأنه الأصح رواية ودراية، وما قيل من أنّ الماثور ما رواه ابن جرير بسند متصل إلى ابن عباس رضي الله عنهما أنّ المراد به هنا كفار اليهود خاصة، وهو الظاهر لأن السورة مدنية، وما قبلها في أهل الكتاب فالمراد اليهود وقد ورد مثله في سورة يس في كفار قريش عجيب منه، فإنه ذكر عقبه إنّ أبا نعيم قال في دلائل النبوّة: إنها في كفار قريش، ورواه عن ابن عباس أيضاً، فإنّ الروايتين تؤيدان ما ذكره المصنف،؟ وإلا كان بينهما تناف فوجه العهد أنّ المراد بالموصول هنا من شافههم بالإنذار في عهده، وهو مصر على كفره وهذا أوجه مما مرّ. قوله:(أو للجنس متناولأ من صمم على الكفر وكيرهم) هذا بناء على ما
بينه شراح المفتاح من أنّ تعريف الموصول كتعريف الألف واللام، فيكون تارة للعهد وتارة للجنس والاستغراق، وقد صرّح به بعض النحاة أيضاً فقال ابن مالك في شرح التسهيل المشهور عند النحويين تقييد جملة الصلة بكونها معهودة، وذلك غير لازم، وذلك لأنّ الموصول قد يراد به معهود فتكون صلته معهودة، وقد يراد به الجنس فتوافقه صلته كقوله تعالى {كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ} [البقرة: 171] وكقول الشاعر:
وأسعى إذا يبني ليهدم صالحي ~ وليس الذي يبني كمن شأنه الهدم
وقد يقصد تعظيم الموصول فتبهم صلته كقوله:
فإن أستطع أغلب وإن يغلب الهوى ~ فمثل الذي لاقيت يغلب صاحبه
اهـ وهذا مخالف لما في الرسالة الوضعية مما اتفق عليه شراحها من أنّ الموصول موضوع بوضع عام لمعنى مشخص معين بنسبة جملة خبرية إليه، وأنه لا بد من كون انتسابها معهوداً بين المخاطب والمتكلم، فإن أريد به معنى كليّ، فإنما هو لتنزيله منزلته كما في اسم الإشارة، وعلى هذا فهذا معنى مجازي وهو ظاهر كلام أهل المعاني، وهو الموافق لما اشتهر عند النحاة، كما قاله ابن مالك وظاهر كلام ابن مالك والزمخشريّ أنه ليس بمجاز، فلا خلاف في استعماله، وإنما الخلاف في تعيين الحقيقة وهذا أمر سهل، وقد قيل إنه ليس المراد بالعهد في كلام النحاة معناه المشهور بل مطلق الحضور الذهني بايّ وجه كان وهو جار في جميع المعارف، ولذا حصر بعض الخاة معنى أل في العهد والجنس، وهو منشأ الخلاف بينهم وقول أهل الأصول الموصول من صيغ العموم مؤيد للثاني (وهذا مما من الله به) وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله فاحفظه، وصمم على الكفر بمعنى استمرّ عليه إلى موته، ونقله لسجن سجين وحقيقة صمم مضى في السير فتجوّز به عما ذكر للزومه له، وليس من الصميم بمعنى الخالص احترازا عن المنافقين كما توهم. قوله:(فخص منهم غير المصرّين بما أسند إليهم إلخ) ضمن خص معنى أخرح أو تجوّز به عته، وإلاً لقال خص المصرّون والأوّل أولى لتعديته بالباء في قوله بما أسند، وفي نسخة بدل منهم عنهم، وضمير غيرهم وما بعده لمن باعتبار معناه وكذا إليهم، وفي نسخة إليه باعتبار لفظه أو هو عائد إلى الموصول، وفي قوله خص تصريح بأنه عام مخصوص لا مطلق مقيد، وهو الموافق لمذهبه وفيه مخالفة للزمخشريّ في تعبيره حيث قال: وأن يكون
للجنس متناولاً كل من صمم على كفره تصميما لا يرعوي بعده وغيرهم، ودل على تناوله للمصرّين الحديث عنهم باستواء الإنذار وتركه عليهم اهـ.
وقال قدس سرّه: إذا حمل على الجنس عمّ الكفار إلا أنّ الاخبار عنهم بما يدلّ على الإصرار دال على أن المراد هم المصرّون فقط، فيكون اللفظ عاماً مقصورا على بعض إفراده فإن قيل: كيف يجعله عاما مخصوصاً مع أنه لم يذهب إلى أنّ الجمع المحلى بلام الجنس
للاستغراق حيث قال في قوله تعالى {إِذَا طَلَّقْتُمُ النَّسَاء} [البقرة: 231] لا عموم ولا خصوص في النساء ولكنه اسم جنس للإناث من الإنس، وهذه الجنسية معنى قائم في كلهن وفي بعضهن، فجاز أن يراد بالنساء هذا وذاك فإذا قيل لعدتهن علم أنه أطلق على بعضهن وهن المدخول بهن من المعتدّات بالحيض، وقال في قوله تعالى {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوَءٍ} [البقرة: 228] إنّ اللفظ مطلق في تناول الجنس صالح لكله، وبعضه فجاء في أحد ما يصلح له يعني في ذوات الأقراء كالاسم المشترك قلنا هو لا يمنع صلوحه للعموم بل ظهوره فيه كما ذهب إليه أصحاب الأصول فاختار ههنا أنّ هذا الصالح للعموم مستعمل ومقصور على البعض بواسطة القرينة، ويرد عليه أنه تطويل للمسافة بلا طائل، وزعم بعضهم أنّ المختار عنده هو أنّ مثل هذا الجمع للعموم، وأمّا كونه للإطلاق، فشيء ذكره في بعض مواضع هذا الكتاب، وفيه أنه مناف لما نقلناه من نصه على عدم العموم وأمّا تفسيره للجموع المعرّفة باللام للاستغراق فذلك لاستفادته منها بمعونة المقام، ولا معونة للمقام ههنا، فالصحيح أنه أراد كون الذين كفروا مطلقاً في تناول الجنس صالحا بحسب مفهومه، لأن يراد به كله وبعضه لكن الخبر دلّ على تقييده فقوله متنا ولا إلخ لم يرد به الشمول بل التناول بحسب الإطلاق نظرا إلى اللفظ وحده وإذا اعتبرت القرينة دلت، على تناوله بحسب الإرادة للمصرّين فقط اهـ.
(أقول) فيه خلل لا يخفى، وبيانه يتوقف على تقديم مقدمة في الفرق بين العموم والإطلاق والتخصيص، والتقييد) فالعامّ الفظ يستغرق الصالح له من غير حصر، ويشمل النادر وغير المقصود على الأصح وفخر الإسلام لم يشترط فيه الاستغراق فعرّفه بما ينتظم بعض المسميات (والمطلق) ما دل على فرد شائع وقيل ما دلّ على الماهية بلا قيد، وتوخم بعضهم أنه مرادف للنكرة، وهو خطأ أو تساهل للاعتماد على ظهور المراد (والتخصيض) قصر العامّ على بعض ما صدق عليه (والتقييد) يقرب منه وألفاظ العموم مفصلة في مبسوطات الأصول وفي بعضها اختلاف كالجمع المحلى بالألف واللام، ففي جمع اأجوامع أنّ الجمهور على أنه للعموم خلافا لأبي هاشم من المعتزلة، فإنه ذهب إلى نفي العموم عنه مطلقا، فيكو 1 غ مطلقا عنده ولإمام الحرمين وافادة العموم كما ذكره المصنف في منهاجه تكون بحسب الوضع اللغوي والعرفي والعرف ودلالة العقل والموصول مفردا وجمعا من ألفاظ العموم حتى قال القرافيّ رحمه الله: إنه بالإجماع وليس هو من قبيل الجمع المحلى باللام، فإنّ لامه كبعض حروف الكلمة، وتعريفه ليس بها على الصحيح إذا عرفت هذا فقياس ما هنا على ما ذكره في صريح الجموع في غير هذا المحل لا وجه به، وما صرّح به في كتابه على مذهبه من أنه من المطلق لا من العامّ وتاويله من فضول الفضلاء. وقوله: إنه لا يمنع صلوحه للعموم بل ظهوره فيه أيضاً لا وجه له فإنه لو صلح للعموم كان عاماً وهو مناف لما صرّح به. وقوله: تطويل للمسافة بلا طائل غير متوجه لأنه من ألفاظ العموم، وهو نص فيه فحمل عليه، ثم خص وهو طائل
وأيّ طائل، فإن قلت كيف يكون الخبر مخصصاً إذا سلم فيه العموم والخصوص والأصوليون حصروا المخصص الغير المستقل في الاستثناء والصفة والغاية والبدل والشرط، وقد أوردوا عليه أن تعين المخبر عنه بمفهوم الخبرينافي ما تقرّر من أنّ المخبر عنه لا بذ أن يكون متعينا عند المخاطب إذا حكم عليه ليقيد الكلام فإثبات مفهنوم الخبر له متوقف على تعين المخبر عته عند المخاطب قبل ورود الخبر، فلو توقف تعين المخبر عنده على الخبر لزم الدور حتى قيل إنه من إسناد ما للبعض إلى الكل على حد بنو فلان قتلوا فتيلَا، والقاتل واحد منهم.
(قلت) أمّا أن يقال على هذا المخصص العقل والاخبار بما ذكر قرينة عليه أو المخصص
عود ضمير خاص عليه من الخبر لا الخبر نفسه، فإنّ أهل الأصول قالوا عود ضمير خاص على العامّ فيه أقواد ثلاثة: فقيل يخصصه وقيل
لا يخصصه وقيل بالوقف ومثلوه بقوله تعالى {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوَءٍ} [البقرة: 228] فإنّ الضمير في قوله {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ} [البقرة: 228] للرجعيات فقط وكذا قوله تعالى {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاء} [الطلاق: ا] فإنّ قوله تعالى {لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا} [الطلاق: ا] المراد به الرغبة في مراجعتهن، وهي لا تتأتى في البائن وما قيل من أنّ المصنف أحسن حيث أسقط لفظة كل التي في الكشاف في قوله كل من صمم إلخ إذ يفهم منه الاستغراق الذي اضطربوا في توجيهه غفلة عما قرّوناه، ومن الخلط والخبط ما قيل هنا أنه على الأول يكون الذين كفروا من قبيل إطلاق لفظ المطلق العامّ المستغرق وارادة الخاص، وعلى الثاني من قبيل إطلاق لفظ المطلق المتناول لكل بعض على سبيل البدل، وارادة المقيد بقيد الإصرار من حيث أن الخبر يدل على التقييد، وهو أظهر من الأوّل لأنه على الأوّل خاص، وعلى الثاني عامّ مخصوص. قوله: (والكفر لغة ستر النعمة إلخ؟ أي الكفر بالضم مقابل الإيمان، وأصله المأخوذ منه الكفر بالفتح مصدر بمعنى الستر يقال كفر يكفر من باب قتل وقول الجوهريّ تبعاً للفارابي من باب ضرب الظاهر أنه غلط ولم ينبه عليه في القاموس، ثم شاع في ستر النعمة خاصة وفي مقابل الإيمان لأنّ الكفر فيه ستر الحق وستر نعم فياض النعم ويقالط لليل: كافر لستر ظلامه لوجه الأرض وقد تلطف العارف بالله حيث قال:
يا ليل طل أو لا تطل إني على الحالين صابر
لي فيك أجر مجاهد إن صح أنّ الليل كافر
والكمام جمع كمّ بالكسر، وهو غطاء النور والثمر، والكافور أيضاً اسم طيب معروف إلاً
أنّ ما ذكره المصمنف هو المعروف في اللغة الفصيحة القديمة، ولذا اقتصر عليه وهو اسم جنس جامد ومن قال: إنه مبالغة الكافر فقد وهم. قوله: (وفي الشرع إنكار ما علم إلخ) هذا مذهب الشافعي، والمراد بالضروريّ ما اشتهر حتى عرفه الخواص والعوام. قال النووقي في الروضة: ليس يكفر جاحد المجمع عليه على إطلاقه بل من جحد مجمعاً عليه فيه نص، وهو من الأمور
الظاهرة التي يشترك في معرفتها الخواص والعوام، كالصلاة وتحريم الخمر ونحوهما فهو كافر، ومن جحد مجمعا عليه لا يعرفه إلاً الخواص كاستحقاق بنت الابن السدس مع بنت الصلب ونحوه فليس بكافر، ومن جحد مجمعاً عليه ظاهرا لا نص فيه ففي الحكم بتكفيره خلاف اهـ. وقال ابن الهمام في المسايرة: الحنفية لم يثترطوا في الإكفار سوى القطع بثبوت ذلك الأمر، الذي تعلق به الإنكار لا بلوغ العلم به حد الضرورة، ويجب حمله على ما إذا علم المنكر ثبوته قطعا لأن مناط التكفير التكذيب أو الاستخفاف إلخ وأورد على ما قالوه أنّ الخالي عن التصديق والتكذيب كافر، والشاك وكفره ليس بإنكار فيخرح عن التعريف، وأجاب عنه الإمام بأنّ من جملة ما جاء به النبيّ عليه الصلاة والسلام أنه يجب تصديقه في كل ما جاء به فمن لم يصدقه في ذلك فقد كذبه، وردّ بظهور منعه وانّ الصواب أن يقال الكفر عدم الإيمان عمن هوشأنه فيشمل التكذيب، وترك التصديق بعد وجوبه عليه، وقيل الأنكار ههنا الجهل من قولهم أنكرت الشيء إذا جهلته وليس بمعنى الجحود حتى يكون قولاً بالمنزلة بين المنزلتين لأنّ من تشكك، أو لم يخطر النبيّ عليه الصلاة والسلام بباله ليس بمقرّ مصدق ولا منكر جاجد، وهو باطل عند أهل السنة، ولا يخفي أنه يأباه ما بعد. من قوله يدلّ على التكذيب، فإنه صريح في أنّ الإنكار ههنا بمعنى الجحد والتكذيب، وفي المواقف الكفر عدم تصديق الرسول صلّى الله عليه وسغ في بعض ما علم مجيئه به بالضرورة وخرح بالضرورة ما علم بالاستدلال وخبر الآحاد، ولا يرد على الإنكار ما قاله الزنجاني من أنه يختص بالقول والكفر قد يحصل بالفعل لما ذكره المصنف بعده. قوله:(وإنما عذّ ليس الغيار) بكسر الغين المعجمة وفتح الياء المثناة التحتية تليها ألف وآخره راء مهملة.
قال في الحهذب أهل الذمّة يلزمهم الإمام الغيار والزنار، وفي شرحه الغيار أن يخيطوا
على ثيابهم الظاهرة ما يخالف لونه لونها وتكون الخياطة على خارج الكتف دون الذيل والأشبه أنه لا يختص حالكتف، والزنار كتفاح خيط غليظ يشد على أوساطهم خارج الثياب اهـ. وسمى غيار المغايرة لونه للون ما خيط عليه، أو لأنه يتغاير به أهل الذمّة، ومن قال:
الغيار قلنسوة طويلة كانت تلبس قبل الإسلام، وهرت من شعار الكفرة لم يدر حقيقته وفي تعبيره باللبس والشد ما يشير إلى تغايرهما، والزنار كان حزإما مخصوصا بالنصارى والمجوس. قوله:(لأنها تدلّ على التكذيب إلخ) أي تكذيب الرسول صلى الله عليه وسلم فيما جاء به، وهذا جواب سؤال مقدر تقديره أنّ أهل الشرع حكموا على بعض الأفعال والأقوال بأنها كفر وليست إنكاراً من فاعلها ظاهراً، فأجاب بأنها ليست كفراً، وإنما هي دالة عليه فأقيم الدال مقام مدلوله حماية لحريم الدين، وذبا عن حماه حتى لا يحوم حوله أحد ويجتريء عليه، وليس بعض المنهيات
التي تقتضيها الشهوة النفسانية كذلك، ولذا ورد في الحديث:" وإن زنى وإن سرق "(1) فلا يرد على ما ذكر الاعتراض فأن ارتكاب المنهيّ إذا دل على التكذيب بطل طرده بغير المكفر من الفسق حتى يحتاج إلى أن يقال يجوز جعل الشارع بعض المنهيات علامة للتكذيب فيحكم بكفر مرتكبه، وقال ابن الهمام: اعتبروا في الإيمان لوازم يترب على عدمها ضده كتعظيم الله سبحانه وتعالى وأنبيائه عليهم الصلاة والسلام وكتبه، ولاعتبار التعظيم المنافي للاستخفاف كفروا بألفاظ، وأفعال كثيرة وأمّا لبس شعار الكفر سخرية بهم، وهزلاً ففي بعض الحواشي أنه ليس بكفر وليس ببعيد إذا قامت القرينة ولا يلزم مما مرّ تكفير أهل الباع من الفرق الإسلامية كما توهم. قوله:(واحتجت المعتزلة إلخ) اتفق المليون على أنه تعالى متكلم، ثم اختلفوا في المراد بالكلام وقدمه وحدوثه، لما رأوا قياسين متعارضين انتاجا وهما كلام الله صفة له، وكل ما هو صفة له قديم فكلام الله قديم، وكلام الله أي القرآن مؤلف من حروف مترتبة متعاقبة وكل ما هو كذلك حادث ضرورة فكلامه حادث، فاضطرّوا إلى القدح في أحدهما لامتناع حقيقة النقيضين، فمنعت كل طائفة مقدّمة فالحنابلة ذهبوا إلى أنه حروف، وأصوأت تديمة فمنعوا اقتضاء التعاقب للحدوث حتى لزمهم قدم الورق والجلد بل الكاتب والمجلد ونحوه، مما هو بين البطلان فقيل مرادهم التأدّب للاحتراز عن سريانه للنفسي، كما صرّح بعض الأشاعرة بمنع أن يقال القرآن مخلوق، والمعتزلة ذهبوا لحدوثه لتركبه من الحروف والأصوات، فقالوا هو قائم بغيره ومعنى كونه متكلما أنه موجد للكلام في جسم كاللوح أو جبريل أو النبيّ عليه الصلاة والسلام أو غيره كشجرة موسى عليه السلام ومنعوا اتصاف الله به رأساً، والكرامية لما رأوا الجنابلة خالفوا الضرورة، وهو مكابرة والمعتزلة خالفوا العرف واللغة في جعل المتكلم موجد الكلام قالوا: هو حادث ويجوز قيامه بذاته، والأشاعرة قالوا كلامه قديم نفسيّ قائم بذاته لا بأصوات وحروف، ولا نزاع بينهم وبين المعتزلة في حدوث الكلام اللفظي إنما النزاع في إثبات النفسي، وذهب العضد تبعاً للشهرستاني إلى أنّ مذهب الشيخ أنه ألفاظ قديمة وأفرد لتحقيقه مقالة ذكر فيها أنّ المعنى يطلق تارة على مدلول اللفظ وعلى القائم بالغير، والشيخ لما قال الكلام هو المعنى النفسيب فهموا منه أنّ مراده مدلول اللفظ، وأنه القديم عنده والعبارات إنما تسمى كلاما مجازاً لدلالتها على الكلام الحقيقي حتى صرحوا بأنّ الاً لفاظ حادثة عنده، ولكنها ليست بكلام حقيقيّ، وقد قيل عليه أنّ له لوازم كثيرة الفساد كعدم تكفير من أنكر
كلامية ما بين الدفتين لله مع أنه معلوم من الدين بالضرورة، وكوقوع التحدّي بغير كلام الله تعالى حقيقة، وعدم كون المقروء المحفوظ كلام الله حقيقة وغير ذلك، فوجب حمل كلامه على إرادة المعنى الثاني فيكون الكلام النفسي عنده شاملاً للفظ، والمعنى معاً قائما بذاته تعالى والترتب والتعاقب إنما هو في اللفظ لعدم مساعدة الآلة ونظيره وقوع الحروف دفعة في الختم وأدلة الحدوث يجب حملها على الصفات المتعلقة بالكلام دونه جمعاً بين الأدلة. وقال الدواني: مبدأ الكلام النفسي فيناصفه نتمكن بها من نظم الحروف وترتيبها على ما ينطبق على المقصود، وهي صفة ضد الخرس مبدأ للكلام النفسي، وهي غير العلم إذ قد تتخلف عنه فإنّ في الناس من قد يعلم الكلام للغير ولا يقال إنه كلامه بل كلام من رتبه في نفسه، فكلامه تعالى الكلام المرتب في علمه الأزليّ الذي هو مبدأ للنظم وتاليفه، وهو صفة قديمة وكذا الكلمات بحسب وجودها العلمي، وليس كلاماً له إلاً ما أوجده مرتباً بغير واسطة، ولا تعاقب فيه قبل الوجود الخارجيّ، وهذا مما لا محذور فيه، ومن هنا علم أنّ المعتزلة أنكروا الكلام وقدم الألفاظ
وقالوا: معنى تكلم الله خلقه الكلام، فالمراد بما ذكره المصنف أنّ ما عبر عنه بالماضي إمّا أن يحدث بعد مضيه أو لا، وعلى الثاني يلزم الكذب لأنه أخبر أزلاً عما لم يمض بأنه مضى، وهو محال فلزم حدوثه والحادث لا يقوم به، فالمراد بتكلمه خلقه له والمواد بالمخبر عنه النسبة التي يصدق بها لا المحكوم عليه، فأجيب عنه بأنّ المضيّ، ونحوه بالنسبة إلى بعض المتعلقات مع بعض آخر، ومعنى إنّ الذين كفروا مثلَا بعد إرسالك من أصر على الكفر كذا، والمضيّ بالنسبة إلى الإرسال ونحوه ولا يلزم من حدوث التعفق حدوث المتعلق بالكسر كما أنّ حدوث المعلوم وتعلق العلم به لا يلزم منه حدوث نفس العلم، ومما يثير إليه قول الأصوليين المضيّ وغيره بالنسبة إلى زمان الحكم، لا إلى زمان التكلم كذا ينبغي أن يفهم كلام المصنف من غير نظر لبعض الأوهام كما قيل من أنه ذهب إلى قدم الألفاظ تبعاً للشهرستاني، وما قيل: من أنه إشارة إلى جواب الغزالي عن هذه الشبهة بأنّ نحو {إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا} [نوح: ا] قائم بذاته ومعناه قبل إرساله إنا نرسله وبعده إنا أرسلناه واختلاف اللفظ باختلاف الأحوال ولا محمل له غير هذا مع أن ما ذكره الغزاليّ لا يظهر له وجه مع أنهم قالوا: مدلول اللفظيّ بعينه هو النفسيّ فتأمّل، فإن قلت ليس هذا أوّل ماض وقع في التنزيل وقد سبق أنعمت ورزقنا فلم ذكره هنا 0
قلت: قد أشرنا إلى أنه بالنسبة إلى زمان الحكم لا التكلم وأنعمت ماض بالنسبة للهداية
وكذا رزقنا بالنسبة للإنفاق، وكذا أنزل بالنسبة إلى الإيمان فلا يتأتى الاحتجاج به بخلاف ما هنا فإنه كلام مبتدأ وزمان الحكم والتكلم فيه واحد، ولأرباب الحواشي هنا كلمات رأينا الضرب عنها صفحاً أنفع من ذكرها. قوله:(خبر إنّ إلخ) هو جار على الوجهين أمّا إذا كان مبتدأ وخبرا
فظاهر، وأمّا إذا كان ما بعده فاعله، فكذلك لكن أجرى الإعراب على جزئه الأوّل، كما في إنّ زيدا قائم أبوه لصلاحيته له بخلاف زيد يقوم وقام، فإنّ الخبر الجملة لا الفعل وحده. قوله:(اسم بمعنى الاستواء إلخ) أراد بالاسم اسم المصدر وهو المراد منه إذا قرن بالمصدر كما هنا، وفي غيره يراد به الجامد أو العلم واسم المصدر ما دل على معناه ولم يجر على وفق أبنية المصادر كالكلام، وللنحويين خلاف في أعماله عمل مصدره والأصح الجواز. وقوله:(نعت به كما نعت بالمصادر) أي المصادر القياسية، والاً فهو مصدر بحسب الأصل كما قاله الراغب، ونعت به بمعنى وصف به، والنعت والوصف بمعنى وقد فرق بينهما بعضهم فقال النعت لا يقال إلا في غير الله، كنعت الثوب والفرس، والرجلى ولا يقال نعوت الله بخلاف الوصف والصفة، وهما يكونان بمعنى التابم النحوي وبمعنى إثبات صفة لشيء مطلقاً سواء كان تابعاً أم لا، وهو المراد هنا لأنّ ما نحن فيه كذلك، فإنّ إرادة الأوّل لقوله يعده إلى كلمة سواء لأنه نعت نحوي، ويعلم حكم غيره بالقياس عليه تكلف من غير داع إليه، وأشار بقوله كما نعت بالمصادر إلى إفادته المبالغة، ولا ينافيه تفسيره بمستو لأنه بيان لحاصل المعنى المراد منه.
وفي الكشاف اسم بمعنى الاستواء وصف به كما يوصف بالمصادر إلخ فقال قدس سره:
أي كما تجري المصادر على ما اتصف بها كذلك تجري سواء على ما يتصف بالاستواء أي يجعل وصفاً له معنوياً إمّا نعتا / نحويا كما في كلمة سواء وأمّا غيره كما في هذه الآية فإن سواء هنا في موقع مستو إمّا حنبرا عما قبله ومسندا لما بعده كما يسند الفعل إلى فاعله فيجب حينئذ توحيده وامّا خبراً عما بعده فيكون ترك تثنيته لجهة المصدرية وكأنه نبه على ذلك حيث قال: أوّلاً مستو عليهم، وثانيا سواء عليهم، واختار بعضهم الوجه الثاني، لأنه اسم غير صفة فالأصل فيه أن لا يعمل، وأيضا المقصود من ايوصف بالمصادر المبالغة في شأن محالها كأنها صارت عين ما قام بها، فزيد عدل كأنه تجسم منه، فإذا أولت باسم الفاعل، أو بتقدير مضاف فات المقصود إهـ. وفيه بحث لأنّ ما نقله من الاختيار وأقرّه ليس بشيء لأنّ قوله إنّ الأصل فيه أن لا يعمل لا وجه له لأنه مصدر والأصل فيه العمل على القول الأصح، فكأنّ هذا القائل توهم أن معنى الاسم في كلامهم اسم الجنس الجامد، وقد علمت أنه غير مراد. وقوله:(المقصود من الوصف إلخ) هو هنا أيضاً كذلك كما ستسمعه عن ابن الحاجب، وصرّج به الطيبي رحمه الله، وقد مرّ توجيهه فلا حاجة إلى ما قيل من أنه إذا أسند إلى الفاعل لا يفيد المبالغة، وان كان له وجه، وكذا ما قيل من أنّ المبالغة تكون بحسب اللفظ وبحسب المعنى، وهو يفيد الأولى كحذف أداة
التشبيه وإذا كان خبرا فقال في المفصل تقديمه على سبيل الوجوب، وفي إيضاح ابن الحاجب الظاهر أنه مما التزم فيه التقديم لأنه لم يسمع خلافه مع كثرته وسرّه ما فهم من المبالغة في معنى الاسنواء حتى فعلوا ما ذكرنا. من التعبير، فناسب تقديمه تنبيها على المبالغة، وقول أبي عليّ: سواء مبتدا لأنّ الجملة لا تكون مبتدأ مردود فأن
المعنى سواء عليهم الاستغفار وعدمه، وبأنه كان يلزم عود ضمير إليه ولا ضمير يعود في هذا الباب كله اهـ. وما قيل من أنه لا يحتاج إلى رابط لأنّ الجملة عين المبتدأ قيل إنه لا وجه له لأنه مخصوص بضمير الشأن كما في كتب العربية وليس كذلك، فإنهم صرّحوا بسماعه في غيره كقوله تعالى {وَآيَةٌ لَّهُمْ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ} [يس: 37] وسيأتي فيه كلام في سورة يس إن شاء الله تعالى. قوله: (رفع بأنه خبر إنّ إلخ) هذا أحد الوجوه في مثل هذا التركيب وتقديمه يوذن بترجيحه.
وقد اعترض عليه أبو حيان بأنّ فيه وقوع الجملة فاعلاً والجمهور على أنّ الفاعل لا يكون إلاً اسماً مفردا، وستسمع ما يدفعه عن قريب ومن الناس من لم يتنبه له فجزم بوروده. وقوله في هذا الوجه مستو وفي الثاني سيان إشارة إلى أنّ حقه في الأوّل الإفراد وأن يؤوّل بمشتق، وفي الثاني التثنية إلا أنها تركت لأنه في الأصل لا يثنى ولا يجمع، ولذا قالوا إنّ العرب لم تثنه اسنغناء بثنية سيان عنه إلاً شذوذاً، وفي قول المصنف سيان إيماء إليه وهمزة سواء مبدلة من ياء وأصله سواي. قوله:(والفعل إنما يمتنع إلخ) شروع في دفع ما أورد على ما ذكر وهو أمور.
الأوّل أنّ الفعل لا يكون مخبراً عنه.
الثاني أنه مبطل لصدارة الإستفهام.
الثالث أنّ الهمزة وأم موضوعان لأحد الأمرين، وسواء وكل ما يدل على الاستواء لا
يسند إلاً إلى متعدد، فلذا يقال استوى وجوده وعدمه ولا يصح أن يقال أو عدمه.
ولذا اختار الرضي وجها رابعاً وقال الذي يظهر لي أنّ سواء في مثله خبر مبتدأ محذوف تقديره الأمران سواء ثم بين الأمرين بقوله أقمت أم قعدت كما في قوله {فَاصْبِرُوا أَوْ لَا تَصْبِرُوا سَوَاء عَلَيْكُمْ} [الطور: 6 ا] أي الأمران سواء عليكم، وسواء لا يثنى ولا يجمع وكأنه في الأصل مصدر اهـ. فقوله والفعل إلخ جواب عن الأوّل، ولو بدل الإخبار بالإسناد وقال: يمتنع الإسناد إليه كان أحسن ليدفع ما يرد على ما قبله أيضا لكنه خصه لأنّ الكلام فيه، وكون الفاعل مثله يعلم بالمقايسة أيضاً واليه يشير قوله بعد هذا والإسناد إليه وقيل عليه المخبر عنه الجملة لا الفعل وحده، واعتذر له بأن جعل الفعل مع فاعله المضمر فرلأتسمح شائع، ولا حاجة إليه لأنّ الاخباو في الحقيقة عن الفعل المقيد بالفاعل فهو قيد للمسند إليه لا جزء منه فإن قلت: على تقدير كون سواء خبراً كيف صح تقديمه مع التباسه بالفاعل قلت: قد صرّج النحاة بتخصيصه بالخبر الفعلي نحو زيد قام دون الصفة فإذا لم يمتنع في صريح الصفة فعدم امتناعه هنا أولى على كلام فيه سيأتي قي محله. وقوله: (تمام ما وضع له إلخ) تمام ما وضع له
هو الحدث والزمان، والنسبة إلى شيء مّا وهو الفاعل، وأمّا نفس الفاعل فلا يدلّ عليه وضعاً، فما قيل تمام ما وضع له مجموع ثلاثة أمور معنى المصدر وذات الفاعل وزمان مخصوص من الأزمنة الثلاثة غفلة عما حقق في الرسالة الوضعية وإطلاقه بمعنى استعماله وهو أعم من الوضع، والمراد بمطلق الحدث الحدث المجرّد عن الزمان لا الحدث الغير المنسوب إلى فاعل، فلا يرد عليه ما قيل من أنّ المراد في قوله تسمع بالمعيدي، وفي قوله يوم ينفع ليس مطلق السمع والنفع بل سماعك ونفع الصدق وهو وهم ظاهر، وإذا لم يرد تمام معناه فإمّا أن يراد جزؤه وهو مدلوله الضمني المشار إليه بقوله ضمناً أو معنى آخر لم يوضع له، وهو لفظه سواء جرد عن المعنى نحو زعموا مطية الكذب أو لا كما في {قُولُوا آمَنَّا} [البقرة: 136] فإنّ المراد هذا اللفظ المراد معناه، وكون اللفظ لم يوضعلنفسه كما هو ظاهر كلام المصنف أو وضع له بوضع غير قصدّي مشهور، وقد مرّ في آخر الفاتحة، والمراد من الوضع إذا أطلق القصديّ فلا يرد عليه شيء على هذا أيضاً، والاتساع كالتوسع المراد به التجوّز، وهو أعم منه لأنه ة د يتوسع في بعض الألفاظ بنحو تقديم وتأخير من غير تجوّز، وكون الفعل في الإضافة بمعنى المصدر صرّح به النحاة وهو مراد المصنف قال ابن السراج في كتاب الأصول: القياس أن لا يضاف اسم إلى فعل ولكن العرب اتسعت في بعض المواضمع، فخصت أسماء الزمان بالإضافة إلى الأفعال لأنّ الزمان مضارع للفعل، لأنّ الفعل
بني له وصارت إضافة الزمان له كإضافته إلى مصدره، ومما يدل عليه ما قرّره ابن جني في قول طرفة:
من سديف يوم هاح الضبر
(أقول) عدل المصنف رحمه الله عما في الكشاف من تصحيح الإسناد إلى الفعل بقوله
هو من جنس الكلام المهجور فيه جانب اللفظ إلى جانب المعنى، وقد وجدنا العرب يميلون في مواضع من كلامهم مع المعاني ميلَا بيناً من ذلك قولهم لا تثل السمك وتشرب اللبن معناه لا يكن منك كل السمك وشرب اللبن وإن كان ظاهر اللفظ على ما لا يصح من عطف الاسم على الفعل اهـ. وما في الكشاف هو المطابق للمنقول، والحق الحقيق بالقبول، وما ذكره المصئف لا وجه له لأنه أدّعى أنه استعمل فيه اللفظ في جزء معناه، وهو الحدث تجوّزا فلذا صح الاخبار عنه كما يجوز الإخبار عما يراد به مجرّد لفظه نحو ضرب ماض مفتوح الباء، وهو مما صرّحوا به لكن قوله إنّ نحو {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُواْ} [البقرة: 13] منه يقتضي أنّ كل مقول للقوق مما قصد به مجرّد لفظه، ساعا، وليس بصحيح فإنه أريد به معناه الموضوع له ولفظه إنما يدلّ على إرادة القول لا نفسه كما في المثال السابق ألا ترى قوله تعالى {قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ} [المنافقون: 1] فلو لم يرد معناه الخبري لم يكذبوا (وما قيل) أنّ فوله على الاتساع متعلق بإرادة مطلق الحدث، فإنها هي المبنية على التوسع والتجوّز لا إرادة اللفظ فإنها لا تجوّز فيها عند التفتازاني {لَا يُسْمِنُ وَلَا يُغْنِي مِن جُوعٍ} [الغاشية: 7] لمن له أدنى تدبر وكذا قوله إنّ الفعل المضاف إليه في قوله {يَوْمُ يَنفَعُ الصَّادِقِينَ} [المائدة: 119] جرد للحدث اتساعا، فإنّ ينفع أريد به نفع فيما يستقبل من يوم القيامة فكيف لا يدل على الزمان وادّعاء مثله مكابرة، ألا ترى قود {يَوْمَ وُلِدتُّ وَيَوْمَ أَمُوتُ} [مريم: 33] وقوله {وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنفُوشِ} [القارعة: 5] فإنها ناطقة بإرادة الزمان والذي ذكره القوم إنه نظر فيه إلى المصدر ولوحظ لا أنه خص به، وهو كالتغليب ولا يلزم من التأويل خروجه عن حقيقته كما سياتي، وهذا هو الميل مع المعنى ففي كلام المصنف خال ظاهر يصدق قولهم كم ترك الأول للآخر، والعجب أنه لم يتنبه له شراح هذأ الكتاب وقال قدّس سرّه: الفعل إذا نظر إلى لفظه واعتبر معناه على ما يقتضيه ظاهره امتنع الاخبار عنه لكن هجر ههنا مقتضى لفظه، وأول بمعنى مصدر مضاف إلى فاعله فصح الإخبار عنه، ولو أجرى لا تاكل السمك إلخ على ظاهره لزم عطف الاسم وهو تشرب المنصوب على الفعل بل المفرد على جملة لا محل لها، فهو من قبيل ما هجر فيه جانب لفظه إلى معناه من حيث أنه أوّل لا تأكل السمك بما فيه اسم يصلح أن يعطف عليه أن تشرب أي لا يكن منك أكل السماث وشرب اللبن لا من حيث أنه جعل في تأويل مصدر على حدّ قوله {؟ لأنذرتهم} إلخ فإنّ الفرق بين (فإن قيل) هذه الواو بمعنى مع إذ المنهيّ هو الجمع فلو جعل ما بعدها مفعولاً معه كما في ما صنعت، وأباك استغنى عن التأويل.
(قلنا) بل يحتاج إليه لأنّ ما بعد الواو لا يصلح لمصاحبة معمول لا تأكل بل لمصاحبة معمول فعل يمال إليه أي لا يكن منك أكل السمك مع شرب اللبن يعني أنه نظر إلى المصدر في الآية، وفي لا تأكل إلخ وإن كان بينهما بون، فإن ما نحن فيه تركت فيه الحقيقة من كل وجه وفي ذاك الجملة باقية على حالها مستعملة في معناها، لكن هجر الأصل نظرا إلى العطف لا إلى نفسها كما في الكشف، وهذا مما اتفق عليه الشرّاح وما ذكره من السؤال وجوابه مما سبقه إليه الفاضل المحقق وهو مخالف لما حققه الرضي في بحث الحروف حيث قال تبعا لما في ضوء المصباح: لما قصدوا معنى الجمعية فيما بعد واو الصرف نصبوا المضارع بعدها، ليكون الصرف عن سنن الكلام المتقدّم مرشدا من أوّل الأمر إلى أنها ليست للعطف، فهي إذن إما واو الحال وأكثر دخولها على الاسمية، فالمضارع بعدها في تقدير مبتدأ محذوف الخبر، وإمّا بمعنى مع، وهي لا تدخل إلا على الاسم فقصدوا ههنا مصاحبة الفعل للفعل فنصبوا ما بعدها ولو جعلنا الواو عاطفة للمصدر على ملكمدر متصيده من الفعل قبله كما قاله النحاة لم
يكن فيه نصوصية على معنى الجمع، وكون واو العطف للجمعية قليل نحو كل رجل وضيعته، والأولى في قصد النصوصية في شيء على معنى أن يجعل على وجه يكون ظاهراً فيما قصد النصوصية عليه اهـ والثقة بالفاضلين تأبى غفلتهما عما قاله نجم الأئمة نوّر الله مثواه، فكأنهما لم يرتضياه لأنّ ما قرّره النحاة
في باب المفعول معه ينافيه بحسب الظاهر، وليس هذا محل تفصيله ثم إنّ ما ذكره المصنف أيضاً يرد عليه إنّ ما ذكره من التجوّز في الفعل بإرادة جزء معناه، وهو الحدث لا يتأتى فيما إذا كان المعاد لأن بعد همزة التسوية أو أحدهما جملة اسمية كما في قوله {سَوَاء عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنتُمْ صَامِتُونَ} [الأعراف: 193] لكته يدخل في الميل مع المعنى، وقد نقل ابن جني في إعراب الحماسة عن أبي علي رحمه الله أنه قال: الجملة المركبة من المبتدأ والخبر تقع موقع الفعل المنصوب بأن إذا انتصب وانصرف القول به، والرأي فيه إلى مذهب المصدر كقوله تعالى {هَل لَّكُم مِّن مَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُم مِّن شُرَكَاء فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنتُمْ فِيهِ سَوَاء} [الروم: 28] (ووجدت أن في التنزيل) موضعاً لم يذكره، وهو قوله تعالى {أَعِندَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرَى} [النجم 35] أي فيرى ألا ترى أنّ الفاء جواب الإستفهام وهي تصرف الفعل بعدها إلى الانتصاب بأن مضمرة، وأن والفعل المنه صوب مصدر لا محالة، حتى كأنه قال أعنده غلم الغيب فرؤيته كما أنّ قوله تعالى {فَأَنتُمْ فِيهِ سَوَاء} [الروم: 28] في معنى هل بينكم شركة فاستواء هذا وجه السماع اهـ وهذا من نفيس الفوائد وستأتي تتمته في محله إن شاء الله تعالى. قوله: (تسمع بالمعيدي خير من أن تراه) فتسمع فيه بمعنى السماع على ما مرّ، وهو مبتدأ وخير خبر وما قالوه هنا إنما يتاتى على رفع تسمع من غير تقدير أن المصدرية فيه وهو رواية، وفيه روايات أخر نصب تسمع بأن مقدرة فيه.
وفي شرح الفصيح روي لا أن تراه وكان الكساتي يقول أن تسمع ويدخل فيه أن والعامّة
لا تدجلها وقال أبو عبيد: حذف أن أشهر، ويقولون تسمع بالرفع والنصب.
وقال الأستاذ: ليس فيه إسناد إلى الفعل كما ظنه بعضهم مستدلاً به وبقوله تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ يريكم البرق} [الروم: 24] وقول الشاعر:
وحق لمثلي يا بثينة يجزع
جعله مسندا إليه مبتدأ ونائب فاعل وهو فاسد لأنّ الفعل وضع لأن يخبر به لا عنه وما ذكروه أن مقدرة فيه، فهو اسم وقال الفرّاء تسمع بالمعيدي لا أن تراه لغة بني أسد وهي العليا وقيس تقول لأن تسمع بالمعيدي إلخ والمعيدي قال الكسائي تصغير معدي منسوب إلى معد بالتشديد وكان يروى المعيديّ بالتشديد ولم يسمع من غيره وقال سيبويه: خفف لكثرة دوره ولو حقر معدفي في غير المثل شدد، والمثل يضرب لمن تراه حقيراً وقدره خطير وخبره أجل من مرآه وأوّل من قاله النعمان بن المنذر، وقيل المنذر بن ماء السماء والمعيدي رجل من بني
فهد، وقيل من بني كنانة واختلفط في اسمه فقيل صقعب بن عمرو، وقيل شقة بن ضمرة، وقيل ضمرة التميي، وكان صغير الجثة عظيم الهيئة، ولما قيل له ذلك قال أبيت اللعن إن الرجال ليسوا بجزر يراد بها الأجسام، وإنما المرء بأصغريه وقال الميداني: عدي تسمع بالباء لتضمته معنى تحدّث، وظاهر كلامهم أنه يعدّي بها حقيقة وقال قدس سرّه في بعض كتبه الفعل كضرب يشتمل على حدث، ونسبة مخصوصة بينه وبين فاعله، وتلك النسبة ملحوظة بينهما على أنها ا-لة لملاحظتهما على قياس معنى الحرف، فلا يصح أن يحكم عليه بشيء ولا أن يحكم به نعم جزؤه، وهو الحدث مأخوذ من مفهوم الفعل على أنه مسند إلى شيء آخر، فصار الفعل باعتبار جزئه محكوما به وأمّا باعتبار مجموع معناه فلا يكون محكوماً عليه ولا به أصلَا اهـ.
وفيه بحث لا يخفى، وهو لا ينافي قول العلامة الفعل أبداً خبر فتدبر. قوله: (وإنما عدل
هنا إلخ) جواب عن سؤال تقديره إذا صح الإسناد إليه لتجرده لمعنى الحدث وكونه بمعنى المصدر قيل، فلم لم يؤت بالمصدر على الأصل والحقيقة، فقال عدل عنه لنكتة ومعنى وسبب العدول وجه واحد وهو إيهام التجدد أو وجهان معنويّ، وهو المذكور ولفظيّ وهو حسن دخول الهمزة وأم لأنّ الإستفهام بالفعل أولى وقد اختار الثاني كثير من أوباب الحواشي بناء على أنّ قول المصئف رحمه الله وحسن دخول الهمزة حسن فيه اسم مجرور لعطفه على مجرور من قبله، وهو إيهام التجدّد، وفيه احتمالان آخران كما سيأتي بناء على أنّ السبب واحد وهو المطابق لما قاله الإمام، فإنه الذي أبدى هذه النكتة فقال في جواب السؤال معناه سواء عليك إنذارك لهم وعدمه بعد ذلك لأنّ القوم كانوا بالغوا في الإصرار واللجاج والإعراض عن الآيات والدلائل إلى حالة ما بقي فيهم البتة رجاء القبول بوجه وقبل ذلك ما كانوا كذلك، ولو قال إنذارك وعدم إنذارك لما أفاد أنّ هذا المعنى إنما حصل في هذا الوقت دون ما قبله، ولما قال " نذرتهم إلخ أفاد أنّ هذه الحالة إنما حصلت في هذا الوقت فكان
ذلك يفيد حصول اليأس وقطع الرجاء منهم والمقصود من هذه الآية ذلك اهـ. فإن قلت: التجدّد له معنيانا مطلق الحدوث، وهو الموجود في كل ماضمياً كان أو غير. لأنّ المفيد له مقارنة الزمان والحدوث في المستقبل مطلقاً، وهو الاستمرار التجذدي ويختص بالمضارع والأوّل محقق والثاني لا وجود له رأساً فما الذي أراده المصنف قلت: قيل أراد الأوّل والفعل إنما يدلّ عليه إذا بقي على أصل معناه أمّا إذا جرّد عن الزمان للحدث كما هو هنا، فلم يتحقق فيه ذلك وإنما يتوهم نظر الظاهر الصيغة، وقيل المراد الثاني لأنّ الماضي بمعنى المضارع بقرينة قوله لا يؤمنون لكنه نظر إلى ظاهر الصيغة، فذكر الإيهام والأوّل أوفق بالمقام وكلام المصئف، والثاني مناسب للاقتداء بالإمام إلاً أنه لا يحلو من شيء لأنّ القول بأنه بمعنى المضارع مع القول بتجرّده للحدث جمع بين الضب والنون، فإن قلت ما وجه إيهام التجدّد هنا، قلت الدلالة على أنه أحدث ذلك،
وأوجده فادّى الأمانة وبلغ الرسالة وإنما لم يؤمنوا لسبق الشضاء، ودرك القضاء لا لتقصيرء "، فهو وإن أفاد اليأس فيه تسلية للنبيّ عليه الصلاة والسلام أيضا فلا يخفى ما فيه من الفوائد السنية. قوله:(وحسن دخول الهمزة وأم إلخ) حسن بفتح الحاء وضم السين ماض أو بضم الحاء وسكون السين اسبم مجرور كما تقدم أو مرفوع بالابتداء والجار والمجرور خبره وعلى الأوّل هو متعلق بحسن أو بدخول وعلى الثاني بحسن أو بقوله لتقرير، وكلام الإمام الذي هو مأخذه يبعد الأوّل وخير الأمور أوسطها والتقرير التحقيق والتئبيت، وهو قريب من التوكيد فهو كالتفسير له، وإنما عدل المصنف رحمه الله عن تقرير الاستواء الأخصر الأظهر إلى قوله تقرير معنى الاستواء، لأنه أراد به مجرّد مفهومه بقطع النظر عن الذهن والخارج، لأنه المتبادر من المعنى لأنه مطلق المفهوم وهو المراد بقوله أوّلاً اسم بمعنى الاستواء، فأعاد المعرفة برمّتها ليدلّ على أنها عينها ولا يصح أن يريد به مدلول سواء هنا لأنهما متغايران ومقتض التغاير التأسيس فتأكيده لما في ضمنها من المطلق، وما قيل من أنّ إقحام معنى لأنّ أصل معنى الاستواء قد حصل في علم المستفهم الذي قدر منه أن يستفهم بقوله {؟ لانذرتهم أم لا} لا معنى له أصلاً وبتقرير التقرير سقط ما قيل إنه ظاهر على تقدير الفاعلية، وأمّ على الابتداء فالوجه أنه لما تاخر المبتدأ لفظاً فذكر ما تضمنه الخبر المتقدم مع المبتدأ المتأخر لا يجعل الخبر لغواً بل مقرّواً ومؤكدا، وظن بعضهم أنّ ما ذكره المصنف رحمه الله عين ما في شروح الكشاف، وليس كذلك لأنّ الاستواء المستفاد من أم والهمزة عندهم غير ما يستفاد من سواء، فلا تأكيد ولا تقرير على تقريرهم اهـ. قوله:(فإنهما جرّدتا عن معنى الإستفهام إلخ) كلام المصنف رحمه الله هنا منتخب مما نقله الزمخشريّ عن سيبويه رحمه الله، وما على الرسول إلاً البلاغ، وعبارة سيبويه في باب ترجمته باب ما جرى على حرف النداء وصفاً له، وليس بمنادى يعني الاختضاص قال: أجري هذا على حرف النداء كما أنّ التسوية أجرت ما ليس باستخبار ولا اسنفهام على حرف الإستفهام، لأنك تسوّي فيه كما تسوي في الإستفهام، وذلك قولك ما أدري أفعل أم لم يفعل فجرى هذا كقولك أزيد عندك أم عمرو إذا استفهمت لأنّ علمك قد استوى فيهما، كما استوى عليك الأمرإن في الأوّل فهذا نظير الذي جرى على حرف النداء اهـ. قال السيرافيّ: يعني بحرف النداء أيها لأنها لا تستعمل إلاً في النداء وليس هنا بمنادى ولا يجوز دخول حرف النداء عليه، ولكنه استعمل للتخصيص لأنك تخص المنادي من بين من يحضرك بامرك ونهيك وغير ذلك، فاستعير لفظ أحدهما للآخر حيث شاركه في الاختصاص كما جعل حرف الاسنفهام لما ليس باستفهام لما اشتركا في التسوية إلخ. وكذا قال أبو عليّ؟ كما رأيناه في تأليفه وزبدة س مخصة الإفهام أنّ أم المعادلة للهمزة حقيقتها هنا الاستفهام عن أحد أمرين، فمعنى أكان كذا أم كذا أيّ الأمرين كان، ولا يستفهم عنهما إلاً من تصوّرهما فقد استويا في علمه واستوت أقدامهما على سطح فهمه من غير تقديم رجل على أخرى، وهذا مما
يلزم الإستفهام لزوما بيناً فلما لم يرد بهمزة التسوية ومعادلها حقيقتهما من الإستفهام تجوّز بهما عن معنى الواو العاطفة الدالة على اجتماع متعاطفيها في نسبة مّا من غير دلالة على تقدّم أو تأخر، وهذا مراد سيبويه بالتساوي والمعادلة، كما أشار إليه السيرافي
في شرحه ومثل هذا المعنى وان كان مرادا ولازما إلاً أنه لا يلاحظ في عنوان الموضوع بعد السبك كما لا يلاحظ معنى العاطف، فلا يقال في الترجمة هنا إلاً الإنذار وعدمه سواء من غير نظر إلى التساوي حتى يقال إنه إذا كان تقدير المبتدأ المتساويان يلغو حمل سواء عليه كما لغا سيد الجارية مالكها، فيدفع بأنّ التساوي فيه تساو في علم المستفهم وتساوي المحكوم به في عدم الفائدة في الخارج كما قالوا، ولو. كان ما ذكر لهذا لم يصح ذكره في نحو ما أدري وما أبالي أقمت أم قعدت ولا حمل فيه لسواء، وقد حام حول الحمى المولى الفناري فيما قاله من أنّ التجريد لمعنى الاستواء، لحديث اللغوية على ما يفهم من ظاهر قول المصنف أنه مقرّر، ومؤكد وفيه أنه لا يحصل المقصود بدون الحكم به فإنّ قوله {؟ لأنلرتهم أم لم تنذرهم} بدون سواء لا يفهم منه حقيقته، وما فهمه الشراح من الكشاف أنّ الاستواء الذي تضمنه الهمزة وأم استواء في علم المستفهم وما بعده في نفس الأمر، فالمعنى الإنذاو، وعدمه المستويان في علم المستفهم مستويان في نفس الأمر كما ذكره الرازي، وقال التفتازاني: معناه المستويان في علم المستفهم مستويان في عدم الفائدة، وقال الجمال الأقسراني: إنّ هذا كله تكلف لا يلائمه المقام إذ لا وجه للتعرّض لعلم المستفهم فضلاً عن التعرّض لاستواء الأمرين فيه وإنما الكلام في أنّ الهمزة وأم لما انسلخا عن معنى الإستفهام عن أحد الأمرين، وكانا مستويين في علم المستفهم جعلا مستويين في تعلق الحكم بكليهما، فانتقل قوله أأنذرتهم إلخ عن أن يكون المقصود أحدهما إلى أن يكون المراد كليهما، وهذا معنى الاستواء الموجود فيه فالحكم بالاسنواء في عدم النفع لم يحصل إلا من قوله {سَوَاء عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ} وظفرت بمثله عن أبي عليّ الفارسي اهـ.
وقال قدس سرّه: إن صاحب الكشاف أراد أنّ هذا معناهما في أصلهما ليظهر تضمنهما للاسنواء فيصح الحكم بتجريدهما لا أنّ الاستواء في علم المستفهم مقصود هنا كيف، وهما بعد التجريد لم يقعا في كلام مستفهم، وقيل أراد به أنّ الاستواء الذي جرّدتا له استواؤهما في علم المستفهم عند استعمالهما في الإستفهام وهنا قد ذهب، وبقي الاستواء في العلم وهذا أقرب إلى الحقيقة وأليق بقولهم جرّدتا لمعنى الاستواء منسلخاً عنهما الإستفهام لاقتضائه أنّ المراد بالاستواء هو الذي كان والاً لم يكن تجريداً، والمستفاد من سواء الاستواء فيما سيق الكلام له كأنه قيل المستوياظ في علمك مستويان في عدم الجدوى، وهذا معنى ما نقل عن المصنف ومحصوله من أنّ هنا سؤالاً مقدرا وقع هذا عقبه فلأشير إلى الاستواء في علم ذلك المستفهم كأنه سال ربه لأنذرتهم أم لا، وعن أبي عليّ رحمه الله أنّ الفعلين مع الحرفين في تأويل اسمين معطوفين بالواو وهما الواقعان موقع الفاعل أو المبتدأ، ثم اختار أنّ سواء خبر
مبتدأ محذوف أي الأمران سواء عليّ ثم بينهما بقوله أقمت أم قعدت، والفعلان في مة ضى الشرط والاسمية قبله دالة على جوابه أي إن قمت أو قعدت فالأمران سواء.
ولذا كان الماضي في معنى المستقبل لتضمن معنى الشرط، واستهجن الأخفش كما في الحجة أن يقع بعدهما جملة ابتدائية ولولا تقدم الفعلية في قوله تعالى {سَوَاء عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنتُمْ صَامِتُونَ} [الأعراف: 193] لم يجز واستقبح المضارع بعدهما أيضا ويؤيده أنه في التنزيل ماض، وإنما أفادت الهمزة الشرط لأن ان في المفروض! في الأغلب والإستفهام يستعمل فيما لم يتيقن فقامت مقامهما، ولذا جعلت أم بمعنى أو لأنها مثلها في إفادة أحد الشيئين ط ومما يرشد إلى أنّ سواء في مقام جواب ال! شرط لا خبر أنّ معنى سواء أقمت أم قعدت ولا أبالي معنى واحد وليس خبراً فيه ب! ، بمعنى إن قمت أو قعدت لا أبالي بهما وكذا قوله:
سيان عندي إن برّوا وإن فجروا ~ فليس يجري على أمثالهم قلم
وانما اختصت الهمزة وأم في التسوية بما بعد سواء وما أبالي وما يجري مجراهما، لأنّ المراد التسوية في الشرط بين أمرين، فاشترط فيما يقع خبرا أن يشتمل على معنى الاستواء قضاء لحق المناسبة ولذا وجب تكرير الشرط وعلى هذا الجملة الشرطية خبر إنّ اهـ.
(أقول) قد عرفت المراد بالتسوية هنا على وجه يزيل هذه التكلفات، وأنّ قولهم التجريد يوهم أنه مجاز مرسل استعمل فيه الكل في جزئه، وهو
إمّا استعارة أو مستعمل في لازم معناه فرية بلا مرية، وما ذكر من السؤال لا وجه له خصوصا والسورة مدنية وهو صقى الله عليه وسلم قد أمر بالتبليغ قبل الهجرة فكيف يتأتى السؤال، وما نقل عن أبي عليّ صرّح في القصريات بخلافه وقال إنه لا يجوز العطف بأو بعدها حتى قال في المغني إنه من لحن الفقهاء وقال السيرافي في شرح الكتاب سواء إذا دخلت بعدها ألف الإستفهام لزمت أم كقولك سواء عليّ أقمت أم قعدث فإذا عطف بعدها أحد اسمين على آخر عطف بالواو لا غير نحو سواء عندي زيد وعمرو، فإذا كان بعدها فعلان بغير اسنفهام عطف أحدهما على الآخر بأو كقولك سواء عليّ قمت أو قعدت، فإن كان بعدها مصدران نحو سواء عليّ قيامك وقعودك فلك العطف بالواو وبأو وإنما دخلت في الفعلين بغير استفهام لما فيهما من معنى المجازاة فإذا قلت سواء عليّ قمت أو قعدت، ثتقديره إن قمت أو قعدت فهما عليّ سواء اهـ، وهذا مخالف لما نقل عن أبي عليّ رحمه الله، وقوله واستهجن الأخفش إلخ يعارضه قول السيرافي أيضاً البدء بالفعل ههنا أحسن وقد يعادل بالفعلى والفاعل المبتدأ والخبر لاستواء المعنى في ذلك كقوله تعالى {سَوَاء عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنتُمْ صَامِتُونَ} [الأعراف: 193] وان شئت قلت سواء عليكم أنتم داعون لهم أم أنتم صامتون عنهم وسواء عليكم أهم مدعوّون لكم أم هم
متروكون اهـ وما ذكر. من العطف بأو يأباه تصريحهم بخلافه، وأنّ معنى الشرط إنما يلاحظ إذا لم يكن استفهام وما ذكره من البيت لا حجة فيه، لأنه كما صرّح به في أواخر شرح الكافية لابن سينا وكلام مثله لا يستأنس به فضلاً عن أن يحتج به، وهو في الحقيقة له من قصيدة أوّلها:
يا ربع نكرك الأحداث والقدم ~ فصار عينك كالآثار تتهم
قوله (كما جرّدت حروف النداء عن الطلب إلخ) المراد بالطلب طلب إقبال المنادى، لأنّ
النداء إنشاء إذ ليس المراد إخبار المتكلم بأنه ينادي وأنث جرّدت لتأنيث الجمع، وهو حروف جمع حرف وفي نسخة حرف بالإفراد فيقرأ جرّدت بتاء الفاعل المخاطب، وهذه وان كانت أقل فهي أقعد، والمراد بحرف النداء أيها لأنها لا تستعمل إلاً في النداء فالحرف بيمعنى الكلمة، وآثر المصنف هذه العبارة تبرّكا لأنها عبارة سيبويه والمتقدمين، فجمعها باعتبار أفرادها، وأيتها بضم التاء مؤنث أيّ وهي يجوز تأنيثها إذا وصفت بمؤنث كقوله تعالى {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ} [الفجر: 27] وقد كان منادى مبنيا وها بعده حرف تنبيه ويلزم وصفه بمعرّف بأل أو بموصول أو اسم إشارة كما ذكر النحاة ويلزم رفع صفتها، كما في النداء لأن منقول منه إلى الاختصاص ومجموع أيتها العصابة في محل نصب لوقوعه موقع الحال أي مختصا من بين الرجال والطوائف ونحوه، مما يقتضيه لفظه والعصابة صفته ومعناه طائفة من الناس، وقيل هو من العشرة إلى الأربعين كالعصبة ويختص بالرجال، وجمعه عصب كغرفة وغرف والاختصاص والتخصيص لغة الانفراد والإفراد، وفي اصطلاج النحاة قصد المتكلم بعد ضمير ونحوه إلى ذكر اسم ليخصه بحكم ينسبه إليه فيأتي به على صورة المنادى مجرياً عليه أحكامه إلا ذكر حرفه لما بينهما من المناسبة إذ المنادى يختص بالخطاب من بين أمثاله، فنقل من الاختصاص بالخطاب إلى الاختصاص بالحكم كما نقلت الهمزة وأم من الإستفهام إلى التسوية كما مرّ والمراد بالتخصيص الاختصاص في الإثبات والذكر، وهو أعمّ من الحصر، فما قيل من أنّ استعمال النداء في الاختصاص محل خفاء بناء على أنه فهم منه الحصر ليس بشيء. (واعلم) أنّ على هنا باعتبار أصل معناه لأنه يتعذى بعلى فيقال استوى على الأرض قال تعالى {اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [الأعراف: 45] وقيل: إنها بمعنى عند وفي المغني على تجيء للظرفية، ولذا فسره في اللباب: بمستو عندهم وقيل على هنا للمضرّة كدعا عليه، وليس بشيء لأنّ سواء استعمل مع على مطلقاً فتقول مودّني دائمة سواء عليّ أزرت أم لم تزر، وبما مرّ علم أنه ليس في قوله حرف النداء خلل كما قيل: إنه غير مطابق لنفس الأمر لأنّ باب الاختصاص لم تجرّد فيه حروف النداء بل لا وجود لحرف النداء فيه أصلَا لا لفظا ولا تقديراً كما اتفق النحاة عليه، وعبارة الكشاف في غاية الحسن لسلامتها مما ذكر، وقد تؤوّل العبارة على أنه أراد بالحروف الكلمات الجارية في الاختصاص، وهي الأسماء التي على صورة
المنادى لا الحروف التي هي يا وأخواتها
اهـ. قوله: (والإنذار التخويف الخ) كون معناه لغة التخويف قول هشهور، وقيل معناه فيها الإبلاغ قال في المصباح وأنذرت الرجل كذا إنذارا أبلغته يتعدّى إلى مفعولين، وكثر ما يستعمل في التخويف وأمّا استعماله في القرآن بمعنى التخويف من عذاب الله، فإمّا أن يجعل منقولاً من العذاب أو بطريق النقل والتخصيص في عرف الشرع أو لأنه في تأويل مصدر معرّف بتعريف عهديّ، وقيل إنه من استعمال المطلق في بعض أفراده مجازاً، وقال ابن عطية رحمه الله: لا يكاد يكون الآ في زمان يسع الاحتراز فإن لم يسعه فهو إشعار لا إنذار، والمفعول الثاني هنا محذوف تقديره " نذرتهم العذاب أم لم تنذرهم إياه والأحسن أن لا يقدر له مفعول ليعمّ كما في الدرّ المصون وغيره، فقوله من عذاب الله كما مرّ إشارة للمفعول أو التأويل والأوّل أقرب وأولى. وقوله:(اقتصر إلخ) قيل مراده محتمل لعدم ذكر البشارة بطريق الاقتصار عليها أو بالاشتراك بأن يذكرا معاً لأنها تفهم بطريق دلالة النص، لأنّ الإنذار أوقع وأولى كما أشار إليه المصنف فاندفع ما قيل من أنّ هذه النكتة لا تفيد ترك الجمع، فالوجه أن يقال الكافر ليسى أهلاً للبشارة فتأمّل. قوله:(وقرىء لأنذرتهم إلخ) قالوا تحقيق الهمزتين لغة تميم، فلا عبرة بمن أنكرها، وتخفيف الثانية بين بين لغة الحجاز وكذا إدخال الألف بين الهمزتين تحقيقاً وتسهيلاً كقوله:
فياظبية الوعساء بين حلاحل وبين النقاآ أنت أم أمّ سالم
وروي عن ورس إبدال الثانية ألفاً محضة فقال الزمخشريّ وتبعه المصنف: إنها لحن لأنّ الهمزة المتحرّكة لا تبدل ألفا ولأنه يؤذي إلى جمع الساكنين على غير حده، وهو خطا لثبوتها تواتراً في القراءات السبعة كما ذكرناه وما طعنوا به ليس بشيء لأنه وود عن فصحاء العرب إبدال الهمزة المتحرّكة وان كان أقل من إبدال الساكنة كما في قوله لا هناك المرتع وقوله: سألت هذيل رسول الله فاحشة
والتقاء الساكنين على حده في اصطلاج أهل العربية، والأداء أن يكون الأوّل حرف لين والثاني مدغماً نحو الضالين وخويصة ثم خصوا الوقف بجواز التقائهما مطلقا لكونه عارضا فتلخص من كلامهم أنه لا يجمع بين ساكنين وصلا في غير ما ذكر، وإنما اغتفر في الإدغام لعروضه ولأنّ المدغم والمدغم فيه كحرف واحد، فكأنه متحرّك وضمير على حدّة للجمع، والحد بمعنى حكمه الذي لا يتعداه ويجوزه جوازا، كما في قوله وأجدر {أَلَاّ يَعْلَمُواْ حُدُودَ مَا أَنزَلَ اللهُ} [التوبة: 97] أي أحكامه اللائقة به.
وأجيب عن التقاء الساكنين بأنّ من قلبها ألفاً أشبع مد الألف بزيادة ألف أو ألفين ليكون
ذلك فاصلاً بين الساكنين، كما ذكروه في قراءة محياي بسكون الياء وصلا وهذا مما اتفق عليه القرّاء، وقالوا التخلمى من التقاء الساكنين إذا كان على غير حده بالتحريك أو الحذف أو زيادة ألف في المد، ولا يخلو من إشكال وان سلموه لهم هنا لأنّ الألف المزيدة ساكنة أيضاً، فكيف يتخلص بها من التقاء الساكنين وقد زيد ساكن ثالث.
وقال أبو حيان القراءة المتواترة لا تدفع ببعض المذاهب وكون حد التقاء الساكنين ما مرّ مذهب البصريين ولا يجب اتباعه مع أنه في المطرد المقيس، وكلام الله مما يقاس عليه لا مما يقاس على غيره، فإذا جاء نهر الله بطل نهر معقل على أنه عارض، والأصل أنه لا يعتدّ به، ثم إنّ هذه القراءة من قبيل الأداء ورواية البغداديين عن ورش التسهيل بين بين على القياس فليس الطعن فيها طعناً في القرآن المتواتر بل في كيفيته أو في روايته على أنه لا يبالي بذلك وما ذكره المصنف رحمه الله أحسن من قوله في الكشاف: وقرىء بتحقيق الهمزتين والتخفيف أعرب، وأكثر أي أدخل في العربية وأفصح والشرّاح على أنّ هذه جملة معترضة بين المتعاطفين قدمت اهتماما وأصلها التأخير قيل وهو مبنيّ على أنّ التخفيف بمعنى جعلها بين بين، وليس هذا مراده بل مراده التخفيف بإسقاط إحداهما، فمرتبته بعد التخفيف كما يشهد به الذوق، وليس بشيء لأنّ الحذف شأتي في عبارته أيضا والتأخير لا يدفع التكرير، ولو قيل التخفيف المراد به هنا أعمّ من الحذف والتسهيل بين بين على أنّ ما بعده تحقيق للتخفيف، وتفصيل له كان أحسن فتأمّل. قوله:(بين بين) ظرف مكان مبهم وهما اسمان ركبا وبنيا على الفتح كخمسة عشر وجعلا اسما واحداً بتقدير بين التخفيف والإبدال أو بين الهمزة والهاء. وقوله: (وبحذف
الاستفهامية إلخ) في الكشاف وبحذف حرف الإستفهام وبحذفه، والقاء حركته على الساكن قبله كما قرىء {قَدْ أَفْلَحَ} اهـ 0 وتبعه المصنف رحمه الله، وقد أشكل على شرّاحه بأسرهم.
قال قدس سرّه هذه القراءة والتي بعدها من الشواذ والباقية متواترة، وأنما جعل المحذوف همزة الإستفهام، لكثرة حذفها كما في قوله:
بسبع رمين الجمر أم بثمان
دون حذف همزة الأفعال في الماضي والظاهر أنّ الضمير في قوله حركته راجع إلى حرف الإستفهام المحذوف، فالقراءة بفتح الميم والهمزة معاً، وهي مع كونها غير مروية عن أحد مخالفة للقياس موجبة للثقل، فلذا قيل الضمير راجع للحرف الذي بعد حرف الاستفهام، فالقراءة عليهم نذرتهم بلا همزة أصلاً وبشهد له قوله {قَدْ أَفْلَحَ} [المؤمنين: ا] اهـ. وقد اختلف الناس بعدهم إلى مسلم ومجيب كما قيل إنّ أبا شامة نقل عن ابن مهران أنّ للقرّاء في الهمزة بعد ميم الجمع ثلاثة مذاهب.
الأول نقل حركتها للميم مطلقا فتحة كانت أو ضمة أو كسرة.
والثاني ضمها مطلقا لأنه حركتها الأصلية.
والثالث نقل الضمة والكسرة دون الفتحة فقولهم غير مروية عن أحد مندفع. وفي شرح الشاطبية أنّ لحمزة في الهمزة بعد ميم الجمع وجوها منها النقل، وقد قرأ أأنذرتهم ونحوه بنقل الأولى وتسهيل الثانية فلك أن تحمل هذه العبارة على ظاهرها مرت غير ارتكاب تعسف أو شذوذ غايته أنهم تركوا التصريح بالتسهيل وهو سهل فتدبر. قوله:(جملة مفسرة إلخ) الجارّ والمجرور أعني لإجمال متعلق بقوله مفسرة وهو الظاهر وقيل إنه مستقرّ أي مسوقة لإجمال إلخ والإجمال لغة الإتيان بجملة الشيء من غير تفصيل، ويكون بمعيى فعل الجميل كما في قول المتنبي:
إنا لفي زمن ترك القبيح به من أكثر الناس إحسان واجمال
والمفسرة جملة مبينة لجملة سابقة أو لبعض مفرداتها ولا محل لها من الإعرإب على
القول المشهور بين النحاة قيل: هذا بالنظر إلى مفهوم اللفظ مع قطع النظر عن أنه إخبار عن الكفار المصرّين فإنه حينئذ لا يبقى إجمال والعجب من بعض شرّاج الكشاف إذ ذهب إلى أنّ لها محلاً من الإعراب، وليس بشيء لأنّ كفرهم وعدم نفع الإنذار في الماضي بحسب الظاهر مسكوت فيه عن الاستمرار والدوام وقوله {لَا يُؤْمِنُونَ} دال عليه ومبين له وأما كون الجملة المفسرة لها محل من الإعراب الذي عده من العجب فهو من العجب لأنه مذهب الشلويين كما في المغني لاً نها عنده عطف بيان، ولذا قال قدس سرّه: لها محل من الإعراب إذا جعلت بيانا للجملة وأجريت مجرى التوابع، ومعنى استواء الإنذار وعدمه في؟ عدم النفع أنهم لا يتصوّر منهم إيمان أبدا والمراد بالمحل أنه لو حل محلها اسم مفرد أعرب بذلك الإعراب. قوله:(أو حال موّكدة إلخ) الحال المؤكدة عندهم إذا أطلقت فالمراد بها نحو زيد أبوك عطوفا، وقد اشترط النحاة فيها الوقوع بعد جملة اسمية طرفاها معرفتان جامدان وعاملها محذوف أبدا، وقد يرإد بها ما يؤكد شيئا مّا قبله، وهو المراد ومن توهم أنّ المراد الأوّل فقد خبط خبط عشواء، وصاحب الحال الضمير في عليهم أو أنذرتهم والبدل إمّا بدل اشتمال لاشتمال عدم نفع ما مز على عدم الإيمان أو بدل كل من كل لأنه عيته بحسب المآل.
وقال أبو حيان: {لَا يُؤْمِنُونَ} له محل من الإعراب خبر بعد خبر أو خبر مبتدأ محذوف
أي هم لا يؤمنون، وقد جوّز فيه أن يكون حالاً وهو بعيد، ويحتمل أن لا يكون له محل على أنّ الجملة تفسيرية أو دعائية وهو بعيد، وما قيل من أنّ عبارة الكشاف إما أن يكون جملة مؤكدة للجملة قبلها أو خبر الآن ولم يذكر الحالية وكلام المصنف منسوح على منواله، فكأنّ
النساخ حرفوا الجملة بالحال تركه أولى من ذكره. قوله: (أو خبر إق والجملة إلخ) في الكشف كونه جملة مؤكدة أولى من المقابل سواء جعل لا يؤمنون تاكيداً كما ذكره أو بيانا لعدم الاجداء المقصود من الكلام، لأن جعل سواء الجملة اعتراضاً، وان حسن فيه أنّ من حق الاعتراض أن يساق مساق التأكيد لما عسى يختلج في وهم، وأن يتم المقصود دونه لفظاً ومعنى ولا كذلك ما نحن فيه لأنه أقوى في الإبانة عما سيق له الكلام من قوله {لَا يُؤْمِنُونَ} على ما لا يخفى وأمّا جعل لا يؤمنون خبرا بعد خبر أو حالاً مؤكدة، فلا يخفى ما فيه من فوت فخامة المعنى وتبعه قذس سرّه هنا وارتضى ما ارتضاه يعني أنّ جملة التسوية أدل على ما قصد من النظم في السباق بالموحدة، وهو أنّ المؤمنين
بما جاء به، وبما أنزل إليه وأنزل من قبله هم المهديون الفائزون بخير الدارين، وحق هؤلاء أن يقابلوا بكفار مصرين إنذار الرسل والكتب، سواء لديهم والعدم وكذا سياق ما بعده من ختم المشاعر، وتغطية البصائر إنما يأخذ بحجزه عدم الانتفاع بالآيات والنذر على ما لا يخفى، وأمّا ما قيل عليه من أنه أراد بما سيق له الكلام وصف الكتاب بما هو شأنه فكما أنّ في الحكم بالاستواء إدماجا لوصف الكتاب بأنه لا يجدي، فكذا هو في قوله {لَا يُؤْمِنُونَ} فهما متساويان والثانية أبين دلالة على المراد فهو أظهر وأقوى، وجعله ركناً من الكلام أوجه وأولى، وان أراد به عدم نفع الدعوة كقوله تعالى {سَوَاء عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنتُمْ صَامِتُونَ} [الأعراف: 193] فنفي الإيمان أيضاً أدل عليه خصوصا وما قبله معلل ومؤكد له، فسواء والعدم على من دقق النظر وأحسن الورد والصدر، وقيل: الاعتراض أن يؤتى في أثناء كلام أو بين كلامين متصلين معنى بجملة لا محل لها من الإعراب لنكتة سوى دفع الإيهام، وجوز بعضهم كونه لدفع الإيهام وكونه في آخر الكلام وأمّا اشتراط كونه للتأكيد فمما لم نسمعه، وهذا إن كان ما قبله جملة فإن كان اسم فاعل وفاعلا تعين أن يكون {لَا يُؤْمِنُونَ} بيانا وتقريراً له لأنّ الاعتراض لا يكون إلاً جملة وهو يرد على عامّة الشراح، وقد اغترّ به المولى ابن كمال والحق معهم دراية ورواية أمّا الأوّل فلأنه لو لم يؤكد كان ترقيعاً للديباج بالخيش. وأمّا الثاني فلقوله في الكشاف في سورة الزمر حق الاعتراض أن يؤكد المعترض بينه وبيته، وقال ابن مالك في التسهيل: الجملة الاعتراضية هي الجملة المفيدة تقوية، وبعد هذا المقال ما بعد الحق إلاً الضلال، وقول المصنف رحمه الله بما هو علة الحكم فيه إشارة إليه ووجهه أنه يدل على قسوة قلوبهم وعدم تأثرهم بالإنذار وهو مقتض لعدم الإيمان، وما قيل من أنه ليس في الاخبار عن الذين كفروا بعدم الإيمان فائدة إلاً أن يقيد بقيد وهو خلاف الظاهر قد دفع بأنّ الموضوع دل على عدم إيمان في الماضي، والمحمول على استمراره في المستقبل وما أورد عليه من أنّ مراد المعترض أنه لا فائدة تناسب ما سيق له الكلام، لأنه إذا جعل بيانا أفاد أنّ عدم إيمانهم لقصور فيهم لا في كمال الكتاب الذي سيقت الآية لبيانه غير مسلّم، وما روي من الوقف على قوله {أَمْ لَمْ تُنذِرْ} والابتداء بقوله {هُمْ لَا يُؤْمِنُونَ} على أنه مبتدأ وخبر مردود لا يلتفت إليه وإن نقله الهذلي رحمه الله في كتاب الوقف والابتداء كما في الدرّ المصون. قوله:(والآية مما احتج به إلخ) هذا مما زاده المصنف على ما في الكشاف، وهو من أمّهات المسائل الأصولية وله أدلة منها ما ذكر كما يثير إليه قوله مما، واطلاقه التكليف يتناول الوجوب وغيره وتقريرهم ظاهر في أنّ الخلاف في الوجوب، وفي الآيات البينات لا مانع من إ-هـ ائه في غير.، وفي تحرير ابن الهمام القدرة شرط التكليف بالعقل عند الحنفية والمعتزلة لقبح التكليف بما لا يطاق، واستحالة نسبة القبيح إليه تعالى، وبالشرع عند الأشاعرة في الممكن لذاته كحمل جبل، واختلف في المحال لذاته، فقيل عدم جوازه شرعي لأنه تعالى قال {لَا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلَاّ وُسْعَهَا} [البقرة: 286]
فلو كلف الجمع بين النقيضين جاز عقلاً، وهدّا منسوب للأشعري، وقيل: عقليّ وتحرير محل النزاع أنّ مراتب ما لا يطاق ثلاث أدناها ما يمتنع لعلم الله بعدم وقوعه أو لإرادته ذلك، أو لإخباره به ولا نزاع في وقوع التكليف به فضلاً عن الجواز فإنّ من مات على كفره ممن أخبر الله تعالى بعدم إيمانه يعدّ عاصيا إجماعاً يعني بإجماع أهل الإسلام وفرقه فإنّ الآمديّ نقل عن بعض الثنوية أنه منع جوازه كما في شرح منهاج المصنف رحمه الله وأقصاها ما يمتنع لذاته كجمع الضدّين، وفي بخواز التكليف به تردّد بناء على أنه يستدعي تصوّر المكلف به واقعاً وتصوّر الممتنع واقعاً فيه تردّد ليس هذا محل تفصيمه والحق جوازه لا وقوعه وإن قيل به أيضاً، والمرتبة الوسملى ما أمكن في نفسه لكنه لم يتعلق بوقوعه قدرة العبد أصلاً كخلق الجسم أو عادة كصعود السماء، وهذا هو الوإقع فيه الخلاف على المشهور عند المحققين، والمراد بالتكليف هنا طلب تحقيق الفعل والإتيان به، واستحقاق العقاب على تركه لا مطلق الطلب، ولا الطلب قصداً للتعجيز واظيار عدم الاقتدار على الفعل كما في طلب معارضة القرآن للتحثي، ثم إنّ النزاع في هذا إنما هو في الجواز، وأمّا الوقوع فممتنع بحكم الاستقراء الشاهد عليه اننصوص كقوله تعالى {لَا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلَاّ وُسْعَهَا} [البقرة: 286] الآية وبهذا ظهر أنّ كثيرا من تمسكات الفريقين لم يرد على المتنازع فيه هذا محصل ما في شرح المقاصد وكله مما طبق فيه المفصل إلا قوله أخيرا إنّ النزاع إنما هو في الجواز، فإنه صرّح في كثير من كتب الأصول بخلافه إلاً أن يقال إنه لم يعتد بالخلاف في الوقوع، ثم إنّ بعض أهل الأصول فرق بين التكليف بالمحال بالباء الموحدة وتكليف المحال بدونها، وقال: الكلإم هنا في الأوّل وفي الثاني أيضا خلاف الأشعريّ على ما في شرح منهاج المصئف. قوله: (فإنه سبحانه وتعالى أخبر عنهم بأنهم إلخ) بيان لوجه الاحتجاج ودفع لما يرد عليه من أنّ ما نحن فيه ليس محالاً لذاته ولا عادة بل عقلاً فقط، وهو واقع بالاتفاق كما مرّ فقرّره على وجه يبينه ويدفع ما يرد عليه، وإن جاز ووقع وهو مستلزم لاجتماع الضدّين لزم منه وقوع المحال لذاته وما يستلزم المحال لذاته محال لذاته فالمستحيل لذاته قد وقع لأنّ أبا لهب مثلاً قد أمر بالإيمان
بكل ما أنزله تعالى وبالتصديق به، ومنه أنه لا يؤمن فصاو مكلفاً بأنه يؤمن بأنه لا يؤمن، أو بأنه يؤمن وبأنه لا يؤمن، وهو جمع بين النقيضين، وحاصله أنّ التكليف بالشيء تكليف بلوازمه، وردّ بالمنع لا سيما اللوازم العدمية، وهذا يحتمل أن يكون دليلاً للقائلين بالوقوع، فيدل على الجواز الذي ذكره المصنف بالطريق الأولى، ويحتمل أن يكون نقضاً لاستدلالهم بالاستقراء المقرّر في كلام القوم. وقوله:(فلو آمنوا إلخ الما صوّره بالاخبار المناسب للمقام قرّره بانقلاب نجره كذباً ومن المتكلمين من قرّره بلزوم انقلاب علمه جهلاً وهو قريب منه، وفي شرح المقاصد لا يقال لا نسلم أنه لو آمن لزم انقلاب العلم جهلاً بل يلزم أن يكون العلم المتعلق به أزلاً أنه لا يموت مؤمنا، فإنّ العلم تابع للمعلوم فيكون هذا تقدير علم مكان علم لا تغيير علم إلى جهل كما إذا قدر من يأتي بالقبيح آتيا بالحسن، فإنه يكون من أوّل الاً مر مستحقا للمدح لا منقلباً من استحقاق الذم لاستحقاق المدح، لأنا نقول الكلام فيمن تحقق العلم بأنه يموت كانرا فعلى تقدير الإيمان يكون الانقلاب ضروريا، وكذا من أخبر تعالى بأنه لا يؤمن كأبي جهل، وقد عرف أنه ليس محل النزاع فليس الدليل في محله، وعلى تقرير أكثر المحققين هو يدل على وقويم التكليف بالمحال لذاته لجمع النقيضين وفي إرشاد إمام الحرمين رحمه الله، فإن قيل: ما جوّزتموه عقلَا من تكليف المحال هل اتفق وقوعه شرعاً قلنا: قال شيخنا ذلك واقع شرعا فإنه تعالى أمر أبا لهب بأنّ يصدق ويؤمن بجميع ما أخبر عنه، ومنه أنه لا يؤمن فقد أمره أن يصدّقه بأن لا يصدقه وذلك جمع بين التقيضين، وكذا في المطالب العالية للرازي، وقال أيضاً إنّ الأمر بتحصيل الإيمان مع حصول العلم بعدمه أمر بجمع الوجود والعدم لأنّ وجود الإيمان مستحيل أن يحصل مع العلم بعدمه بمقتضى المطابقة، وهي بحصول عدم الإيمان، وقيل ما ذكر لا يدل على أنّ المكلف به هو الجمع بل تحصيل الإيمان، وهو ممكن في نفسه مقدور للعبد بحسب أصله وإن امتنع لسابق علم أو إخباو من الرسول صلى الله عليه وسلم بأنه لا يؤمن فيكون مما هو جائز بل واقع، وفيه أنّ الكلام فيمن وصل إليه هذا الخبر وطلب بالتصديق به على التعيين، وقيل المطلوب من مثل أبي لهب التصديق بما عدا هذا ألاخبار وهو في غاية السقوط اهـ. وقال شيخنا رحمه الله في الآيات البينات أنّ الاستحالة باعتبار الانقلاب في العلم القديم وخبر الصادق عقليّ لا دخل للعادة فيه والجواز العاديّ باعتبار كون الشيء مما يقع نوعه متكررا كإيمان الكافر فلا مخالفة بين كونه ممكناً عقلاً ومحالاً عقلاً لذاته أو لغيره، فإنه بخصوصه بعد قيام الدليل ممتنع عقلاً وعادة، فإن نظر لكون الدليل غير لازم لزوما بينا فهو ممتنع لغيره وان قطع النظر عن الدليل كان ممكنا عقلاً وعادة نظرا لنوعه، وهو نظر دقيق إن ساعده التوفيق. قوله: (فيجتمع الضدّان) هذه عبارة الإمام في المحصول، ومن تبعه من أهل الأصول وعبر في الحاصل وفي شرح المقاصد وغيره بنقيضين بدل ضدين، وكذا عبر به المصنف في المنهاج ووجهه أنّ من نظر إلى الإيمان وعدمه جعلهما نقيضين، وهو
الظاهر فإن نظر إلى أنّ العدم غير مكلف به وأنه إنما يكلف بنفس الكف، وهو فعل وجودي فهما ضدان بهذا الاعتبار والحاصل أنّ تصديقه في أن لا يصدقه محال ممتنع لذاته لأنّ فرض وقوعه مستلزم لعدم وقوعه، وكل ما يلزم من فرض وقوعه لا وقوعه فهو ممتنع بالذات، فيكون ممتنعاً عادة بالطريق الأولى، وبهذا استدلّ
بعضهم على أنّ التكليف بالممتنع لذاته واقع، فاذا كان التكليف بهذا التصديق واقعا كان التكليف بالمحال واقعا فتدبر. قوله:(والحق أنّ التكليف إلخ) هذا إشارة إلى أنّ القائل بعدم التكليف به من المعتزلة مأخذه أنه لا فائدة في طلب المحال، وفي شرح مختصر ابن الحاجب أنّ مأخذه أنّ الآمر يريد وقوع المأمور به والجمع بين علمه بعدم وقوعه وارادة وقوعه كالتناقض، وهذا بناء على أنّ الأمر عندهم هو الإرادة وأنّ أفعال الله تعالى معللة بالاغراض، والى هذا أشار المصنف رحمه الله بقوله لا تستدعي غرضاً أي لا تقتضيه يعني أنه إنما يستحيل الأمر بما لا يقدر عليه المكلف إذا كان غرض الآمر حصول المأمور به وحكم الله لا يكون لغرض، وان ترتب عليه فوائد ومصالح كلها نافعة لأنه الحكيم المتعالي وقال إمام الحرمين: الأمر بهذا ليس للطلب بل إن كان ممتنعاً لذاته فالأمر به للإعلام بأنه معاقب لا محالة لأنه تعالى له أن يعذب من يشاء، وان كان ممتنعا لغيره، فالأمر به لفائدة الأخذ في المقدمات كما قرروه في أصولهم وعليه أنه لا يتوجه على المعتزلة، لأنهم يمنعون هذه القاعد 6، وقد مرّ في شرح المقاصد أنّ الطلب التكليفي للإتيان بالفعل، واستحقاق تاركه العذاب واندفاعه ظاهر. قوله:(سيما الامتثال إلخ) الامتثال هو الإتيان بالمأمور به على الوجه المطلوب شرعا، كما في كتب الاً صول فالمراد أنّ الامتثال أحق شيء بعدم الاستدعاء لأن يكون غرضا للأمر، ولذا جاز النسخ قبل الفعل، ولو كان الامتثال مقصعا لم يجز والمذكور بعد سيما منبه على أولويته بالحكم لا مستثنى خلافا لبعض النحاة، ووجهه أنه كأنه أخرج عما قبله من حيث أولويته بالحكم قيل استعماله بدون لا كما في عبارة ثمصتف لحن غير جائز فما في عبارة المصنف كما في شرح المفصل، والمغني خطأ وهو غير وارد لأن الحذف لقرينة جائز والقرينة أنه شاع استعماله معها، وقد قال الرضي أنه يجوز تثقيل ياث وتخفيفها مع ذكر لا وحذفها، وهو ثقة فقول الدماميني أنه لم يقله غيره، وأنه لم يستعمله بدونها إلا العجم سوء ظن بالثقة وليس مثله من الحزم، ويجوز في الامتثال الرفع والنصب والجرّ كما قالوه في يوم في قوله:
ولا سيما يوم بدارة جلجل
وقوله للاستقراء هو ما ذكره القوم في أستدلالهم ولم يذكر النص وهو قوله {لَا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلَاّ وُسْعَهَا} [البقرة: 286] الآية لأنه غير صريح فيه كما سيأتي بيانه
والاستقراء وهو السبر والتقسيم الاستدلال بثبوت الحكم في الجزئيات على ثبوته للكلي الشامل لها مأخوذ من قرأت بمعنى جمعت وسينه للطلب لأنّ المستقرىء طالب للافراد التي يجمعها لينظر اتفاقها يعني أنّ التكاليف تتبعت فلم يوجد فيها محال لذانه قد وقع. قوله: (والإخبار بوقوع الشيء إلخ) يعني أنّ الإخبار بوقوع شيء أو عدمه لا ينفي القدرة التي هي شرط التكليف وصحته ولا ينافي كون الإيمان وعدمه مقدورين في حد ذاتهما، وإن لزم امتناع الإيمان في بعض الأشخاص لمانع آخر لتخلف ما أخبر به الله أو وجود ما يخالف علمه أو اجتماع ضدّين إلى غير ذلك من الأمور الخارجة عنه فلا يقتضي الامتناع الذاتي فيه لأنّ علمه بعدم الشيء واخباره عنه لا يجعله ممتنعا كما أنّ علمه بوجوده واخباره به لا يجعله واجباً كما ستراه، وهذا جواب عما احتج به من خالف المذهب الحق، وقد مرّ في توجيه الاحتجاج بهذه الآية أمران الأوّل أنه تعالى أخبر بعدم إيمانهم وأمرهم بالإيمان، فلو آمنوا انقلب خبره كذبا والثاني لزوم اجتماع ضدّين لما مرّ أو لأنّ تصديقه للرسول صلّى أدلّه عليه وسلّم في أن لا يصدقه تصديق له في نحو قوله {سَوَاء عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ} الآية فلو صدر منه تصديقه للرسول صلى الله عليه وسلم في هذا الخبر علم وقوع فرد من أفراد تصديقه للرسول صقى الله عليه وسلم، وهو خلاف مضمون الخبم الذي صدق الرسول صقى الله عليه وسلم فيه وهو أنه لا يصدقه في شيء أصلاً، والعلم بوقوع ما يناقض مضمون الخبر مستلزم لتكذيب المخبر فيه، فإنّ العلم بوقوع الخسوف في ساعة كذا من سنة كذا مستلزم عادة لتكذيب من قال لا خسوف في تلك السنة أصلاً فيكون تصديقه الرسول صلى الله عليه وسلم في أن لا يصدقه مستلزما، لتكذيب الرسول صلى الله عليه وسلم في أن لا يصدّقه أصلاً، وتكذيبه فيه مستلزم لعدم تصديقه فيه لامتناع اجتماع التصديق والتكذيب في شيء واحد فيستلزم عين كل منهما نقيض الآخر، فتصديقه
في أن لا يصدقه مستلزم لعدم تصديقه فيه كما قرّره بعض الفضلاء هذا، ثم إنه قيل إنّ هذا جواب عن الأمرين أمّا الأوّل فظاهر لأنّ الكذب إنما يلزم إذا وقع خلاف المخبر به، والتكليف بالشيء لا يقتضي إيقاعه بالفعل بل القدرة عليه والإخبار بطرفي الشيء لا ينفيها وأمّا الثاني فبأن يقال إنهم لم يكلفوا إلا بتصديقه، وهو ممكن في نفسه مقصود وقوعه إلاً أنه مما علم الله أنهم لا يصدقونه لعلمه بالعاصين وأخباره لرسوله صلى الله عليه وسلم كإخباره لنوح عليه الصلاة والسلام بقوله {أَنَّهُ لَن يُؤْمِنَ مِن قَوْمِكَ} [هود: 36] الآية لا أنه أخبرهم بذلك ولا يخرج الممكن عن الإمكان بعلم، أو خبر، ولا ينفيان القدرة عليه إلخ كما أفاده المحقق عضد الملة والدين يعني لا يلزم التكليف بما يستلزم نقيضه لأنهم كلفوا بتصديق الرسول صلّى الله عليه وستم في جميع ما جاء د 4 إجمالاً، وفيما علموا مجيئه به تفصيلَا وقوله سواء عليهم إلخ ليس مما علموا مجيئه به لأنه إخبار للرّسول صلى الله عليه وسلم بحالهم، وليس من الأحكام المتعلقة بأفعالهم حتى يجب تبليغه إليهم، فلا يكلفون بتصديقه والتصديق بغيره مما جاء به ممكن وقوعه منهم
عادة، فلا يكون التكليف به تكليفاً بالمحال وتعلق العلم أو الإخبار بعدم صدوره منهم لا يخرجه عن الإمكان لأنهما تابعان للوقوع لا سببان له على أنا لا نسلم أنهم أمروا به بعدما أنزل أنهم لا يؤمنون. قوله:(كإخباره إلخ) هذا تلخيص لما قاله الإمام من أنّ ما يدل على العلم بعدم الإيمان لا يمنع من وجود الإيمان لأنه لو كان كذلك وجب أن لا يكون الله قادراً على شيء لأنّ ما علم وقوعه يكون حينئذ واجباً فليس للقدرة فيه أثر وأمّا الممتنع فلا قدرة عليه، فلا يكون تعالى قادرا على شيء أصلاً، وهو كفر فثبت أنّ العلم بعدم الشيء لا يمنع من وجوده، والعلم متعلق بالمعلوم على ما هو عليه فإن كان ممكناً فعلمه به ممكن، وان كان واجباً كان واجباً ولا شك أنّ الإيمان والكفر في حد ذاته ممكن، فلو وجب بسبب العلم كان العلم مؤثراً في المعلوم، وقد ثبت أنه محال، وأيضا لو كان العلم والخبر مانعا لم يكن العبد قادرا على شيء أصلَا كالجماد، وأفعاله كلها اضطرارية ونحن نعلم بالبديهة خلافه فدل على أنّ كلا منهما غير مانع من الفعل والترك، ولو مغ العلم بالعدم عن الوجود كان أمره تعالى الكافر بالإيمان أمراً بإعدام علمه، وهو غير معقول والإيمان في نفسه من الممكنات، فيجب أن يعلمه الله كذلك لئلا ينقلب علمه سبحانه جهلاً، أو يجتمع في شيء واحد كونه واجباً وممكناً وهو محال وقوله باختيار. قيد لفعل العبد إشارة لما تقرّر في الأصول من أنّ الإكرا. الملجىء يمنع التكليف، لزوال القدرة عليه بالاتفاق وأمّ غير الملجىء ففيه خلاف والأصح عند المصنف أنه لا يمنعه بهما ذكره في المنهاج. قوله:(وفائدة الإنذار إلخ) هذات مة لما قبله فإنّ المنكرين له كما في التفسير الكبير قالوا لا يجوز ورود الأمر بالمحال في الشرع لأنه كأمر الأعمى بنقط المصاحف والمقعد بالطيران، وهو كبعثة الرسل للجماد فأشار إلى جوابه بما ذكر، وينجع مضارع نجع بنون وجيم وعين مهملة بمعنى أفاد ونفع وأصله من نجع الدواء إذا نفع المريض ففيه تشبيه لإنذار الرسل بالدواء النافع ولطفه ظاهر كما قال تعالى وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة والزام الحجة أن لا يبقى لهم شبهة يجيبون بها، أو يقولون ما جاءنا من نذير، وحيازة الرسول صلى الله عليه وسلم أي تحصيله ووصوله لها من حازه إذا ضمه وجمعه كما في القاموس وغيره، وتفسيره بالإحاطة على أنه من الحيز وهو المكان تكلف، ولم يقل سواء عليك لأق الإنذار وعدمه ليس سواء لديه لفوات فضيلة الإنذار الواجب عليه على تركه وإذا أربد بالموصول ناس معينون على أنّ تعريفه عهديّ، كما هو الأصل فيه كان فيه معجزة لأخبار. بالغيب وهو موت هؤلاء على الكفر كما كانوا بخلاف ما لو كان للجنس لعدم التعيين وهو
ظاهر. قوله: (تعليل للحكم السابق إلخ) إشارة إلى أنه ترك عطفه، لأنه مستأنف في جواب سؤال عن مطلق سبب الاستواء، وإصرارهم على كفرهم كانه قيل ما بالهم إستوى لديهم الإنذار، وعدمه فاجيب بأنهم ختم الله إلخ وهذا لا ينافي كونه له سبب آخر كالانهماك الآتي، وإن علل هذا أيضاً بما دل عليه استواء الأمرين من التصميم على الكفر ولذا قيل إنّ هذا الاستئناف ورد لبيان علة تلك العلة، سواء أريد بالحكم ما تضمنه لا يؤمنون أو الاستوإء أو مجموع ما مرّ. وقوله:(وبيان إلخ) عطف تفسيري وكونه نتيجة لما قبله خلاف الظاهر
مع أنّ النتيجة تستعمل بالفاء كما اعترف به هذا القائل وكون عطف ولهم عذاب عظيم عليه يعينه إذ لا يصلح للعطف سبأتي بيانه. قوله: (والختم الكتم إلخ) في الكشاف الختم والكتم أخوان أي بينهما مف سبة معنوية مع التوافق في العين واللام وكثر الحروف، وهو نوع من الاشتقاق عندهم يسمونه الاشتقاق الأكبر، وهو المراد بالأخوّة في مثله وهذا أحسن من تفسيره به كما فعله المصنف رحمه الله فإنّ حقيقة الختم الوسم بطابع ونحوه والأثر الحاصل من ذلك وحقيقة الكتم الستر والإخفاء، وهما متغايران فلا وجه لتفسيره به لكنه لما لزمه ذلك جعله كأنه عينه مبالغة وهو ظاهر فلا غبار عليه كما قيل، وسمي به بمعنى أطلق عليه واستعمل فيه والتسمية تكون بهذا المعنى وبمعنى وضع العلم والمراد الأوّل، والاستيثاق استفعال من الوثوق، ومعناه سد الأبواب والإقة، ل على ما وراءها لحفظه والمنع، ومن فعل ذلك صار ذا وثوق، فالاستفعال للصيرورة كاستحجر الطين وهو أحد معانيه المعروفة.
قال الراغب في مفرداته الختم رالطبع يقال على وجهين مصدر ختمت وطبعت وهو تأثر الشيء بنقش الخاتم والطابع، والثاني الأثر الحاصل عن الشيء، ويتجوّز بذلك تارة في الاستيثاق من الشيء والمنع منه اعتبارا بما يحصل من المنع بالختم على الكتب والأبواب نحو قوله تعالى {خَتَمَ اللهُ} إلخ وتارة في تحصيل أثر عن شيء اعتبارا بالنقش الحاصل وتارة يعتبر منه بلوغ الآخر، ومنه ختمت القرآن إذا انتهيت إلى آخره اهـ. وهذا تفصيل لما أجمله المصنف وغيره من معناه لغة فقوله والبلوغ بالرفع معطوف على الاستيثاق عطف قسيم على تسيم، وليس معطوفاً على الكتم فيكون من جملة تفسيره ومعناه الحقيقي كما توهم وهو مراد لما نقل إليه مطلقاً لا لما أريد به ههنا حتى يرد عليه أنّ ختم الكتاب متعد بنفسه، وما هنا متعدّ بعلى مع أنه لا أصل له فإنه يقال ختمت الكتاب وعلى الكتاب كما صرّحوا به. قوله:(بضرب الخاتم إلخ) الضرب إيقاع جسم على آخر وضرب الخاتم إيقاعه على ما يؤثر فيه من شمع ونحوه كما سيأتي. وقوله: (لأنه كتم له) أي لأنه يؤدّي إلى الإخفاء والستر، وهو الغرض منه فجعل عينه مبالغة كما مرّ، وهذا بيان للمناسبة بينهما وبلوغ الآخر الوصول إليه وآخره مفعوله من بلغت المنزل ونحوه لا منصوب بنزع الخافض على أنّ أصله إلى آخره. وقوله:(نظرا إلخ) تعليل
لإطلاق الختم على بلوغ الآخر والإحراز جعل الشيء في الحرز وهو ما يحفظه، ولذا سمت العامّة ما يكتب ويعلق عوذة حرزاً يعني أنّ من أتمّ شيئاً فقد حازه بما يحاز به مثله كحفظ القرآن إلى آخره، فكأنه استوثقه وني كلام المصنف رحمه الله نظر من وجهين، فإنه يقتضي أنّ إطلاق الختم على بلوغ الآخر معنى مجازي، وهو خلاف المعروف في الاستعمال، ولأنه يقتضي أيضاً أنه ماخوذ من الاستيثاق، وكلام الراغب الذي هو مأخذه صريح في أنه مجاز برأسه كما سمعته آنفاً.
وما في الكشاف سالم من هذه لأنه قال: الختم والكتم أخوان لأنّ في الاستيثاق من الشيء بضرب الخاتم عليه كتما له وتغطيه لئلا يتوصل إليه ولا يطلع عليه اهـ.
والجواب أمّا عن الأوّل، فإنّ اشتهاره حتى صار حقيقة في عرف اللغة لا ينافي كونه مجازاً بحسب أصل اللغة وقد عدّه من المجاز في الأساس.
وأمّا عن الثاني فالذي ذكره الراغب أنه مجاز عن مطلق المنع كالمشفر فلا ينافي كونه حقيقة في المنع بضرب الخاتم عليه ويؤخذ منه غيره فتدبر. قوله: (والغشاوة فعالة) نقل بعض الأفاضل عن جار الله أنّ فعالة هنا غير منصرفة وكذا هو في نسخ الكشاف، وقال إنّ الأصل في أمثاله أنّ ما كان موزونه غير منصرف فإنه يستعمل غير منصرف البتة، وما كان موزونه منصرفا ففيه وجهان الصرف، وتركه بشرط أن لا تدخل عليه رلت، وله تفصيل في الإيضاح والرضى وذهب بعض علماء اللغة إلى أنّ هيآت الكلم قد تدلّ على معاني مخصوصة، وان لم تكن مشتقة ومته ما هنا فإنّ فعال بكسر الفاء إن لم تلحقه هاء التأنيث فهو اسم لما يفعل به الشيء، كالآلة كإمام وركاب وحزام لمن يؤتم به ولما يركب به، ويحزم ويشد به كما مرّ في كتاب فإن لحقته الهاء فهو اسم لما يشتمل على الشيء ويحيط به كاللفافة والعمامة والقلادة، وهذا في غير المصادر " وأمّ فيها ففي الحجة لأبي عليّ في سورة الكهف فعالة بالكسر في المصادر يجيء لما كان صفة، ومعنى متقلداً كالكتابة والأمارة، والخلافة والولاية وما أشبه
ذلك وبالفتح في غيره اهـ. وقول الزجاج كل ما اشتمل على شيء مبنيّ على فعالة نحو العمامة والقلادة، وكذا أسماء الصناعات، فانّ الصناعة مشتملة على ما فيها نحو الخياطة والقصارة، وكذلك ما استولى على شيء نحو الخلافة والأمارة يقتضي عدم الفرق بينهما، ونقل عن الراغب أنّ فعالة لما يفعل به ذلك الفعل كاللف في اللفافة، فإن استعملت في غيره فعلى التشبيه كالخلافة والأمارة، وهو يقتضي أنه كالمجرّد من الهاء وهو مخالف لهما والظاهر هو الأوّل.
والفضل للمتقدّم.
وسلمت واو الغشاوة لعدم تطرّفها ولو تطرّفت قلبت همزة كالغشاء وقال أبو عليّ رحمه
الله لم يسمع منها فعل إلاً يائي فالواو مبدلة من الياء وردّ بأنه لا مقتضى للقلب فلعل له مادّتين
وغشى كغطى لفظا ومعنى والعصابة ما يعصب على الرأس ويدار عليها قليلاً فإن زاد فعمامة وهي معروفة. قوله: (ولا ختم ولا تغشية إلخ) توطئة لبيان المراد واشارة إلى قرينة المجاز العقلية والى ضعف حمله على الحقيقة كما نقله الراغب عن الجبائي من أنه تعالى جعل ختماً على قلوب الكفار ليكون دليلاً للملائكة على كفرهم، فلا يدعون لهم وليس بشيء، لأن هذه الغشاوة إن كانت محسوسة، فمن حقها أن تدركها أصحاب التشريح وإلاً فهم باطلاعهم على اعتقادهم، وأحوالهم مستغنون عنها وسيأتي في كلام المصئف رحمه الله ما يشير إليه، وما قيل من أنه لم يحمل على الحقيقة تحاشياً عن نسبة الظلم والقبيح ليس بشيء لأنه ليس مذهب أهل السنة، وكذا ما قيل إنه لا يرتصوّر في شأنه وحمله على حقيقته غنيّ عن الردّ وما روي عن الحسن من أنّ الكافر إذا بلغ في الغواية غايتها رين في قلبه الكفر وعلم الله منه أنه لا يؤمن فذلك هو الختم دليل على المجاز لا الحقيقة كما توهم وأمّا إسناده بعد التجوّز فحقيقة عند أهل السنة مجاز عند المعتزلة لمنعهم من إسناد القبيح إلى الله تعالى كما نقل مفصلاً عن الكمال القاشاني. قوله:(وإنما المراد بهما أن يحدث في نفوسهم إلخ الما لم تصح الحقيقة علم امتناع الكناية أيضاً والكناية المتفرّع عليها المجاز مجاز بحسب نفس الأمر، فبقي أنه مجاز مرسل أو استعارة كما ستراه، والإحداث والإيجاد بمعنى والمراد بالنفوس الذوات المشتملة على الجوارح والمشاعر، والهيئة الصفة والحال التي هم عليها والتمرّن الاعتياد يقال: مرن على الشيء مرونا من باب قعد ومرانة بالفتح إذا اعتاده وداومه وأصله التليين وبسبب متعلق بيحدث، ويجوز تعلفه باستحباب واستقباح وتنازعهما فيه، والغيّ الضلال، والانهماك التوغل واللجاج، وتعاف بمعنى تكره وتنفر ويحدث بضم الياء التحتية وكسر الدال، فهيئة منصوب والمحث هو الله تعالى ويجرز قراءته بفتح التاء الفوقية وضم الدال ورفع هيئة على الفاعلية، وجملة تمرّنهم صفة لهيئة. وقوله: (فتجعل) بالمثناة الفوقية مرفوع معطوف على قوله تمرّنهم والضمير المستتر فيه للهيئة والإسناد مجازيّ أو بالتحتية، وهو منصوب معطوف على يحدث على الأوّل وفاعله المستتر لله والإسناد حقيقيّ وقوله فتصير ضميره للاسماع والقلوب. وقوله:(وأبصارهم) معطوف على أسماعهم أو قاوبهم وتجتلي بمعنى تنظر أو بمعنى تراها مجلوّة عليها كالعروس ففيه استعارة مكنية وتخييلية. وقوله:) كأنها) بدل من قوله لا تجتلي وفي نسخة فتصير كأنها وحيل مجهول بمعنى وقعت الحيلولة. وقوله: (كأنها مستوثق إلخ) بيان للمناسبة بين ما أريد به ومعناه الحقيقي كما مرّ، وليس هذا معنى مجازيا حتى يكون المراد مجازاً بمرتبتين محتاجا
للتوجيه المشهور، وقد مرّ أنه لا خلاف بين أهل السنة والمعتزلة في المجازية وإنما الخلاف في الإسناد بعد التجوّز.
وقال الإمام الراغب: أجرى الله العادة أنّ الإنسان إذا تناهى في اعتقاد باطل وارتكاب محظور فلا يكون منه تلفت بوجه إلى الحق يورثه ذلك هيئة تمرّنه على استحسان المعاصي، وكأنما يختم بذلك على قلبه وعلى ذلك قوله تعالى {أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ} [النحل: 108] وعلى هذا النحو استعارة الإغفال في قوله {أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا} [الكهف: 28] واستعارة الكن في قوله {وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً} [الأنعام: 25] واستعارة القساوة في قوله {وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً} [المائدة: 13] اهـ وهو كلام حسن ومنه أخذ المصنف رحمه الله، ثم اعلم أن البزار روى حديثا مرفوعا عن ابن عمر فيه أنّ الطابع معلق بقائمة العرس فإذا عمل العبد بالمعاصي، واجترأ على الله بعث الله الطابع فيطبع على قلبه، فلا يعقل بعد ذلك شيئاً فقيل: إنه روي مثله في كثير من الأحاديث فحملها
من لم يتضلع من الحديث على المجاز، والأقوى كما في شرح السنة للبغوي إجراؤها على الحقيقة إذ لا مانع منها والتأويل خلاف الأصل ولا يخفى أنه مذهب الظاهرية والحس والعقل شاهدان للتأويل، فلا يغرّنك كثرة القال والقيل. قوله:(وسماه) بتذكير الضمير كما في أكثر النسخ، وهو راجع إلى الاحداث أو الحدوث وفي بعض النسخ سماها بتأنيثه والظاهر رجوعه للهيثة، وهي الكيفية والحالة محسوسة كانت أو لا فإمّا أن يكون بتقدير مضاف أي إحداثها أو لا يقدر لما سيأتي من أنّ الهيئة مستعار لها أيضاً في بعضى الوجوه. قوله:(على الاستعارة إلخ) الاستعارة تستعمل بمعنى المجاز مطلقاً، وبمعنى مجاز علاقته المشابهة مفرداً كان أو مركباً وقد تخص بالمفرد منه، وتقابل بالتمثيل كما في مواضع كثيرة من الكشاف والتمثيل وإن كان مطلق التشبيه غلب على الاستعارة المركبة ولا مشاحة في الاصطلاح، وحاصل ما قرّروه هنا أنّ الختم استعير نن ضرب الخاتم على الأواني ونحوها لأحداث هيئة في القلب والسمع تمنع من خلوص الحق إليهما كما يمنع الختم فهي استعارة محسوس لمعقول بجامع عقليّ هو الاشتمال على مغ القابل عما من حقه أن يقبله ثم اشتق منه الماضي ففيه استعارة تصريحية تبعية، ويلزم من التشبيه الذي تتضمنه هذه الاستعارة تشبيه القلوب والأسماع بالأواني كما في جوامع الكلم بل بالاقماع المقفلة إلاً أنه، ضا تابع لذلك التشبيه لم يقصد ابتداء، فبطل ما توهم من أنّ في القلوب والاسماع مكنية مخيلة بالختم إذ ردّ التبعية في مثله إلى المكنية غير مرضيّ، ومنه تعلم أنّ ما في العبارة من قوله بجعل قلوبهم وأسماعهم كأنها مستوثق منها بالختم لا يدل عليه كما تخيلوه وهو كقولهم في نطقت الحال أنها جعلت لكونها دالة كأنها ناطقة مع أنّ المراد تشبيه دلالتها بالنطق لا تشبيهها بالناطق فهو بيان لحاصل الكلام، ولذا قيل لفظة كأنّ كثيراً ما تستعمل عند عدم الجزم بالشيء من غير قصد إلى تشبيه نحو كأنّ زيداً أخوك، فكنى بها هنا عن عدم
القصد من الفحوى وهو كلام حسن، وكثيرا ما تراه في كلامهم ولفظ الغشاوة استعير من معناه الأصلي لحالة في أبصارهم مقتضية لعدم اجتلاء الآيات والدلائل، فهي استعاوة أصلية مصرّحة من محسوس لمعقول كما مرّ لا تبعية كما سيأني، ودعوى أنّ الأبصار مكنية لا يأباه الحكم بأنّ الختم والتغشية مجاز، وقد عرفت أنه غير مقبول، ويوضحه ما ذكره المدقق في الكشف من أنه إنما يكون إذا اتضح كون التخييل من روادف المسكوت عنه، وكان شائعاً لائحاً تشبيهه بالمستعار منه، كما في نحو {يَنقُضُونَ عَهْدَ اللهِ مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ} [البقرة: 27] وعالم يغترف منه الناس إذ لا فرق بينهما سوى أنّ النقض تمهيد لكون المنقوض حبلاً والاغتراف منه لكونه بحرا، وأنّ لهما مزيد اختصاص بالحبل والبحر وتشبيه العهد والعالم بهما مستفيض لا كتشبيه القلوب بالاً واني، فإنه إنما يؤخذ من إيقاع الختم عليها والمشبه أحداث ذلك والمشبه به ضرب الخاتم وقيل شبه عدم نفوذ الحق في القلوب وتحقيق نبوّ الاسماع عن قبوله بكونها مختوماً عليها ومغطى عليها تثبثا بقوله كأنها مستوثق منها بالختم، واعترض عليه بأنه إذا كان المشبه به المختومية كان استعارة في المصدر المبنيّ للمفعول.
وأجيب فأن مصدر الفعل المتعدّي يشتمل على معنى المصدر المبنيّ للمفعول كما صرّح
به قدّس سرّه في بحث متعلقات الفعل من شرح المفتاح: والمقصود هنا استعارة المختومية لحالة القلوب والاسماع، واظهار المشابه بينهما ويلزم ذلك استعارة خاتميته تعالى بالتبعية فالمستعار لفظ المصدر المبنيّ للفاعل المتعدي، لكن المقصود نسبته إلى المفعول التي هي جزء منه والتشبيه به بل التشبيه يلازم هذا الجزء الذي هو الهيئة والحالة، لكن أداؤه بالفعل لا يمكن إلاً بإحدى النسبتين، فالظاهر حينئذ أن يجعل المشبه الهيئة التي يلزمها عدم نفوذ الحق لكن المقصود ما ذكرنا، وبهذا علم ما وعدته في تأنيث ضمير سماها. قوله:(وتغشية) قد قدمنا لك أنّ هذه الاستعارة أصلية تصريحية لا تبعية، وقد قيل إنه ظاهر تقرير المصنف والزمخشريّ حيث جعلا المشابهة بين عدم اجتلاء الأبصار والتغشية، وحيث قالا لا ختم ولا تغشية وإليه ذهب الرازي في شرح الكشاف وتابعه بعضهم فيه، وأيده بعض المدققين بأنهم جعلوا الاستعارة تبعية في أسماء الزمان والآلة، وسائر المشتقات
لأنّ المقصود الأهم فيها هو المعنى القائم بالذات لا نفسر الذات، فينبغي أن يعتبر التشبيه فيما هو الأهم فتكون تبعية، فإن جعلنا الغشاوة اسم ا-لة كما ذكر في لفظ الإزار والإمام فيجب أن تكون تبعية، وإلا فلا يخلو عن خفاء اهـ. وقيل المفهوم من هذا أنّ في قوله تعالى {وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ} استعارة تبعية كما في ختم، فكأنهم جعلوه بمعنى غشى الماضي، كما يدلّ عليه قوله ما معنى الختم على القلوب والأسماع، وتغشية الأبصار ويؤيده قراءة النصب على تقدير وجعل على أبصارهم غشاوة فيوافق ما في سورة الجاثية وهو قوله تعالى {وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً} [الجاثية: 23] أو على حذف الجارّ كما سيأتي وهو مخالف لما في شرح الكشاف من أنه استعارة
أصلية لا تبعية (والذي خطر بالخاطر الفاتر) أنّ الجملة باقية على اسميتها والنكتة في تغيير الأسلوب إفادة الدوام والثبات الذي يقتضيه المقام لما تقرّر في الأصول من أنّ سبب الإيمان حدوث العالم وتغيره المدرك بالبصر فكل عاقل شاهده بعين الاستبصار والاعتبار استدل به، وترك الأفكار، ومن لم يؤمن كأنه لم يبصره لغشاوة خلقية على بصره وهو معنى الثبات والدوام، وأمّا ما في سورة الجاثية، فالمقام مقتض لبيان عدم قبولهم النصح، ومبالاتهم بالمواعظ المتعاقبة عليهم حيناً بعد حين، فيناسبه الفعل الدال على التجدّد وهذا مما تفرّدت به، ثم قال: والحاصل أنّ استعارة الختم تبعية كما مرّ بيانه، وكذا ما في قوله وعلى أبصارهم غشاوة لكن بالتأويل الذي سمعته فظهر أنّ كلام شراح الكشاف بالنظر لظاهر الآية، وكلام المصئف ومن حذا حذوه بالنظر للتأويل.
(أقول) لو كان المقام مقتضيا للثبات والدوام لم يكن لتصدير. بالفعلية هنا وجه أصلَا لأنّ الاستبصار والاعتبار بالقلب، فإذا تجدّد لزمه تجدد الختم أيضاً، وأمّا قراءة النصب على الوجهين، فالغشاوة فيها مصدر، فكيف تكون استعارة تبعية بمقتضى النظر السديد، ولو سلم أنّ المقام يقتضي الثبات في الجملة الثانية تكون قراءة النصب مخالفة لمقتض المقام، ومثله من وساوس الأوهام فالحق أنّ العدول إنما هو للإيجاز، واًنّ منشأ الخلاف إنما هو أنّ الاسم الجامد إذا أوّل بمشتق هل ينظر لأصله فتجعل استعارته أصلية أو لما قصد به لأنه بمعنى الشيء المغشي فتجعل تبعية، وأمّا كونه اسم آلة كالإزار فصلح من غير تراض للخصمين لأنّ الذي ادّعوه هنا أنه اسم لما يشتمل على الشيء كالعمامة، وان ذهب له الراغب كما مرّ، فالحمد دلّه الذي هدانا بفضله لتوفيقه. قوله:(أو مثل قلوبهم ومشاعرهم إلخ) مثل فعل ماض من التمثيل والظاهر أنه معطوف على سماه لقربه منه، وتناسب جملتيهما في الفعلية والمراد بالاستعارة المقابلة للتمثيل المجاز في المفرد كما مرّ، وفي الحواشي أنه معطوف على قوله المراد وهو بعيد لفظا ومعنى، وان قيل: إنه بنى معناه على التمثيل ولو بناه على الأوّل لم يتعرّض له وفيه نظر، وهو بيان لكونه استعارة تمثيلية بأن يشبه حالة قلوبهم وأسماعهم وأبصارهم مع الهيئة الحادثة فيها المانعة من الاستنفاع بها في الأغراض الدينية التي خلقت هذه الآلات لها بحال أشياء معدة للانتفاع بها في مصالح مهمة مع المنع من ذلك بالختم والتغشية، ثم يستعار للمشبه اللفظ الدال على المشبه به، فيكون كل واحد من طرفي التشبيه مركباً من عدّة أمور والجامع عدم الانتفاع بما أعدّ له بسبب عروض مانع يمكن فيه كالمانع الأصلي، وهو أمر عقليّ ينتزع من تلك العدّة فتكون الاستعارة حينئذ تمثيلية وليس للإسناد إلى الختم والتغشية في هاتين الفعليتين مدخل في هذا التمثيل كما لا مدخل له في قولك أراك تقدم رجلَا وتؤخر أخرى، وهل هذا التمثيل تبعيّ في الفعل وحده أو في لفظ مركب ملحوظ بعضه ومنويّ في الإرادة ارتضى الشريف المرتضى الثاني وغيره الأوّل، وعليه إنما صرّح بالختم والتغشية لأنهما الأصل
والعمدة في تلك الحالة المركبة، فيلاحظ باقي الأجزاء بألفاظ متخيلة إذ لا بد في التركيب من ملاحظات قصدية متعلقة بتلك الأجزاء، ولا سبيل إلى ذلك إلاً بتخيل ألفاظ بإزائها، وقد قدمنا لك ما له وعليه في تحقيق الاستعارة في قوله تعالى {عَلَى هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ} فليكن على ذكر منك، وقد يتوهم من ظاهر العبارة أنّ المشبه القلوب والأسماع، وأنّ الختم تخييل كما ذهب إليه بعضهم، ولله درّ القائل جزاه الله خيرا أنه إذا كان الغرض الأصليّ الواضح الجليّ تشبيه المصدر وذكر المتعلقات بالتبع، فالاستعارة تبعية كما في قوله:
تقري الرياح رياض الحزن مزهرة ~ إذا جرى النوم في الأجفان إيقاظا
فإنّ حسن التشبيه بحسب الأصالة إنما هو فيمابن هبوب الرياح والقرى لا فيما بين الرياض والضيف أو الإيقاظ والطعام، وإذا كان في المتعلق وذكر الفعل تبعا كما في ينقضون عهد الله، فاستعارة بالكناية لشيوع طشبيه العهد بالحبل، وان كان الأمران على السواء كما في نطقت الحال، فمحتمل إذ كل من تشبيه الدلالة بالنطق والحال بالناطق حسن كما مرّ. قوله:(ومشاعرهم المؤفة إلخ) المشاعر الحواس، وقوله {وَأَنتُمْ لَا تَشْعُرُونَ} معناه لا تدركون بالحواس وهو جمع مشعر بفتح الميم وكسرها لأنه محل الشعور أو آلته إلا أنه لا يعرف في الاستعمال كالجمع، والمؤفة بزنة معونة بفتح فتضم يليه واو ونون وهاء أي التي أصابها ما أفسدها وأبطل إحساسها، وهي اسم مفعول من الآفة بمعنى العاهة أعل إعلال مقولة إلا أنّ فعله لازم وهو آف الزرع إذا اً صابته آفة وقد سمع قعديه في قولهم ايف الزرع بزنة قيل فصيغة المفعول على هذا مقيسة، وعلى ما قبله على خلاف القياس ولذا أنكره بعض اللغويين.
وفي كتاب الأفعال للسرقسطي آف القوم أوفا إذا دخلت عليهم مشقة، ويقال في لغة ايفوا
وتال الكسائيّ: طعام مؤف إذا أصابته آفة، وأنكر أبو حاتم طعام مؤف اهـ وضمير بها للنفوس، وقد سقط من بعض النسخ والباء بمعنى في وعوده على الهيئة والباء للسببية جائز، وبأشياء متعلق بمثل والاستنفاع طلب النفع، وكأنه آثره على الانتفاع مع أنه المعروف في الاستعمال لأنه أبلغ فإنه إذا حيل بينه وبين طلب النفع فقد حيل بينه وبين الانتفاع بالطريق الأولى وختما وتغشيه منصوبان على التمييز، ومنه تعلم أنه يجوز أن يثون مجازا مرسلَا باستعماله في لازم معناه وهو المنع والحيلولة ولم يتعرّضوا له لأنّ الاستعارة أكسب وأبلغ. قوله:(وقد عبر عن إحداث هذه الهيئة إلخ) هذا مأخوذ من كلام الراغب بعينه كما قدمناه يعني أنه كما عبر عن إحداث هذه الهيئة بالختم عبر عنه بما ذكر، فالطبع تصوير الشيء إصورة مّ كطبع السكة وطبع
الدراهم، فهو أعمّ من الختم وأخص من التقش، والطابع الخاتم، وقد يفسر الطبع بالختم والطبع أيضا الجبلة التي خلق عليها كالطبيعة يقال طبعت الكتاب، وعليه إذا ختمته، ويجري في الطبع ما مرّ بعينه، وأمّ الإغفال، فهو استعارة من إغفال الكتاب أي تركه غفلَا بزنة قفل أي غير منقوط ومشكول، وهو ضدّ المعجم وقوله تعالى {وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا} [الكهف: 28] معناه تركناه غير مكتوب فيه الإيمان كما قاله الراغب رحمه الله، فلا إشكال في كلام المصنف رحمه الله، ومنهم من فسره بجعل الشخمى غافلاً فاعترض عليه بأنه غير إحداث الهيئة المذكورة وغير مستلزم لها فاعتذر عنه بعضهم وهو غفلة لا إغفال، وأمّا القسوة فهي من قولهم درهم قسيّ أي مغشوس، فهو استعارة أيضاً كما ذكره الراغب، وسيأتي تحقيقه في سورة المائدة والإقساء ذكر لحاصل معنى جعلها قاسية فلا يتوهم أنه ليس في النظم الأقساء بل القسوة إلاً أنها لغة غير فصيحة، ولذا عدل عنها في القرآن مع أنها أخصر. قوله:(وهي من حيث أنّ الممكنات إلخ) هذا ردّ على قوله في الكشاف القصد إلى صفة القلوب بأنها كالمختوم عليها، وأمّا إسناد الختم إلى الله عز وجل فلينبه على أنّ هذه الصفة في فرط تمكنها وثبات قدمها كالشيء الخلقي غير العرضيّ ثم قال وكيف يتخيل ما خيل إليك وقد وردت الآية ناعية على الكفار شناعة صفتهم وسماجة (1) حالهم ونيط بذلك الوعيد بعذاب عظيم فصرف الإسناد إلى الله تعالى عن ظاهره وجعله غير حقيقيّ بناء على مذهبه من أنّ أفعال العباد مخلوقة لهم، لئلا تسند المعاصي وا اغبائح إلى الله سبحانه وتعالى على ما تقرّر في الكلام وضمير هي راجع إلى الأمور المذكورة المعلومة من السياق من ختم القلوب والغشاوة وتابعهما ويجوز إرجاعه إلى الهيئة، وهو مبتدأ خبره جملة أسندت إليه أي إلى الله والرابط الضمير المستتر في أسندت، ومن حيث الأوّل متعلق بأسندت مقدم عليه للاهتمام أو للحصر بالنسبة إلى قبحها وحيث مضافة إلى الجملة المصدّرة بأنّ المكسورة والممكنات اسمها، ومستندة وواقعة خبر ان لها بغير عطف لما بينهما من شبه الاتحاد أو الثاني بدل أو عطف بيان، والواو الداخلة على من حيث الثانية عاطفة لجملة
وردت على أسندت، ومن حيث متعلق به مقدّم لما مرّ، والرابط لهذه الجملة ضمير إنها وقيد الحيثية هنا للتعليل، وله معنيان آخران الإطلاق نحو الماء من حيث هو بارد بالطبع والتقييد نحو الإنسان من حيث أنه نشأ بدارنا لا يصح تملكه، وهذا مع أنه أمر مكشوف ذكرته لما قيل عليه من أنّ في تركيبه إشكالاً لأنّ الظاهر أنّ قوله، ومن حيث أنها معطوف على من حيث أنّ الممكنات، فيلزم أن يكون قوله وردت الآية إلخ خبر إلهي ولا مجال له لخلوّه عن الرابط، ويمكن أن يقال الواو داخلة في الحقيقة على وردت وهو مع ما تقدّمه من قوله من حيث إلخ معطوف على مجموع وهي من إلخ. وهو مما يقضى منه العجب،
وأعجب منه ما قيل في توجيهه من أنّ الآية منصوب على الظرفية، والتقدير من حيث أنها مسببة عما اقترفوه وردت في الآية ناعية عليهم فاستسمن ذا ورم، ونفخ في غير ضرم وحاصل ما ردّ به المصنف رحمه الله عليه أنّ الممكنات كلها واقعة بإيجاده وقدرته وان كانت معاصي قبيحة لأنه لا قبح في إيجادها بل في كسبها والاتصاف بها، كالمصوّر لصورة قبيحة إذا تمّ محاكاتها فإنه يدلّ على جودة تصوّره وتصويره والقبح إنما هو في ذي الصورة لا في التصوير. قوله:
(مسببة عما اقترفوه إلخ) اقترفوه بمعنى اكتسبو. من القبائح لأنه من القرف، وهو قشر اللحاء عن العود والجليدة عن الجرح، ثم استعير للاكتساب مطلقاً إلاً أنه متعارف في القبيح والإساءة كما قيل: الاعتراف يزيل الاقتراف، وهو المراد هنا وفيه إشارة إلى أنّ الباء في الآيتين سببية كما سيأتي في محله، وناعية بمعنى مظهرة ومنادية بتشهير قبائحهم وفيه إيماء إلى أنّ قبائحهم كأنها مهلكة، وقاتلة لهم كانهم قتلوا بها أنفسهم:
قتل المسيءبماجنته نفسه حقاوقاتل نفسه في النار
وفي الأساس عن الفراء النعي رفع الصوت بذكر الموت وكانت العرب إذا مات من له
قدر ركب راكب وساش في الأرض قائلَا نعاء فلانا ثم قيل مجازا نعى عليه هفوته إذ أشهرها، والشناعة كالقباحة وزناً، ومعنى والوخامة بفتح الواو والخاء المعجمة كالوخام مصدر وخم البلد والمرعى بالضم إذا كان فيه وباء وفساد هواء يضرّ ساكنه، فاستعير هنا لكون العاقبة غير حميدة وهو إشارة لقوله ولهم عذاب عظيم كما أنّ ما قبله لما قبله، وهذا ردّ على ما ادّعاه من أنّ القباحة ونعيها يأبى إسناده إلى الله على الحقيقة، فإنّ الإسناد للاحداث والإيجاد والنعي لاتصافهم بما اقترفوه من الفساد ولا منافاة بينهما. قوله:(واضطربت المعتزلة إلخ) أي تخالفت أقوالهم فيما أسند إليه تعالى مما مرّ ونحوه لمخالفته لما ادّعوه مما نحن في غنية عن إعادته لشهرته في كتب الأصول، والاضطراب افتعال من الضرب يقال: اضطرب أمره وفي أمره إذا اختلف اختلافا يؤدّي إلى الاختلال. قوله: (الأوّل أنّ القوم لما أعرضوا إلخ) هذا ما ذكره الزمخشريّ بقوله القصد إلى صفة القلوب إلخ كما ذكرناه آنفا، وقد قال قدس سرّه: إنه يعني أنّ الإسناد إليه تعالى كناية عن فرط تمكن هذه الصفة التي هي- الهيثة الحادثة المانعة، وثبات رسوخها في قلوبهم وأسماعهم، فإن كونها كذلك يستلزم كونها مخلوقة لله صادرة عنه فذكر اللازم لينتقل منه إلى الملزوم المقصود فيصدق به ألا تراهم يقولون هو مجبول على كذا ولا يعنون خلقه عليه بل ثباته وتمكنه فيه ولما لم تمكن حقيقة الإسناد على مذهبه وجب عده مجازا متفرّعا على الكناية كما ذكره في قوله تعالى {وَلَا يَنظُرُ إِلَيْهِمْ} [آل عمرأن: 77] وأنّ
أصله فيمن يجوز عليه النظر الكناية، ثم جرّد في غيره لمعنى الإحسان مجازاً عما وقع كناية عته فيمن يجوز عليه فظهر أنه إذا أمكن المعنى الأصلي كان كناية والاً فمجاز مبنيّ على الكناية فيجوز إطلاق الكناية عليه باعتبار أصله وان انقلب مجاز التغاير اعتباريّ، ولذا جعل بسط اليد وغلها في المائدة مجازاً وفي طه كناية كالاستواء على العرس، ولا منافاة بين قوليه ولا حاجة إلى الدفع بأنه قد يشترط في الكناية إمكان المعنى لأصليّ وقد لا يشترط، وقد سبق إلى بعض الأوهام من قوله كالمختوم عليها، ومستوثق منها بالختم أنّ المشبه به الختم المبنيّ للمفعول دون الفاعل، ولذا قيل إنّ المشبه عدم نفوذ الحق في القلوب والاسماع لا إحداث الهيئة المانعة فيها، وفساده ظاهر لأنه إذا استعير المصدر المبنيّ للمفعول اشتق منه فعل مبنيّ له كما يشتق
من المبني للفاعل ما بنى له، فينبغي أن يقال: ختم على قلوبهم إلخ وأيضاً كون الشيء مختوماً عليه مستلزم لعدم النفوذ فيه استلزاما ظاهراً، فهو مجاز مرسل وجعله استعارة تعسف نعم قد يشبه كون القلب مثلأ قد أحدث فيه هيئة مانعة من أن ينفذ فيه الحق بكون الشيء مختوما عليه، وتنقيحه أنّ المشابهة التامّة إنما هي بين النقش الحاصل في الخاتم والهيئة المانعة الحادثة في القلوب، والأسماع لمنعهما من النفوذ فحينئذ جاز أن يشبه أحداث هذه الهيئة باحداث ذلك النقش، ويبنى منه الفعل للفاعل، وأن يشبه كون القلب محدثا فيه هذه الهيئة بكون الشيء محدثا فيه ذلك النقش، ويبنى منه الفعل للمفعول وعدم النفوذ من تتمة وجه الشبه لا مشبه ولا مشبه به، والمقصود بالصفة التي نبه بإسنادها إليه تعالى على ثبات قدمها، وتمكنها هو الهيئة الحادثة لا إحداثها فتبصر اهـ.
(أقول) اتفقت كلمة محققي الشراح هنا على أنّ مراده أنه كناية في الإثبات لا نعت لذاته
إلا أنه وقع النراع بينهم فيما ستراه عين اليقين (ويرد على ما قاله الشريف) مما حذا فيه حذوهم أمور.،
(منها) أنّ الزمخشريّ، لما لزمه بناء على مذهبه أن لا يسند الختم إلى الله حقيقة وقال:
بأنّ أفعال العباد مخلوقة لهم، وإنما خلق الله فيهم أجسامهم، وطبائعهم، وقواهم، ونحوها من الأجرام والأمور القارّة فأسند إليه أفعالهم للدّلالة على الرسوخ والثبات فيها، لجعلها بمنزلتها فهو إسناد مجازيّ أحد طرفيه مجاز كأحيا الربيع الأرض فأقي داع إلى اذعاء الكناية المؤدّي إلى التعب والنزاع والشغب، وليس في كلامه ما يقتضيه أصلَا، وهو من الإسناد إلى المضاهى أو إلى السبب البعيد لأنها بإقداره وتمكينه، كما لا يخفى والتمثيل له بمجبول يؤيد ما قلناه، والداعي لارتكابه ما سيأتي من عذه الإسناد المجازقي وجهاً آخر وستعرفه إن شاء الله تعالى.
(ومنها (أنّ ما ذكره من المجاز المتفرّع على الكناية، وان تبع فيه غيره لا يخفى ما فيه من التكلف من غير داع، فإنّ الجمع بين المجاز والكناية في شيء واحد مما لم يعهد مثله، وما
ذكره الفاضل المحقق في التوفيق بين كلامي العلامة ليس بابعد مما ارتكبوه بل لو دقق النظر في أمثلة الكنابة شوهد فيها ما يؤيده والنظر السديد، لا يسجد للتقليد على أنه ذكره في الكناية التي وقع التلازم فيها في المعنى الوضمي كالنظر لا في النسبة والإثبات وبينهما بون بعيد فتدبر.
(ومنها) أنّ ما خطأ فيه الفاضل المحقق، وادّعى ظهور فساده في المصدر المبنيّ للمفعول
فهو وإن ترا أى في النظرة الأولى ورود. إذا أمعن فيه النظر علم أنه غير وارد إلاً أنه يستدعي تقديم مقدمة هي أنّ المصدر إمّا مصرّح به، أو في ضمن الفعل والأوّل قد ذكروا فيه أنه يكون مبنيا للفاعل وللمفعول ولقد ماء النحاة فيه اختلاف فذهب البصريون إلى أنه مشترك بينهما وقالوا إنه إذا أضيف لمفعوله يجوز أن يتبع بالجرّ والنصب والرفع على تقديره بأن والفعل المجهول كما في الحديث " أمر بقتل الأبتر وذو الطفيتين "(1) بالرفع أي بأن يقتل الأبتر وذو الطفيتين، فيجوز عندهم أن ينحل بحرف مصدريّ وفعل مجهول فيرفع به نائب الفاعل وهو ثمرة الخلاف فيه، وارتضاه ابن مالك كما في شرح التسهيل لأبي حيان وخالفهم فيه بقية النحاة، لأنه لم يسمع وإنما معناه الحدث بقطع النظر عن ذلك، وهو التأثير وقد يراد أثره تسمحاً فيظن مبنياً للمفعول، وعليه الشارح المحقق في شرحه، ولذا قال بعض المتأخرين أنّ صيغ المصادر حقيقة في أصل النسبة مجاز في الهيئة الحاصلة منها للمتعلق معنوية كانت أو حسية للفاعل في اللازم كالمتحركية وله، وللمفعول في المتعدي كالعالمية والمعلومية، وقولهم المصدر مبنيّ للفاعل أو للمفعول تسامح يعنون به الهيئتين اللتين هما معنيا الحاصل بالمصدر، وقد قال قدس سرّه: في حواشي الرضى أنّ النحاة جعلوا المفعول الحقيقي الذي هو الأثر عين الفعل الذي هو التأثير بناء على أنهم لا يميزون بينهما إلى آخره، ذكره بعض المتأخرين في تعليقة له في الفرق بين المصدر والحاصل بالمصدر، وهذا في صريح المصدر أمّا معناه الذي تضمنه الفعل فلا مانع من ملاحظة المعيين في كلا الصيغتين إذا كان الفعل متعديا كما هنا فدلالة ختم المبنيّ للفاعل على المصدر المبنيّ للمفعول جارية على السداد من غير فساد وقد حام حول الحمى من قال الفعل المتعدّي، كما يشتمل على نسبة مصدره إلى فاعل ما يشتمل على نسبته إلى مفعول مّا كما في شرح المفتاح، والمقصود هنا استعارة مختومية الأواني لحالة الكفار واظهار تشابههما ويلزمه
استعارة خاتمية الله إياهما وابراز المناسبة بينهما على طريق القصد، فالمستعار لفظ المصدر المبنيّ للفاعل المتعدي لكن القصد الأصليّ التشبيه بجزء معناه أي النسبة المفعولية لا الفاعلية بل بلازم الجزء أي هيثة المختوم وحالته عند الختم، وأداء هذا المقصود في ضمن الفعل لا يمكن إلا باعتبار الاستعارة في إحدى النسبتين ولا يخفى أنه لا
يقصد أصالة عند أدائه إلى اعتبار الاستعارة ني النسبة الفاعلية بل يكفي في النسبة المفعولية ولا بحد في اعتبار الاستعارة نظراً إلى الجزء كما في استعارة الأفعال باعتبار الزمان أو الحدث دون النسبة فاندفع اعتراضه تدس سرّه.
وأمّا ما قيل في دفعه بأنه تحاصحى العلامة عن تشبيه فعل العبد بفعله تعالى صريحاً وأوجب أن يشبه عدم نفوذ الإيمان في قلوبهم بكون الشيء مجبولاً عليه، فلزم منه تشبيه إحداث العبد الهيئة في نفسه بختم الله فعمل بهذا اللازم، وقيل ختم ولم يعمل بمقتضى صريح التشبيه لأنه لو لم يذكر الفاعل لم يفهم جعل فعل العبد بمنزلة الأمر الخلقي، ولا يخفى اضطرابهم في هذا التوجيه فتعسف لا طائل تحته.
(ومنها) أنّ قوله: إنّ كون الشيء مختوما عليه مستلزم لعدم النفوذ فيه قيقتضي أن يكون مجازاً مرسلاً وجعله استعارة تعسف لا وجه له، لأنّ اللزوم لا بدّ منه في جميع المجازات ألا ترى أنّ استعارة الطيران لشدة العدو استعارة لا شبهة في حسنها، والجامع بينهما السرعة اللازمة للطيران لزوماً ظاهراً ولم يقل أحد أنه ينبغي أن يكون مجازاً مرسلَا عن السرعة اللازمة له، وكما في النطق والدلالة على ما بين في المعاني. قوله: (شبه بالوصف الخلقي المجبول صليه الم يرد بالتشبيه التشبيه الذي يفاد بنحو الكاف بل الجهة التي راعاها المتكلم حين أعطى الوصف الذي أوجده العبد حكم الخلقي في إسناده إلى الخالق كما تال في دلائل الإعجاز أنّ لشبيه الربغ بالقادر في تعلق وجود الفعل به ليس هو التشبيه الذي يفاد بكأنّ والكاف ونحوهما هانما هو عبارة عن الجهة التي راعاها المتكلم وإذا جاز أن يشبه الفاعل من حيث هو فاعل بالفاعل استلزم أن يشبه فعله بفعله في أمرمّ، وقد ذكر في شرح التلخيص أنّ المجاز الإسنادي ليس بمقصور على ما ذكروه، فأيّ مانع من أن يقصد في الإسناد تشبيه الفعل بالفعل خصوصا إذا تضئن معنى بديعاً، فلو قلت في عدم تحرّك عطيم، وقيامه إلاً إذا غزا فيتحرّك بحركته ما سواه إنما تتحرّك الأرض إذا زلزلت شبهة حركته بحركتها وأسندت ما له إلى محله من غير نظر لتتشبيهه بالأرض، فهنا أيضاً شبه فعل العبد بفعل الله في الثبات والرسوخ، ولم ينظر إلى الفاعل تأدّبا عن تشبيه السيد بعبيده، وإن لزم كما قيل كل ما يصلح للمولى على العبد حرام فبطل ما قيل من أنّ المراد أنه استعارة تبعية شبه إعراضهم عن الحق المانع عن نفوذه بالوصف الخلقي للشيء المانع عما هو مطلوب منه في التمكن والاستقرار، ولم يصرّح بالمشبه بل كنى عنه بالختم المسند إلى الله، وهذا مقتضى عبارة الكتاب، وسقط ما قيل: من أنه مضطرب من وجوه.
أمّ أوّلاً فلأنّ المجاز في الإسناد إنما يكون بالإسناد إلى ملابس غير ملابس هوله بتنزيل الملابس منزلة ما هو له ولم يجىء الإسناد لتنزيل الفعل منزلة فعل غير الملابس الذي هو له،
على أن الزمخشريّ جعل هذا الوجه مقابلَا للوجه الثالث الذي ذكره المصنف وصرّح فيه بأنه إسناد مجازيّ، فلو كان هذا من المب ز الإسنادي كان ذلك لتفصيل ما هنا لتقدّمه.
وأمّا ثانياً فلأنّ إسناد الختم إلبه تعالى إنما يفيد كون الإعراض عن الحق متمكناً في قلوبهم، لو كان كل ما يحدثه الله في العبد خلقياً لازماً له وليس كذلك.
وأمّا ثالثاً فلأنّ إسناد القبيح إليه تعالى، وإن كان مجازا مما لا يقدم عليه عاقل ومجبول بمعنى مطبوع مخلوق من الجبلة بكسرتين وتثقيل اللام وهي الطبيعة والخليقة والغريزة بمعنى، وجبلة الله على كذا فطره فهو مجبول. قوله:(الثاني أنّ المراد به تمثيل حال قلوبها إلخ) هذا ملخص قوله في الكشاف: ويجوز أن تضرب الجملة كما هي وهي ختم الله على قلوبهم مثلاً كقولهم سال به الوادي إذا هلك، وطارت به العنقاء إذا أطال الغيبة، وليس للوادي ولا للعتقاء عمل في هلاكه، ولا في طول غيبته وإنما هو تمثيل مثلت حاله في هلاكه بحال من سال به الوادي، وفي طول غيبته بحال من طارت به العنقاء، فكذلك مثلت حال قلوبهم فيما كانت عليه من التجافي عن الحق بحال قلوب ختم الله عليها نحو قلوب الاغتام التي هي في خلوها عن الفطن كقلوب البهائم، أو بحال قلوب البهائم أنفسها، أو بحال قلوب مقدر ختم الله عليها
حتى لا تعي شيئاً ولا تفقه وليس له عز وجل فعل في تجافيها عن الحق ونبوّها عن قبوله، وهو متعال عن ذلك اهـ وفي قوله تضرب الجملة إشارة إلى الفرق بين هذا التهثيل والتمثيلى السابق، وهو أنّ العمدة ثمة والتصرّف في الختم وهنا في مجموع الجملة وتحقيقه أنه لما ذهب إلى أنّ القبائح الصادرة من العباد مخلوقة لهم، ولا يجوز صدورها عنه تعالى بناء على قاعدة الحسن والقبح، فلا يجوز حينئذ أن تنسب-قيقة إلى الله تعالى على زعمهم كما فصل قبولاً وردا في الأصلين وشهرته تغني عن ذكره توجه السؤال على إسناده في الآية، فأجاب أولاً بأنه إنما يمتنع حقيقة، وهو هنا إسناد مجازيّ للدلالة على تنزيله منزلة الجبليّ المطبوع عليه، وثانياً بأنه لو سلم إسناده إليه على الحقيقة فليس الختم فيه بالمعنى السابق حتى يلزم المحذوو على زعمهم إذ المراد به خلقهم على فطرة خالية عن الفطنة غير قابلة لانتقاش صور كثيرة من المدركات كالبله المجاذيب، أو البهائم الغلف ومثله مما ينسب إلى الله بالإتفاق لخلقه الذكيّ والأحمق، والمعتزلة يؤوّلون ما يدل على خلقه تعالى للأفعال بجعلها عبارة عن التوفيق، ومنح الألطاف في الحسن والخذلان ومنعها في ضده، ونحو ذلك من إفاضة الاستعداد وعدمها، ثم شبهت حال هؤلاء في الاعراض عن الحق، والإصرار على عدم النظر والإصغاء له بحال أغتام، أو أنعام ختم الله على مشاعرها بخلقها كذلك، فالختم بمعنى ذلك الختم مجاز لكنه مسند إلى الله حقيقة لصدور ذلك المعنى المجازي عنه ومجموع ختم الله مجاز مركب قد تجوّز في بعض مفرداته، ومثله مشهور لا تكلف فيه، أو شبهت حالهم بحال مخلوق لا نعرفه قد ختم الله على قلبه من غير واسطة بطابع حقيقيّ فالاستعارة تمثيلية لا تجوّز في شيء من مفرداتها إلاً أنّ
المشبه به أمر متخيل لا تحقق له في الخارج، وسيأتي في قوله تعالى:{إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [الأحزاب: 72] ومنه ما يحكى عن ألسنة الجماد والحيوان والتمثيل يكون بالأمور المحققة نحو أراك ققدم رجلاً وتؤخر أخرى ويسمى تمثيلاً تحقيقيا وبالأمور المفروضة كما في الآية السابقة، ويسمى تمثيلاً تخييلياً كما فصله العلامة في سورة الزمر، وقال قدّس سرّه: إنّ هذا الجواب تغيير للمدّعي، وهو أق لا يحمل الختم على الاستعارة، ولا على التمثيل المذكور بل على تمثيل آخر يكون وجهاً ثالثاً وهو أن تشبه حال قلوبهم فيما كانت عليه من التجافي، والنبوّ عن الحق بحال قلوب محقق ختم الله عليها كقلوب الاغتام أو البهائم، أو بحال قلوب مقدر ختمه عليها، ثم تستعار الجملة أعني ختم الله على القلوب كما هي بتمام الجملة مع إسنادها من المشبه به للمشبه إمّا على سبيل التمثيل التحقيقي أو التخييلي، فيكون المسند إلى الله سبحانه إسناداً حقيقياً ختم تلك القلوب المحققة، أو المقدرة حتى لا تعي شيئاً ولا قبح فيه أصلَا سواء كان ختما حقيقياً أو مجازيا، كما هو الظاهر لا ختم قلوب الكفار، لأنّ الإسناد إليه تعالى داخل في المشبه به فلا مدخل له تعالى في تجافي قلوبهم، ونبوّها كما لا مدخل للمتردّد في أراك تقدم رجلَا، وتؤخر أخرى في تقديم الرجل وتأخيرها إذ كل منهما داخل في المشبه به، وان فرض أنه عبر عنهما أو عن أحدهما بلفظ مجازيّ كالختم إذا حمل على المجاز الذي هو المختار.
(أقول) ما حققه تبعا لما في الكشف تحقيق حقيق بالقبول إلاً أنّ ما ذكره من تغيير المدّعي أمر سهل، لأنه ليس على حقيقته، لأنه تمثيل، لران اختلف وجه التمثيل، والمعنى متقارب فيهما وإنما غيره ليثبت ما ادّعاه من أنّ الإسناد لا يجري على الحقيقة الظاهرة منه، وقد تحققت مما مرّ أن الختم في الأوّل مجاز، وفي الثاني حقيقة، فلا وجه للتردّد فيه تبعا للكشف، وقد انكشف لك أتم كشف وأمّا ما أورد عليه من أنه خلاف المتبادر من العبارة بل هو استعارة تمثيلية متفرّعة على الاستعارة الأولى فلا بعد فيه لأنه شاع مجاز ا " لمجاز كما عرف تفزع المجاز على الكناية في الوجه الأوّل وبيانه أنّ حقيقة الكلام ضرب الخاتم على الأواني بحيث يمنع الوصول إلى ما فيها، ثم استعير لأحداث الهيئة المعلومة في القلوب، ثم أريد حال قلوب الكفار فيما كانت عليه من النبوّ عن الحق، فالمقصود تشبيه تلك الحال بحال من تلبس بالأحداث المشبه بضرب الخاتم، لا حال من يتصف بضرب الخاتم حقيقة ففيه مبالغة كاملة اهـ. ولا يخفى أنّ ما ادّعى تبادره مع أنه أبعد مما ارتضاه الشريف المرتضى، لا يلاقي عبارة الكتاب ولا يجدي نفعاً فيما قصده من توجيه الإسناد إلى الله تعالى مع أنه لا يسند مثله إليه على زعمهم، لأنّ الأحداث المذكور من
أفعال العباد القبيحة فلا يصح إسناده إلى الله تعالى وحال قلوب الكفار أيضا من هذا القبيل، فأيّ فائدة فيما ارتكبه بل هذا مما يكاد أن يكون غفلة عن مرمى أنظارهم، ومغزى أفكارهم. وقوله مقدر مجرور نعت سببيّ لقلوب، وختم الله
يصيغة المصدر نائب فاعله وجعل القلوب قلوب بهائم لا يجري عليها التكليف أسلم من المحذور الذي ادّعوه وإنما أخروه لأنّ إضافته إلى ضمير العقلاء يأباه إلا أن يدعي أنه من قبيل التجريد. قوله: (ونظيره سال به الوادي إلخ) قد سمعت آنفاً تفصيل الجواب الثاني وعرفت أنّ التمثيل على فسمين تحقيقيّ وتخييليّ وأنهما محتملان هنا في النظم فعلى تقدير القلوب قلوب الاغتام أو الأنعام يكون محققاً وسال به لوادي مثاله لأنّ السيل وإهلاكه للناس أمر محقق، وعلى تقديرها قلوباً مقدّرة مفروضة يكون تخييلياً، ونظيره طارت به العتقاء، ففي كلامه لف ونشر، وسال به الوادي مثل يضرب لمن هلك كما قاله الزمخشريّ وقال الميداني يقال لمن وقع في أمر شديد والظاهر الأوّل وكذا طارت به العنقاء أيضاً مثل لما هلك، أو لمن طالت غيبته، والعنقاء بألف لتأنيث الممدودة في آخره اسم طائر سمي به لأنه في عنقه بياض كالطوق، ويقال عنقاء مغرب كمبعد لفظاً، ومعنى بالإضافة والتوصيف فيل إنه كان بأرض الرس جبل مرتفع قدر ميل فيه طيور كثيرة منها، العنقاء، وكانت عظيمة لخلق جدّا ولها وجه كوجه الإنسان وأجنحة كثيرة، وفيها من كل حيوان شبه وكانت تأكل الطير ثم جاعت فاختطفت صبياً ثم جارية، فشكوها لنبيّ كان ثمة قيل اسمه حنظلة بن صفوان، وقيل: خالد بن سنان فدعا عليها فهلكت وقطع الله نسلها، وقيل غير ذلك، وقيل: إنها لا حقيقة لها، ولم توجد أصلاً كالغول ولذا قال الصفيّ الحلي:
لما رأيت بني الزمان وما بهم ~ خل وفيّ للشدائد أصطفى
أيقنت أنّ المستحيل ثلاثة ~ الغول والعنقاء والخل الوفي
وما قيل: من أنها اسم ملك فضعيف جدّا.
(تنبيه) أسقط المصنف رحمه الله قول الزمخشريّ نحو قلوب الأغتام إشارة إلى أنه مع ما
بعده وجه واحد لا وجه مستقل كما توهمه عبارته، ولأنّ الثاني أنسب بمدعاه كما بيناه لك، ولذا قيل القلوب المقدّر ختمها قلوب العقلاء، لأنه لا يجوز عند المعتزلة ختم الله عليها إلا يطريق الفرض بخلاف قلوب البهائم، والزمخشريّ جعل الأغتام ممن ختم على قلبه وهم الجهال أو من لا يفصح وهو خرم لمذهبه لأنه منع للطف عن العبد وهم لا يجوّزونه، وقد عرفت مما قرّرناه لك سقوطه، وإن كان إسقاطه أولى فعبارته أخصر وأظهر، وهذا مما ينبغي أن يتفطن له فإنّ المصنف قدّس سرّه لا يعدل عن شيء مما في الكشاف إلاً لنكتة، ونحن إن شاء الله لا نهمل شيئاً منها. قوله:(الثالث أنّ ذلك في الحقيقة فعل الشيطان إلخ) يعني أنه إسناد مجازيّ من إسناد الفعل إلى السبب، كبنى الأمير المدينة والمسند مجاز فيه نحو أحيا الأرض الربيع وفاعله حقيقة الشيطان أو الكافر، وأورد عليه أنه يلزمه إسناد أفعال الكفرة
والشياطين وقبائح الشرور كلها إليه تعالى، فإن. قيل قد أسندتموها أنتم إليه حقيقة، فلم تنكرون إسنادها مجازا قيل نحن نسند خلقها إليه لا نفسها، ولو سلم فلا قبح في إيجادها عندنا بل في الاتصاف بها، كما مرّ وأنتم تدّعون قبحها، ولك أن تقول هو غير وارد رأساً فإنهم لم يقولوا بجوازه دهانما قالوا ما ورد منه موهما للقبح تؤوّله، كما اتفقوا على تاويل اليد ونحوها مما يوهم التجسيم وان لم يجز إطلاقنا الجارحة عليه تعالى نعم الاقدار والتمكين من القبيح قالوا إنه قبيح أيضا كما منع الشرع من بيع آلات القتال من أهل الحرب فما كان جوابهم فهو جوابنا، فإن قلت على ما ارتضيناه من الوجه السابق فيه مجاز في الإسناد أيضاً كهذا، فهو تكرار محض وهو الداعي لشراح الكشاف بأسرهم على جعله كناية إيمائية في الإثبات كما مرّ، وان كان تكلفاً لكنه كما قيل:
تدعو الضرورات في الأمور إلى سلوك ما لا يليق بالأدب
قلت: التجوّز في الإسناد على وجهين لأنه يكون بجعل الفعل كالفعل في معنى كالثبات والرسوخ السابقين، أو الفاعل كالفاعل للملابسة بينهما، وكل منهما مجاز حكمي إلا أنّ الأوّل فيه حشمة وأدب عندهم، فلذا قدم لا يقال لم يجيء الإسناد لتنزيل الفعل منزلة الفعل، ولم يتعرّض له أحد من أهل المعاني، وإنما جاء لتنزيل
الفاعل، لأنا نقول هذه شهادة نفي لا تسمع، ولو قبلت قلنا إذا شبه الفعل بالفعل لزم منه تشبيه الفاعل بالفاعل، والملابسات لا تنحصركمامرّ.
فلا تظن السراب بحراً
وأيّ بأس في جعل وجهي المجاز الحكمي جوابين، وقد فعل مثله في التمثيل من غير
أن يستبعده أحد من شراحه وما قيل هنا-ت أنه بقي وجه آخر لم يذكر، وهو أن يستعار الختم للأقذار والتمكين من الاعراض الكليّ عن الحق الموجب لعدم نفوذه ووصوله إلى محال القبول تشبيهاً لإعطاء القدرة على ذلك الاعراض السادّ لطرق النفاذ بالختم، وهو من الله لأنّ الأقدار، والتمكين لا يقبح عندنا وعندهم ليس بشيء لأنه يصير المعنى حينئذ أقدرهم الله على الختم ومراده أنه أقدرهم على إحداث الكفر والمعاصي، فإن قيل المعنى أقدرهم على الختم المتجوّز به عن إحداث ذلك فهو تعسف بلا قرينة، ثم إنّ المصنف رحمه الله. أسقط تمثيله في الكشاف بناقة ضبوث وقوله:
إذا ردّعا في القدر من يستعيرها
لأنه غير. ضعين لما مثل له كما في شروحه مع أنّ شهرة المجاز الحكمي تغني عن التمثيل، ولذا أسقط ما فيه من التفصيل، ثم إنّ قوله فعل الشيطان أو الكافر تبع فيه الزمخشريّ، وهو مناف لمذهب المعتزنة، لأنهم قالوا لو لم تكن العباد خالقين لا " فعالهم، لكان
إثابة بعضهم بالإيمان وتعذيب بعضهم بالكفر قبيحاً والله تعالى منزه عن فعله، فالظاهر أنّ إحداث ما يمنع عن قبول الحق من نفس العبد لكنه نقل عنهم أنّ الإضلال، والإغواء من فعل الشيطان كما نقله الحفيد فتنبه. قوله:(الرابع أق أعراقهم إلخ) الذي يظهر بعد إمعان النظر أنّ المراد بهذا أنه لما ذكر في الآية السابقة كفرهم، وغلوّهم فيه بحيث لا تنجع فيهم الآيات والنذر ونحوه مما يقتضي الإعراض عن الحق، وعدم قبول الإيمان علم منه أنه لم يبق طريق إلى إيمانهم غير القصر والإلجاء إليه، وهو مناف للتكليف فدل السياق والسباق على أنه شبه ترك الإلجاء والقسر بختم وطبع، فرضي على مشاعرهم لأنّ الختم يمغ من الوصول إلى ما ختم عليه والنفوذ فيه، وفي الإلجاء للإيمان رفع للمانع عنه، وفي تركه إبقاء له وابقاء المانع من القادر على رفعه مانع معنى كما قيل:
إنّ السفيه إذا لم ينه مأمور
وهذا وان لم يخل من البعد ليس بمستبعد منهم فإنهم يركبون أطراف الأسنة في سلوك
طرق الضلالة.
وقال قدّس سرّه: الختم عبارة عن ترك القسر والإلجاء إلى الإيمان فيجوز إسناده إلى الله حقيقة، وتحريره أنّ الختم على القلوب يستلزم ترك القسر، والإلجاء إلى الإيمان فمعنى ختم الله على قلوبهم أنه لم يقسرهم عليه، وليس هذا المعنى أعني ترك القسر مقصودا في نفسه بل لينتقل منه إلى أنّ مقتضى حالهم الإلجاء لولا ابتناء التكليف على الاختيار، وينتقل من هذا المقتضى إلا أنّ الآيات والنذر لا تغني عنهم، وأنّ الألطاف لا تجدي عليهم، وينتقل من عدم الإغناء والإجداء إلى تناهيهم في الإصرار على الضلال، فأطلق الختم على ترك القسر مجازا مرسلاً، ثم كنى به عن ذلك التناهي، فيكون هذا وجها مستقلاً في الآية كالجواب الثاني، وهذا ما يقتضيه ظاهر قوله عبر عن ترك القسر إلخ، ومنهم من قال حاصلهإنالختم المستعار لما مرّ جعل مجازاً عن ذلك الترك بعلاقة اللزوم فهو مجاز بمرتبتين، ولا يجوز أن يستعار الختم من معناه الأصلي، لترك القسر المشابه له في المنع عن وصول الحق في شأن هؤلاء خاصة، لأنّ الختم إحداث مانع محسوس، وترك القسر ترك رفع مانع معقول، واستعارة الأحداث للعدم بعيدة على أنّ معنى المنع في ترك القسر غير ظاهر إلا بعد سبق العلم بحالهم والآية لبيانها.
(أقول) ما ذكره من أنّ الختم على القلوب يستلزم ترك القسر، والإلجاء إلى الإيمان إن
أراد به أنّ الختم الحقيقيّ الفرضي يستلزمه فلا استلزام فيه بوجا من الوجوه وان أراد الختم المجازي السابق فهو المجاز بمرتبتين الذي لم يرضه هنا. وقوله ينتقل منه إلى أنّ الآيات والنذر لا تغني عنهم إلخ لا يخفى أنه صريح معنى قوله {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ} كما مرّ تقريره، فما معنى تكلف الكناية عنه بعد التصريح به وما المقتضى لهذا التكلف بعد النداء عليه، وهذا لم يظهر له وجه أصلاً وقوله ولا يجوز أن يستعار الختم إلخ إذا تدبرت ما فرّرته لك آنفاً ظهر ما فيه فتدبر، فإنّ هذا المقام من مزالق أقدام الأفهام ولهم فيه ما يتحير الناظر فيه، كما قيل إنّ هذا ليس وجهاً مستقلاً كما هو الظاهر، وان قال به الشارحون بل
مبنيّ على الاستعارة السابقة فإنّ الختم الحسي بمعنى ضرب الخاتم الحسي لا يستلزم ترك القسر، والإلجاء إلى الإيمان بل إحداث الهيئة المانعة عن قبول الحق على القطع يستلزم ترك الإلجاء إلى الإلمان، فإنّ الإلجاء والإحداث متنافيان فلا يليق ذلك بشأنه تعالى على زعم المعتزلة. قوله:(لم يقسرهم) يقال: قسره على الأمر قسرا من باب ضرب بمعنى قهره وألجأه والترامي تفاعل من الرمي والمراد به التزايد والترقي فيه يقال رميت على الخمسين، وأرميت إذا زدت كما في الأساس وصيغة التفاعل للمبالغة، وهو المناسب لما بعده لأنّ فرط الزيادة يؤدّي إلى التناهي أي بلوغ النهاية والوصول إلى الغاية، وقيل: هو مجاز عن التناهي، لأنّ المتناظرين في الرمي يبذلان جهدهما فيه فهو مكرّر مع ما بعده، ورسوخ الأعراق، كما في كتب القوم كناية عن الثبات والتصميم كما يقال له أعراق في اللوم قال:
جرى طلقاً حتى إذا قيل قدجرى تداركه أعراق سوء تبلدا
ومن فسره بضمائرهم المحتجبة بأبدانهم لم يصب، وعرق الشجر والنبات أصله ومنبته، وجمعه عروق وأعراق وقوله إبقاء على غرض التكليف إشارة لما تقرّر في الأصول من أنّ الإلجاء والإكراه الملجىء يمنع صحة التكليف بالمكره عليه لأنه لا يبقى للشخص معه قدرة واخت! ار والتكليف مبنيّ على ذلك، فإنّ القادر هو الذي إن شاء فعل، وإن شاء ترك، واستخكمت بمعنى قويت وأصله بمعنى أتقنت يقال: أحكمت الأمر إذا أتقنته، فاستحكم. وقوله:(إشعار على إلخ) الإشعار بمعنى الاعلام، ويتعدّى بالباء والمصنف عداه بعلى لأنه ضمنه معنى التنبيه، وهم يتساهلون في الصلات. قوله:(حكاية لما كانت الكفرة إلخ) يحتمل أنه حكاية له بلفظه إذ لا مانع من أن يقولوه بعينه، وحينئذ يقطع النظر فيه عن كونه حقيقة أو مجازا، لكنهم أطبقوا هنا على أنه حكاية بالمعنى، فإن كون القلوب في كنة هو معنى الختم عليها، كما أنّ وقر الآذان ختم عليها وثبوت الحجاب تغشية الأبصار، فتكون عبارة المحكيّ ما في الآية الأخرى قال الشارح الفاضل رحمه الله: هو حكاية لكلام الكفرة لا يعبارتهم فإن قولهم {قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِّمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ} [فصلت: 5] إلخ هو معنى ختم الله إلخ وكون إسناد الختم إليه تعالى حقيقياً معلوم من حال الكفرة، وأما أنّ الختم على هذا حقيقة أو مجاز ففيه تردّد ذكر في قوله وقالوا قلوبنا غلف أرادوا أنها في أغطية جبلة، وفطرة وفي قوله {وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ} [فصلت: 5] أنها تمثيلات لنبوّ قلوبهم عن الحق اهـ. وقال قدّس سرّه: الإسناد إلى الله حينثذ حقيقة لأنهم يجوزون إسناد القبيح إليه تعالى فإن جعل الختم حقيقة كان هذا وجهاً مستقلاً، وإن جعل مجازاً، كما هو الأولى كان راجعاً إلى ما تقدّم، وقوله معلوم من حال الكفرة مع إجماله أتم من ادعاء أنهم يجوزون إسناد القبيح إليه فإنه لا دليل عليه بل على خلات، فإنهم لما ادّعوا بطلان ما جاء به لم يكن الإعراض عنه وعدم قبوله قبيحاً بل مستحسناً كما لا يخفى ثم إنه يرد عليهم أنّ الختم هنا مجاز قطعا لأنّ معناه ضرب الخاتم كما مرّ وهو مففود بناء على أنّ معناه ما في الآية الأخرى وكونها أغطية جبلية لا يشعر بذلك بل بخلافه، ثم إنه ليس في عبارة المحكي إسناد إلى الله أصلَا والكلام مسوق لتوجيه الإسناد، وكون الكلام تمثيلَا لا ينافي حقيقة الأطراف، والجواب بأنّ مجازية الختم أعمّ من كون التجوّز فيه نفسه ومن كونه في الكلام المشتمل عليه كما قيل لا يجدي نفعاً، وأورد على هذا الجواب أنّ المقصود من هذه الآية تأكيد ما قبلها ولذا لم يعطف وعلى تقدير الحكاية يفوت هذا وقيل في رده: إنّ قولهم هذا يدل على كمال إصرارهم على الكفر فيؤكد عدم إيمانهم وعدم نفع الإنذار فيهم وهذا بين وإن خفي على السعد والسيد وكم من بين يخفى لدقتة، وهذا غريب فإنّ الذي في شرح الفاضل اعتراض على الوجه الثالث دون هذا والذي في شرح السيد ما نصه اعتراض على الخامس بأنه ياباه سوق الكلام، فإنّ القصد بختم الله إلى تقرير ما تقدّم من حال الكفار، وتأكيده سواء جعل استئنافا أو لا اهـ ومراده أنه ليس فيه ما يدل على الحكاية لعدم لفظ القول ونحوه، وقصد الاستهزاء والتهكم غير قصد التقرير والتكيد وإن كان مآل معناه إليه فتدبر. قوله:(تهكماً واستهزاء إلخ) التهكم والاستهزاء بمعنى هنا وهو ظاهر وفي شروح الكشاف أنه يفهم بالذوق السليم ووجه بأنه إذا نقل كلام أحد مع ظهور بطلانه يفهم منه
الاستهزاء وهذا كما في قوله تعالى {لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ رَسُولٌ مِّنَ اللَّهِ يَتْلُو صُحُفًا مُّطَهَّرَةً} [البينة: 1] لأنّ الكفار كانوا يقولون قبل مبعث النيّ صلّى الله عليه وسثم لا ننفك عما نحن فيه حتى يأتينا النبيّ الموعود به في التوراة والإنجيل، فلما جاءهم كفروا به، فحكى الله كلامهم ثمة على سبيل الوعيد والتهديد، ولو كان إخبارا لزم تخلفه والتشبيه في الحكاية فقط أو في الحكاية والتهكم كما في شروح الكشاف، وسيأتي معنى هذه الآية في محله. قوله:(إند ذلك في الآخرة إلخ) وهذا ليس بقبيح لأنّ الآخرة ليست بدار تكليف، ولأنه حينئذ وقع جزاء لأعمالهم قي الدنيا، فليس بظلم بل عدل ويؤيده معنى قوله تعالى {وَنَحْشُرُهُمْ} [الإسراء: 97] إلخ وكذا عطف قوله {وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} لأنّ المراد به عذاب الآخرة، وفي الاستشهاد بالآية إشارة إلى أنّ الختم
مجاز عن إبطال المشاعر ففيه حينئذ تجوز أن في المادة لما ذكرنا وفي الهيئة لأنه مستقبل عبر عنه بالماضي لتحققه فهو كقولك قتل بمعنى يضرب، وقد أورد عليه ما أورد على الخامس أيضا ويدفع بالعناية فتأمل. قوله:(إنّ المراد بالختم وسم قلوبهم إلخ) يعني ليس المراد به ما مرّ حتى يمتنع إسناده إلى الله بل هو سمة وعلامة في قلوبهم لتعرفهم الملائكة، فلا يدعون لهم ولا يخفى ضعفه، وان نقل عن الحسن البصري، واختاره الجبائيا ووضمع العلامة على القبيح ليجتنب غير قبيح بل حسن كما قيل عرفت الشرّ لا للشرّ، لكن لتوقيه والختم على هذا ليس بحقيقة بل استعارة تبعية، ويحتمل أن يكون مجازا مرسلاً كالمشفر بمعنى مطلق العلامة إذ الختم علامة مخصوصة. وقوله في الدر المصون: الختم لغة الوسم بطابع أو غيره إن أراد هذا فمسقم وإلا فلا وجه له. وقوله لغة لا يأباه والقول بأنّ الختم كناية عن الوسم لأنّ الشيء عند بلوغ آخره توضع عليه علامة يتميز بها بعيد وقد ردّ هذا بأنه غير مناسب لقوله {وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ} [البقرة: 7] أيضا وقوله وعلى هذا إلخ المنهاج كالمنهج الطريق أي جرى على هذا الأسلوب الخلاف بيننا وبين المعتزلة في كل ما ينسب إليه تعالى من هذا القبيل فنحن نقول هومسند إليه حقيقة ولا قبح فيه كما قيل:
من عرف الله أزال التهمه ~ وقال كل فعله لحكمه
وهم يتكلفون تأويله بما مرّ، ونحوه على ما هو معروف في الأصول، وأنما أشبع الكلام
فيه هنا لأنه أوّل آية وقع فيها ذلك. قوله: (وعلى سمعهم معطوف إلخ) لما احتمل أن يكون على سمعهم وما عطف عليه خبراً مقدما لغشاوة أو عاملان فيه على التنازع مع أنّ عطفه على قلوبهم أولى وأحسن معنى لتعينه في الآية التي ذكرها بينه، لأنّ القرآن يفسر بعضه بعضا، وأمّا تقديم القلب هنا وتأخيره هناك، فلأنّ المراد هنا بيان إصرارهم على الكفر وعدم قبول الإيمان الذي معناه، أو عمدة معناه التصديق وهو متعلق بالقلب فمقتضى هذا المقام تقديمه، والمقصود هناك بيان عدم قبول النصح والعظة، وهي مما يتعلق بالسمع فالمناسب ثمة تقديمه، وقيل في توجيهه أنّ الختم على السمع مقدمة لمنع القلب عن الفهم، فلذا قدم في النظم ولكون القلب، وأحواله مقصودة بالذات أخر في محل آخر وهو مع ما فيه من الإبهام غير مخل بالتمام، والوفاق وهو اتفاق القراء على الوقف على سمعهم يقتضي دخوله تحت الختم وهو ظاهر، وفي قول المصنف على قلوبهم إيهام لاحتمال عطف مجموع الجار والمجرور على مثله، كما هو الظاهر المتبادر وعطف المجرور فقط لأنّ الجار لتكرّره في حكم الساقط، ولذا لم يقل على قوله على قلوبهم مع أن صنيعه أخصر ويفهم مما ذكره أن قوله {وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ} [البقرة: 7] ابتداء لا تعلق له بما قبله، كما في الآية المذكورة، وقد صرّح به في
الكشاف وادعاء أنّ المصنف قصر في تركه من قصور النظر وكيف يتوهم هذا وقد صرّح به فيما سيأتي حيث جعله مبتدأ وقال إنه من عطف الجمل فلو ذكره هنا كان تكريراً بلا فائدة. قوله: (ولأنهما لما اشتركا) هذا وجه آخر لاتصاله بما قبله متضمناً لسببه، ومعناه أنّ فعل القلب، وهو الإدراك لا يختص بجهة فمانعه يمنعه من جميع الجهات أيضا، وان اختص وقوعه بجانب إلاً أنه لا يتعين فجعل الختم عاماً، كمنعه وقارن السمع لأنه يدرك الأصوات من جميع الجهات: وكل قرين بالمقارن يقتدي
وأمّ إدراك البصر، فلا يكون إلاً بالمحاذاة والمقابلة فجعل المانع له ما يمنع منها أيضاً،
وهو الغشاوة لأنها في الغالب كذلك كغاشية السرج، كما قال
تعالى {لَهُم مِّن جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِن فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ} [الأعراف: 41] فخصها بجهة العلوّ المقابلة، ومثله يكفي في النكات، ولا يضره ستره لجميع الجوانب كالإزار وقيل الغشاوة إنما تكون بين الرائي والمرئي، فتختص بالمقابلة وهو واضح لا سترة فيه وقوله في الكشف فيه نظر لأنّ لفظ الغطاء والغشاوة لا ينبىء عن خصوص جهة المحاذاة، فالوجه أن الغشاوة مشهورة في أمراض العين فهي أنسب بالبصر من غير حاجة لما تكلفوه يعلم ما فيه مما قدمناه وقال: في القلب والسمع خاص فعلهما دون العين لما سيأتي وفي الانتصاف الأسماع والقلوب لما كانت مجوّفة كان استعارة الختم لها أولى والأبصار لما كانت بارزة، وادراكها متعلقاً بظاهرها كان الغشاء بها أليق والنكات لا تتزاحم. قوله:(وكرّر الجأر إلخ) الشدة لأنّ الختم على الشيء وعلى ما يوصل إليه أشدّ من الختم عليه وحده أو عليهما معاً فإنّ ما يوضع في خزانة إذا ختمت خزانته، وختمت داره كان أقوى في المنع منه وأمّا الاستقلال، فلأنّ إعادته تقتضي ملاحظة معنى الفعل المعدى به حتى كأنه ذكر مرّتين، ولذا فرق النحاة بين مررت بزيد وعمرو، ومررت بزيد وبعمرؤ بأنّ في الأوّل مروراً واحدا، وفي الثاني مرورين والعطف، وأن كان في قوّة إعادة العامل ليس ظاهرا في إفادته كإعادته، لما فيه من الى*حتمال وهذا معنى ما في الكشاف مع أنّ هذا أوضح وأظهر، لأنه قال فيه: لو لم يكرر لكان انتظاماً للقلوب والأسماع في تعدية واحدة وحين اسنجد للأسماع تعدية على حدة كان أدل على شدة الختم في الموضعين اهـ فإنّ قوله في الموضعين إشارة إلى الاستقلال الذي صرّح به المصنف، وقيل: ختم يستعمل تارة متعدّيا بنفسه يقال ختمه فهو مختوم وأخرى بعلى، فإذا عدي بعلى دل على شدة الختم، لأنّ زيادة اللفظ تدل على زيادة المعنى، وليس هنا معنى مناسب سوى الشدة، والاستقلال لما مرّ هكذا ينبغي أن يفهم هذا
المقام، والعجب أنّ صاحب الكشاف ذكر الفائدة الأولى دون الثانية ولم يتعرّض لحلها جميس ر الشراح وبعض أفاضل المتأخرين بينها بما هو بيان للثانية اهـ. يعني الشريف حيث قال في شرحه ة لقوله أدل على شدّة الختم لأنّ ملاحظة معنى الجار في كل منهما تقتضي أن يلاحظ مع كل واحد معنى الفعل المعدى به، فكأنّ الفعل مذكور مرّتين اهـ. ولا يخفى ما فيه، فإنه إن أراد بزيادة المعنى زيادة الكتم، فهو بعينه ما بعده فيقع فيما فرّ مته، وإن أراد زيادة الكيف، فليس فيما ذكره ما يدل عليه والحكم في كلام المصنف النسبة أو المحكوم به، وهو الختم هـ قوله:(ووحد السمع للامن إلخ) رفيم لما يخطر في الخواطر من أنّ مقتضى انتظام الكلام أن تجري المذكورات على نمط واحد، فيؤتى بها كلها مفردة أو مجموعة فلم أفرد هذا دون أخويه، فوجه بأنه يطرد إفراد ما حقه الجمع إذا أمن الليس كما في قوله:
كلوا في بعض بطنكم تعفوا ~ فإنّ زمانكم زمن خميص
فذكر بطنكم في موضع بطونكم لذلك، فلو ألبس مثله لم يجز كما في نحو ثوبهم، وفرشهم في محل يحتمل الاشتراك، وهو غير مراد أو لأنه مصدر في الأصل والأصل فيه الإفراد لصدقه على القليل والكثير، فلا يجمع ما لم يرد تنوّعه لمحاً لأصله، وهذا مصحح، وقيل: إنه مر] ح لأنه الأصل ولا مقتضى للعدول عنه وفيه أنه عند السائل له مقتضى لا ينكر، وهو مجانسة أخويه وتعدّده في الواقع.
فالظاهر ما فيل من أنّ المرجح الاختصار والتفنن مع الإشارة إلى نكتة هي أنّ مدركاته
نوع واحد ومدركاتهما أنواع مختلفة وقيل الجوإب أنه إذا نساويا، فتعيين الطريق ساقط، ودلالة إفراده على وحدة متعلقه لا تعلم من أيّ الدلالات هي ورد بأنها دلالة التزامية وهي يكتفى فيها بأيّ لزوم كان ولو بحسب الاعتقاد في اعتبارات البلغاء أو على تقدير مضاف مثل وعلى حواس سمعهم أو مواضع سمعهم، فالسمع بالمعنى المصدري لأنه كما قال الراغب قؤة في الأذن تدرك بها الأصوات، وفعله يقال له: السمع أيضاً ويعبر تارة بالسمع عن الأذن وتارة عن فعله نحو {إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ} [الشعراء: 212] والحواس جمع حاسة، وهي القوّة التي تدرك بها الأغراض الجسمية والحواس هي المشاعر الخمس اهـ فما قيل عليه من أنه مجرّد تجويز نحويّ لأنّ حمل السمع على المعنى المصدري بدون ذكر هذا المضاف بعيد، وفي تقديره نظر لا وجه له، وقرأ ابن أبي عبلة في الشواذ وعلى أسماعهم
واستشهد له بقوله: قالت ولم تقصدلقيل الخنا مهلاً لقدأبلغت أسماعي
وما قيل في توجيه الإفراد أنّ المراد سمع كل واحد، وهذا وإن كان حقه الإفراد إلا أنّ
حمل الجمع على كل فرد فرد جائز لا واجب كما قيل في قوله تعالى {يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا} [غافر: 67] على وجه.
واعلم أنه قال في المثل السائر إنّ مما هو من صناعة البلاغة بمنزلة عليته اختلاف الألفاظ، فمنها ما لا يحسن استماعه الآ مجموعاً كاللب، فلذا لم ترد في القرآن مفردة لأنّ الجمع فيها أحسن وبضدّه ما ورد مفرداً ولم يرد مجموعا كالأرض، وأمّا المصادر فالإفراد فيها هو الأحسن ومما جاء منها مجموعاً قول عَنترة:
فإن يبرأ فلن أنفث عليه ~ وإن يفقد فحق له الفقود
فهذا غير شائع، ولا لذيذ وإن كان جائزا وكله يرجع إلى حاكم الذوق السليم، فإن
قلت: الدلالة الالتزامية من توابع الوضعية، واللزوم معتبر فيها بالنسبة لمدلول اللفظ وضعاً سواء كان لزوماً عقليا، كما اعتبره أهل الميزان أو أعمّ منه فيشمل العرفي وغيره، كما هو عند الأدباء وأهل المعاني، ومدلول السمع الحاسة أو فعلها كما مرّ ولا دلالة لذلك على وحدة المتعلق أو تعدّده وهذا هو الذي قصده المدقق في الكشف فما وجه ردّه قدّس سرّه. قلت: أراد أنّ الكلام البليغ الملقى للمخاطب إذا قصد به ما اتضح دلالته عليه يعدّ تصريحا، فإن قصد ما يستلزمه يكون كناية لزومية، وإن لم ينشأ ذلك مما وضمع له كما قرّر في شرح قول السكاكيّ إنّ إخراح الكلام لا على مقتضى الظاهر يسمى كناية، وهو مما خفي على بعض شراحه، أو نقول وحدة اللفظ تدلّ على وحدة مسماه، وهو الحاسة ووحدتها تدلّ على قلة مدركاتها قي بادىء النظر، ومثله يكفي في اللزوم عرفاً، وقيل اعتبار البلغاء دلالة رابعة، كما أنّ العادة طبيعة خامسة وهذا مخالف لما قرّره في شرح المفتاح فليحرّر التوفيق بينهما فإنه محتاج لمزيد تدفيق ومنه يتنبه لوجه جمع القلوب كثرة والأبصار قلة وإن كان ذلك هو المعروف في استعمال الفقهاء في جمعهما. قوله:(والآيصار جمع يصر إلخ) في الكشاف والبصر نور العين وهو ما يبصر به الراني ويدرك المرئيات كما أنّ البصيرة نور القلب وهو ما به يستبصر ويتأمّل وكانهما جوهران لطيفان خلقهما الله فيهما اكتين للأبصار والاسنبصار اهـ. وعدل المصنف عته لما فيه من التطويل والخفاء، والبصر في الأصل مصدر بمعنى إدراك العين وإحساسها، كما في كتب اللغة، ثم تجوّز به عن القوّة التي هي سببه وعن العين التي هي محله وشاع هذا حتى صار حقيقة في العرف لتبادره، وهو المناسب للختم والغشاوة لتعلقهما بالأعيان، والقوّة واحدة القوى، وهي في العرف العام معنى يصدر به عن الحيوان أفعال شاقة وضدّها الضعف، وعند الحكماء معنى راسخ هو مبدأ للتغيير وصدور الآثار والقوّة البصرية عندهم معنى في ملتقى العصبتين الواصلتين من الدماغ إلى الحدقتين من شانه إدراك الألوان والأشكال وتفصيله معروف في محله، وتحمل هذه القوى أجسام لطيفة بخارية تتكوّن من لطيف الأخلاط، وتسمى أرواحاً عند الأطباء، واشتهر إطلاق النور عليها فيقولون في الأعشى ضعف نور بصره وفي الأعمى فقد نور بصره.
وقال الإمام الغزالي في كتاب المشكاة اسم النور بالنور الباصر أحق منه بالنور المبصر
وهذا مراد الزمخشريّ، وفيه كلام في الشروح إيراده هنا من الفضول، وقد كفانا المصنف رحمه الله مؤنته بتركه. قوله:(ولعل المراد بهما في الآية إلخ) العضو بضم العين ويجوز كسرها، وبضاد معجمة ساكنة يليها واو الظاهر أنه أراد به جزءاً من أجزاء البدن مطلقا إلاً أنّ أهل اللغة كما في العين وغيره قالوا: إنه مخصوص بالجزء المشتمل على لحم وعلى عظم كاليد والرجل، فعلى هذا هو هنا مجاز، ولا ضمير فيه وفي قوله أشد إشارة إلى أنّ في الآخر مناسبة أيضاً باعتبار محله أو التقدير فيه كما مرّ إلا أنه يتوجه عليه إذا كان البصر مصدرا أنه كيف يتم ما مرّ في توجيه إفراد السمع بأنه لمح أصله ووجه المناسبة تقدم تقريره وهو جار على التجوّز نظراً لأصله، أو لأنّ إحداث الهيئة يكون فيها، وأتى بلعل لعدم جزمه به والظاهر أنه تأدّب منه في التفسير بغير المأثور وهذا دأبه، ودأب السلف نفعنا الله ببركاتهم، وفي الكشف أنّ الزمخشريّ
يعبر بكأن فيما لم يسبق فيه بنقل، ولذا قال: كان هنا وقيل إنما عبر بكأن فيه لأنه ناشىء عن ظن وتخمين كسائر الأمور العقلية التي يدعونها، وأمّا كيفية الإبصار فليس هذا محلها، وقوله وبالقلب ما هو محل العلم إلخ الظاهر أنه الجسم الصنوبري المعروف، لأنه اشتهر في الآيأت والأحاديث، ولسان الشرع أنه محل العلم وكونه في الدماغ أو مثتركا بينهما مبنيّ على إثبات الحواس الباطنة التي لم يثبتها الشرع والكلام فيها مشهور، وقيل: إنما قال ما هو إلخ ليشمل الدماغ ولا يخفى ضعفه والقلب، في الأصل مصدر سمي به لتقلبه أو لأنه لبه، ولذا سمي العقل لباً أيضاً. قوله:(وقد يطلق ويراد به العقل والمعرفة) الإطلاق لغة فك القيد والعقال ونحوهما، والمراد به هنا الاستعمال، وقد يراد به استعمال بدون قيد وشرط، وهو فيهما حقيقة عرفية، والعقل يقال للقوّة المتهيئة لقبول العلم وللعلم المستفاد بها وأصل معنا. الإمساك بعقال ونحوه كما قال:
قد عقلنا والعقل أيّ وثاق وصبرنا والصبر مرّ المذاق
وفي جمع المصنف بين يطلق، والعقل إيهام تضاد، وفيه لطف لا يخفى، والعقل هنا إن
كان العلم بالكليات والمعرفة العلم بالجزئيات، كما هو أحد معانيها، فذكره للتعميم، وان كان مطلق الإدراك، فهو المراد بالمعرفة أيضاً، وقيل العقل بمعنى التعقل وعطف المعرفة عليه عطف تفسيرقي، لثلا يراد به القوّة العاقلة، واستشهد بالآية على أنّ المراد بالقلب فيها العقل بعلاقة الحالية والمحلية، كما أشار إليه قبيله، وقد قيل عليه إنه مخالف لما فسره به في سورة ق من قوله أي قلب واع يتفكر في حقائقه وتنكيره وابهامه تفخيم واشعار بأنّ كل قلب لا يتفكر ولا يتدبر.
وقال الشيخ في الدلائل بعدما نقل تفسيرهم: القلب في الآية بالعقل منكراً على من فسره
به أنّ المرجع إليه لكن ذهب عليه أنه كلام مبنز، على تخييل أن من لا ينتفع بقلبه فلا ينظر ولا يعي بمنزلة من عدم قلبه جملة، كما في قول الرجل: غاب عني عقلي، ولم يحضرني يريد أن يخيل إلى السامع أنه غابءخه قلبه بجملته، ويريد أنه لم يكن علمه هناك، وكذا إذا قال: لم أكن هناك يريد غفلته عن شيء فهو يضع كلامه على التخييل، وفي الإيضاح: كلام الشيخ حق لأنّ المراد بالآية الحث على النظر والتقريع على تركه فإن أريد بهذا التفسير أن المعنى، لمن كان له عقل مطلقاً، فهو ظاهر الفساد، وان أراد أنّ المعنى لمن كان له عقل ينتفع به، ويعمله فيما خلق له من النظر فتفسير القلب بالعقل ثم تقييده بما قيد به عار عن الفائدة لصحة وصف القلب بذلك بدليل قوله تعالى {لَهُمْ قُلُوبٌ لَاّ يَفْقَهُونَ بِهَا} [الأعراف: 179] .
(أقول) هذا ليس بشيء لأنّ المقصود بصدد بيان معاني القلب لغة وبيان وجو. استعماله
في النظم، فذكر أحدها هنا تبعاً لغير. كالراغب تتميماً للفائدة فلا ينافي ذكره لوجه آخر ثمة وتفسيره به هـ هذا بحسب جليّ النظر وأمّا بحسب دقيقه، فالمآل واحد، لأنّ من فسره بالعقل وسكت عن توصيفه جنح أيضاً إلى ما جنح إليه الشيخ من تنزيل الموجود منزلة المعدوم لعدم غنائه، فكأنّ من لم يتدبر لا عقل له رأسا كما أنّ الشيخ لما أبقاه على أصله وحقيقته أشار إلى أنّ من لا يعي ولا يفهم بمنزلة الجماد الذي لا قلب له، ومن قدر الصفة نظر إلى الظاهر، وسلك الطريق الواسع فما في الإيضاح لا وجه له نعم كلام الشيخ فيه من لطف التخييل والجري في ميدان البلاغة العربية ما لا يلحق وقد ألنم بمثله ااشعراء وعدوه من لطيف المعاني كماقيل:
قالت وقد سألت عنها كل من ~ لاقيته من حاضر أو بادي
أنا في فؤادك فارم طرفك نحوه ~ ترني فقلت لها وأين فؤادي
وفي ذريعة الشريعة لما كان تأثير هذه القوى من الدماغ قيل مسكن الفكرة وسط الدماغ، ومسكن الخيال مقدّمه، ومسكن الحفظ والذكر مؤخره، ولما كان قوام الدماغ بل الجسم كله من القلب الذي هو منشأ الحرارة الغريزية عبر الناس عن هذه القوى مرّة بالدماغ، فقيل لمن قويت قواه المدركة له دماغ، ولمن ضعفت فيه خالي الدماغ وتارة بالقلب، وهو أكثر وعليه قوله تعالى {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ} [ق: 37] اهـ. قوله: (وإنما جاز إمالتها إلخ) يعني أنّ الصاد حرف مستعل، وهو عند النحاة وأهل الأداء مناف
للإمالة فيمنع منها لأنها إن ينحو بالفتحة نحو الكسرة، وبالألف نحو الياء وذلك مقتض لتسفل الصوت، والاستعلاء مقتض لخلافه، فوجهوه بأنّ سببه هنا الكسرة الواقعة على الراء وهو كما بينوه في مباحث مخارج الحروف، وصفاتها حرف مكرر، لتكرّره على اللسان في النطق به فإنه يرتعد وأظهر ما يكون التكرير إذا شدد أو وقف عليه فكسرته بمنزلة كسرتين، فقوي السبب حتى أزال المانع وهذا معنى ما في الكشاف من أنّ الراء المكسورة تغلب المستعلية لما فيها من التكرير
كأنّ فيها كسرتين، وذلك أعون شيء على الإمالة وأن يمال له ما لا يمال، ولم يرتض هذا الإمام الجعبري في شرح الشاطبية والرائية فقال: وجه الإمالة مناسبة الكسرة واعتبرت الكسرة على الراء دون غيرها لمناسبة الإمالة الترقيق لا ما توهمه المعللون لقوّتها بالتكرير لعدمه، يعني أنّ طائفة فهموا من قولهم إنّ الراء حرف مكرّر إنه حقيقة وليس معناه إلاً أنّ اللافظ بها يجب عليه المحافظة عليها لئلا يقع تكرير، وهو خطأ عظيم، إذ لم يقل أحد بأنّ في نحو ضرب راآن اهـ. ولا يخفى أن فيها تكرارا مّا، كما يدركه الطبع السليم وإن كان في الوقف والتشديد أظهر وما ذكره العلامة مما اتفق عليه أهل العربية، وأيده الوجدان فتدبر. قوله:(رفع بالابتداء عند سيبويه إلخ) هذا مذهب الجمهور وخص سيبوبه لأنه مقتداهم، والأخفش يجعله فاعلاً بالظرف وإن لم يعنمد على ما يجب الاعتماد عليه من النفي والإستفهام وأخواتهما، وهو محل الخلاف، والأخفش لا يمنع صحة كونه مبتدأ، كما توهم والالتباس مخصوص بالخبر الفعلي، كما مرّ فلهذا كان فيه الوجهان إذا اعتمد بالاتفاق، وإن اختلف في الأرجح لأنه إجمال لا ليس والفرق بينهما مما خفي على كثير حتى توهم اتحادهما وهو فاسد قطعاً، والفرق بينهما أنّ في الإلباس فهم خلاف المراد وفي الإجمال عدم الفهم مطلقاً، لأنه لا يفهم من المجمل شيء بدون بيان، ولا ضرر في عدم الفهم إنما الضرر في فهم غير المراد، كذا أفاده شيخنا في حواشي شرح التسهيك، وقيل: الرفع بالابتداء لا يختص بسيبور لاتفاق ما عدا الأخفش عليه إذا لم يعتمد على ما يجب اعتماد اسم الفاعل عليه حتى يعمل، والذي اختص به سيبويه أنه لا يكتفى بالاعتماد على ما سوى الموصول، ويشترط كون المرفوع حدثا، وقال الرضي: إذا لم يعتمد الظرف على أحد الأشياء الستة، ولم يقع بعده أن المصدرية، فالمرفوع مبتدأ مقدّم الخبر وعند الكوفيين والأخفش في أحد قوليه هو فاعل الظرف، لأنّ الكوفيين لا يجوزون تقديم الخبر على المبتدأ، وأمّا الأخفش، فيجوّز ارتفاعه على الابتداء أيضاً لتجويزه عمل الصفة بلا اعتماد،. وله في الظرف قولان. قوله:(ويؤيده العطف على الجملة الفعلية) أي يؤيد رأي الأخفش عطفه على جملة ختم الفعلية، لأنّ الأصل الأقوى في متعلقه أن يقدر فعلا لا سيما إذا وجد ما يقضتيه كالعطف على مثله، وما قيل: من أنه لو قدر وصفاً ضعف من وجهين عمل اسم الفاعل والظرف من غير اعتماد ضعفه أقوى منه، وحينئذ فقوله {وَلَهُمْ عَذَابٌ عظِيمٌ} [اس عمران: 176] مثله وقد أيد أيضاً بنصب غشاوة وقيل إنّ التحقيق أن تجعل اسمية معطوفة على الفعلية، وعدل عن فعليتها للدلالة على الثبوت، والدوام الذي اقتضاه المقام لأنّ سبب الإيماذ على ما تقرر حدوث العالم وتغيره، وهو لا يدرك الآ بحاسة البصر وكون الجملتين دعائيتين ليس بشيء هذا، والظاهر أنا إن لم نقل بأنّ هذه الجملة وما عطف عليها حالية ثابتة على كل حال وعليه لا إشكال، فوجه العدول عن الفعلية إلى الاسمية، وترك التناسب المطلوب أنه قصد فيه إلى أنّ غشاوة البصر ثابتة جبلية فيهم، كما قال تعالى {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لِّأُوْلِي الألْبَابِ} [آلى عمران: 90 ا] فمن لا لبّ له لا ينظر نظر استبصار في الأنفس، والآفاق بخلاف عدم التصديق وعدم الإصغاء للنذر فإنه متجدّد فيهم قديماً وحديثاً، فدل النظم على أنهم، كما لم يمتثلوا أوامر الرسول لم يجروا على مقتض العقول لخبث طينتهم والطبع على طويتهم، وهذا هو السر في التعبير بالغشاوة الخلقية في العين، وهذا من بدئع التنزيل، التي ينبغي العض عليها بنواجذ التعويل. قوله:(وقرىء بالنصب إلخ) هذه القراءات كلها شواذ الآ المشهورة منها، وهي غشاوة بكسر الغين المعجمة مع الألف بعد الشين والرفع ولذا عبر المصنف بقرىء المجهول، والنصب نصب غشاوة المكسور أوّله.
وقال قدّس
سرّه لا بدّ في النصب مطلقاً من تقدير فعل كجعل وأحدث على طريقة قوله:
علفتها تبناً وماء بارداً
وفيه مناقشات منها أنه قيل عليه: إنه يدفعه قول المصئف وغيره أنه على حذف الجار،
وأيضاً أنه يحتمل كما في البحر أن يكون غثاوة اسماً وضع موضع مصدر من معنى ختم، كقعدت جلوساً لأنّ معنى ختم غشي وستر، فكأنه قيل تغشية على سبيل التأكيد ويكون قلوبهم وسمعهم وأبصارهم مختوماً عليها مغشاة، وأيضاً ليس هو من قبيل، علفتها تبناً وماء باردا، سواء قدر فيه جعل أو انتصب على نزع الخافض لأنّ الغشاوة ليست مما يختم عليه كالقلب والسمع بل مما يختم به وبين المختوم عليه والمختوم به فرق ظاهر وقد صرّج به في الجاثية في قوله تعالى {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَن يَهْدِيهِ مِن بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ} [الجاثية: 23] فجعل البصر مختوماً عليه بالغشاوة، فإن قلت هل في تغاير أسلوب ما هنا، وثمة نكتة غير التفنن، فإنه عكازة أعمى. قلت: لما ذكر هنا الكتب السماوية وهداية من اهتدى بها من المؤمنين، وهم السعداء أزلاً وأبدا، ثم عقبهم بأضدادهم الذين لم يفدهم الإنذار أصلَا بين ذلك وعلله فأن مشاعرهم مجبولة على الغواية، وعدم قبول الحق وأفاد أنّ بصرهم وبصيرتهم مستمرّة ثابتة على عدم نظر الآيات البينات قبل الدعوة وبعدها، فلذا عدل فيها إلى الاسمية، أو ترك التصريح بالفعل، وثمة ذكر من عرف الحق، ثم عدل عنه كأهل الكتاب الذين لما جاءهم ما عرفوا كفروا به، فناسب التصريح بتجدّد الغشاوة ولذا صدرت بقوله أفرأيت وقدم السمع فيها، وما قيل من أنه في الجاثية قصد بيان عدم قبول النصح وعدم المبالاة بالمواعظ الواصلة إليهم حينا بعد حين فناسب الفعل الدال على التجدّد لا يصلح وجهاً لمدعاه، فإن قوله تعالى {سَوَاء عَلَيْهِمْ} إلخ أدلّ على ما ذكره لصراحته في 4، كما لا يخفى فهذا غفلة أو تغافل.
(أقول) ما ذكره قدس سرّه من قوله علفتها تبنا وماء بارداً، كقوله متقلداً سيفاً ورمحا. وقوله: فزججن الحواجب والعيونا، وهو أصل من أصول العربية معناه أنه إذا عطف على معمول عامل معمول آخر لا يليق عطفه عليه بحسب الظاهر لمانع منه معنويّ أو صناقي، ففيه طرق أحدها التقدير، والثانية أن يضمن العامل المذكور معنى عامل عام لهما، أو يتجوز به عنه كأنلتها في الأؤل وحاملَا، وحسن فيما بعده، وذكر الثعالبي رحمه الله أنه من المشاكلة، ووجه ما قاله من أنه يتعين كون ما هنا من هذا القبيل إنّ القرآن يفسر بعضه بعضاً، وقد صرّح في غير هذه الآية بإخراح الإبصار عن حكم ألختم إلى التغشية المغايرة له بمعنييه، وهذا يأبى جعله مصدر الختم من معناه، كما في البحر ويقتضي عدم انتصابه بنزع الخافض لأنه إن لم يقدر له فعل اقتضى اشتراك القلوب والأسماع فيه، والاً كان فيه تعسف لأنه إذا ارتكب التقدير فليقدر فعل متعد بنفسه، وقد قيل عليه إنه يزيفه الوفاق على الوقف على سمعهم، وفوت نكتة تخصيص الختم بما عدا الأبصار، ويحتمل أن تكون غشاوة مفعول ختم والظروف أحوال أي ختم غشاوة كائنة على هذه الأمور لثلا يتصرّف فيها بالرفع والإزالة اهـ وفيه نظر. قوله:(وقرىء بالضم والرفع إلخ) أي قرىء في الشواذ بضم الغين، ورفعه وبفتح الغين المعجمة ونصمبه، وضم الغين وفتحها لغتان، وقرىء غشوة بكسر المعجمة مرفوعا، وبفتحها مرفوعا، وعنصوبا، والتخصيص في مثله نقليّ لا يسئل عن وجهه، وغشاوة بفتح المهملة والرفع وجوّز فيه الكسر والنصب من العشي بالفتح والقصر، وهو الرؤية بالنهار دون الليل ومنه الأعشى والمعنى أنهم يبصرون الأشياء ابصار غفلة لا تنظر غير الواضح لا إبصار عبرة، أو أنهم لا يرثون آيات الله في ظلمات كفرهم، ولو زالت تلك الظلمات أبصروها، وقال الراغب: العشاء كللتي تعرض في العين وعشى عن كذا عمي قال تعالى {وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا} [الزخرف: 36] وعلى هذا معناه ظاهر. قوله: (وعيد وبيان لما يستحقونه إلخ) الظاهر أنه معطوف على ما قبله فيكون بيانا لإصراوهم بأنّ مشاعرهم ختمت وأنّ الشقوة في الدارين عليهم حتمت، وهو غنيّ عن البيان، وليس استئنافاً ولا حالاً، وقيل إنه دفع لما يتوهم من عدم استحقاقهم العقاب على كفرهم لأنه بختم الله وتغشيته وفي استعمال اللام المفيدة للنفع وجعل فائدتهم ونفعهم العذاب العظيم تهكم بهم، ولا وجه له فإنّ اللام إنما تفيد النفع وتقع في مقابلة
على في الدعاء وما يقاربه ولم يقل به أحد هنا ولا يقال عليهم العذاب فلا تهكم فيه، وهي لام الاستحقاق وفي المغني لام الاستحقاق هي الواقعة بين معنى وذات نحو {الْحَمْدُ للهِ} [الفاتحة: ا] والأمر لله و {وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ} [المطففين: أ] و {لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ خزي} [البقرة: 114] ومنه وللكافرين النار أي عذابها اهـ وهذه الجملة اسمية قدم خبرها استحسانا لأنّ النكرة موصوفة ولو أخر جاز كما في قوله تعالى
{وَأَجَلٌ مُّسمًّى عِندَهُ} [صورة الأنعام: 2] وسيأتي تفصيله ويجوز أن يقال تقديمه للتخصيص، وقيل إنه تهويل لما يستحقونه من القتل والأسر في الدنيا والعذاب الدائم في العقبى، ومن وجوه تهويله بيان أنّ ما يستحقونه من العذاب مخصوص بهم فلا يعذب عذابهم أحد، ولا يوثق وثاقهم أحد. قوله:(والعذاب كالنكال إلخ) أمّا اتحادهما في البناء، وهو الوزن فظاهر، وأما في المعنى فبينه بقوله تقول إلخ. وقد اختلفوا في أصله، فقيل إنه من قولهم عذب الرجل إذا ترك اكل والشرب والنوم، فالتعذيب حمله على أن يجوع ويظمأ ويسهر، وحاصله الإمساك ومنه العذب لمنعه من العطش كما قيل:
مابال ريقك ليس ملحاطعمه ويزيدني عطشا إذا ماذقته
ويقمع بمعنى يزيل، وأصل معنى القمع الكف والرح والمنع والزجر، ونقاخ كغراب
الماء البارد العذب الصافي بنون وقاف وخاء معجمة آخره وكذا الفرات، وفي الكشاف ويدل عليه تسميتهم إياه نقاخا لأنه ينقخ العطش أي يكسره، وفراتا لأنه يرفته على القلب أي يفتته ويكسره، وعلى القلب وزنه عفال إلاً أنه قيل عليه إنه تعسف لأنه لم يرد رفات بمعنى فرات قط، وقد يقال مراده أنه يلاحظ فيه معنى اعتبره الواضع حتى إذا لم يوجد صريحاً تصرفوا في مادّته بتقدير التقديم والتأخير، فليس قلباً حقيقياً وهذا كثيراً ما يذكره في العين والتهذيب، ولبعده توهم بعضهم أنّ القلب فيه بمعنى الجارحة، ولا وجه له وقال ابن الصائغ: إنه لم يرده ولكنه أوهمه، كما يقال للثقيل خفيف على القلب، وأمّا كون الرفت الكسر والمذكور أوّلاً المنع وبينهما فرق فقد دفع بأن الكسر يعبر به عن المنع كما يقال 3 سر سورته إذا كفها، فبينهما مناسبة أو الرح مؤثر، ولا تأثير أعظم من الكسر. قوله:(ثم يسع فأطلق على كل ألم فاح إلخ) اتسع مبنيّ للمجهول وأصله اتسع فيه فهو كمشترك، ولو قرىء معلوماً جاز لكن الأؤل أولى والفادح اسم فاعل من فدج بفاء، ودال وحاء مهملتين بمعنى مثقل، والمرأد مؤلم شاق مطلقا وإن لم يكن مانعاً رادعا.
وقال السخاوندي العذاب إيصال الألم إلى الحيّ مع الهوان فإيلام الأطفال والبهائم ليس بعذاب. وقوله: (قهو أعنم منهما) ذهب كثير إلى أنّ ضمير التثنية للنكال والعقاب، لأنّ النكال ما كان رادعا، والعقاب بمعناه، أو هو ما يجازى به كعقاب الآخرة والعذاب أعم إذ هو ما يؤلم مطلقاً فيشمل عذاب البهائم والأطفال وغيرهما وقيل معناه أعم مما يكون نكالاً وما لا يكون نكالاً لوجوده في كل منهما بدون الآخر، ومن أرجع الضمير إلى العقاب فقد زاغ عن سنن
الصواب اهـ. يعني لأنّ العقاب لم يذكر قصدا بل للتفسير، وأنه على هذا الثفسير مطابق لكلام الكشاف، ولكنه ليس ما ذكره أقرب عند الإنصاف، حتى يدعي أنه خطأ. قوله:(وقيل اشتقاقه من التعذيب إلخ) قال الراغب في مفرداته: قيل أصل التعذيب من العذب فعذبته أزلت عذب حياته على بناء مرّضته وقذيته، وقيل: أصل التعذيب إكثار الضرب يعذبة السوط، وقيل من قولهم بئر عذية فيها قذى وكدر فعذبته بمعنى كدّرت عيشه، وقال أيضاً التمريض القيام على المريض، وتحقيقه إزالة المرض عن المريض كالتقذية في إزالة القذى عن العين اهـ. والقذى ما يسقط في العين، فيؤلمها أو الشراب فيعاف وأقذاه أوقع فيه القذى وقذاه أزاله وأوقعه فيه، فهو ضدّ هذا تحقيقه على ما بيناه، ومنه علم ما أراده المصنف رحمه الله وأنّ التفعيل فيه للسلب كالأفعال، ومعنى عذبه أزال ما يستعذبه كمرضه وقذاه وإنما أوضحناه مع وضوحه لما وقع فيه من الخبط، حتى قيل: إنّ التمريض التوهين، وحسن القيام على المريض فكأنه جعل حسن القيام على المريض إزالة للمرض عنه وقيل لعله وحده بمعنى الإزالة وقد سمعت التصريح به من أهل اللغة، وإنما جعل العذاب مشتقا من التعذيب، فالمراد أنه مأخودّ منه في الأصل، ثم استعمل في الإيلام مطلقا وقطع النظر فيه عن الإزالة، وما قيل من أنّ الثلاثيّ لا يشتق من المزيد
في الأصل الأكثر، وقد يجعلونه مشتقاً ومأخوذا منه إذا كان أظهر وأشهر، كما قالوا إنّ الوجه مشتق من المواجهة وفيه أنّ العذاب ليس ثلاثياً لأنه اسم مصدر للتعذيب، ولو قيل أصله العذب كما قيل اتضح ما قاله. قوله:(والعظيم نقيض الحقير إلخ) التناقض عند المنطقيين اختلاف القضيتين بحيث يلزم من صدق إحداهما كذب الأخرى، وبالعكس والنقيضان الدالان على معنى وعدمه، والمراد بالنقيض هنا ما يرفع الشيء عرفاً كما قاله قدّس سرّه، فإذا قيل هذا كبير أو عظيم رفع الأوّل بأنه صغير، والثاني بأنه حقير ولا اختلاف بينهما بالإيخاب والسلب، فهو بمعنى المقابل هنا، وفسروه بما يعلم منه وجه اختيار العظيم على الكبير في التوصيف به، ولما كان الحقير دون الصغير كان العظيم فوق الكبير لأنّ كل وحد من الحقير والصغير خسيسان والحقير أخسهما، كما أنّ كل واحد من العظيم والكبير شريفان، والعظيم أشرفهما فتوصيف العذاب به كثر في تهويل شانه من توصيفه بالكبير، ألا ترى إلى جريان العادة بأنّ الأخ يقابل بالأشرف والخسيس بالشريف، فما يتوهم من أنّ نقيض الأخص أعم مما لا يلتفت إليه في أمثال هذه المباحث، وقال الراغب: عظم الرجل كبر عظمه ثم استعير لكل كبير وأجرى مجراه محسوسا كان أو معقولاً معنى كان، أو عينا والعظيم إذا استعمل في الأعيان، فأصله أن يقال في الأجزاء المتصلة والكثير يقال في المنفصلة وقد يقال في المنفصلة عظيم نحو جيش عظيم، ومال عظيم وذلك في معنى الكثير.
(أقول) محصل ما قالوه هنا أنّ العظيم والكبير يستعملان في الأجرام، والمعاني والعظيم
فيهما فوق البهير، فناسب الوصف به دونه وقد تبعهم الإمام في تفسيره هنا، وهو مخالف لما ذكره في أوائله في قوله في الحديث القدسي:" الكبرياء ردائي، والعظمة إزاري " حيث جعل الكبرياء قائمة مقام الرداء والعظمة مقام الإزار، وقد علم أنّ الرداء أرفع من الإزار فوجب أن يكون صفة الكبر أرفع من العظمة لأنّ الكبير هو الكبير في ذاته سواء استكبره غيره أم لا، وأمّا العظمة فعبارة عن كونه بحيث يستعظمه غيره، وإذا كان كذلك كانت الصفة الأولى ذاتية وأشرف من الثانية، وهو مناف لما ارتضاه هنا فتدبر. قوله:(ومعنى التنكير الخ) زاد قوله في الآية إشارة إلى شمول ما ذكره المصنف رحمه الله تبعاً للعلامة لتنكير غشاوة وعذاب فهو توطئة لما بعده، فالتنكير فيهما للنوعية والمعنى أنّ عذاب الآخرة نوع من العذاب غير متعارف كعذاب الدنيا، وجعل صاحب المفتاح التنوين للتهولل، وفسره بالتعظيم وقد رجح كلاً من المسلكين طائفة وكل حزب بما لديهم فرحون، وقد قيل الأقسام أربعة هي أنّ التنوين إمّا للنوعية أو للتهويل، وهما شديدا التناسب، وامّا أن يكون الأوّل للنوعية والثاني للتهوبل، وهو أيضاً بليغ، أو على العكس وهو مرجوح، وأختار التعامي على العمى تنبيهاً على أنّ ذلك من سوء اختيارهم وشآمة إصرارهم على إنكارهم، لأنه كتجاهل إذا أظهر من نفسه الجهل، وعلى التعظيم معناه غشاوة أيّ غشاوة، والقول بأنه أنسب بقوله عظيم معارض بالمثل، لأنّ حمله على التنويع أظهر لاستفادة التعظيم من صريحه وحمله على التأكيد لا حاجة إليه، والآلام بالمدّ جمع ألم إشارة إلى العذاب، كما أنّ العظام جمع عظيم إشارة لصفته. وقوله:(لا يعلم إلخ) إشارة إلى أنّ عظمه، وتفخيمه لإيهامه حتى كانه مما لا يوقف على كنهه كما في {الْحَاقَّةُ مَا الْحَاقَّةُ} [الحاقة: ا] . قوله: (نوع غشاء) هذا معنى قوله في الكشاف: نوعاً من الأغطية غير ما يتعارفه الناس، وهذا النوع هو المعنى المجازي الذي مز تقريره، وقيل الظاهر منه أن براد بالغشاوة بواسطة التنكير نوع من المعنى المجازي أي غطاء التعامي وكأنّ وجهه أن تحمل الغشاوة على عموم المجاز وفيه بعد جدّا، والظاهر أن يراد مجازا بالغشاوة غطاء الله تعالى فيراد بالتنكير نوع منه، ثم الظاهر أن يحمل التنكير على النوعية والتعظيم معاً، كما حمل على التكثير والتعظيم معاً في قوله تعالى {فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ} [فاطر: 4] اهـ. ولا يخفى أنّ ما ذكره تكلف لما لا حاجة إليه، وأمّا حمل التنكير عليهما فمتجه لأنّ مآل التنويع للتعظيم أيضاً لإفادته الإبهام الدال ص ليه، ولا فرق بين المسلكين إلاً في العبارة وفي كلامهم
إيماء إليه فتأمّل. قوله: (لما افتتح سبحانه وتعالى كتابه إلخ) في الكشاف افتتح سبحانه بذكر الذين أخلصوا إلخ والمصنف رحمه الله لخصه وزاد فيه التصريح بالكتاب، والظاهر أنّ المراد منه القرآن فيقتضي أنّ سورة البقرة أوّله وافتتاحه
وهو بناء على أنّ سورة الفاتحة بمنزلة الخطبة والثناء والدعاء يقدم على مقاصد الكتاب ولا ضير فيه، ولو أريد بالكتاب اإسورة استغنى عن التوجيه، ولذا قال بشرح حال الكتاب، ولم يقل بشرحه وإعادة المعرفة معرفة في مقام ربما اقتضت المغايرة والقاعدة المشهورة غير كلية، كما قاله العراقي، وان وقع خلافه في القرآن كقوله {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاء} [آل عمران: 26] وعلى الأوّل وهو جار عليها والشرح أصله لغة بسط اللحم ونحوه، ومنه شرح الصدر أي بسطه بنور إلهي، وروح من الله وشرح الكلام، والكتاب إظهار ما يخفى من حاله ومعانيه وهو المراد هنا لأنه وان كان مجازاً صار حقيقة عرفية. وقوله:(وساق بيانه ذكر المؤمنين إلخ) بيان فاعل ساق وأصل السوق تسيير الدواب فتجوّز به هنا عن اقتضاء ذكره كما يقال سياق الكلام لما ينجرّ له وواطات بمعنى وافقت وطابقت. قوله: (وثنى بأضدادهم إلخ) قيل إنه يتمشى على العهد، ولا يتمشى على كون تعريف الذين كفروا للجنس متناولاً للخلص وغيرهم، كالمنافقين سواء جعل عاماً خمى بالخبر أو مطلقا قيد به كما مرّ وأجيب بأنه إذا اختص قوله: ومن الناس بالمنافقين، وهم بعضهم دل على أنّ الباقين هم الخلص ضرورة لا لأنّ اللفظ خاص بهم، لأنّ افراد بعض الافراد بحكم خاص يدل على بقاء الباقي على أصل الحكم، كما إذا قلت رأيت بني فلان الكرماء، وبنو فلان منهم العلماء دل على اشتراك الكل في الكرم وأنّ بعضهم علماء، فلو قلت ذكر أو لا من ليس منهم عالماً ثم ثانياً العلماء منهم كان كلاما جاريا على الصحة، وقيل عليه إنّ ضعفه ظاهر لأنه لا يدل على اختصاص الذكر بالأخص غايته أنه حكم على الجنس بحكم يتناول الفزيقين، ثم على البعض منهم بحكم خاص به كما يقال بنو فلان كلهم علماء ومنهم فقهاء، فإنه لا يكون الأوّل ذكرا لغير الفقهاء بالخصوص لا يقال المراد إنّ المقصود الأصلي من ذكر الحكم المشترك المجاهرون بالكفر لمقابلته بالمنافقين لأنا نقول ذلك أيضاً ممنوع، فإنّ إفراد بعض الافراد كالمنافقين لا يراد الأحوال المختصة بهم لا لأنه غير مقصود أصالة من الحكم السابق والفاضل الشريف لم يلتفت لهذا إشارة إلى عدم ارتضائه له، وفي بعض الحواشي إنّ الوجه أنّ مراد العلامة بقوله إنّ الذين كفروا إذا كانت اللام للعهد، أو للجنس الذين محضوا الكفر ظاهراً وباطناً، أمّا على الأوّل فظاهر، وأمّا على الثاني فلأنّ الجنس مطلق والمطلق ينصرف إلى الكامل ولا شك أنّ المتمحضين للكفر ظاهراً وباطناً هم الكاملون في الكفر، فإن قيل لا يرد هذا رأسا على الزمخشريّ حتى يتكلف لدفعه لما مرّ من قوله: إن الإيمان الصحيح أن يعتقد الحق ويعرب عته بلسانه ويصدقه بعمله، فمن أخل بالاعتقاد وإن
شهد وعمل فهو منافق، ومن أخل بالشهادة فهو كافر ومن أخل بالعمل فهو فاسق، فإذا كان الكافر عنده مقابلاً للمنافق كيف يتوجه عليه اعتراض لكنه وارد على المصنف رحمه الله، وقيل: إنه أشار إلى أنّ المراد بالذين كفروا الماحضون المجاهرون بالكفر بقرينة السياق، وهو ذكر المؤمنين ظاهرا وباطنا والسباق، وهو ذكر المنافقين وحالهم، وقد أطلق الكافر على ما يعم الماحض والمنافق إمّ بالاشتراك أو التجوّز حيث قال: الكفر جمع الفريقين معا وصيرهم جنسا واحداً وكون المنافقين نوعاً من نوعي هذا الجنس مغايراً للنوع الآخر بزيادة قيد كالخديعة والاستهزاء لا يخرجهم عن أن يكونوا بعضا من الجنس.
(أقول) هذا زبدة ما في الشروح من القيل والقال والحق الذي لا محيد عنه أنه لا إشكال
فيه أمّا على العهد، فظامر غنيّ عن البيان وأمّا على غيره فالجنس، ومسمى اللفظ كما يكون بحسب اللغة والوضع الأوّل يكون بحسب العرف سواء أكان عاما أو خاصا والكافر في عرف الشرع والعرف العامّ إنما يقال لمن أظهر جحده، وانكاره سواء كان عن صميم اعتقاد أو عتوّ وعناد، كما أنّ المؤمن من وافق ظاهره باطنه في التصديق، وأمّا إطلاقه على هذا وعلى ما يشمل المنافق، وهو من أظهر الإسلام وأبطن الكفر فبحسب نفس الأمر وحقيقة اللغة، فالمراد هنا الأوّل على ما يشهد له السياق والسباق ولله درّ الفاضل الشريف ما أبعد مرماه، وأسعد مغزاه حيث طوى هذا من البين فتدبر. قوله:(محضوا الكفر) بتشديد الحاء وتخفيفها بمعنى أخلصوه، وأصل المحض اللبن الذي لا ماء فيه، ثم تجوّز به عما ذكر واشتهر حتى صار حقيقة فيه. وقوله:(ولم يلتفتوا لفتة) الالتفات الانصراف من جانب إلى آخر، واللفت بكسر
فسكون بمعنى الجانب فنصبه على الغلرفية تسمحا أو على نزع الخافض أي إلى جانبه، ويجوز أن يكون مفعولاً مطلقاً وعدم الالتفات إلى جانبه أبلغ من عدم الالتفات إليه والضمير للإيمان المعلوم من السياق والنظم وكونه لله بعيد وأبعد منه وان قرب لفظه كونه للكفر ظاهراً وباطنا على أنّ المعنى لم ينظروا إلى الكفر حتى يظهر لهم قبحه، ورأساً بمعنى أصلَا وبالكلية و في ذكرها مع الالتفات لطف لا يخفى. قوله:(ثلث إلخ) بتشديد اللام جواب لما أي أتى به ثالثا، وأصل الذبذبة حكاية صوت الشيء المعلق به ثم استعير لكل حركة واضطراب، وتذبذب المنافقين تردّدهم بين الإيمان والكفر أو اضطرابهم بميلهم تارة إلى المؤمنين وتارة إلى الكافرين وانحصمار الأقسام في الثلاثة ظاهر، وقوله تكميلاً للتقسيم علة له، ووجهه أنّ الناس بحسب الاعتقاد إمّا مؤمن ظاهراً وباطناً أو كافر كذلك أو كافر باطناً مؤمن ظاهرا، ولا يرد عليه مبطن الإيمان ومظهر الكفر كعمار لأنه مؤمن لقوله تعالى {إِلَاّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ} [النحل: 06 ا] ثم إنّ هذا كله بقطع النظر عما مرّ من الإصرار وعدمه وعن خصوص التعريف، فسقط ما قيل من أنه إنه، يتم إذا لم يعتبر في الكفر التصميم والختم إذ لو اعتبر لم يكمل التقسيم لخروج من لم يصمم على الكفر عن التقسيم، وأن لم يعتبر أشكل إدخال المنافقين المصممين على أنّ
اعتباره لا بدّ منه لقوله سواء إلخ وقد صرّح بدخولهم، ولذا قيل إنه إنما يلزم على اعتبار العدم لا على عدم الاعتبار، والفرق ظاهر. قوله:(وهم أخبث الكفرة) كونهم أخبث وأبغض لما ذكره بقوله لأنهم إلخ لا ينافي كون غيرهم أخبث باعتبار آخر، والخلاف المذكور في كلام الإمام لفظيّ قال: اختلفوا في كفر المنافق، والكفر الأصلي أيهما أقبح فقيل الأصلي أقبح لأنه جاهل بالقلب كاذب باللسان، وقيل غيره لأنّ المنافق كاذب أيضاً مع زيادة أمور أخر منكرة، ومن الناس من لم يتنبه له فظنه مخالف لكلام المصنف وليس بشيءه وقوله:(أبغضهم إلى الله) هو كما في الكشاف، وقيل عليه استعمل أفعل من غير الثلاثي وللمفعول وليس بقياسيّ ولا يرد اعتراضاً لأنه سمع من العرب قديماً كما في القاموس وغيره. وقوله:(موهوا الكفر إلخ) في المصباح موهت الشيء طليته بماء الذهب والفضة، وقول مموّه أي مزخرف أو ممزوج من الحق والباطل اهـ. والمراد هـ، لتمويه هنا الستر إمّا استعارة أو مجازاً مرسلَا لأنهم ستروا الكفر وأظهروا الإسلام. وقوله:(ولذلك إلخ) بيان لما جاء في حقهم إجمالاً وهو ظاهر كما ستراه عن قريب، وهذا بحسب الظاهر يدل على أنهم أعظم جرماً من الكفار، والعمه في البصيرة كالعمى في البصر والتطويل لذكره الأول في أربع آيات، والثاني في آيتين ثم نعى حال هؤلاء في ثلاث عشرة آية بذكر ادعائهم الإيمان ثم تكذيبهم، وذكر مخادعتهم وتلبيسهم، ومرض قلوبهم وتسفيههم للمؤمنين الذين هم أرجح الناس أحلامأ. وقولى:(وجهلهم) بميغة ط ضي التجهيل عطف على طوّل، وهو من قوله {لَّا يَشْعُرُونَ} و {لَا يَعْلَمُونَ} واستهزأ بالماضي من الاستهزاء، وبهم جار ومجرور متعلق به، وهو معطوف على طوّل أو جهل إشارة لقوله {؟ الله يستفزىء بهم} والتهكم في قوله اشتروا إلخ وقوله {؟ ولم تؤمن قلويهم} قال الطيبي الإيمان إن كان مجرد تصديق الجنان ينسب إلى القلب حقيقة وإلخ غيره مجازا، ولذا فسر آمنوا بأفواههم بأظهروا كلمة الإيمان، وإن كان مجموع التصديق، والأعمال فنسبتة إلى الشخص حقيقة وإلى الجوارح مجاز وقوله سجل على عمههم وفي بعض النسخ على غيهم وهو مناسب للغطيان، وهذا إشارة إلى قوله {يَمُدُّهُمْ} إلخ والمراد بالتسجيل الحكم القطعي وأصله كتابة السجل، وهو الكتاب الحكمي قيل: وقد توهم أنّ قوله جهلهم وقوله استهزأ بهم بصيغة المصدر المضاف إلى الضمير فيهما وهو خطأ لعدم التطويل في بيان جهلهم واستهزائهم وليس بشيء، وإن كان الأوّل أرجح رواية ودراية لأنه على هذا التطويل بالنسبة إلى المجصوع لا إلى كل على حدة وهو ظاهر وضرب الأمثال في قوله مثلهم إلخ وطوّل بمعنى أطنب فما قيل من أنّ التعبير بالاطناب أنسب ببلاغة القرآن لا وجه له. وقوله:(وأنزل) معطوف على طوّل. قوله:
(وقصتهم عن آخرها إلخ) هذا معنى قوله في الكشاف، وقصة المنافقين عن آخرها معطوفة على قصة الذين كفروا، كما تعطف الجملة على الجملة، يعني كما قاله المدقق في الكشف، وتبعه الفاضلان أنه ليس من باب عطف جملة على جملة
ليطلب مناسبة الثانية مع السابقة بل من باب ضم جمل مسوقة لغرض إلى أخرى مسوقة لآخر، والمعنى بالعطف المجموع وشرطه المناسبة بين الغرضين، فكلما كانت المناسبة بين القصتين أشد وأمكن كان العطف بينهما أشدّ وأحسن، ولا يتكلف لخصوص كل جملة تناسب خاص، وهذا أصل في العطف لم يصرّح به الإمام السكاكي، ولذلك أشكل عليه العطف في نحو {وَبَشِّرِ الَّذِين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ} [ابقرة: 25] على الوجه المذكور وسيجيء له مزيد تقرير، وهو ردّ ضمنيّ على الطيبي في قوله إنّ كلام الكشاف هنا يحتمل وجهين.
أحدهما أن يعطف من حيث حصول مضمون الجملتين في الوجود.
وثانيهما أنّ الجهة الجامعة بين من محض الكفر ظاهرا وباطناً.
وبين من أظهر الإيمان وأبطن الكفر التوافق في الكفر، فإنه لم يحم حول المراد، وأمّا
من اعترض على الكشف وإرجاع ما هنا إليه بأنه ذهول عن التعبير عنهم بلفظ المصرّين في قوله معطوفة على قصة المصرين إيماء إلى الجامع بين القصتين المصحح للعطف، وهو تناسب التضادّ بين الإصرار والذبذبة، وكذا من قال معترضاً على المدقق لا بدّ في ضم الجمل من التناسب بينهما، فهو لظهور سقوطه غنيّ عن الرد، فإنه ناشىء من عدم التدبر، ولولا أنّ لكل ساقطة لاقطة لم أورده هنا. وقوله:(عن آخرها) معناه جميعها وجملتها وقد مرّ الكلام عليه مفصلاً، وتناسب الغرضين ظاهر لما فيهما من النعي على أهل الضلال من الكفار والمنافقين. قوله:(والناس أصله أناس إلخ) اختلف النحاة في ناس فذهب سيبويه والجمهور إلى أنّ أصله أناس، وهو جمع أو اسم جمع لإنسان حذفت فاؤه، فوزنه عال ونقصه وإتمامه جائزان إذا نكر فإذا عرف بال فالأكثر نقصه ويجوز على قلة إتمامه كما ستراه، واشتقاقه من الإنس ضد الوحثة أو من أنس بمعنى ظهر أو علم، وذهب الكسائي إلى أنه اسم تامّ، وعينه واو من نوس إذا تحرّك بدليل تصغيره على نوشى وقال سلمة بن عاصم كل من ناس وأناس مادّة مستقلة. قوله:(لقولهم إنسان الخ) استدلال لحذف الهمزة منه بثبوتها في مفرده من إنسان، وإنسيّ بكسر فسكون، وأنسيّ بفتحتين بمعناه ولا دليل فيه على القول بأنهما مادّتان مستقلتان، وإنّ ناساً اسم جمع لا مفرد له من لفظه كقوم ورهط. وقوله:(أناسي) بتخفيف الياء وتشديدها جمع إنسيّ أو إنسان، وأصله أناسين، فأبدلت نونه ياء، وأدغمت كظرابي، واقاحي وعلى هذا، فالإبدل فيه غير لازم لقول الشاعر:
وبالأناسيّ إبدال الأناسين
فحذفت الهمزة حذفها في لوقة وعوّض عنها حرف التعريف، ولذلك لا يكاد يجمع بينهما وقوله:
إن المنايا يطلعن على الأناس الآمنينا
شاذ وهو اسم جمع كرخال إذ لم يثبت فعال في أبنية الجمع مأخذو من أنس، لأنهم
وبه يردّ على ابن عصفور حيث ادّعى لزومه، والإنسان يقال للذكر والأنثى، وانسانة
عامية مولدة والشعر الذي نقله فيه وهو:
لقدكستني في الهوى ملابس الضث الغزل
إت نة فتانة بدرالدجى منهاخجل
للثعالبي كما صرّح به في عامّة كتبه، فلا وجه للاستدلال به ولا لإيراد صاحب القاموس
له، وتشككه فيه. قوله:(حذفها في لوقة) فقيل ألوقة ولوقة، وفي الصحاح اللوقة بالضم الزبدة عن الكساتي، وقد لوّق طعامه إذا أصلحه بالزبد يقال لا آكل إلا ما لوّق لي أي لين لي حتى يصير كالزبد في لينه. وقال ابن الكلبي: هو الزبد بالرطب وفيه لغتان لوقه وألوقة، ولذا ذكروه في مادّة لوق وألق وذهب بعضهم إلى أنهما لغتان وأصلان ولوق بالتشديد دليل عليه، وقيل إنه لم يثبت عند القائلين بالحذف وفي الحذف ودخول اللام والتعويض وعدمه ما مرّ في لفظ الله. وقوله:(لا يكاد يجمع بينهما) إشارة إلى ما اشتهر من أنّ العوض والمعوّض عنه لا يجتمعان ولا يرتفعان وقد اجتمعا في قول العرب الأناس، وارتفعا في مثل قولهم إذ الناس ناس والزمان زمان.
وهذا كثير في كلام العرب، فصيح فذهب بعضهم إلى أنّ مقتضى العوضية عدم الاجتماع
في الفصيح الشائع لا في النادر الشاذ، فتأمّل وقد تقدم تفصيله في الفاتحة. قوله: " ن المنايا يطلعن البيت) هو بيت من مجزوء الكامل قال ابن يعيش: قائله مجهول فالاستشهاد به على الجمح مردود وبعده:
فتذرهم شتى وقد كانوا جميعاً وافرينا
وقيل هو من قصيدة لعبيد بن الأبرص طويلة يخاطب بها أمرأ القيس، وأوّلها كما في الحصاسة البصرية:
نحن الأولى فاجمع جمو ~ عك ثم وجههم إلينا
يا ذا المخوّفنا بقت ~ ل أبيه إذلالا وجبنا
ويطلعن بتشديد الطاء بمعنى ينظرن ويشرفن وقد تجوّز به عن القرب والمنايا جمع منية،
وهي الموت وآمنينا جمع آمن وألفه للإطلاق في القافية. قوله: (وهو اسم جمع) الفرق بين الجمع واسم الجمع كما سيأتي تفصيله إنّ اسم الجمع ما دل على ما فوق الاثنين، ولم يكن على أوزان الجموع سواء كان له مفرد أو لا، ويشترط فيه أيضا أن لا يفرق بينه وبين واحده
بالتاء كتمر وتمرة ولا بالياء كزنج وزنجيّ، فإنه اسم جنس جمعيّ ويعرف بإطراد تصغيره من غير ردّ إلى المفرد وقد يراد باسم الجمع الجمع الوارد على خلاف القياس، وهذا عرف النحاة، وأمّا أهل اللغة فاسم الجمع عندهم يسمى جمعاً حقيقة. وقوله: " ذ لم يثبت إلخ) إشارة إلى ما قلنا. في تعريفه وفيه إشارة إلى الردّ على من قال أنه جمع لأنّ ما سمع منه قالوا إنه اسم جمع لا جمع، واطلاق الجمع عليه قالوا: إنه إمّا تجوّز، وإمّا بناء على اصطلاح اللغويين فلا يعترض عليه، وذهب بعضهم إلى أنّ أصله الكسر، وهو جمع تكسير حقيقة لأنّ فعالاً بالكسر من أبنية الجمع، فأبدل كسره ضماً كما أبدلت ضمة سكارى من الفتحة، وقد ذهب إلى هذا الزمخشريّ، ورده أبو حيان في البحر وشنع عليه في ذلك وقد نقلوا كلمات جاءت على هذا الوزن منظومة في أبيات عزيت للزمخئ! ريّ، والأصح أنها لصدر الأفاضل، وهي:
ماسمعنا كلما غير ثمان ~ هي جمع وهي في الوزن فعال
فتؤام ورباب وفرار ~ وعراق وعرام ورخال
وظؤار جمع ظئر وبساط ~ جمع بسط هكذافيمايقال
فتؤام واحدة توأم، وهو المولود مع أخيه، ورباب براء مهملة وموحدتين واحده ربى،
وهي شاة حديثة عهد بنتاج، وفرار بفاء وراءين مهملتين جمع لفرير ولد البقرة الوحشية، وعراق بعين وراء مهملتين وقاف لعرق وهو عظم عليه لحم وعرام مثله معنى واهمالاً، ورخال براء مهملة وخاء معجمة ولام واحدة رخل أو رخلة وهي أنثى ولد الضأن، وظؤار لظئر وهي المرضعة، وبساط لبسط بكسر الباء للناقة تخلي مع ولدها، ولا وجه لهذا الحصر، فإني وجدت في كتب اللغة وغيرها ألفاظا جاءت على هذا الوزن، فمنها أناس وظباء بالضم لغة في ظباء المكسور ونفاس بالضم لنفساء، ونذال لنذل ورذال لرذل وكباب بمعنى كثير متراكب وملاء بالضم لملاءة ذكره أبو عليّ وقماس وظهار لظهر، وسحاح لشاة ساح، وبراء لبريء في قول وثناء ورعاء لراع ورجال لراجل مع أخوات له، وقد أشبعنا الكلام فيه في شرح الدرّة للحريري. قوله:(مأخوذ من أنس إلخ) أنس كفرح من الأنس ضد الوحشة لأنسه بجنسه لأنه مدني بالطبع كما قيل:
وما سمي الإنسان إلاً لأنسه ولا القلب إلا أنه يتقلب
وقوله آنس بالمد بمعنى أبصر قال تعالى: {آنَسَ مِن جَانِبِ الطُّورِ نَارًا} [القصص،
الآية: 29] وهو محتمل للأفعال والمفاعلة، وجاء بمعنى سمع وعلم فسمي به لأنه ظاهر محسوس وقد مرّ ما قيل من أنه من نوس، وقيل إنه من نسي بالقلب لقوله تعالى في آدم {فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا} [طه: 115] وهذا مرويّ عن ابن عباس رضي الله عنهما رقد لمحه الشعراء كثيراً كما قيل:
نسيت وعدك والنسيان مغتفر فاغفر فأوّل ناس أوّل الناس
ووزنه على الأوّل عال، وعلى الثاني فعل وعلى الثالث فلع، وأمّا الاستدلال بنويس فعورض بأشياء على كلام فيه في كتب اللغة، والأخذ أعثم من الاشتقاق، وهو كما في خصائص ابن جني صوغ الكلمة سواء كانت مشتقة أو جامدة من مادة توجد في تصاريفها، ويدور عليها المعنى، فلا يرد على المصنف أنّ الاشتقاق يكون في الأفعال والصفات، وهذا جامد ولا أنّ الفعل لا يشتق منه على الأصح، وعلم منه سقوط قول الإمام لا يجب في كل لفظ أن يكون مشتقاً من شيء آخر وإلا لزم التسلسل، فلا حاجة إلى جعل الإنسان مشتقاً. وقوله:(ولذلك سموا بشرا) أي لظهور جلودهم، ومنه البشرة لظاهر الجلد والأدم لباطنه لخلوها من ستر الشعر ونحوه مما هو في سائر الحيوانات، ويستوي في لفظ البشر الواحد وغيره في الأكثر، وحيث ورد في القرآن فالمراد ما يتعلق بجثته كقوله {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاء بَشَرًا} [الفرفان: 54] والجن مقابل به
وسمي به لاجتنانه واستتاره، وكذا كل ما تدور عليه هذه المادّة. قوله:(واللام فيه للجنس إلخ) هذا تلخيص لما في الكشاف من قوله، ولام التعريف فيه للجنس، ويجوز أن تكون للعهد والإشارة إلى الذين كفروا المارّ ذكرهم، كأنه قيل ومن هؤلاء من يقول وهم عبد الذ بن أبيّ وأصحابه، ومن كان في حالهم من أهل التصميم على النفاق، ونظير موقعه موقع القوم في قولك نزلت ببني فلان فلم يقروني والقوم لئأم، ومن في من يقول موصوفة كأنه قيل، ومن الناس ناس يقولون كذا كقوله {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ} [الأحزاب: 23] إن جعلت اللام للجنس وإن جعلتها للعهد فموصولة كقوله ومنهم الذين يؤذون النبيّ فإن قيل أيّ فائدة في الإخبار عمن يقول: بأنه من الناس أجيب بأنّ فائدته التنبيه على أنّ الصفات المذكورة تنافي الإنسانية، فيتعجب منها ومن كون المتصف بها منهم، وردّ بأنّ مثل هذا التركيب يجيء في مواضع لا يتأتى فيها مثل هذا الاعتبار فلا يقصد فيها ألاً الاخبار بأنّ من هذا الجنس طائفة متصفة بكذا كقوله {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ} [الأحزاب: 23] فالأولى أن يجعل مضمون الجار والمجرور مبتدأ على معنى، وبعض الناس أو بعض منهم من اتصف بما ذكر، فيكون مناط الفائدة تلك الأوصاف ولا استبعاد في وقوع الظرف بتأوّل معناه مبتدأ، ويرشدك إليه قول الحماسي:
منهم ليوث لاترام وبعضهم مما قمشت وضمّ حبل الحاطب
حيث قابل لفظة منهم بما هو مبتدأ، وهو لفظ بعضهم، وقوله تعالى {مِّنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ} [آل عمران: 110] وقد يقع الظرف فيه موقع المبتدأ بتقدير موصوف، كقوله تعالى {وَمَا مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقَامٌ مَّعْلُومٌ} [الصفات: 164] فالقوم قدر والموصوف في الظرف الثاني، وجعلوه مبتدأ والظرف الأوّل خبرا، وعكسه أولى بحسب المعنى أي جمع منا دون ذلك، وما أحد منا إلاً له مقام معلوم لكن وقوع الاستعمال
على أنّ من الناس رجالاً كذا وكذا دون رجال يشهد لهم، وقد مرّ نبذ من هذا في قوله {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ} .
(أقول) إذا أطبقوا على نصب ما بعد الظرف بعد دخول إنّ تعين كونه مبتدأ بلا تكلف لما
مرّ من جعل الحرف مبتدأ ميلَا مع المعنى، وإن كان الرضي نقله عن العلامة، ولو كانت من بمعنى بعض كانت اسماً، ولم يقل به أحد من النحاة كما في غيره من الحروف فالأولى أن يقال إنّ بعض الناس كناية عن معنى مفيد مثل منحصر ومنقسم إذا وقع في محل التقسيم، ومثل معلوم لكنه يخفى ويستر لئلا يفتضحوا، وقد جنح إليه القائل انه تفصيل معنويّ لأنه تقدّم ذكر المؤمنين ثم ذكر الكافرين، ثم عقب بالمنافقين فصار نظير التفصيل اللفظي نحو ومن الناس من يعجبك قوله {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْتَرِي} [لقمان: 6] فهو في قوّة تفصيل الناس إلى مؤمن وكافر ومنافق ولك أن تحمله على الثاني فالمعنى من يختفي من المنافقين معلوم لنا ولولا أنّ من الكرم الستر عليه فضحناه فيكون مفيدا وملوّحا إلى تهديدمّ وقد أبرز هذا القائل:
وأقول بعض الناس عنك كناية خوف الوشاة وأنت كلى الناس
والتبعيض يكون للتعظيم وللتحقير وللتقليل وللتكثير، ولذا قيل المراد بكونهم من الناس
أنهم لا صفة لهم تميزهم سوى صورة الإنسانية أو المراد أنّ تلك تنافي الإنسانية كما مرّ، وأمّا ما استشهدوا به، فلا دليل فيه لأنّ قوله {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ} ليس مما نحن فيه لأنّ شهادة الله للصادقين بالإيمان مفيدة، وليست كجعلهم من الناس وكذا بيت الحماسة والآية أمّا البيت، فلأنه يريد أنّ الأسود المعروفون بالجراءة من الرجال مع أنّ بعضهم كالهشيم المحتطب، وكذا الآية لما قال: إنّ المؤمنين المتقين قليل منهم من صدق وقع في الذهن التردّد في أكثرهم فبينه وصياتي لهذا تتمة، وأمّا تقديرهم الموصوف في الظرف الثاني، فلأنه إنما يقام مقام موصوفه إذا كان بعض اسم مجرور بمن أوفى قبله قال في التسهيل يقام النعت مقام المنعوت بظرف أو جملة بشرط كون المنعوت نعض ما قبله من مجرور بمن، أو في وإذا لم يكن كذلك لم يقم الظرف والجملة مقامه الآ في الشعر، فلا حاجة لما قيل من أنّ مناط الفائدة البعضية، وردّه بأنّ البعضية أوضح من أن يفيد الاخبار بها أو أنّ مناطها الوجود أي أنهم موجودون بينهم، أو أنهم من الناس لا من الجن لأنّ النفاق لا يكون منهم، أو المراد بالناس المسلمون، لأنه حيث ورد يراد به ذلك، والمعنى أنهم يعدونهم مسلمين أو أنهم
يعاملونهم معاملة المسلمين فيما لهم، وعليهم لما فيه من التعسف. قوله:(ومن موصوفة إذ لا عهد إلخ) هذا برمّته من الكشاف كما سمعته آنفاً، وحاصله أنّ اللام في الناس إمّ للجنس، أو للعهد الخارجي لا الذهني، فإن كانت للجنس، فمن نكرة موصوفة وإن كانت للعهد فهي موصولة، واستشكله الناس قديماً وحديثاً بأنه لا وجه لهذا التخصيص لجواز أن تكون موصولة على تقدير الجنس، وموصوفة على تقدير العهد، وتبعهم ابن هشام في المغني، ثم اختلفوا فمعترف بالورود لأنّ بعض الجنس قد يتعين
بوجه مّا، وبعض القوم المعينين المعهودين قد يجعل باعتبار حال من أحواله كأهل محلة محصورين فيهم قاتل لم يعلم بعيتهءص نه قاتلاً، وان عرف شخص " فنقول في هؤلاء قاتل لهذا القتيل، ومجيب موجه لما ذكر على وجوه شتى، فقيل: إن هذا هو الأنسب فإذا اقتضاه المقام تعين في كلام البليغ، لأنّ المعرّف بلام الجنس لعدم التوقيت فيه قريب من النكرة وبعض النكرة نكرة فناسب من الموصوفة للطباق، والأمر بخلافه في العهد، ويدلّ عليه وروده على هذا الأسلوب نصاً في القرآن ففي قوله {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ} لما أريد الجنس جعل بعضهم رجا لاً موصوفين، وفي قوله عز وجل {وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ} [التوبة: 61] لما كان مرجع الضمير طائفة معينة من المنافقين قيل الذين يؤذون، وتحقيق السرّ فيه أنّ قولك من هذا الجنس طائفة من شانها كذا يفيد التقييد بالجنس فائدة زائدة، أمّا إذا قلت من هذا الجنس الطائفة الفاعلة كذا فمن عرفهم عرف كونهم من الجنس أو لا وإذا قلت من هؤلاء الفاعل كذا حسن، لأنه زيادة تعريف، ولا يحسن فاعل كذا لأنه عرفهم كلهم إلاً إذا كان غرض في التنكير كستر عليه أو تجهيل، والكلام الآن في الأصل اهـ وتابعه السيد السند مع تمريضه ما حققه في غيره، وكذا الفاضل التفتازاني إلاً أنه استشهد له بكلام للإمام المرزوقي لم يزك شاهده، ثم قال: وقد يقال إنّ العلم بالجنس لا يستلزم العلم بابعاضه، فتكون باقية على التنكير فتكون من المعبر بها عن البعض نكرة موصوفة وعهدية الكل تستلزم عهدية أبعاضه، فتكون من موصولة، وهذا بعد تسليمه إنما يتم بما ذكر من وجه المناسبة، والاً فلا امتناع في أن يعبر عن المعين بنكرة لعدم القصد إلى تعيينه، وفي أن يعين بعض من الجنس الشائع فيعبر عنه بلفظ المعرفة اهـ.
(أقول) هذا زبدة ما ارتضوه، وقد وقع في بعض الشروح كلام طويل بغير طائل، ولذا أضرلب عنه المدقق في الكث ف ولم يلتفت لفته الفاضلان إيماء إلى ما فيه فاقتصروا على ما قصصناة لك وفيه بحث من وجوه.
(1 لأوّل) أنّ قوله في الكشف إنّ التقييد بالجنس يفيد إذا كانت من نكرة موصوفة فائدة
زائدة فيه أنّ كون كل قائل من جنى الناس، كالسماء فوقنا فأيّ فائدة فيه فتأمّل.
(الثاني) أنّ قوله ولا يحسن فاعل كذا لأنه عرفهم ليس بتام، لأنّ معرفنه لهم بأعيانهم لا تنافي جهل الفاعل من حيث كونه فاعلَا، كما أوضحناه لك أو لا، وادّعاء الندرة لا يصمفو من كدر الإنكار.
(الثالث) قد علم مما ذكر أنّ قوله وعهدية الكل تستلزم عهدية أبعاضه غير ظاهر ولا حاجة لقول الفاضل فلا امتناع إلخ، وفي قوله بعد تسليمه إيماء إليه وبعد كل كلام مآل ما حاموا حوله أنه أنسب لا قطعيّ، كما صرّح به المدقق في الكشف، وان قيل عليه إنّ لفظ
الزمخشريّ يشعر بالوجوب لا الأنسبية، وإن كان مدعي بلا بينة فلا بد من الرجوع إليها، وكلهم حولها يدندن، ومطالب العربية يكتفي فيها بمثل هذه الأمور الخطابية وما جوّزه الشيخان واختاره أبو البقاء من كونها موصوفة قيل عليه أنها لا تكون موصوفة في الأكثر إلاً في موضع يختص بالنكرة كما في قوله:
رب من أنضجت غيظا صدره
بل ذهب الكسائي رحمه الله وهو الإيمان المقتدى به إلى أنها لا تكون موصوفة إلاً في
ذلك الموضع، فالوجه أنها موصولة وبه جزم في البحر، فلا ينبغي أن يخرّح كلام الله على وجه نادر أو منكر وهو كلام واه جدا، وقول المصنف إذ لا عهد تعليل لإرادة الجنس أو لمجموع الأمرين أي لم يجر لهؤلاء ذكر قبل حتى تكون الألف واللام عهدية ومن موصولة لعهد خارجيّ، أو ذكرفي وسيأتي منه ما يعلم جوابه، وقوله ناس تفسير لمن لأنها هنا مفردة لفظاً مجموعة معنى. قوله:(او للعهد إلخ) في بعض النسخ وقيل للعهد، وهو مناسب لتأخيره، والمعهود منهم ناس من
المنافقين كانوا على عهده صلى الله عليه وسلم للعهد الذي في الموصول، والكفرة المصرّين مطلقا للإطلاق الذي في الناس، وقد مرّ بيان وجه اختيار الموصولية على هذا وما له وعليه، وجواز كونها موصوفة على تقدير العهدية، وقول أبي البقاء: إنّ هذا ضعيف بناء على اختياره إنّ الذين يتناول قوماً بأعيانهم والمعنى هنا على الإبهام، وقد ردّ بالمنع فإنها نزلت في عبد الله بن أبيّ وأضرابه، وابن أبيّ بصيغة التصغير كان رأس المنافقين بالمدينة وأصحابه أتباعه، فإنه كان رئيسا، وإنما حمله على النفاق حب الرياسة كما ذكره أصحاب السير ونظراؤ. أقرانه من أعلام النفاق وهو جمع نظير ككريم وكرماء. قوله:(فإنهم من حيث أنهم صمموا إلخ) جواب سؤال مصرّح به في الكشاف، وهو: فإن قلت: كيف يجعلون بعض أولئك والمنافقون غير المختوم على قلوبهم إلخ وقد اتفق شرّاحه على أن السؤال وجوابه على تقدير كون التعريف للعهد لا للجنس، أي كيف يجعل أهل التصميم على النفاق بعض الكفرة الموصوفين بالختم، وهم محضوا الكفر ظاهرا وباطنا كما يدل عليه قوله، ثم ثنى والمنافقون المذكورون غيرهم، نأجيب بأنّ الكفر المصمم بالإصرار المختوم به، والمغشى على القلوب والأبصار جمع الفريقين من الماحضين المصرّين والمنافقين المصممين معاً وصيرهما جنسا واحدا وهو من لا ينتهي عن الكفر أصلَا، والمنافقون قد امتازوا عن الماحضين بما ذكر من الزيادة لكن ذلك لا يخرجهم عن الجنس الجامع بينهما وحاصله أنّ المراد بالذين كفروا على تقدير الجنس المصرون مطلقا، فيندرج فيهم المصممون على النفاق، وقوله ثنى بذكر الماحضين حملوه على أنّ الدنافقين لما أفردوا بالذكر كان المقصود بالذات من الحكم المشترك بيان حال الماحضين لا على أنهم المراد به مطلقاً فلا إشكال، وخروج المنافق الذي لا يصرّ لا يضرّ كالكافر الذي لم يدم على كفره وكصاحب الكبيرة بالنسبة للمتقين،
فالمذكور من الأقسام الثلاثة أعلى أعلامهم، وقد ذهب بعضهم في تقريره إلى خلافه فزيفوه كما في الحواشي الشريفية وإليه ذهب في الكشف، ثم قال: ولقد تعمق بعضهم في هذا المقام إلى أن جرّه صلفه إلى أن جعل اللام في المتقين للعهد زاعماً أنّ القسمة المثلثة تقتضي تقابل الثلاثة جنسا أو عهدا، وقد ضل عنه أنّ التقابل لا على الحقيقة، وإلاً لوجب عطف إنّ الذين كفروا على سالفه وقد سبق ذلك مستوفى في تقريره، ولا بدّ للجواد من كبوة فإن قلت على العهد إمّا أن يراد العهد الذهني، أو الذكري والخارجي، وليس المراد الأوّل كما لا يخفى ويرد على الثاني أنه لم يتقدم له ذكر قلت: لا يلزم في العهد الذكري أن يذكر بلفظه بل بما يساوبه، كما قرّووه في قوله تعالى {وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنثَى} [آل عمران: 36] فإنّ قولها قبله نذرت لك ما في بطني محرّرا بمعنى الذكر، لأنهم لم يكونوا يحرّرون لخدمة بيت المقدس إلاً الذكور فلذا كان التعريف فيه عهدياً، ومن هذا القبيل ما نحن فيه إذ لا يشترط اتحاد اللفظ بل المعنى.
وقوله قدّس سرّه ولما كان المعهود هنا مذكورا بلفظ آخر أشار إلى ذلك الزمخشريّ بقوله: ونظير موقعه أي موقع الناس موقع القوم في قولك نزلت ببني فلان والقوم لئام إشارة لذلك، وفيما ذكره مخالفة لقول الشارح الفاضل الناس على تقدير العهد إشارة إلى ذلك الجنس لا إلى المصرّين المخصوصين بواسطة الاخبار عنهم باستواء الإنذار وعدمه، ولا إلى الخلص الذين كفروا ظاهرا وباطناً على ما ينساق إليه الكلام بعد امتياز المنافقين منهم، ففيه ردّ ضمني له وبوافقه ما في حواشيه على شرح التلخيص من أنّ المعهود الخارجي كضمير الغائب في تقدّم الذكر تحقيقاً أو تقديراً، وقد جوزوا عود الضمير إلى المطلق المذكور في ضمن المصرّح الحاضر فتدبر. وقوله:(في عداد) بكسر العين أي دخلوا في جملتهم، فيعدون منهم. وقوله:(واختصاصهم الخ) يعني أنّ هذه الضميمة صيرتهم نوعاً، كما يصير الحيوان بانضمام النطق إليه نوعاً منه. قوله:(فعلى هذا تكون الآية الكريمة تقسيماً للقسم الثاني) قيل: إنه ردّ لما يفهم من ظاهر الكشاف من جريان وجهي التعريف على تثليث القسمة لأنّ التثليث إنما يتأتى بجعل الذين كفروا ماحضين للكفر ظاهراً وباطناً، وحينئذ لا يصح جعل المنافقين منهم، أو توجيه له بأنّ قوله ويجوز أن يكون للعهد ليس عديلاً لقوله: ولام التعم يف فيه للجنس، فليسا معاً من تتمة تثليث القسمة بل العهد عديل لتثليث القسمة والجنس من تتمته، والحق معه
وإن لم يتنبه له شارحو الكشاف وتكلفوا لتصحيحه بما لم ترض أن نلقي عليك شيئاً منه، وقد قدّمناه لك وجعلناه بمرأى منك ومسمع، ومن الناس من فسر كلام المصنف رحمه الله بقوله أي فعلى أن تكون اللام في الناس للعهد يكون قوله عز وجل {وَمِنَ النَّاسِ} إلخ تقسيماً للقسم الثاني، وهم الذين محضوا الكفر ظاهراً وباطناً، وفيه ما فيه من ركاكة المفى المشار إليه آنفاً لعدم صدق المقسم على القسم هنا مع وجوب صدق الجنس على النوع والمقسم على القسم وهذا يشير
إلى أنه اعتراض على الزمخشريّ في التثليث، وأنه على هذا ينبغي أن تجعل القسمة ثنائية وليس هذا كله بشيء ولو سلم أنّ مراده الاعتراض كان واردا عليه، فإنه ثلث القسمة وأتى بما ذكره افي مخشريّ أولاً على أنه مرضيّ له وليس في سياقه ما يدل على أنه اعتراض، فالحق أن يقال إنّ مراده أنّ القسمة ثنائية بحسب الحقيقة ثلاثية بعد اعتبار التقييد والتقابل، كما تقدّمت الإشارة إليه لأنهم ذكروه بعد التقسيم وسكتوا عنه، فالظاهر جريانه على الوجوه، وهذا إنما يتأتى إذا لم يكن الذين كفروا للعهد على أنّ المراد به ناس باعيانهم فتدبر. قوا 4:(واختصاص الإيمان بالله الخ) أي فائدة اختصاص الإيمان بالله واليوم الآخر بالذكر أو سببه تخصيص إلخ. والمراد بيان وجه تخصيص الإيمان بهما بالذكر من بين جملة ما يجب الإلمان به بأربعة أوجه بعضها ناظر إلى الحكاية، وبعضها ناظر إلى المحكيّ وقوله بالذكر إشارة إلى أنّ التخصيص ليس بمعنى الحصر، وهو أحد معنييه، ويسمى تخصيصاً ذكرياً وتخصيصاً بالإثبات، وهذا صريح في أنّ بالله وباليوم الآخر صلة الإيمان لما مرّ من أنه يتعدّى بالباء، وما قيل: من أنه لا تخصيص هنا لأنّ قوله بالله إلخ قسم منهم أو منه تعالى عدول عن جادّة الصواب بلا داع كما لا يخفى وما تكلفه لتوجيهه غنيّ عن الردّ وكون الإيمان بالله والحشر والنشر أعظم المقاصد الاعتقادية وأجلها ظاهر مع أنّ من آمن بالله على ما يليق يجلال ذاته آمن بكتبه ورسله وشرائعه، ومن علم أنّ إليه المصير استعدّ لذلك بالأعمال الصالحة. قوله:(اجتاؤوا الإيمان من جانببه إلخ) أي جمعوه من أوّله وآخره من الحيازة وهي الضم والجمع ومنه تحيز وتجوز إذا صار في حيز وأصله في كلام العرب العدول من جهة إلى أخرى كما قال تعالى {أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلَى فِئَةٍ} [الأنفال: 6 ا] كما سيأتي بيانه، والقطر بضم القاف وسكون الطاء المهملة تليها راء مهملة بمعنى الجانب، والإحاطة بقطربه وحيازته من جانبيه كناية عن جميعه كما يقال من أوله إلى آخره، والإيمان بهما إيمان بالمبدأ والمعاد اللذين هما طرفا الوجود، وهذا هو الوجه الثاني، وهو بالنظر إلى المحكي كما يشير إليه قوله ادّعاء.
وأمّ ما قيل من أنه على هذا ينبغي أن يقالى أو رد ذان، لأنّ الوجهين الأخيرين لا يجامعانه بوجه وجعلهما جانبي الإيمان إنما يصح لو كان اليوم الآخر آخر أركان الإيمان، وليس كذلك لأن آخر أركانه البعث بعد الموت كما اشتهر في تفصيل الإيمان، فليس بشيء لما بيناه لك فتدبر. قوله:(وإءلذان بأنهم منافقون إلخ) الإيذان الإعلام إعلاما ظاهرا لأنه ذكر في معرض
474
ذمّهم وهو حق فعلم أنّ ظاهره غير مراد وهذا هو الوجه الثالث، وهو بالنظر إلى الحكاية، ولذا صدّره بالإيذان ونفاقهم فيما ذكر لأنهم أظهروا الإيمان بما ذكر وظنوا الإخلاص فيه، وما في ضمائرهم لا يوافق ما أظهروه، فهو ضرب من النفاق لعدم موافقة ظاهره لباطنه لأنهم كانوا قبل إظهار الإسلام يهودا فإيمانهم كلا إيمان لقولهم بتشبيه الله بغيره المستلزم للتجسيم، وقول آبائهم {اجْعَل لَّنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ} [الأعراف: 138] ونسبة الولد له بقولهم عزير ابن الله فإقرارهم بالآخرة كلا إقرار لزعمهم أنه لا يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى وأنّ النار لن تمسهم إلا أياما معدودة قليلة، واعتقادهم أنّ أهل الجنة يتنعمون باستنشاق نسيم الروائح بدون أكل وشرب، ومع ذلك يظهرون أنهم يؤمنون، كما نؤمن فإخلاصهم بحسب زعمهم ونفاقهم باعتبار نفس الأمر، لأنّ النفاق مخالفة الباطن للظاهر فلا يتوهم أنه لا يتصوّر اجتماع الإخلاص والنفاق، وهم منافقون حقيقة ويهود اسم جنس جمعيّ ليهوديّ، وهو مما يفرق بينه وبين واحده بالتاء كتمر وتمرة أو بياء النسبة كزنج وزنجيّ، وأمّا يهود مفردا فعلم للقبيلة غير منصرف ويرون بضم الياء من الإراءة أي يظهرون لهم. قوله:(وبيان لتضاعف خبثهم إلخ) التضاعف والإفراط الزيادة، وهذا الوجه هو الرابع، وهو متعلق بالحكاية ويجوز تعلقه بالمحكي أيضا، والمراد أنهم قصدوا
بتخصيص الإيمان بهما التعريض بعدم الإيمان بغيرهما من رسالة خاتم الرسل صتى ألله عليه وسلم وما بلغه ولذا سماه كفراً، ومن خلط فيه أنهم مع إثبات الصانع يصفونه بما هو منزه عنه لم يصب لأنه يوّل بالآخرة لما قبله، وهذا حينئذ لو قصد حقيقتة لم يكن إيمانا لأنه لا بد من الإقرار بنبوّته صلى الله عليه وسلم وإبطال ما كانوا عليه فكيف، وهو مخادعة وتلبيس منهم. وقوله:(وعقيدتهم عقيدتهم إلخ) جملة حالية أي معروفة مشهورة كقوله شعري شعري وجوز نصب الأوّل عطفا على اسم أنّ والظاهر الأوّل، وتمويه بمعنى تلبيس وإظهار لما لا حقيقة له من قولهم موهت الشيء إذا طليته بماء الذهب أو الفضة، وقول مموّه أي مزخرف ممزوج من الحق والباطل. قوله:(وفي تكرير الباء إلخ) يعني أنهءررل عن الظاهر، وهو عدم إعادة الجار إذ! عطف على اسم ظاهر مثله، وهو الأظهر الأخصر، لأنهم لمخادعتهم وتلبيسهم أظهروا أنّ إيمانهم إيمان تفصيليّ مؤكد قوي، لأنّ إعادة العامل تقتضي أن متعلقه كالمعد، كما قاله سيبوبه في نحو مررت بزيد وبعمرو، فيفيد ما ذكر وهو ظاهر. قوله:(والقول إلخ) هو في الأصل مصدر كما أشار إليه المصنف رحمه الله بقوله التلفظ، وأمّا تخصيصه بالمفيد، فهو أحد الأقوال في مسماه لغة فإن أريد بها مطلق الإفادة
يكون بمعنى الموضوع احترازا عن المهمل كدير فلا يسمى قولا وإن سمي لفظاً فالقول أعم منه، وهذا ما اختاره ابن مالك رحمه الله، فيعمّ الكلام والكلمة والكلم، وان أريد الفائدة التامّة أي ما شانه ذلك فهو احتراز عن الكلمة والمركب الناقص فلا يسمى مثله قولا وقد صرّح به الحوفي في تفسيره وقال: القول حقيقة المركب المفيد وإطلاقه على المفرد والمركب الذي لا يفيد مجاز مشهور، وقال ابن معطي: إنه حقيقة في المفرد واطلاقه على المركب مجاز، وقيل حقيقته المركب مطلقاً أفاد أم لم يفد وهو مجاز في غيره وقيل إنه مرادف للفظ حقيقة فيعمّ الموضوع مركباً ومفردا، والمهمل كما حكاه أبو حيان في شرح التسهيل، وقال الرضي: القول والكلام واللفظ من حيث أصل اللغة بمعنى يطلق على كل حرف من حروف المعاني والمباني وعلى ما هو كثر منه مفيدا كان أو لا لكن القول اشتهر في المفيد بخلاف اللفظ، واشتهر الكلام في المركب، من جزأين فصاعدا فالأقوال خمسة، ثم تجوّز به عن المقول كالخلق بمعنى المخلوق مجازا اشتهر حتى صار حقيقة عرفية، فلا يرد على المصنف أنّ قوله وللرأي والمذهب مجا أايفهم منه أنّ ما قبله حقيقة، وتفسيره له بالتلفظ يخالفه، وهذا إن جعل قيدا لما عنده، فإن جعل قيداً لما يعد يقال فلا قيل ولا قال ويستعمل في المعنى المتصوّر في الذهن المعبر عنه باللفظ، وهو المسمى بالكلام النفسيّ في عرف الناس، وبه فسر قوله تعالى {يَقُولُونَ فِي أَنفُسِهِمْ} [المجادلة: 8] وقد صرّح بعض أهك الكلام بأنّ إطلاق الكلام والقول على النفسيّ حقيقة وان خالفهم فيه كثير، وأوّله بعضهم ويطلق على الرأي والمذهب فيقال قال: بكذا إذا ذهب إليه، والرأي قريب من المذهب وقد يفرق بينهما بأنّ الرأي أعتم من المذهب، لأنه يكون في الشرعيات فقط، وأصله مكان الذهاب أو نفس الذهاب، ثم نقل عرفا لمعناه المشهور، واطلاقه على الرأي مجاز علاقته السببية، لأنه سبب لإظهاره والإعلام به كما قاله ابن أبان. قوله:(والمراد باليوم الآخر إلخ) هو على الأوّل من الحشر إلى ما شاء الله وسماه آخراً لأنه ليس بعده يوم آخر كما قال ابن شبل في رائيته المشهورة في صفة الدنيا: فمن يوم بلا أمس ليوم بغيرغد إليه مايسار
يعني بالأوّل يوم الولادة وبالثاني يوم الموت، أو لتأخره عن الأيام المنقضية من أيام الدنيا، وفي قوله إلى ما لا ينتهي تسامح مشهور كما في قولهم إلى ما شاء الله، فسقط ما قيل من أنّ ما لا ينتهي ليس نهاية اليوم الآخر فالواضح أن يقول ما لا ينتهي من وقت الحشر والأمر فيه سهل، وعلى الثاني هو من وقت الحشر إلى مستقر أهله وسمي آخراً لأنه آخر وقت له حد وطرفان، لأنّ أيام الدنيا محدودة، لأنّ اليوم عرفا من طلوع الشمس إلى غروبها، وشرعا من طلوع الفجر إلى الغروب، وعند المنجمين من نصف النهار إلى نصف الليل، ويكون اليوم بمعنى مطلق المدّة، ويوم الحشر له ابتداء وانتهاء، فهو محدود أيضا كما قال تعالى {وَإِنَّ يَوْمًا عِندَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ} [الحج: 47] وما بعده مما لا يتناهى، وهو المسمى بالأبد المطلق. قوله: " نكار ما اذعوه إلخ) هو قولهم
آمنا إلخ والانتحال بالحاء المهملة أن تنسب لنفسك ما ليس لك، وماكه إلى الكذب من النحلة، وهي الدعوى وهي عند الإطلاق يتبادر منها الدعوى الباطلة، والظاهر أنّ قوله إنكار ما ادعوه ناظر إلى ادّعائهم الإخلاص وإحاطة عقائدهم بالإيمان من جميع جهاته. وقوله:(ونفي ما التحلوا) ناظر إلى ما أشار النظم إليه من حشو عقائدهم الفاسدة بالتشبيه وما يضاهيه ومن لم يدقق النظر فيه قال: إنه عطف تفسيريّ فلم يحم حول الحمى:
فيا دا- ها بالخيف إنّ مزارها قريب ولكن دون ذلك أهوال
ولذا عدل عن قوله في الكشاف القصد إلى إنكار ما ادّعوه ونفيه، وهو أخصر. قوله:
(لكنه عكس إلخ) لأنّ ما قالوه في مأن الفعل لا الفاعل، وما هنا في شأن الفاعل لا الفعل أي في بيان أنه بحيث لم يصدر عنه ذلك الفعل سواء قصد بذلك اختصاصه بنفي الفعل، كما سيأتي في قوله تعالى {وَمَا أَنتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ} [هود: 91] أو لم يقصد فإنه لا يطابق ردّ دعواهم، والمطابق أن يقال: وما آمنوا. والجواب أنّ العدول إلى الاسمية لسلوك طريق الكناية في ردّ دعواهم الكاذبة فإنّ انخراطهم في سلك المؤمنين و 5 ونهم طائفة من طوائفهم من لوازم ثبوت الإيمان الحقيقي لهم وانتفاء اللازم أعدل شاهد على انتفاء ملزومه ففيه من التوكيد، والمبالغة ما ليس في نفي الملزوم ابتداء، وكيف لا وقد بولغ في نفي اللازم بالدلالة على دوامه المستلزم لانتفاء حدوث الملزوم مطلقا وكد ذلك النفي بالباء أيضاً فليس في هذه الاسمية تقديم لقصد الاختصاص أصلَا ولا لجعل الكلام في شأن الفاعل أنه كذا، أو ليس كذا قطعاً بل المقصود بها ما ذكرناه من سلوك طريق هو أبلغ وأقوى في ردّ تلك الدعوى، ونظيرها في سلوك " فذه الطريقة وما هم بخارجين منها كذا أفاده الشراح، وزاد السعد روّح الله روحه قوله: لا يقال: الاسمية تدل على الثبات فنفيها يفيد حينئذ نفي الثبات لإثبات النفي وتأكده لأنا نقول ذلك إذا اعتبر إثبات بطريق التأكيد والدوام ونحو ذلك، ثم نفي وهنا اعتبر النفي أو لا، ثم أكد وجعل بحيث يفيد الثبات، أو الدوام وذلك، كما أنّ ما أنا سعيت في حاجتك لاختصاص النفي لا لنفي الاختصاص وبالجملة فرق بين تقييد النفي ونفي التقييد، وقد قيل في تقرير هذا الجواب أنّ الكلام من قبيل الكناية الإيمائية للتلاجد لأنّ الضمير لما أولى حرف النفي وحكم على الكفار بإخراج ذواتهم عن طوائف المؤمنين لزم من ذلك نفي ما ادّعوه من الإيمان على القطع والبت، وقيل: يمكن أن يجري الكلام على التخصيص ويكون الكلام في الفاعل، فإنّ الكفار لما رأوا أنفسهم أنهم مثل المؤمنين في الإيمان الحقيقي وادّعوا موافقتهم قيل في جوابهم، وما هم بمؤمنين على قصر الإفراد لأنهم ادّعوا الشركة فرد قولهم باختصاص المؤمنين
بذلك، وقرّره بعض الأفاضل بأنّ إثبات الإيمان بالجملة الفعلية لا يطابقه نفيه بالجملة الاسمية والجواب أنّ المقصود نفي ما ادّعوه، وهو يحصل بهما والاسمية أبلغ، ولا يخفى ما فيه من القصور والفضل للمتقدّم.
(أقول) هذا ملخص القيل والقال لا مخلص الإفهام من شرك الإشكال، وتلخيص تخليصمه أنه يرد أولا على ما قيل: من أنّ انخراطهم في سلك إلخ ما سمعته آنفا أنه إنما يصح لو قيل: وما هم من المؤمنين إذ ليس قوله {وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ} [البقرة: 8] مثل قوله: وما هم من المؤمنين لأنّ هذا يفيد أنهم ليسوا من عدادهم، وجملتهم على ما قرّروه في مثل قوله {وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ} [التحريم: 12] حيث عدل عن كانت قانتة الأخصر الأظهر إليه لما ذكر على ما في شرح المفتاح ويجاب عنه بأنّ المبالغة من تقديم الفاعل وإيلائه حرف النفي لأنّ نفي فاعليتهم يستلزم نفي صدور الفعل منهم على أبلغ وجه سواء جرّ الوصف بالباء أو بمن فلا يرد عليهم شيء كما توهم ويرد عليه ثانياً أنه قال: فليس في هذه الاسمية تقديم لقصد الاختصاص أصلاً، وقد عرفت أنه في النظم أثبت الإيمان للمؤمنين على أتم حال ونفي عن هؤلاء ذلك بأبلغ وجه ولا اختصاص أقوى مصتفهذا، ولا بدّ من القول به للزومه لتثليث القسمة السابق، ويدفع بأنّ المراد أنه لم يقصد الحصر، وإنما قصد تأكيد نفي الإيمان عن هؤلاء وهو لا ينافي صحة الحصر في نفسه لأنّ الكلام البليع كثيرا ما يلوح بأمور لازمة للمقام، وإن لم تقصد منه بالذات، ويرد هنا ثالثا أنه قال في الكشاف فقد انطوى تحت الشهادة عليهم بذلك نفي ما انتحلوا إثباته
لأنفسهم على سبيل القطع والبت ونحوه قوله تعالى {يُرِيدُونَ أَن يَخْرُجُواْ مِنَ النَّارِ وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنْهَا} [المائدة: 37] هو أبلغ من قولك وما يخرجون منها، ولما صرح في تفسير هذه الآية حيث قال ثمة هم هنا بمنزلتها في قوله هم يفرشون اللبد كل طمرّة.
في دلالته على قوّة أمرهم لا على الاختصاص، اهـ. علم أنه لا اختصاص هنا أيضاً،
كما صرّح به الفاضلان في شرحه، وأنّ من حمله عليه لم يصب لغفلته عما هناك، والمصنف رحمه الله لما ترك هذا رأساً علم أنه ذاهب إلى الاختصاص، أو مجوز له وقد تردد فيه بعض أرباب الحواشي هنا إلا أنه رمية من غير رام، وفي عروس الأفراح: أنّ ما ذكره الزمخشرقي في قوله تعالى {وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنْهَا} [الماثدة: 37] دسيسة اعتزالية لأنه لو جعل للاختصاص لزمه تخصيص عدم الخروج من النار بالكفار، فيلزم خروج أص! ، ب الكبائر كما هو مذهب أهل السنة والزمخشريّ أكثر الناس أخذاً بالاختصاص في مثله، فإذا عارضه الاعتزال فزع منه اهـ ويحتمل أنّ المصنف إنما طرحه لهذه النكتة ولم يتنبه له أحد من أرباب الحواشي مع أنّ دأبه أنه لا يعدل عما في الكشاف إلا لمقتضى. قوله: الأنّ إخراج ذواتهم من عداد المؤمنين إلخ) العداد بكسر العين ما يعد يقال هو عديد بني فلان وفي عدادهم أي يعد فيهم
وهذا الإخراج مستفاد من إيلاء الضمير حرف النفي، كما قرّرناه لك فلا يرد عليه أنه إنما يفيد ذلك لو كان النظم من المؤمنين وليس كذلك وبينهما فرق ظاهر. وقوله في التفسير الكبير: نظيره أنّ من قال: فلان ناظر في المسئلة الفلانية، فإن قلت: إنه لم يناظر فيها فقد كذبته، وأمّا لو قلت أنه ليس من المناظرين فقد بالغت في تكذيبه يعني أنه ليس من هذا الجنس، فكيف يظن به ذلك، فكذا ههنا إن أراد أنهما سواء معنى لم يصح وان أراد أنه يشبهه، وإن لم يكن منه صح ومن لم يتنبه له أورده هنا فتدبر. قوله:(وأطلق الإيمان إلخ) الظاهر المطابق لما في الكشاف أنه ابتداء كلام لفائدة مستقلة ويجوز جعله متعلقاً بقوله ولذلك أي لأجل التأكيد أتى به مطلقاً عما قيدوه من الإيمان بالله واليوم الآخر، لأنّ نفي المطلق يستزلم نفي المقيد لعمومه، كما أشار إليه بقوله ليسوا من الإيمان في شيء فهو أبلغ وآكد وحينئذ إمّا أن ينزل منزلة اللازم أو يحذف مفعوله للعموم المذكور، ولما كان التقدير محتملا هنا بقرينة وقوعه في جواب المقيد ذكره مؤخراً إيماء لمرجوحيته، ثم إنّ من الإطلاق أيضا ذكره باسم الفاعل الذي ليس بمقيد بزمان، فيشمل نفيه جميع الأزمان، ولو قيل ما آمنوا كان لنفي الإيمان في الماضي، والمقصود أنهم ليسوا متلبسين بشيء من الإيمان في شيء من الأوقات، وفي كلام المصنف رحمه الله إشارة إلى هذا ولم يصرّج به كما في البحر لظهوره. وقوله:(بما قيدوا به) الظاهر أنّ لفظ قيدوا مبنيّ للمعلوم، وتقييدهم بناء على الظاهر المتبادر منه من أنه للتخصيص، فإذا كان ادّعاء لحيازة جميع أجزاء الإيمان من جوانبه فهو بحسب ظاهره تقييد، أو هو تقييد بجميع ما صدق عليه، فلا وجه لما قيل من أنه حينئذ ليس بتقييد مطلقاً، فإنه إطلاق على إطلاق وتقييد على تقييد، فالأولى أن يقرأ قوله بما قيدوا به على صيغة المجهول، ولا يخفى ما فيه فتأمّل. قوله:(والآية تدلّ عفى أن من اذص الإيمان إلخ) مذهب الكرامية أنّ الإيمان هو التصديق باللسان فقط، لكنهم قالوا: إن طابق القلب، فهو مؤمن ناج، والا فهو مؤمن مخلد في النار ولذا قيل ليس للكرامية خلاف في المعنى، والإمام تبعاً للماتريدي في التأويلات استدل بهذه الآية على إبطال مذهبهم لأنها إخبار عنهم بأنهم قالوا ذلك بألسنتهم وأظهروا خلاف ما في قلوبهم، وقد قال تعالى إنهم ليسوا بمؤمنين فهذه الآية ونحوها تدل على أنّ الإيمان تصديق القلب وحده، أو مع اللسان فكيف يقول الكرامية إنه التصديق اللساني فقط ورذه المصنف رحمه الله بأنّ الآية إنما تدل على أنّ من ادّعى الإيمان بلسانه، وخالف لسانه قلبه ليس مؤمنا أمّا على تقدير كون تعريف الناس للعها-، فظاهر لأنهم من المختوم على قلوبهم وأمّا على أنها للجنس فلأنّ الله كذبهم وليس ذلك إلا لعدم مطابقة التصديق القلبي للساني، فلا يدل على أنّ من أقرّ بلسانه، وليس في قلبه ما يوافقه، أو ينافيه ليس بمؤمن وهو محل النزاع، فكيف يكون
حجة عليهم وقد أورد عليه أنّ المذكور في المقاصد، وغيره من كتب الكلام أنّ مذهبهم القول بأنّ من أضمر الكفر وأظهر الإيمان مؤمن عندهم مطلقا، والآية حجة عليهم بلا شبهة، وقد نقل الإمام كغيره عنهم
أنّ المنافق مؤمن عندهم، ومن مذهبهم أنّ الإيمان لا يلزم أن يكون منجياً من العذإب المخلد وذهب غيرهم إلى أنه لا يسمى إيمانا إلا المنجي وقيل: إنّ المصنف رحمه الله دقق النظر في مذهبهم فرأى أنّ المناق مخلد في النار عندنا وعندهم وأمّا في الدنيا فأحكام الإسلام جاربة عليهم عندنا وعندهم، فليس بيننا وبينهم اختلاف إلا فيمن تلفظ بالشهادتين فارغ القلب عن النفي والإثبات، فعندهم هو مؤمن ناج وعندنا ليس بمؤمن وهو كلام حسن. قوله:(الكرامية) هم فرقة معروفة منسوبة إلى رئيسهم أبي عبد الفه محمد بن كرام النيسابوري واختلف في اسم أبيه فقيل: إنه بفتح الكاف وتشديد الراء، لأنّ أباه كان يحفظ الكرم، ويقال لحافظه كرام كما قاله السمعاني، وقال المطرزي أخبرني الثقات أنه بفتح الكاف، وتخفيف الراء بزنة حذام وقطام، وكذا صححه الذهبيّ وابن المرحل واستشهدوا بقول أبي الفتح البستي رحمه الله تعالى:
إنّ الذين بجمعهم لم يقتدوا بمحمد بن كرام غيركرام
الرأي رأي أبي حنيفة وحده والدين دين محمد بن كرام
قوله (الخدع أن! ومم غيرك إلخ) كذا في أكثر النسخ بغير ألف وفي بعضها الخداع بالألف والخداع والخدع بكسر الخاء وفتحها بمعنى، وفي المصباح خدعته خدعاً والخدع بالكسر الاسم منه يعني أنه اسم مصدر بمعناه والخديعة مثله، وفي الكشاف والخدع أن يوهم صاحبه خلاف ما يريد به من المكروه، وزاد المصنف تبعاً للراغب في مفرداته قوله: لتنزله عما هو فيه، أو عما هو بصدده كما هو في النسخ الصحيحة بالخطاب مضارع من التنزيل أو الإنزال، وهو مجاز عن صرفه عما هو متصد له، وهو بمعنى ما في بعض النسخ وهو قوله لتزله من الأزلال وقد فسر هنا بالإسقاط والإزالة، وهو تفسير له بلازم معناه وسيأتي تحقيقه في قوله تعالى {فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ} [البقرة: 36] وقال الإمام: هو إظهار ما يوهم السلامة، وابطان ما يقتضي الإضرار بالغير أو التخلص منه فقيل إنه إشارة إلى أنّ ما في الكشاف غير جامع، وقال الطيبي: لعل توله من المكروه يشمل التخلص منه لأنّ العدوّ يكره خلاص عدوّه، وقال قدس سرّه: هو أن يوهم صاحبه خلاف ما يريد به من إ أصكروه، ويصيبه به كما يدل عليه تفسير أعحله المأخوذ منه ويؤيده قوله مخدوعا ومصاباً بالمكروه من وجه خفيّ، وهذا معنى لغويّ لا عرفيّ كما قيل، وقال المدقق في الكشف: التحقيق أنّ الخاع صفة فعلية قائمة بالنفس عقيب اسنحضار مقدمات في الذهن متوصل بها توصلا يستهجن شرعا، أو عقلَا أو عادة إلى استجرار منفعة من نيل معروف لنفسه، أو إصاية مكروه لغيره مع خفائهما
على الموجه نحوه القصد بحيث لا يتأتى ذلك النيل أو الإصابة بدونه إذ لو تأتى لزم فوت غرض آخر حسب تصوّره والغنيّ عن كل نيل وإصابة واستجرار منفعة لنفسه لا يصح عليه ذلك، وهو متعال عن العمل واستحضار المقدّمات، وأمّا أنه لا يخاع، فهو أظهر لأنه جل عن أن يحوم حول سرادقات جلاله نقمى الانفعال وخفاء معلوم مّا عليه اهـ. فعلى هذا يكون الحرب خدعة وخدعة الأب البار لولاه هـ واستدراج بعض الناس إلى الخير مجاز، وهذا ردّ على ما قيل من أنّ من الخداع ما يكون حسناً. قوله:(عما هو فبه أو عما هو بصدده) هكذا صححه أرباب الحواشي ووقع في نسخة عندي عما هو بصدده، وكانه من إسقاط النساخ وصدد بفتحتين بمعنى القرب يقال هو بصدد كذا إذا تصدّى لفعله وقرب من تناوله أي لتصرفه عن مطلوبه الحاصل له، أو عن مطلوبه الذي هو بصدد تحصيله فمعنى الخداع الإيهام المذكور مع قصد الإزلال سواء حصل إزلاله أم لا، ولا يرد عليه ما قيل من أنّ الظاهر أنّ الإزلال بالفعل معتبر في معنى الخداع في عرف العامّة، كما يدل عليه ما بعده لأنّ ما ذكره على تقدير صحته لا ينافي ما ذكره المصنف رحمه الله في معناه لغة وحقيقة، كما لا يخفى وأوهم يتعدى إلى مفعولين يقال: أوهمته الشيء أهمه أوقعته في خلده، وأوهمنيه غيري ووهمنيه. قوله:(من قولهم خدع الض! ب إذا إلخ) الضبّ حيوان: صروف، وخدع الضبّ بمعنى توارى واختفى وضب خادع وخاع بفتح فكسر بزنة حذر وكتف مبالغة خادع، والحارس من الحرس، وهو صيد الضب خاصة وخارش الضباب يحرك يده على حجره ليظته حية فيخرج ذنبه ليضربها فيؤخذ. وقولهم: هو يحترس لعياله أي يكتسب مجاز منه فلا
يرد يرد عليه كما توهم وخداع الضب لأنه يتخذ لحجره منافذ يسترها، ويرقق سترها فإذا رأى حارشه أوهمه أنه يقبل عليه، ثم يخرق إحدى منافذه ويخرج منها، وفي الصحاح والنافقاء إحدى حجرة اليربوع يكتمها ويظهر غيرها، وهو ئوضع يرققه فإذا أتى من قبل القاصعاء ضرب النافقاء برأسه، فانتفق أي خرج والجمع النوافق والنفقة أيضا مثال الهمزة النافقاء تقول منه نفق اليربوع تنفيقا ونافق أي أخذ في نافقائه ومنه اشتقاق المنافق في الدين اهـ. وبهذا عرفت موضع الخداع من المنافق فإنّ له هنا موقعا يذوقه من شمّ رائحة الإعجاز وقال الراغب خاع الضب استتر في جحره، واستعمال ذلك فيه لصا اعتقدوا من أنه يعدّ عقرباً يلدغ من يدخل يده في جحره حتى قيل العقرب بوّاب الضب وحاجبه، ولاعتقاد الخديعة فيه قيل أخدع من ضبّ، وقوله من باب آخر إشارة إلى ما ذكرناه من أنه يتخذ لجحره منافذ متعدّدة وقلت فيه:
خدام المرء وصاحبه في لؤم الطبع يناسبه
والعقرب قالوا في مثل بوّاب الضث وحاجبه
وقوله: وأصله الإخفاء يعني أنّ معن! الخداع لغة ما مرّ وأصل معناه بحسب اشتقاقه ما
ذكر، وهو الإخفاء لتعدبه في أكثر معانيه فإنّ المنافق يخفي مقصده والضبّ يخفي مخرجه، وما قيل من أنّ الظاهر أن يقول الخفاء فإنّ أهل اللغة يقولون: أخاع إخداعا بمعنى أخفى إخفاء، فيكون خاع بمعنى خفي لا وجه له أصلا وقال ابن عطية: أصله الفساد، وحكى ما ذكوه المصنف رحمه الله بصيغة التمريض، وكلام الراغب يوهم أنّ أصل معناه التلوّن. وقوله:(ومنه المخاع للخزانة) أي مما أخذ من الخاع بمعنى الإخفاء المخاع بتثليث الميم كما في المصباح وفتح الدال، وقال الراغب: المخاع بيت في بيت كأنّ بانيه جعله خادعاً لمن رام تناول ما فيه وقالوا أصله الضم وكسر لتوهم أنه آلة، والخزانة بكسر أوّله ما يخبأ فيه المتاع، ولذا قيل الخزانة لا تفتح، والأخدعان تثنية أخاع، وهما عرقان في جانبي العنق وشعبة من الوريد تخفي وتظهر، فلذا توهم فيهما الخداع فسميا بذلك ويطلق على جانب العنق مجازاً. قوله:(والمخادعة تكون بين اثنين إلخ) المعروف في المفاعلة أن يفعل كل أحد بالآخر مثر ما يفعله به، فصيغة المخادعة تقتضي أن يصدر من كل واحد من الجانبين فعل يتعلق بالآخر، وخاع المنافقين لله، وهو أن يوقعوا في علمه خلاف ما يريدونه به من المكروه، ويصيبونه مما لا خفاء في استحالته لأنه لا تخفى عليه خافية، وخاع الله إياهم بأنّ يوقع في أوهامهم خلاف ما يريدون من المكاره ليغتروا، ثم يصيبهم به لا يصدر منه تعالى أمّا عند المعتزلة، فلأنه قبيح بناء على أصلهم الفاسد، ولذا ترك المصنف رحمه الله التعرّض له وأمّا عندنا معاشر أهل السنة فلأنه يمتنع أن ينسب إليه تعالى حقيقة لما يوهمه ظاهره من أنه إنما يكون عن عجز عن المكافحة، وإظهار المكتوم لأنه المعهود منه في الإطلاق كما ذكره في الانتصاف، ولذا زبد في تفسير الخاع مع استشعار خوف، أو استحياء من المجاهرة، وأيضا من المعلوم أنّ حاله تعالى مع المنافقين لم يكن حقيقة هذا المعنى المذكور، وأنّ المؤمنين وإن جاز أن يخدعوا من غير أن يرجع إليهم في ذلك نقصان لم يجز أن يقصدوا خدعهم، فإنه غير مستحسن بل مذموم مستهجن وقوله وخداعهم لم يقل فخداعهم بالفاء التفريعية لأنه ليس علة لما قبله، كما لا يخفى ولا معلولا له لأنه علله بقوله لأنه إلخ فلا وجه لما قيل من أنه كان الظاهر أن يقول: فخداعهم لتفرّعه على ما قبله مع أنه لو صح، فالمصنف رحمه الله لم يقصده لخفائه. قوله:(لأنه لا يخفى عليه خافية إلخ الما اقتضت المفاعلة أنّ المنافقين يخدعون الله وأنّ الله يخدعهم، وكل منهما غير مراد وغير مستقيم أمّا الثاني فظاهر، وأمّ الأوّل فلأنه تعالى لا يخفى عليه خافية، فكيف يخدعه غيره، والمنافقون عالمون بذلك أيضاً لأنهم من أهل الكتاب. وقوله: (ولأنهم لم يقصدوا خديعته) إشارة لهذا فإنهم إذا تحققوا أنه لا يخاع بالضم لم يقصدوه إذ العاقل لا يقصد ما تحقق امتناعه ولذا قال في شرح التأويلات لا أحد يقصد مخادعة الله مع إقراره بأنه خالقه، ولئن سألتهم من خلقهم ليقولهن الله، وهذا كما قاله بعض الفضلاء
ردّ على ما قاله الزمخشريّ في الجواب الثاني من الأربعة حيث قال أن يكون ذلك ترجمة عن معتقدهم، وظنهم أن الله تعالى ممن يصح خداعه لأنّ من
كان ادّعاؤه الإيمان بالله نفاقاً لم يكن عارفاً بالله ولا بصفاته، ولا أنّ لذاته تعلقاً بكل معلوم، ولا أنه غنيّ عن فعل القبائح فلم يبعد من مثله تجويز أن يكون الله في زعمه مخدوعا! ومصابا /. بالمكروه من وجه خفيّ، ويجوز أن يدلس على عباده، ويخدعهم لأنه في غاية البعد إذ لا ينكر جاهل علم الله تعالى بجميع الأشياء، حتى المشركون الجاهلون، فكيف يخفى على المنافقين الذين هم من أهل الكتاب، فإن قلت: الحكماء عقلاء وقد ذهبوا إلى أنّ علم الله تعالى لا يتعلق بالجزئيات قلت: الحكماء لا يقولون بهذا، كما نص عليه الطوسي ولو سلم فحينئذ لا يتصوّر الخديعة لأنها فرع العلم بالجزئيات مع ما في. قؤله لأنّ لذته تعالقاً بكل معلوم من! إلاعتزال لإسناده العلم لذاته أ! ماء ففي صفة العلم، فهو من دس السمّ في الدسم، وقد سبقه لهذا بعض المدققين وقال إصابته تعالى بالمكروه للخداع بعيدة جداً إذ في نفافهم اعتراف بعلمه تعالى بالأقوال الظاهرة الجزئية المفضية إلى ما هو تاعث على الخداع من جلب المنافع، ودفع المضار، فلا يتصوّر هذا منهم، وبالجملة ففساد هذا الجواب أظهر من أن يخفى،. ولذا أسقطه المصنف زحمه الله، وان لم يتنبه له بعض أرباب الحواضي. قوله:(بل المراد إما مخادعة رسوله صلى الله عليه وسلم على حذف المضاف) قيل: إنه نبه بقوله حذف المضاف على أنه لا يصح أن يراد بلفظ الله ورسوله مجازاً، كما هو ظاهر عبارة الكشاف، لأنه لا يصح إطلاق لفظ الله على غيره، ولو " نجازاً كما صرّحوا
(قلت أليس الأمر كما زعمه فإنّ صاحب الكشاف لم يرد ما قاله، كما أوضحه شرّاحه،
وما في الكشاف بعيته هو بعينه ما ذكره المصنف بقوله، أو على أنّ معاملة الرسول صلى الله عليه وسبم معاملة الله وهو ت! جوّز في الإسناد لا في لفظة الله، كما سنقصه عليك وبعض الناس لم يفرق نجين الجوابين، فذكر كلام الراغب في تقرير الجواب الآتي هنا، وليس هذا من أوّل طبخه للحبوب. قوله: (أو على أنّ معاملة الوسول صئى الله عليه وسنم إلخ الا بأن يطلق مجازاً لفظ الجلالة الكريمة على الرسول صلى الله عليه وسلم لما سمعتة آنفاً بل بالتجوّز في النسبة الإيقاعية لأنه يجري فيها، كما يجري في الإسنادية على ما تقرّر في المعاني، فإن قلت ظاهر كلامه أنّ هذين الوجهين يبتنيان على أن يخادعون ليس بمعنى يخدعون لقوله بعده ويحتمل إلخ وليس كذلك إذ لا خاع من الرسول، ولا من المؤمنين ولا مجال لأن يكون الخاع من أحد الجانبين حقيقة، ومن الآخر مجازا لاتحاد اللفظ، وان جعل مجازا منهما لم يبق إلاً الاحتبال الذي في قوله: وامّ أنّ صورة صنيعهم إلخ كما قيل: قلت: هذا مقتضى كلام الكشاف، والمصنف رحمه الله لا يسلمه إمّا بناء على أنّ اللفظ الواحد يجوز أن يكون حقيقة ومجازاً عنده، لأنه ممن يجوّز الجمع بين الحقيقة والمجاز، وامّا على أنه حقيقة لأنّ الخدع من
المنافقين محقق، ولا مانع من صدوره من الرسول صلى الله عليه وسقم، والمؤمنين بإغفالهم حتى يتأتى لهم ما يريدون منهم، ولذا أسقط قوله في الكشاف: والمؤمنون وإن جاز أن يخدعوا لم يجز أن يخدعوا ألا ترى إلى قوله:
واستمفروا من قريش كل منخاع
إلخ وهذان جوابان باعتبارين وجواب واحد باعتبار آخر فلا بأس بعدّهما وجهين ولا
سهو فيه كما توهم وما وقع في بعض الحواشي من أنّ هذا الوجه من إطلاق اسم المسبب على السبب فليس بشيء. قوله: (كما قال {مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللهَ} [النساء: 80] إلخ) هذا تأييد لكونه خليفة الله ولكون معاملة الرسول صلى الله عليه وسلم معاملة مع الله، لأنّ كل ما يتعلق بالرسول صلى الله عليه وسلم عائد بالآخرة إلى الله وإلى دينه، ولا يرد عليه أنّ إطاعة الرسول صلى الله عليه وسلم تستلزم إطاعة الله ومبايعته صلى الله عليه وسلم تستلزم مبايعة الله، لأنهم إذا عاهدوا الرسول صلى الله عليه وسلم أن يعاونوه فقد عاهدوا الله أن يؤيدوا ديته كما توهم، فإن قلت: الإسناد في جانب المشبه عقليّ، وفي جانب المشبه به حقيقيّ لأنّ إطاعة الرسول صلى الله عليه وسلم إطاعة الله حقيقة. قلت: التشبيه باعتبار ظاهر المشبه وهو ادّعاء الاتحاد بينهما مبالغة فتدبر. قوله: (وإمّا أنّ صورة صنيعهم إلخ) يعني أنّ هذا فعل صادر عنهم بالقياس إلى الله والمؤمنين يشبه الخدع بحسب الصورة وكذا الحال في صنع الله والمؤمنين معهم، فبينهم من الجانبين معاملة شبيهة بالمخادعة، فهو إمّا استعارة تبعية في لفظ يخادعون وحده أو تمثيلية في الجملة، وما قيل من أنه ليس فيه اعتبار هيئة مركبة من الجانبين، وما يجري فيهما مشبهة بهيئة أخرى مركبة من
الخاح والمخدوع ليحمل الكلام على الاستعارة التمثيلية على قياس ما في ختم الله، لا خفاء في أنه ناشىء من العصبية، ولا خفاء فيه كما قيل والاسنبطان الإخفاء في الباطن من بفنه خلاف أظهره، واجراء أحكام المسلمين كحفظ المال والدم والتوريث، واعطاء سهم من المغنم والدوك خلاف الدرج لأنه ما يكون أسفل والدرح ما يكون أعلى، والاستدراح الإدناء على التدريج، كأنه يصعده إليه درجة درجة وهو منصوب على أنه مفعول له للإخفاء أو الإجراء أو الامتثال. وقوله:(صورة صنع إلخ) بالرفع خبر إنّ والمخادعين جمع مخادع وقيل: إنه مثنى والمفاعلة على هذا من الجانبين مجازية.
واعلم أنّ المصنف ترك وجهين آخرين ذكرهما الزمخشريّ الأوّل أنه ترجمةء! ن معتقدهبم، وظنهم أنه تعالى ممن يصح خداعه، وقد عرفت أنه لا وجه له فتركه أولى والثاني أنه من قبيل قولهم أعجبني زيد، وكرمه في إفادة قوّة الاختصاص، فذكر الله ليس لتعليق الخإع به بل لمجرّد التوطئة، وفائدتها هنا التنبيه على قوّة اختصاص المؤمنين بالله وقربهم منه حتى كان الفعل المتعلق بهم دونه يصح أن يعلق به أيضا وكذا الحال في أعجبني زيد وكرمه، فإن ذكر زيد توطئة، وتنبيه على أنّ الكرم قد شاع فيه، وتمكن بحيث يصح أن يسند إليه أيضا الإعجاب الذي هو لكرمه، وهو عطف تفسيريّ أو جار مجرى التفسير، وأمّا قولك أعجبني زيد كرمه على الابدال فليس في تلك المرتبة من إفادة التليس بينهما لدلالته على أنّ المقصود بالنسبة هو الثاني فقط، وإنما ذكر الأوّل سلوكاً لطريقة الإجمال وا اخفصيل، وفي صورة العطف قد دل بحسب الظاهر على قصد النسبة إليهما معاً، فيكون أدل على قوّة التمكن، كذا أفاده السيد السند وقال صاحب الكشف: والفاضل اليمني الشرط في هذا الباب أن يكون في الكلام دلالة ظاهرة على التمهيد، والا صار من قبيل الألغاز، ثم إنه قدس سرّه ترك قوله في الكشف: إذا أدخلت العاطف، فقد آذنت بالمغايرة وأنه كرم غير الأوّل أوكد منه عطف عليه عطف جبرائيل على الملائكة في ال! ثال، وعطف مستقلين في الآية وعوّل في إزالة الإبهام على شهادة العقل، ومن هذأ القبيل ما يقال له واو التفسير لما فيه مما سنتلوه عليك وهذا محصل ما في الكشاف وشروحه، وقد قالوا إنّ المصنف رحمه الله تركه لبعده ولأنّ مداره كما قيل على قوّة الاختصاص، وهي ظاهرة بالنظر إلى الرسول عليه الصلاة والسلام دون سائر المؤمنين، فليس هذا مثل قوله تعالى {وَاللهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ} [التوبة: 62] .
(أ. دول) حاصل ما ذكره العلامة أن يكون المعطوف عليه إنما ذكر توطئة لما عطف عليه لادّعاء. الاتحاد بينهما بحيث إذا ذكر الأوّل فهم منه الثاني، ولم يكتف بأحدهما للدلالة على قوّة الاختصاص بينهما فيعدل عن مقتضى الظاهر من البدلية إلى العطف تنبيها على ذلك، كما في المثال المذكور، ولذا اشترطوا فيه ظهور دلالة الكلام على التمهيد (وفيما ذكروه أمور منها) أنّ قوله: إنّ الابدال ليس في تلك المرتبة من إفادة التليس بينهما غير مسلم لمنافاته، لما قرّره النحاة، وأهل المعاني في بدل الاشتمال من أنّ المبدل منه يدل على المبدل إجمالا بحيث تصير النفس متشوّفة ومنتظرة له، فيجيء هوب ناً وملخصا لما أجمل، ولولا الملابسة التامّة لم يكن كذلك، وكيف يكون العطف المبنيّ على المغايرة دالا على الملابسة دون البدل.
(ومنها) أنّ قول المدقق في الكشف: إنه كعطف جبرائيل، أو عطف مستقلين مناف للمعنى الادّعائي الذي بنى عليه هذا الأمر ومناف لقوله بعده: إنّ من هذا القبيل ما يقال له واو التفسير، وكأنه لهذا تركه من بعده من الشراح.
(ومنها) أنّ قول المعترض قوّة الاختصاص ظاهرة بالنظر إلى الرسول عليه الصلاة والسلام دون سائر المؤمنين لا يخفى ما فيه، فإنّ المؤمنين لا سيما الصحاية المكرّمين رضي الله عنهم اختصاصهم وتعلقهم بجناب رت العزة بئ وعلا في غاية الظهور، وإن كان الرسل صلوات الله وسلامه عليهم أتمّ اختصاصاً ولذا جعل إطاعتهم إطاعة لله في قوله {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ} [النساء: 59] فإنكاره مماثلة ما هنا لقوله والله ورسوله أحق أن يرضوه لا يتمّ له بسلامة الأمير، وعلى كل حال، فلا يخفى ما في هذا الجواب من الاختلال وأنّ نظر المصنف رحمه الله في تركه، وعدم الالتفات إليه في غاية السداد فاعرفه، ثم إنّ قوله تعالى {وَاللهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ} [التوبة: 62] شاهد لهذا الوجه، لأنه لما وجد ضميره دل على أنّ المقصود إرضاء الرسول صتى
الله عليه وسئم، وذكر الله للإشعار بأنّ الرسول صلى الله عليه وسلم من الله بمنزلة عظيمة، واختصاص قوي حتى سرى الإرضاء ت 4 إليه، وأمّا ما قيل على هذا التوجيه من أنه لا يرتضيه الذوق السليم، لأنّ مقتضى المقام إيراد حالهم خاصة، وتصويرها بما يليق بها من الصورة المستهجنة، وبيان أنّ غائلتها آيلة إليهم من حيث لا يحتسبون كما يعرب عته ما بعده، فهو من أحاديث خرافة لأنّ استدراج الله لهم، ومجازاة الرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنين مما يختص بهم، ويؤل بالآخرة إلى بيان سوء حالهم، كما لا يخفى فتدبر. قوله:(ويحتمل أن يراد إلخ) هذه الجملة معطوفة على ما تقدّم من قوله، والمخادعة تكون بين اثنين، وهو ظاهر قيل، وعلى هذا لا يحتاج إلى تأويل خداع الله تعالى، أو المؤمنين بما مرّ، فإن أراد أنه جواب عن سؤال المخادعة ووجه رابع، فليس كذلك إذ السؤال وارد على هذا التقدير، والجواب الجواب، وجعله بيانا أو استئنافا غير مختص بهذا الاحتمال كما لا يخفى، وقيل: إنه مقابل لما سبق، لأنه لا باس بخداع الرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنين إياهم لإعلاء الدين ومصالحه، ويحتم أنه تتميم لما قبله، فليس بمقابل له، وهو الظاهر الموافق لما في الكشاف، فلا مخالفة بينهما، وستسمع عن قريب ما يتممه. قوله:(لأنه بيان لبقول إلخ) المراد بالبيان التفسير فعلى كلا الوجهين لا محل لهذه الجملة من الإعراب، وليس المراد بالبيان عطف البيان، لأنه لا يجري في الجمل عند النحاة، وان كان كلام أهل المعاني في الفصل والوصل يوهمه، والاستئناف هنا استئناف بيانيّ في جواب سؤال مقدر كأنه قيل لم يدعون الإيمان كاذبين وما نفعهم في ذلك فقيل: يخادعون إلخ. وعلى تقدير السؤال هو أيضاً مبين، فالمآل واحد فيهما والمناسبة تامّة لكون يخادعون بمعنى يخدعون، لاختصاصهم به كاختصاص القول المذكوو، وان كان لا بقاء المخادعة على ظاهرها وجه أيضاً، لأنّ ابتداء الفعل في باب المفاعلة من جانب الفاعل وهو صريحه، وإن كان المفعول يأتي بمثل فعله، فهو مدلول عليه من عرض الكلام.
وقال قدس سرّه تبعاً للمدقق في الكشف: جعل يخادعون بيانا ليقول أولى من جعله مستأنفاً لأنه إيضاح لما سبق، وتصريح بأنّ اقولهم كان مجرّد خداع، وأيضاً ليست المخادعة أمرا مطلوبا لذاته فلا يكون الجواب شافياً بل يحتاج إلى سؤال آخر كما ذكره، وتعبير. بيجوز وما بعده ناطق بها، وما قيل: من أنه بيان للتعجب من كونهم من الناس لا يخفي ما فيه كما يعلم مما مرّ، وقد جوّز في البحر كون هذه الجملة بدلا من صلة من بدق اشتمال، فلا محل لها أيضاً أو حالا من الضمير المستكن في يقول! لي. مخادعين، وأجاز أبو البقاء أن تكون حالا من الضمير المستتر في مؤمنين، والعامل فيها اسم الفاعل، ويرد بأنه حينئذ نظير ما زيد أقبل ضاحكاً وللعرب في مثله طريقان أحدهما نفي القيد وحده، واثبات أصل الفعل، وهو الأكثر فيكون الإقبال ثابتا والضحك منفيا، ولا يتصوّر في الآية نفي الخداع، وثبوت الإيمان والثاني أن ينتفي القيد ومقيده، وهو العاملءفالمعنى لم يقبل ولم يضحك، وهذا غير مراد هنا أيضاً أعني نفي الإيم! الط! والخداع معا بل المعنى على نفي الإيمان، وثبوت الخداع ففسد جعلها حالا من ضمير المؤمنين والع! جب من أبي البقاء رحمه الله كيف استشعر هذا الإشكال، فمنع من جعل هذه الجملة في محل جرّ صفة مؤ! نيق،! لأنه يوجب نفي خداعهم والمعنى على إثباته، ثم جعلها حالا من ضمير المؤمنين ولا فرق بين الحال والصفة كما قيل. .
(أقول) هذا غفلة منهم فإنّ الجملة الحالية بل الحال مطلقاً إذا وقعت بعد نفي، وهي
حال من مدخوله إنما يلزم انتفاء مقارنتها لا نفيها نفسها لأنه لا يلزم من نفي الشيء في حال نفي تلك الحال ألا تراك تقول ما جاءني! زيد " وقد طلع الفجر، فينتفي مجيئه مقارناً لطلوعه ولا يقصد نفي طلوعه، وتعتذر لترك زيارة صديقك لضيق ذات يده، فتقول لا أزورك مملقاً ولا أرى هذا يثتبه على أحد وفي الكتاب المجيد {وَمَا كَانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الأنفال: 33] وهي حالية جوزوا فيها الوجهين، والعجب من هؤلاء أنهم صرّحوا بهذا في سورة الأنفال من غير تردّد فيه، وأمّا الصفة فليس لها مثل هذه الحال، س وما ذكروه من الوجهين جار فيها، ولا يجري في كل قيد وقد تجعل الحال ونحوها في مثله قيدا للنفي لا للمنفيّ، كما قرّروه في قوله ألم أبالغ في اختصاره تقريباً، ومنه ا! لم تضيق مثل هذه الضابطة، وأنها ليست على إطلاقها، كما توهم وسيأتي في سورة آل عمران تفصيله. قوله: (بذكر
ما هو النر ضإلخ) بيان للاستئناف وأنه جواب لسؤال مر بيانه، ويحتمل أنه راجع لهما يعني أنّ الغرض من الباين والاستئناف بيان حالهم فقط على ما بيناه لك. قوله:(1 لأ أنه أخرج في رّنة الخ) مستثنى من قوله يراد بيخادعون إلخ والزنة كالعدة بمعنى الوزن أي أنّ هذا المعنى، أو مطلق هذا اللفظ أتى به على س وزن المفاعلة للمقابلة أي لأن يقابل كل الآخر بمثل فعله، وفي نسخة للمعارضة وهي بمعناها من قولمهم عارضت الكتاب إذا قابلته كما ذكر في كتب الفة، فليس تصحيفا كما توهم، والمتغلبان يبذل كل منهما جهده ويبالغ فيه، فتجوّز به
عن لازم معناه، وهو المبالغة وبقي على ما- كان عليه، ولم يزل، وهو معنى قوله استصحبت أي الزنة، وفي نسخة استصحب لأنها بمعنى الوزن وفي نسخة بدل قوله: لما كانت للمغالبة للعبالغة، وهو من طغيان القلم، والخدع مجاز أيضاً يجري فيه الكلام السابق لا الثالث لاحتياجه للتكلف، فصيغة المفاعلة المحوّلة عن الثلاثي يتجوّز بها عن المبالغة في الفعل لما قرّره المصف وغيره هنا، وقد يتجوّز بها أيضاً عن إيجاد، فعل فيما يقبله بتنزيل قبوله منزلة فعله، كما في قولهم: عالج الطبيب المريض وسيأتي تفصيله، والمباراةء بالموحدة والراء المهصلة عق قولهم باراه إفا فعل مثلى فعله وعارضه قيه ليغلبه، وحينئذ تقوي دواعي الفعل فيجيء6لم وأقوى. وقوله:(ويعصقه) أي يؤيده ويقوّبه من عضدته بمعنى أعنته، وأصله صرت له عضد اً وا! قوا- المذكورة مروية عن ابن مسعود وأبي حيوة. قوله:(وكان غرضهم إلخ) بين ا! عرض من ج! ة " لمتافقين، وهو صونهم أنفسهم وتحصيل منافعهم، والاطلاع على أحوالهم واسرارهم، وقر! الجاتب ة الآخر، وقد يينه في الكشاف بأنّ؟ فيه مصالح وحكماً إلهية بحيث لو قو! اخى!! ى عغلاسدد كثيرة، وما يطرق به ما عبارة عن القتل وا الخلرة ونحوهما، وضمير به الهللعوصواله، وعن مغعولى يطرق أو فاعل، والمفعول محذوف أي يطرقهم، أو هو مجهول من طوف الؤعاقه يعصلثيه إذا أصايه بها وأصله الإتيان ليلَا، والإذاعة بالذال المعجمة والعين المهملة ال!! هلر، والعنلي! اتة إظهار العداوة كأنّ كلَا ينبذ لصاحبه ما في قلبه من العداوة أو ينبذ إليه عهده- قواله-امريى فافع) أي يخادعون بالألف هنا كالسابقة قراءة هؤلاء، فقرأه بضمير الغيبة للقظ يخادعودة المعلوم لفظاً ووسما أو بتاء تأنيث أي هذه قراءة إلخ. قوله:(والمعن! أنّ دائرة! خدع ثخ) الداءلرة اسم لعا يحيط بالشيء ويدور حوله، والتاء للنقل من الوصفية إلى الاسعية، لأن الد، لرة في الأص اسبم فاعل أو لتأنيث والمراد بها هنا ما يترتب على، خداعهم من الضرر، لأن الدائرة تقال في العكروه عقابلة للدولة قال تعالى {نَخْشَى أَن تُصِيبَنَا دَآئِرَةٌ} [المائدة: 52] قيل كما أنّ العحاط لا يتجاوز المحيط كذلك العلة لا تتجاوز عن المعلول فقوله وضررها إلخ تفسير له، ويحيق بمعنى يصيب، وينزل وهو إثمارة إلى قوله {وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ} [فاطر: 43] ولما كان معنى يخادعون السابق ما مرّ خطر ببال الواقف عليه، أنّ هذا الخداع هل هو كذلك على الوجوه السابقة أم لا، وكيف يكون المرء مخادعا لنفسه وما معناه فوجهه المصنف رحمه الله بقولي والمعنى إلخ وهو معنى ما في الكشاف من أنّ المراد، وما يعاملون تلك الم! املة المشبهة بمعاملة المخادعين إلا أنفسهم، لأنّ ضررها
يلحقهم ومكرها يحيق بهم، كما تقول فلان يضارّ فلانا، وما يضارّ إلا نفسه أي دائرة الضرر راجعة إليه وغير متخطية إياه إلى آخر ما ذكره من الوجوه الثلاثة، وفي التعبير بالدائرة لطف لأنها خط مستدير تتساوى جميع الخطوط الخارجة عن مركزه إليه، وإذا رسم يختم من حيث ابتدىء، ولما كان الخداع ابتداء منهم ثم عاد إليهم كان كالدائرة الرسمية، وعلى هذا يجوز أن تكون دائرة الخداع استعارة مكنية مخيلة، لأنّ خداعهم كانه دائرة آخرها أوّلها، وهذا مما أغفلوه فلا تكن من الغافلين، وقد اختلف شراح الكشاف في مراده، فقيل إنه مشاكلة للمستعار السابق كما نقلى عن الواحديّ أي لما كان خداع أنفسهم بمعنى إيصال الضرر إليها مسببا عن تلك المخادعة المشبهة بمعاملة المخادعين ومصاحبا لها قيل: يخادعون، فجاء باللفظ على اللفظ، ولا يخفى أنّ كون المشاكل، والمشاكل مجازاً بعيد جداً وقيل جعل مخادعة الصاحب عين مخادعة نفسه نظرا إلى المآل، وهذا نوع من المجاز كثير الدور في كلام العرب وغيرهم، ولا يختص بباب المفاعلة كقولهم قصد مساءة زيد، وما قصد إلا نفسه، وهو من باب تسمية
الشيء باسم ما يؤدى إليه، وفيه ملاحظة السببية والانتهاء إليه، ففي الكلام مجاز على مجاز، وليس المجاز هنا بمعنى مجاز الأول المشهور بل الغاية المسببة لا أنه يؤل إليه، كما نبه عليه بعض الفضلاء، وقيل: إنه إشارة إلى تطبيقه على أوّل الوجوه الأربعة، وتلخيصه أنّ المخادعة استعيرت للمعاملة الجارية فيما بينهم وبين الله والمؤمنين المشبهة بمعاملة المخادعين، فقصرت هذه المعاملة ههنا على أنفسهم بعد تعليقها بما علقت به سابقا بناء على أنّ ضررها عائد إليهم لا يتعداهم، ونظيرها فلان يضار فلانا وما يضار إلا نفسه، ولا يختص هذا بالمفاعلة ولا بلغة العرب، فالعبارة الدالة على قصر تلك المعاملة مجاز أو كناية عن انحصار ضررها فيهم، أو يجعلى لفظ الخداع المستعار مجازاً مرسلا عن ضرره في المرتبة الثانية، ويمكن أن يقال لما انحصرت نتيجة تلك المعاملة فيهم جاز أن يدعى أنّ نفس تلك المعاملة مقصورة عليهم، ويكون حينئذ انحصار ضررها فيهم مفهوماً تبعاً لا قصداً، فلا حاجة إلى تجوّز أو كناية، وفي كلامه إشارة إليه ولك أن تطبقه على الوجوه الباقية، وأورد عليه أنه لا فائدة في انحصار المعاملة فيهم بل في انحصار الضرر، فجعل الثاني مقصودا تبعا والأوّل ملحوظا قصدا تحكم، ألا ترى أنّ المحققين اعتبروا في الكناية تبعية القصد في المكنى به، وأصالته في المكنى عنه فتامل حق التأمل لتعرف أنه غير وارد عليه، فإن قلت إنهم جوّزوا هنا المجاز بمرتبتين من غير نكير وقد اشترطوا فيه أن يشتهر المجاز الأوّل حتى يلتحق با! حقيقة ليصح الانتقال عنه بدون الغاز قلت: الظاهر أنّ الاشتراط المذكور وإنما هو إذا لم يكن المجاز الأوّل مذكوراً صريحاً في الكلام، فإنّ ذكر. يغني عن شهرته لحصول المراد به، ولم يلتفتوا هنا للمشاكلة مع ظهورها، وسهولة مأخذها حتى رجحها بعضهم على بقية الوجوه لما مرّ، فإن لم تر ذلك محذوراً، فقل كل يعمل على شاكلته، وأن شئت على مشاكلته. قوله:(أو أنهم في ذلك إلخ) الوجه الماضي
489
مبنيّ على أنه خداع آخر جار بينهم وبين أنفسهم الأباطيل وا! اذيب، وأنه سيتفرع على ذلك أمور
لك وتطمئن حتى تخدعهم بخرافات الأماني، والفارغة بمعنى الخالية عن الفائدة مجازا، فكانوا
فارغا ليرويه، والخاء فيه بمعنى الخفية، وغير قوله
نّ حقيقة الخداع إنما تكون بين اثنين بإيهام الغير بصدده كما مرّ، ولا يمكن اعتبارها بين الشخص لحقيقية إلى غير ذلك من التكلفات التي ارتكبوها في لمعنى على سبيل التجوّز، ومنهم من فسر النظم سوله صلّى الله عليه و، صلّم والمؤمنين، لأنه كما لا حداعه لها يمتنع خداع الله لأنه لا يخفى عليه خافية، منين، لأنه تعالى يخبرهم به، أو هو كناية عن أنّ
الله عليه وسلم والمؤمنين معاملة مع أنفسهم، لأنّ ينفعونهم كأنفسهم، ولا يخفى بعده. قوله: (لأن مفاعلة تقتضي حقيقة اثنين مخاح ومخاع، ولا
كما مرّ، وما قيل عليه: من أنّ الخاع بل كل متعدّ
ق بدون فارق ودفعه بأنه لا بدّ للشركة في الخداع
نه يكفي فيه المغايرة بين الفاعل والمفعول بالاعتبار لسحص بنفسه ليس بشيء أمّا السؤال، فلأنّ مراده أنّ باب تغاير الفاعل والمفعول فليس وضعيا، وأنما هو لملوب، وما ألحق بها اتحاد الفاعل والمفعول، وأمّا لى التأويل كما مز، والعلم مستثنى من هذه القاعدة
من هذا بيان ترجيح هذه القراءة على الأخرى واختيار ##
#الصحيحة فيهما فلا يرد عليه أنّ القراءة إنما هي بالرأي ومقتضى العقل وحسن الظن بالسلف يدفع
لال في تقرير قوله خدعوا أنفسهم: أنه على طريقة تحديث كل منهما صاحبه بالأحاديث، فيجرّدون من
لغير ويخاطبونهم كقول المتنبي:
فليسعد النطق إن لم يسعد الحال
والفرق بين هذا وبين الالتفات قد مرّ، وقد قيل: إنّ قراءة يخادعون مبنية على التجريد
من الجانبين، وهذه مبنية عليه من جانب واحد، وقال قدس سرّه: إنه تكلف بارد والمراد بالباقين من بقي من القرّاء السبعة غير من ذكر أوّلا وما عدا القراءتين شاذ. قوله: (وقرىء يخدّعون من خذّع إلخ) أي قرىء يخدعون بتشديد الدال مع ضم الياء وفتح الخاء، ويخدعون بفتح الياء والخاء وتشديد الدال مع الكسر وكلاهما على البناء للفاعل، ويخدعون من الاخداع، ويخادعون كلاهما على البناء للمفعول والتشديد لأنه افتعال وأصله يختدعون بنقل حركة الدال، وادغامها في التاء لقرب مخرجهما، واختدع جاء عن العرب متعديا كما في الأساس وغيره يقال خدعه، واختدعه إذا ختله فانخدع وما قيل على هذا من أنه ينبغي أن يكون النصب بنزع الخافض إلا إن ثبت اختدع بمعنى خدع من عدم الوقوف عليه، وفي محتسب ابن جني والبحر قراءة المجهول لابن شدّاد والجارود بن أبي سبرة، وهذا على معنى خدعت زيداً نفسه أي عن نفسه على أنّ نصبه على الحذف والإيصال كاختاو موسى قومه، أو هو متعدّ حملا على ما هو بمعناه أو ضمن معنى ينتقصون، ويسلبون أو هو على التشبيه بالمفعول أو على جواز تعريف التمييز، كما قيل في غبن زيد رأيه، وأمّا كون ضمير يخادعون لجميع من ذكر من الله والرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنين والمنافقين، والمستثنى منهم أنفس المنافقين، والمعنى ليس من وقع بينهم النفاق إلا نفس المنافقين، فتكلف لا يليق بالنظم الكريم. قوله:(والنفس ذات طشيء إلخ) هذا باعتبار المعنى العام الشامل لكل شيء، وهو على هذا لا يختص بالأجسام، ولا بذوات الأ- واح كما يقال: هو في نفسه كذا وحقيقة الشيء وعينه، وذاته بمعنى في العرف العامّ، فليس المراد بالشيء الحيوان كما قيل بناء على أنّ تقريره في بيان مناسبات المعاني يقتضيه إلا أنّ الإمام الغزالي رحمه الله تعالى، فسر الذات في السرّ المصون بأمر شامل للروح والجسد، أو هو الجسد القائم به الروح، وعند أهل المعقول بمعنى الحقيقة، وهي وهو جوهر يحل به المعقولات، وهو من عالم الأمر اهـ فإن أراد به هذا اختص بالحيوان بل بالإنسان، وقد قال في كتاب الروح: إنه حقيقة عرفية فيه. وقال بعض الفضلاء: الظاهر أنّ الشيء على عمومه كما يشعر به ما في الصحاح من أنّ النفس الجسد، وعين الشيء، فلا يلائم تعليل إطلاقه على القلب بأنّ النفس به، فإنه لا يجدي إلا في بعض أفراده، والمناسب أن نعتبر المناسبة بين نفس المفهوم الحقيقي، والمعنى المجازي لا بينه وبين بعض أفراده، فالوجه أن يخصص الشيء بالحيوان كما يدل عليه قوله قدس سرّه لأنّ ذات الحيوان به، وما ذكره ملخص ما في الكشاف. وهو كما قال قدس سرّه: يتبادر منه أنّ لفظ النفس حقيقة في الذات مجاز فيما عد 51، وذلك ظاهر في الدم والماء والرأي واطلاق النفس على الرأي والداعي من قبيل تسمية المسبب باسم السبب أو استعارة مبنية على المشابهة، والثاني أنسب بالمقام وأظهر كما أشار إليه
المصنف رحمه الله. وقوله: (لأن نفس الحئ به) أي لأنّ ذاته تقوم وتحيا، وتبقى به، وقد ذهب كثير إلى أنّ النفس حقيقة في الروح، ويوفق بينهما بما نقلناه من كتاب الروح، ويؤيده أنّ النفس لا تطلق على الله دائما أو غالبا إلا بطريق المشاكلة، كما سيأتي تحقيقه في تفسير قوله تعالى {تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ} [المائدة: 116] . قوله: (وللقلب لآنه محل الروح) القلب عضو صنوبريّ معروف واطلاق النفس عليه من قبيل ذكر المسبب وارادة السبب أو من إطلاق اللازم على ملزومه لأنّ النفس ذات الشيء وذات الحيوان بالقلب تتقوّم لأنّ القلب مبدأ الحياة، ومحل الروح الحيواني، ولذلك خلق في وسط الصدر لأنه أحرز المواضع في البدن إذ العظام سور حصين له والعضلات حرس له، والمراد بالروح التي تحله
بخار لطيف في تجويفه الأيسر وتسميه الأطباء بالروح الحيوافي، وهو الطف ما في البدن وأكثره مناسبة للروح المجردة. وقوله:(أو متعلقه) بناء على أنّ المراد بالروح الجوهر المجرّد المتعلق بالبدن تعلق التدبير والتصرّف، فإنه مما يطلق على الروح أيضا كما صرحوا به، ففي كلامه شبه استخدام وقد اختلفوا في أوّل ما يتعلق به النفس الناطقة هل هو القلب أو الدماغ، ورجح ابن سينا الأوّل وتبعه المصنف رحمه الله. قوله:(وللدم إلخ) ومنه قولهم لا نفس له سائلة أي دم يجري وتسميته لما ذكر، والقوام بالكسر ما به يقوم ويبقى والنفس تؤنث بمعنى الروح وتذكر بمعنى الشخص كما في المصباح. وقوله:(وللماء إلخ) هذا مما تبع فيه الزمخشريّ، وهو إمام يقتدى به إلا أنّ ابن الصائغ رحمه الله أشار في حاشيته على الكشاف إلى أنه لم يوجد في كتب اللغة والذي فيها النفس بفتحتين كما نقله كراع، واستشهد له بما ثبت في كلامهم، وفي الصحاح النفس الجرعة قال جرير:
تعلل وهي ساغبة بنيها بأنفاس من الشبم القراج
وترك ما في الكشاف من الاستشهاد عليه بقوله تعالى {وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاء كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ}
[الأنبياء: 30] لأنه لا يثبت المدعى وأنما يؤيد التعليل. وقوله: (يؤامر نفسيه) بالتثنية أي يتردد بين رأيين له، فمؤامرة النفس كناية عن التردّد والمؤامرة المشاورة، كالائتمار لقبول بعضهم أمر بعض فيما يشير به عليه فأبدلت الهمزة واواً، وقد مرّ بيان العلاقة فيه. قوله:(والمراد بالأنفس إلخ) في الكشاف والمراد بالأنفس هنا ذواتهم والمعنى بمخادعتهم ذواتهم أن الخداع لاصق بهم لا يعدوهم ولا يتخطاهم إلى من سواهم، ويجوز أن يراد قلوبهم ودواعيهم وآراؤهم اهـ فإذا أريد بالأنفس الذوات كان المراد بالمخادعة أنّ خداعهم لا يتجاوزهم، ويرجحه أنه المعنى الحقيقيّ المتبادر ولا مانع يمنعه هنا، وأمّا إرادة الآخرين فيضعفها أنّ المتبادر من المخادعة أن تكون بين شخصين متغايرين حقيقة، وهذا فيه مغايرة لكنها غير حقيقية وفيه نظر، وقيل إنّ الأوّل ناظر إلى قوله دائرة الخداع إلخ. وما بعده إلى قوله أو أنهم إلخ.
وعدل عن قول الزمخشريّ قلوبهم إلى قوله أرواحهم، لأنه أظهر في المغايرة. وقد قال قدّس سرّه: إنه على الأوّل يتعين أن يراد بحصر خداعهم في ذواتهم قصر ضروه عليهم كما ني الجواب الأوّل، وعلى ما بعده ذكر القلوب تمهيدا لذكر الدواعي، والآراء لا أنه ونجه آخر، وإذا أريد بالأنفس الدواعي تعين الجوابان الأخيران، وكان اعتبار المشابهة أولى كما لا يخفى فبيان المراد بالأنفس تتمة للأجوبة.
(وفيه بحث الأنه لا مانع من جعل ذكر القلوب في كلام العلامة إشارة إلى وجه آخر لأنّ القلوب ينسب إليها الإدراك كما قال تعالى {لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا} [الحج: 46] ويؤيده إبدال المصنف لها بالأرواح فما ذكره عدول عن الظاهر من غير داع.
(تنبيه) بقي للنفس هنا معان أخر لم يذكرها المصنف رحمه الله كالعين المصيبة والقوى الحيوانية الجامعة للصفات المذمومة المضادة للقوى العقلية، وباختلاف هذه الصفات والأحوال تسمى النفس تارة أمارة وتارة لوامة وتارة مطمئنة، وليست هذه نفوساً متغايرة كما سيأتي تحقيقه. قوله:(لا يحسون إلخ) يشير إلى أنّ الشعور معناه الإدراك بالمشاعر، وهي الحواس الظاهرة في الأصل، وإن ورد بمعنى لا يعقلون مطلقاً إلا أنّ حمله على هذا أولى لأنه أصل معناه وأبلغ لأنّ عدم الشعوو بالمحسوس في غاية القبح لكون المحسوسات من البديهيات، ومن لا يشعر باله ديهيّ المحسوس مرتبته أدنى من مرتبة البهائم، فنفي الشعور يدلّ على التهكم بهم وعلى نفي العلم بالطريق الأولى فهو أبلغ من لا يعلمون هنا وأنسب بما مرّ من قوله {خَتَمَ اللهُ عَلَى قُلُوبِهمْ} إلخ. وقوله:(لتمادي غفلتهم) من قولهم تمادى في الأمر إذا تمادّ فيه إلى الغاية جمما في الأساس، فتمادي الغفلة بمعنى امتدادها على ظاهره وحقيقتة، أو هو بمعنى تماديهنم في غفلتهم، فالتمادي من المدد وأصله تمادد كقصيت بمعنى قصصت، ويجوز أن يكون من المدى بدون إبدال. قوله:(جعل لحوق وبال الخداع إلخ) يشير به إلى المعنى الأوّل من معنى خداعهم لأنفسهم كما في الكشاف، واقتصر عليه لأنه الأرجح الأظهر وغيره يعلم بالمقايسة عليه أيضا، ولذا أمر الشريف رحمه الله بالتدبر فيه، وفيه إشارة إلى أنّ قوله {وَمَا يَشْعُرُونَ} مرتبط بقوله {وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَاّ أَنفُسَهُم}
ولذا قال الزجاج في تفسيره: وما يشعرون أنهم يخدعونها، وهو أقرب لفظاً ومعنى من جعله متصلا بقوله يخادعون الله على أنّ المعنى، وما يشعرون أنّ الله يعلم ما يسرون وما يعلنون ومن لم يشعر بهذا جعله من فوائده الزوائد هنا، والوبال سوء العاقبة وأصله وخامة المرعى، فتجوّز به عما ذكر ثم صار حقيقة عرفية فيه، وقد يراد به الإثم وهو قريب منه، فمن فسره بالوخامة فقد تسمح فيه هنا، ومؤفة أصابتها آفة وهي العاهة يقال: أيفت الأشياء فهي مؤفة كما يقال ايلت فهي مؤلة، وفي عبث الوليد للمعرّي لو
جيء به على الأصل فقيل: ما ووفة بوزن مضروبة جاز عند بعض الناس، وكذا استعمله البحتري في شعره. قوله:(والشعور الإحساس إلخ) أي الإدراك بالحوإس الخصس الظاهرة، وقد يكون بمعنى العلم وصرّح الراغب بأنه مشترك بينهما، وذهب بعضهم إلى أنّ هذا أصله، وذاك مجاز منه صار لشهرته فيه حقيقة عرفية، وهو ظاهر كلامهم هنا، والمشاعر الحواس، ولها معان أخر كمناسك الحج وشعائره، وقوله الشعر بكسر الشين وسكون العين لأنه اسم للعلم الدقيق، كما في قولهم ليت شعري. ثم نقل في عرف اللغة للكلام الموزون المقفى، فهو مصدر أخذ منه الفعل وتصاريفه، ولو قرىء بفتحتين صح أيضاً لقول الراغب في مفرداته شعرت أصبت الشعر ومنه استعير شعرت، كذا أي علمت علماً في الدقة كإصابة الشعر اهـ. ولذا فسر الشعور بالفطنة ودقة المعرفة. وقوله:(ومنه الشعار) ضمير منه راجع للشعر والشعار يكون بمعنى الثوب الذي يلي الجسد لمماستة الشعر، ويكون بمعنى العلامة وبمعنى ما يتنادى به في الحرب ليعرف بعضهم بعضا، فإن كان الشعر بالفتحتين فالمناسب! فسيره بالمعنى الأوّل وإلا فبالثاني، وجملة ما يشعرون مستانفة أو معطوفة أو حال من فاعل يخدعون، ومفعول يشعرون مقدّر أي لحوق الضرر بهم، وأنّ وبال خداعهم راجع إليهم ونحوه أو غير مقدر للعموم وتنزيله منزلة اللازم، وقوله بذلك ورجوع ضرره يشير إلى الأول وجعلهم في حواسهم آفة يشير إلى الثاني، وهو أبلغ كما مرّ. قوله:(المرض حقيقة فيما يعرض للبدن إلخ) من الأطباء من ذهب إلى أنّ أحوال الإنسان ثلاث صحة ومرض وحال لا صحة، ولا مرض كجالينوس، وعند الرثيس أنّ له حالتين صحة ومرض بغير واسطة، والصحة تصدر عنها الأفعال سليمة، والمرض يقابلها، وذهب أهل اللغة كما في المصباح إلى أنه حالة خارجة عن الطبع ضارّة بالفعل، والفرق بينه وبين ما ذهب إليه الأطباء ظاهر، فإنهم يسمون نحو الحول والحدب مرضا بخلاف أهل اللغة، ثم إنّ المصنف رحمه الله عدل عن قوله في الكشاف: فالحقيقة أي حقيقة المرض أن يراد الألم كما تقول: في جوفه مزض لما فيه، لأنّ الألم أثر المرض لا عينه لغة واصطلاحا كما لا يخفى، وما قيل من أنّ كون الألم مرضا من أظهر القضايا عند أهل اللغة والعرف، وأمّا كونه عرضا لا مرضا فمن تدقيقات الأطباء على أنّ استعماله في المرض! شائع فيما بينهم أيضاً كقولهم الصدع ألم في أعضاء الرأس فيه ما لا يخفى، والمراد بالأفعال ليست الأفعال المتعارفة كالضرب بل متعارف الحكماء، وهي إمّا طبيعية كالنمو أو حيوانية كالنفس، أو نفسانية كجودة الفكر والألم ما يتألم، ويتوجه به وهو أعمّ من المرض، والاعتدال توسط حال بين حالين، وكل ما تناسب فقد اعتدل كما في القاموس. قوله:(ومجاز في الأعراض النفسانية إلخ) الأعراض جمع عرض كسبب وأسباب، وهو ما يعرض ويطرأ على المرء ثم
ضمير كمالها للنفس التي تفهم من نفسانية، والنفساني منسوب للنفس على خلاف القياس كووحاني، وقد أثبته أهل اللغة وله معنى آخر في الكشف، وهذا برمته مأخوذ من كلام الراغب، والجهل ضد العلم، وقيل المراد به البسيط، لأنّ سوء العقيدة جهل مركب، والحسد تمني زوال نعمة الغير والغبطة تمني نيل مثلها من غير زوال، والضغينة كالضغن بمعجمات الحقد واضمار العداوة، والحياة الحقيقية هي الأخروية، لأنها السعادة الأبدية والحياة الدنيوية، لأنها في معرض الزوال كلا شيء، كما قال تعالى {وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} أسورة العنكبوت: 64] ولما كان المرض الحقيقي يؤدي إلى اختلال البدن ثم إذا تناهى أدى إلى الموت أشار المصنف رحمه الله إلى أنّ وجه الشبه فيه من هذين الوجهين الأوّل مغ الفضائل والكمالات المشابهة لاختلال البدن المانع عن الملاذ، والثاني زوال الحياة الأبدية الذي هو
كهلاك المريض والمراد بالحياة الأبدية السعادة المخلدة لأنّ حياة المخلد في النار لا يعتد بها فلا يرد عليه ما قيل من أنه كان عليه أن يبدل الحياة بالسعادة لأنّ الحياة الأبدية مشتركة بين المسلمين وغيرهم. قوله: (والآية الكريمة تحتملهما إلخ) مخالف لما في الكشاف من تعين المعنى المجازي حيث قال فيه: المراد في الآية المعنى المجازي الذي هو آفة في الإدراك كسوء الاعتقاد والكفر أو حالة تبعث على ارتكاب الرذائل كالحسد أو مانعة عن اكتساب القضائل كالجبن إلخ. وقد غفل عن هذا من توهم أنّ صاحب الكشاف قائل بما ذهب إليه المصنف رحمه الله، فقال حمل الآية على المجاز هو المنقول عن ابن مسعود وابن عباس ومجاهد وقتادة، وسائر السلف من غير اختلاف فيه، والتفسير مرجعه إلى النقل والعجب من الزمخشريّ والقاضي أنهما يحملان ما ظاهره الحقيقة على المجاز من غير داع إليه لأنه أبلغ، وهنا ورد التفسير عن الصحابة والتابعين بالمجاز ليس إلا فلم يقتصروا عليه إلى آخر ما فصله، ولا وجة له والمصنف تبع فيما ذكره الإمام حيث قال: الإنسان إذا ابتلي بالأخلاق الرديئة كالحسد والنفاق والكفر، ودام به ذلك ربما أدّاه إلى تغير مزاجه وقلبه واليه أشار المصنف، وقال بعضهم: إنه الأرجح لأنه مع كونه حقيقة أبلغ والمجاز إنما يرتكب لبلاغته، وفيه من الخلل ما لا يخفى فإنه مع ابتناء ظاهره على أنّ المرض الألم وقد صرّح الإمام بعدم ارتضائه كما مرّ مفصلا وصبعه المصنف رحمه الله لأنّ الألم مسبب عن المرض لا نفسه لا وجه له سواء قلنا: إنّ قوله فانّ قلوبهم كانت متألمة إلخ بيان للحقيقة. وقوله: (ونفوسهم كانت مؤفة إلخ) بيان للمجازءلمى اللف والنثر المرتب، أولا فإنّ مآله إلى التألم بفوت الرياسة والحسد، وأنّ نفوسهم مؤفة بالفساد وسوء الاعتقاد، وليس في ذلك رائحة من الحقيقة وكون المرض الحقيقي كناية عما ذكر والكناية يكفي فيها صحة إرادة الحقيقة تكلف لا يفيد، وقد أشار شرّاح الكشاف إلى أنه لا يصح إرادة المعنى الحقيقي، وهو الحق الحقيق بالقبول رواية ودراية، وما قيل من
ير قلوبهم ألماً عظيماً بواسطة شوكة أهل الإسلام،
نّ حقيقة المرض الألم الذي يسوء المزاج، وهو
ية مطلق الألم الذي هو أقرب إلى الحقيقة أو نظراً
اج في غاية الركاكة والبعد ولا داعي لارتكابه كما صهم) وفي نسخة عما فات عنهم والتخق تفعل من لإنّ الحديد بالحديد يفلح، واستعير لحك بعض
له عن شدّة الغيظ والغضب، وهو المراد هنا وليس محرق كالنار كما قيل:
د فإنّ صبرك قاتله
إن لم تجد ما تأكله
لس! هذا بقاطع عرق الاحتمال خصوصاً في عبارة سبهة في أنه المراد، ولا وجه لما قيل من أنّ الأولى على الاحتراق مناسب جذاً، وتعدى فات بعن لتضمنه من الرياسة) إشارة إلى قصة ابن أبيّ المشهورة في لحسدهم، وقولهم في دولة الإسلام إنها ريح لهبوبها لى غير ذلك من ظنونهم التي خيبها الله، واشارة الإشادة الرفع ففيه إشارة إلى قوله تعالى {وَرَفَعْنَا} بالدال المهملة. قوله:(فزاد الله إلخ) هذا وما عمهم إشارة إلى تفسير قوله {فَزَادَهُمُ اللهُ مَرَضاً} ولا له تعالى {فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ} [التوبة: ####
###
، وقد اختلف في هذه الجملة هل هي خبرية أم لا معترضة مصدرة بالفاء، وقد صرّح النحاة بأنها تكون
أن سوف يقضي كل ما قدرا
التلويح وغيره فلا وجه لما قيل إنّ الأنسب حينئذ نّ قوله فزادهم الله إلخ إخبار وعطف الماضي على
الاسمية لنكتة إن أريد في الأولى أعني في قلوبهم مرض أنّ ذلك لم يزل غضاً طرياً إلى زمن الإخبار، وفي الثانية أن ذلك مسبب لازدياد مرضهم المحقق إذ لولا تدنس الفطرة لازدادوا بزيادة إمداد الإسلام ونزول الآيات شفاء. وقوله تعالى {فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ} [التوية: 125] جملة مستأنفة لبيان الموجب لخداعهم وما هم فيه من النفاق، ويحتمل أن تكوق مقرّرة لعدم شعورهم والأوّل أنسب لأنّ قوله وما يشعرون سبيله سبيل الاعتراض وما قيل في ترجيح الاعتراض على الإخبار بأنّ الثاني مكرّر مع قوله تعالى {يَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ} ليس بشيء للفرق الظاهر بين زيادة المرض وزيادة الطغيان، على أنه لا مانع من التأكيد مع بعد المسافة، ثم إنّ كلام الشيخين لا ينافيه لأنّ الدعاء من الله إيجاب مؤكد ولولاه لم يكن للدعاء من الله معنى كما لا يخفى فتدبر. وقوله:(ونفوسهم) بالنصب عطف على قلوبهم لبيان المعنى المجازي كما مرّ، ومؤفة هو وجه الشبه، والمرض الأوّل والآلام ومنشؤها وهي تزداد بزيادة الغموم:
والغم يخترم النفوس نحافة ويشيب ناصية الصبيّ ويهرم
والثاني تلك الآفات، وازديادها بالطبع والختم الذي يثبتها والثبات، أو بما بعده. قوله:
(أو بازدياد التكالبف إلخ) أورد عليه أمران الأوّل أنّ المشهور في الازدياد أنه مصدر ازداد اللازم، وقد اسنعمله متعديا تبعاً لما في الكشاف، فإنّ قوله فيه ما ازدادوه يدل على أنه عداه لمفعول واحد كما بينه شرّاحه، والثاني أنّ المنافقين في إجراء الأحكام عليهم كالمؤمنين الخلص، ولا مزية لهم في التكاليف لأنّ المراد بها ما كلف به لا المعنى المصدري، ولو قيل إنه في حق ماحضي الكفر، وازدياد تكاليفهم بشرعية القتل والأسر والجزية تفكك النظم لأنّ ما قبله وما بعده في المنافقيق، وقد أورده بعضهم على أنه وارد غير مندفع (أقول) هذا زبدة القيل والقال، وليس بوارد بوجه من الوجوه.
أمّا الأول فلأن زاد يتعدى لمفعول واحد وتارة يتعدى لمفعولين وازداد مطاوعه، والمطاوع ينقص عن مطاوعه مفعولا واحداً، فإذا كان مطاوع المتعدي لمفعولين تعدى لواحد من غير شبهة، وعليه قوله تعالى {نَزْدَادُ كَيْلَ بَعِيرٍ} [يوسف: 65] وفي الأساس ازددت مالا وازداد الأمر صعوبة، وازداد من الخير ازدياد فالقول بأنه لازم وان اتفق عليه الشراح لا وجه له وكذا قول الراغب: يقال زدته فازداد، وقوله {وَنَزْدَادُ كَيْلَ بَعِيرٍ ذَلِكَ} نحو ازددت فضلا أي ازداد فضلي، فهو من باب سفه نفسه اهـ. فحمل ما ورد من منصوبه على التمييز ولا حاجة إليه، وهذا هو الذي غرّ المعترض.
وأمّا الثاني فسقوطه ظاهر، لأنّ ما ذكره المصنف رحمه الله أخذه بحروفه من التفسير الكبير ومعناه أنّ التكاليف والأحكام كلما تكرّرت تكرّر بسببها كفرهم المضمر وسوء عقائدهم،
فيزداد مرضهم بسبب ذلك، ويجوز أن يراد بالتكليف معناه اللغوي، وهو تكليف النبيّ صلى الله عليه وسغ لهم في بعض الأمور وتخلفهم عنه، وتعللهم كما وقع في بعض الغزوات من تخلف المنافقين ونحو ذلك، وهذا مما لا مرية فيه.
وأمّا ما ذكره من الجواب ففي غاية الفساد، وتضاعف النصر تكراره وتواليه، ولا وجه
لما قيل من أنّ الظاهر أن يبدل التضاعف بالتضعيف، لأنه لازم مضاف لفاعله، كما أنّ الازدياد يجوز فيه أن يكون مضافاً للفاعل على أنه مصدر اللازم، وإن كان متعديا كما مرّ، ومن العجب ما قيل أنّ الازدياد والتضاعف كناية عن الزيادة، والضعف لكونهما لازمين. قوله:(وكان إسناد الزيادة إلى الله إلخ) قيل عليه: إنه لا حاجة هنا إلى ارتكاب الجاز العقليّ لصحة إرادة الحقيقة بل هي متعينة، وإنما يحتاج إلى هذا التاويل المعتزلة لأنهم ينزهون الله تعالى عن حقيقة الختم والطبع لزعمهم قبحه، ولا قبح ني إيجاده عندنا بل في الاتصاف به والزمخشريّ رحمه الله إنما ارتكبه بناء على مذهبه فلا ينبغي للمصنف رحمه الله أن يتبعه فيما ذكر، وقد صرّح صاحب التاويلات، ومن بعده بأنه مبنيّ على أصلهم الفاسد وذهب الفاضل المحقق إلى أنّ مرادهم بما ذكر أنه ليس هناك من يزيدهم مرضاً، حقيقة على رأي الشيخ عبد القاهر في أنه لا يلزم
في الإسناد المجازي أن يكون للفعل فاعل يكون الإسناد إليه حقيقة مثل:
يزيدك وجهه حسنا إذا ما زدته نظرا
وتابعه قدّس سرّه عليه، وأومأ إلى تأييده فقال هو إسناد مجازي سواء فسر المرض بالكفر، أو الحسد والغل، أو الضعف والخور كما صرحت به عبارته، وان جاز إسناد زيادة المعنى الأخير إلى الله تعالى حقيقة على رأبه أيضاً، والمراد بالمعنى الأخير الجبن والخور لا الحسد كما توهمه بعضهم فقال عدم كون حسد نبيّ الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين بطلب زوال ما أنعم الله به عليهم قبيحاً غير صحيح، وهو غفلة عن مرادهم نعم يرد عليه ما قيل من أنّ الظاهر أنّ الحسد كما هو قبيح، فكذا الجبن والخور، لأنّ كلا منهما من الملكات الرديئة المستلزمة للأثار الغير السنية، فالفرق بينهما بأنّ الأوّل قبيح والثاني حسن حتى جاز إسناد الأخير إليه تعالى دون السابق تحكم إلا أنّ الأخير قد يترتب عليه آثار حسنة بالنظر إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم والمؤمنين كتباعد الكفار عن محاربتهم ونحوه اهـ. فعلم أنّ ما ذكر ليس مبنيا على الاعتزال، وان خفي على كثير من الناس، ونطاق البيان يقصر عنه هنا، وسيأتي بيانه إن شاء الله تعالى، وأمّا ما قيل من أنّ ما ذكره المصنف جواب عما يقال من أنّ المسند إلى الله تعالى زيادة مرضهم وهو صحيح بالنظر إلى الطبع دون ازدياد التكاليف وأخويه لأنّ الزائد يجب أن يكون من جنس المزيد عليه، أو ملائماً له وتقريره أنّ المراد بإسناد زيادة مرضهم إليه تعالى ليس إسنادا للزيادة من حيث نفسها بل من حيث أنها مسببة عن فعله تعالى وهو ما ذكر من ازدياد التكاليف، وما بعده فإنّ كلا منهما سبب لزيادة مرضهم على ما مرّ إلى آخر ما أطال به
من غير طائل وتبعه من بعده ممن كتب على هذا الكتاب، من غير فرق بين البحر والسراب وضمير أنه للزيادة مراعاة للخبر أو نظراً لأنها بمعنى الازدياد أو لعدم الاعتداد بتأنيث المصادر، ولا فرق بين ما ذكره المصنف رحمه الله، والزمخشريّ على ما يتوهم من تغيير العبارة فتدبر. قوله:(ويحتمل أن يرادب لمرض إلخ) احتمل معناه الحقيقي العفو والإغضاء، وفي اصطلاح المصنفين يستعمل بمعنى الجواز فيكون لازما وبمعنى الاقتضاء، والتضمن فيكون متعدياً مثل إحتمل أن يكون كذا، واحتمل الحال وجوهاً كثيرة وتداخل كيدخل بمعنى دخل بطريق التعانب، والتف ريج ولذا اختاره على دخل مع أنه أخصر وأظهر، والجبن ضعف القلب عما يحق أن يقوى فيه، ورجل جبان وامرأة جبان، والخور بخاء معجمة وواو وراء مهملة أصله رخاوة في العصب ونحوه، ثم تجوّز به عن الجبن وشاع فيه حتى صار حقيقة عرفية فيه والشوكة معروفة وتستعار لهلقوّة في الحرب فيقال: فلان ذو شوكة ومنه شاكي السلاح على قول كأنهم شبهوا الأسلحة بالشوك ولذا قيل:
ورد الخدود ودونه شوك القنا أبداً بغير لحاف لا يجتنى
والبسط التوسعة كما قال تعالى {؟ ولو تج! ط القة الرزق لعبا؟ هـ} [الشورى: 27]
أي وسعه فالتبسط في البلاد بمعنى سعة ممالكهم أو انتثارهم فيها وهدّا معنى آخر مجازيّ، لكنه قريب إلى معناه الحقيقي جداً لأنّ الجبن وضعف القلب أخوان. قوله:(أي مؤلم إلخ) ذهب أرباب الحواشي هنا إلى أنّ مؤلم بفتح اللام اسم مفعول من الإيلام المزيد لأنه الموافق لما في الكشاف ولأنه الأبلغ لجعل العذاب نفسه متألماً، ومعذبا بزنة المفول ولو كان بالكسر كما ذهب إليه بعضهم لم يكن فيه تجوّز في الإسناد كجد جده فلا يوافق أوّل كلامه آخره وليس بشيء فإنّ الكسر إن لم يتعين لا شبهة في صحته كما ذكره بعض فضلاء العصر في حواشيه فيكون ما فسره به المصنف، أولا بيانا لحاصل المعنى المراد منه، ثم صرّح بقوله يقال ألم إلخ إشارة إلى أنه فعيل من ألم الثلاثي كوجيع من وجع فإنه الفصيح المطرد، وفعيل بمعنى مفعل ليس بثبت عند الزمخشريّ والمصنف، وان خالفه فيه لا يمكنه أن ينكر قلته، وعدم إطراده كما ستسمعه مفصلَا عن قريب في تفسير قوله تعالى {بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} [البقرة: 17 ا] ولا حاجة إلى ارتكابه ليكون المعنى أبلغ لأنه إذا جعل الإسناد مجازياً رجع بالآخرة إلى
صرب وجيع) هو من قصيدة طويلة لعمرو بن
معد
يؤرقني وأصحابي هجوع
تحية بينهم ضرب وجيع
هنا الفرسان، كما في قوله عليه الصلاة والسلام: لمهملة واللام والفاء بمعنى دنوت وزحفت، والتحية سياتي والباء للتعدية، وبينهم مضاف إليه مجرور
د مبنيا لإضافته إلى المبني، والأوّل أصح وان قيل لمعنى على أن ضربهم الوجغ كتحية بينهم على تفسير قوله تعالى {فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} . قوله: لكشاف هنا على أنّ المراد أنه على طريقته في أنه سناد إلى مصدر المسند كما في ضرب وجيع بل هو ألم أليم ووجع وجيع، وسنكشف لك؟ أنّ الإسناد إلى مصدر ذلك الفعل أو زمانه أو مكانه أو سببه، والضرب أي المضروبية هو الوجع، ولا حاجة إليه قاله الفاضل المحقق. قوله:(قرأها عاصم إلخ) لمرينة المقابلة. وقوله: (بسبب كذبهم) إشارة إلى أنّ لى أنه يجوز أن تكون للبدلية كما في قوله:
شنوا الإغارة فرساناً وركبانا
ل! حو وما مصدرية مؤوّلة بمصدر كان إن قيل بوجود.، أبو البقاء: الموصولية هنا أظهر لأنّ الضمير المقدر
، وقيل المناسب هنا ذكر المقابلة بدل البدلية، فإن روال المبدل عته وقيام البدل مقامه بدليل قوله جزاء
عن عاصم بن عمر بن قتادة وعبد الله بن أبي بكر بن حزم
للعسكري من حديث أنس ولابن عائذ عن قتادة مرسلَا.
لهم، ثم إنّ الباء في قوله بسببه وببدله كالباء في قولهم معنى كتبت بالقلم باستعانته ومعنى دخلت علييما بثياب السفر بمصاحبة ثيابه إلى غير ذلك، فإنهم كثيراً ما يجعلون الباء بين الحرف وبين ما يدل عليه.
(قلت) البدلية والمقابلة متقاربان، والثانية تدخل على الأثمان وما في معناها وجعل كذبهم بمنزلة الثمن مبنيّ على التهكم ولا يخفى خفاؤه هنا، وأمّا دخول الباء بين الحرف ومدلوله فالظاهر أنه للملابسة بينهما، فلا يتوهم أنه معنى آخر حتى يقال لم يقل أحد أنّ من معاني الباء التفسير، ثم إنّ قوله بما كانوا يكذبون صفة لعذاب لا لأليم، كما قاله أبو البقاء رحمه الله، لأنّ الأصل في الصفة أن لا توصف.
وقال قدس سرّه: كلمة كان في النظم للدلالة على الاستمرار في الأزمنة، وقولهم آمنا إخبار بإحداثهم الإيمان فيما مض ولو جعل إنشاء للإيمان كان متضمناً للاخبار بصدوره عنهم. فقيلى: الدلالة على الاستمرار والانقطاع ليست بمعتبرة وضعاً في معنى كان بل هو مستفاد من القرينة، والمقصود دفع ما يتوهم من المنافاة بين لفظي كان، لكذبون لدلالة الأوّل على انتساب الكذب إليهم في الماضي والثاني على انتسابه في الحال والاستقبال، فالزمان فيهما مختلف فما وجه الجمع بينهما، فدفعت 4 ن كان دالة على الاستمرار في جميع الأزمنة ويكذبون دلّ على الاستمرار التجددي الداخل في جميع الأزمنة اهـ، وما ذكره من المنافاة توهم فاسد فإنه مستفيض في أخبار الأفعال الناقصة، كأصبح يقول كذا أو كادت تزيغ قلوب فريق منهم والاسنعمال مستمر عليه لأنّ معناه أنه في الماضي كان مستمرا متجدّداً بتعاقب الأمثال، وللمضي والاستقبال بالنسبة لزمان الحكم، وقد عذ العلماء الاستمرار من معاني كان، كما في التسهيل فتدبر. قوله:(وقرأ الباقون إلخ) أي قرأه باقي السبعة بالتشديد من كذبه المتعدي والتضعيف للتعدية ومفعوله مقدّر وهو الرسول صلى الله عليه وسلم، ولم يذكر إجلالا له عن أن يواجهه بالت!! يب، وقيل إنه
لرعاية الفاصلة، أو لقصد التعميم إذ كان التقدير يكذبون ما جاء به أي جميع ما جاء به مما يلزم تصديقه فيه أو للاختصار، أو لأنّ العناد وتكذيب الرسول كانا من شأن اليهود، ولما كانوا غير مجاهرين بالتكذيب والكفر وإلا لم يكونوا منافقين حمله على التكذيب بقلوبهم، أو بدون مواجهة المؤمنين بل مع شياطينهم وهو مجاز عن رؤسائهم وعقلائهم، وفي نسخة شطارهم جمع شاطر وهو من أعيا أهله خبثاً والمراد به ما ذكر مجازاً أيضاً أو كناية أي يكذبونه بقلوبهم دائماً وبألسنتهم {إِذَا خَلَوْاْ إِلَى شَيَاطِينِهِمْ} فقوله وإذا خلوا معطوف على قوله: بقلوبهم بتقدير وبألسنتهم إذا إلخ. قوله: (أو من كذب الذي هو للمبالنة إلخ) فهو لازم بلا تقدير والتفعيل حينئذ إمّا للمبالغة لقوة كذبهم وتصميمهم عليه كبين بمعنى
تبين الوارد في كلامهم بمعنى كمال ظهور الشيء واتضاحه، أو للتكثير دلالة على كثرة الفاعل كما في قولهم موتت البهائم جمع بهيمة وهي معروفة، وقيل إنهم ذهبوا إلى أنّ الكثرة في موتت لتعذر تكثر الفعل بالنسبة لكل واحد، وهنا ليس كذلك فيرح إلى الوجه الذي قبله من المبالغة إلا أن يقال المبالغة بالنسبة إلى ذات الكذب في نفسه، والكثرة بالشبة لتعدده، فحقيقة الأمرين راجعة إلى القوّة والكثرة، وتغايرهما ظاهر فسقط ما قيل من أنّ عطف التكثير على المبالغة بأو الفاصلة ليس كما ينبغي، وقد يكون التكثير في المفعول كقطعت الأثواب، وكذب الوحشي قيل إنه. على هذا مجاز مأخوذ من كذب المتعدي، كأنه يكذب رأيه وظنه، فيقف لينظر ما وراءه ولما كثر استعماله في هذا المعنى وكانت حالة المنافق شبيهة بهذا جاز أن يستعار منه لها، ولا يخفى ما فيه من التكلف، وأنّ كونه متعديا بحسب الأصل غير موافق لما نحن بصدده فتدبر. قوله:(الخبر عن الشيء على خلاف ما هو به) الخبر هنا بمعنى الاخبار، وهو أحد معنييه قال الراغب في كتاب الذريعة: ذهب كثير من المتكلمين إلى أنّ الصدق يحسن لعينه، والكذب يقبح لعينه.
وقال كثير من الحكماء والمتصوّفة أنّ الكذب يقبح لما يتعلق به من المضارّ الخالصة، والصدق يحسن لما يتعلق به من المنافع الخالصة لأنّ شيئاً من الأقول والأفعال لا يقبح ويحسن لذاته اهـ. وقوله:(على خلاف ما هو به) أي ما هو متليس به في نفسه وحد ذاته في الواقع ونفس الأمر، أو في اعتقاد المخاطب، وفي ذهنه فكلامه صادق على المذاهب ففيه إيجاز حسن. قوله:(وهو حرام كله إلخ) قيل عليه إنه تبع فيه الزمخشريّ، وهو مبنيّ على مذهب المعتزلة في التحسين والتقبيح المقتضي لأن يكون حراما لعينه كما مرّ، ولذا قال: وهو قبيح كله وعدل عنه المصنف والمصزح به في كتب الافعية المعتمدة أنّ من الكذب ما هو حرام وما هو مباح، وما هو مندوب وما هو واجب وقد ورد الحديث بجوازه في ثلاثة مواطن في الحرب، واصلاح ذات البين وكذب الرجل لامرأته ليرضيها (1 (وهو مرويّ في الصحيحين، والسنن كما فصله النووي في أذكاره، وفيه تفصيل قاله الغزاليّ وهو أن كل مقصود محمود يمكن التوصل إليه بالصدق والكذب جميعاً، فالكذب فيه حرام لعدم الحاجة إليه فإن لم يمكن إلا بالكذب، فالكذب فيه مباح إن كان تحصيل ذلك المقصود مبا-حا وواجب إن كان واجباً فلو اختفى مسلم من ظالم وسأل عنه وجب الكذب بإخفائه وكذا لو سأل عن ماله ليأخذه ولو
استحلفه لزمه أن يحلف، ويوري في يمينه، وكذا في كل مقصود، فلا يختص بالصور الثلاث الواردة في الحديث بل ينبغي أن يقابل بين مفسدة الكذب، والمفسدة المترتبة على الصدق، فإن كانت المفسدة في الصدق أشذ ضررا فله الكذب، وإن كان عكسه أو شك حرم عليه الكذب اهـ ونحوه في كتاب الذريعة للراغب، فما قيل في الجواب عنه بأنه مذهب الشافعية من قصور النظر، فإنه متفق عليه في جميع المذاهب كما صرحوا به، وقيل إنّ معنى الكلية في كلام المصنف أنّ الكذب حرام مز حيث ذاته مطلقاً وقد يكون مباحاً من حيث وصفه كما في الصور المذكورة، وهو وهم على وهم، فإنه مع مخالفته لمذهبه مبنيّ على الاعتزال. قوله:(لأنه علل به استحقاق العذاب إلخ) في الكشاف وفيه رمز إلى قبح الكذب وسماجته، وتخييل أنّ العذاب الأليم لاحق بهم من أجل كذبهم ونحوه قوله تعالى {مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا} [نوح: 25] والقوم كفرة وإنما خصت الخطيآت استعظاماً لها، وتنفيراً عن ارتكابها يعني أنّ فيه تعريضاً يتضمن تحريضاً للمؤمنين على ما هم
عليه من الصدق والتصديق، فإنّ المؤمن إذا سمع ترتب العذاب على الكذب دون النفاق الذي هو أخبث الكفر وصاحبه في الدرك الأسفل تخيل في نفسه تغليظ اسم الكذب، وتصوّر سماجته فانزجر أعظم انزجار فسقط ما قيل من أنّ قبحه لا سيما عندهم تحقيق لا تخييل، لما عرفته من معنى التخييل والزجر وهذا من قبيل ما في قوله تعالى {الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ} [غافر: 7] من ذكر الوصف سواء كان نعتاً أولا لمدح ذلك الوصف في نفسه، أو ذمه ترغيباً فيه أو تنفيراً، كما يكون الوصف لمدح الموصوف أو ذمه، وهذا كما صرّج به السكاكيّ والخطيب، ومن الناس من حسبه من البديع الغريب وسيأتي في كثير من النظم الكريم، والمراد بترتبه عليه أنه مسبب عنه، فهو مؤخر رتبة وما ذكره ظاهر على قراءة التخفيف وكذا في غيرها لأنّ نسبة الصادق إلى الكذب كذب، وكذا كثرته ونحوها فتدبر. قوله:(وما روي أن إبراهيم عليه الصلاة والسلام إلخ) إشارة إلى ما روي في الصحيحين وغيرهما في حديث الشفاعة فيقول إبراهيم عليه الصلاة والسلام إني كذبت ثلاث كذبات على روايات مختلفة في بعضها أنه عذها فذكر قوله في الكوكب {هَذَا رَبِّي} [الأنعام: 78] وقوله {بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا} [الأنبياء: 63] وقوله {إِنِّي سَقِيمٌ} (1 ( [الصافات: 89] وروى الترمذفي رحمه الله في حديث الشفاعة أنهم يأتون إبراهيم عليه الصلاة والسلام فيقولون له اشفع لنا فيقول: لست لها إني كذبت ثلاث كذبات، ثم قال صلى الله عليه وسلم: ما منها كذبة إلا ما حل بها وفي رواية جادل بها عن دين الله وفي رواية أحمد رحمه الله إنها قوله {إنّي سَقِيم} [سورة الصافات، الآية: 89] وقوله {بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا} [سورة الأنبياء، الآية: 63] وقوله للتيك في جواب سؤاله عن امرأته سارة هي أختي حين أراد الملك غصبها وكان من طريق السياسة التعرّض لذوات الأزواج دون غيرهن بدون رضاهن، وقيل: هي قوله ثلاث مرات هذا ربي والحديث بطوله مشهور في كتب الحديث، وكذبات قال القاضي عياض في مشارق اللغة: هو بفتح الكاف والذال جمع كذبة بفتح الكاف الواحدة من الكذب اهـ. فليس جمع كذبة بكسر الكاف، وسكون الذال المعجمة بمعنى الكذب لمخالفته للرواية فيه. قوله: (فا المراد التعريض إلخ) قد عرفت أنّ الحديث صحيح وما في بعض الحواشي نقلاً عن الرازي من أنه يجب القطع بكذب رواته، وان يكذب الرواة حتى يصدق إبراهيم أولى لا أصله له عنه، فإن صح فهو خطأ، ونحن ننظر لما قيل لا لمن قال، وسيأتي ما الحامل له على مثله من الشبهة ودفعه، والمراد بالتعريض هنا معناه اللغوي وهو ما يقابل التصريح والتصريح أن يكون اللفظ نصاً في معناه لا يحتمل! معنى آخر احتمالاً معتدا به والتعريض خلافه، وهو أن يكون اللفظ محتملا لمعنيين سواء كانا حقيقيين كما في إني سقيم أولاً وسواء كان أحدهما أظهر من الآخر كما في الإبهام البديعي أولاً كما في التوجيه، فهو أعمّ من التعريض الاصطلاحي لاختصاصه بالمجاز والكناية كما ذكره السكاكيّ في آخر البيان، وكذا من الكناية والتورية والابهام والتوجيه في الاصطلاح، ويسمى في اللغة أيضا كناية وتورية وليست هذه الكناية بيانية وليست التورية بديعية، والتعريض تفعيل من عرض كذا إذا اعترض وطرأ، والكناية من كنى إذا ستر والتورية إمّا من الوراء على ما اختاره ابن الأثير كأنه ألقى البيان وراء ظهره أو من أورى القابس إذا أظهر نوراً وفي النهاية الأثيرية في الحديث المرفوع عن عمران بن حصين " إنّ في المعاريض لمندوحة عن الكذب " المعاريض جمع معراض من التعريض، وهو خلاف التصريح يقال عرفت ذلك في معراض
كلامه ومعرض كلامه بحذف الألف، وفي حديث عمر رضي الله عنه " أما في المعاريض ما يغني المسلم عن الكذب " وتسمية المعاريض كذبا من حيث مظنة السامع وهي صدق من حيث يقوله القائل وهي التورية والكناية اهـ ومن الناس من ظن أنّ التعريض هنا بمعناه المصطلح، فخبط خبط عشواء وأطال من غير طائل، وفي كلام الشريف ما يوهمه ولله در المحقق حيث فسره بأن يشار بالكلام إلى جانب ويعرض منه جانب آخر ومن لم يتفطن له قال ذكر المحقق الشريف أنّ الكلام لا يكون مستعملَا في المعنى التعريضي أصلا بل في غيره مع إشارة إليه بقرينة السوق، وعليه ظاهر تفسير قوله تعالى {فِيمَا عَرَّضْتُم بِهِ} [البقرة: 235] الآية فإذا أريد بقوله {إِنِّي سَقِيمٌ} [الصافات: 89] ساسقم لا يتحقق التعريض، فإنه لا يمكن أرادة ذلك إلا بطريق الاستعمال، نإنه لا دلالة لسياق الكلام
وسباقه عليه كما في صورة التعريض، وكذا الحال فيما إذا حمل قوله هذه أختي عنى الأخوة في الدين لا في النسب، اللهم إلا أن لا يراد بالتعريض هنا ما هو المصطلح المشهور بين الجمهور بل ما فيه خفاء في أداء المراد من الكلام على ما في الأذكار من أنّ التورية، والتعريض معناهما أن تطلق لفظاً ظاهرا في معنى، وتريد معنى آخر يتناوله ذلك اللفظ، ولكنه خلاف ظاهره اهـ. قوله:(لما شابه الكذب في صورته سمي به) ، فإطلاق الكذب بطريق الاستعارة لمشابهتها الكذب من حيث كونها في الظاهر إخبارا غير مطابقة للواقع لا، كما تسمى صورة الإنسان المنقوشة إنسانا لكنها في التحقيق تعريضات، والغرض من قوله {إِنِّي سَقِيمٌ} أنه سيسقم لما علم من ذلك بأمارة النجوم، أو أنه سقيم أي متألم بما يجد من الغيظ، والحنق باتخاذهم النجوم آلهة، ومن قوله {بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ} التنبيه على أنّ من لم يقدر على دفع المضرّة عن نفسه كيف يدفعها عن غيره فكيف يصلح إلها، ومن هذه أختي إخوة الدين تخلصاً من الظالم، ومن {هَذَا رَبِّي} الفرض، أو الحكاية تنبيهاً على خطيئتهم في ادعاء ألوهيتها مع قيام دليل الحدوث، وسيأتي تحقيقه في محله.
(فإن قلت) كيف يقول الخليل عليه الصلاة والسلام يوم القيامة إني كذبت وأنا لما صدر
مني الذنب أستحيي من أن أقوم شافعاً بين يدي الله، فإنّ ما في الدنيا إن كان من المعاريض فليس بكذب، ويكون قوله ثلاث كذبات مخالفا للواقع، ومثله لا يستحيا مته، فيقعوا فيما فرّوا منه وإن لم يكن كذلك يكن وقع منه الكذب في الدنيا، وهو مناف لعصمته صلى الله عليه وسلم، ولا بد من أحد هذين الأمرين، وهذا هو الذي جسر الإمام على الطعن في الحديث وتكذيب راويه لتوهمه لأنه أ] ف من نسبة الكذب إلى الخليل عليه الصلاة والسلام.
(قلت) هذه شبهة قوية ويؤيدها أنّ مثل هذه المعاريض صدرت منه عليه الصلاة والسلام
في مواضع كقوله " من ماء " ولم يقل أحد إنه مشكل محتاح للتأويل ويمكن دفعها بأن يقال هي من المعاريض الصادقة ولكنها لما كانت مبنية على لين العريكة مع الأعداء دفعاً لضررهم، ومثله ممن تكفل الله بعصمتة وحمايته يناسبه مبارزة أعدائه بالمكروه بذلا لنفسه في سبيل الله أو دخولا في حفظ حصن الله، فلعدوله عما يليق بمقامه ثمة عذ ذلك لشدة خوفه، أو تواضعه ذنبا وسما. كذباً لأنه على صورة الكذب خوفا من وخامة مداراة أعدائه، وما وقع من النبيّ عليه الصلاة والسلام لم يقع في مثل هذا المقام حتى يستحيى منه، فإنّ لكل مقام مقالا وقد حام حول الحمى من قال: إنّ النبيّ عليه الصلاة والسلام قصد براةء ساحة الخليل صلى الله عليه وسلم، فجعلها معاريض جادل بها عن الدين والخليل لمح برتبة الشفاعة وأنها مختصة بالحبيب صنى الله عليه وسلّم، فتجوز في الكذبات، أو هو من هول ذلك اليوم واهتمامهم بشأن أنفسهم دفعهم بدّلك، فتامله.
(فإن قلت) إذا كان للفظ معنيان سواء كانا حقيقيين، أو لا وهو باعتبار أحدهما مطابق مطابقة تصيره صادقا على أيّ الأقوإل اعتبرته فيه، وباعتبار الآخر غير مطابق، فهل المعتبر من ذلك ما قصده المتكلم أو ما ظهر منه أو أيهما كان، أو هو يوصف بالصدق والكذب باعتبارين، أو لا يوصف فتثبت الواسطة.
(قلت) الظاهر أنّ المعتبر ما قصده المتكلم قصدا جاريا على قانون التكلم، ولذا قال السكافي مرجع الخبرية واحتمال الصدق والكذب إلى حكم المخبر الذي يحكمه في خبره، سواء كان فائدة الخبر أو لازمها، فإذا طابق حكمه الواقع كان صدقا على الأصح لا على مذهب النظام كما يسبق إلى بعض الأوهام.
واعلم أنّ ظاهر كلام المصنف، وغيره هنا أنّ المعاريض لا تعد كذباً، وهو الموافق لما
مز في الحديث من أنّ فيها مندوحة عن الكذب، وحينئذ فلا بد فيها من قرينة على المراد وإن كانت خفية لأنها الفارقة بين الكذب وغيره، كما صرّح به السكاقي، إلا أنّ قول الزمخشريّ في سورة الصافات الصحيح أنّ الكذب حرام إلا إذا عرّض ظاهر في أنه من الكذب المستثنى إلا أن يجعل منقطعا، وما في شرح الآثار للطحاوي أنّ ما روي في الحديث " لا يصلح الكذب إلا في ثلاث: إصلاح يين الناس، وكذب الرجل لامرأته ليرضيها، وكذب في الحرب " (1) في
روايته ض عف وان صح كان المراد به المعاريض أيضا لأنها في صورة الكذب، ويؤيده حديث أم كلثوم من أنه عليه الصلاة والسلام " لم يرخص في شيء من الكذب مما يقوله الناس إنما يصلح في ثلاث "(1) إلخ
فصرّح بنقي الكذب في هذه الثلاثة، وهو حديث صحيح لا علة فيه والترخيص في الثلاث لم يصح، فإن ثبت فهو من قول الراوي، وقد قال تعالى {وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ} [التوبة: 119] وقال: {اجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ} [الحج: 35] على العموم اهـ وهذا مخالف لما مرّ عن الفقهاء فتدبر. قوله: (عطف على يكذبون) فهو جملة في محل نصب لعطفها على خبر كان وجملة كان صلة ما، وقد تقدّم أنها يجوز أن تكون موصولة، ومصدرية على الخلاف في الترجيح، وقد قالوا بجواز الوجهين على الاحتمالين، كما صرّح به أبو البقاء رحمه الله واعترض عليه أبو حيان بأت على الموصولية خطا! لعدم العائد على ما من تلك الجملة، فيصير التقدير، ولهم عذاب أليم بالذي كانوا إذا قيل لهم {لَا تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ قَالُواْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ} و. هو كلام غير منتظم وكذا على المصدرية على القول باسميتها، وأمّا على مذهب الجمهور، فهو سائغ وقيل عليه إنّ لزوم الضمير هنا غير مسفم، وأنّ النحاة لم يذكروا وصمل ما! المصدرية بالجملة الشرطتة فتأمل. قوله:(أو يقول) واذا خلصت الماضي للاستقبال، فلذا حسن عطف الماضي على المضارع في الوجهين إلا أنه على هذا لا محل لهذه الجلة لعطفها على الصلة، وفي الكشاف الوجه الأوّل أوجه وتقديم المصنف له يشعر بموافقته، وإن احتمل عدم التصريح لأنه ذهب إلى التساوي بينهما لما سيأتي، وقال قدّس سرّه: تبعا لمن قبله من الشراح وجه الأوجهية قربه في إفادته تسبب الفساد للعذاب، فيدل على صحته ووجوب الاحتراز عنه كالكذب، ولخلوّه عن تخلل ابي ن أو الاستئناف، وما يتعلق به بين أجزاء الصلة أو الصفة، وقد يرجح الثاني بكون الآيات حينئذ على نمط تعديد قبائحهم وافادتها اتصافهم بكل من تلك الأوصاف استقلالا وقصدا، ودلالتها على لحوق العذاب الأليم بسبب كذبهم الذي هو أدنى أحوالهم في كفرهم ونفاقهم، فما ظنك بسائرها.
(أقول) هذا مناف لما قدّمه قبله من قوله: إنه جعل عذابهم مسبباً لكذبهم رمزاً إلى قبح الكذب حيث خص بالذكر من بين جهات استحقاقهم إياه مع كثرتها، وفيه تخييل أنّ لحوق العذاب بهم، إنما كان لأجل كذبهم نظرا إلى ظاهر العبارة المقتصرة على ذكره واختار لفظ التخييل بناء على أنّ السامع يعلم أنّ ذلك اللحوق لجهات كثيرة، وأنّ الاقتصار على ذكره رمز إلى سماجته وتنفير عن ارتكابه كما سيأتي، ووجه إفادته لتسبب الفساد للعذاب أنه داخل في
حيز صلة الموعول الواقع سبباً إذ المعنى في قولهم {إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ} إنكار اذعائهم أنّ ما نسب لهم منه صلاح، وهو عناد واصرار على الفساد، والإصرار على ذلك فساد واثم، فلا وجه لما قيل عليه من أنّ العطف على يكذبون يقتضي أن يكون المعنى، ولهم عذاب أليم بقولهم {إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ} إذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض فيفيد تسبب هذا القول للعذاب لا تسبب الفساد له، وكذا ما قيل من أنه لا دلالة له على تسبب الفساد بل على تسبب الكذب، وهو قوله إنما نحن مصلحون، وأمّ تخلل ألا انهم هم المفسدون بين إذا قيل وإذا قيل وهما من أجزاء الصلة، فيرد على هذا ما ورد أوّلاً، فليس بشيء لمن له نظر سديد، وسيأتي تتمته نعم قوله {إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ} كذب فيؤل المعنى إلى استحقاق العذاب بالكذب لا غير، وهذا مما يأبى الأوجهية لأنه تأكيد لا يليق عطفه، وعطف التفسير بالواو في الجمل خلاف الظاهر، وأمّا ما ذكر من ترجيح الثاني فيرد عليه أنه في المآل كذب كما أشرنا إليه، ولو سلم تغايرهما بالاعتبار وضم القيود، فهو جزء من الصلة أو الصفة وكلاهما يقتضي عدم الاستقلال، وإنما يكون مستقلا على ما اختاره المدقق في الكشف حيث قال لو قيل إنه معطوف على. قوله:{وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ} لبيان حالهم في ادعاء الإيمان، وكذبهم فيه أوّلا ثم لبيان حالهم في انهماكهم في باطلهم ورؤية القبيح حسنا والفساد صلاحا ثانيا ويجعل المعتمد بالعطف مجموع الأحوال، وان لزم فيه عطف الفعلية على الاسمية كان أرجح بحسب السياق، ونمط تعديد القبائح وهذا قريب مما اختاره صاحب البحر، وقال الذي نختاره أنه من عطف الجمل وأنّ هذه الجملة مستأنفة لا محل لها من الإعراب لأنها وما بعدها من تفاصيل الكذب، ونتائج التكذيب ألا ترى أنّ قولهم {إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ} وأنؤمن إلخ وقولهم آمنا كذب محض، فناسب جعلها جملا مستقلة لإظهار كذبهم ونفاقهم وتكثير ذمهم والردّ عليهم، وهذا أولى من جعلها صلة وجزءا من الكلام، لأنها لا تكون مقصودة لذاتها
والمراد باستئنافها عطفها على الجملة المستأنفة، وقول الشارحين الفاضلين في ردّه إنه ليس مما يعتد به وان توهم كونه أوفى بتأدية هذه المعاني، وذلك لعدم دلالته على اندراج هذه الصفة، وما بعدها في قصة المنافقين وبيان أحوالهم إذ لا يحسن عود الضمائر التي فيها إليهم كما يشهد به سلامة الفطرة لمن له أدنى درية باساليب الكلام لا يظهر له وجه عندي، فإنّ عود الضمائر رابط للصفات بهم، وسوق الكلام مناد عليه، وقد يأتي في الصفة الواحدة جمل مستأنفة بغير عطف كما مرّ فإذا لم ينافه الاستئناف رأسا كيف ينافيه العطف على أوّله المستأنف، والعطف إنما يقتضي مغايرة الأحوال لا مغايرة القصص، وأصحابها ألا ترى أنه لو قال قائل لولا الحمقى لخربت البلدان، ولولاهم لم يحتج لحاكم ولا سلطان، فالجملة الثانية معطوفة على أوّل الكلام وهما صفة لشيء واحد بغير مرية، ومن الناس من سرد الوجوه هنا من غير تفطن لما بينهما من المنافاة، وفي شرح الكشاف للرازي الثاني أوجه، لأنّ قوله {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُواْ} [البقرة،
الآية: 91] وقوله {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُواْ} [البقرة: 76] معطوفان على قوله {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُواْ} فلو عطف على يكذبون كانا أيضاً معطوفين عليه فيدخلان في سبب العذاب، فتنتفي فائدة اختصاص الكذب بالذكر المبنيّ عليه ما مرّ، وقيل عليه إنّ الثلاثة حينئذ معطوفة على يكذبون عطفاً تفسيرياً لكذبهم لأنّ قولهم {إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ} و {أَنُؤْمِنُ} إلخ وآمنا كذب فلا يقابل الكذب حتى يبطل الاختصاص وفائدته.
وأجيب عنه بأنّ جعل العطف تفسيريا يأباه تصريحه بأنّ المراد بكذبهم قولهم ولمنا بالثه واليوم الآخر} وقوله {أَنُؤْمِنُ} إنشاء لا يلحقه الكذب وفائدة الاختصاص تفهم من تقديمه، والتصريح بكونه سبباً أوّل وهلة، ثم إنه اختار مسلكا آخر، وهو أنّ الأوّل أوجه على قراءة يكذبون بالتشديد والثاني أنسب بالتخفيف لأنه يكون سبباً للجمع بين ذمهم بالكذب والتكذيب، وعلى الثاني يكون تأكيدا والتأسيس أولى، وفيه نظر فتدبر. قوله:(وما روي عن سلمان الخ) هذا أثر روي عن سلمان الفارسيّ الصحابي المشهور رضي الله عنه كما أخرجه ابن جرير عنه وكذا تأويله الذي ذكره المصنف عنه، وعبارته كما نقله عنه خاتمة الحفاظ السيوطي لعله قال ذلك بعد فناء الناس الذين كانوا بهذه الصفة على عهده صلى الله عليه وسلم خبراً منه عمن هو جاء منهم بعدهم، وإن لم يجيء وقوله بعد مبنيّ على الضم، وهذا الاستعمال معروف يقال لم يكن كذا بعد أي إلى الآن لأنّ التقدير بعدما مضى من الزمان، وتفسيره بأنه بعد هؤلاء، أو بعد زمانه عليه الصلاة والسلام ليس بتام، والمراد بأهل الآية من ذكر فيها ووصف بها، فسموا أهلها توسعاً لظهور معناه. قوله:(فلعله أراد به إلخ) قد مرّ أنّ المصنف دأبه أن يعبر بلعل عما لم يجزم به لا لما هو من نتائج قريحته كما يريده غيره بهذه العبارة، وما ذكره من الأثر وتوجيهه حاصله أنّ الآية في المنافقين مطلقاً لا تختص بمنافقي عصره أو منافقي المدينة، وان نزلت فيهم لأنّ خصوص السبب لا ينافي عموم النظم كما هو مشهور، فالآية عامة تشملهم، وتشمل من ياني بعدهم عن جنسهم ولا يريد أنها مخصوصة بقوم آخرين مباينين لهؤلاء بالكلية حتى يقال إنه مناف لظاهر النظم وعود الضمير على ما بعد، ولذا قيل إنّ المرويّ يدل بظاهره على أنّ المراد بهذه الآية غير المراد بما قبلها فلا يكون عطفا على يقول أو يكذبون، ولا يمكن أن يراد به ظاهره، فلعله أراد به أنّ أهل هذه الآية ليسوا الذين كانوا موجودين عند نزولها فقط بل وسيكون من بعد من حاله حالهم، وإنما له يمكن إرادة ظاهره لأنّ الآية متصلة بما قبلها بالضمير الذي هو في لهم، وقالوا فيقتضي أن يراد بهذه الآية الناس المذكورون في الآية المتقدّمة، وإلا لم يحسن محود الضمير على من قبل كما يشهد به سلامة الفطرة، وأمّا ما قيل من أنّ توجيه المصنف رحمه الله لا يخفى بعده، والأوجه أنّ المراد أهل الاتعاظ بهذه الآية من مفسدي الأرض من المسلمين لأنه لم يكن في زمنه عليه الصلاة والسلام من المؤمنين
مفسدون، فغفلة عما أراده، وعدول إلى ما هو أبعد منه. قوله:(والفساد خروج الشيء عن الاعثدال إلخ) هذا معناه اللغوي المضاد للصلاح ويقرب منه البطلان، ولذا فسر به والط كان للفقهاء فرق بين الفاسد، والباطل على ما فصلوه يقال فسد فسادا وفسوداً، وأفسده غيره، وقوله في الأرض قيل: إنّ ذكره للدلالة على الاستغراق، وفيه إيماء إلى
تعظيم الشريعة، والرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنين بأنهم صلاج الدنيا كلها والإفساد الضارّ بهم ضمار بالدنيا كلها، فما الناس والدنيا سواهم، أو جعلى ما عدا أرض المدينة لتمحض الكفر فيها إذ ذاك ملحقاً بالعدم، وأرضها كأنها الدنيا. قوله:(وكلاهما يعمان كل ضار ونافع وكان من فسادهم إلخ) أي الفساد والصلاج يشمل كل منهما ما يضرّ وما ينفع، هذا بحسب الظاهر مخالف لما في الكشاف وفي العدول عنه إشارة إلى عدم ارتضائه له وعبارته هكذا، والفساد خروج الشيء عن حال استقامته، وكونه منتفعا به ونقيضه الصلاج، وهو الحصول على الحالة المستقيمة النافعة اهـ. وهكذا هو في التفسير الكبير، وقد يقال إنه لا منافاة بينهما لأنّ ما ذكره المصنف رحمه الله باعتبار الحقيقة، والمآل وهو الذي ارتضاه الراغب، وما ذكره الزمخشريّ باعتباره في أصله وما هو من شأنه، وما قيل: من أنّ الضارّ منتفع به لمن يقصد الإضرار تكلف لا حاجة إليه، ومقابلة الفساد بالصلاح هو المشهور كما قال تعالى {وَلَا تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا} أسورة الأعرأف: 56] وقد يقال: في مقابلة السيء كما قال تعالى {خَلَطُواْ عَمَلاً صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا} [التوبة: 02 ا] وقد يجعل مقابل الصحة وهو مختص في الأكثر بالأفعال وقوله وكان من فسادهم إلخ من إمّا ابتدائية أي وكان ينشأ من فسادهم ما ذكر فهو توطئة لما بعده، وتحتمل التبعيضية، ولذا قيل إنه أشار بادراجها إلى أنّ الفساد لا ينحصر في هذه الأمور التي في الكش! اف بل منه ما ذكره غير. من تغيير الملة، وتحريف الكتاب، ودعوة الكفار في السرّ إلى تكذيب ال! صلمين، ومنه إظهار المعاصي والإهانة بالدين، فيكون كلام المصنف رحمه الله مخالفا لما في الكشاف، والذي في حواشي غيره أنهما متحدان، وفي الحواشي الشريفية تفسير فساد المنافقين بالفساد الناشىء من جهلهم لإفسادهم في أنفسهم، والأولى أن يقال إفسادهم لأنّ ممالأتهم لإفشاء الأسرار إفساد، ولما كان حقيقة الإفساد جعل الشيء فاسداً، ولم يكن صنيعهم كذلك جعلوه من قبيل مجاز الأوّل أي لا تفعلوا ما يؤذي إلى الفساد، وقد يقال: ما كانوا فيه عين الفساد في أنفسهم ومعنى {لَا تُفْسِدُواْ} لا تأتوا بالفساد، ولا تفعلوه، فلا حاجة إلى المجاز، وليس بشيء إذ ليس إتيان الشيء بفساد نفسه حقيقة الإفساد، وفائدة في الأرض التنبيه على أنّ فسادهم يؤدّي إلى فساد عامّ من الحروب والفتن واختلال الدين والدنيا كما مرّ، ولم يحمل إفسادهم على تحريف الكتاب والأحكام، ودعوة الكفار سر التكذيب المؤمنين، كما حمله عليه غيره، لأنه لا ظهور حي! عذ لتلك الفائدة.
(أقول) تبع في هذا من قبله من الشراح، وفي بعض الشروح أنه وهم، لأنّ ممايلتهم وممالأتهم لما كانا مفضيين إلى هيج الحروب والفتن فساد بالتفسير المذكور باعتبار ما يترتب عليهما، وكونه إفسادا للأمور والمصالح لا ينافي كونه فسادا بالتفسير المذكور، ولا وجه له إلا أنّ ما ذكروه غير متجه لأمور فيه أكسبته خللا منها أنّ قولهم إنّ الأولى أن يقال إفسادهم بدل فسادهم فيه فساد، لأنّ الفساد ورد بمعنى الإفساد فالأولى تفسيره به ألا ترى قوله تعالى في سورة المائدة {وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا} [المائدة: 64] فإنه بمعنى الإفساد وبه فسر كما في أنبتكم من الأر ضنباتاً والذي دعاهم، لما ذكر ظنهم أنه مصدر فسد اللازم وليس بلازم، ومنها أنهم زيفوا ما في الكشف وتلقاه من بعدهم بالقبول، وليس بوارد أيضا لأنه يريد أنّ الداعي لتأويله، وجعله مجازا أنه لم يقع منهم الإفساد، وإنما صدر منهم الفساد، فلو نزل منزلة اللازم وأريد منه أنه يفعل الفساد ويتصف به بقطع النظر عن تعدي إفساده لغيره، كما في يعطي ويمنع تم المراد، ولم يقل إنّ فساد نفسه حقيقة الإفساد ولم ينظر لحقيقة ولا مجاز فيه، ومنها أنّ قولهم لا ظهور لتلك الفائدة غير مسفم أيضاً لأنّ التحريف المذكور، والدعوة للتكذيب يؤدّي إلى الفتن، والاختلال في الدين والدنيا بغير مرية فتدبر. قوله:(هيج الحروب والفتن) يقال: هاجت الحرب هيجا وهياجا وهيجاناً إذا ثارت، ووقع القتال وغيره مما يفعل بالعدوّ، ويقال هاجها أيضاً، فهو متعد ولازم كما ذكره اللغويون من غير تفرقة بينهما غير أنّ اللازم كثر استعمالاً، وفي حواشي الكشاف لابن الصائغ نقلا عن أفعال ابن طريف أنّ مصدر اللازم الهياج ومصدو المتعدي الهيج قال: فهيج الحروب مصدر مضاف للمفعول، ولو قال هياج كان مضافا للفاعل
اهـ والممالأه بميمين ولام ثم همزة كالمعاونة لفظاً ومعنى.
، ومنه قول عليّ رضي الله عنه ما مالأت على قتل عثمان أي ما ساعدتهم، ولا وافقتهم
كما زعمه بعضهم، وأصل معناه ما كنت من الملأ الذين فعلوا ذلك، ثم تجوّز به عما ذكر، وفي الأساس مالأه عاونه، وأصله المعاونة في الملء، ثم عمّ كالاجلاب.
وقال قدّس سرّه تبعاً لغيره: المراد بقوله هيج الحروب هو اللازم، لأنّ المتعدي إفساد لا فساد، وقد عرفت ما فيه وأنه يجوز فيه التعدي بالنظر إلى الماس كما يجوز اللزوم نظرا لأصله، والعجب ممن ارتضى تبعاً له لزوم اللزوم، ثم قال والقول بأنّ الأنسب من إفسادهم لأنّ الهيج ههنا متعد بقرينة قوله بمخادعة المسلمين، وممالأة الكفار أي معاونتهم على المسلمين إفساد وفساد كما لا يخفى على أهل السداد، وغفلة عن قوله: فإنّ ذلك إلخ. ولا يخفى ما فيه من الخللى الغني عن البيان. قوله: (فإن ذلك يؤدّي إلى فساد ما في الأرض إلخ) في قوله يؤدّي إشارة إلى ما فيه من مجاز الأوّل كما مز تقريره، وقيل المراد من الفساد في الأرض هيج
الحروب، والفتن بطريق الكناية الرمزية، لأنّ هيجها يستلزم خروج الأرض عن اعتدالها واستقامتها، فذكر اللازم وهو الخروح عن ذلك وأريد الملزوم وهو الهيج، ثم أنهم ما كانوا يهيجونها بل يفعلون ما يؤدّي إلى ذلك، فهو مجاز مرتب على الكناية وقيل إنه مجاز عما يلزمه من ذلك وهو غير بعيد. وقوله:(من الناس والدواب والحرث) إشارة إلى قوله تعالى {سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيِهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ} [البقرة: 205] والحرث إلقاء البذر في الأرض وتهيئتها للزرع ويسمى المحروث حرثاً أيضاً تصورّ منه العمارة التي تحمل عنه في كون الدنيا محرثا ونحوه، وقيل: إطلاق اسم الفساد على هيجان الحروب من إطلاق اسم المسبب على السبب مجازاً، ومعنى لا تفسدوا لا تهيجوا الفتن المؤدّية إلى فساد ما في الأرض، ولا يخفى ما فيه من التخليط والتخبيط. قوله:(ومنه إظهار المعاصي إلخ) أي من الفساد في الأرض ما ذكر، وهذه معطوفة على ما قبلها، أو على قوله من فسادهم في الأرض، وضمن الإهانة معنى الاستخفاف أو حملها عليه، فلذا عداه بالباء، وهو متعد بنفسه وبينه بقوله فإنّ إلخ. وقيل: إنه ردّ لما يقال من أنّ الزمخشريّ خص هذا الفساد لأنّ فيه زيادة بيان لفائدة قوله في الأرض لأنّ غير ما ذكره أيضاً يعود إلى فساد الأرض، والهرج والمرج بمعنى القلق والاضطراب قيل: وإنما يسكن المرج مع الهرج للإزدواح، فإذا لم يقارنه فتحت راؤه وفي بعض كتب اللغة ما يخالفه فالهرج بالسكون وقوع الناس في فتنة واختلاط والمرح قريب منه ويكون موضح الخضرة، ولذا تظرّف بعض المحدثين فقال:
حمى مرج العذاربمقلتيه فبات الناس في هرج ومرج
وإنما قال: ومنه إلخ لأنه نقل عن ابن عباس رضي الله ش! ما تفسيره به أشار إلى أنه لم يقصد به الحصر ونظام العالم ما ينتظم ويتمّ به، وهو بالشرائع فلو عطلت والعياذ بالله كان تعطيلها يجرّيء الناس على ما يفني الحرث والنسل، ويخرب العالم. قوله:(والقائل هو الله إلخ) هذا من كلام الإمام في التفسير الكبير قال: وكل ذلك محتمل، ولا يجوز أن يكون القائل لذلك من لا يختمى بالدين والنصيحة، وان كان الأقرب هو أنّ القائل من يشافههم بذلك، فإمّا أن يكون الرسول صلى الله عليه وسلم بلغه عنهم النفاق ولم يقطع بذلك فنصحهم، فأجابوه بما يحقق إيمانهم في الصلاح بمنزلة سائر المؤمنين، وامّا أن يقال إنّ بعض من كانوا يلقون إليه الفساد لا يقبله فهم فينقلب، واعظاً لهم قائلَا لا تفسدوا أو يخبرون الرسول صلى الله عليه وسلم بذلك فتدبر. قوله:(جواب لاذا إلخ) عبر بالناصح دون الناهي إشارة إلى أنّ هذا من القائل شفقة عليهم، ومعاملة بلطف من غير مبارزة وعنف منه، ووحه المبالغة ذكر الاسمية
المؤكدة المحصورة والتمحض الخلوص من قولهم لبن منحض أي لم يخالطه ماء، والشوائب جمع شائبة، وهو ما يخالط الشيء، فيمنعه من الخلوص والعرب تسمي العسل شوبا لأنه عندهم مزاج الأشربة، وفي المصباح وقولهم ليس فيه شائبة ملك يجوز أن يكون مأخوذاً من هذا ومعناه ليس فيه شيء مختلط به، وان قل كما قيل: ليس فيه علقة ولا شبهة وأن تكون فاعلة بمعنى مفعولة مثل عيشة راضية هكذا استعمله الفقهاء ولم أجد فيه نصا.
نعم قال الجوهريّ
الشائبة واحدة الشوائب وهي الأدناس والأقذار، وفيه إشارة إلى أنّ القصر فيه إفراديّ، فإنهم لما نهوا عن الفساد، والإفساد توهموا بأنهم حكموا عليهم بأنهم خلطوا عملا صالحاً وآخر سيثا، فاجابوهم بأنهم مقصورون على محض الإصلاح الذي لم يشبه شيء من وجوه الفساد، واختاروا إنما إيماء إلى أنّ ذلك مكشوف لا سترة عليه، ولا ينبغي أن يشك فيه، واحتمال القلب الذي ذهب إليه بعض شراح الكشاف لأن المسلمين لما وصفوهم بالإفساد فقط دون الإصلاح خصوا أنفسهم بعكسه، وان صح خلاف الظاهر من كلام الشيخين.
وفي قوله ما دخله أي دخل عليه حذف، وايصال والمراد بما بعده الجزء الأخير، ولم يصرّح به استغناء بشهرته عن ذكره. قوله:(وإنما قالوا ذلك إلخ) قصر قولهم على ما ذكر ولم ينظر إلى غيره من الاحتمالات ككوز " كذبا محضا من غير تأويل لخوفهم من المؤمنين، لأنّ العاقل " إذا كان له مخلص من الكذب بزعمه يقصده لدفع ضرر الخصم، بما يفيده ظاهر الكلام إذ الكذب يقبح عند المؤمن والكافر فلا يرتكب بغير ضرورة ولا يرتضي تعمده بغير تأويل خصوصاً إذا كان بحيث يسبق إليه بغير تصنع وذلك لما أفاده بقوله لما في قلوبهم إلخ أو كونه مخادعة، كما قيل لأنه لا يناسب قوله {وَلَكِن لَاّ يَشْعُرُونَ} وهذا اً حد احتمالات ذكرها الإمام، واختار. المصنف رحمه الله لأنه أظهرها وأتمها، وزاد الإمام أنه إن فسر لا تفسدوا بمداراة الكفار كان معنى قوله مصلحون إنّ هذه المداراة سعي في الإصلاح بين المسلمين والكفار كقوله {إِنْ أَرَدْنَا إِلَاّ إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا} [النساء: 62] وأيده بعضهم بأنه الوارد عن ابن عباس رضي الله عنهما فقد أخرج عنه ابن جرير أنه قال في تفسيره إنما يريد الإصلاج بين الفريقين من المؤمنين وأهل الكتاب والمصنف رحمه الله لم يلتفت إليه مع اعتنائه باً لتفسير المأثور لأنه غير مناسب للواقع، والسياق والسباق مع إرجاعه إلى صورة الصلاح التي ذكرها. قوله: (رذ لما اذعوه أبلغ رذ إلخ الما بولغ في كونهم مصلحين بولغ في رذه، وتقرير ضدّه من
جهات، كالاستئناف البياني، فإنه يقصد به زيادة تمكن الحكم في ذهن السامع لوروده عليه بعد السؤال والطلب، وما فيه من كلمتي ألا وأنّ من تأكيد الحكم وتحقيفه، وفي قوله {لَا يَشْعُرُونَ} من الدلالة على أنّ كونهم مفسدين قد ظهر ظهور المحسوس بالمشاعر، وان لم يدركوه ووجه إفادة ألا وأما أختها ذلك بناء على تركبها من همزة الإستفهام الإنكاري الذي هو نفي معنى، ولا النافية فهي نفي نفي يفيد الإثبات بطريق برهاني أبلغ من غيره، وارتضى كثير من النحاة أنها بسيطة غير مركبة، وارتضاه أبو حيان رحمه الله وأبطل مقابله بدخولها على أنّ المشددة، ولا النافية لا تدخل عليها، فبين تركبها وتلقيها بما يتلقى به القسم منافاة ظاهرة، وردّ بأنها بعد التركيب انتسخ حكمها الأصلي، واستدلوا على إفادتها التحقيق بتلقيها بما يتلقى به القسم أي وقوع فا! يضدر به جواب القسم بعدما- كأنّ واللام وحرفي النفي، وردّه أبو حيان رحمه الله بأنها قد دخلت على رب وحبذا ويا الندائية كقوله:
ألا رب يوم صالح لك منهما
وقوله:
ألا حبذا هند وأرض بها هند
وقوله:
ألا يا قيس والضحاك سيرا
فقوله لا تكاد إلخ غير صحيح وهو وارد عليه وعلى من تلقاه بالقبول، كصاحب المغني والمصنف وادّعاء العلة فيه لا يصلح بسلامة الأمير وقوله ألا المنبهة بدل من حرفي التأكيد، أو بتقديرهما أو أعني. وقوله:(وإن إلخ) عطف عليه، وتعريف الخبر عطف على قوله للإستئناف. قوله:(وأختها أما إلخ) أي أما المفتوحة الهمزة المخففة الميم حرف استفتاح مثلها في إفادة التحقيق لا في جمبع ما ذكره، كما أشار إليه بقوله التي هي من طلائع القسم، لأنّ معناه تدخل على القسم كثيراً، وهذا مما فارقت به ألا أما قال في التسهيل وشرحه كثر ألا قبل النداء كقوله ألا يا اسجدوا، وأما قبل القسم، كقول إبن صخر الهذلي:
أما والذي أبكى وأضحك والذي أمات وأحيا والذي أمره الأمر
قال العلامة التفتازانيّ جوابه:
لقد تركتني أحسد الوحش إن أرى أليفين منها لا يروعهما الذعر
وفي بعض تصانيف ابن هشام ما يخالفه، فإنه أنشد الشعر هكذا:
أما والذي أبكى وأضحك والذي أمات وأحيا والذي أمره الأمر
لقد كنت آتيها وفي النفس هجرها بتاتا لأخرى الدهر ما طلع الفجر
515
وما هو إلا أن أراها فجاءة فأبهت لا عرف لديّ ولا نكر
والدّي ذكره السعد هو المرويّ في الفضليات وشعر هذيل، ولولا خوف الإطالة أوردت القصيدة بتمامها والطلائع جمع طليعة، وأصلها مقدمة الجيش التي تطلع قبله، وهو استعارة أو مجاز مرسل لمطلق المقدم أريد به هنا أنها تقع قبل القسم، كما في البيت المذكور ونظائره. قوله:(وتعريف الخبر إلخ) هو وما عطف عليه مجرور لما مرّ.
ووجه المبالغة على ما قالوه إنّ الأوّل يفيد حصر المسند إليه في المسند، والثاني يفيد
تأكيد هذا الحصر، وهذا وإن كان مناسباً لردّ دعواهم الكاذبة، فإنهم لما قصروا أنفسهم على الإصلاح قصر إفراد ناسب في ردّهم أن يقصروا على الإفساد قصر قلب فهم مقصورون على الإفساد لا حظ لهم في الإصلاح، وأورد عليه أنّ تعريف الخبر بلام الجنس يفيد حصر المسند إليه في المسند، كما في المفتاح والمشهور أنّ ضمير الفصل يفيده أيضا أو يؤكده.
وأجيب بأنّ تعريف المسند يفيد حصر المسند إليه فيه كما ذكره الزمخشرفي في الفائق في
قوله " إنّ الله هو الدهر " وان ردّ بأنه إنما ورد للنهي عن سبّ الدهر (1) وهو يقتضي أن يقال إن الدهر الذي يظن أنه جالب الحوادث لا يجاوز الله لا أنّ الله لا يب، وزه كما لا يخفى، وقيل: إنّ الوجه أن يقال إنّ المبالغة في تعريف المفسدين على قياس ما مرّ في المفلحين من أنه إن حصلت صفة المفسدين وتحققوا ما هم، وتصوّروا بصورهم، فالمنافقون هم هم لا يعدون تلك الحقيقة، فالفصل مؤكد لنسبة الاتحاد الذي هو أقوى من القصر في إفادة المقصود، ولما مرّ من الإشكال عدل المصنف رحمه الله عما في الكشاف من قوله ردّ الله ما ادّعوه من الانتظام في جملة المصلحين أبلغ ردّ وأدله على سخط عظيم وجعله ردّاً لما في قولهم من التعريض للمؤمنين كأنهم قالوا أنتم المفسدون وقصروا الإفساد على المؤمنين فأجيبوا بقصره عليهم، وهذا مستفاد من مساق الكلام في مقام الجدال ومن فحواه فلا يتوهم أنّ التعريض إنما يستفاد منه لو قيل إنما المصلحون نحن. قوله:(والاستدراك بلا يشعرون) فإن قلت لم ذكر ما يشعرون بعد يخادعون بدون استدراك وههنا به.
قلت المخادعة تقتضي في الجملة الإخفاء وعدم الشعور بخلاف ما هنا فانهم لما نهوا
عما تعاطوه من الفساد فأجابوا بادّعاء أنهم على خلافه وأخبر تعالى بفسادهم كانوا حقيقين بالعلم به مع أنهبم ليسوا كذلك فكان محلا للاستدراك لأنه يقع بين الأمور المتخالفة، وما يقال
لما يذمّ من أفسد عن علم والجواب لا يشعرون} أنّ أمرهم يظهر للنبيّ لهم مفسدون فقوله {؟ ألا إنهم هم الفساد صلاحا أو المراد أنهم لا كما ذكره السمرقنديّ في تفسيره. ل! مكن منه مذموم أيضاً، بل قد يقال 5 الآية حجة على المعتزلة في أنّ للزم بدون المعرفة، فإنّ الله أخبر أنّ حصقة العلم شرطا للتكليف، ولا علم عنه، فإذا لم يكن النهي قائما عليهم ليام آلة العلم، والتمكن من المعرفة عة على مسئلة مقارنة القدرة للفعل ممام النصح والإرشاد إلخ) فيه إشارة لطهر منه أنّ القائل المؤمنون لا الله شارة إلى التخلية بالخاء المعجمة على أنّ الأعمال داخلة في كمال###
###
لنه على التكذيب المنافي للإيمان، لعص المنافقين لبعض لأنه المناسب لقائل المؤمنين والمجيب المنافقين موا لا يتصوّر بدون الملاقاة، وقوله فما وجه التوفيق حينئذ، وهذا هو سسشكله وأجاب عنه كثير من الفضلاء لهم {أَنُؤْمِنُ} إلخ مقول فيما بينهم سن،! انما يتعذر هذا لو قيل: وإذا أنؤمن} إلخ كما أشار إليه الفاضل
م لو قيد قول المنافقين بكونه في لحصيص الجواب بوقت الشرط لكونه هذأ الوقت، والإشكال متوجه على لى السفه لأنه صريح ني مجاهرة لكفر منافية لما بعده من قوله تعالى
{وَإِذَا لَقُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ} إلخ. وردّ بأنه لا إشكال فيه لأنه لم يصرّح بأنّ المنافقين جاهروا المؤمنين بل في عبارته ما يوهمه، وهو قوله من جوابهم بناء على أنّ الجواب ما يقال مواجهة، وكونه كذلك موقوف على السماع من أهل اللغة وهو لم يوجد، ويدل على خلافه ما استفاض من إطلاق االخلف لفظ الجواب على ردّ كلام السلف مع بعد العهد من غير نكير، وقيل إذا هنا بمعنى لو تحقيقا لنفاقهم وأنهم على حال تقتضي أنهم لو قيل لهم كذا قالوا كذا كما قيل مثله في قوله:
واذ! ما لمته لمته وحدي
واستشهد له بقول الزمخشريّ: إنّ مساق هذه الآية بخلاف ما سيقت له أوّل قصة المنافقين فليس بتكرير، لأنّ تلك في بيان مذهبهم والترجمة عن نفاقهم، وهذه في بيان ما كانوا يعملون عليه من المؤمنين من التكذيب لهم، والاستهزاء بهم، ولقائهم بوجوه المصادقين وايهامهم أنهم معهم، فإذا فارقوهم إلى شطار دينهم صدقوهم ما في قلوبهم شاهد صدق عليه، فهو ضرب من التقدير والتمثيل، وقيل: يجوز أن يقول المنافقون ذلك إذا انفردوا عن المؤمنين خالين من مشهدهم، فلا يكون مجاهرة لتمكنهم من الإنكار، كما سيأتي في سورة المنافقين في قصة زيد بن أرقم رضي إلله عنه، وقيل: إنه كان بحضرة المسلمين لكن مسارّة بينهم هذا ما ذكروه من القيل والقال، وحلوا به شكال الإشكال ليفرّوا من غائلة الاختلالء
(والذي عندي) أنه لا يرد رأسا فإنّ المؤمنين أمروهم بالإيمان المطابق لإيمان خلص
الناس والأمر كالنفي ينصب على القيد، فكأنهم قالوا لهم أخلصوا الإيمان، وفيه اعتراف بأصل إيمانهم وهو مطابق لقوله تعالى {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا} [البقرة: 8] فأجابوهم وجاط وثسفاها بقولهم {أَنُؤْمِنُ} إلخ أي نحن مؤمنون متصفون بصفات، وسمات للإيمان لا يخالفها إلا من كان سفيهاً وهذه موأجهة بالإيمان لا بالكفر كما ادّعاه السائل وان كان هذا سماً في شهد، لأنهم قصدوا به عدم إيمانهم بما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، وتسفيه من اتبعه لكنه خلاف ظاهر الكلام، والشرع إنما ينظر للظاهر، وعند الله علم السرائر، ولهذا قال العلامة سفهوهم، ولا يلزم من هذا عدم مطابقة جوابهم نصح الناصح، لأنه كناية عن كمال إيمانهم وان كان في قلب تلك الكناية نكاية وبعدما كتبت هذا رأيت لبعض فضلاء العصر ما يقاربه، فقلت مرحبا بالوفاق وترك المصنف لما في الكشف وشروحه هنا من توجيه إسناد قيل: إلى جملة آمنوا بأنه أريد به لفظه فهو اسم وهو مفعول به ساد مسد الفاعل، وهو مقول القول، فلا حاجة إلى ادعاء أنه مسند لضمير المصدر والجملة بدل منه، ولا إلى الجار والمجرور لظهوره. قوله:(فإنّ كمال الإيمان إلض) المواد بكماله ما به يتمّ ويتحقق وهو بحسب الاستعمال يتناول الاجزاء وغيرها ك! اقيا! :
وما تنفع الآداب والعلم والحجى وصاحبها عند الكمال يموت
فلا يشعر كلامه بدخول الأعمال في الإيمان كما قيل. وقوله: (وهو المقصود) قيل: إنه
جعل ولمنوا} كناية عن طلب الإتيان بما ينبغي، ويمكن أن يراد بالنهي عن الإفساد النهي عن الشرك، ويكون الأمر بالإيمان بعد النهي عن الشرك على طبق كلمة التوحيد والأظهر حمل النهي عن الإفساد علي! النهي عن الئفاق، والأمر بالإيمان على إخلاصه ظاهرا وباطنا ولا حاجة لمثله. قوله:(في حيز النصب إلخ) كما بعد الجمل في الأكثر إمّا نعت لمححدر، وائا حال كما صرح به النحاة والثاني مذهب سيبويه لأنّ الصفة لا تقوم مقام موصوفها إلا في مواضع مخصوصة، فهي عنده حال من المصدر ال! مضمر المفهوم من الفعل ولم تجعل متعلقة بآمنوا على أنّ الظرف لغو بناء على أنّ الكاف لا تكون كذلك، وإذا كانت ما كافة للكاف عن العمل مصححة لدخولها على الجمل، فالتقدير حققوا إيمانكم كما تحقق إيمانهم وان كانت مصدرية، فالمعنى آمنوا إيماناً مثابها لإيمانهم، ولم تجعل موصولة لما فيه من التكلف، وتقديم المصنف للمصدرية، لأنها أرجح لإبقاء الكاف على ما لها من العمل الأصلي، وقيل: الثاني أرجح والأمر فيه سهل. قوله: (واللام في الناس للجنس إلخ) قدم هذا على عكس ما فيءالكشاف إمّا لأنه الأصل المتبادر، أو لأنه أحسن هنا عند. كما قاله الراغب وتبعه المصنف وحمه الله، وما ذكر. برمّته مأخوذ من تفسيره بنوع من الاختصار. وقوله:(والمراد به إلخ) في الكشاف أو للجنس أي كما آمن الكاملون في الإنسانية، أو جعل المؤمنون كأنهم الناس على الحقيقة، ومن عداه! كالبهائم في فقد التمييز بين الحق والباطل اهـ. ولما كان المعرّف الجنسي قد يقصد به بعض الأفراد من غير اعتبار وصف فيه، كما في أمرّ على اللئيم، وقد يقصد البعض باعتبار وصف الكمال كما في ذلك الكتاب وقد يقصد الجنس بأسره، كما في قوله تعالى {إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ} أسورة العصر: 2] والأوّل لقلة جدواه يصار إليه إذا تعذر الأخيران س فسر الناس بالكاملين في الإنسانية، أو بمن هم الناس في الحقيقة حتى كأنّ من عداهم في عداد البهائم وهذا إنما هو على تتمدير كونه مقول المؤمنين لا المنافقين بعضهم لبعض، كذا أفاده الشارح المحقق والظاهر منه أنّ المراد من الجنس الجنس من حيث هو، ومن قوله: أو جعل المؤمنون إلخ! الاستغراق كما يتبادر من الكشاف، لأنّ المعرّف بلام الجنس من حيث هو يفيد الحصر، كما في شرح التلخيص فيناسب أن يعبر عن الكاملين بلفظ الجنس، لادّعاء انحصاره فيهم، والشريف هنا اختار أنّ المفيد لذلك لام الاستغراق لا غير فلذا حمل الوجهين هنا على الاستغراق وجعل الأوّل ناظرا إلى كمال المقصور عليه والثاني إلى قصور من عداه، وقد قيل إنه لا يحسن حمل الناس على الجنس، وإخراج المنافقين عنه على تقدير أن يعطف قوله {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُواْ} على صلة من يقول اهـ.
(قلت) ما بين الفاضلين من الخلاف منشؤه ما فصل في المعاتي في بحث التعريف، وليس هذا محله، فالعارف تكفيه الإشارة، كما أنّ الغبيّ لا تشفيه العبارة، والحاصل أنّ الحصر إمّا لأنهم الكاملون المستجمعون لمعانيه، فكأنهم جميع أفراده أو بملاحظة أنّ غيرهم كالبهائم لفقد التمييز بين الحق والباطل، فلا يندرجون في الناس والأوّل يشبه القصر الحقيقي والثاني الإفرادي، والمصنف رحمه الله صرّح بالأوّل لدلالته على كمالهم المقصود، واشارة إلى أنه مستلزم للثاني بقوله: ولذلك يسلب عن غيره إلخ، ومن غفل عن هذا قال إنّ عبارة المصنف ناظرة إلى الأوّل فقط فما قيل من أنّ الئاني أبلغ في هذا المقام، وأنه على الأوّل تخصيص وعلى الثاني استعارة لقول العلامة: كانهم الناس على الحقيقة ليس بشيء. قوله: (بقضية العقل) أي بحكم العقل أو بمقتضاه، وهما متقاربان. وقوله:(فإنّ اسم الجنس إلخ) المراد باسم الجنس الاسم الجامد الموضوع لمعنى عام سواء كان معرفة أو نكرة، وإذا عرف دلّ التعريف على تعيين معناه قال الراغب: كل اسم نوع يستعمل على وجهين.
أحدهما دلالتة على مسماه فصلا بينه وبين غيره.
والثاني لوجود المعنى المختص به، وذلك هو الذي يمدح به لأنّ كل ما أوجده الله في العالم جعله سالحاً لفعل خاص به لا يصلح له سواه كالفرس للعدو، والبعير لقطع الفلاة البعيدة، وعلى ذلك الجوارح كاليد والعين والناس أوجدوا ليعلموا فيعملوا، فكل ما لم يوجد فيه المعنى الذي خلق لأجله لم يستحق اسمه مطلقاً بل ينفي عنه، فيقال زيد ليس لإنسان اهـ. وهذا ما أشار إليه المصنف
رحمه الله. قوله: (ولذلك يسلب عن غيره) أي لأجل استعماله فيما استجمع المعاني المقصودة منه سلب عمن لم يستجمعها فيقال: ليس بإنسان. ولولا هذا لكان كذباً مع أنه صدق مستحسن كما قال:
يا قارع الباب على عبد الصمد لاتقرع البا ب فماثمّ أحد
وقد مرّ لك أنّ هذا مستلزم لجعل الناقص بمنزلة العدم، فليس مغايراً له كما قيل فتدبر واستجمع بمعنى جمع، فهو متعد كما يشعر به كلام الصحاح، وفي المصباح أنه لازم كتجمع فعليه يكون تضميناً أو مجازا. قوله:(وفد جمعهما الشاعر) أي جمع استعمال اللفظ في مسماه مطلقا واستعماله فيما يستجمع المعاني المقصودة مته، فإنّ المراد من الناس الأوّل الجنس ومن الثاني الكاملون في الإنسانية، وقس عليه الزمان والديار فيما سيأتي، وقد عرفت أنّ منشأ هذا اسم الجنس نفسه بقطع النظر عن تعريفه، وتعريفه إنما يفيد تعيينه كما صرّح به المصنف رحمه الله والراغب آنفاً، فمن قال ومن هما يعلم أنّ دعوى الكمال يجوز اعتبارها في النكرة أيضاً فقد أجمل إذا أهمل، ثم إنّ أخذه من نفس اللفظ معرفة كان أو نكرة لا ينافي إفادة التعريف له عند
من له أدنى بصيرة نقادة. وقوله: (ومن هذا الباب) أي نفي اسم الجنس عمن لم توجد فيه خواصه المقصودة منه، فإنه في الآية الآتية جعل المسامع صماحين لم تسمع الحق والعيون عميا إذ لم تر الصواب لانتفاء فوائدها وثمراتها المقصودة منها وهو ظاهر، وقيل: إنّ التمثيل به مبنيّ على أنه الاستعارة لا على التشبيه، فإنّ الصم وما معه عليه حقيقة، والشعر المذكور مشهور في كتب الأدب، الآ أنه وقع على وجوه: ففي بعضها:
إذ الناس ناس والبلاد بلاد
وفي آخر:
إذ الناس ناس والزمان زمان
وفي آخر:
إذ الناس ناس والديار ديار
وأنشده في الحماسة البصرية هكذا:
ألا هل إلى أحبال سلمى بذي اللوى لوى الرمل من قبل الممات معاد
بلادبها كنا وكنا نحبها إذ الناس ناس والبلاد بلاد
ولم يسم قائله، وفي الأغاني أنه لرجل من عاد وله حكاية ذكرها هكذا في بعض الحواشي، وفيه ما فيه وقيل: صدر المصرع المذكور:
لقد كنت ذا حظ من الجود والعلى
وقيل:
ديار بها كنا وكنا نحبها
قوله (أو للعهد والمراد به الرسول صنى الله عليه وسغ إلخ) قدم هذا صاحب الكشاف، وذهب صاحب البحر إلى أنه أولى، وأيده بعضهم بأنه الماثور، لأنه مرويّ عن ابن عباس رضي الله عنهما، كما أخرجه ابن جرير، والمعهود أمّا النبيّ عليه الصلاة والسلام، ومن معه ممن اتبعه من المؤمنين، لأنهم نصب عينهم دائما وقد مرّ ذكرهم أيضا بقوله الذين يؤمنون لأنهم داخلون فيه دخولا أوليا وان عمّ فالعهد خارجيّ أو خارجيّ ذكريّ، لأنّ بينهما عموماً وخصوصاً فقولك: أكرم هذا الرجل فيه تعريف خارجي، ولم يجر له ذكر كما لا يخفى، وتشبيه الإيمان المطلوب منهم ب! يمان هؤلاء لا يقتضي مساواته له من جميع الوجوه، كما أشار إليه المصنف رحمه الله بقوله والمعنى إلخ. فلا وجه لما قيل: من أنّ الظاهر أنّ المراد على تقدير العهد مطلق المؤمنين فقط إذ المطلوب مجرد إيمانهم لا الإيمان المشابه لإيمان النبيّ وأصحابه في الكمال ولا المشابه لإيمان النبيّ وأصحابه في الكمال ولا المشابه لإيمان من آمن
منهم كعبد الله بن سلام وفي بعض شروح الكشاف وتبعه بعض أرباب الحواشي هنا العهد الخارجي باعتبار كونهم كالمذكورين سابقا بوجه خطابي وهو أنّ الرسول! ك! نرو ومن محه- من المؤمنين كانوا نصب أعينهم وملتفت خواطرهم لأنهم كانوا متألمين منهم لإظهار المعجزات، وتلاوة القرآن عليهم أو عبد الله بن سلام وأشياعه، فانهم أيضاً محل التفات خواطرهم لأنهم من جلدتهم، ولا يغيبون عن خواطرهم لشدة! غيظهم بسبب إيمانهم وشدة تألمهم بسببهم والتقدير، كما آمن أصحابكم واخوانكم، ولا يخفى ما فيه. قوله:(أو من آمن من أهل جلدتهم إلخ) الجلدة والجلد بكسر الجيم، وسكون اللام التي تليها دال مهملة هو من الحيوان ظاهر بشرته، وقال الأزهريّ: الجلد غشاء جسد الحيوان والجمع جلود وقد يجمع على أجلاد كحمول، وأحمال، وجلدة الرجل، وأهل جلدته أبناء جنسه، أو قومه وعشيرته وبهما فسره! أهل اللغة، وورد استعماله والمناسب هنا الثاني وقد ورد في الحديث " قوم من جلدتنا " (1 (أي من أنفسنا وعشيرتنا
كما في نهاية ابن الأثير، وفي كتب العربية في باب أفعل التفضيل استشهدوا على صحة يوسف أحسن إخوته بما سمع من العرب من قولهم نصيب أشعر أهل جلدته، فقد عرفت أن استعماله مع لفظ أهل كما في المثال وبدونها كما في الحديث " صحيح فصيح) (2 (فمن! قال: لفظ الأهل زائد والظاهر حذفه كما في الكشاف من جلدتهم، ومن أبناء جنسهم لم يطلع على موارد استعماله؟ لقصوره، أو إهماله ومعناه ما تقدّم، وفي بعض شروح الكشاف عطف أبناء جنسهم تفسيريّ قال الجوهريّ رحمه الله: أجلاد! الرجل جسمه، وبدنه.، ؤوملاحظة المعنى الأصليّ تدعي أن يكون كناية عن المبالغة في القرب، كقولهم هو بضعة مني والظاهر أنه شبه الجنس أو العشيرة بالجلد، وظاهر البدن لجعل القوم كجسد واحد، فأهل جلدته كلجين الماء، ثم قد يجعل مجازاً، ووجه الشبه إلاتصاءل، فإذا أريد زيادته أتى بما يدل عليه كقوله:
وجلدة بين العين والأنف سالم
والمراد بأهل جلدتهم إليهود، لأنّ منافقي المدينة منهم. قوله: لأجمابق سلام) هو عبد الفه
بن سلام بن الحرث أبو يوسف من ذرية يوسف المنبيّ عليه الصلاة والسلام حليف القوافل من الخزرح الإسرائيلي، ثم الأنصاري كان حليفا لهم وكان من بني قينقاع من اليهود، واسمه الحصين فغير النبيّ صلى الله عليه وسلم اسمه وسماه عبد الذ لما أسلم أوّل ما قدم المدينة،
وقيل تأخر إسلامه إلى سنة ثمان وشهد له رسول إدلّه صلى الله عليه وسلم بالجنة، وهو من كابر الصحابة روى عنه أبو هريرة رضي الله عنه وغيره، وله مناقب وأموره مع اليهود مشهورة في كتب الحديث، وتوفي بالمدينة في سنة ثلاث وأربعين من الهجرة وسلام بفتحتين مخفف اللام وغيره من الأعلام مشدد اللام، والمراد بأصحابه من آمن من بني إسرائيل. وقوله:(والمعنى إلخ) هو على الوجهين، لأنه شبه الإيمان المأمور به بإيمان خلص المؤمنين، أو بعض من الخلص المعهودين وايمانهم كذلك. قوله:(واستدل به إلخ) قال الجصاص في أحكام القرآن: احتج به في استتابة الزنديق الذي اطلع منه على الكفر متى أظهر الإيمان لأنه تعالى أخبر عنهم بذلك، ولم يأمر بقتلهم، وهي نزلت بعد فرض القتال اهـ. والزنديق بوزن إكليل معرب ومعناه الملحد، وفسره في المقاصد بالمنافق، وهما متقاربان وبهذا المعنى استعملته العرب كما قال:
ظللت حيران أمشي في أزقتها كأنني مصحف في بيت زنديق
وهو معرب زنده أي يقول ببقاء الدهر أو زندا، وهو كتاب مزدك المجوسي، أو زن دين
أو زندي وجمعه زنادقة، وفسره الفقهاء بمن يبطن الكفر ويظهر الإسلام كالمنافق، وقد فرق بينه وبين الملحد والمرتد في الفروع وما قيل من أنه لا دلالة فيه على قبول توبة الزنديق، لأنّ النفاق غير الزندقة كيف لا، والزنديق يقتل دون المنافق، ولم يقل أحد أن في عدم قتل الرسول صلى الله عليه وسلم المنافق دلالة على عدم قتل الزنديق واه جذأ لأن الزنديق إن فسر بالمنافق فظاهر، وألا فهو مثله، وقد طلبت منه التوبة والإيمان، ولو لم يكن ذلك مقبولا لم يطلب منه إلا أنه قيل: على هذا إنه إنما يتمّ لو كان طلب الإيمان لدفع القتل، وليس كذلك لأنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم كان مأمورا بإجراء أحكام الإسلام عليهم مع علمه عليه الصلاة والسلام بنفاقهم، فلم يطلب الإيمان منهم إلا لنجاتهم عند الله والزنديق ليس كذلك، وفيه نظر لا يخفى، وحكم الزنديق على المختار المفتي به بعد الاختلاف في قبول توبته بعد الأخذ عند الشافعية والحنفية أنه إن كان معروفا بذلك داعيا إليه، فإن تاب قبل الأخذ قبلت توبته وبعدها لا، ويقتل كالساحر وان لم يكن داعياً للضلال فهو كالمرتد كما قاله أبو الليث وعليه الفتوى، وله تفصيل في الفروع. قوله:(وإن الإقرار باللسان إيمان إلخ) يعني أنّ الإيمان يكون إيمانا صحيحا بمجرّد التلفظ سواء واطأ القلب أم لا إذ لو لم يكن كذلك لم يكن للتقييد في الآية. بقوله {كَمَا آمَنَ النَّاسُ} فائدة لكفاية آمنوا فيه، لأنه موضوع للتصديق القلبي المقارن للإقرار اللساني للقادر كما مرّ، واحتمال كون ذكره للترغيب، أو للتأكيد لاقتضاء المقام له كما قيل خلاف الظاهر وهذا مأخوذ من التفسير الكبير، وأجاب عنه بأنّ الإيمان الحقيقي عند الله هو الذي يقترن به الإخلاص أمّا في الظاهر، فلا سبيل إليه إلا بالإقرار الظاهر، فلا جرم افتقر إلى
تأكيده بقوله {كَمَا آمَنَ النَّاسُ} والمصنف
رحمه الله لم يذكر الجواب، لأنه أراد أنّ المعتبر في ضسمى الإيمان لغة وبحسب ظاهر الشرع هذا، وأمّا مطابقة ما في القلب فمعتبر في الإيمان المنجي من الخلود في النار عند الله، فما ذكره مذهب الفقهاء وغيرهم فما قيل من أنّ المستدل به على هذا الكرامية، وقد مرّ أنّ الخلاف معهم، فيمن تفوّه بالشهادتين فارغ القلب عما يوافقه أو ينافيه، وأمّا من ادعى الإيمان، وخالف قلبه لسانه كالمنافقين فكافر بالاتفاق، وهو يصير عدم تعرّض المصنف للجواب بمعزل عن الصواب. قوله:(الهمزة فيه للأئكار) الإنكار قسمان إبطاليّ بمعنى لم يقع وتوبيخي بمعنى لم وقع، والمراد الأوّل، ولذا فسر بلا يكون. وقوله:(مشار بها إلى الناس) أي المراد بها ذلك، والإشارة ذهنية لا حسية يعني أنها في السفهاء للعهد، والمراد بهم الناس السابق ذكرهم بوجهيه، والعهد الذكري قد يكون بإعادة المتقدم بعينه، وقد يكون بإعادة لازمه ووصفه وإن لم يجر له صريح ذكر ويسمى العهد التقديري، وذلك بأن يسند إلى الموصوف ما يستدعي تلك الصفة، فتذكر الصفة معرفة كأنها جرى ذكرها، كما إذا قيل لك شتمك زيد فتقول: أفعل السفيه، فإنّ الشتم تنبيه على سفاهتة، حتى كأنه فيل اعترض لك سفيه، أو أن يكون الموصوف علماً في تلك الصفة حقيقة، أو ادّعاء فمتى ذكر علمت صفته والعهد هنا إمّا لأنّ الإيمان بزعمهم مستلزم للسفه، ولأنّ المؤمنين فيما بينهم معروفون به. قوله:(أو الجنس بأسره إلخ) أي للجنس في ضمن جميع الأفراد، وهو والاستغراق بمعنى وبأسره عبارة عن جميعه، والأسر في الأصل ما يشد به الأسير، فإذا سلم بوثاقه فقد سلم بجملته، ثم صار عبارة عن كل ما يراد جميعه، ومندرجون فيه بمعنى داخلين من درجه إذا طواه وضمير فيه للجنس، أو للفظ السفهاء وضميرهم للرسول صلى الله عليه وسلم، " ومن معه الثامل لابن سلام، وأضرابه رضي الله عنهم، وهم كمل الناس وأعقلهم، فجعلهم سفهاء بزعمهم الفاسد، وهو مخالف للواقع والسفهاء، وإن شملهم وغيرهم لكنهم داخلون فيه دخولا أوّلياً عندهم وهو أبلغ لما فيه من الكناية كما قال تعالى {فَلَمَّا جَاءهُم مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّه عَلَى الْكَافِرِينَ} [البقرة: 89] وقد قيل على هذا أنه إنما يصح بادّعاء انحصار مفهوم السفهاء في المؤمنين المذكورين في قوله {كَمَا آمَنَ النَّاسُ} إذ لا يصح إسناد الإيمان إلى جميع السفهاء، فإن من لم يؤمن من السفهاء لا يحصر، لكن يرد على هذا أنّ معنى الاستغراق لا يلائم مقام إنكار موافقة السفهاء، لأنّ اتباع بعض السفهاء أقبح وليس بشيء، فإنه سواء أريد الاستغراق الحقيقيّ الادّعائيّ أو العرفيّ، كما في جمع الأمير الصاغة إذ لم يكن في المدينة حين نجم النفاق إلا مؤمن، أو منافق موافق للمقام على أتمّ الوجوه وأبلغها، كما لا يخفى فتدبر. قوله:(وإنما س! هوها إلخ) أي دعوهم سفهاء، أو
نسبوهم للسفه بناء على اعتقادهم أنهم سفهاء أو تحقيرا لهم، فإنّ قيهم فقراء والموالي بمعنى العبيد، فإنه أحد معانيه وصهيب وبلال الصحابيان رضي الله عنهما كذلك، كما هو معروف في محله، والتجلد والتحمل والتصبر وأصل معناه إظهار الجلد والقوّة، والمبالاة بالشيء الاعتداد والاعتناء به وعدم المبالاة بهم، لأنهم كانوا من أهل الكتاب. قوله:(والسفه إلخ) السفه في اللغة الخفة والتحرّك والاضطراب يقال زمام سفيه أي مضطرب، وسفهت الرياح الرماح والنار إذا حرّكتها بخفة ثم استعمل في عرف اللغة والشرع، وشاع حتى صار حقيقة فيه لنقمى العقل والرأي، وقال الراغب: استعمل في خفة النفس لنقصان العقل، وفي الأمور الدنيوية والأخروية، ومنه أخذ المصنف رحمه الله ما ذك ره، وفي شرح التأويلات حد بعضهم السفه بأنه ترك العمل بمقتضى العقل مع قيام العقل، وقيل العمل بموجب الجهل على علم بأنه مبطل، وسخافة الرأي والعقل خفته وعدم استحكامه، وفي المصباح سخف الثوب سخفاً، وزان قرب قربا وسخافة بالفتح رق لقلة غزله، ومته قيل رجل سخيف وفي عقله سخف أي نقمى وقال الخليل السخف في العقل خاصة والسخافة عامّة في كل شيء اهـ. وقوله:(والحلم) بكسر الحاء، وسكون اللام هو الأناة والوقار، ويقابله أي يقع في مقابلته لأنه ضدّه على عادة اللغويين في الإيضاح بذكر الأضداد كما قيل:
وبضدها تتبين الأشياء
قوله (ردّ ومبالغة في تجهيلهم إلخ) فيه مع النظم لف، ونشر مرتب فالردّ لتسفيههم المؤمنين ناظر لقوله {أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاء} والمبالغة في التجهيلى من قوله {وَلَكِن لَاّ يَعْلَمُونَ} كما ستراه
عن قريب ويحتمل أنه راجع لقوله {إِلَاّ أَنَّهُمْ} إلخ من غير لف فيه واليه ذهب بعض أرباب الحواشي أو أنه من قوله {أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاء} لأنه المقصود بالذات فلذا أتى فيه بألا وإن، ووسط ضمير الفصلى، وعرف الخبر وذيل بالاستدراك المؤكد له لاستلزام السفه للجهل، أو دلالته عليه لأنه خفة العقل، ونقصه وفي الدرّ المصون السفه خفة العقل والجهل بالأمور قال السموأل:
نخاف أن تسفه أحلامنا فنجهل الجهل مع الجاهل
وقوله (فإنّ الجاهل إلخ) تفسير للمبالغة في التجهيل، وتعليل له بناء على أحد الوجهين
في تفسير قوله {لَاّ يَعْلَمُونَ} وهو أنّ معناه لا يعلمون أنهم هم السفهاء حقيقة لقلة تأمّلهم في الدلائل القائمة على أنّ الكفر سفه لا ما قيل من أنّ معناه لا يعلمون ما يحل بهم من العذاب، لأجل السفه في الآخرة، وعلى هذا جهلهم بالسفه الذي هو جهل جهل بالجهل، فهو جهل
مركب، فكأنه قيل: إنهم جهلاء، ولكن لا يعلمون أنهم جهلاء. وقوله:(بجهله) صفة الجاهل والجازم صفته، ويصح كونه صفة الجهل، وبما قرّرناه علم أنه لا يرد على المصنف رحمه الله ما قيل من أنه لا يفهم من قوله {أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاء} لاعتقاد الباطل، لأنّ السفه وخفة العقل قد يكون سبباً للشك، وكذا عدم العلم لا يستلزم الجهل المركب، ولا حاجة إلى الجواب بأن المراد بالسفه هنا اعتقاد الباطل، وبعدم العلم الجهل المركب بقرينة المقام، لأنه ناشىء من عدم الوقوف على المرام، وتعدّي الجازم بعلى وهو متعد بالباء لتضمنه معنى المصرّ، فإن قلت إنما يفهم من السفاهة، ونفي العلم الجهل وأمّا الجزم بخلاف الواقع فليس هنا ما يدلّ عليه، لأنّ عدم العلم بالجهل محتمل للتحقيق في ضمن عدم العلم بشيء من النقيضين، وفي ضمن الجزم بمقتضى الجهل، قلت: هو كما ذكرت إلا أنّ مقام المبالغة يعين الاحتمال الثاني مع أنّ حالهم يقتضيه لأنّ الجراءة على تسفيه المؤمنين، والسعي في أذيتهم لا يصدر من العاقل إلا إذا جزم بذلك فتأمل. قوله:(وأتئم جهالة من المتوقف إلخ) قيل عليه مراتب الجهل أربع: أحدها ما وصفه المصنف رحمه الله بالأتمية، وبعدها الظان لخلاف الواقع، وبعدها المتوقف عن التصديق بأحد الطرفين المتردّد بينهما من غير اعتراف بجهله، ورابعها المتوقف المعترف، فكان ينبغي أن يقول أتم جهالة من غير الجازم، ليشمل الصور الثلاث أو يكتفي بالثاني لتلزم الأتمية بالنسبة إلى الثالث والرابع بطريق الأولى غير أنه ذكر المعترف ليتصل به قوله: فإنه ربما يعذر كمن أسلم في دار الحرب، أو نشأ في بادية، أو على رأس جبل لاعترافه بجهله، واستعداده لقبولا لىلحق، فينتفع بالآيات والنذر، كما يعذر المؤمن المعترف بذنبه بخلاف الجاهل الجازم بجهله الآبي عن الحق والنذر جمع نذير. قوله:(وإنما صلت الآية إلخ) فصلت مجهول من ال! كصيل، فهو مثدد الصاد أي أتى بفاصلة كقفي إذا أتى بقافية والفاصلة في النثر بمنزلة القافية في الشعر، وهذا بناء على أنه يجوز أن يقال في القرآن سجع وفواصل، وفيه تفصيل ذكرناه في غير هذا المحل، وفي بعض شروح الكشاف فصلت بتشديد الصاد المهملة من التفصيل، وفي بعض النسخ بتخفيفها من الفصل، فجوّز فيه وجهين أي ختمت هذه الآية بلا يعلمون دون لا يشعرون لما ذكر. وقوله: (كثر طباقاً (الطباق كالمطابقة من الأسماء المتضايفة، وهو أن يجعل شيء فوق آخر هو بقدره، ومنه طابق النعل النعل لكونه فوقه يقابله، ولكونه بقدره يوافقه فلذا أطلق الطباق في اللغة على الموافقة، والمناسبة وأطلق في الإصطلاج البديعي على الجمع بين المتضادّين لتقابلهما في الجملة، ولذا ذهب الأكثر هنا إلى أنّ المراد الثاني لأنّ في السفه جهلاً، كما مرّ فذكر العلم معه جمع بين متضادّين في الجملة فالطباق بديعي، وقيل: المراد
لمناسب عدم العلم والسفاهة فهو لغوفي يرجع إلى مراعاة النظير قال الطيبي: هو من باب المعنوية إذ لو كانت لفظية لقيل: لا يرشدون فإنّ الرشد مقابل للسفه، أو قيل ألا إنهم ليقابل لا يعلمون اهـ. وفيه نظر لأنه لا منافاة بينهما، فإنه إن نظر للعلم والجهل من لطر لغيره فهو بديعيّ، وان نظر له منفيا فلغويّ ولكل وجهة وإنما قال أكثر لأنّ الشعور ونفيه جهل وسفه، أو ذلك مما يستلزمه، ويؤل إليه إن فسر الشعور بإدراك الحواس ففيه مطابقة للسفه أيضا إلا أنّ ما ذكر أظهر وأقوى، ثم بين له نكتة أخرى، وهي أنّ لدينية غير
محسوسة، فيحتاج إلى فكر ودقة نظر، فلهذا فصلت آية الإيمان بلا يعلمون والفساد الدنيويّ محسوس مشاهد، أو منزل منزلته، فلذا فصلت آيته بلا يشعرون وجعل وجها مستقلاً، وهذا وجها آخر والزمخشريّ جعلهما وجهاً واحدا، فلذا قيل إنّ كلامه مي أنّ التلباق مراعاة النظير، ولو جعل العطف في كلام المصنف تفسيريا عاد إليه لكنه لظاهر، وذهب الراغب كما أشرنا إليه أوّلا إلى أنّ أصل الشعور إدراك المشاعر وهي س الظاهرة، ونفيه أبلغ من نفي العلم، ثم إنه شاع بعد ذلك في الإدراك وقد يخص منه، كما قالوا: فلان نسق الشعر إذا دقق النظر، فالشعور يستعمل بمعنى الإحساس، الإدراك وبمعنى الفطنة، فقوله أوّلا وما يشعرون نفي للإحساس وثانياً لنفي الفطنة
ح معرفة الصلاح والفساد لها، ثم نفي عنهم العلم تنبيها على نكتة دقيقة، وهي انّ في لهم الخديعة نهاية الجهل الدالة على عدم الحس، ثم قال: إ أ! م لا يفطنون تنبيها على أنّ زم لهم لأنّ من لا جس له لا فطنة له، ثم قال: لا يعلمون تنبيها على أنّ ذلك لازم،
لا فطنة له لا علم له، ثم أنه قرن ذلك بأداة الاستدراك المعطوفة، وقد تستعمل بدون والفرق بينهما دقيق لدفع ما يتوهم من أنهم يعلمون بما هم عليه، ولكنهم يتجاهلون!! دبر. قوله: (بيان لمعاملتهم إلخ (دفع لما توهم من أنّ هذا مكرّر مع ما مرّ في أوّل وليس منه في شيء لأنّ الأوّل لبيان معتقدهم، وادّعائهم حيازة الإيمان من قطريه،
منه في شيء، والثاني لبيان سلوكهم مع المؤمنين ومع شيعتهم، وهما أمران مختلفان، يكن هذا لم يلزم تكرار أيضا، لأنّ المعنى ومن الناس من يتفوّه بالإيمان نفاقا للخداع، لتفوّ. عند لقاء المؤمنين، وليس هذا بتكرار لما فيه من التقييد وزيادة البيان وأنهم ضموا لحداع الاستهزاء، وأنهم لا يتفوّهون بذلك إلا عند الحاجة، وقد قيل أيضاً إنّ المراد آمنا أوّلاً الإخبار عن أحداث الإيمان، وهنا عن احداث إخلاص الإيمان وهذا ما ارتضاه وأيده بأنّ الإقرار اللساني كان معلوما منهم غير محتاج للبيان، وإنما المشكوك ص القلبي، فيجب إرادته هنا، وقولهم للمؤمنين يقتضي ما يظهرونه لشياطينهم من د! م الصادر عن صميم القلب، فيجب أن يريدوا بما ذكروه للمؤمنين التصمديق القلبي أيضا، بعضهم كلام المصنف رحمه الله عليه، وقال: إنه لا ينافيه ما سيأتي من أنهم قصدوا
بآمنا أحداث الإيمان، لأنّ النراد به الإيمان على وجه الإخلاص، ولا يخفى أنّ كلامه مناد على خلافه لمن له أدنى بصيرة فتدبر. قوله:(روي أنّ ابن أفى إلخ) هذا سبب نزول هذه الآية، وقد أخرجه الواحديّ رحمه الله، وروي أنّ عليا رضي الله عته قال له: يا عبد الله اتق الله ولا تنافق فإنّ المنافقين شرّ خلق الله فقال له: مهلَا يا أبا الحسن أنى تقول هذا والله إنّ إيماننا كإيمانكم وتصديقنا كتصديقكم، ثم افترقا فقال ابن أبيّ لأصحابه: كيف رأيتموني فعلت، فإذا رأيتموهم، فافعلوا مثل ما فعلت، فاثنوا عليه خيراً وقالوا: ما نزال بخير ما عشت فينا فرجع المسلمون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأخبروه بذلك فنزلت هذه الآية (1) وقال ابن حجر: إنّ هذا الحديث منكر وذكر إسناده، ثم قال هو سلسلة الكذب لا سلسلة الذهب وآثار الوضع عليه لائحة ومما يدلّ على ذلك أنّ سورة البقرة نزلت أوّل ما قدم النبيّ صلّى الله عليه وسغ المدينة على ما صححه المحدّثون وعليّ رضي الله عنه إنما تزوّج فاطمة رضي الله عنها في السنة الثانية من الهجرة فكيف يدعوه ختنا، فإن قلت: ليس فيما ذكر من سبب النزول أنهم قالوا آمنا قلت: سبب النزول أمر مناسب تنزل الآية عقبه، ولا يخفى مناسبته مع ما فيه من إظهار الاستهزاء، وابن أبيّ رأس المنافقين، وهم أصحابه واسمه عبد الله. قوله:(انظروا كيف أرذ إلخ) كأنهم كانوا جاؤوا بجمعهم لينصحوهم أو ليردوا دبيب عقارب بغضائهم وقوله بالصديق سيد بني تيم الصديق صيغة مبالغة من الصدق لقب به في الجاهلية، لأنه كان معروفاً بالصدق، وقيل في الإسلام لما صدق النبيّ عليه الصلاة والسلام في قصة الإسراء، واسمه عبد الذ بن أبي قحافة عثمان بن عامر بن عمرو بن كعب بن سعد بن تيم بن مرّة بن كعب بن لؤقي بن غالمث القرشي التيمي، يلتقي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرّة فتيم جدّ. الأعلى وبه سمي البطن من قريش الذي ينسب إليه، فلذا قال له سيد بني تيم، وما وقع في
بعض نسخ القاضي والكشاف تميم بدله خطا وسهو من قلم الناسخ وهو بفتح المثناة الفوقية وسكون التحتية. قوله: (وشيخ الإسلام) هو كان في زمن الصحابة رضي الله عنهم يطلق على أبي بكر رضي الله عنه وعمر، وهما الشيخان قال السخاوي في كتاب الجواهر في مناقب العلامة ابن حجر شيخ الإسلام: أطلقه السلف على المتبع لكتاب الله، وسنة رسوله مع التبحر في العلوم
لمعقول والمنقول، وربما وصف به من بلغ درجة الولاية، وقد يوصف به من طال عمره سلام، فدخل في عداد " من شاب شيبة في الإسلام، كانت له نوراً "(1) ولم تكن هذه مشهورة بين القدماء بعد الشيخين الصديق، والفاروق رضي الله عنهما فأنه ورد وصفهما وعن عليّ فيما رواه الطبريّ في الرياض النضرة عن أنس أنّ وجلَا جاء إلى عليّ رضي فقال: يا أمير المؤمنين سمعتك تقول على المنبر: اللهمّ أصلحني بما أصلحت به الراشدين المهديين، فمن هم فاغرورقت عيناه وأهملهما، ثم قال: أبو بكر وعمر إماما وشيخا الإسلام، ورجلا قريش المقتدى بهما بعد رسول الله صلّى الله عليه وسئم إلخ. سحهر بها جماعة من علماء السلف حتى ابتذلت على رأس المائة الثامنة، فوصف بها من لا، وصارت لقباً لمن ولي القضاء اكبر ولو عري عن العلم والسن إنا لله وإنا إليه
د اهـ.
قلت) ثم صارت الآن لقباً لمن تولى منصب الفتوى، وإن عري عن لباس العلم ى:
لقدهزلت حتى بدا من هزالها كلاها وحتى سامهاكل مفلس
موله (وثاني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلخ) هو ما اشتهر في السير من دخوله رضي غار ثور معه عليه الصلاة والسلام في الهجرة، وبذله لنفسه وماله معروف أمّا الأوّل وأمّا الثاني فلأنه رضي الله عنه، كان له مال عظيم من التجارة أنفقه كله في سبيل الله، ل! جاوة ال! ابحة. وقوله:(بسيد بني عديّ) كغنيّ بطن من قريش أعظمهم، وأشهرهم عمر لله عنه، فإنه عمر بن الخطاب بن نفيل بن عبد العزى بن رباح بن قرط بن رزاح بن لن كعب بن لؤيّ أمير المؤمنين أبي حفص القرشيّ العدويّ، ولقبه النبيّ صلى الله عليه لالفاووق، لما أظهر الإسلام، فاعز الله به الدين، وفرق بين الحق والباطل، وهو الترياق! رضي الله عنه. وقوله:(وختنه) مرّ ما فيه وهو بفتحتين، وفي المصباح هو عند العرب كان من قبل المرأة كالأب والأخ والجمع أختان، وختن الرجل عند العامّة زوج ابنته لأزهريّ: الختن أبو المرأة والختنة أمّها، فالأختان من قبل المرأة، والأحماء من قبل والأصهار يعمهما اهـ. فاستعماله هنا على متعارف العامّة مما يدل على الوضمع أيضا،
وما خلا بمعنى إلاً الاستثنائية. قوله: (واللقاء المصادفة إلخ) قال الراغب: اللقاء مقابلة الشيء ومصادنته معاً، وقد يعبر به عن كل واحد منهما، وقال الإمام: اللقاء أن يستقبل الشيء قريباً منه والمصادفة بالفاء من صادفه إذا وجده فبينها، وبين الملاقاة عموم وخصوص وجهيّ، وفي كلام المصنف رحمه الله مسامحة ظاهرة. وقوله:(يقال إلخ) هو قريب من قول الزمخشريّ يقال لقيته ولاقيته إذا استقبلته قريباً منه، وفي شرح الهادي، وقد يفسر الكلام بإذا لكنك إذا فسرت جملة مسندة إلى ضمير الحاضر باي ضممت تاء الضمير فتقول: استكتمته الحديث، أي سألته كتمانه بضم التاء فيهما، واذ! فسرتها بإذا فتحت التاء الثانية فقلت: إذا سألته ونظمه القائل:
إذاكنيت بأي فعلا / تفسره فضم تاءك فيه ضم معترف
وان تكن ب! ذايوماً تفسره ففتحة التاءأمرغيرمختلف
وسرّه كما في شرح المفصل أنّ أي تفسيرية، فينبغي أن يطابق ما بعدها ما قبلها، والأوّل مضموم، فالثاني مثله، وأذ شرطية، وإنما جعلت تفسيرية نظر المآل المعنى، فتعلق قول المخاطب على فعله الذي ألحقه بالضمير، فيستحيل فيه الضم والتعبير بيقال وقع في الكشاف، وتفسير الراغب فقال الشارح العلامة: إنه غير مستقيم لأن يقال غائب، فالصواب تقول: وقال بعض الفضلاء: فيه بحث لأنه إن أراد بعدم الاستقامة فوت المناسبة فالتعبير به غير مستقيم، وان أراد عدم صحة المعنى فممنوع لأن يقال لازم يقول، وكل موضع يصح فيه وضع الملزوم يصح فيه وضع اللازم، وفي بعض شروح الكشاف ما قاله الشارح صحيح بالاعتبارين لأنّ الاستقامة
ليست بمعناها الحقيقيّ الذي هو ضد الإعوجاج، فهي مجاز عن المناسبة ولفظ يقال مباين لتقول لا ملازم له وقوله كل موضع يصح إلخ ممنوع لأنه يصح كل إنسان ناطق دون كل حيوان، " والجواب أنّ ذكر أستقبلته بضمير الخطاب لرعاية التفسير بإذا للجملة الفعلية قاعدة، ولا يلزم مناسبة ما تقدم من الفعل له، وعلى تقدير التسليم يقال هو التفات على مذهب اهـ وفيه نظر لا يخفى، والذي في شرح الفاضلين أنّ حق العبارة تقول لما مرّ من القاعدة في التفسير بأي واذا، فإنه إذا فسر بأي وجب أن يتطابقا في الإسناد إلى المتكلم وجاز في الصدر تقول ويقال: وإذا جيء بإذا، فالواجب أن يكون الشرط، وتقول بصيغة الخطاب أي إذا استقبلته تقول لقيته ولا يصح يقال: إلا بتعسف، وهو بتقدير كون القائل نفس المخاطب، وهو قلق جداً وقد قيل عليه أنه إنما يتوجه إذا ضم تاء لقيته ولاقيته، وليس بمتعين لجواز فتحها وكونه بصيغة الخطاب دون التكلم، ولا تكلف في قولك إذا استقبلته فقد لاقيته إلا أنه قيل إنّ الرواية، وصحيح النسخ على ضم تائه.
(أقول) هذا سهل استصعبوه، ولا مانع مما منعوه، فإنّ الخطاب هنا فرضيّ لغير معين،
، فهو في معنى الغائب والمتعدّد كما سمعتة في نحو قوله تعالى {وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ} [السجدة: 12] فإذا قيل: يقال لقيته إذا استقبلته على أنّ المراد من يقال تقول وبني للمجهول إشارة إلى أنه، وان تعين بحسب الظاهر في الحقيقة غير متعين جاز، ودعوى القلاقة والتعسف فيه غير مسلمة، ولما كان الشرط والجزاء متغايرين تغاير السبب والمسبب جعلوا االقول جوابا دون المقول لإيجاد. به! مع عدم صحة إذا استقبلته أنت يقول غيرك لقيته ألا فإذا فتحت صح بتقدير إذا استقبلته يقول غيرك أنك لقيته أنت، وفي قول الزمخشريّ: يقال لقيته ولاقيته إشارة إلى أنّ المفاعلة فيه لأصل الفعل. قوله: (بحيث يلقى) قال الراغب: الإلقاء طرح الشيء بحيث يلقى، ثم صار في التعارف اسماً لكل طرح قال تعالى {أَلْقِهَا يَا مُوسَى} [طه: 9 ا] فأصله جعل الشيء ملقى مقابلا بحيث يجده ويستقبله الملقى له وهو حينئذ حقيقة فإذا استعمل لمطلق الطرح كان مجازاً مرسلَا لكه صار حقيقة في عرف اللغة وعليه استعمأل الفصحاء وهمزته للصيرورة وهي المراد من الجعل في عبارة المصنف رحمه الله لا للتعدية لتعديه قبلها وبعدها لواحد. قوله: (من خلوت بفلان وإليه إلخ) ذكر وجوها في خلا كما ذهب إليه عامّة أهل اللغة، وفي الأساس خلا المكان خلاء وخلا من أهله وعن أهله، وخلوت بفلان واليه ومعه خلوة وخلا بنفسه انفرد، وقال الراغب: الخلاء المكان الذي لا ساتر فيه من بناء ومساكن وغيرهما، والخلو يستعمل في الزمان والمكان، لكن لما تصوّر في الزمان المضيّ فسر أهل اللغة خلا الزمان بمضى وذهب وخلا فلان بفلان صار معه في خلاء، وخلا إليه في خلوة اهـ والحاصل أنّ أصل معناه الحقيقي فراغ المكان، والحيز عن شاغل وكذا الزمان وليس بمعنى مضى، فإذا أريد به ذلك فمجاز عند الراغب وظاهر كلام غيره أنه حقيقة، وهو غير متعد بالمعنى المشهور، فإنّ التعدية لها معنيان كما قاله ابن الحاجب رحمه الله في الإيضاح أحدهما أن لا يعقل معنى الفعل، وما أشبهه إلا بمتعلقه لأنه من المعاني النسبية، فكل معنى نسبي لا يعقل إلا بما هو منسوب إليه فهو المتعدّي، وغير المتعدي ما لا يتوقف تعقله على متعلق له والثاني كل جارّ تعلق بفعل، فإنه يقال له متعد بذلك الحرف، وإن لم يكن نسبته ولا بمعنى التصيير كما يقال خلا المكان من كذا وعن كذا، وقد يتعدّى هذا بالباء أو بإلى كما صرّحوا به هنا، وهو بمعنى انفرد معه أو اجتمع معه كما في الصحاح وليس قولهم معه للإشارة إلى أنّ إلى بمعنى مع، كما قالوه في قوله تعالى {مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللَّهِ} [أك! عمران: 52] وكذا قول. الراغب في خلا إليه: إنه بمعنى المضي إليه ليس إشارة إلى التضمين الآتي. قوله: (أو من خلاك دمّ إلخ) قال الرضي: خلا في الأصل لازم يتعدّى إلى المفعول بمن نحو خلت الدار من الأنيس، وقد يتضمن معنى جاوز فيتعدى بنفسه كقولهم: افعل هذا وخلاك ذم، وألزموها هذا التضمن في باب الإستثناء اهـ. وفي شرح الفصيح قال أبو عبيد: قولهم افعل هذا
وخلاك ذمّ مثل لقصير بن سعد اللخمي، قاله لعمرو بن عدي حين أمره أن يطلب الزباء بثأر خاله جذيمة بن مالك فقال: أخاف أن لا أقدر عليها فقال له اطلب الأمر، وخلاك ذمّ فذهب مثلَا أي إنما عليك أن تجتهد في الطلب، وإن لم تقض الحاجة، فتعذر ولا تذم، ومبلغ نفس عذرها
مثل صحيح كما قال:
على المرء أن يسعى لما هو قصده
…
وليس عليه أن يساعده الدهر
وعن يعقوب المعنى خلا منك الذم أي لا تذم فأسقط الحرف، وعداه مثل واختار موسى
قومه سبعين رجلا وقال ابن أغلب المرسي: المعنى وخلوت من الذم وجعل الفعل للذم لأنك إن خلوت منه فقد خلا منك، وقال التدفري: هو من المقلوب أي خلوت من الذمّ، ثم قلب وأسقط الجار منه وقال ابن درستويه العامة تقول خلاك ذم والمعنى صحيح لكن العرب لم تستعمله كذا اهـ وعلى ما ذكر أولا إذا انفردوا واجتمعوا بثياطينهم، وقدم هذا لأنه أظهر الوجوه، وعلى الثاني فهو بمعنى مضوا، وهو على هذا متعد بإلى أيضا، والمراد بمضيهم اجتماعهم معهم لأنّ المضيّ، والذهاب يستعمل بهذا المعنى، كما قال تعالى {اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ} [كله: 43] إذ ليس المراد به مجرّد الخروج إلا أنّ في ذكرهم خلاك ذم خفاءسواء.
(قلنا) أنه متعد حقيقة كما هو ظاهر سياقهم أولا كما ذكرناه لك عن الرضي وغيره، فالظاهر الاقتصاو على تفسيره بمضى، لأنه مشهور وقيل إنه على هذا المعنى أنهم إذا جاوزوا المؤمنين وذهبوا عنهم إلى شياطينهه، فعلى هذا هو في النظم متعد، ولا يخفى ما فيه وقوله ومنه القرون الخالية أي الذاهبة من منازل الوجود إلى صحراء العدم، فالخلو فيه بصعنى المضيّ والذهاب إلا أنه فرق بين الذهابين، ولذا فصله بقوله ومنه فتدبر. قوله:(أو من خلوت به إذا سخرت منه) في الكشاف وهو من قولك خلا فلان بعرض فلان يعبث به، ومعناه إذا أنهوا السخرية بالمؤمنين إلى شياطينهم وحدثوهم بها، كما تقول أحمد إليك فلانا، وأذمه إليك اهـ. وفي الأساس من المجاز خلا به سخر منه وخدعه، لأنّ الساخر والخاح يخلوان به يريانه النصح والخصوصية اهـ. وقال قدس سرّه تبعاً لغيره من الشراح: إنّ ما في الكشاف إشارة إلى أنّ استعمال خلا بهذا المعنى مع إلى بناء على تضمينه معنى الإنهاء، كما في أحمده إليك أي أنهي حمده وهذا بيان لحاصل المعنى وأمّا تقدير الكلام فهكذا، وإذا خلوا أي سخروا منهين إليهم، وأحمده منهياً إليك كما سلف.
(أقول) يعني أنّ المضمن يقدر حالا لا مفعولا به، كما صنعوه هنا، وليس هذا بمسلم
وقد مرّ الكلام عليه مفصلا في بحث التضمين في قوله تعالى {يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} [البقرة: 3] وليس هذا مما يهمنا هنا، وإنما المهم هنا أنّ خلا بمعنى سخر وان ذكره الزمخشريّ
وتبعه غيره كصاحب القاموس لم يقع صريحاً في كلام من يوثق به حتى يخرّج عليه كلام رب العزة وما مثلوا به ليس مطابقا للمدعي فإنّ الدال على السخرية فيه قوله يعبث به وخلا إمّا على حمقته فيه، أوبمعنى تمكن منه كما لا يخفى، ثم لايخفى ما فيه من التكلف فعليك بالنظر السديد والترقي عن حضيض التقليد، والتضمين إنما هو على الوجه الأخير لا عليه وعلى الثاني لأنّ مضى يتعدى بإلى، فمن ذهب إليه، وقال: الأنسب تضمين معنى الانتهاء فقد وهم. قوله: (والمراد بثياطينهم إلخ) يعني أنه استعارة تصريحية لتشبيه الكفرة الذين يشيرون إليهم، أو كبار أصحابهم بمردة الشياطين، والقرينة الإضافة على ما نيه كما فصل في بعض شروح الكشاف. وقوله:(والقائلون صنارهم) فيه نبوة عن سبب النزول السابق لأنّ ابن أبيّ من رؤسائهم، ولذا قيل إنه مبنيّ على غير تلك الرواية وذكر في اشتقاقه وجهين، واستدل على الأصالة بقولهم تشيطن، لأنه لو لم تكن النون أصلية سقطت من فعله، واحتمال أخذه من الشيطان لا من أصله على أنّ المعنى فعل فعل الشيطان خلاف الظاهر وأن ارتضاه بعضهم، وشاط بمعنى بطل ورد في كلامهم كقوله:
وقد يشيط على أرماحنا البطل
وقال الراغب: إنه من شاط بمعنى احترق غضباً والشيطان مخلوق من النار فلذا اختص
بفرط الغضب وهو جمع تكسير واجراؤه مجرى جمع التصحيح، كما في بعض القراءات الشاذة تنزلت به الشياطون لغة رديئة، والتمرّد العتوّ والتجبر ومنه مردة الشياطين وقيل: المراد بهم الكهنة لأتباعهم الشياطين فسموا بملا يلإزمهم كما يقال بسمل إذا ذبح اهـ. وقوله من أسمائه الباطل أي من أسماء الشيطان، وهذا يدل على ما ذكر في الجملة وان قيل إنّ تسميته بأسماء كل منها ماخونر من لفظ آخر بمعنى آخر أرجح، لأنه تأسيس. قوله:(في الدين والاعتقاد إلخ) يعني أنّ المعية هنا معنوية، وهي مساواتهم لهم في الاعتقاد لا الصحبة الحسية، لأنها غير مرادة ولا محتاجة للبيان وقوله (خاطبوا المؤمنين إلخ) جواب عما يقال لم ترك التأكيد فيما ألقي إلى المؤمنين المنكرين لما هم عليه أو المتردّدين
وأتى بالجملة الفعلية الدالة على الحدوث، وأكد مع شياطينهم الذين ليسوا كذلك وأتى بالجملة الاسمية الثبوتية فقيل إنه أجيب عنه بوجهين وقيل بثلاثة.
أحدها أنهم بصدد دعوى إحداث الإيمان فهو كلام ابتدائي متجدد مناسب للفعلية، وترك التأكيد بحسب زعمهم وقصدهم، وهم لم ينظروا الإنكار أحد أو تردّده فيه بخلاف ما خاطبوا به شطارهم، فإن القصد فيه إلى إفادة الثبات على ما كانوا عليه دفعا لما يختلج بخواطرهم من مخالطة المؤمنين، ومخاطبتهم بالإيمان من أنهم وافقوهم ظاهراً وباطناً، وتركوا اليهود رأساً فيناسب الثبوت والاسمية المؤكدة لدفع التردّد الظاهر من حالهم.
والثاني أن ترك التأكيد كما يكون لإزالة الإنكار والشك يكون لصدق الرغبة، ووفور النشاط من المتكلم، كما في قول المؤمنين {رَبَّنَا آمَنَّا} [المؤمنون: 09 ا] فلذا جرّدت الأولى، وأكدت الثانية.
والثالث أنهم لو قالوا: إنا مؤمنون كان ادّعاء لكمال الإيمان وثباته وهو أمر لا يروج عند خلص المؤمنين، وهم ما هم في رزانة العقل وحدة الذكما " ولا كذلك الشطار، وفي شرح الكشاف للعلامة طاب ثراه: التو! يكون لبيان حال المخاطب تارة، وأخرى لبيان حال المتكلم، والخبر إمّا أن يورده المتكلم لنفسه أو لمخاطبه، فإن أورده للمخاطب فلا بدّ من أن يقصد به فائدة الخبر أو لازمها وتأكيده حينئذ لنفي الإنكار أو الشك، وان أورده لنفسه لا يلزمه أح! الفائدتين، فيقصد به معاني أخر كالتحسر والتضرّع وغير ذلك، وبهذا ظهر اندفاع ما أورد على السكاكي، لما حصر فائدة الخبر في الحكم، ولازمه مع وروده كثيراً لغير ذلك، وما قيل عليه فى قوله: إنّ حكم العقل عند إطلاق اللسان أن يفرغ المتكلم ما ينطق به قي قالب الإفادة تحاشيأ عن وصمة اللاغية مع إنه يأتي بخلاف ذلك، ولا يعدّ لغواً لأنّ ذلك كله في الخبر الملقى د لمخاطب لا فيما يورده المتكغ لنفسه، ولذلك قال: ومرجع كون الخبر مفيداً للمخاطب إلى فائدة الخبر أو لازمها فقيده بقوله للمخاطب تنبيهاً على هذا وهذا من نفائس المعاني ". ولذا أوردته برمته فعليك بحفظه، ومن لم يتفطن له قال: ليس المقصود هنا فائدة الخبر، ولا لازمها بل الأمان، أو الاستئمان من المؤمنين والخبر لا ينحصر المقصود منه في الفائدة ولا لازمها، وهذا مما استنبط من الكشاف، وأخذ منه أنّ التكيد يكون للرواج عند المخاطب وصدق الرغبة من المتكلم، وتركه لعدمه كما يكون لإزالة الإنكار والتردّد وقوله توقع رواح معطوف على قوله باعث. وقوله:(على المؤمنين) متعلق برواج لا بادعاء وان جوّزه بعضهم قوله تأكيد لما قبله إلخ توجيه لعدم العطف وذكر له ثلاثة أوجه:
الأوّل أنه مؤكد له فبينهما كمال الاتصال الموجب للقطع، لأنّ معنى قوله: إنا معكم إنا
على دينكم لا على دين أولئك، كما مرّ لا انا معكم بالنصر والمعونة، كما ذهب إليه بعض المفسرين، وان كانا متقاربين، ولما كانا متغايرين لأنّ معنى إنا معكم هو الثبات على اليهودية، وليس {إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُونَ} بمعناه حتى يكون بظاهره تقريراً، وتأكيداً لهذا المعنى اعتبر
لسيخان في الثاني لازما يؤكده، وهو أنه ردّ ونفي للإسلام، فيكون مقرّرا للثبات عليها لأنّ دفع لصض الشيء- ثأكيد لثباته، وقد عكنس صاحب المفتاح، فاعتبر لازم الأوّل حيث قال معنى انا معكم انا معكم قلوبا ومعناه إنا نوهم أصحاب محمد الإيمان فوقع مقرّراً لقوله إنا مستهزؤن! مكون الاستخفاف بهم وبدينهم تأكيداً لذلك اللازم، وما ذكره المصنف رحمه الله أولى كما ل! لحفى، كذا قرّره الشريف قدس سرّه تبعا لما في الكشف حيث قال بعد تقريره: وما هنا أولى مما في المفتاح، وان كان حسناً أيضاً فإنه يؤكد الكلام المذكور لا لوازمه وان جاز أن يعدّ كيدا للوازم تأكيداً له أيضا من وجه، مع أنّ التأويل عند الحاجة أعذب، واعترض عليه بأنه ر هما مسلك السكاكي بأنه تأوّل الأوّل فقط، وهو مخالف لقوله في شرح المفتاح: إنه لا بد أخذ اللازم من الأوّل، ومق الثاني حيث قال: إنّ إيهام الإيمان يتضمن نفيه والاستهزاء هله يتضمنه " أيضا، كما إنّ الثاني تقرير للأوّل والظاهر أنه لا حاجة إلى ذلك، فإنّ قول لمنافقين بغير جد، وصدور من القلب استهزاء وسخرية، ويجوز أن يكون ترك العطف في قوله نما نحن مستهزؤن} لكونه علة للأوّل من غير نظر إلى تأكيد أو بدل أو استئناف اهـ.
(أقول) حاصل ما ذهب إليه شرّاج الكشاف والمفتاح على أنه تأكيد سواء قلنا وزانه،
ان جاء زيد زيد، أو وزان جاء زيد نفسه أنهما لما بينهما من
المغايرة لفظا ومعنى لا بدّ من ويلهما، أو تأويل الأوّل أو الثاني، فذهب إلى كل واحد من الاحتمالات الثلاث طائفة كما سمعته آنفا. واختلفوا في الأرجح ورجحوا برمتهم هنا تأويل الثاني لما مرّ، وقد قيل عليه: إنّ صله أنه لمما أفاد إنا معكم إنا مجدون في دينكم مصرون عليه، وأنا مستهزؤن يؤكد. بلازم معناه إلا أن هذا التأويل إنما يتأتى على كونه تأكيدا لفظيا والأوجه أن يجعل تأكيدا معنويا ليكون لحقيقا للمدعي بدليله، فإنّ مدّعاهم بأنا معكهأ الثبات على الكفر، حقق بدليل هو تحقير ما عداه، فإنّ المستخف بشيء منكر له غير معتد به ودفع نقيض الشيء تأكيد لثباته لئلا يلزم ارتفاع ل! قيضين، وعكسه السكاكي وهذا ليس بشيء إذ ليس هنا ما يشعر بتنزيله منزلة التأكيد اللفظي لل فحوى الكلام منادية على خلافه، فما ذكره خيال فارغ.
(وههنا بحث) .
ينبغي التنبيه عليه وهو أنّ الظاهر الأرجح ما ذهب إليه السكاكي لأنهم لما قالوا لشطارهم ثابتون على دينكم لم نتغير عنه، وهم عرفوا قولهم للناس آمنا لاشتهارهم بذلك في ظهور يّ الإسلام عليهم، ولولا ذلك لم يكونوا منافقين، وتلك المقالة من طرف اللسان دون اعتقاد لجنان، وقد صرّحوا بتسفيه المؤمنين قبل ذلك، وهذا إن لم يكن صريحا في الاستهزاء، فليس سعيد منه، فجعل إنا معكم، وقد أ! يدب4 إنا على حق دينكم ثا! ش ن لا مع ال! سفهاء المبطلين، ن قلنا لهم! ! اعلى إسنلا! كاحناقي ممن الا! م! هزاء أظهر 5 ش تأويق إنا ورمحتوؤن بمإنا م! وون على
الكفر، فهو كالتفسير الذي حقه التأخير، وأمّ جعله تعليلا بغير الاستئناف البياني بعده مغايراً له فغفلة أو تغافل، ثم إنه قد يقال إنه لا مخالفة بين كلامي السيد، وإيهام الإيمان في كلامه ليس تأويلا لقوله {أَنَاْ مَعَكُم} بل إشارة إلى أنه يدلّ على أنّ قولهم آمنا مخادعة لم يصدر عن صميم قلب كما يدلّ عليه السياق، ومصت الكلام، وهذا هو الداعي لعدول السكاكي عما في الكشاف فتدبر. وقوله:(المستخف به) أي المحقر والتعبير به في غاية الحسن لانطلاقه على معناه الحقيقي. قوله: (أو بدل منه إلخ) تحقير الإسلام من قوله {إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُونَ} وتعظيم الكفر هو مدلول قوله {أَنَاْ مَعَكُم} قال ابن الصائغ: للنحاة في إبدل الجملة من الجملة خلاف، وجعل منه ابن فلاج قوله:
ذكرتك والخطيّ ب خطربيننا وقد نهلت منا المثقفة السمر
على كلام فيه، وتقرير البدلية بأن من حقر الإسلام إلخ لأنّ البدل إمّا اشتمال وذلك يقتضي المغايرة، أو بدل كل من كل وهو، وإن اقتضى التساوي، فمن حيث الصدق لا من حيث المدلول، ثم إن أستاذه أبا حيان في النهر اشترط في صحة وقوع البدل في الجمل كونهما فعليتين حيث قال لا يظهر لي صحة إبدال قوله تعالى {ذَهَبَ اللهُ بِنُورِهِمْ} [البقرة: 17] من قوله {؟ مثلها كمثل الذي} إلخلأنّ البدل لا يكون في الجمل إلا إذا كانت فعلية من فعلية، وأمّا أنّ تبدل فعلية من اسمية فلا أعلم أحدا أجازه، والبدل على نية تكرار العامل والجملة الأولى لا موضع لها من الإعراب، فلا يمكن أن تكون الثانية على نية تكرار العامل إذ لا عامل في الأولى، فيتكرّر في الثانية فبطلت جهة البدلية اهـ. وقال الفاضل المحقق هنا: البدل لا يحتاج إلى اعتبار أحد اللازمين ويكفي تصادق الثابت على الباطل، والمستهزىء بالحق مع كون الثاني، أوفى بالمقصود لما في الأوّل من بعض القصور حيث يوافقون المسلمين في بعض الأمور، ثم الظاهر أنه بمنزلة بدل الكل، وأرباب البيان لا يقولون بذلك في الجمل التي لا مخل لها ويعنون بما لا محل له ما لا يكون خبرا أو صفة أو حالاً، وإن كان في موقع المفعول للقول، فلذا كان الاستثناف هنا أوجه، وقال قدّس سرّه: إنهم قصدوا تصلبهم في دينهم وكان في الكلام الأوّل نوع قصور عن إفادته إذ كانوا في الظاهر يوافقون المؤمنين في بعض الأمور، فاستأنفوا القصد إلى ذلك بأنهم يعظمون كفرهم بتحقير الإسلام وأهله فهم أرسخ قدماً فيه من شياطينهم، وفي بعض الحواشي نقلَا أنّ المراد بالبدل هئا ليس أحد التوابع المشهووة، فإنه لا يكون في الجمل الاسمية، وقد جاء في الفعلية كقوله تعالى {وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ} [الفرقان: 68] فالمراد بالبدل هنا أنّ الجملة الثانية تسدّ مسد الأولى وتغني عنها غناء البدل عن المبدل منه.
(أ! دول) هذا جملة ما قالوه، وهو كلام لم ينضج والحق الحقيق بالقبول أنّ البدل بأنواشه
يقع في الجمل مطلقا سواء كان) كا محل من الإعراب أو لا، وهو مقتض إطلاق
كلام النحاة
والمفسرين، وأهل البيان وتشهد له أمثلتهم، ولا يختص بالفعلية بل كما يكون فيها يكون في الاسمية، وفي الاسمية والفعلية إذ لا فارق يعوّل عليه، وما أوقعهم في هذا المضيق غير قول النحاة أنّ البدل هو التابع المقصود بالنسبة، ولا نسبة لما لا محل له من الإعراب، فإمّا أن يكون هذا تعريفاً لبدل المفردات وما في حكمهما، أو هو باعتبار الأصل الأغلب كما عرفوا التابع بكل ثان أعرب بإعراب متبوعه مع أنّ من أقسامه التوكيد، وهو يقع في الحروف والجمل التي لا محل لها بالاتفاق، نحو لا لا وجاء زيد جاء زيد أو يؤوّل بأنّ المراد من قولهم: مقصود بالنسبة أنه مقصود بالغرض المسوق له الكلام، فلذا نراهم يقولون في توجيهه أنه أوفى بتأدية المرام، وقد اختلفوا ة ي البدل هل هو بدل كل أو اشتمال، أو بعض لأنّ كونهم معهم عام في المعية الشاملة للاستهزاء والسخرية، وبما قرّرناه لك علم أنه يرد على ما قالوه أمور. منها أنّ قول أبي حيان البدل على نية تكرار العامل إلخ كلام مموّه ليس بشيء، وان ذكره النحاة على ظاهره.
ومنها أنّ قول الفاضل المحقق أنّ البدل لا يحتاج إلى اعتبار أحد اللازمين بخلاف التاكيد السابق ممنوع أيضا لأنا قد بينا لك أوّلا أنهما متغايران متباينان بحسب الظاهر، فلا تتأتى البدلية المعتبرة فيه بدون الاتحاد كلا أو جزءاً أو اشتمال أحدهما على الآخر وتحقير الإسلام وتعظيم الكفر إن لم يتحدا فأحدهما متضمن ومستلزم للأخر كما لا يخفى، ولهذا اتفق الشيخان على تأويله بما ذكر.
ومنها أنّ قوله إنّ أرباب البيان لا يقولون بذلك في الجمل التي لا محل لها من الإعراب
إلخ لا وجه له أيضاً، لأنّ أهل المعاني استشهدوا له بقوله {الَّذِي أَمَدَّكُم بِمَا تَعْلَمُونَ أَمَدَّكُم بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ} [الشعراء: 132- 133] وقوله {؟ اثبعوا ال! هـ سلين اتبعوا من لا يسألكم أجرا} [يى، 1 لآية: 21] وقوله:
أقول له ارحل لا تقيمن عندنا
وهذا كله مخالف لما ادّعاه فليت شعري من أرباب البيان، ثم إنّ ما فسر به ما لا محل
له لا سند له فيه لأنه يدخل فيه جواب الشرط، والمفعول الثاني من باب علم ولا قائل بأنه لا محل له فتأمّل.
ومنها أنّ قول الشريف في تقرير البدلية فاستأنفوا إلخ غير مناسب لتقرير البدلية فتأمّل.
ومنها أنّ ما نقل عن بعض الحواشي من ذكر يضاعف له العذاب في البدل من الجملة لا
وجه له، لأنه بدل من الفعل المجزوم وحده لا من الجملة، والفرق بينهما ظاهر، وما أوّل به البدل ظاهر الخلل فاعرفه. قوله:(أو اسنئناف إلخ) قال قدس سرّه: الحمل على الاستنئاف أوجه لكثرة الفائدة وقوّة المحرّك للسؤال والوجوه بيان لترك العاطف بين الجملتين في كلامهم
وأمّا تركه في حكايته فللموافقة فيما هو بمنزلة كلام واحد وعلى هذ " ا " المتوجيح جرى غيره من الشرّاح حتى قيل إنه أبمغ من الأوّلين والثاني من الأوّل، فذكر الوجوه على نهج الترقي وهذا تعكيس للصنيع منهم من غير داع إليه، وقد قال الشيخ في دلائل الإعجاز: في فصل عقده لأنما موضوع إنما أن تجيء لخبر لا يجهله المخاطب، ولا يدفع صحته، وهذا يقتضي أنّ تقدير السؤال هنا أمر مرجوح، وما بالكم بمعنى ما شأنكم وحالكم وقوله (توافقون) جملة حالية وهي المسؤول عنها في الحقيقة، كما في قوله:
مابال عينك منها الماءينسكب
وسيأتي بيانه. قوله: (والاستهزاء السخرية إلخ) هزئت به من باب تعب، ونفع والاسم
الهزؤ بضم الزاي وسكونها وهو مهموز والاسنخفاف إستفعال من الخفة ضد الثقل، والمراد به الاستهانة لأنّ معنى السخرية والاستهزاء كما قاله الغزالي الإستحقار والإستهانة والتنبيه على العيوب والنقائص على وجه يضحك منه، وقد يكون ذلك بالمحاكاة في الفعل والقول، وقد يكون بالإشارة والإيماء، وإذا كان بحضرة المستهزأ به لم يسم غيبة اهـ فقول الإمام إنه عبارة عن إظهار موافقة مع إبطاق ما يجري مجرى السوء على طريقة السخرية غير موافق للغة والعرف، وقوله: يقال هزأت واستهزأت بمعنى يعني كما قال الراغب: إنّ الاستهزاء طلب الهزؤ وقد يعبر به عن تعاطي الهزؤ كالإستجابة في كونها إرشاد للإجابة، وان كانت قد تجري مجرى الإجابة قال تعالى {قُلْ أَبِاللهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِؤُونَ} [التوبة: 65] أي تهزؤن والهزؤ مزح في حقه اهـ. قوله: (وأصله الخفة إلخ) أي المعنى الذي اعتبر في هذه المادّة بحسب أصله المنقول عنه الخفة، فإنّ الاستهزاء من الهزء وهو القتل السريع وفي الكشاف، وأصل الباب الخفة من الهزء، وهو القتل السريع وهزأ يهزأ مات على المكان عن بعض العرب مشيت، فلغبت فظننت لا هزأنّ على مكاني، وناقته تهزأ به أي تسرع وتخف قال ابن الصائغ
ومن خطه نقله قونه على المكان: كأنه أخذه من قول العربي لأهزأنّ على مكاني، وهذا لا يقتضي أنّ المكان داخل في تفسير هذا وأدخل نون التأكيد لأنّ هذه الأفعال تتلقى بما يتلقى به القسم قال: ولقد علمت لتأتين منيتي.
وظن كعلم اهـ. والهزء في قوله: من الهزء بزنة الضرب، وما اعترض به من عدم التدبر، فإن قوله على مكانه بمعنى فجاة كأنه لم يمهل حتى ينتقل عن مكانه إلى محل آخر، خلا بد من دخوله في تفسيره وهو كأاية كما ذكر. قوله:(يجازيهم على استهزائهم) بيان لحاصل
المعنى والمجازاة المكافأة والمقابلة ويتعدى بالباء وعلى، وقال الراغب: جزيته بكذا وجازيته ولم يجيء في القرآن إلا جزى دون جازى وذلك لأنّ المجازاة هي المكافاة والمكافاة مقابلة نعمة بنعمة هي كفؤها ونعمة الله تتعالى عن ذلك، ولهذا لا يستحمل لفظ المكافة في الله تعالى. اهـ ويرد عليه قوله تعالى {وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ} [سبأ: 7 ا] وسيأتي تمامه إن شاء الله تعالى. قوله: (سمى جزاء الاستهزاء باسمه إلخ) قيل لما كان الاستهزاء بمعنى السخرية محالا على الله تعالى لكونه جهلا لقول موسى عليه الصلاة والسلام {أَعُوذُ بِاللهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ} [البقرة: 67] في جواب {؟ أتتخذنا هزؤا} [القرة: 67] أحتيج إلى التأويل، فذكر المصنف رحمه الله وجوها مدار الأوّلين منها على اعتبار الاستهزاء في جانب المستهزأ بهم، وجعل المذكور جزاء له على الأوّل، وارجاع وباله عليهم على الثاني، ومدار الأخيرين على اعتبار الاستهزاء المذكور في جانب المستهزىء وجعله مجازاً عن إنزال الغرض! منه بهم على الأوّل وعن المعاملة معهم معاملة المستهزىء على الثاني.
(أقول) تبع في هذا الإمام ومن حذا حدّوه وفي مدعاه ودليله ما لا يخفى أمّا الأول: فلأنّ
حقيقة الاستهزاء التحقير على وجه من شأنه أنّ من اطلع عليه غيره يتعجب منه ويضحك، وأيّ استح لله لة في وقوع هذا من الله وأمّا الثاني: فلأنه لا وجه لكونه جهلاً، وأمّا الآية فسيأتي تأويلها ولو سلم فامتناعه من البشر لا يقتضي إمتناعه من الله على ما فصله علم الهدى في التاويلات، وقال السمرقندي في تفسيره ذهب الحسين بن النجار، وطائفة من أهل التأويل أنّ الاستهزاء هنا على حقيقته وهو مما يوصف به الله من غير مانع واليه ذهب أهل الحديث قالوا: وإنما لم يجز من الخلق لما فيه من النقص والجهل، وهذا مما لا يتصوّر في حقه، فليس في الوصف به ضير كالتكبر، ومنعه من قياس الغائب على الشاهد، وذهب كثير من أهل السنة والجماعة إلى أنه لا يوصف به الله تعالى حقيقة لما فيه من تقرير المستهزأ به على الجهل الذي فيه ومقتضى الحكمة والرحمة أن يريه الصواب، فإن كان عنده أنه ليس متصفاً بالمستهزأ به، فهو لهو ولعب لا يليق بكبريائه فلذا أولوا هذه الآية بما ذكره المصنف كغيره. قوله:(إمّا لمقابلة اللفظ باللفظ إلخ) هذا بناء على أنّ الاستهزاء لا يليق به تعالى ولا يجري عليه حقيقته، ولا بذ من تأويله واقترانه بمسوغ له كأن يقال أطلق على مجازاة الله لهم لما بين الفعل وجزائه من الملابسة القوية، ولما في الأوّل من السببية مع وجود المشاكلة المحسنة، ولذا تعدى بما تعدى به الآخر، فالمراد بالمقابلة المشاكلة، وأمّا تحقيقها من أي أنواع المجاز هي وهل تجامع الاسنعارة أم لا فسيأتي عن قريب، وهذا هو الوجه الأوّل من وجوه التأويل. قوله: (أو لكونه مماثلَا له (يعني أنه استعارة تبعية بعلاقة المشابهة في المقدار، وقيل: إنه مجاز مرسل بجعل جزاء الاستهزا، تابعاً له مترتبا عليه مناسباً له في القدر وفيه نظر وعليهما فقد أطلق عليه تنبيها على عدله في الجزاء كما قال تعالى {جَزَاء وِفَاقًا} [النبأ: 26] وهذا هو الوجه
الثاني. قوله: (أو يرجع وبالى الاستهزاء عليهم) يرجع بضم الياء من الإرجاع مبنياً للفاعل أو المفعول، أو بفتحها من الرجع أو الرجوع، لأنّ رجع يكون متعدّيا ولازما كما ذكره شراح الحماسة في قوله:
عسى الأيام أن يرج! ش قوماً كالذي كانوا
وقيل: إنه من المتعدي وليس بلازم. وقوله: (فيكون افلأ تقدس وتعالى كالمستهزىء
بهم) في صدوا ما يترتب على الاستهزاء فيكون الاستهزاء استعارة لردّ وخامة استهزائهم عليهم للمشابهة في ترتب الأثر، فيكون يستهزىء استعارة تبعية أيضا لكن بوجه يغاير الوجه الأوّل، فبطل ما قيل إنّ العطف بأو في قوله: أو يرجع ليس كما ينبغي لأنّ مؤدّى المعطوفين واحد اللهمّ إلا أن يحمل الأوّل على الجزاء الأخروي، والثاني على الدنيوي
لما تحققت من الفرق الذي بينهما كذا قيل، ومن الناس من اتبعه فيما ذكر الآ أنه جعله مع ما قبله وجهاً واحداً ولا وجه له، وقيل يرجع معطوف على يجازيهم والاستعارة معتبرة في المسند إليه بأن شبه بالمستهزىء بسبب رجوع وبال الاستهزاء إليهم، ويجوز أن يكون من المجاز المرسل لإطلاق اسم السبب على المسبب فإنّ استهزاءهم سبب لرجوع وباله عليهم، وقيل: إنه كناية عن اختصاص ضرر الاستهزاء بهم كما في قوله تعالى {وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَاّ أَنفُسَهُم} [البقرة: 9] وقيل: هدّا تجوّز في الإسناد وما قبله في المسند، فالاستهزاء مجاز فيه، وفي هذا على حقيقته غير أنه أسند إلى غير ما هو له تشبيهاً لمن يردّ وبال الاستهزاء على المستهزىء بالمستهزىء، لكن قوله: أو ينزل بهم الحقارة إلخ لا يلائص4 لأنه أيضا تجوز في المسند فيجعل ردّ وبال الاستهزاء أيضا معنى مجازياً للاستهزاء لشبهه به، والحق أنه على هذا فيه استعارة مكنية، وتخييلية بجعل الله جل جلاله كالمستهزىء بهم، واثبات الاستهزاء له تخييلاً، وعبارة المصنف رحمه الله نص فيه، ولا بأس عليه وهذا أحسن مما ذكروه لما فيه من التكلف والتعسف، فإن قلت: إذا لم يتصف البارىء بالاستهزاء حقيقة لا يطلق عليه المستهزىء وتشبيهه تعالى بغيره لا يخلو من الكدر قلت: إذا صح تشبيه، فعله تعالى، وهو العقاب ورد وبال الأفعال الرديئة على أصحابها بالاستهزاء، فلا مانع من إطلاق المستهزىء عليه، كما أطلق الخادع ونحوه في قوله {وَهُوَ خَادِعُهُمْ} [النساء: 142] {اللهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [الأنفال: 30] ورب شيء يصح تبعاً ولا يصح قصدا، وله تعالى أن يطلق على ذاته المقدسة ما يثاء تفهيما للعباد وتجليا لعيون المعاني في مرائي الألفاظ. وقوله:(يرجع) معطوف على فوله مقابلة اللفظ باللفظ كما في قوله تعالى {أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ} [الملك: 9 ا] والوبال بالفتح من وبل المربع بالضم إذا وخم ولما كان عاقبة المرعى الوخيم إلى الشرّ صار خقيقة في؟ ل شرّ وسوء عاقبة وهو المراد. قوله: (أو ينزل بهم الحقارة إلخ) البوار كالهلاك وزنا ومعنى، وينزل مضارع انزل الغائب، وعلى هذا هو مجاز
مرسل بعلاقة انلزوم العادي، أو السببية في التصوّر والمسببية في الوجود وفائدته التنبيه على أنّ حالهم حقيق بأن يسخر منه ويهزأ به. وقوله:(والنرض! منه الخ) وجه آخر وعلاقة أخر! ، أو هو تفسير للازم وهو الأظهر الذي مشى عليه ا! ئر، فسمي لازم الاسنهزاء استهزاء وعطف هذا كالذي فبله، وفي شرح الكشاف يعني أنه مجاز عما هو بمنزلة الغاية للاستهزاء، فيكون من إطلاق المسبب على السبب نظرا إلى التصوّر وبالعكس نظرا إلى الوجود. قوله:(أو يعاملهم معاملة المستهزىء إلخ) أي يفعل بهم فعله وأصل المعاملة التصرّف في الأمور، وهذا هو الجواب الأخير وهو الذي ذكره في انكشاف بقوله، ويجوز أن يراد به ما مرّ في يخادعون من أنه يجري عليهم أحكام المسلمين في الظاهر، وهو مبطن بادّخار ما يراد بهم، وهو محتمل للاستعارة التبعية والتمثيلية، وأمّا كلام المصنف فنص في التمثيل لا يكاد يحتمل خلافه لذكره أوّلاً التجوّز في الطرفين، ومن لم يتنبه لهذا اغتر بقول بعض شرّاح الكشاف أنّ الاستعارة تبعية، فتوهم اتحاد كلام المصنف، وما في الكشاف فقال: إنها استعارة تمثيلية، أو تبعية تخييلية شبه صورة صنع الله معهم في الدنيا بإجراء أحكام الإسلام واستدراجهم بإدرار النعم، والإمهال مع أنهم من أهل الدرك الأسفل بالاستهزاء إلى آخر ما ذكروه والاستدراج الإدناء من الشيء درجة، وسيأتي تحقيقه في قوله تعالى {سَنَسْتَدْرِجُهُم مِّنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ} [القلم: 44] وقوله بالإمهال متعلق بقوله بالاستدراج، والزيادة بالجر معطوف عليه. وقوله:(على التمادي إلخ) ظرف مستقرّ في موضع الحال قال المرزوقي: قولهم على أنه يكون كذا يجري في كلام العرب مجرى الاستدراك، وهو في موضع نصب على الحال وهذا كما تقول ما أترك حقه على ظلع بي أي أؤدّيه ظالعاً فمن قال: إنه متعلق باستدراجهم لم يصب، والتمادي في الشيء اللجاج والمداومة عليه، وأصله تمادد فأبدل أحد المثلين حرف علة للتخفيف وقيل: المدى الغاية والتمادي بلوغها. قوله: (فبأن يفتح لهم الخ) بيان لاسنهزاء الله بهم في الآخرة، وقد مرّ أن الاستهزاء والسخرية، كما يكون بالكلام يكون بالفعل، وهذا من الثاني، وهذا مأخوذ من حديث أخرجه ابن أبي الدنيا في كتاب الصمت عن الحسن قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إنّ المستهزئين بالناس يفتح لأحدمم باب إلى الجنة فيقال هلم هلم فيجيء بكربه وغمه فإذا جاء
أغلق ثونه ثم يفتح له باب آخو فيقال له هلم هلم فيجيء بكربه وغمه فإذا أتاه أغلق دونه فما يزال كدلك حتى إن الرجل ليفتح له باب قيقال هلم هلم فما يأئيه) (1) قال السيوطي: وهذا حديث مرسل جيد الإسناد، وكذا روي ما يقرب منه القرطبي في
تذكرته عن ابن المبارك وقوله (وذلك قوله) أي هو معنى هذه الآية وتفسيرها، ففيه مضاف مقدر. قوله:(وإنما استؤنف به إلخ) اختلف شراح الكشاف في هذا الاستئناف هل هو الاستئناف البياني، فهو جواب سؤال مقدر أولاً، أو هو محتمل لهما، فذهب إلى كل بعض من الشرّاح وأرباب الحواشي وقال بعضهم: إنّ الثاني متعين هنا لقول الزمخشريّ ابتدىء قوله {اللهُ يَسْتَهْزِىءُ بِهِمْ} وهذا بناء منه على أنّ الابتداء يختص بالاستئناف النحوي، وهي دعوى منه بلا دليل والمحققون من شراح الكشاف والمفتاح على تقدير السؤال، وذهب السكاكي إلى أنّ فيه مانعاً من العطف، لأنّ المعطوف عليه إمّا جملة قالوا واما جملة إنا معكم إنما نحن مستهزؤن، ولو عطف لكان مقولا لهم أو مقيدا بالشرط، وليس بمراد ثم قال ولك أن تحمله على الاستثناف من حيث أنّ حكاية الله حال المنافقين قبله تحرّك السامعبن أن يسألوا ما مصير أمرهم وعقبى حالهم، وكيف معاملة الله إياهم، فلم يكن من البلاغة أن يعرى الكلام عن الجواب، فلزم المصير إلى الاستئناف، وأنما أخره ومرّضه لما قيل من أنه يفهم منه كون المقام صالحا للعطف بل هو مقتضى الظاهر ولا يظهر ما يحسن عطفه عليه إلا قوله {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ} إلخ وهو بعيد لفظا ومعنى.
وقال قدس سرّه في شرح قول العلامة إنه استئناف في غاية الجزالة والفخامة إلخ أي ليس
ترك العطف فيه لدفع توهم كونه معطوفا على (إنا معكم) فيندرج حينئذ في مقول المنافقين، أو على قالوا فيتقيد بالظرف أعني وإذا خلوا بل هو لكونه استئنافا، وإنما كان في غاية الجزالة والفخامة لدلالته على أنهم بالغوا ني استهزائهم مبالغة تامّة ظهر بها شناعة ما ارتكبوه، وتعاظمه على الأسماع على وجه يحرّك السامع أن يقول: هؤلاء الذين هذا شأنهم ما مصير أمرهم إلخ ثم إنّ هذا إلاستئناف لم يصدر إلا بذكره تعالى لفائدتين الأولى التنبيه على أنّ الاستهزاء بالمنافقين هو الاستهزاء الأبلغ الذي لا اعتداد معه باستهزائهم لصدوره عمن يضمحل علمهم وقدرتهم في جانب علمه، وقدرته الثانية الدلالة على أنه تعالى يكفي مؤنة عبادة المؤمنين وينتقم لهم، ولا يحوجهم إلى معارضة المنافقين تعظيما لشأنهم، وفي هاتين الفائدتين تأييد لجزالة الاستئناف وفخامته وأورد صيغة الحصر في قوله: وفيه إنّ الله عز وجل هو الذي يستهزىء بهم الاستهزاء الأبلغ تنبيها على ما هو مدلول الكلام من أنّ بناء الفعل على الم! - أمطلقا عنده للاختصاص، ودلّ بقوله ولا يحوج المؤمنين أن يعارضوهم باستهزاء مثله على أنّ الحصر بالقياس إليهم أي هو المستهزىء دون المؤمنين لا يقال الاستهزاء بمعنى السخرية لا يتصوّر منه! تعالى، وبالمعنى المراد من إنزال الهوان والذل لا يتصوّر من المؤمنين، فكيف يتصوّر الحصمر لأنا نقول معناه أنمه تعالى يتولى الاستهزاء بالمعنى الذي يليق به، ولا يتولاه المؤمنون بالمعنى الذي يليق بهم، ويماثل أستهزإء المنافقين وفي كلامه إشارة إليه، فلا إشكال حيمئذ.
(أقول) سبقه إلى هذا الفاضل المحقق حيث قال: ليس ترك العطف لمجرّد دفع أن يتوهم
العطف إلخ وفي قوله لمجرّد إيماء إلى أنّ كلام الزمخشرقي غير مناف لكلام السكاكي إذ يجوز أن يقال ترك العطف لما فيه من المانع، ولجزالة الاستثناف وفخامته، وكونه مقتضيا لصلاحية المقام للعطف غير مسلم ولا أدري لم لم يجر قدس سرّه على سننه، وفي المانع المذكور كلام في كتب المعاني لا يهمنا الآن، فمن أراده فعليه بها إذا عرفت هذا ففيما قصصناه عليك أمور.
(منها) أنّ ئوله إن ترك العطف ليس للمانع المذكور بل هو لكونه استئنافاً في غاية الجزالة
إلخ يقتضي أنّ بين المسلكين تنافيا وليس كذلك لما سمعته آنفاً.
(ومنها) أنّ ما ذكره من الفائدتين، وانّ فخامة الاستئناف بواسطتهما لا وجه له، فإنهما ما
جاآ من الإسناد إلى ألله تعالى وتصدير اسمه الكريم، فالفائدتان متحققتان على تقديري الاستئناف وعدمه وفي كلام الفاضل ألمحقق إشارة إليه وقد ردّه بعضهم بما في عبارة العلامة وإيراده الواو في قوله: وفيه أنّ الله عز وجل هو الذي إلخ وسياتي ما يدفعه.
(ومنها) أنّ ما ذكره تبعاً للشارح المحقق من السؤال والجواب، وقال: إنه لا إشكال فيه،
لم يتضح لي حل عقدة الإشكال بما ذكروه، فإنه من قصر الصفة على
الموصوف، والمعنى ما المستهزىء بهم الآ الله سواء كان قصر قلب، أو إفراد والمذكوو في المعاني أنه لا بد أن تكون الصفة واحدة من الجانبين، وأمّا تغايرها فيهما ودعوى اتحادها فلم نر له نظيراً في كلامهم، وما هو إلأ كأن يقول زيد ضارب لا عمرو والثابت لزيد ضربه بسيفه، والمنفيّ عن عمرو ضربه بسوطه، وإن قيل إنّ الاستهزاء على هذا محمول على ما يطلق عليه الاستهزاء على طريقة عموم المجاز، فيتحقق مفهوم عام يضاف إلى الله تعالى، وألى المؤمنين، ولذا ترك المصنف الحصر، وعدل عما في الكشاف لابتنائه على خلاف المرضى من إفادة مطلق البناء على الفعل له، ولما -. . ر، ثم أنه وقع هنا في لعض الحواشي كلام طويل لغير طائلى، فلذا
ليه من العسص المدكو.
ضربنا عنه صفحا تجاوز إلله عنه. قوله: (ليدلّ على أن الله ئعالى إلخ) قيل: إنّ للاستئناف مطلقا هنا نكتة، وهي الإشارة إلى أنّ ما ارتكبوه من الاستهزاء أبلغ في الشناع والتعاظم على الأسماع إلى حد يقول كل سامع له ما مصير هؤلاء وعقبى أمرهم، وكيف عاملهم الله تعالى، والمصنف رحمه الله لم يتعرّض لها بل لما في الاسيتئناف من النكتتين حيث لم يصدر بذكر المؤمنين الذين كان ينبغي أن يعارضوهم بقوله ليدل إلخ. ولا يخفى ما فيه من الخلل لعدم التدبر فيما قالوه، فإنّ ما ذكره ليس نكتة للاستئناف بل بيانا للسؤال المقدر، ومنشئه والقرينة الدالة عليه هنا مع ما في تقريره مما لا يخفى، ثم أنه يرد عليه، وعلى المصنف رحمه الله ما قدّمناه من أنّ ما ذكر يؤخذ من إسناد الاستهزاء إلى الله وتصدير الجملة بذكرهـ سواء! (نت مستأنفة أم لا، والمصنف رحمه الله غير عبارذ الكشاف فوقع فيما وقع فيه، رلد أن تتكلول لو! حش--، إ / ن! - لم خ 9 لمءه 3
عطف لم يكن جواباً للسؤال المذكور، ولا جزاء لاسنهزائهم لأنه يصير المعنى أنهم قالوا: إنما نحن مستهزؤن. وهم هزأة في أنفسهم الله مستهزىء بهم، وإذا كان جواباً وجزاء فقد تولى الله جوابهم بنفسه تعظيماً وتكريماً للمؤمنين، ولم يكل الجواب إلى المستهز! بهم كما هو مقتضى الظاهر إشارة إلى أنه يجازيهم بما لا يقدر عليه البثر، وهذا إنما نشأ من الاستئناف، وتغيير الأسلوب بفحوى المقام كما لا يخفى على من له نظر سديد. وقوله:(لا يؤبه به) بضم الياء التحتية وهمزة ساكنة يجوز أن تبدل واو أو باء موحدة مفتوحة، وهاء أي لا يعتدّ به لحقارته، ومثله يعبأ به، وهو متعد بالباء وعدّي في الحديث باللام وهذا إنما يتأتى على غير الوجه الثاني في معاني الاستهزاء. فتأمّل. قوله:(ولعله لم يقل الله مستهزىء إلخ) قال الفاضل المخقق في بيان ما في الكشاف من أنه لم يقل الله مستهزىء بهم ليطابق قوله إنما نحن مستهزؤن. كما هو مقتضى الظاهر لأن يستهزىء يفيد حدوث الاسنهزاء وتجدده، وقتاً بعد وقت يعني أنه لكونه فعلا يفيد التجدّد والحدوث، ولكونه مضارعاً صالحاً للحال يفيد الحدوث حالاً، وكونه مستعملا في مقام لا يناسب التقييد بحال دون حال يفيد التجدد حالا بعد حال وهو معنى الاستمرار، وهذا كما صرّحوا به يفيده المضارع مطلقاً، لا إذا قدم المسند إليه، فصار جملة اسمية حتى يصل التجدّد من الفعل، والاستمرار من كون الجملة اسمية على ما توهمه البعض ألا ترى أنّ في قوله تعالى {وَوَيْلٌ لَّهُمْ مِّمَّا يَكْسِبُونَ} [البقرة: 79] وقوله تعالى {لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِّنَ الْأَمْرِ} [الحجرات: 7] وغير ذلك قد دل المضارع على التجدّد والاسنمرار من غير تقديم للمسند إليه، وينبغي أن يعلم أنّ هذا غير مستفاد من الجملة الاسمية، فإنه متأت واستقرار لا استمرار بمعنى الحدوث حالا فحالا ومرّة بعد أخرى، وفي شرح الطيبي أنه من اقتضاء المقام، فإنك إذا قلت فلان يقري الضيف عنيت أنه اعتاده واستمرّ عليه لأ. أنه يفعله أو سيفعله، وقد يقال إنّ هذا أبلغ من الاستمرار الثبوتي الذي تفيده الاسمية لأنّ البلاء إذا استمرّ قد يهون وتألفه النفس كما قال المتنبي:
حلفت ألوفا لو رجعت إلى ا! ب لفارقت شيبي موجع القلب باكيا
وكما قلت أنا:
ألفت البكاء فلو زال عن عيوني بكته جميع الجوارح
وقوله: (ليطابق تعليل للمنفي وارساء) تعليل للنفي وعداه بالباء، وهو يتعدّى بإلى أو
اللام تسمحاً، أو لتضمنه معنى الاعتناء، والنكايات جمع نكاية بمعنى العقوبة، وفعله نكأت ونكيت، وهو من نكأت العدوّ إذا أكثرت
فيه الجرح والقتل حتى وهن، كما في النهاية الأثيرية. قوله:(يحدث حالا فحالا ويتجذّد حيناً بعد حبن) إشارة إلى أنه مستفاد من المضارع،
وأنه غير الاستمرار المستفاد من الجمنة الاسمية كما مرّ، وما في شرح الكشاف للعلامة الرازي من توجيه الجواب بأنه لو قال الله مستهزىء بهم حتى تكون الجملة اسمية لزم أن يكون استهزاء الله تعالى بهم ثابتا دائما، وهو لا يليق بالحكيم العليم، ولو قال: يستهزىء الله دل على أنّ الاستهزاء ينتقل عنهم، وهو ليس بمراد فقال تعالى {اللهُ يَسْتَهْزِىءُ بِهِمْ} حتى يفيد تجدّد الاستهزاء بحسب الفعل، وإنّ ذلك المتجدد ثابت دأئماً بحسب الجملة الاسمية فهذأ لا يتم لأنّ المسند إذا كان اسماً دل على الثبوت، وان كان فعلا دلّ على التجدد سواء تقدم المسند إليه أو تاخر كما لا يخفى وقد مرّ ما فيه، وقيل فيه بحث لأنا لو سلمنا إنّ المسند إذا كان فعلَا دل على التجدد سواء تقدّم المسند إليه 4 أو تأخر لكن لم لا يجوز أن يدل تقدم المسند إليه على الثبوت لصيرورة الجملة اسمية والجمع بين الدلالتين بأن يراد استمرار التجدد، وهو أن يتجدد فرد وينقضي ثم يتجدّد فرد آخر، فالاستمرار في النوع والتجدّد في الافراد، وقيل في التفصي عنه أنّ الجملة الاسمية الدالة على الثبات هي التي كل واحد من جزأيها اسم وأمّا التي الجزء الثاني منها فعل فلا كما صرّح به الكاشي في شرح المفتاح، فالوجه إنه يستفاد من المضارع كما حققناه لك، ثم إنّ قوله إنّ استهزاء الله بهم دائما لا يليق بالحكيم العليم قيل عليه انه لا وجه له، فإنّ الاستهزاء بمعنى إنزال الهوان، والحقارة بأعداء الدين ولا ضرر في دوامه بل قيل إنّ دوامه هو اللائق بالحكيم، ودفع بأنّ المراد بعدم اللياقة أنّ مقتضى الحكمة أن لا يديم الهوان والنكال حتى يألفوه، ويتمرّنوا على مقاساته، فيخف عليهم وقعه، ولا يخفى أنّ سياق كلامه يأبا. فليحرّر. قوله:(من مدّ الجيش إلخ) مد وأمد بمعنى وبهما قرىء هنا، وفي الأعراف في قوله تعالى {يَمُدُّونَهُمْ} [الأعراف: 202] بضم الياء وكسر الميم وبفتح الياء وضم الميم وفي الدر المصون المشهور فتح الياء من يمدهم وقرىء شاذاً بضمها، وفيه نظر لأنّ المصنف رحمه الله عزى الضم لابن كثير لكنها لم تثبت عنه في السبعة، واستدل بها لما ادعاه فإنّ القراءات يعضد بعضها بعضا، وهذه من الإمداد، وهو لم يرد بمعنى الإمهال عنده قال أبو عليّ في الحجة: عامّة ما جاء في التنزيل فيما يحمد وششحب أمددت على أفعلت كقوله تعالى {أَنَّمَا نُمِدُّهُم بِهِ مِن مَّالٍ وَبَنِينَ} [المؤمنون: 55] وقوله {أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ} [النمل: 36] وما كان خلافه يجيء على مددت كما هنا وقال أبو زيد أمددت القائد بالجند وأمددت الدواة، وأمددت القوم بمال ورجال وقال أبو عبيدة: يمدونهم في الغي أي يزينون لهم يقال: مد له! ي غيه، وهكذا يتكلمون بهذا، فهذا مما يدل على أنّ الوجه فتح الياء، كما ذهب إليه أكثر ووجه ضمها أنه بمنزلة قوله فبشرهم بعذاب أليم. اهـ وما ذكره المصنف رحمه الله تغ فيه الزمخشريّ حيث قال: إنه من م! د الجيش، وأمده إذا زاده والحق به ما يقويه، ويكثره فهو من المدد دون المد في العمر وهو الإملاء، والإمهال وكفاك دليلا على أنه من المدد دون
المد قراءة يمدّونهم بضم الياء على أنّ الذي بمعنى أمهله إنما هو مد له مع اللام كاملى له يعني أنّ هذه المادّة وودت مستعملة بمعنيين في مقامين أحدهما إلحاق الشيء بما يقوّيه، ويكثره وذلك الملحق يسمى مدداً، وثانيهما الإمهال ومنه مد العمر ومدّ الله في الغي والواقع في النظم من الأوّل دون الثاني لوجهين أحدهما أنه قرىء بضم الياء من المزيد، وهو لم يسمع في الثاني وثانيهما أنه متعد بنفسه، والثاني متعد باللام والحذف والإيصال خلاف الأصل فلا يرتكب بغير داع، ودليل وغيره من أهل اللغة لا يسلمه، فورد عندهم كل منهما ثلاثيا ومزيداً ومعدى بنفسه وباللام، وكلاهما من أصل واحد ومعناهما يرجع إلى الزيادة وتعدّى هذا باللام منقول عن أبي عبيدة والأخفش، وقال الجوهريّ: مددت الشيء، فامتذ والمادّة الزيادة المتصلة ومد الله في عمره ومده في غيه أي أمهله وطوّل له، والفرق بين الثلاثي والمزيد إنما هو بكثرة استعمال أحدهما في المكروه والآخر في المحبوب فمدّ في الشرّ وأمدّ في الخير عكس وعدوا وعد، وقيل مده زاده وأمده من غيره. وقوله: (بالزيت والسمادا لف وششر مرتب للسراج والأرض! والسماد بفتح السين، وتخفيف الميم وآخره دال مهملة قال في المصباح السماد وزان سلام ما يصلح به الزرع من تراب وسرقين، أي زبل وسمدت الأرض تسميدا أصلحتها
بالسماد وقوله لا من المد إلخ، قد عرفت ما له وعليه، وانه تبع فيه الزمخشريّ. قوله:(والمعتزلة لما تعذر عليهم إلخ) إنما تعذر لأنهم قالوا بقبح إيجاد القبيح وخلقه وبوجوب ما هو الأصلح للعباد على الله تعالى، والآية بظاهرها تنافي ذلك لأنّ الطغيان قبيح كزيادته، ومثله لا يصدر عنه تعالى على زعمهم فأوّلوه بوجوه بناء على زعمهم الفاسد من أنه لا يصدر عته ولو صدر عنه كيف يذمّهم عليه، ولذلك فسره بعضهم بالإمهال لكنيم لم يرتضوه لأنّ اللغة لا تساعده. وقوله:(منعهم الله تعائى ألطافه إلخ) إشارة إلى أوّل وجوه التأويل، وهو أنه تعالى منعهم ألطافه التي منحها غيرهم وخذلهم لكفرهم وما هم عليه فتزايد رين قلوبهم وظلمتها فسمي ذلك الزإئد مددا في الطغيان وأسند إليه تعالى ففيه مجاز لغوي في المسند وعقلي في الإسناد باسناد الفعل لمسببه، وفاعله في الحقيقة الكفرة، وألطافه جمع لطف كقفل وأقفال، وهو عند المتكلمين ما يختار عنده المكلف الطاعة تركا واثباتا وينقسم إلى توفيق وعصمة.
وقال القشيري اللطف قدوة الطاعة على الصحيح، ويسمى ما يقرّب العبد إلى الطاعة، وبوصله إلى ا) خير أيضاً لطفاً كما سيأتي، ومنح بمعنى أعطى والخذلان ترك المساعدة، والرين صدأ يعلو الحلي استعير لما يمنع قبول الحق، والاهتداء له كالظلمة يعني أنهم لما أصروا على الكفر لم يساعدهم الله لمنعهم لطفه عنهم فتزايد رين قلوبهم فسمي ذلك التزايد مدداً، وأسند إلى الله لأنه المسبب لسببه فهو السبب إلبعيد ففيه تجوّزالن كما مز، والكفر والرين ومدده من
أفعال الكفرة عندهم، وقوله يسبب كفرهم متعلق بمنعهم أو خذلهم، وهو جواب عن سؤال مقدر أي لم منع بعض عباده، ومنح أخرين والكل عباده، ومثله لا يحسن عقلا عندهم فأجيب بأنهم تسببوا لذلك بالكفر والإصرار، وردّ بأنّ المتبادر من كونه مسببا أنه خالق السبب، ومنع الألطاف عدميّ لا يتعلق به الخلق، فإن قيل يدفعه قوله خذلهم فإنّ الخذلان تيسير أسباب الغواية كما إنّ اللطف تيسير أسباب الهداية، وقعوا فيما فرّوا منه فإنّ تسبيب القبيح قبيح، وأن كان قبحه دون قبح إيجاده، ثم إنه ينقل الكلام إلى ما قبل الكفر والإصرار فإن قالوا بوجود الألطاف عندها كان مكابرة لأنها لو كانت ما كفروا، ولا أصرّوا فالحق ما ذهب إليه أهل الحق فتدبر. قوله:(فتزايدت بسببه قلوبهم) الظاهر أنه ماض معطوف على منعهم لا جواب لما مع الفاء، وان كاد جائزا أيضا فإنّ جوابها يكون ماضيا بلا فاء، وقد يكون معها وبكون مضارعا وجملة اسمية مع إذا الفجائية، والفاء كما فصله شراح التسهيل، وقوله تزايد قلوب المؤمنين مصدر منصوب على إنه مفعول مطلق لقوله تزايدت تشبيهيّ كما تقول وقيته وقى الكتاب، وأمّا كونه ماضيا جواباً للما هربا من اقتران الجواب بالفاء فمع أنه لا حاجة إليه بعيد بحسب المعنى لأنه لا تعرض له في الآية، وان لزم معناها. قوله:(أو مكن الشيطان من إغوائهم) إلخ عطف على منعهم، وأسند جواب لما الثانية كما مرّ، وهو مجهول وهذا هو الوجه الثاني من تأويلات المعتزلة، وحاصلها كما قال قدس سرّه إنه إمّا أن يكون سمي ما تزايد من الرين مدداً في الطغيان، وفيه تجوّز إن كما مرّ أو أريد بالمد في الطغيان ترك القسر والإلجاء إلى الإيمان وهو فعله تعالى واسناده إليه حقيقة والمسند مجاز أو المراد معناه الحقيقي، وهو فعل الشيطان لكنه أسند إليه تعالى مجازا على مذهبه لأنه بتمكيته واقداره، وقد يتوهم أنّ إيقاع المد عليهم تجوّز لازم على كل مدّهب لأنّ حقيقته أن يوقع على الطغيان، ونحوه مما يقع فيه الزيادة، ودفع بأنّ المفهوم من مدّ طغيانهم ومذهم في طغيانهم واحد.
(وههنا مباحث جليلة) :
(الأوّل (أنه أورد على ما في الكشاف، وشروحه كما سمعته آنفا إنه جعل منع الألطاف سبب الإصرار على الكفر، ولا شك أنّ الكفر والإصرار عليه سبب لمنع الألطاف ففيه دور، وقد مرّ إيماء إليه، ثم إنه جعله فعلَا للشيطان في الوجه الثاني، والشيطان لا يقدر على خلق شيء في العبد باتفاق منا ومنهم، وإنما هر مغو بوسوسته وتزيينه ولا يقدر على غير ذلك كما حكاه الله عنه في قوله {وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُم مِّن سُلْطَانٍ إِلَاّ أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُواْ أَنفُسَكُم إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي فلا تلوموني ولوموا أنفسكم} [إبراهيم: 22] فتعين إن محدثه العبد عندهم، وقول المعتزلة كما حكاه الزمخشريّ إنه فعل الشيطان لا يقوله شيطان أصلا كما قيل:
ما أقبح الشيطان لكنه ليس كما قالوا وما صوّروا
وقد أجيب عن هذا بأنّ منع الألطاف سبب الكفر، والإصرار عليه، ثم بعد ذلك يكون
الكفر المستمرّ مانعاً لألطاف أخر فلا دور فيه والمراد بكونه فعل الشيطان إنه حدث من العبد بوسوسته فهو مجاز في الإسناد والأول صحيح، وأمّا الثاني فغير صحيح كما لا يخفى، وقد صرح الشراح بخلافه.
(الثاني) أنه أورد على الأوّل، وكونه مجازا في المسند والإسناد إنه إن كان المدد وإعطاؤه مختصا بالأجسام كما يتبدر من كلام الأساس لا يصح إنه لا تجوّز في الوجه الأخير إلا في الإسناد، لأنّ الشيطان لا يعطي المنافقين حبة يتقوى، ويتكثر بها طغيانهم إذ ليس منه إلا الوسواس وان كان أعمّ يتناول الذوات والصفات كالرين، والظلم لا يكون في المسند تجوز أصلَا، وأجيب عنه بإختيار الشق الثاني لكنه وإن عئم مخصوص بالمحسوس.
(الثالث) إنه على إرادة تمكين الشيطان قيل إنّ الإسناد إلى الشيطان أيضا مجازي، لأنّ
أصل الطغيان وزيادته من فعل الكفرة عندهم إلا أنه لما صدر منهم بإغواء الشيطان أسند إليه لكونه موجدا لسببه إذ لا قدرة له على غير الوسوسة كما مرّ لكن لما حصل ذلك بإغواء الشيطان، وكان إغواؤه بإقدار الله له عليه، وتمكينه منه فالله سبب بعيد، ولذا أسند إليه لأنه مسبب له بصيغة اسم الفاعل، ولا يخفى ما فيه من الخبط والخلل، وكيف يتوهم إسناده مجازا إلى الشيطان هنا، وهو مسند في النظم إلى الله تعالى فالظاهر أنّ المد تجوّز به عن تزيين الشيطان واغوائه لأنه سبب للزيادة إلا أنه لما شاع ذلك وكثر منه صار كأنه موجد له حقيقة، واسناده إلى الله تعالى مجازي أيضاً فهو كالأوّل في التجوز في المسند، والإسناد إلا أنه يغايره لمغايرة المتجوّز به فيهما، ثم أنّ المصنف رحمه الله خالف الزمخشريّ فطوى التجوّز بالمد في الطغيان عن ترك القسر والإلجاء الذي هو فعل الله وإسناده إليه حقيقة، وإن كان المسند مجازا لقربه من الأوّل لأن منع الألطاف وترك القسر كشيء واحد، ثم إنّ الظاهر أنه اختار أنه مجاز عن منع الألطاف، في الأوّل لا عما تزايد من الرين، ولذا ترك قول الزمخشريّ فسمي ذلك التزايد مددا فهو عنده مجاز في الطرف فقط، وأسناده حقيقيّ عنده فعدل عما في الكشاف لما فيه من تطويل المسافة وزيادة التجوّز، وهذا مما لم يتنبه له شراح هذا الكتاب، وهو من منح الكريم الوهاب، ثم إنّ السمرقندي رحمه الله قال في تفسيره هنا مدهم في الطغيان بمعنى خلق فعل الطغيان لأنّ المدّ متى أضيف إلى الأعيان يراد به الطول والعرض! للعين، والجسم وأن أضيف إلى الفعل يراد به الامتداد، وهو تجذد الفعل بتجدد الزمان، وهذا معنى قول الفقهاء أنّ للفعل الممتد حكم الابتداء نحو السكون والركوب ونحوهما، اهـ. فقد عرفت منه أنه لا يختص بالمحسوس صفة كان أو ذاتا وأنه يختلف باختلاف ما يضاف إليه، ومنه علم ما في
كلام بعض الشراح الذي سمعته آنفا. قوله: (وأضاف الطفيان إلخ) هذا وما بعده كله من كلام المعتزلة، وتأ! د أوهامهم الفارغة.
وقال قدس سرّه- لم ئيردّ الزمخشريّ-: إنّ هذه الإضافة تدل وضعاً على أنّ الطغيالط بإيجاد العبد لا بإيجاده تعالى حتى يرد عليه أنّ الأمور المخلوقة له تعالى إذا قامت بالعباد كالبياض تضاف إليهم إضافة حقيقية لا مجازية لأدنى ملابسة كما توهم فلا دلالة للإضافة على إيجاد العباد لها بل أراد أنّ الطغيان من الأفعال التي اكتسبوها باختيارهم استقلالاً، ولا تعلق لها به تعالى فحقه أن يضاف إليهم لا إله إشعارا بهذا الاختصاص لا بالاختصاص باعتار المحلية والاتصاف فإنه معلوم لا حاجة فيه إلى الإضافة، ولولا قصد هذا عريت عن الفائدة، ومثله معتبر في الخطابيات عند البلغاء، وردّ بأنّ هذه الخطابيات لا تعارض البراهين القاطعة بأنه لا خالق سواه وأنه لا يقع إلا ما أراده، وقيل عليه: إنّ الزمخشرقي عنى أنّ إثبات اللغو في كلام الله تعالى وترك اعتبار الدلالات الخطابية المعتبرة عند البلغاء مما لا يليق بمقام الإعجاز، وإن بنى عليه تأييد مذهبه وردّ مذهب أهل السئة لئلا يلزم هذان الأمران المنافيان لأسلوب الحكيم فلا يكفي في دفعه أنّ الدلالات الخطابية لا تعتبر مع الدليل القاطع الذي ذكره، فالجواب أنّ فائدة الإضافة الإشارة إلى أنّ نسبة الطغيان إلى العباد ليست بمجرّد المحلية بل باعتبار كسبهم إياه، وإن كان بخلق الله تعالى وارادته، وأيضاً يجوز أن تكون الإضافة للعهد على أنّ المراد بطغيانهم الطغيان الكاملى، ولا يخفى أنه فرّ من السحاب، ووقف تحت
الميزاب، فإنّ الإضافة لا تدل على الكسب ولا على عدمه، ألا ترى أنك تقول عبد زيد وبلدة فإنّ موضوعها إنما هو الاختصاص التام بايّ طريق كان فالظاهر أن يقال أنه للإشارة إلى أنّ طغيان غيرهم في جنبهم كلا شيء لادّعاء اختصاصهم به، وهذا أنسب بطريق البلاغة، ومصداق الشيء ما يصدقه أي يحققه ويدلّ على إنه أمر واقع وهو بكسر الميم صيغة مبالغة كما يقال فلان منحار ومطعام، وقد يكون مصدراً واسم مكان وزمان كميعاد وميقات، وليس هذا بشيء فإنّ تعريف اللام والإضافة متقاربان وهو تفنن وسيأتي تفسير هذه الآية في سورة الأعرإف. قوله:(أو كان أصله يمد لهم إلخ) عطف على لما منعهم إلخ، وقيل أنه عطف على قوله من مدّ الجيش، ولا يخفى بعده وهو قول الجبائي من المعتزلة، وهو أحد التأويلات لما تعذر عنده إبقاؤه على ظاهره كما مرّ، وإليه ذهب الزجاج وتبعه البغوي، وغيره من المفسرين ورجح كونه بمعنى الإمهال لأنه في حد ذاته إحسان وخير وهو تعالى لا يمدّهم في الشرّ وقد مرّ ما فيه وإنّ الحذف والإيصال خلاف لأصل وإنّ كونه لا يتعدّى إلا بالحرف غير مسلم عند أهل اللغة فتذكره هـ قوله:(كي يتنبهوا ويطيعوا إلخ) هذا أيضاً من تتمة التأويل، وكلام المعتزلة فإنّ المدّ في العمر فعل الله
تعالى حقيقة، وهو عندهم معلل بالإغراض! ، وجار على الوجه الأصلح الواجب عليه ليجري على وفق مصالح العباد فإمهالهم ليس للازدياد في المعاصي القبيحة حتى لا يسند إلى الله، وهذا وما بعده بناء على أنّ في طغيانهم ليس لغواً متعلقا بيمدّهم بل حال من ضميره أو متعلق بيعمهون مقدم عليه والجملة حالية، والمعنى أنه يمهلهم لينتبهوا وهم يزدادون طغيانا وعمى أو بمدهم من المدد أي يمدهم بالمال والبنين لأجل أن يصلحوا والحال أنهم بخلافه، وقد قيل على قوله كي ينتبهوا إلخ أنه لا يدل عليه اللفظ ولا السياق بل يدل على خلافه لأنّ قوله يمدهم معطوف على قوله يستهزىء بهم كالبيان له على أنّ الإمهال يكون للتنبيه والاسندراج والسياق يؤيد هذأ دون ذاك، والله تعالى عالم بعواقب أمورهم وأنهم لا ينتبهون فكيف يقصد خلاف ما يعلمه فإن أراد الاعتراض على المصنف فليس بوارد عليه لأنه ناقل لما قاله المعتزلة وان أراد بيان ما في نفس الأمر فلا ضير فيه، وقوله فيما ازدادوا إلخ الحصر مستفاد من المقام لا من حاق النظم. قوله:(أو التقدير يمدّهم إلخ) هذا جواب رابع للمعتزلة على أن يمدهم من المدد بإرشادهم للأدلة العقلية والنقلية، وافاضة ما يحتاجون إليه ليصلح حالهم واستصلاحا مبنيّ على مذهبهم في التعيل بالإغراض، والإستصلاح إرادة الصلاح، وقد قيل عليه إنه يلزم تخلف مراده تعالى، وهو مذهب المعتزلة وأمّا عندنا فمحال والكلام في تقرير مذهبهم فلا يضرنا، وأمّا أنه وارد على قوله تعالى {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [صورة الذاريات: 56] إلا أن يراد البعض منهم، وهم السعداء فهو ساقط ولك أن تفسر الإستصلاح بطلب الصلاح، والطلب غير الإرادة عندنا، وأمّا الآية فلا يرد عليها شيء كما توهم لأنّ ما خلق له الجن! غير ما أريد منهم وسيأتي تفسيرها في محلها فلا حاجة لتلقي الركبان وقوله وهم مع ذلك إلخ قيل إنه إشارة إلى أنّ يعمهون خبر مبتدأ محذوف، وفي طغيانهم متعلق به أو بيمدهم والظاهر أنه بيان لحاصل المعنى من غير تقدير فيه، ويعمهون حال من منصوب يمدهم أو من مجرور طغيانهم أو هما حالان من ضمير يمدهم وان منعه بعضهم وقيل إنه إشارة إلى تقدير مبتدأ، وأنّ الجملة مستأنفة لبيان عدم انتفاعهم بما أمدهم الله تعالى به. قوله:(والطيغان إلخ) المصدر يكون مضموماً كشكران ومكسوراً كحرمان، وقد سمعا في مصدر اللقاء كما أشار إليه المصنف، وقال الراغب: الفرق بين الطغيان والعدوان أنّ العدوان تجاوز المقدار المأمور بالانتهاء إليه، والوقوف عنده، والطغيان تجاوز المكان الذي وقفت فيه، ومن أخل بما عين من المواقف الشرعية والمعارف العقلية فلم يرعها فيما يتعاطاه فقد طغى ومنه طغى الماء أي تجاوز الحد المعروف فيه قيل، وابغي طلب تجاوز قدر الاستحقاق تجاوزه أو لم يتجاوزه وأصله الطلب ويستعمل في التكبر لأنّ المتكبر طالب منزلة ليست له، وقوله عن مكانه عدى التجاوز
بعن، وقد وقع مثله في كلامهم كما في عبارة الرضي والزمخشريّ السكاكيّ وقد اعترض! عليه السيد في حواشي الرضي فقال: جاوزت الشيء وتجاوزته بمعنى، وتجاوز عنه بمعنى عفا يعني أنّ المتعدي بعن، إنما هو بمعنى العفو والمغفرة
فهذه العبارة وأمثالها مخالفة لكلام العرب، وكأنه ضمن التجاوز معنى التباعد واليه ذهب كثير من الفضلاء، وقد وقع مثله في شعر من يوثق به ويجعل ما يقوله بمنزلة ما يرويه كقول أبي تمام في بعض قصائده:
فلا ملك فرد المواهب واللها تجاوز لي عنه ولا رشأدفرد
وقد تعرّض له الإمام التبريزي في شرحه، ولم ينتقده عليه وهو من أئمة اللغة وهذا مما
لم يقف عليه المعترضون كما بيناه في حواشي الرضي تجاوز الله عنه. قوله: (والعمه في البصيرة كالعمى في البصر (ظاهره إنهما متباينان لاختصاص أحدهما بالباطن والآخر بالظاهر، وهو مخالف لقول الزمخشريّ العمى عام في البصر والرأي، والعمه في الرأي خاصة لأنه جعل بينهما عموماً وخصوصا مطلقاً وهو المشهور، وقد أيد بقوله تعالى {فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} [الحج: 46] ولك أن تقول في التوفيق بينهما إن العمه مخصوص بالقلب والعمى بالبصر بل بالعينين إذ لا يقال لفاقد أحدهما أعمى بل أعور، ثم تجوّز به لما في القلب وشاع حتى صار حقيقة عرفية لغوية، ولذا لم يذكره في الأساس في المجاز فإن نظرنا لأصل الوضع كانا متغايرين كما ذكره المصنف وان نظرنا للاستعمال، والحقيقة الثانية كان كما ذكره الزمخشريّ ولذا كان له صفتان أعمى وعم كحذر وتحقيقه كما في المصباح عمه في طغيانه عمها من باب تعب إذا تردد متحيراً، وتعامه مأخوذ من قولهم أرض عمهاء إذا لم يكن فيها إمارات تدل على النجاة فهو عمه، وأعمه وعمى عمى فقد بصره فهو أعمى، والمرأة عمياء والجمع عمى من باب أحمر، وعميان أيضا ويعدى بالهمزة فيقال أعميته ولا يقع العمى إلا على العينين جميعا ويستعار العمى للقلب كناية عن الضلالة والعلاقة عدم الاهتداء فهو عم وأعمى القلب، اهـ. وما قيل في التوفيق إنّ المصنف رحمه الله لم يرد اختصاص العمى بالبصر بل أراد بيان العمه بأنه صفة للبصيرة بمنزلة العمى في البصر لا طائل تحته، والدهر يرضى العمى بالعور. قوله: (وهو التحير إلخ) تحقيقه كما عرفته أنّ أصل العمه عدم الإمارات في الطرق التي تنصب لتدلهم من حجارة وتراب ونحوهما، وهو المنار، ثم تجوّز به عن التردّد والتحير مطلقا وصار هذا حقيقة ثانية واليه أشار ا! شيخان كغيرهما فأشارا بالتحير إلى المعنى المستعمل فيه وأشار بقوله وأرض إلخ إلى وصفه الأصلي فمن قال إنّ هذا من توصيف المحل بوصف من فيه لم يصب، وقوله:
أعمى الهدى بالجاهلين العمه
مصراع أو بيت من الرجز من أرجوزة طويل لرؤبة بن العجاج الراجز المشهور وقبله: ومخفق من أهله ونهله من مهمه أطرافه في مهمه
وهو في وصف مفازة، وفي شرح الكشاف أي رلت مفازة لا تنتهي سعة بل أطرافها من جوانبها في مفازة أخرى أعمى الهدى أي أخفى المنار بالقياس إلى من لا دراية له بالمسالك جعل خفاء العلم عمى له بطريق الاستعارة، وقيل: أعمى صفة من عمى عليه الأمر التب! أي ملتيس الهداية إلى طرقها على من يجهل ويتحير فيها، وقد يقال أعمى فعل ماض أي أخفى طرق الاهتداء، والعمه بضم العين وتشديد الميم جمع عامه، وقال الطيبي رحمه الله: إنه جمع عمه أو عامه أي المهمة طريقه مشتبهة على الغيّ إذ ليس فيه جادّة أو منار يهتدي به، وقوله إنه جمع عمه أي أثبته أهل اللغة على خلاف القياس فيها وإلا فمفرده المطرد فاعل وفاعلة كركع، ولذا تركه غيره من الشراح. قوله:(تعالى أولئك الذبن إلخ) موقع هذا كموقع أولئك على هدى ومقابله لأنه بعد ذكر المنافقين وصفاتهم القبيحة المفصلة كأنه قيل من أين دخل عليهم هذه القبائح، ولم ينفعهم النذر والنصائح فأجيب بأنهم وإن استعدوا لغير ذلك فإنما خسر أولئك على ما مرّ لأنهم أبطلوا استعدادهم الفطري فاستبدلوا الهداية بالضلالة حتى خسرت صفقتهم، وفقدوا الاهتداء للطريق المستقيم ووقعوا في تيه الحيرة والضلال، ثم لا يخفى موقع الضلالة بعد العمه الذي أصله الضلال في القفار التي لا منار لها.
وقال قدّس سرّه: إنّ هذه الآية تعليل لاستحقاقهم الاستهزاء الأبلغ والمد في الطغيان
على سبيل الاستئناف أو هي جملة مقرّرة لقوله ويمدهم فتأمّل. قوله: (اختاروها عليه واستبدلوها إلخ) أدخل الاستبدال على المتروك الذي كأنه كان في يده فتركه وعدى الإشتراء بنفسه
للنأخوذ المختار، وسيأتي تفصيله وحرك واو اشتروا لالتقاء الساكنين، وجعلت الحركة ضمة لمناسبة الواو فهي عليها أخف من الكسرة، وقال الفرّاء: إنها حركت بحركة المحذوف قبلها والاشتراء مجاز، وهو أمّا مجاز مرسل لأنّ الإشتراء استبدال خاص أريد به المطلق أو استعمل في لازمه، ويجوز أن يكون هذا مراد الزمخشريّ بالاستعارة لأنها تستعمل بمعنى المجاز مطلقاً، وتسمى استعارة لغوية، وذهب بعض شراح الكشاف إلى أنها ألاستعارة المتعارفة لتشابههما في الإعطاء والأخذ، ولا يضر كونه جزء المعنى كما توهم لأنّ وجه الشبه كما يكون خارجا يكون داخلا كما صرّج به أهل المعاني، وجوّز فيه بعضهم أن يكون استعارة مكنية وتخييلية بأن تشبه الضلالة بالمبيع والهدى بالثمن تشبيهاً مضمراً في النفس بجامع الاختيار فيهما، ويجعل الإشتراء قرينة له تخييلية، ثم إنّ ما ذكره المصنف رحمه الله هو ما في الكشاف بعينه حيث قال: ومعنى إشتراء الضلالة بالهدى اختيارها عليه واستبدالها به على سبيل
الاستعارة، وما قيل، عليه من أنه كان الأحسن والأليق بما سيأتي أن يقول المصنف إسنبدلوها به أو أختاروها عليه بالعكس، واستعمال أو مكان الواو ليس بشيء لأنّ المراد أنهم جمعوا بين الإختيار والإستبدال فلا وجه للعطف بأو، وقدّم الاختيار لأنه المراد في الحقيقة وما سيأتي شيء آخر سيأتي بيانه. قوله:(وأصله بذل الثمن إلخ) الثمن العوض، وهو أعمّ من القيم لأنها المثل المقاوم له وإن استعملت بمعناه أيضا، والناض بنون وضاد معجمة مشدّدة المراد به النقد وهو الدراهم والدنانير، ويستعمل بمعنى الناجز قال ابن القوطية: نض الشيء حصل والناض من المال ما له مدة وبقاء، وأهل الحجاز يسمون الدراهم والدنانير نضاً وناضاً، والأصل في عبارة المصنف رحمه الله بمعنى الحقيقة لأنه أحد معانيه المستعه لى فيها وفيه إشارة إلى أنّ ما فسره به أولا معنى مجازي له والأوّل أولى، وهذه قضية اتفاقية فإن وجود النقد في أحد الجانبين يعينه للثمنية والإشتراء عرفا وشرعا، فما قيل عليه من أنّ كون أحدهما ناضاً لا مدخل له في تسميته بذل الناض إشتراء لإبتنائه على وضع الشراء لبذل الثمن من ترك ما يعني للاشتغال بما لا يعني، وقوله: من حيث إنه لا يطلب إلخ تعليل لثمنيته أي لكونه غير مقصود لذاته إذ لا ينتفع به في نفسه، ولذا جاء في الحديث الدراهم والدنانير خواتيم الله في أرضه وهو من جوامع الكلم، وقوله وبذله إشتراء بنصب إشتراء إن عطف على اسم كان المستتر، وخبرها للفصل أو بالرفع مبتدأ وخبر، وقوله والا إلخ أي وان لم يكن نقد فيجوز جعل كل من الطرفين ثمناً، وهذا برمته مأخوذ من كلام الراغب في مفرداته، وخرج بقيد الأعيان المعاني كالمنافع في الإجارة، وأن يكون فاعل تعين ومن حيث متعلق به، وقيل إعتراض. قوله:(ولذلك عدّت الكلمتان إلخ) المراد بالكلمتين البيع والشراء وما شاركهما في المادّة وذلك إشارة لما ذكر ولما دلّ عليه الكلام من دلالة أحدهما على البذل والإعطاء، والآخر في الأخذ الذي يقابله واستعمال كل منهما في مكان الآخر على البدل، والأضداد جمع ضدّ، والمراد بها عند الإطلاق في اللغة إذا قالوا هو من الأضداد كلمات وردت في كلام العرب موضوعة بالاشتراك للضدين كالجون الموضوع للأبيض والأسود، وفي قوله عدت إشارة إلى أنّ بعض أهل اللغة ذكر ذلك إلا أنه في الحقيقة ليس منها لأنّ كلا منهما إنما أطلق عى الطرفين باعتبار تثابههما لا باعتبار تضادّهما، وفي المصباح إنما ساغ أن يكون الشراء من الأضداد، لأنّ المتبايعين تبايعا الثمن والمثمن فكل من العوضين مشترى من جانب مبيع من جانب، اهـ ومن لم يقف على المراد قال: لم يلزم مما ذكر كونهما من الأضداد بل يلزم منه أن يكون الشراء بذل الثمن والبيع أخذه ولا يلزم أن يكون لكل منهما معنيان أحدهما ضد الآخر وهو غنيّ عن الردّ. قوله: (ثم استعير للإعراض إلخ) قد مرّ بيان معناه وأنه من أيّ أنواع المجاز، وقد صرّح أولا بأنّ معناه
الحقيقيّ مختص بالأعيان وهذه الحقيقة عرفية لغوية، وقوله سواء كان اسم كان المستتر راجع لما قبله من مدلول ما الموصولة وغير الدالة على مقابلة لتأويله بالمذكور، ونحوه لا لكل منهما على البدل كما قيل لأنّ مثله إن سلم صحته فخلاف الظاهر في الضمائر، وما ذكر سائغ صحيح وقد صرحوا بأنّ الضمير قد يجري مجرى اسم
الإشارة. قوله: (أخذت بالجمة رأساً أزعرا إلخ) في شرح الفاضل المحقق الجمة أي بضم الجيم وتشديد الميم مجتمع شعر الرأس، والأزعر افعل من الزعر بزاي معجمة، وعين وراء مهملتين الأصلع، وفي الصحاح الدردر بضمتين مغارز أسنان الصبي، وقيل إنّ المراد هنا الأسنان الساقطة الباقية الأصول من الدرد بالفتح تحات الأسنان إلى الأسناخ أي انهيارها وإنفتاتها إلى الأصول، والعمر عطف بيان للطويل وفي حواشي شيخ الإسلام الحفيد الظاهر أن يقال مغرز لأنّ الدردر واحد جمعه الدرادر على ما في الصحاح ألا ترى أنّ الفاضل اليمني قال الدردر: قيل هو جمع الدردإر فكتب قدس سرّه في الحاشية الصواب هو واحد الدرادر اهـ.
(أقول) الباء في قوله بالجمة إلخ باء البدلية أي استبدلت بالشعر التام الكثير شعر رأس
أصلع وبالثنايا الحسنة الواضحة ثنايا مكسورة أو ساقطة، وبالعمر الطويل عمراً قصيرا وهو كناية -عمن يبدل شبابه بمشيبه، وهذا استبدال لأمر سنيّ حسن بأمر حقير قبيح كاستبدال الرجل المسلم إذا ارتد إسلامه بكفره، وهذه الأبيات لأبي النجم الشاعر المذكور من أرجوزة له رائية والمراد بالمسلم المتنصر جبلة بن الأيهم الغساني، وكان وفد على عمر رضي الله عنه وأسلم وهو ملك فكتب عمر رضي الله عنه إلى أجناد الثام أي نواج لها إنّ جبلة ورد إليّ في سراة قومه وأصبلم فأكرته، ثم سار إلى مكة فطاف فوطيء إزارة رجل من بني فزارة فلطمه جبلة لطمة هشم بها أنفه وكسر ثناياه فشكاه إلى عمر رضي الله عنه فقال له: إمّا العفو وامّا القصاص فقال أتقتص مني وأنا ملك وهو سوقة فقال له قد سوّى بينكما الإسلام فسأله التأخير إلى الغد فأمهله فلما أتى الليل هرب مع قومه إلى الشام، وارتد وكان كما يقال ندم بعد ذلك وقال شعر ابن أمية:
فيا ليت أمي لم تلدني وليتني صبرت على القول الذي قالى عمر
والجيذر كضيغم بجيم وياء مثناة تحتية يليها ذال معجمة أو مهملة، ثم راء مهملة.
وفي القاموس مجذر كمعظم القصير الغليظ الشثن الأطراف كالجيذر أو هذه بالمهملة ووهم الجوهريّ يعني في إعجامه كما في الذيل والصلة من أنه جتذرا وجتدر بمثناة فوقية أو مهملة، وفي حواشي الصحاج لابن بري قال أبو سهل: الهروي الإعجام تصحيف، والصواب
الجيدر بدال مهملة هذا ما رأيته في كتب اللغة بعد كثرة مراجعة الدفاتر من غير اختلاف في المثناة التحتية ثانية وإنما الخلاف في الإعجام والإهمال، وفي حواشي القاضي للجلال السيوطي الجبذر بالجيم والموحدة والذال المعجمة القصير ولولا حسن الظن به قلت إنه تصحف عليه فإنه مما لم يقله أحد من أهل اللغة، وتعريف المسلم كما اتفق عليه الشراح للعهد، ثم إنّ اكتراض الفاضل المذكور على تفسير الجوهريّ الدردر بالمغارز وأنّ صوايه الإفراد لا وجه له فإنه وان كان مفرداً يستعمل بمعنى الجمع كما في البيت المذكور، ومثله كثير في أسماء الأبخناس، ثم إنهم ردّوا على ما ذكره الفاضل اليمني، ولا يرد ما أوردوه عليه أيضاً لأنه ناقل له وهو ثقة ولا مانع من كون الدردار كسلسال مفردا والدردر اسم جمع له، وأيضا قوله إنّ العمر عطف بيان خلاف الظاهر إذ المتبادر أنه مضاف ومضاف إليه كزيد الطويل النجاد، وفي الشعر لطيفة أدبية لم ينبهوا عليها وهي أنه إذا كان المراد بالمسلم جبلة، وسبب ردّته لطمه للبدوي لطمة أسقعمت أسنانه ففيه مناسبة لقوله:
وبالثنايا الواضحات الدردرا
وما ذكروا أن أمل ما فيه من الإسهاب، فهو مغتفر بما أهداه من لطائف الآداب، والحمد
لله الهادي لصواب الصواب، وقوله إذا تنصر أي ارتد ودخل في دين النصارى بدل من المسلم كقوله {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انتَبَذَتْ} [مريم: 16] .
قال ابن الصائغ شبه حال صباه بالإسلام وحال شيخوختة بالكفر ومما يضاهيه قوله:
أورد قلبي الرد لام عذا ربدا
أسود كالفكر في مثل بياض الهدى
قوله: (ثم اتسع فيه إلخ) يعني أنّ أصله في عرف اللغة وحقيقته كان استبدال الأعيان بالأعيان، ثم استعمل مجازا لما يعم العين والمعنى، ثم توسعوا فيه فأرادوا به مطلق الرغبة عن شيء سواء كان عيناً أو لا في يده أو لا طمعاً في غيره سواء حصل ذلك الغير أو لا وضمير فيه للإشتراء المفهوم من السياق، وهذا أعمّ مما قبله إذ لا يعتبر
فيه التحصيل بل مجرّد الطمع، وهذا إطلاق على إطلاق والمتبادر منه أنه مجاز على مجاز والتوسع مناسب له وهم قد يستعملونه لمطلق التجوّز، وقد يراد به ما هو قريب من الحقيقة كالتفسح والتمسح، وما قيل من إنه يقال لما لم تقم عليه قرينة ليس بشيء والقرينة هنا معمولاه. قوله:(والمعنى أنهم أخلوا بالهدى إلخ) هذا تحقيق لمعنى النظم بعد بيان معنى الإشتراء على وجه يعلم منه ما في الكشاف حيث قال: فإن قلت كيف (اشنروا الضلالة بالهدى) وما كانوا على هدى قلت جعلوا لتمكنهم منه واعرضه لهم كأنه في أيديهم فإذا تركوه إلى الضلالة فقد عطلوها واستبدلوها به، ولأنّ
الدين القبم هو فطرة الله التي فطر الناس عليها فكل من ضل فهو مستبدل خلاف الفطرة والضلالة الجور عن القصد، وفقد الاهتداء يقال ضل منزله وضل دريص نفقه فأستعير للذهاب عن الصواب في الدين، وقال قدّس سرّه:
الجواب الأوّل أنهم لما كانو! متمكنين منه تمكناً تاما بعد التكليف به، وتيسير أسبابه أستعير ثبوته لهم لتمكنهم منه فإنّ العبارة تدلّ على ثبوت الهدى لهم والمراد تمكنهم، وأمّا الحمل على جعل الهدى مجازا عن تمكنه فمما يأباه ظاهر كلامه.
والجواب الثافي أنّ المراد بالهدى هو الهدى الذي جبلوا عليه، وقد كانوا على هذا الهدى
بلا شبهة، ثم استبدلوا به الضلالة فلا مجاز في ثبوت الهدى لهم بل في لفظ الهدى إن لم تكن الفطرة مندرجة في حقيقته، وهو ردّ على قول الشارح المحقق جعل تمكنهم من الهدى بعد التكليف به بمنزلة تملكهم إياه فيكون التجوز في نفس الهدى حيث أريد به التمكن منه، أو في نسبته إليهم حيث استعير ثبوته لهم لتمكنهم منه وإذا أريد الهدى الذي جبلوا عليه فلا مجاز أصلا أو هو في الهدى فقط إن كان، وقد قيل عليه إنّ أوّل كلامه يشعر بأنّ الإسناد مجازي، وآخره بأنّ التجوّز لغوي وكلاهما غير ظاهر وصحة الكلام مقتضية لإسناد الضلالة والهدى إليه. (أقول) لله در الفاضل المحقق فيما أبداه فإنّ العلامة لما قرّر التجوّز في الإشتراء، وأنه بمعنى الاختيار والاستبدال فورد عليه أنّ استبدال الشيء بشيء يقتضي أن يدخل كل منهما تحت حيازة تصرفه، وهم لم يجوّزوا الهداية في الواقع كما ينادي عليه قوله، وما كانوا مهتدين أجاب عنه بوجهين إمّا جعل التمكن من الشيء بمنزلة حصوله، أو يراد بالهدى الهدى الجبليّ فإنّ كل مولود يولد على الفطرة فأشار المحقق رحمه الله إلى أنه إذا نزل التمكن منزلة التملك يجوز، أن يقال إنّ ما بالقوّة جعل كأنه بالفعل فالتجوّز في الهدى كما يسمى العصير مسكرا، أو في النسبة أي نسبة الفعل إلى مفعوله لأنّ معناه بدّلوا الهدى أي بدلوا تمكنه لهم فتركوه، والتجوّز في الإسناد بناء على الظاهر من لفظ الإشترإء وهو لا ينافي التجوّز اللغوي في الظرف كما مرّ، ول! في التجوّز في النسبة من الخفاء أخره، وقوله إنه إذا أريد ما جبلوا عليه فلا مجاز يعني به أنّ إطلاق الهداية على ما في الجبلة، وهو أمر معنوي غير محسوس يكفي في تحقق حقيقة ثبوته في نفس الأمرظهر أم لا كما سيأتي بيانه، وإن قيل إنه لا بد في تحققه من قيامه بهم بالفعل إذ لا يسمى ال! لم قبل وجوده في الذهن مثلا علما، والهدى ليس كذلك فهو مجاز، وهو الظاهر فإنكاره قدس سرّه التجوّز فيه، وادّعاء أنّ كلام الكشاف يأباه لا يسلم بسلامة الأمير، ثم إنه على التجوّز الظاهر أنه من قبيل ضيق فم الركية وبما قرّرناه لك ظهر اندفاع ما أورده عليه من إضطراب كلامه كما سمعته آنفاً، وأمّ كلام المصنف رحمه الله فتقريره إنه لما جعله مجازاً في المرتبة الثانية عن الرغبة عن الشيء بتركه طمعاً في تحصيل غيره، وهم
قد رغبوا عن الهدى طمعاً في علو أمرهم، ونفاق نفاقهم واختاروه فاشتروا مجاز، وحاصل معناه مع متعلقاته ما ذكره المصنف أي تركوا الهداية مائلين عنها إلى الضلالة، والغواية وجعل الوجهين وجهاً واحدا لأنّ الهدى المركوز في الجبلة، والفطرة إن لم يكن هدى حقيقياً يرجع إلى الهدى المتمكن منه فما قيل من إنّ ملخص كلام المصنف رحمه الله أنّ المراد بالهدى الهدى الذي جبلوا عليه لا الخارج إلى الفعل إمّا أنّ ذلك هدى حقيقة، أو مجازاً ففيه توقف من الفحول، وقوله واختاروا الضلالة إشارة إلى جواب آخر، وهو أنّ الإشتراء ليس عبارة عن الاسنبدال بل عن الإستحباب والأوّل مبنيّ على حمل الإشتراء على مقتضى الإتساع الأوّل، والثاني على حمله على مقتضى الإتساع
الثاني على ما فيه من التكلف ليس بمراد له لمن تأمّله حق التأمّل، ثم إنه كان الظاهر على هذا أو بدل الواو كأنه وقع في نسخته كذلك كما وجدناه. قوله:(واختاروا الصلاة إلخ) تقدم تفسيره، وأن المختار أنه مع ما قبله وجه واحد. وفي عدم ذكره الإستبدال في بيان المعنى المراد إشارة إلى أنه غير مقصود بالذات، وأنّ ما! معنى اشتروا اختاروا الضلالة على الهدى والاستبدال ملحوظ في معناه الأصلي ليتعلق به باعتباره الباء، ولذا أخره في التفسير ولم يعطفه بأو إلا أنه بقي ههنا أمور.
(مئها) أنّ حقيقة الإشتراء استبدال عين بعين على جهة العوضية المعروفة فلو تجوز به
ابتداء عن اختيار أمر على آخر لأنه لازم له أو مشابه له من غير توسيع للدائرة، وتطويل للمسافة كما فعله الزمخشريّ. كان أهون وأحسن.
(ومنها) أنه وقع في بعض شروح الكشاف كلمات واهية كما قيل إنّ جواب الفطرة لا يطابق السؤال، وهو أنّ المنافقين لم يكونوا على هدى فكيف استبدلوا الضلالة به، والمراد بالفطرة السلامة عن الاعتقادات الفاسدة والتهيؤ لقبول الحق، وأجيب بأنّ المراد أنّ مآل الفطرة إلى الهدى فهي على نهج أعصر خمرا، وفيما قدمناه لك غنية عما ذكر فتدبر.
(ومنها) أنه قيل هنا إن حمل الهدى على الفطرة الأصلية الحاصلة لكل أحد يأباه أنّ إضاعتها غير مختصة بهؤلاء، ولثن حملت على الإضاعة التامّة الواصلة إلى حدّ الختم على القلوب المختصة بهم فليس في إضاعتها قط من الشناعة ما في إضاعتها مع ما يؤيدها من المؤيدات العقلية، والنقلية على أنّ ذلك يفضي إلى كون ما فصل في أوّل السورة إلى ههنا ضائعا، وأبعد منه حمل اشتروا الضلالة بالهدى على مجرّد اختارها عليه من غير اعتبار كونها في أيديهم بناء على أنه يستعمل اتساعا في إيثار أحد الشيئين الكائنين في شرف الوقوع على الآخر فإنه مع خلوّه عن المزايا المذكورة مخل برونق الترشيح الآني.
(أقول) قد ذكر قبل هذا بعد تقرير التجوّز تقريب ما ذكروه أنه ليس المراد بما تعلق به الاشتراء ههنا جن! الضلالة الشاملة لجميع أصناف الكفر حتى تكون حاصلة لهم من قبل بل
هو فردها الكامل الخاص بهؤلاء على أنّ اللام للعهد، وهو عمههم المقرون بالمد في الطغيان المترتب على ما حكي عنهم من القبائح، وذلك إنما يحصل لهم عند اليأس عن اهتدائهم والختم على قلوبهم، وكذا ليس المراد في حيز الثمن نفس الهدى بل التمكن التامّ منه بتعاضد الأسباب، وبأخذ المقدمات المستتبعة له بطريق الاستعارة كأنه نفس الهدى بجامع المشاركة في استتباع الجدوى ولا مرية في أنّ هذه المرتبة من التمكن، كانت حاصلة لهم بما شاهدوه من الآيات الباهرة والمعجزات القاهرة من جهة الرسول صلى الله عليه وسلم وبما سمعوه من صالح المؤمنين التي من جملتها ما حكي من النهي عن الإفساد في الأرض والأمر بالإيمان الصحيح، وقد نبذوها وراء ظهووهم وأخذوا بدلها الضلالة الهائلة التي هي العمه في تيه الطغيان، وهو كما قيل:
قعاقع) 1) ماتحتهاطائل! نها! مر أبي ورد
وهو على طرف الثمام لأنه ناشىء من الغفلة عن معنى الإشارة فإنها تقتضي ملاحظتهم لجميع ما مز من الصفات والمعنى أنّ الموصوفين بالنفاق المذكور هم الذين ضيعوا الفطرة أشد تضييع بتهويد الأبناء، ثم بعدماظ فروا بها أضاعوها بالنفاق مع تحريضهم على المحافظة عليها، ونصحهم شفاهاً ونحوه مما لا يوجد في غيرهم كما يشير إليه تعريف الطرفين وأقي تضييع للمزايا وكل ما ذكرونا موجود في كلامهم بغير إسهاب ممل، وأمّا الترشيح المذكور فيكفي له وجود لفظ الإشتراء، وان كان المعنى المقصود غير مرشح به كما هو العادة في أمثاله. قوله:(ترشيح للمجارّ إلخ) أصل معنى الترشيح وحقيقته الوضعية خروج البلل والقطر الصغار مما يشتمل على شيء مائع ماء كان أو لا وعاء كان أو غيره كالضرع، وفي المثل: وكل إناء بالذي فيه يرشح
ولا يختص بالجلد من الحيوان كرشح الجبين ورشح الفرب، وإن كان في بعض كتب
اللغة ما يوهمه، ثم إنّ العرب كنوا به عن تربية الأمّ ولدها لأنها ترشحه بلبنها قليلا قليلا فقالوا رشحت الغزالة ولدها إذا عودته المشي معها، ورشحت الأمّ ولدها باللبن إذا جعلته في فيه شيثا فثيثا حتى يقوى على مصه، ثم تجوّزوا به تجوّزا مبنيا على الكناية عن مطلق التربية، والتهيئة لأمر مّا فقالوا فلان ترشح للوزارة إذا تأهل لها، ثم نقله أهل
المعاني لما يلائم المعنى المجازي غير القرينة المعينة، والظاهر أخذه من الأخير لما فيه من تقوية المعنى المجازي وتربيته وتحقيق معناه في إصطلاحهم إنه لفظ يذكر مع المجاز يناسب معناه المراد منه ظاهر المعنى المجازي سواء تقدّم أو تاخر، وسواء كان مستعملا في معناه الحقيقي أم لا وسواء كان المجاز استعارة
كرأيت في الحمام أسدا ذا لبد أو مجازاً مرسلا نحو له في الكرم يد طولى، وقد يصحب التشبيه، والتجريد يد على كلام فيه مفصل في الرسالة الليثية وشرحها ومن أراده فليرجع إلى كتب المعاني.
(وأعلم) أنّ المدقق قال في الكشف هنا أنّ التعقيب بالملائم قد يكون تبعاً لاستعارة
الأصل لأوجه له غير ذلك، كما في قولك رأيت أسدا وافي البراثن عظيم اللبدتين لا يقصد بذلك إلا زيادة تصوير الشجاع بأنه أسد كامل، وهو حقيقة لا يذهب به إلى شيء كالبراثن واللبدة، وقد يكون مستقلا مع الملاءمة كما في قوله: ولما رأيت النسر إلخ وكما في هذه الآية وهذا القسم أعجبها لتقاطر ماء الفصاحة منه وترشحها، وقد يكون بين بين بأن يكون مجازاً مبنيا على الأول ولا يحسن بدونه كقوله:
وما أمّ الردين وإن أدلت بعالمة بأخلاق الكرام
إذا الشيطان قصع في قفاها تنفقنماه بالحبل التوام
فإنّ تقصيع الشيطان تمثيل على سبيل الاستعارة لإساءة الخلق وما يتبعها من تغير الهيثة والخلقة، والتنفق مثل للاجتهاد في إزالة غضبها لكن لولا استعارة التقصع من القاصعاء، أو لا لم يصح استعارة التنفق من النافقاء، والحبل التوأم من تتمة التنفق وفيه لطف آخر فليكن هذا أصلا محفوظا عندك فلقد اشتبه على كثير من الكبراء، اهـ. وحاصله أنّ الترشيح ثلاثة أقسام ما المراد به حقيقتة، ولم يذكر إلأ لأجل الترشح وما هو استعارة في نفسه حسنة مع أنه ترشيح وما هو استعارة تابع لاستعارة أخرى لولاها لم يحسن، وخير الأمور أوسطها وهو كلام حس. قوله:(لما استعمل الاشتراء في معاملتهم إلخ) يعني أنه تجوّز بالإشتراء كما مرّ وعبر بالمعاملة ليشمل الوجوه السابقة مع ما في لفظ المعاملة بمعناها العرفي المعروف من مناسبة البيع والشراء وفيه لطف ظاهر، ويثاكله بمعنى يثابهه ويناسبه وتمثيلا تصويراً وهو تمييز أو مفعول لأجله والخسار بفتح الخاء الخسران الفعروف حقيقته ومجازه أي المقصود الأصلي من الترشيح في الآية تصوير ما فاتهم من نفع الهدى بصورة خسار التجار حتى كأنه هو بعينه مبالغة في تخسيرهم في هذأ الإستبدال، ووقوعهم في أشنع الخسار الذي يتحاشى عنه أولو الأبصار لا تصوير ألاستبدال بصورة التجارة فإنه وسيلة إلى ذلك المقصود، وفي قوله تمثيلا إشارة إلى أنه استعارة مرشحة للاستعارة الأخرى وليس من الترشيح الصرف المتبادر منه عند الإطلاق، وفي لفظ الخسار إشارة إلى أنّ عدم الربح عبارة عن الخسران وان كان أعم والمسند إلى التجارة عدم الربح لا الربح، ثم أدخل عليه النفي فإنه ليس من المجاز في شيء، وتحقيقه ما ذكره المحقق في بحث الرؤية من شرح المقاصد أنّ الكلام المشتمل على نفي وقيد قد يكون لنفي
التقييد، وقد يكون لتقييد النفي فما ضربته تأديباً بل إساءة سلب للتعليل، والعمل للفعل وما ضربته إكراماً له أي تركت ضربه تعليل للسلب، والعمل للنفي وعلى هذا الأصل يتبنى أنّ النكرة في سياق النفي إنما تعم إذا تعلقت بالفعل لا بالنفي، وأنّ إسناد الفعل المنفي إلى غير الفاعل والمفعول يكون حقيقة إذا قصد نفي الإسناد مثل ما نام الليل بل صاحبه ومجازا إذا قصد إسناد المنفيّ مثل ما نام ليلي بمعنى سهرت وما ربحت تجارته بمعنى خسرته، وهذا يجري في المجاز العقلي واللغوي ويجري في غير النفي كالنهي والشرط، والأمر كما فصله وما قيل عليه من أنّ حقيقة الإسناد إسناد الشيء إلى ما هو له فلا يكون نفي الإسناد حقيقة ليس بوارد لما سيأتي وبينهما فرق مقرّر.
(فإن قيل) إسناد النفي لازم لنفي الإسناد وهو المراد فتتحقق الحقيقة إذ المجاز إسناد
النفي الذي بمعنى الإثبات كإسناد نفي الربح بمعنى إسناد الخسران.
(قبل الا فرق حينئذ بين السالبة والمعدولة عندهم إلى آخر ما ذكره هنا، وهذا مما يتراءى بحسب جليل النظر بناء على أنّ السالبة لا حكم فيها أصلا كما صزح به في كتب الميزان قال القطب: في مبحث القضايا من شرح الشمسية لا يقال السوالب
الحملية والمتصلة والمنفصلة على ما ذكرتم يرفع فيها الحمل والإتصال والانفصال فلا تكون حملية أو متصلة أو منفصلة لأنها لم يثبت فيها الحمل والاتصال والانفصال لأنا نقول ليس إجراء هذه الأسامي عليها بحسب مفهوم اللغة بل بحسب الاصطلاح.
(أقول) كذا قرّروه هنا من غير نكير وهو عندي في غاية الخفاء والإشكال فإنهم اتفقوا
على أنّ الحكم إسناد أمر إلى آخر إيجاباً أو سلبا فإذا كان في السوالب حكم بالاتفاق وإلا لم يكن خبراً محتملا للصدق والكذب وهو بديهيّ البطلان والحكم أيضاً مستلزم للحمل أو الاتصال " أو الانفصال بديهة فقولهم اجس فيها شيء من ذلك مناقض لهذا فلا بدّ من التوفيق بينهما ولا يكون ذلك إلا بتسلييم إسناد النفي له أو عنده وهذا غير مستلزم لما توهموه من عدم الفرق بين المعدولة والسالبة فإن المعدولة فيها النفي جزء من أحد الطرفين أو منهما وهذا نفي للنسبة الحكمية مع قطع النظر عنهما والفرق بينهما ظاهر وإنما بسطت الكلام في هذا المقام لأني لم أر له تفصيلَا شافياً للصدور فعليك بالتأمّل الصادق فإنه المخلص لك من مثل هذه المضايق ثم إنهم قالوا إنّ عدم الربح جعل كناية عن الخسران لأنه وإن كان أعم منه إلا أنّ التجارة تستلزم غالبا عملا واتلافاً فإن لم يربح لم يخل من الخسران لأنّ المال غاد ورائح معد لآفة النقصان فإن قلت إن كان رأس مالهم الهداية وقد استبدلوها بالضلالة فقد فقد رأس المال فضلَا عن الخسران قلت هذا بناء على أنهم عدوا ما نالوه في الدنيا عوضاً عنه أو أنه اكتفي في توبيخهم بالخسران فكيف ما هم عليه من عدم رأس المال ولله در القائل:
إذا كان رأس المال عمرك فاحترس عليه من الإنفاق في غير وأجب
فوله:
ولما رأيت النسر عز ابن دأية وعشش في وكريه جاش له صدري)
النسر طائر معروف وأقواه الأبيض ولذا شبه به الشيب وإن كان الأحسن الأشهر تشبيهه
باليوم كقوله:
أيا بومة قد عششت فوق رأسه
وابن دأية الغراب وهو علم جن! له ممنوع من الصرف وإنما صرفه الشاعر هنا للضرورة
وقد استعير ههنا للأسود من الشعر الذي في سن الشباب وسمي الغراب ابن دأية لأنه يقع على دأية البعير الدبر والدأية اسم لموضمع الرحل والقتب من ظهره فينقرها فنسب إليها لكثرة ما يرى عليها أو هي الفقار وهي تغذوه كما تغذو الأمّ وقيل سمي به لأن أنثاه إذا طارت عن بيضها حضنها الذكر فيكون كالداية للأنثى والعرب تقول إذا أرادت تكذيب أحد تعريضا غراب ابن دأية وحديث ابن دأية وحدّثه بذلك ابن دأية كما في كتاب المرصع فيجوز أن يراد هنا أيضا أنّ الصبا لسرعة زواله كاضغاث الأحلام وخرافات اكاذيب والأوهام وهو حسن ورشح إحدى الاستعارتين بالأخرى كما رشح بالتعشيش وهو أخذ العش أو اتخاذه وهو الوكر أو بينهما فرق فإنّ الأوّد ما كان من العيدان والثاني ما كان في الجدران ونحوها أو الثاني ما يعد لحفظ البيض والفراخ والتعشيش كناية عن حلوله فيه وعز بمعنى غلب وقهر ومنه العزة لأنّ العزيز من شأنه ذلك وجاس من جاشت القدر إذا غلت وهو هنا كناية أو مجاز عن ارتفاع الأنفاس والاضطراب والترشيح في البيت كالآية ليس من الترشيح المشهور كما أشرنا إليه قبل والنسر يصيد الغراب ويقتنصه كثيرا ووكراه جانبا رأسه أو رأسه ولحيته وقيل طرفا لحيته وزعم بعضهم أنّ الغراب له وكران صيفيّ وشتويّ ولو قيل إنه وصف الكهولة واختلاط الشعر الأبيض بالأسود واحاطته بجانبيه لم يبعد وقوله جاش له صدري خارج عن الاستعارة ولو قال بدله طار له صبري كان أحسن كما قلت:
وافى لوكر غرابه سحرا يوما فطارالصبرمن صدري
قوله: (طلب الريح بالبيع والشراء إلخ) فيه تسامح لأنّ التجارة كما قال الراغب التصرّف
في رأس المال طلبا للربح وفي المصباح ولا يكاد يوجد تاء بعدها جسيم الانتج وتجر والرتج وهو الباب وأرتج في منطقه وأمّا تجاه وتجيب وتجوب فأصلها الواو فلا ترد نقضاً والفضل معناه الزيادة كالشف بالفتح والكسر إلأ أنّ هذا يكون بمعنى النقصان ولذا عده بعض اللغويين من الأضداد ويقال أشف بعض أولاده على بعض إذا زاد عليه ورأس المال بمعنى أصله استعارة
صار فيه حقيقة عرفية. قوله: (وإسناده إلى التجارة
وهو لأربابها) أي أصحابها، وهم التجار فهو من المجاز اللاغلي وأصله ربحوا في تجارتهم وأورد عليه أنّ الربح الفضل على رأس المال، وهو صفة للتجارة لا للتاجر.
(وأجيب) بأنّ هذا معناه في الأصل، ثم نقل إلى تحصيله إذ هو بذلك المعنى لا يصلح
أن يكون مصدراً لاتجر وهو المقصود بالتفسير وفيه ما لا يخفى إذ لو كان الفضل معنا. الأصلي لم يكن الإسناد مجازياً فالقاهر أن يقال إنهم تسمحوا في تفسيره بالفضل نظرا إلى حاصل المعنى المراد منه هنا وحقيقته الأفضال لا الفضل، قال الأزهريّ: ربح في تجارته إذا أفضل فيها وكذا نقله في المصباح، ثم إنّ المصنف رحمه الله جعل المسند الربح، وفي الكشاف إسناد الخسران إلى التجارة من الإسناد المجازي، وقد قيل عليه أنّ حقه أن يقول كيف أسند الربح كما ذكر. المصنف رحمه الله لأنّ النفي لا مدخل له في الإسناد فالفعل إذا أسند إلى غير فاعله لملايسة بينهما كالنوم إلى الليل كان مجازاً عقليا سواء كان الإسناد مثبتاً أو متقياً فقولك نام ليلي، وما نام ليلي كلاهما مجازان لأنّ النوم قد أسند فيهما إلى غير ما هو له إمّا بطريق الإثبات، أو بطريق النفي، ورد بأنه ليس بشيء لأنّ نسبة الفعل قد تكون ثبوتية، وقد تكون سلبية وكل واحدة منهما تعتبر في نفسها ألا ترى أنك إذا قلت ما ربحت التجارة بل التجار لم يكن هناك مجاز أصلَا، وعلى هذا فحقه أن يقول كيف أسيند عدم الربح إلا أنه عدل عنه تنبيهاً على أنّ عدم الربح هنا كناية عن الخسران، وإن كان أعئم منه، ثم أسند وأشار بذلك إلى أنه لو اقتصر على عدم الربح كان منسوبا إلى ما هو محله فلا مجاز، نعم إذا كنى به عن الخسران وأسند إلى التجارة كان مجازاً وفائدة هذه الكناية التصريح بانتفاء مقصود التجارة مع حصول ضده بخلاف ما لو قيل فخسرت تجارتهم، وفي االحال فيما إذا قلت ما صام نهاره بمعنى أفطر وما نام ليله بمعنى سهر فإنه يكون من قبيل المجاز، وان قصد بهما نفي الصوم عن النهار والنوم عق الليل فقط كما في قولك ما صام النهار وما نام الليل لم يكن منه قطعاً، والضابط أنّ الفعل إذا نفي عن غير فاعله، وقصد مجرّد نفيه عنه كان حقيقة، وإذا أوّل ذلك النفي بفعل آخر ثابت للفاعل دونه كان مجازاً، ثم إنه قيل هنا إنّ ما ذكره قدّس سرّه من قصد مجرّد النفي إنما يصح إذا لم توجد قرينة صارفة وقد وجدت هنا فانّ قوله {اشْتَرُوُاْ الضَّلَالَةَ} إلخ، وقوله {وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ} في الدلالة على التجوّز كنار على علم، ثم إنه جعل النسبة السلبية كناية عن الخسران لقوله تمثيلَا لخسارهم لأنّ عدم الربح وان كان أعمّ من الخسران نظراً لمفهومه فهو مساو له بحسب المادّة، فظهر أنّ المصنف رحمه الله يخالف كلامه ما في الكشاف بناء على الظاهر المتبادر منه من إرجاع ضمير إسناده إلى الربح فإن أرجع إلى الخسار المذكور في قوله تمثيلا لخسارهم وافقه لكن الأوّل هو الأولى، وأن اختار بعضهم الثاني، وفي شرح التأويلات إنّ نفي أحد الضدّين إنما يوجب إثبات الآخر إذا لم يكن بينهما واسطة، وهي موجودة هنا فان
التاجر قد لا يربح ولا يخسر، وأجاب بأته إنما يكون كذلك إذا كان المحل قابلا للكل كما في التجارة الحقيقية أمّا إذا كان لا يقبل إلاً اثنين منها فنفي أحدهما يكون إثباتاً للآخر، والربح والخسران في الدين لا واسطة بينهما، على أنه قد تامت القرينة هنا على الخسران لقوله {وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ} فتدبر. قوله:(لتلبسها بالفاعل أو لمشابهتها لىلاه) قد سبق ما في الكشاف في تحقيق الإسناد المجازي من أنّ للفعل ملابسات شتى تلابس الفاعل والمفعول به، والمصدر والزمان والمكان والسبب فإسناده إلى الفاعل حقيقة، وقد يسند إلى هذه الأشياء على طريق المجاز لمضاهاتها الفاعل في ملابسة الفعل، وقال: هنا الإسناد المجازي أن يسند الفعل إلى شيء يتليس بالذي هو في الحقيقة له كما تلبست التجارة بالمشترين فذهب بعض الشراح إلى أنّ ما هنا أعمّ مما سبق لأنه اشترط هناك مضاهاة الفاعل المجازي للفاعل الحقيقي في ملابسة الفعل، واقتصر هنا على تلبسه به مطلقا سواء كان بينهما مشابهة فيما ذكر أم لا، ومنهم من حمله على التقييد اعتماداً على ما قدمه أوّلاً، والتجارة سبب يفضي إلى كل واحد من الربح والخسران، ورجحوا إجراءه على ظاهره، فإنّ التليس بالذي هو له في الحقيقة مصحح للإسناد كما في قولهم قال الملك: كذ! ورسم كذا، وإنما القائل والراسم بعض خاصتة فمجرّد الملابسة كافية في صحته إلا أنه قيل إنها بمجرّدها وان كفت في ذلك
لكن ملاحظة مشابهته لما هو له أدخل فيه، وأتم فإنّ الإسناد إنما هو حق ما هو له فناسب أن يكون صرفه إلى غيره لمناسبة، ومشابهة بينهما كما اعتبره صاحب الإيضاح، وكثير من علماء المعاني فقول المصنف لتلبسها بالفاعل أو لمشابهتها إياه إشارة إلى الطريقين، وقوله من حيث إلخ بيان لمشابهة الفاعل.
(أقول) لم يوضحوا الخلاف بين الطريقين، وقد قال قدس سرّه في شرح المفتاح نقلَا
عن عبد القاهر: إنه ليس المراد بالمشابهة بين الفاعلين المشابهة التي تبتني عليها الإشتعارة بل الجهة التي راعاها المتكلم حين أعطى أحدهما حكم الآخر، والظاهر أنها هي الملابسة بعينها، ثم إنه قال إذا أسند فعل الأمير إلى بعض خواصه لم يبعد أن يقصد هناك المبالغة في تشبيهه بالأمير حتى كأنه هو، وهذا مناف لما ذكره هنا وان أمكن التوفيق بينهما فتدبر. قوله:(من حيث أنها) أي التجارة المسند إليها الربح المنفي الذي هو هنا كناية عن الخسران فيصح إسنادهما إليها لأنها سبب لهما باعتبار وقوعهما فيها إذ لولاها لم يتحققا فعلى هذا لو كان مال التجارة مشترى به رقيق جاز إسناد الربح له مع القرينة فيصح أن يقال ربح عبدك، وخسرت جاريتك على الإسناد المجازي واحتمال كون العبد والجارية بنفسهما ربحا أو خسراً للإذن لهما في التجارة لا يضرّ مع وجود القرينة الصارفة فلا وجه لإنكاره إلأ أن يقال إنه أنكر حسنه فهو ممتنع في عرف البلغاء، والبلاغة فله وجه وجيه. قوله: الطرق التجاوة فإنّ المقصود إلخ) هذا ما في الكشاف بعينه، وقال الشارح المحقق: إنه بيان لوجه الجمع بين عدم ربح تجارتهم، وعدم اهتدائهم بالواو وترتيبها على اشتراء الضلالة بالهدى بالفاء مع أنّ عدم الإهتداء تكرار
وملائم للمستعار له على ما هو شأن التجريد لا للمستعار منه كالترشيح، والجواب أنهم لما أضاعوا رأس المال الذي هو الهدى حيث أخذوا الضلالة التي هي عدم له لا بدل منه تسد مسدّه، وتقوم مقامه فرع على ذلك عدم إتصافهم بإصابة الربح، وعدم إهتدائهم لطرق التجارة فيعود هذا أيضاً إلى الترشيح، ونحوه ما في حواشي الشريف إلا أنه قال: بعده لكن عطفه على إشتروا الضلالة بالهدى أولى كما يرشدك إليه تأملك، يعني أنّ ما ذكر يقتضي عطف ما كانوا مهتدين على قوله (ربحت تجارتهم) مع أنّ عطفه على اشتروا الضلالة أولى بل هو الصواب كما قيل لأنّ عطفه على ما ربحت يوجب ترتبه على ما قبله بالفاء فيلزمه تأخره عنه، والأمر بالعكس إلا أن يقال إنّ ترتيب قوله {وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ} باعتبار الحكم والإخبار، وهذا وجه قوله أولى فلا يرد عليه شيء كما قيل، ولو جعل قوله وما كانوا مهتدين حالا كان وجها وجيهاً، ففي هذه الجملة ثلاثة أوجه، ثم إن تصريح الشراح بأنه على هذا التفسير ترشيح ردّ على الفاضل الطيبي حيث قال إنّ المصنف يعني أنه إن لم يصلح لأن يكون ترشيحا يصلح أن يكون تجريداً لأنه يحسن أن يوصف التاجر الحقيقيّ بأنه ليس مهتديا لطرق التجارة فكما أنّ مطلوب التجار في متصرّفاتهم الربح كذلك مطلوبهم سلامة رأس المال، ولا يسلم رأس المال إلا بمعرفة طرق التجارة، ورأس مالهم الثبات على الهدى والربح حصول الفلاح في الآجل إلى آخر ما ذكره، وهو مع أنه غير صواب لأنه لا يناسب تقريرهم، فيه إن أوّل كلامه مناقض لما بعده، ولذا قيل إنه سهو منه ونبه عليه الفاضك اليمني، وإنما تركه الشارح لظهوره.
(وأقول) إنه لو كان معطوفاً على اشتروا كان الظاهر تقديمه لما في تأخيره من إيهامه عطفه على ما يليه وحيئمذ يكون الأحسن ترك العطف فيقطع احتياطاً كما ذكره أهل المعاني في نحو قوله:
، وتظن سلمى أنني أبغي بها بدلا أراها في الضلال تهيم
وما ذكروه من عدم تعقبه على الإشتراء فيه أنه لو عطف عليه، ومعناه أخلوا بالهدى الذي فطروا عليه ومعنى ما كانوا مهتدين أيضاً تضييع رأس مالهم من الفطرة السليمة، وهما متقاربان فلا وجه للعطف فيه على أنه قد يقال المعطوف بالفاء مجموعهما والخسران كما يعقب الاشتراء فكذلك جهلهم الفطري مستمرّ فيتعقب باعتبار أجزائه الأخيرة وإنما ذكر احتراسا لأنّ الخسران قد يكون لآفة نادراً لا لعدم اهتدائهم لطرقه فتدبر. قوله:(قد أضأعوا الطلبتين إلخ) هو تثنية طلبة بفتح فكسر بزنة كلمة ويجوز تسكين ثانيه بمعنى المطلوب، والاستعداد أصل معناه طلب العذة بالضمّ، وهو بمعنى التهيؤ والقابلية، ويكون بمعنى
الاستحقاق والمراد به الاستعداد القريب من الفعل لأنّ الاستعداد الأصلي باق لا يزول بالضلالات والاعتقادات الباطلة وان منعت الوصول إلى المطلوب، ودرلث الحق بفتحتين وسكون الراء لغة اسم من أدركت الشيء
الكلام على المثل
يتوسلون به إلى درك الحق ونيل الكمال فبقوا خاسرين آيسين من الربح فاقدين للأصل {مثلهم كمثل الذي استوقد نارا} لما جاء بحقيقة حالهم عقبها بضرب المثل زيادة ني التوضيح والتقرير، فإنه أوقع في القلب وأقمع للخصم الألدّ لانه يريك المتخيل محققاً، والمعقول محسوساً ولأمر ما كثر الله في كتب الأمثال، وفشت في كلام الأنبياء، والحكماء والمثل في الأصل بمعنى النظير يقال مثل ومثل ومثيل كشبه، وشبه وشبيه، ثم قيل للقول
إذا بلغته ووصلت إليه. قوله: (لما جاء بحقيقة حالهم إلخ) أي لما ذكر صفات المنانقين عقبها بضرب المثل لزيادة إيضاحها فإنه إذ تخيل من المعاني شيء لم يصل إلى التحقيق أبرزه المثلى في معرض المحقق، وكذا إذا توهم ولم يتيقن أخرجه في صورة المتيقن، ولو غاب عن الحس صيره كالمحسوس المشاهد، وربما تكون المعاني التي يراد تفهيمها معقولة صرفة فالوهم ينازع العقل في إدراكها حتى يحجبها عن اللحوق بما في العقل فبضرب الأمثال تبرز في معرض المحسو*سات فيساعد الوهم العقل في إدراكها ولهذا تضرب الأمثال لمن يخاصم لأنّ خصومتة بسبب إنقياده للوهم وعصيان العقل، فإذا اتفقا زالت الخصومة لا محالة وأوقع أفعل تفضيل من الوقع، وهو القرار والثبات أي أشد تمكناً في القلب، وأقمع من القمع وهو الصرف والمنع أو القهر والتذليل، وفي القاموس قمعه قهره وذلله كأقمعه وفلاناً صرفه عما يريده، وأصله ضرب الرأس بالمثقل فكني به عما ذكر وصار حقيقة فيه، والألد أفعل تفضيل من اللدد وهو شدة الخصومة وفسره بعضهم هنا بالخصومة وفسر الخصم الألد بالخصم الأخصم كليل أليل وهو سهو منه، والحال الصفة والقصة والحديث وكل منها صحيح هنا وفي هذا إشارة إلى أنّ ما سبق إلى هنا المقصود منه توبيخهم وبيان حالهم وإن احتوى على استعارات وتجوّزات لأنّ المثل في محاورتهم يضرب بعد تقرير المراد، وما قيل من أنه يفهم من هذا إنّ ما ذكر هنا أوّل مثل ضرب في شأنهم، وأنّ بيان أحوالهم إلى هنا حقيقة، وليس كذلك لأنّ قوله {أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُاْ الضَّلَالَةَ} تمثيل لحالهم بحال التاجر الذي لا يدري أمور التجارة، وكذا قوله {؟ الله يستهزىء بهم ولا محيص عنه} إلا بأن يتكلف فيقال ليس المقصود بما ذكر هنا إفادة أمر زائد على ما سبق بل القصد إلى تقريره، وتوضيحه على وجه بديع ناشىء من قلة التدبر، وعدم الفرق بين المجاز والمثل وسيأتيك عن قريب تحقيقه وقوله (ولأمر مّا إلخ) أي لأمر عظيم بليغ كثر ضمرب الأمثال، وفي الإنجيل سورة تسمى سورة الأمثال والمراد بهذا الأمر ما قرّرناه لك 0 قوله:(والمثل في الأصل بمعنى النظير إلخ) قال الراغب: أصل المثول الانتصاب، والممثل المصوّر على مثال غيره يقال مثل الشيء أي انتصب وتصوّر، ومنه الحديث: " من أحب أن
يتمثل له الناس قياماً فليتبوّأ مقعده من النار " (1) والتمثال المصوّر اهـ فأصله الأوّل ما ذكر، ثم استعمل بمعنى النظير، ويقال مثل بفتحتين ومثل بكسر فسكون ومثيل كقتيل بمعنى، وقال الميداني: سمع فعل وفعلى وفعيل بمعنى في ثلاثة أحرف شبه ومثل وبدل لا غير، وقد يكون بمعنى الصفة كما سيأتي. قوله:(ثم قيل للقول السائر إلخ) المراد بالسائر الشائع المشهور على الألسنة، وهو مجاز مشهور فيه صار كالحقيقة وحقيقته كقطع المسافة فشبه تداول الألسنة بتنقل الأمكنة، وقد أفصح عن هذا المعنى القائل في صفة تنقله في البلدان، وعدم استقراره في الأوطان:
لا استقرّبأرض! قدنزلت بها كأنني بكرمعنى سارفي مثل
والمضرب بفتح الميم وكسر الراء، ويجوز فتحها اسم مكان والمراد به الموضع الذي أستعمل فيه بعد استعمال قائله الأوّل، والمورد بالكسر لا غير الموضع الذي ورد فيه أي أوّل استعمالاته فيه وسيأتي أنّ له معنى آخر وهو المعنى الوضعي، ومعنى قول المصنف رحمه الله قيل أنه نقل من معناه الأصلي اللغويّ إلى هذا المعنى المذكور، وفي قوله هنا الممثل أي المشبه تنبيه على ما ذكره المفسرون وأهل المعاني من أنّ المثل هو المجاز المركب والاستعارة التمثيلية الشائعة في الاستعمال فلا تسمى الاستعارة المركبة أو مطلقاً ولا التشبيه مطلقا ولا معنى اللفظ الأصلي الحقيقي مثلا عندهم على ما قزره شراح التلخيص، والمفتاح وكافة أهل المعاني واتفقت كلمة الشروح هنا عليه أيضاً وهذا إذا سلم وأخذ على ظاهره لا غبار فيه، وان قيل على تفسير المورد بالحالة الأصلية التي ورد فيها الكلام إنه على هذا يكون في الكلام مجاز على مجاز وتشبيهان، مثلَا الصيف ضيعت اللبن أصله أنّ امرأة شابة كانت تحت شيخ ذي مال قال لها ذلك لما تزوجت بشاب، وأتت تطلب
منه الإعانة فقحمد اششبيه بحال تلك المرأة دون المعنى الأصلي لما اشتهر في تلك القصة، ولو أريد بالمورد المعنى الأصلي الموضوع له لم يكن إلا تشبيه ومجاز واحد لكنه لم يقصد في الكلام إلأ التشبيه بحال تلك المرأة لا بالمعنى الأصلي، وهذا وان كان غير مسفم لا بأس به.
(وههنا بحث) :
فيما قاله القوم، وهو أنّ أمثال العرب أفردها المتقدمون بالتأليف، وصنفوا فيها تصانيف جليلة المقدار كأمثال أبي عبيدة والميداني وابن حبيب والزمخشرفي وابن قتيبة وابن الأنباري
وابن هلال، وقد ذكروا فيها أمثالا كثيرة مستعملة في معناها الحقيقي، كقولهم السعيد من اتعظ بغيره، وأمثالا مصرحا فيها بالتشبيه كقولهم لمن يخاف شرّه ويشتهي قىهـ به، كالخمر يشتهي شربها ويخشى صداعها، إلى غير ذلك مما لا يحصر أمثاله فكيف يشترط فيها أن تكون استعارة مركبة فاشية.
وقد قال الميداني: المثل ما جعل كالعلم للتشبيه بحال الأوّل كقول كعب رضي الله عنه:
كانت مواعيد عرقوب لها مثلَا وما موا! رها إلاً الأ! ا! ل
فمواعيد عرقوب مثل لكل ما لا يصح من المواعيد، وقال ابن السكيت: المثل لفظ يخالف لفظ المضروب له ويوافق معناه معناه شبهوه بالمثال الذي يعمل عليه+غيره، وقال غيره: سميت الحكم القائم صدقها في العقول أمالا لانتصاب صورها في العقول مشتقة من المثول الذي هو الانتصاب.
وقال النظام: يجتمع في المثل أربع لا تجتمع في غيره، إيجاز اللفظ واصابة المعنى، وحسن التشبيه، وجودة الكناية، فهو نهاية البلاغة، اهـ فالحاصل إنه إنما يشترط في المثل أن يكون كلاما بليغا شائعاً مشهورا لحسنه أو لاشتماله على حكمة بالغة، وأمّا ما ذكروه فلا يلائم أنّ ما نحن فيه من أمثال القرآن أيضاً ليس داخلا في تعريفهم لأنّ الله ابتدأها وليس لها مورد قبله فإنّ الله لا يستحي أن يضرب مثلا مع أنها تشبيهات لا استعارة فإن كان هذا اصطلاحاً حادثا لأهل المعاني ومن حذا حذوهم من الأدباء ينبغي التنبيه عليه مع أنّ السياق ياباه فإن أريد أنه الأغلب فعلى فرض تسليمه ليس في الكلام ما يدل عليه، والمثل كما يطلق على اللفظ باعتبار معنا. يطلق على المعنى أيضا فليس من تسمية الدال باسم مدلوله كما توهم فعليك بتدقيق النظر في هذا المقام، فإنه مما تزل فيه أقدام الأفهام. قوله:(ولذلك حوفظ عليه من التغيير إلخ) أي لما فيه من الغرابة لم يغير لفظه الأوّل، فإنه لو غير وبما إنتفت الدلالة على تلك الغرابة، وأن منع بعضهم زوالها بفتح تاء ضيعت اللبن مثلاً، وقال قدس سرّه: تبعاً للفاضل المحقق الأظهر كما في المفتاح أنّ المحافظة على المثل إنما هي بسبب كونه استعارة فيجب لذلك أن يكون هو بعينه لفظ المشبه، فإن وقع تغيير لم يكن مثلَا بل ماخوذا منه واشارة إليه كما في قولك الصيف ضيعت اللبن على صيغة التذكير وإنما قال الأظهر لأنه لا تزاحم في الأسباب مع أنه يرجع إليه باعتبار أن في معنى الاستعارة اشتمالا على الغرابة كما قيلى، وقيل إنما حوفظ عليها لأنها صارت بسبب الغرابة والاشتهار كالعلم لتلك الحالة العجيبة، والإعلام لا تتغير، ثم إنّ الشارح المحقق والشريف قدس سرّه لم يفسر المراد بالغرابة، وقد فسرها الشارح الطيبي، وأطال في تفسيرها بما حاصله أنها غموض الكلام، وكونه نادرا بحسب المعنى واللفظ أمّ الأوّل فلما يتراءى منه ظاهرا من التناقض، والتنافي كرمية من غير رام {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ} أسورة الأنفال: 17] والثاني باشتماله على ألفاظ نادرة لا تستعملها العامة كقوله أنا جذيلها المحكك، وعذيقها المرجب يضرب لمن له خبرة وتجربة والظاهر أنه ليس المراد بالغرابة ما ذكر ولذا لم يعرج عليه من بعده من الشراح، وأنت إذا تتبعت الأمثال، وجدت كثرها مخالفاً لما ذكره وليت شعري أيّ غرابة في قوله، السرّ أمانة وقوله السكوت أخو الرضا وأمثاله مما لا يحصى إذا عرفت هذا فأقول أنا استقصيت الأمثال فوجدتها ما بين تشبيه بلا شبهة كقولهم للظالم المتورع هو كالجزار فيهم يذكر الله ويذبح، أو استعارة رائعة تمثيلية أو غيرها نحو أنا جذيلهـ االمحكك، أو حكمة وموعظة نافعة كالصبر مفتاح الفرج، أو كناية بديعة أو نظم من جوامع الكلم الموجز وإليه أشاو في المستقصي بقوله الأمثال قصارى فصاحة العرب العرباء وجوامع كلمها ونوادر حكمها وبيضة منطقها، وزبدة حوّاراها
وبلاغتها التي أعربت بها عن القرائح السليمة والركن البديع إلى دواية اللسان، وغراية اللسن حيث أوجزت اللفظ، وأشبعت المعنى وقصرت العبارة، وأطالت المغزى، ولوحت فاعرقت في التصريح، وكنت فاغنت عن الإفصاح، ثم إنّ الظاهر في توجيه عدم التغيير ما ذكروه هنا وإن اسنظهروا خلافه إلا أنّ المراد بالغرابة ليس ما مرّ بل المراد أنها لما فيها من البلاغة، ورونق الفصاحة، والندرة التي ترقت بها إلى الغاية في بابها حتى عدت عجيبة جداً قيل لها غرابة لإطلاق الغرابة على مثله، اً ولكونها من كلام الغير كالتضمين عدت غريبة أجنبية.
وأمّا ما في المفتاح من أنّ الاستعارة التمثيلية قد تغير ألفاظها المؤدّية لمعناها الحقيقي لأنهم صرّحوا بجواز التجوّز في مفرداتها كما مرّ فيه أنّ المثل لا يلزم أن يكون استعارة كما تلوناه عليك آنفاً، وأمّا القول بأنّ الاستعارة مشتملة على الغرابة ففي غاية الغرابة، وكذا كون العلم لا يغير فالمعنى أنها لكونها فريدة في بابها، وقد قصد حكايتها لم يجوّزوا تغييرها لفوات المقصود، وقد صرح بهذا في المستقصي، هذأ وإن طال تطوّلنا بما فيه من الفوائد البديعة فانظره بعين الإنصاف. قوله:(ثم استعير لكل إلخ الما قرّروا للمثل معنى لغويا، وهو النظير، ثم معنى ثانيّ نقل منه إليه وهو القول السائر، وليس واحد منهما مناسباً هنا قالوا إنه استعير من الثاني لمعنى ثالث هو المراد وهو الصفة العجيبة، وقوله لها شأن وفيها غرابة إشارة إلى العلاقة بينهما، وهي الاشتراك في الغرابة وعظم الشأن كما اتفق عليه الشرّاح وأرباب الحواشي، فما قيل من أنّ المثل إذا قصد به القصة لم يرد تشبيهها بذلك القول مما يتعجب منه، وفي مجمع الأمثال، ولشدة امتزاج معنى الصفة به صح أن يقال جعلت زيدا مثلا والقوم أمثالاً، ومنه قوله تعالى {سَاء مَثَلاً الْقَوْمُ} [الأعراف: 177] في أحد القولين، ثم إنّ الحال والقصة والصفة أموو متقاربة، وقد جمع المصنف والزمخشريّ بينها متعاطفة بأو الفاصلة، ولم ينبهوا على وجهه (والذي يظهر لي) أنّ الشأن العجيب لما كان يعلم تارة بالمشاهدة كحال المنافقين،
وما هم عليه مما هو كنار على علم ومنه ما يعلم بإخبار الصادق المسوقة إليه كقصة الجنة التي قصها الله تعالى كما قيل:
وعشقتكم قبل العيان لكم كما تهوى الجنان بطيب الأخبار
ومنه ما يعلم بالبرهان ويدرك بالبصائر كصفات الباري جمع بينها كذلك وإليه إشارة ما في الكشاف حبث قال: أستعير المثل استعاوة الأسد للمقدام للحال أو الصفة أو القصة إذا كان لها شأن وفيها غرابة كأنه قال حالهم العجيبة الشأن كحال الذي استوقد ناراً وكذلك قوله {مَّثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ} [الرعد: 35] أي وفيما قصصنا عليك من العجائب قصة الجنة العجيبة، ثم أخذ في بيان عجائبها ولله المثل الأعلى أي الوصف الذي له شأن من العظمة والجلال، اهـ. فالحال عبارة عن أمور متعدّدة بقوم شتى وتدرك منهم وهي في المعاني كالقصة في الألفاظ، ولذا يعبر بها عن الاستعارة التمثيلية في اكثر، وفي الكشف جملة مثلهم إلخ الأشبه أن تجعل موضحة لقوله {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرُوُاْ} وفي كلامه ما يدل عليه، ويحتمل أن تجعل مقرّرة لجملة قصة المنافقين المسرودة إلى هنا ولا يبعد تنزيل قوله عليه أيضا بحمل حقيقة الصفة على أحوالهم المفهومة من مجموع الآيات، والحمل على الإستئناف ضعيف جدا لا سيما والأمثال تضرب للكشف، والبيان فإن قلت قوله أوّلا بضرب المثلى يقتضي أنّ ما هنا من قبيل ضرب المثل والمعنى الثاني، وتفسيره بالحال يقتضي أنه ليس بمراد بل لا تصح إوادته، قلت هنا أمران لفظ مثل، والتمثيل المدلول عليه بالكاف أداة التشبيه، والمفسر بالحال الأوّل والمشار إليه أولاً الثاني، والمراد به أن يؤتى للحال بنظير من غير نوعه ليرفعه على منصة العيان ويرميه على قارعة التقريع فالمراد بالضرب صياغة ذلك النظير واعتماله من ضرب السكة التي هي بيانه لا الضرب الذي هو مصدر لضرب المقابل للمورد، وهذا من إرسال ااصمثل والمراد بالتمثيل الإتيان بمثال فتدبر. قوله:(والمعنى حالهم العجيبة الشأن إلخ) ذكر للمثل ثلاثة معان، وفسر ما في النظم بالثالث، وحقيقة حالهم هيئة منتزعة من عدة أمور هي استضاءة معنوية بإظهار الإيمان واذهاب الله ذلك النور عند الإستضاءة بتفضيحهم وبقائهم متحيرين في ظلمات معنوية، كما قيل: وفي شرح الفاضل المحقق وجه الشبه هو أنّ المستوقد والمنافقين جميعاً وقعوا عقب مباشرة أسباب المطلوب، وملاحظة خيال
المحبوب في الحرمان والخيبة والتحسر فعبر عن الأوّل بالإضاءة، وعن الثاني بالظلمة، ولا خفاء في اشتراك الطرفين في الإضاءة والظلمة بهذا المعنى، وبهذا يسقط ما قيل إن أريد بالإضاءة الإضاءة حقيقة لم يشترك فيها المنافقون، أو مجازاً لم يشترك فيها المستوقد، والتحقيق أنه من قبيل ما يتسامح فيه فيذكر مكان وجه الشبه ما يستتبعه كما يقال كلام كالعسل في الحلاوة قصدا إلى لازمها الذي هو ميل الطبع، وقيل عليه الظاهر في تشبيه الأمر المعنوي بالحسي في وصف محسوس في المشبه به غير محسو! ى! في المشبه أن ينزل ما في المشبه منزلة المحسوس لكمال المناسبة بينهما،
ويجعلا من نوع واحد إدّعاء ومبالغة في كمال المشابهة فالهيئة المتنزعة من الإضاءة والإنطفاء المعنويين مع بقاء التحير تنزل منزلة تلك الهيئة الحسية ادّعاء، وهذا أقرب إلى مقاصد البلغاء من أن يجعل ما به الاشتراك غير ما يتادر إلى الأذهان من بعض اللوازم، وفي الإتقان عن ابن عباس إنّ هذا مثل ضربه الله للمنافقين كانو! يعترفون بالإسلام فيناكحهم المسلمون ويوارثونهم "! قاسمونهم العز فلما ماتوا سلبهم الله العز.
(أقول) إنّ الفاضل يعني أنّ وجه الشبه ملتئم من عدّة أمور، وطرفاه مركبان والوجه هو
أنهم عقب حصول تباشير المقصمود، وقوّة الرجاء وقعوا في حيرة الحرمان وتيه الخيبة، وهذا أمر مشترك بين الطرفين قطعا من غير حاجة إلى اعتبار لازم له كما في التشبيه بالعسل، ولا حاجة أيضاً إلى أن ينزل ما في المشبه منزلة المحسوس كما توهمه القائل، وإن كان كلام الفاضل لا يخلو من الكدر لكن إذا ظهر المراد سقط الإيراد، وهذا ليس محل تفصيله لكنه لما أورده ذلك المحشي هنا لزم التعرّض! له فتأمل. قوله:(والذي بمعنى الذين إلخ) يعني أنّ الذي له استعمالان في كلام العرب أحدهما أن يكون مفردا والآخر أن يعم المفرد، وغيره كمن وما في الموصولات وضعا لا استعمالا فإن كان ضمير بنورهم المجموع راجعا إليه لا إلى المنافقين كما ستعرفه كان من الثاني، وجعل المصنف رحمه الله المقتضى لتوجيه هو الضمير لا تشبيه الجماعة بالواحد كما في الكشاف ة إنه جعله منشأ للتوجيه لأنّ المقام ليس مقتضيا لتشبيه الجماعة بالواحد كما في قوله:
" - والناس ألف منهم كواحد وواحد كالألف إن أمر عني
فأشار بالعدول عنه إلى الاعتراض عليه بأنّ السؤال غير متوجه بعد بيان المعنى، وأنّ
التشبيه واقع بين حالهم وحال المستوقد لا بينهم وبينه حتى يتوهم ما ذكر وان وجهه الشراح بما كفانا المصنف مؤنته بتركه، ولذا ذكر هذا المصنف عقب قوله والمعنى حالهم إلخ فمن أرجعه إلى ما في الكشاف، وقال: إنّ هذا جواب سؤال تقديره كيف مثلت الجماعة بالواحد فقد وهم، ومثل لمجيء الذي بمعنى الذين بناء على أحد الوجود فيه فلا يرد عليه أنه ليس متعينا له. قوله:(وإنما جاز ذلك إلخ) إشارة إلى ما ذكره النحاة على اختلاف فيه في وضع المفرد موضع الجمع فإنّ منهم من جوّزه مطلقا كما في قوله تعالى {يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا} [غافر: 67] أي أطفالا ومنعه الجمهور وأوّلوا ما ورد منه فعلى هذا لا يصح استعمال القائم بمعنى القائمين، ولا يصح أيضا أن يكون الذي بمعنى الذين على ذكره في بعض الوجوه،
فأشار إلى جوابه على فرض التسليم بأنه خالف غيره لخصوصية إفتضته فإنه إنما وضع ليتوصل به إلى وصف المعارف بالجمل كما جيء بذي توصلَا للوصف بأسماء الأجناس فلما لم يقصد لذاته توسعوا فيه دون غيره، ولأنه مع صلته كشيء واحد وعلامة الجمع لا تقع حشواً فلذا لم يلحقوها به ووضعوه لما يعلم كإخواته، ولما ورد عليه أنه جمع على الذين قال: إنه ليس جمعاً له بل اسم وضع مزيداً فيه لزيادة المعنى وقصد التصريح بها، ولذا لم يعرب بالحروف كغيره من الجموع على الأفصح فإنه يقال: الذين في الأحوال الثلاث، وأمّا اللذون في حالة الرفع كما في قوله:
نحن اللذون صبحوا الصباحا
فلغة قليلة لهذيل وقوم من العرب، ويؤيده أنّ جمع السلامة إنما يكون في الأسماء المتمكنة وأنّ الذي يعم العقلاء وغيرهم والذين يخص العقلاء، وقوله أخواته وفي نسخة أخواتها أي من الأسماء الموصولة كمن وما. قوله:(ولكونه مسنطالا إلخ) علة لقوله إستحق مقدمة عليه للإهتمام بها والإستطالة إستفعال من الطول المقابل للعرض، وهو أطول الإمتدادين إلا أنّ إستطال وطال لازم قال في القاموس طال طولا بالضم إمتد
كاستطال فهو طويل، اهـ. إلا أنّ الزمثس يّ استعمله متعدئا وتبعه المصنف فبنى منه اسم مفعول وكذا وقع في المفصل، وقال شرّاحه: إستطالة عده طويلا إلأ أنهم لم يستندوا فيه إلى نقل من اللغة، وقد ذكر لجواز وضع المفرد موضع الجمع هنا دون غيره وجوها اثنان منها بالنظر إلى نفس الذين، وثالثها بالنظر إلى الصلة ولذا أخره أي لا يستحق أن يجمع لوجهين كونه ليس مقصودا بالوصف فلا يقصد مطابقته حتى يجمع، وأنه كجزء الكلام الذي لا يجمع، ولما ورد عليه أنه جمع على الذين دفعه بأنه ليس بجمع، ولذا لم يجر مجراه في اللغة الفصيحة بل هو مما زيد في لفظه زيادة تدلّ على زيادة معناه على قاعدتهم، وثالثها أنه استحق التخفيف لطوله بالصلة لكنه على هذا حقه أن يقول ولأنه لكونه مستطالا إلخ كما في أخويه فكأنه نبه بصنيعه هذا على إنحطاط رتبته حتى كأنه لا يستحق أن يكون وجهاً مستقلا بل تتمة لغيره، وقيل محصل الوجوه أنّ حذف العلامة في الذين دون القائمين لأمرين.
أحدهما راجع إلى ذي العلامة، وهو كونه وصلة غير مستحق لأن يجمع وكونه مستطيلأ. وثانيهما إلى العلامة وأنها زيادة لا علامة محضة.
وهذا يقتضي أن لا يفصل بين توله ولأنه ليس باسم تام وقوله ولكونه مستطالا ويؤخر
قوله، وليس الذين كما في الكشاف فهذا مناسب لكلام الكشاف والأوّل مناسب لكلام المصنف رحمه الله، وبهذا علم أنّ بينهما فرقا آخر، وكون أل الموصولة أصلها الذي فبولغ في تخفيفها
فحذف ياؤها، وقيل اللذ بذال مكسورة ثم سكنت فقيل اللذ إلخ كما حكاه النحاة مذهب مرجوح فيه تكلفات كما فصل في المطوّلات من كتب العربية.
وأورد على الوجه الأوّل أنه مناف لتوحيد ضمير استوقد، وأجيب بأنه وان كان جمعا
معنى مفرد صورة، قيل: وهذا مع ضعفه معارض بأنّ كونه على صورة المفرد مقتض للجمعية لا للإفراد لما فيه من الإلباس، وفيه نظر، وقرأ ابن السميفع كمثل الذين بلفظ الجمع واستوقد بالإفراد، وهي مشكلة وان خرجت على وجوه ضعيفة، وقد قيل إنّ هذه القراءة مؤيدة للقول بأنّ أصله الذين (وأعلم) أنّ قوله تبعا للزمخشري لم يجز وضعالقائم مقام القائمين إشارة إلى مسئلة ذكرت في المطولات من كتب النحو كما فصله ابن هشام في تذكرته فقال مذهب أبي عليّ الفارسي، وحكي عن ابن كيسان وغيره جواز وضمع المفرد موضع الجمع مطلقاً، وقيل إنه يختص بالمعرفة فقالوا يقال جيرانك ذاهب وقومك راكب وأنشدوا عليه قوله: ياعمروجيرانكم الباكر والقلب لا لاه ولا صابر
وخرجوا عليه قوله تعالى {سَامِرًا تَهْجُرُونَ} [المؤمنون: 67] في أحد القولين
فيه ووجهه في المعرفة ظاهر، وأمّا في النكرة فيحتاج إلى التأويل. قوله:(أو قصد به جنس المستوقدين إلخ) معطوف على قوله بمعنى الذين أي نظر فيه إلى معنى الجنسية العامّة إذ لا شبهة في أنه لم يرد به مستوقد مخصوص، ولا جميع أفراد المستوقدين والموصول كالمعرف بالألف واللام يجري فيه و وهها واسم الجنس وإن كان لفظه مفرداً قد يعامل معاملة الجمع كما في قوله تعالى {عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُندُسٍ خُضْرٌ} [الإنسان: 21] وقولهم الدينار الصفر والدرهم البيض، أو يقال إنه مقدر له موصوف مفرداً للفظ مجموع المعنى كالفوج والفريق، ويلاحظ في الذي وفي ضمير استوقد لفظ الموصوف، وفي ضمير بنورهم معناه، والفرق بين هذين الوجهين أنّ الضمير على الأوّل راجع للذي وعلى هذا للموصوف المقدر. قوله:(والاستيقاد طلب الوقود إلخ) هذا بناء على أصله لأنّ بنية الاستفعال موضوعة للطلب وذهب الأخفش إلى أنّ الاستفعال هنا بمعنى الأفعال كاستجاب بمعنى أجاب في قوله:
فلم يستجبه عند ذاك مجيب
أي لم يجبه ورجح بأنه على الطلب يحتاج إلى التقدير أي طلبوا نارا واستدعوها فأوقدوها فلما أضاءت لأنّ الإضاءة لا تتسبب عن طلب الوقود بل عنه نفسه، والوقود في كلام المصنف بضم الواو مصدر، وأمّا بفتحها فما يوقد به على المشهور، وفوله وهو سطوع النار ضمير هو للوقود وقيل إذا كان هذا معنى استوقد والوقود فلا حاجة إلى ذكر النار، ولذا قيل إنه تجريد وهو غير وارد على من فسر الوقود بإشتعال النار والقول بأنّ التقييد داخل فيه، والمقيد
به خارح عن مسماه بعيد والأمر فيه سهل لعدم احتياجه للتنوير، وإشتقاق النار من نار إذا نفر أو تحرك واضطرب، والنوو مأخوذ من النار
لأنها الأصل فيه وهذا هو المشهور وترك تعريف النار الذي في الكشاف لعدم احتياجها للتعريف كما لا يخفى. قوله: (أي النار ما حول المستوقد إلخ) الضمير المؤنث في قول المصنف رحمه الله جعلتها للإضاءة المفهومة من أضاءت أو لأضاء باعتبار أنها كلمة، والإضاءة جعل الشيء مضيثاً نيرا، وأضاء يكون متعدّياً ولازما كما صرّج به الجوهريّ، وغيره من أئمة اللغة فعلى الأوّل ما موصولة أو موصوفة والظرف المستقرّ صلة أو صفة وهي مفعوله، وعلى الثاني فما كذلك وهي فاعل وأنث فعله لتأويله بمؤنث كالجهات والأمكنة أو فاعله ضمير النار، وما في محل نصب على الظرفية أو زائدة وحوله ظرف كما سيأتي تحقيقه، ونصب ما محلَا على الظرفية لأنه في معنى الأمكنة الآ أنه قيل على هذا إنه يقتضي التصريح بقي إمّا لأنّ ما موصولة معرفة أو في معناها، ولا بدّ في المكان المعين من ذكر في فإنه لا يقال جلست المسجد، وأمّا ما قيل من إنّ في إنما تحذف في لفظ مكان لكثرة استعماله في كلام العرب، ولا كثرة في الموصول الذي عبر به عنه وما أجيب به عنه من أنها تركت لما في الحول من الإبهام وإن كان مضافاً لمعرفة أو إنه مخرج على نحو قوله: كما عسل الطريق الثعلب
فاعترض عليه بأنه لا دخل للتعريف، وغيره في النصب على الظرفية على ما تقرّر في
كتب النحو، وبانّ ما خرج عليه شاذ أو ضرورة لا يقاس عليه، وأمّا الحل بأن ما حوله في معنى عند ونصسب ما في معنى عند لإخفاء فيه، فليس بشيء، وقولهم: إنه مختص بلفظ مكان مخالف لما قرّره النحاة قال: نجم الأئمة الرضي لفظ مكان، وكذا لفظ الموضع والمقام ونحوه ينصب بشرطه، وهو انتصابه بما فيه معنى الاستقرار كقعدت وقمت وهو صريح في خلافه، وهذا كله على ما فيه مما لا يجدي فالحق أن يقال إنّ ما الموصولة أو الموصوفة إذا جعلت ظرفاً فالمراد بها الأمكنة التي تحيط بالمستوقد، وهي جهاته الست وأسصاء الجهات الست مما ينصب على الظرفية قياساً مطرداً فكذا ما عبر به عنها، وهو المراد بالأمكنة اختصارا لا المكان وحده وهذا اللفظ هو الذي أوقعهم فيما وفعوا فيه، وهذا معنى قوله في الكشاف وفيه وجه آخر وهو أن يستتر في الفعل ضمير النار ويجعل إشراق ضوء النار حوله بمنزلة إشراق النار نفسها على أن ما مزيدة أو موصولة في معنى الأمكنة قال قدس سرّه:! أنّ سائلا يقول إذا استتر في الفعل ضمير النار وجب أن توجد النار حول المستوقد حتى يتصوّر إضاءتها وإشرإقها، فأجاب بأنّ النار وإن لم توجد فيما حوله فقد وجد ضوءها فيه فجعل إشراق ضوء النار حوله بمنزلة
إشراق النار نفسها فيه فأسند إليها إسناد الفعل إلى السبب كبني الأمير المدينة فإنّ النار سبب لإشراق ضوئها حول المستوقد، وما-له ما اشتهر في العرف من أنّ الضوء ينتشر من المضيء إلى مقابلاته فيجعلها مستضيئة، وقد قيل عليه إنّ هذا بناء على أنّ إشراق النير في البيت إنما يطلق إذا حل ذلك النير في البيت، وكأنّ المصنف رحمه الله لم يتعرّض له لأنه لا يقول به لإقتضائه أت لا يصلح أن يقال أضاءت الشمس في الأرض إلا على التجوّز، وهو خلاف الظاهر وعلى المدعي إثباته وأيضاً النار في جهة مما حوله ولا يلزم أن تكون في جميع جهاته كما لا يلزم في قولنا أشرق السراج في البيت كونه في جميعه إذ يكفي وقوعه في موضع مّا منه ألا ترى إلى قوله تعالى {وَمِمَّنْ حَوْلَكُم مِّنَ الأَعْرَابِ} [التوبة: 101] ونحوه مما هو شائع في كلام العرب كقول حسان رضي الله عنه:
أولاد جفنة حول قبر أبيهم
- إلى آخر ما فصلوه.
(أ-! ول) قد تقرّر في الحكمة أنّ الضوء عرض، وكيفية مغايرة للون وليس عبارة عن ظهور اللون كما ذهب إليه بعض الحكماء وليس أجساما صغاراً تنفصل من المضيء فتتصل بالمستضيء كما ذهب إليه بعض الحكماء، وان كان قد يشاهد للضوء بروق، وتلألؤ على الجسم حتى كأنه يفيض منه ويضطرب مجيئا وذهابا بحيث يكاد يستره فإن كان ذاتيا كما للشمس سمي شعاعا، وان كان عرضيا كما للمرآة سمي بريقا، وهذا ما أشار إليه قدّس سرّه، ثم إنه إذا تعلق الظرف بفعل قاصر صار ظرفا لفاعله بالذات 6 ولحدثه بالتبع كما في قام زيد في الدأر، وهذا غنيّ عن البيان فإن كان ذلك الحدث له أئر متعد كالإشراق والإصباح فهل يشترط في تحقق النسبة للظرفية ذلك أيضا فلا بدّ من قولك أشرق كذا في لو كذا من كون الإشراق، والمشربن فيه أو يكفي وجود أثره فيه، وإن لم يوجد هو بذاته كما في الأفعال المتعدّية فإنك إذا قلت رميت الصيد في الحرم يكون حقيقة
وان لم يكن الرامي في الحرم على ما ستسمعه إن شاء الله تعالى مفصلا في سورة الأنعام فالعلامة في الكشاف ارتضى الأوّل وجعل ما خالفه مجازا وقياسه مع المتعدّي قياس مع الفارق لأنّ المفعول مظروف حقيقة وان كان لك أن تقول إنه حقيقة عرفية، وفي كلامهم إيماء إليه، وقد يقال إنه لذلك تركه المصنف رحمه الله تعالى، وقياس البيت والبلد على الحول إذا كان بمعنى الإحاطة والجهات غير ظاهر، وقوله على الظرف قيل إنّ تخصيص الإضاءة بما حول المستوقد في الوجهين الأوّلين ظاهر لأنها لا تتعلق بمحل المستوقد وأمّا على الظرفية فغير ظاهر، وليس بشيء لأنّ نحله نفسه على كل حال لا تتعلق به الإضاءة كما قال الشاعر:
وشمس تضيء الأرض شرقاً ومغربا وموضع رجل منه في البيت مظلم
وفيه نكتة لطيفة، وهي الإشارة إلى أنه بنفسه مظلم ظالم لنفسه غير قابل للأنوار الإلهية. قوله:(وقيل للعام حول لآنه يدور) يعني أنّ أصل هذا التركيب من الحاء وما بعدها موضوع للطواف، والإحاطة كالحول بمعنى السنة فإنه يدور من الفصل الذي ابتدأ منه إلى مثله ولما لزم ذلك الانتقال والتغير استعمل فيه بإعتبار. كالإستحالة والحوالة، وان خفي في بعض الموادّ كالحول بمعنى القوّة وهذا مسلك لبعض أهل اللغة ارتضاه العلامة وتبعه المصنف.
وقال الراغب: أصل الحول تغير الشيء وانفصاله عن غيره وباعتبار التغير قيل حال الشيء يحول حولا واستحال تهيأ لأن يحول وباعتبار الانفصال، قيل: حال بيني وبينكم كذا اهـ والعام في تقدير فعل بفتحتين، ولذا جمع على أعوام مثل سبب وأسباب، وقال ابن الجواليقي عوام الناس لا تفرق بين العام والست، فيقولون لأفي وقت من السنة إلى مثله عام، وهو غلط والصواب ما قال ثعلب من أنّ السنة من أفي يوم عددته إلى مثله، والعام لا يكون إلا شتاء وصيقاً، وفي التهذيب أيضاً العام حول يأتي على شتوه وصيفه، وعلى هذا فالعام أخص من السنة فكل عام سنة وليس كل سنة عاما فإذا عددت من يوم إلى مثله فهو سنة، وقد يكون فيه نصف الصيف ونصف الشتاء والعام لا يكون إلأ صيفا وشتاة متواليين كذا في المصباح المنير وحول، وحوال بزنة ظلام وحوالان مثناه وحولان تثنية حول وأحوال جمعه وكلها ظرف مكان سمع منصوبا على الظرفية كما صرّحوا به. قوله:(جواب لما إلخ) قدمه لأنه المتبادر الأرجح عند الأكثر ولأنّ الأصل عدم الحذف، والتقدير ولما حرف وجود لوجود أو وجوب لوجوب أو ظرف بمعنى حين أو إذ لاختصاصها بالماضي فعلى الظرفية الأمر ظاهر إن لم يعتبر فيها المجازاة، وعلى اعتبارها بناء على أنه المعروف فيها يتراءى فيه مانع لفظيّ، وهو توحيد الضمير في استوقد وحوله وجمعه في بنورهم، ومعنويّ وهو أنّ المستوقد لم يفعل ما يستحق به إذهاب الله نوره بخلاف المنافق فجعله جوابا يحتاج إلى التأويل، ولذا أورده الزمخشرفي سؤالا وجوابا والمصنف رحمه الله أشار إلى المانع الأوّل والى أنه كان مقتضى الظاهر أن يقال بنارهم بدل قوله بنورهم، وأمّا العدول عن الضوء إلى النور فلم يتعرّض! له هنا وأخره، وأمّا إسناد الإذهاب إلى الله تعالى فليس بمانع عند أهل السنة فلذا تركه إشارة إلى ابتنائه على الاعتزال، وأشار بقوله وجمعه إلخ إلى جواب الأوّل، ولم يفصله لأته قد سبق ما يغني عنه في بيان إفراد الذي، وأشار بقوله لأنه المراد إلخ إلى اختيار النور على النار لأنه المقصود منها، ولا ينافيه أنه يقصد بها أمور أخر كالإصطلاء (1) والطبخ كما توهم لأنّ هذا أعظم منافعها وأدومها وأشهرها وهو المناسب للتشبيه، والمقام كما يعرفه من تأمل قوله {وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ
؟ حاشية الشهاب لم ج ا / م 37.
ظلمات} [البقرة: 17] وأمّا حمل النار على نار حقيقية لا يرضاها الله كنار الغواة الموقدة للمعاصي المستحقة للإنطفاء من الله أو النار المجازية كالفتنة كما في قوله تعالى {كُلَّمَا أَوْقَدُواْ نَارًا لِّلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللهُ} [المائد 5: 64] ليظهر التسبب فلا يخفى ما فيه من التكلف، وكذا ما قيل من أنّ الإيقاد سبب لفناء الحطب فتكون الإضاءة المتفرّعة عليه سبباً لإنطفائه. قوله:(أو استئناف أجيب به اعتواض! سائل) المراد بالإعتراض التعرض له فرضاً، وليس بمعنى الإشكال هنا وان جاز، وفي المصباح يقال سرت فعرض لي في الطريق عارض من جبل ونحوه أي مانع يمنع من المضيّ، واعترض لي بمعناه ومنه اعتراضات الفقهاء لأنها تمنع من التمسك بالدليل اهـ، وفيه إشارة إلى أنّ الاعتراض بالمعنى المشهور ليس بلغويّ، وإنما هو اصطلاحيّ، وهذا الوجه رجحه
الزمخشريّ لما فيه من المبالغة، والإيجاز بحذف الجواب، وذهاب النفس كل مذهب مع سلامته عن الموانع السالفة، وبين السؤال المقدر بما ذكره وحاصله السؤال عن وجه الشبه فإنّ مشاركة حال المنافقين لحال المستوقد في المعاني المذكورة غير ظاهرة، وحال المشبه معلومة مما مضى، وحال المشبه به وهو المستوقد مذكورة، فأجيب بأنهم بعدما منحوا الهدى {خَتَمَ اللهُ عَلَى قُلُوبِهمْ} وصيرهم هائمين في الضلالة التي هي ظلمات بعضها فوق بعفر،، ثم لا بدّ للحذف من مجوّز ومرجح على الإثبات الذي هو الأصل، فأشار المصنف إلى الأوّل بأمن الإلباس، وإلى الثاني بالإيجاز وعدل عن قول الزمخشريّ، وإنما جاز حذفه لإستطالة الكلام أي لطوله لما قيل عليه من أنه لا استطالة هنا بخلاف قوله قلما ذهبوا به، وإن دفع بأنّ المراد لولا حذف ذلك الجواب لطال الكلام، وأيضا عد الإستطالة في المرجح أولى من عدّها في المجوز، ودفعه بأنه حاول أن يذكر في كل منهما أمرين ليس بشيء كما قاله قدّس سرّه هذا، وفد قيل إن جعل ذهب الله جوابا أوى لعدم الإستطإلة، ولأنّ كونه من تتمة التمثيل الأوّل يوجب مطابقته للتمثيل الثاني لاشتماله على مبالغات، ومن دأب البليغ أن يبالغ في المشبه به ليلزم منه المبالغة في المشبه ضمناً، والحمل على الإستئناف ضعيف لأنّ السبب في تشبيه حالهم قد علم مما سبق فلا معنى للسؤال عن وجه الشبه، أو تعيين المشبه، وجعله بدلا من جملة التمثيل يدل على أنّ المذكور لفظاً أو في لتأدية الغرضى مما حذف لقصور العبارة عنه، وهو باطل نعم لو قيل ذهب الله ابتداء كلام لبيان حال المشبه لم يكن بعيدا، ولعل ما ذكره المصنف من نكتة الحذف ليس إيثارا له بل إيناساً به، وإزالة لاستبعاده فالوجه هو الأوّل وسيرد عليك من كلامه ما يشعر به، وأجيب بأنّ الحذف لما كان أبلغ كانت المبالغة في المشبه به كثر والتطابق بين التمثيلين أوفر، وأيضاً إذهاب النور، وتركهم في ظلمات يدل على أنه كان لهم نور فزال، وصاروا متحيرين خابطين فتكون المبالغة في الطوفين أمّ في المشبه به فبالحذف، وأمّا في المشبه فباللفظ وهذا أوفى بتأدية الغرض الذي هو بيان حال المنافؤين وقيل إنّ قول المصنف رحمه الله شبهت حالهم إلخ معنا، أنّ له حالين
الأولى إنطفاء ناره بالكلية بحيث لا يبقى لها أثر، والثانية إنطفاؤها مع بقاء الأثر ففي أيّ الحالتين شبه المنافقون بالمستوقد فكأنه قيل في الأولى حيث ذهب الله بنورهم إلخ فإنّ الميالغات التي فيه تفيد عدم بقاء الأثر فيكون هذا الاستئناف مما يكون السؤال فيه عن أمر غير سبب الحكم هو وجه الشبه أو المشبه، ومما حذف فيه الاسنئناف كله مع قيام شيء مقامه قوله:
زعمتم أنّ أضص تكم قريش لهم ألف وليس لكم آلاف
فعلم من هذا أنّ وجه الشبه أو المشبه لم يعلم على التعيين مما مرّ، وأنّ حذفه وجعل المذكور استئنافا أبلغ من كونه جوابا لما فيه من بيان حال المشبه بوجهين يوجبان الأبلغية الإجمال والتفصيل، والتصريح بالمبالغة بدون اكتفاء بما في ضمن المبالغة في المشبه به فيطابق التمثيل الثاني بل يكون أبلغ فلا يرد عليه ما في الكشف من الاعتراض! .
(أقول) وبالله التوفيق كون الجواب أرجح كما أشار إليه المصنف بتقديمه بأنّ المهم المقدم وارتضاه المدقق مما لا يخفى على من له إنصاف وتطابق التمثيلين وجريهما على نهج فيه أظهر من الشمس، وكل ما ارتكبوه في ردّه على طرف الثمام، والمرجح المذكور معارض بما فيه من الحذف الذي هو خلاف الأصل وبما فيه من الإلباس لاحتمال قوله {ذَهَبَ اللهُ بِنُورِهِمْ} غيره بحسب الظاهر المتبادر وقرينة جمع الضمير خفية فالحق الحقيق بالقبول ما في الكشف فإنه غنيّ عن الكشف، وكيف يتعين بما ذكر المراد من أنه لم يبق له أثر، وهذا إنما يتضح لو قيل بنارهم بدل بنورهم. قوله:(أو بدل من جملة التمثيل إلخ) معطوف على قوله جواب لما وقد سمعت آنفاً ما في الكشف في البدل فليكن على ذكر منك إذ لا فائدة في الإعادة، والذي يهمنا هنا بيان ما يتعلق به غير ذلك، وإنما قال: المصنف على سبيل البيان إلف رة إلى أنّ المبدل منه ليس في نية الطرح كما اشتهر في أمثاله فهذا معتبر أيضا لأنّ المصرّح به في التمثيل حال المشبه به، وأردفه بالتصريح مجال المشبه على هذا التقرير، ولذا قيل إنه بدل كل والبيان لازم، ولذا جعل بعض المحققين عطف البيان
كله بدل كل وهو في الجمل التي لا محل لها يفيد مفاد المبدل منه فيبينه ويؤكده، وهذا بناء على أنّ المراد بالبدل بدل الكل في الكل، والظاهر أنه بدل بعض لأنّ جملة التمثيل من قوله مثلهم إلى قوله حوله مشتملة على حال المشبه والمشبه به، وهذه الجملة مقصورة على الثاني فكونها بدل أقرب إن قلنا بجريانه في الجمل ولا يلزمه الضمير لأنه شرط بدل البعض، والاشتمال في المفردات دون الجمل لعدم صلاحيتها لذلك باقية على أصلها، وقيل إنه بدل اشتمال لأنّ الغرض بيان حال المنافقين من ظهور نورهم حالاً، ثم اضمحلاله مآلاً، وظاهر أنّ هذا أوفى بتأدية الغرض من ذلك فهو بمنزلة:
أقول له ارحل لا تقيمن عندنا
فسقط اعتراض! صاحب الكشف السابق على ما في الكشاف، وقد قدمنا لك أيضاً ما زعمه أبو حيان في ردّ البدلية من أنّ انفعلية لا تبدل من الاسمية اتفاقا، وقيل إنّ الجملة الأولى لا محل لها والبدل تابع معرب بإعراب سابقه فلا تصح البدلية، ورد ما ذكره رواية ودراية من غير حاجة إلى الالتجاء إلى أنّ المراد بالبدل هنا ليس هو البدل النحوي بل أن تكون الجملة الثانية مفسرة، وموضحة للأولى قائمة مقامها في الجملة فتحصلى لك في البدل احتمالات أربعة. قوله:(والضمير على الوجهين للمنافقين) أي على أنه استئناف أو بدل وجواب لما محذوف وتقديره إنطفأت أو خمدت وقد مرّ بيانه وشرح ما ذكره المصنف هنا من المجوّز والمرجح، ووجه عدوله عما في الكشاف من الإستطالة إلى الإيجاز والإعتراض عليه بأن تبادر الجوابية من جملة ذهب إلخ موقع في الإلباس، حتى قال أبو حيان أنه الغاز وهو مدفوع بأنّ ضمير الجمع قرينة على أنه راجع للمنافقين المشبه وهو يقتضي أن لا يكون جواباً، فإن قلت إن سلم هذا اقتضى أن لا يصح كونه جوابا، وهو لأرجح عند المصنف رحمه الله، قلت القرينة لا يلزم أن تكون قطعية ولذا تراهم يجوزون تقادير مختلفة في تركيب واحد من غير نكير، ولذا قالوا في نكتة الحذف هنا أنها إيهام أنّ الجواب مما تقصر عنه العبارة لأنّ ما قدروه أمر غير متعين وأتى المصنف رحمه الله له بنظير من القرآن المجيد، وان كان ثمة الإستطالة ظاهرة لأنه عنده مثبت للحذف لأجل الإيجاز فتدبر. قوله:(وإسناد الإذهاب الخ) عبر بالإذهاب الذي هو مصدر المزيد والمذكور في النظم ذهب إشارة من أوّل الأمر إلى المعنى المراد، وأنه لتعديه بالباء في معنى إذهب كما ستراه.
وفي الكشاف فإن قلت فما معنى إسناد الفعل إلى الله تعالى في قوله {ذَهَبَ اللهُ بِنُورِهِمْ}
قلت إذ! طفئت النار بسبب سماويّ ريح أو مطر فقد أطفأها الله تعالى، وذهب بنور المستوقد، ووجه آخر وهو أن يكون المستوقد في هذا الوجه مستوقد نار لا يرضاها الله، ثم إمّا أن تكون ناراً مجازية كنار الفتنة والعداوة للإسلام وتلك النار متقاصرة مذة اشتعالها قليلة البقاء، ألا ترى إلى توله {كُلَّمَا أَوْقَدُواْ نَارًا لِّلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللهُ} [المائدة: 64] وأمّا ناراً حقيقية أوقدها الغواة ليتوصلوا بالإستضاءة بها إلى بعض المعاصي، ويتهدّوا بها في طرق العيث فأطفأها الله وخيب أمانيهم، وإنما أوردناه برمته لتعلم مراده ومراد المصنف رحمه الله فتتحقق الفرق بينهما، وقد ذهب اكثر إلى أن السؤال على تقدير كونه جواب لما وأنه لدفع المانع المعنويّ الذي قرّرناه اوّلا وأنه مبنيّ على الاعتزال وقاعدة الحسن والقبح لأنّ إطفاء نار المستوقد عبث والعبث عندهم قبيح والوجوه ثلاثة والإسناد. على الأوّل منها مجازقي لكونه المسبب في الريح والمطر، وقال المحقق إنه من قبيل أقدمني حق لي على فلان وهناك قدوم بلا إقدام، وفائدة الإسناد المب لغة في الإذهاب وعلى الئاني فالمراد كما قاله قدس سرّه مستوقد
نار لا يرضاها الله، وإطفاؤها ليس قبيحاً، وسواء كان! ت النار مجازية أو حقيقية فالإسناد حقيقيّ، فإن قيل المنافق مستوقد نار الفتنة والعداوة مع ما ذكر من الإضاءة فلا معنى للتشبيه، قيل: هذا المستوقد أعئم وقيل: إنه لا حاجة في توجه السؤال إلى أنّ ذلك الإذهاب قبيح مانع من صحة الإسناد عنده بل يتجه بمجرّد أنّ. الإذهاب عادة يقع بالأسباب بل قبحه علئ- رأي المعتزلة محل مناقشة إلأ أنّ تقريره للجواب الأخير يشعر باعتبار القبح في السؤال، والأظهر في الجواب أن يقال لا حاجة في تمثيل حال المنافقين إلى تحقق الإذهاب من الله تعالى لنورهم إذ يكفي فيه الفرض! والتقدير؟ وعدم رضا الله تعالى بإستيقاد النار لا يلائم التمثيل، والحق في الجواب عن اعتبار التشبيه في نار الفتنة أنهم لم يوقدوا
نار الفتنة بتهييج الحروب إذ لم يفعلوا ذلك وإنما صدر منهم ما يؤدّي إليه كما مرّ في تفسير قوله تعالى {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُواْ} وأمّا الجواب بأنّ المستوقد أعمّ من المنافقين ففيه إنه لا يحسن تشبيه الخاص بالعام إلا أن يراد بالأعم الخاص الآخر المقابل للمشبه.
(أقول) هذا ما في الكشاف، وشروحه ومراده بالتجوّز في النار أنه استعارة تصريحية حيث شبه تهييج الفتن والحروب بإستيقاد النار تشبيه معقول بمحسوس بجامع عقليّ، وهو الإصرار بما يصادفه وأثبت له ما يخصه، وهو الإيقاد ففي الكلام استعارة في تشبيه، وهو من أبلغ ما يكون، وذكر المجاز وإرادة الاستعارة غير مستبعد، ثم إنهم اتفقوا على أن توجيه الإسناد في الكشاف مبني على جعل جملة ذهب جوابا للما والضمير للمستوقد، وانه على الأوّل مجاز في الإسناد لا حقيقة له بناء علىءا قاله عبد القاهر، والشريف لم يعرج على هذا نفيا واثباتا، فكأنه ليس عنده ثلج صدر مته، ووجهه إنه إذا لم يكن فعل الله والريح ونحوه ليس بفاعل مختار وإنما هو سبب عادي لم يكن له فاعل حقيقي، وقد جوّز أهل المعاني مثله وهو كلام حسن، وما ذكره قدس سرّه من تشبيه الخاص بالعام لا وجه له، والمعروف عكسه وهو نوع من التشبيه يسمى التمثيل كما تقول الجمل الفعلية كقام زيد، ولو عكسته كان عبثا، وقد صزح به اً هل المعاني، وأمّا ما ذكره المصنف رحمه الله فالظاهر أنه توجيه للإسناد على الوجوه كلها سواء رجع الضمير إلى المستوقد أو إلى المنافقين، وقوله كريح ومطر إلخ ناظر إلى عوده على المستوقد، وهو مقابل للسبب الخفيّ وما يحصل بأسباب سماوية يسند إلى الله تعالى عادة والسبب الخفيّ يعتبر بحسبه، وهو ناظر إلى عود الضمير للمنافقين كما أشار إليه هنا بعض المتأخرين رحمه الله، فقوله لأنّ الكل بفعل الله بناء على مذهب أهل السنة من أنه الفاعل لكل شيء حسناً كان أو قبيحا ولا قبح فيما صدر عنه سبحانه، وفعل الإطفاء إن كان بدون سبب عاديّ، فهو من الله واسناده إليه حقيقة على هذا، وخفاؤه بالنسبة إلينا لعدم إطلاعنا عليه فإذا كان من أحوال المستوقد المشبه به فهو أمر فرضيّ لغير فاعل معين ترى ناره، ويدري ما يطفئها فأسند إلى الفعال المطلق الذي بيده التصرّف في الأمور كلها، والظاهر أنه حقيقة على هذا أيضا
وأما إذا أطفئت بأمر سماوي كريح هبت بقدرة الله تعالى فهو الفاعل، والريح اكة كالسكين للقاطع، وإذا قصد المبالغة التي سنقرّرها فهو محتمل للحقيقة، والمجاز بناء على تفسير النار فكلام المصنف مخالف لما في الكشاف من وجوه فمن طبقه عليه، وقال في تقريره إنه يشير إلى أنه على تقدير رجوع الضمير للمنافقين حقيقة بلا خفاء، وعلى رجوعه للذي استوقد فلا يخلو من أن يكون حقيقة أو مجازا، وعلى الثاني إمّا أن يعتبر له فاعل حقيقيّ لو أسند إليه كان حقيقة، وقد نقل عنه إلى الفاعل الجازي أولا وعلى الأوّل إمّا أن يكون الفاعل مجهولا أو معلوما فأشار إلى الأوّل بقوله لأنّ الكل إلخ، وإلى الثاني بقوله أو لأنّ الإطفاء حصل بسبب خفيّ، وإلى الثالث بقوله أو أمر سماويّ إلخ وإلى الرابع بقوله أو للمبالغة كأقدمني حق لي عليك فقد ألزمه بما لا يلتزمه وفسر كلامه بما لا يحتمله، وبما عرفت من تفسير السبب الخفيّ عرفت سقوط ما قيل عليه من أنه تعالى لا يخفى عليه شيء إلى آخر ما أطال به من غيرطائل، وقد بقي هنا أمور يضيق عنها نطاق البيان. قوله:(ولذلك عدي الفعل بالباء دون الهمزة إلخ) أي الباء والهمزة للتعدية إلا أنّ الباء لما فيها من معنى الإلصاق والمصاحبة أبلغ من الهمزة، ولذلك عدي بها هنا والفرق بينهما مذهب المبرد وارتضاه كثير من المحققين وفي المثل السائر كل من ذهب بشيء فقد أذهبه، وليس كل من أذهب شيئا ذهب به لأنه يفهم من ذهب به أنه استصحبه معه وأمسكه عن ال- جوع إلى حاله الأولى، وليس كذلك أذهب، وارتضاه أبو حيان، واستدل عليه بأمور مفصلة في محلها ردا وقبولاً، وذهب سيبويه إلى أنهما بمعنى وتبعه أكثر النحاة، واستدل بهذه الآية لأنه تعالى لا يتصف بالذهاب فمعناه أذهبه لا غير، ودفع بأنه مجاز هنا عن شدة الأخذ بحيث لا يرد كما في قولهم ذهب السلطان بماله فإنه مجاز عن المعنى المذكور بذكر الملزوم، وارادة اللازم فإنّ السلطان لم يذهب، ولم يجعل المال ذاهبا وإنما أخذه وأه سكه، فإن قلت هذا الفرق بين تعدية الباء، والهمزة هل هو مخصوص بهذه المادّة أم لا وعلى ك تقدير كيف يقال إنّ المبالغة جاءت من الإلصاق، والمصاحبة وهو
معنى آخر للباء غير التعدية مع أنّ كثيراً من النحاة ذهب إلى أنّ باء المصاحبة مع مجرورها كجاء بثياب السفر ظرف مستقرّ أبدا، وهو مضاف لما ذكر قلت من النحاة من قال: إنه لا يختص بمادّة، وليس المراد بالاستص! اب المصاحبة التي يعبر عنها بمع بل الملازمة، وعدم الإنفكاك كما أشار إليه المصنف بعطف الاستمساك بمعنى الإمساك عليه عطفاً تفسيريا وقد نقل أهل اللغة عن ابن فارس أنّ كل شيء لازم شيئا فقد استصحبه ومنه الاستصحاب عند أهل الأصول لعدم انفكاكه عما كان عليه، والذهاب بمعنى المضيّ، ويستعمل في الأعيان والمعاني كقوله تعالى {إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي} [الصافات: 99] وقوله تعالى {فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ} [هود: 74] وكون المبالغة هنا من إسناد الذهاب إلى الله بمعنى الأخذ والإمساك، وهو القويّ العزيز الذي لا رادّ لما أخذه ولا مرسل لما أمسكه ظاهر أمّ كونه من قبيل أقدمي حق لي
فقد عرفت حاله فتدبر. قوله: (ولذلك عدل عن الضوء إلخ) أي لقصد المبالغة عدل عن الضوء مع أنه مقتض الظاهر المطابق له لقوله أضاءت، وهذا بناء على أنّ الضوء أقوى من النور لقوله تعالى {جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاء وَالْقَمَرَ نُورًا} [يونس: 5] والإذهاب والإزالة نفي معنى ونفي الأشد لا يفيد نفي ما دونه بل ربما يشعر بثبوته، وأعترض عليه بأنّ إطلاق النور على الله تعالى دون الضوء ينافيه، وإن كان مجازا بمعنى الهادي، وبأنّ أهل اللغة سوّوا بينهما.
وفي الكشاف: والنار جوهر لطيف مضيء حار محرق، والنور ضوءها وفي الكشف إنّ
فيه توسعا لما سيذكره من أنه أدنى من الضوء لكنه شائع في عرف الاستعمال كما أخذ أصل التفاوت من استعمال البلغاء لا أصل الوضعمن نحو جعل الشمس ضياء إلخ وقولهم أضوأ من الشمس، وأنور من البدو ذكره في الأصاس، والتحقيق أنّ الضوء فرع النور يقع على الشعاع المنبسط لا أنهما واحد كما نقل عن ابن السكيت، ولهذا يقع على الذوات الجوهرية بخلاف الضوء والأبصار بالفعل بمدخلية الضوء فجاءت المبالغة من هذا الوجه، ولهذا كان جعل الشمس سراجا أبلغ من جعل القمر نوراً، فافهم، ولا تلتفت إلى ما نقل من إعتراض صاحب الفلك الدائر ولا إلى جوابه، فقد تبين لك القشر من لبابه، اهـ.
وقال قدس سرّه: إطلاق كل واحد من الضوء والنور على الآخر مشهور فيما بين الجمهور، فلا ينافي الفرق المأخوذ من استعمال البلغاء على ما ذكره ولا المأخوذ من اصطلاح الحكماء وهو أنّ الضوء ما يكون للشيء من ذاته، والنور ما يكون من غيره.
(أقول) ! اذكره قدّس سرّه يقتضي أنّ كلَا منهما يطلق على ما يطلق عليه الآخر فهما كالمترادفين، والفرق إنما نشأ من الاستعمال أو الإصطلاح لا من أصل الوضعواللغة فكأنه لم يرتض ما في الكشف لأنّ محصله أنّ الضوء أقوى من النور في عرف الاستعمال، والتفاوت بينهما من عرف اللغة والاستعمال، وليس بوضمي فإنهما في أصل الوضع متغايران إذ النور أصل والضوء شعاعه وفرعه، ولذا كان النور يطلق على الذوات المجرّدة دون الضوء والضياء، وأنّ الإبصار لما كان بواسطة الشعاع المنتشر كان بهذا الاعتبار أقوى من النور في المعنى المقصود منه، وهو الإظهار لأن النور هو الظاهر بنفسه المظهر لغيره، وكأنه لم يرتضه لمخالفته لما تقرر في الحكمة والكلام على ما فصل في شرح المقاصد، إلا أنّ المحققين من أهل اللغة ارتضوه، وقالوا: إنه الموافق لاستعمال العرب العرباء فإنهم يضيفون الضياء للنور، وششدونه له فيقولون ضياء النوو، وأضاء النور كما قال ورقة بن نوفل:
ويظهر في البلاد ضياء نور
وقال العباس رضي الله عنه:
وأنت فماظهرت أشرقت الأرض وضاءت بنورك الأفق
وهو المذكور في الأساس، وقال العلامة السهيلي في الروض الأنف إنه " هو الحق عند
من يعرف اللغة والاستعمال فقال. بعدما أنثدناه من الشعر، وهذا يوضح لك معنى النور، ومعنى الضياء وأنّ الضياء هو المنتشر عن النور وأنّ النور هو الا صل للضوء ومنه مبدؤه وعنه يصدر وفي التنزيل فلما أضاءت ما حوله وفيه جعل الشمس ضياء والقمر نوراً لأنّ نور القمر لا ينتشر عنه من الضياء ما ينتشر من الشمس لا سيما في طرفي الشهر، وفي الصحيح " الصلاة نور والصبر ضياء " (1 (وذلك أنّ الصلاة هي عمود الإسلام، وهي ذكر وقرآن، وهي تنهى عن الفحشاء والمنكر فالصبر عن المنكرات، والصبر على الطاعات هو الضياء الصادر عن هذا النور
الذي هو القرآن، وفي أسماء البارىء تعالى نور السموات والأرض ولا. - يجوز أن يكون الضياء من أسمائه سبحانه، اهـ وهذا كله يقتضي أنّ أصل مسمى النور، وحقيقته جسم نورانيّ فإنا إذا أوقدنا حطبا وفتيلا مثلا فالجسم المحترق جمر وفتيل، ويتصل به جور آخر جسمانيّ لطيف قابل لأشكال مختلفة مركب من هواء مزاجه أبخرة وأجزاء لطيفة، وهذا هو النور فإن أطلق على غيره فتجوّز وتسمح معروف في اللغة صار حقيقة عرفية فيه، ويتفرّع على هذا أشعة منبثة متباعدة عنه وهي كيفية، وعرض للهواء وذهب بعض الحكماء إلى أنه أجرام صغار منتشرة فإن عنى أنّ هذا مسمى النور الذي ذكر آنفا فليس بعيدا عن الصواب، والفرق حينئذ بين النور والنار مما يعرفه أولو الأبصار، ومن هنا عرفت وجه تسمية الرب الغفور بالنور فإن فهمت فهو {نُّورٌ عَلَى نُورٍ} [سورء النور: 35] فاحفظه فإنه يستحق أن يكتب بالتبر على خدود الحور. قوله: (فذكر الظلمة إلخ) يعني أنّ ذكر الظبمة المؤكدة لذهاب النور، يقتضي أيضاً أنّ هذه الجملة " مؤكدة لما قبلها كما هو مقتضى المقام إلأ أنه قيل عليه إنه حينئذ لا وجه للوصل فيحتاج دفعه إلى جعل الواو للحال بتقدير قد أي، وقد تركهم فالحال حال مؤكدة وفي بعض الحواشي إنّ المصنف رحمه الله يعني أنّ المراد إزالة النور بالكلية، فإنّ قوله: وتركهم معطوف على قوله {ذَهَبَ اللهُ بِنُورِهِمْ} والعطف قد يكون للتفسير والتقرير، وفيه إشارة لدفع ما ذكر لكنه مخالف لما في كتب المعاني فإنّ المسطور فيها ما ذكره المعترض! فالذي ينبغي أن يقال إنّ هذا لكونه أوكد واو في بأداء المراد جعل بمنزلة شيء آخر مغاير لما قبله كما قرّره الفاضل المحقق في المطوّل في قوله تعالى {يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءكُمْ} [البقرة: 49] كما سيأتي بيانه، وأمّا ما أجاب به المعترض فليس بصحيح لفظا ومعنى، أمّا الأوّل فلما فيه من إيهام خلاف المراد لتبادر
العطف منه، وفي اقتران الحال المؤكدة بالواو نظر ظاهر لأنّ واو الح لله ل في الأصل عاطفة، وهذه من الم! ، ئل الغريبة وفي شرح الألفية لابن مالك وتبعه ابن هشام إذا كانت الجملة الاسمية حالا مؤكدة لزم الضمير وترك الواو نحو هو الحق لا شبهة فيه، وذلك الكتاب لا ريب فيه إلا أنهم خصوه بالاسمية، وأمّا الفعلية فلا أدري حالها، وأمّا الثاني فلأنّ هذه الجملة الماضوية إذا كانت حالاً، وقدر معها قد تقتضي ثبوت الظلمة قبل ذهاب النور ومعه وليس المعنى عليه كما لا يخفى، والإنطماس من ط مسه إذا محا. وأزاله وهو يتعذى ولا يتعدى. قوله:(التي هي عدم النور) تبع فيه الزمخشرفي، وترك قيد عما هو من شأنه، وهو المصرّج به في كتب الكلام لأنها عندهم عدم ملكة للضوء والنور وهما بمعنى عندهم وذهب بعضهم إلى أنها كيفية وجودية، وتصريح المصنف رحمه الله تعالى بالعدم رذ عليه فعلى الأوّل بينهما تقابل العدم، والملكة وعلى الثاني تقابل التضاد وتمسك القائلون بأنها وجودية بقوله تعالى {جَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ} [الأنعام:! ا] فإنّ المجعول لا يكون إلا موجوداً وأجيب عنه في شرح المقاصد بالمنع فإنّ الجاعلى كما يجعل الوجود يجعل العدم الخاص كالحمى، والمنافي للمجعولية هو العدم الصرف وإذا قلنا بأنهما من قبيل العدم، والملكة فلا بد من القيد المذكور فإن لم نقل بذلك فتركه لازم فيكون عدماً مقيداً أو مطلقا، وكأنّ المصنف رحمه الله إنما ارتضاه ليصدق على الظلمة الأصلية السابقة على وجود العالم كما ورد في الآثار من نحو كان الناس في ظلمة فرس عليهم من نوره، وما قيل من أنّ زيادة هذا القيل دعوى غير مسموعة لا يعوّل عليه لما عرفت، وعلى هذا فهو كما أرتضاه بعضهم من تقابل الإيجاب والسلب ووجوه التقابل ثلاثة، وقوله وانطماسه بالكلية قيل عليه إنّ الظلمة لها مراتب كثيرة، وهذا أعلى مراتبها وهو المذكور في قوله تعالى {ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا} [النور: 40] فلا ينبغي اعتبار هذا القيد في مطلق الظلمة، وليس بشيء لأنّ صرف الظلمة لا بد فيه من هذا، وهو المتبادر من إطلاقها، وقوله لا يتراءىء إلخ أي بحيث لا يرى شيء فيها، وإنما عبر بالترائي وأتى بقوله شبحان مثنى شبخ بشين معجمة وياء موحدة مفتوحتين تليهما حاء مهملة الشخص الذي يرى، ولا يدرك مشخصاته لبعد وغيره مبالغة في عدم الرؤية لأنّ المراد بهما الرائي والمرئيّ من الشخصين المتقابلين، ولذا عبر بالتفاعل إذ المراد أن يكون من شأنهما أن يرى أحدهما الآخر، وقيل إنه إشارة إلى أنّ الظلمة إذا كانت متراكمة فغاية ما يرى فيها مجرّد الشبح فإذا لم ير فيها الشبح كانت الظلمة في أعلى
مراتبها. قوله: (ووصفها إلخ) ظاهره أنه جعل جملة لا يبصرون صفة لظلمات، والعائد مقدّر أي فيها؟ ولو جعل حالا من ضميرهم استغنى عن التقدير ولا يخفى حسنه هنا لأنّ شأن المستضيء في الظلمة زوال إبصاره بالكلية عقب الضوء بخلاف غير المستضيء، فإنه قد يرى في الظلمة والوصفية أظهر في إفادة هذا المعنى. قوله:(وترك في الأصل بمعنى طرح إلخ) يعني أنّ أصل معنى ترك المشهور طرح
الشيء، وإلقاؤه كما يقال ترك العصا من يده أي رماها أو تخليته، وإن لم يكن في يده سواء كان محسوساً أو غيره كما يقال ترك وطنه وترك دينه، وقال الراغب: ترك الشيء رفضه قصداً وأختيارا أو قهراً واضطراراً، وفي المصباح تركت المنزل تركاً رحلت عنه، وتركت الرجل فارقته، ثم استعير في المعاني فقيل ترك حقه إذا أسقطه، وهذا لا كلام فيه وأنما الكلام في كونه من النواسخ الناصبة للمبتدأ والخبر بمعنى صير فذكر ابن مالك في التسهيل أنه من معانيه الوضعية، وأنه حينئذ ينصب مفعولين وعلى الأوّل ينصب مفعولا واحداً، وظاهر قول المصنف رحمه الله تعالى تبعاً للزمخشري إنه ضمن معنى صيرانه استعمال طارىء عليه غير وضعيّ، ويجوز أ! يكون وضعياً لأنهم يطلقون التضمن على جزء المعنى الوضعي كما في عرف أهل الميزان فيقولون من تضمنت معنى الاسنفهام، وكلامهم هنا يوهم أنّ الآية مقصورة على المعنى الثاني دون الأوّل، وفي أمالي ابن الحاجب إنه من القبيل الأوّل وهم مفعوله {فِي ظُلُمَاتٍ لَاّ يُبْصِرُونَ} [البقرة: 17] حالان مترادفان من المفعول وقيل إنهم يجوّزونه أيضا وإنما تركوه لظهوره وعلى ما ذكرهم مفعوله الأوّل والثاني في ظلمات ولا يبصرون صفة أو حال من الضمير المستتر فيه، اً ومن هم أو خبر بعد خبر أو هي حال مؤكدة لا خبر وفي ظلمات حال لأنّ الأصل في الخبر أن لا يكون مؤكداً وإن جوّزه بعضهم فتأمّل. قوله:(فتركتة إلخ) هو من قصيدة عنترة المشهورة وهي من المعلقات السبع وأوّلها:
يا دارعبلة بالجواء تكلمي وعمي صباحا دارعبلة واسلمي
ومنها في صفة بطل نازله:
ف! شككت بالرمح الطويل ثيابه ليس الكريم على القنا بمحرّم
فتركته جزرالسباع ينشنه مابين قلة رأسه والمعصم
ومسك سابغة هتكت فروجها بالسيف عن حامي الحقيقة معلم
إلى آخر القصيدة، وهي طويلة فما ذكر صدر بيت منها عجزه ما ذكرناه وروي: يقضمن حسن بنانه والمعصم وضمير الغائب للبطل المدجج السابق ذكره في القصيدة، وتركته بالإسناد لضمير المتكلم وروي تركنه بالنون والضمير للنساء أو للقنا وجزر بفتح الجيم وسكون الزاي المعجمة، وبعدها راء مهملة كما ضبطه شرّاح المعلقات فعل بمعنى مفعول، ويقال لما تأكله السباع جزر السباع لأنها تجزره أي تذبحه بأنيابها، ويقال أجزرت فلاناً شاة إذا أعطيتها له كلها هذا ما يعتمد عايه هنا، وقيل جزير بضم فسكون أو بضمتين جمع جزرة، وهي شاة معدة للذبح والنوس التناول بسهولة والقضم بالقاف والضاد المعجمة اكل بمقدّم الأسنان، وعليه
الرواية هنا وليس كما قيل إنه بالفاء والمهملة بمعنى الكسر، والمعصم بكسر الميم موضع السوار من الساعد والبيت ليس بنص في العمل كالآية لاحتمال كون جزر السباع حالا أيضا، ومعناه تركته عرضة للسباع تأكله لإنهزام قومه ومنعهم عن دفنه أيضاً، وكونه معرفة إن سلم لا يسد باب الاحتمال. قوله:(والظلمة مأخو " إلخ) بيان لأصل المزيد والمجرّد المأخوذ منه، وظلم الثلاثي وإن أثبته أهل اللغة فعلا للظلمة أيضاً إلا أنهم أشاروا إلى أنّ أصل معناه يدور على المنع فلذا جعلوه مأخوذاً منه، وهذا ما عليه أهل اللغة في الاشتقاق وليس الزمخشري أبا عذرته وفي مثلثات ابن السيد الظلم بفتح الظاء شخص كل شيء يستبصر الناظريقال لقيته أوّل ذي ظلم أي أوّل شخص سد بصري، وزرته والليل ظلم أي مانع من الزيارة، وفي الأساس ما ظلمك أن تفعل كذا أي منعك، ومنه الظلمة لأنها تسد البصر وتمنعه من النفوذ فقيل هو بعيد جدا ووجه إستبعاده ما فيه من جعل المعنى الحقيقي المشهور مأخوذاً من معنى مجازيّ غير معروف، وقد عرفت
ما يدفعه، وقيل سدّ البصر ومنع الرؤية بناء على ما يعتقده الجمهور فلا يتجه عليه أنّ العدم لا يكون مانعا فيقال إنه مبنيّ على رأي غير مقبول من أنه كيفية وجودية وعدم الشرط لا يكون مانعا عن وجود المشروط، فعده مانعاً مبنيّ على التوسع والتسامح. قوله:(وظلمائلهم طلمة الكفر إلخ) توجيه لجمع الظلمة بما يعلم منه معناها هذا بناء على أنّ الظلمة مجازية فإضافة ظلمة الكفر وما بعده من قبيل لجين الماء فالمراد بالنفاق أحواله اللازمة له غير الكفر الخفي، وقوله {وظلمة يوم القيامة يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ} [الحديد: 12] يوم الثاني بدل من الأوّل أو عطف بيان له وهو إقتباس إلا أنه قيل عليه إنّ ظاهر قوله تعالى {وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَاّ يُبْصِرُونَ} وجودها في الدنيا بل في ابتداء إذهاب الله نورهم، وقد يجاب عنه بأنه لما تقرّر في حقهم أن يكونوا يوم القيامة في ظلمة صار كأنه واقع بهم ولا يخفى بعده، والظاهر أنّ المراد بظلمة يوم القيامة ظلمة كانت لهم في الدنيا لكنها ظهرت في يوم القيامة كما أنّ نور المؤمنين كذلك كما يشير إليه قوله يوم ترى فهو كقوله {وَمَن كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الآخِرَةِ أَعْمَى} [الإسراء: 72] والمراد إقرارهم اللساني، وأحكام الإسلام التي أظهروها في الدنيا إلا أنها لعدم مواطأتها للقلب تعد أوزاراً فهي ظلمات بعضها فوق بعض، وفي تفسير السمرقندي إشارة إليه فإن قلت قد مرّ أنّ الضمائر إمّا للمنافقين أو للمستوقدين فهذا على أيّ اأس جهين، قلت يحتمل أنه على التوزيع فالأوّل، والثالث على أنّ الضمير للمنافقين، والثاني على أنه للذي استوقد والوجوه بأسرها جارية على كل من الاحتمالين، أمّ على العود للمنافقين فظاهر، وأمّا على مقابله فلما قيل إنهم لما شبهوا بمن ترك
في ظلمة إنطفأ ضوحمه، وظلمة الليل والغمام المطبق لزم أنّ لهم ظلمات متعددة أو ظلمة شديدة بمنزلتها، وفيه نظر وقيل إنه على هذا بتقدير مضاف أي مثل ظلمات، والسرمد الدائم كالسرمدي والمتراكم الواقع بعضه فوق بعض، وقوله فكأنّ الفعل غير متعذ أي نزل منزلة اللازم لطرحه نسيا منسياً، ولعدم القصد إلى مفعول دون مفعول فيفيد العموم. قوله:! (مثل ضربه الله إلخ) في الكشاف على ما قرّره شراحه أربعة أوجه بناء على أنّ التشبيه مركب، أو مفرّق وعبارته المراد ما استضاؤوا به قليلا من الانتفاع بالكلمة المجراة على ألسنتهم ووراء إستضاءتهم بنور هذه البلمة ص ظلمة النفاق التي ترمي بهم إلى ظلمة سخط الله، وظلمة العقاب السرمدي، ويجوز أن يشبه بذهاب الله بنور المستوقد إطلاع الله على أسرارهم، وما افتضحوا به بين المؤمنين، واتسموا به من سمة النفاق، والأوجه أن يراد الطبع لقوله {صا صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ} وفي الآية تفسير آخر وهو أنهم لما وصفوا بأنهم {اشتروا الضلالة بالهدى} عقب ذلك جمهذا التمثيل ليمثل هداهم الذي باعوه! بالنار المضيئة ما حول المستوقد والضلالة التي اشتروها، وطيع بها على قلوبهم بذهاب الله بنورهم، وتركه إياهم في الظلمات، وفي المفتاح وجه تشبيه المنافقين بالذين شبهوا بهم في الآية هو رفع الطمع إلى شيء مطلوب بسبب مباشرة أسبابه القريبة مع تعقب الحرمان والخيبة لإنقلاب الأسباب وأنه أمر توهمي كما ترى منتزع من أمور جمة، وللشراح في كون السؤالي عن وجه الشبه أو عن المشبه كلام لا مساس له بكلام المصنف رحمه الله لعدم ذكره لمنشئه ومبناه، وتقرير ما في الكشاف إنه شبه إجراء كلمة الشهادة على ألسنتهم، والتحلي بحلية المؤمنين ونحوه مما يمنع من قتلهم، ويعود عليهم بالنفع الدنيوي من الأمن! والمغانم ونحوها وعدم إخلاصهم لما أظهروه بالنفاف الضار في الدارين بإيقاد نار مضيئة للإنتفاع بها هبت عليها، الرياح والأمطار وأطفأتها، وصيرت موقدها في ظلمة وحسرة، وهذا معنى قوله المراد صا إستضاؤوا به إلخ أو النور والاستضاءة ما أظيس وه من الإسلام بإجراء الكلمة أيضاً وظلمته إقتضاحهم وظهور نفاقهم، وهذا معنى قوله ويجوز إلخ أو النور الإيمان والإسلام المتحلين بحليتهما، وظلمته طبع الله- على قلوبهم الذي صيرهم صما عميا وهذا هو الوجه الثالث أو النور الهدى الذي تمكنوا منه، أو فطروا عليه والظلمة الضلالة المشتراة ويجري في هذا كله التفريق والتركيب كما سيصرّح به مع ترجيحه للتركيب فالوجوه أربعة مضروبة، في إثنين فهي ثمانية، وهذا هو الذي إرتضاه الشريف المرتضى حيث قال: إنه إشارة إلى تركيب وجه الشبه وأنه منتزع من أمور متعددة في المشبه، وأما إنتزاعه من متعدد في المشبه به فمما لا شبهة فيه، ولا يخلو كلامه من تلويح إلى
جواز التفريق، وتلخيصه أنه اعتبر في المستوقد السعي في إيقاد النار والكدح في إحيائها وحصول طرف من الإضاءة المطلوبة وزوالها بإنطفاء النار بغتة، كما يدل عليه فلما، ولذا قال إستضاؤا به قليلا واعتبر في المنافق القصد إلى إدعاء الإيمان واجراء الكلمة على اللسان، وحصول منافع الأمن والأمان د رانتفاء ذلك دفعة بالموت، ووقوعهم في
ظلمات متراكمة فإن لوحظ في كل واحد من الجانبين هيئة وجدانية ملتئمة من تلك المعاتي المتعدّدة كان مركبا، ووجهه ما ذكر، وان قصد تشبيه كل واحد من تلك المعاني بما يناظره كان مفرقا لا يحتاج وجهه إلى بيان، فإن قيل ظلمة النفاق مجامعة للإستضاءة بنور هذه الكلمة لا متعقبة لها، قيل من إلا أنها تمخضت بعد الانتفاع فلذلك حكم بتعقبها منضمة إلى ظلمتين أخريين، والوجه الثاني لا يخالف الأول تركيباً وتفريقا إلا فيما بإزاء ذهاب الله بنور المستوقد فالتورط حيسئذ هو الوقوع في حيرة الفضوح والخيبة، وكذا الثالث إلا أنّ المشبه هنا لإذهابه هو خذلانهم في نفاقهم فطبع على قلوبهم فوقعوا في حيرة، وبعد عن نور الإيمان، وإنما كان أوجه لأنّ ما بده من خواص أهل الطبع، ومحصول الأوّل أنهم انتغعوا بهذه الكلمة مدة حياتهم القليلة، ثم قطعه الله بالموت فوقعوا في تلك الظلمات، ومحصول الثاني أنهم استضاؤا بها مدة، ثم اطلع الله على أسرارهم فوقعوا في ظلمات إنكشاف الأسرار والافتضاح والإتسام بسمة النفاق، ومحصول الثالث أنهم انتفعوا بها فخذلهم الله حتى صاروا مطبوعين واقعين في ظلمات متراكمة بعضها فوق بعض والثلاثة متعلقة بكونه تمثيلا لجميع أحوال المناقين السابقة، والوجه الرابع على تقدير تعلقه بقوله إشتروا الضلالة، وبينه على التفريق وكونه جواب لما ووجه الشبه على التفريق ظاهر وعلى الوجه المختار، وهو التركيب ما ذكر السكاكيّ كما سمعته آنفا وقول القطب الرازي: في شرحه هنا، وأمّا وجه التشبيه فهو اسم الإضاءة والظلمة أي كما أنّ في حال المستوقد ما يسمى إضاءة وظلمة كذلك في حال المنافقين ما يسمى إضاءة وظلمة ووقوع الاسم في أحدهما بانحقيقة وفي الآخر بالمجاز غير قادح في اشتراك الاسم. وأعلم أنّ لهذا التشبيه إجمالا وتفصيلاً، والإجمال هو تشبيه الحال بالحال مطلقا، وهو تشبيه مفرد بمفرد، وهو المعتبر هنا وامّا تفصيله فهو تشبيه أحوالهم بأحواله، وهو إمّا مفرق أو مركب، وقد قيل عليه إنه لا معنى للتشبيه المركب إلأ أن تنزع كيفية من أمور متعددة فتشبه بكيفية أخرى كذلك فيقع في كل من الطرفين عدّة أمور ربما يكون التشبيه فيما بينها ظاهرا لكن لا يلتفت إليه بل إلى الهيثة الحاصلة من المجموع كما في قوله:
وكأنّ أجرام النجوم لوامعا درر نثرن على بساط أزرق
ويكون التشبيه مركبا، وأمّا حدث كون وجه الشبه هو اسم الإضاءة والظلمة على الوجه
الذي ذكر فلا أزيد فيه على الحكاية لعلماء لبيان، وهم لا يزيدون على التعجب والسكوت. أقول: التشبيه إذا ذكر طرفاه بمفردين يدلّ، كل منهما على أمور متعدّدة كالقصة والحال
ولفظ المثل هنا إن نظر إلى ظاهره فهو تشبيه مفرد بمفرد كقولنا الدنيا خيال باطل، وان نظر إلى ما اشتملا عليه كان تشبيه مركب بمركب بحسب الظاهر ويجوز أن يعتبر فيه التفريق على اللف والنشر الإجمالي فإن رجح هذا لم يمنع الأوّل، ولا يخطأ من ذهب إليه، فإن قصد الفاضل ردّ قوله إنه تشبيه مفرد بمفرد لم يسمع منه، وان ذهب الشرّاج إلى خلافه وأمّا ما تعجب منه
واستهزأ به فقد يقال إنّ مراده أنّ قوا، ذهب الله بنورهم إذا كان بخواب سؤال مقدر عن وجه الشبه بأنه الإضاءة والظلم فذلك غير مشترك بين الطرفين هنا لأنّ الحقيقيين يختصان بالمستوقد، والمجازير بالمنافقين، وهذا ما ذكره أهل المعاني كما مرّ من أنهم قد يتسامحون في وجه الشبه كقولهم في الكلام الفصيح هو كالعسل في الحلاوة، مع أنّ الحلاوة غير مشتركة بينهما والمشترك ميل الطباع فعبر عنه بالحلاوة لإطلاقها على ذلك إطلاقا شائعاً، وتسمحوا فيه لمجرّد الاشتراك في الاسم وإن كان في أحدهما حقيقة وفي الآخر مجازاً، ومثل الظلمة والنور هنا إذ! كانا وجه الشبه وإذا ظهر المراد سقط الإيراد، واندفع ما قيل عليه من أنه سهو إذ لم يذهب أحد إلى جواز مثل قولك الباصرة كالذهب
لإشتراكهما في إطلاق اسم العين عليهما، ولقد أطلنا الكلام وسحبنا ذيل البيان إثر هؤلاء الأعلام، لأنه من مزالّ الأقدام. قوله: (لمن آ-ماه ضرباً من الهدى إلخ الما رأى المصنف رحمه الله ما في الكشاف يؤل إلى وجه واحد لتقارب ما فسر به النور والظلمات لف النشر، ولئم الشعث فجعلها وجهاً واحداً؟ وزاد وجهاً آخر ذكره بعضهم وتبع السكاكيّ في جعل التمثيل مركباً من غير التفات لغيره أصلا على دأبه في التحقيق والتنقيح والإيجاز، والمعنى أنه تمثيل أستعير فيه النور للهدى والظلمات لإضاعته، وما يتبع ذلك من مباشرة الأسباب التي خابت فأوقعتهم في تيه الحيرة والحسرة، فضمير مثلهم لمن في قوله {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ} [البقرة: 8] إلخ أو للذين اشتروا الضلالة، والموصول فيهما عامّ لكل من أظهر الإيمان، وأضاعه بإضمار خلافه أو بعدم الدوام عليه، ولكل من استبدل هديّ مّا بضلال مّا، وان لم يكن كفر لأنه وان نزل في شأن المنافقين لا ينافيه لأفي العبرة بعموم اللفمل لا بخصوص السبب، فيعمّ غيرهم نظراً للظاهر، وهذا هو الوجه الأولّ فيئ كلام المصنف رحمه الله، أو يقالى إنه مختعر بهم لما في الموصول من العهد تقاضي ما قبله وما بعده له، وهذا هو الوجه الثاني، إذا عرفت هذا فقوله ضرباً من الهدى مفعول آتاه بمعنى أعطاه أي نوعا منه، وفيه إيهام حسن وتجنيس، والمراد به مطلق الهداية الشاملة لإجراء لكلمة والإيمان الظاهر أو الجبلي، أو الذي تمكنوا منه، وهذا من الإضاءة ولذا نكر ضربا إشارة إلى تنكير نارا في الآية، والإمام فأضاعه أي بالنفاق أو الكفر وما يضاهيه وهذا من ذهاب نورهم وتجارتهم الخاسرة، وقوله ولم بتوصل به من الظلمات المتراكمة التي مرّ تفسيرها، ومراده بالآية الأولى قوله {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرُوُاْ الضَّلَالَةَ} إلخ أو قوله ومن الناس إلخ على ما بيناه لك آنفاً، وقد عرفت أن الزمخشرفي جوّز إرجاعه إلى جميع ما قبله من حال المنافقين، وافراد الآية لا يأباه والمتبادر من الأولى تقدمها غير ملاصقة، وقوله حين خلوا إلى شياطينهم مفاد عليه فهو الحق، وان خالفوه نعم دخول من صح له الأحوال في الثاني أظهر، وهو الذي
دعاهم إلى تعيينه مع قوله الهدى فينبغي أن يكون داخلَا فيه لأنّ دخوله تحت الأوّل محتاج إلى التكلف فالمعنى أنّ هؤلاء ممن اشترى الضلالة بالهدى على أنه من حمل العامّ على الخاص من غير تخصيص، كما عرفته فالتمثيل عامّ شامل للمنافقين، وغيرهم ولا يمنعه ضمير مثلهم الراجع إليهم كما قيل لما أسلفناه، وجعله ضربا من الهدى باعتبار الظاهر أو الابتداء كما في حال المرتدين فلا يتوهم أنّ إقترانه بالنفاق، ونية الخداع وتحصيل أغراضهم الفاسدة تصيره فاسدا ابتداء فلا يحصل لهم حتى يضيع، كما قيل وقوله تقريرا مفعول له، وتعليل لقوله ضربه إلخ وتقريره وتوضيحه يقتضي عدم عطفه لشدة إتصاله فإن كان تقريراً لقوله ومن الناس إلخ فلأنه لما دلّ على أنهم ادّعوا الإيمان وأبطله الله تعالى بقوله {وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ} كانوا كمن أوقد نارا فأنطفأت في الحال، وكذا إن كان لقوله (اشتروا) إلخ فإنهم لما اختاروا العمى على الهدى، وبقوا عدم الاهتداء كان هذا مثلهم فصوّر المعقول بصورة المحسوس توضيحاً وتقريراً له وتصويرا له بصورة المشاهد كما قال في الكشاف لما جاء بحقيقة صفتهم عقبها بضرب المثل زيادة في الكشف وتتميماً للبيان، وما قيل هنا من إنّ ضمير مثلهم راجع إلى المنافقين قطعاً فلا يتصوّر العموم، وشموله لغيرهم إلا بجعله مستفادا من دلالة النص كدلالة لا تقل لهما أف على النهي عن الإيذاء، أو من إشارته ليس بشيء فإنّ المراد بالمثل الذي بمعنى الحال إضاعة الهدى، وعدم التوصل به إلى الكمال، واستبطان الكفر إخفاؤه مع المؤمنين، وقوله ومن آثر الضلالة إلخ الظاهر أنهم المنافقون لا الكفار الذين تمحض كفرهم لعطفه بالواو. قوله:(ومن صح له أحوال الإرادة إلخ) هذا من بعض البطون القرآنية على نهج حكماء الإسلام الإشراقيين، وأرباب السلوك من المتصوّفة، والأحوال في إصطلاحهم هي ميراث العمل من المواهب الفائضة من الله تعالى قالوا وسميت أحوالا لتحوّل العبد بها من دركات البعد إلى درجات القرب، وقريب منه ما قيل الحال ما يرد على القلب بمحض الموهبة من غير تعمل واجتلاب كحزن وخوف وقبض، وبسط فإذا دام سمي مقاما، والإرادة حال المريد، وهو السالك في لسانهم فإرادته ما يلقى في قلبه من الدواعي الجاذبة له إلى الإجابة لمنادي الحق، فإذا حصل له هذا وهو منزل من منازل السير
إلى الله تعالى إذا نزله أشرقت عليه أنواره فإذا ادّعى المحبة انطفأت أنواره، ووقع في تيه الحيرة، والمحبة عندهم هي الابتهاج بحصول كمال أو تخيل، وصول كمال مظنون، أو محقق والابتهاج عجب يضله عن طريق الهدى فيدخل فيمن اشترى الضلالة بالهدى لإدّعائه الوصول لمقام أعلى من مقامه، وهو مضاه للنفاق بإظهاره ما ليس عنده وهذا مأخوذ من تفسير الراغب، وهو محكيّ عن أبي الحسن الورّاق. قوله:(أو مثل لإيمانهم إلخ) هذا هو الوجه الثاني، وهو محصل الوجوه المذكورة في الكشاف كما عرفته، وهو
معطوف على قوله مثل ضربه الله إلخ وهو على هدّا مخصوص بالمنافقين لما مرّ وهذا الوجه أخرجه ابن جرير عن ابن عباس رضي الله عنهما، وهو التفسير المأثور والراجح دراية ورواية فلذا اقتصر عليه في الكشاف والاختصاص المذكور هو الفارق بين هذا الوجه، وما قبله لا أنّ التشبيه فيما قبله مركب وفي هذا مفرق كما قيل لأنه مركب عنده كما مرّ وان كان هذا محتملَا، واعادة اللام في قوله: ولذهاب توهمه كأنه الدعي لهم على ما قالوه فعلى هذا مثل إيمان المنافقين الذي أظهروه لإجتناء ثمراته المذكورة بنار ساطعة الأنوار، وذهاب آثاره بإهلاكهم وتفضيحهم بإطفاء النار، وفقد تلك الأهوار وحقن الدماء صيانتها، ويقابله إهدارها واباحتها من حقنت الماء في السقاء إذا جمعته فكأنك جمعت الدم في صاحبه إذ لم ترقه فهو مجاز غلب استعماله حتى صار حقيقة فيه، ومنه الحقنة في الدواء، فإن قيل المنافقون من أهل المدينة ودماؤهم كانت محقونة وأموالهم وأولادهم سالمين لكونهم من أهل الذمة، قيل: المراد الحقن والسلامة مآلا أيضاً كما إذا ذهبوا إلى دار لحرب فاستولى عليها المسلمون، وظاهره أنه لم يحقن دمهم حالاً، ولا في المدينة وليس كذلك لأنهم في حال إظهارهم للإسلام في أوطانهم كفرة باطنا فلولا ما ظهر من إسلامهم استحقوا القتلى بالمدينة لأنه ردّة كما لا يخفى فلا حاجة لما ذكر من التكفف، ولا إلى غيره كأن يقال إنّ مجموع ما ذكر حصل لهم بذلك فلا ينافي كون بعضه قيله لأنّ ما ذكرناه هو المراد، وقوله بالنار متعلق بقوله مثل، ولذهاب معطوف على قوله لإيمانهم، وبإهلاكهم أي بسببه متعلق بذهاب عطف على قوله بالنار بالواو العاطفة لشيئين، أو هو متعلق بمثل مقدر هذا تحقيق المقام بما يضمحل معه كثير من الأوهام، وأمّا ما قيل من أنّ المصنف رحمه الله أدرج في هذا الوجه وجهين مما في الكشاف.
حاصل الأوّل أنهم إنتفعوا بهذه الكلمة مدة حياتهم القليلة، ثم قطعهم الله تعالى بالموت فوقعوا في الظلمات.
وحاصل الثاني أنهم إستضاؤا بها مدة، ثم فشت أسرارهم فوقعوا في ظلمات إنكشاف الأسرار والإفتضاح والإتسام بسمة النفاق، وإنما جعله كذلك قصدا للمبالغة، ويكون المراد بالمثل حينئل! بيان أنهم قممدوا بظاهر الإيمان المنفعة الدنيوية فترتب عليها المضار الدنيوية والأخروية جميعاً الأولى بإفشاء سرّهم المترتب عليه مضرّة إتسامهم بالنفاق، وحرمانهم مما قصدوه وتعيير المؤمنين، والثانية بإهلاكهم حيث ترتب عليه مضرّة فقدان نور يوم يسعى نور المؤمنين بين أيديهم، وابقائهم في العقاب السرمد والدرك الأسفل، والمفهوم من الكشاف ترتب إحدى المضرّتين فتدبر فكم بينهما فلا تتوهم أنه أولى فتخبط خبط عشواء، فهو ردّ على من قال: على المصنف إنّ الأولى أن يجعل ما جعله وجها واحداً وجهين كما في الكشاف الأوّل أنهم انتفعوا بهذه الكلمة مدة يسيرة، ثم قطعهم الله تعالى بالموت فوقعوا في ظلمات البعد عن رحمة الله وسخطه وعقابه، والثاني أنهم إستضاؤا بي مدّة، ثم إطلع تعالى على
إسرارهم فوقعوا في ظلمات الإنكشاف وغيره، وهذا كله بمراحل عما عناه المصنف فإنه شامل للوجوه كلها ولا فرق بينهما إلا بالإيجاز والإطناب، وترك القشر للب اللباب، ثم إنه في الكشاف عقب الوجوه بقوله وتنكير النار للتعظيم، وتركه المصنف رحمه الله تعالى رأساً فكأ: له لم يرتض به لما قيل عليه من إنه ليس في محله وكان ينبغي أن يذكر حيث فسر إستوقد ناراً، وأيضا فالظاهر أنه للتحقير وان ردّ بأنّ المشبه به الهدى الذي باعوه، وهو أمر خطير يناسب التشبيه بنار عظيمة، ولذا أخره ليذكره مع الوجه الأخير، وقد يقال إضاءة ما حولها وحصول الظلمات بفقدها يدلّ على عظمها، فتأمّل. قوله:(لما سذّوا مسامعهم إلخ) السد بالمهملتين ضد الفتح، والمسامع جمع مسمع بكسر الميم كمنبر وأمّ مسمع
بالفتح فموضع السمع كما في قوله: فأنت بمرأى من سعاد ومسمع. والمسمع هنا كما قال الراغب: خرق الأذن وهو الأنسب بالسد، وفي القاموس والمسمع كمنبر الأذن السامعة، وما قيل المسامع هنا محتمل لأن يكون جمع مسمع بالفتح وهو موضع السمع بمعنى القوّة السامعة عدول عن المعروف في كلام العرب وكتب اللغة من غير داع مع أنه غير ملائم لكلام المصنف رحمه الله تعالى، والإصاخة بصاد مهملة، وألف يليها خاء معجمة الإستماع يقال صاخ له وأصاخ إذا استمع وهو متعدّ باللام ولمصنف عداه بإلى لما فيه من معنى الميل وقوله ينطقوا به ألسنتهم مضارع من الإنطاق كما في قوله {أَنطَقَنَا اللَّهُ} [فصلت: 21] أي جعلنا ناطقين والنطق يضاف اللسان ولصاحبه يقال نطق زيد أو لسانه وكلاهما حقيقة لغة، والألسنة كأرغفة جمع لسان وهو الجارحة المعروفة، ويتبصروا من التفقل معطوف على ينطقوا. قوله:(جعلوا كأنما ايفت إلخ) جواب لما وهذا هو الذي في النسخ الصحيحة باتصال ما الكافة بكأنّ المشبهة، وهو الموافق لما في الكشاف، وفي بعضها كأنها بضمير المؤنث والأولى أكسح رواية ودراية، وهذه تحريف من الناسخ والضمير للقصة أو المشاعر، وإنما قال كأنّ لأنها ليست مؤفة لكنها لما لم تستعمل فيما خلقت له جعلت بمنزلة المؤف، والمشاعر جمع مشعر بفتح الميم وكسرها موضع الشعور أو اكته والمراد بها الحواس الظاهرة وايفت مجهول آف كقال وقيل: إذا أصابته آفة وفي القاموس الآفة العاهة أو عرض مفسد لما أصابه وأيف الزرع كقيل إصابته فهو مؤف، ومئيف على خلاف القياس لأنّ فعله لازم، وفي أفعال السرقسطيّ آف القوم أو فأدخلت عليهم مشقة، ويقال في لغة ايفوا وقال الكسائيّ: طعام مؤف أثابته آفة وأنكر لو حاتم مؤفا اهـ. وفيه كلام في كتابنا شرح الدرّة. قوله: (وانتفت قواهم) القوى بالضم جمع قوّقة كغرفة وغرف، وهي في الأصل ضد الضعف وهي معنى تصدر به الأفعال الشاقة عن الحيوان، وهذا المعنى له مبدأ ولازم فمبدؤه القدرة وهي كونه بحيث إن شاء فعل وان شاء ترك واللازم الإمكان، ثم نقلت في
اصطلاح الحكماء والمتكلمين إلى كيفية راسخة هي مبدأ التغير من آخر في آخر وقسموها إلى أنواع معروفة عندهم، ومنها القوى النفسانية وهي محرّكة ومدركة والمدركة مدركة في الظاهر وهي مبدأ الحواس الخمس الظاهرة، ومدركة في الباطن كالحس المشترك وهي أيضاً خمس ويدخل في المحرّكة القوّة الناطقة التي هي مبدأ التكلم، ولهذا زاد المصنف ما ذكر على ما في الكشاف لأنه قال: كأنما ايفت مشاعرهم وانتقضت بناها التي بنيت عليها لا لإحساس والإدراك لأنّ ما ذكره المصنف رحمه الله شامل للقوّة الناطقة بخلاف ما في الكشاف لخروجه عن الحواس والمشاعر ولذا ذهب شرّاحه إلى أنه عدّ اكة النطق من الحواس، وأدخلها فيها تغليباً، ولك أن تقول إنّ البنا بضم الباء وكسرها وهو ما بني عليه الإحساس، والإدراك هي القوى لأنها أساس للإدراك وغيره فيكون موافقا لكلام المصنف رحمه الله، وإن كان ما ذكره المصنف أظهر فهو لم يقصد الردّ عليه وإنما أوضحه وف! ت! ره وهذا هو الحق وإن أطبق شرّاح الكشاف وأرباب الحواشي على خلافه، فإن قلت كيف يقال إنهم أبوا أن ينطقوا بالحق، وقد كانوا ينطقون به، وإن لم يواطىء قلوبهم كما نطق به قوله تعالى {وَإِذَا لَقُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ قَالُواْ آمَنَّا} إلخ ولذا عدوا منافقين، قلت قد قيل: النطق لا ينافي الإباء لأنه يجامع ارتكابه اضطراراً فيصح سلب الإنطاق مع النطق، والأحسن أن يجعل قوله بكم بيانا لأنّ تكلمهم بالحق في حكم العدم فهم ملحقون بمن لا يقدر على النطق رأسا، والحق أنّ الحق شامل لكل حق وهم ساكتون عن أكثره فلا حاجة لشيء مما تكلفوه.
وفي إطلاق المشاعر، والقوى تنبيه على أنّ ما ذكر من الصمم والبكم، والعمى على سبيل الاختصار في البيان والاعتماد على تنبه السامع والمراد أنه كناية عن اختلال جميع المشاعر والقوى، وتقديم الصمم لأنه إذا كان خلقياً يستلزم البكم وأخر العمى لأنه كما قيل هنا شامل لعمى القلب الحاصل من طرق المبصرات والحواس الظاهرة، وهو بهذا المعنى متأخر لأنه معقول صرف ولو توسط حل بين العصا ولحائها ولو قدم لأوهم تعلقه بلا يبصرون، أو الترتيب على وفق حال الممثل له لأنه يسصع أوّلاً دعوة الحق، ثم يجيب ويعترف، ثم يتأمّل ذلك ويتبصر. قوله:(كقوله صم إلخ) وهو من قصيدة لقعنب ابن أمّ صاحب أحد بني عبد
القه بن عطفان وهو من شعراء الحماسة وأوّلها:
ما بال قوم صديق ثمّ ليس لهم عهد وليس بهم دين إذا ائتمنوا
شبه العصافير أحلاماً ومقدرة لو يوزنون بزق الريش ما وزنوا
ومنها:
إن يسمعوا ريبة طاروا بها فرحاً مني وما سمعوا من صالح دفنوا
صمّ إذا سمعوا خيراً ذكرت به وإن ذكرت بشرّ عندهم أذنوا
جهلاً عليها وجبنا عن عدوّهم لبئست الخلتان الجهل والجبن
وروي يسوء بدل قوله بشر وهو الذي اختاره المصنف رحمه الله أي هم صمّ، على أنه
خبر مبتدأ محذوف كأنه قال: هم صم أي يتصامون عما نسب إليه من الخصال الصالحة، ويقال للمعرض عن الشيء هم أصمّ عنه وعلى ذلك قوله: أصم عما ساءه سميع، فكأنه قال، ومتى ذكرت بشرّ أدركوه وعلموه، ويقال أذن لكذا يأذن كعلم يعلم قال: وسماع يأذن الشيخ له. ويجوز أن يكون اشتقاقه من الأذن الحاسة كما قاله الإمام المرزوقي في شرح الحماسة، وقد فسر أذن بعلم وأدرك كما سمعته، والشراح فسروه هنا باستمعوا وأصغوا قال الراغب: أذن إستمع نحو {؟ ؤآ نث يرئها وخقث} [الإد فاق: 2] ويستعمل في العلم الذي يتوصل إليه بالسماع. قوله: (أصتم عن الشيء إلخ) أصم صفة مشبهة، وأسمع أفضل تفضيل، ويعدى بعن لما فيه بطريق التضمين من معنى الإعراض أو الذهول، وهو كقوله: ولي أذن عن الفحشاء صماء. وتقديره أنا أصم، أو هو أصم إن كان في وصف نفسه أو في مدح غيره، وفي البيتين شاهد على استعمال الصمم في عدم الإصاخة والإستماع كما في الآية الكريمة، والإطلاق ضد التقييد، وهو في الاصطلاح استعمال اللفظ في معناه حقيقة كان أو مجازا، والضمير المؤنث لقوله صمّ بكم عمي باعتبار أنها ألفاظ والطريقة تأنيث الطريق المعروف والمراد بها الأسلوب والنهج والتمثيل مراد به التشبيه هنا، وله معان أخر. قوله: (إذ من شرطها إلخ الما ذكر إنّ الصمم أخوبه لم يرد بها الحقيقة لسلامة مشاعرهم وقواهم وأنه على طريقة التمثيل أي التشبيه لا الاستعارة بين مانعها، وهو فقد شرطها من طيّ ذكر المستعار له أي المشبه بحيث يمكن حمله على المستعار منه المشبه به لولا قيام القرينة، وفي الكشاف إنه مختلف فيه والمحققون على تسميته تشبيها بليغا لا استعارة لأنّ المستعار له مذكور، وهم المنافقون والاستعارة إنما تطلق حيث يطوي ذكر المستعار له وبجعل الكلام خلواً عنه صالحا لأن يراد به المنقول عنه، والمنقول إليه
لولا دلالة الحال أو فحوى الكلام، اهـ. والحاصل أنه إذا ذكر الطرفان حقيقة أو حكما ففيه ثلاثة مذاهب لأهل البيان، والمحققون على أنه تشبيه بليغ، وذهب بعضهم إلى أنه استعارة، وآخرون إلى جواز الأمرين كعبد اللطيف البغدادي في قوانين البلاغة، وهذا أمر مفروغ منه مقرّر قديما لا فائدة في إعادته، وتسميته تشبيهاً ظاهرة، ووصفه بالبلاغة لما فيه من حمل المشبه به على المشبه حتى كأنه هو بعينه في أكثر، وعدل المصنف رحمه الله عما في الكشاف من أنه لولا القرينة الحالية أو المقالية صلح لإرادة المنقول عنه، والمنقول إليه إلى أنه لولا القرينة أمكن الحمل على المستعار منه فقط إشارة إلى ما أورده الشراح عليه من أنه إذا
عدمت القرينة لا يصلح اللفظ للمعنى المجازي، وأجيب عنه بأنه صالح له في نفسه مع قطع النظر عن عدمها، وردّ بأنّ صلاحية المعنيين ثابتة له في نفسه أيضا مع وجودها إذا قطع النظر عنه فلا معنى لإشتراط عدمها في هذه الصلاحية، ثم إنه قدس سرّه قال: بعدما ذكر الظاهر أن خلو الكلام المشتمل على ذكر اللفظ المستعار عن ذكر المستعاو له مصحح لصلوج المستعار لأنه يراد به معناه المجازي إذ لو اشتمل على ذكره أيضاً تعين المعنى الحقيقي فلا يكون صالحا للمعنى المجازي، وأنّ عدم قرينة المجاز مصحح لأن يراد به معناه الأصلي، إذ مع وجودها يتعين المعنى المجازي فلا يكون صالحا للمعنى الحقيقيّ فالخلو المذكور شرط لصلوج إرادة المعنى المنقول إليه، وعدم تلك القرينة شرط لصلوح إرادة المعنى المنقول عنه فالمجموع متعلق بصلاحية المعنيين على التوزيع، ولو قدم ذكر المنقول إليه كان أولى، وقد يقال كون الكلام مع عدم القرينة صالحا لإرادة المعنى المجازي مبني على ادعاء دخول المشبه في جنس المشبه به حتى كأنه من أفراده فيصلح له لفظه كما يصلح لإفراده الحقيقية واشتراط نفي القرينة إنما هو لصلوج إرادة المعنى الحقيقي، ويرد عليه أنه يلزم أن يكون للخلو عن ذكر المستعار له مدخل في الصلاحية المذكورة إلا أن يجعل عبارة عن ذلك الإدعاء، ولإخفاء في بعده عن الإفهام جدا، ثم إن الكلام وان كان ظاهرا في الاستعارة المصرحة إلا أنهم أدخلوا فيه المكنية بناء على مذهب الزمخشري فيها، والمصنف رحمه الله تبعه كما سيأتي تحقيقه في تفسير قوله تعالى {يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ} [البقرة 27] فلا حاجة إلى السؤال والجواب المذكورين في شروح الكشاف واعترض عليه بأنه ليس في عبارة المصنف ما يدل على مدخلية الخلو في الصلاحية بل يدل على اشتراط تلك الصلاحية مع الخلو في حقيقة الاستعارة، ثم إنه لا يخفى أن الاية من قبيل قولنا الحال ناطقة، وهذا لا يحتمل التشبيه بل هو استعارة تبعية، لا يقال ي! عل الصم البكم العمي من قبيل الأسماء فهو من التشبيه لأنا نقول يبقى الكلام في مثل جعلناهم حصيدا خامدين حيث صرح المصنف فيه بالتشبيه، ويمكن أن يقال إنه بتقدير لفظ مثل أي مثل صم فيصير تشبيها وإن لم يقدر فهو استعارة فالكلام يحتمل كليهما فلا يتم طي ذكر المشبه بالكلية في الاستعارة التبعية، ولذا لم يشترط صاحب المفتاح في الاستعارة طي ذكر المشبه على الاطلاق أقول: هذا زبدة ما هنا من القيل والقال، والذي يميط عن وجهه نقاب الاشكال أن ما ذكره الفاضل المحقق تبعا للطيبي ومن مشى على أثره من الشراح كلام لا غبار عليه، وما أورده عليه من أنه يلزم أن لا يكون للخلو عن ذكر المستعار له مدخل في الصلاحية المذكورة غير مسلم فإنه إذا ادعى أن للأسد فردين متعارفا، وهو معروف وغير متعارف وهو الشجاع كان صالحا لكل منهما في نفسه فإذا لم يخل عنه الكلام، فقد صرح بأحد فرديه فيه فيدل على أنه المراد منه إذا حمل عليه مثلاً لئلا يحمل فرد على غيره فإذا خلا عته كان صالحا لكلى منهما، فالخلو شرط لصحة الادعاء والشمول لهما لا أنه عبارة عنه كما قاله واستبعده ولا
حاجة إلى ما دفع به مما مر كما لا يخفي، ثم إن ما إعترض به في نحو الحال ناطقة من ذكر الطبرفين في الاستعارة التبعية، وأنه لا يمتنع في مطلق الاستعارة مناف لما صرحوا به كيف لا وقد عرف السكاكي الاستعارة بأن يذكر أحد طرفي " التشبيه، ويراد به الآخر كما في التلخيص، وهو مبتي على أن الحال مشبهة بالمتكلم، والناطق وليس كذلك في التحقيق وان أوهمه كلامهم، ولو كان كذلك لم تكن تبعية فإنها شبه فيها الدلالة بالنطق واستعير الثاني للأول، ثم سرى منه لما اشتق منه فكيف يرد ما ذكره لمن تدبر حق التدبر، وسيأتي عن قريب تحقيقه قوله:(كقول رّهير) هو زهير بن أبي سلمى بضم السين الشاعر المشهور وهذا الييت من قصيدته المشهورة،! وهي إحدى المعلقات السبعة التي أولها:
أمن أم أوفى دمنة لم تكلم بحو مانة الدراج فالمتثلم
ومنها:
وقال سأقضي حاجتي ثم أتقي عدوي بألف من ورائي ملجم
فشدولم ينظربيوتاكثيرة لدى حيث ألقت رحلها أم قشعم
لدى أسد شاكي السلاح مقذف له لبد أظفاره لم تقلم
وفي رواية الأصمعي مقاذف بدل مقذف، وقال شبه الجيش بالأسد أي له أقدام كأقدام
اسد وحدة كحدته وأظفاره لم تقلم أي حديد شكس، ويقال للأسد إذا أسن هو ذو لبد أي على ظهره شعر قد تلبد، وشاكي السلاح حديد السلاج أصء وقال ابن السيد في المقتضب شاكي السلاح معناه حاد السلاح شبه في حدته بالشوك، ويقال شاك! بكسر الكاف، وضمها فمن كسرها جعله منقوصا مثل قاض، وفيه قولان فقيل أصله شائك فقلب كهار واشتقاقه من الشوكة، وقيل أصله شاكك من الشكة، وهي السلاح فاجتمع مثلان فأبدلوا الثانية ياء تخفيفا، وأعلوه اعلال قاض! ، ومن ضمه ففيه قولان أحدهما أن أصله شوك فانقلبت واوه ألفاً وقيل هو محذوف من شائك كما قالوا جرف هار بضم الراء، وفيه لغى ثالثة شاك باتشديد الكاف من
الشكة بكسر الشين وتشديد الكاف وهي السلاح وآلات الحرب، اهـ. وفي الكشف أنه نظير ما يدلّ عليه فحوى الكلام لأنّ شاكي السلاح مما يدل على ذلك لا من دلالة الحال كما قيل، والظاهر أنّ أسداً فيه مستعار للرّجل الشجاع، فهو مثال للاستعارة المنفية في قول الشيخين لا استعارة، وليس نظيراً لما نحن فيه، وقول الأصمعي إنه مستعار للجيش لذكره في البيت الذي قبله فالأسد فيه بمعنى الأسود هنا خلاف الظاهر، وقال ابن الصائغ المراد به هرم ممدوج زهير، وجعله في الكشف شاكي السلاح قرينة لا ينافي ما في كتب المعاني من أنه تجريد لأن التجريد قد يكون قرينة، وقال بعض المتأخرين: ما كان أشذ إختصاصاً بالمشبه فهو قرينة، وما زاد عليها يكون تجريداً، وقيل ما يسبق إلى الذهن قرينة وغيره تجريد، وقد يجعل الكل قرينة إهتماماً، ومقذف اسم مفعول من التقذيف مبالغة في القطف، وهو الطرج والرمي ومقاذف اسم
مفعول من فاعلته على الروايتين السمين الكثير اللحم. من قولهم ناقة مقذوفة باللحم، ومقذفة كأنها رميت به، وقيل المراد أنه يرمى به في الوقائع والحروب لشجاعته، والأوّل أشهر عند أهل اللغة وعلى هذا هو تجريد وعلى الأوّل ترشيح، وقيل إنه ليس بتجريد ولا ترشيح، ولبد كعنب بلام وباء موحدة، ودال مهملة جمع لبدة كسدرة، وهي الشعر المتراكم على رقبة الأسد، وقيل على كتفيه، ويقال هو أمنع من لبدة الأسد للقوفي الممتنع، وأظفار جمع ظفر بضمتين معروف والتقليم قطع الأطراف لا قصها ومنه القلم لقطع طرفه أو لأنه معدّ للقطع، ولم تقلم ليس لنفي المبالغة بل للمبالغة في النفي كقوله تعالى {وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ} وقيل إنّ الأسد موصوف بكمال الأظفار فإذا أتصف بالقلم اتصف بكمال فنفي التقليم نفي للقلم أصلاً، كما قيل في قوله تعالى {وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ} [فصلت: 46، وتقليم الأظفار كناية عن الضعف، وعدمه كناية عن القوّة، ومن الناس من جعله ترشيحاً للاستعارة قيل: وفيه إنّ التقليم لا يختص بالأسد المشبه به حتى يكون ترشيحا، وقيل إنه تجريد لأنّ الوصف بعدم التقليم إنما يكون لمن هو من شأنه، وهو الإفان، وقيل: إنه ليس بترشيح ولا تجريد لأنّ عدم الضعف مشترك الآ أن يقال المراد أنّ القلم ليس من شأن جنسه، ولا من عادته فتأمّل. قوله:(ومن ثمّ ترى المفلقين إلخ) ثمّ بفتح الثاء المثلثة وتشديد الميم المفتوحة للإشارة إلى المكان في أصل وضعها واختلف هل هي إشارة إلى البعيد أو القريب فتجوّز بها في المعاني في كلام المصنفين لكونها منثأ لما ذكر معها فكأنها مكانه، وفسروها بقوله من أجل ذلك أو من أجل هذا فمن تعليلية، وقيل ابتدائية وقد ترسم بهاء السكت لأنها تلحقها في الوقف، وقيل إنها للتأني! وهو لغة فيها، والمفلقين جمع مفلق اسم فاعل، وهو من يأتي بالفلق بالفتح أو بكسر فسكون، وهو الأمر الغريب العجيب، وهو يكون بمعنى الداهية من الفلق، وهو الشق والمراد البلغاء الواصلون إلى أعلى مراتب البلاغة التي تدهش سامعها وتحيره، وكذا السحرة جمع ساحر من السحر وهو مجازا نهاية البلاغة كما في الحديث:" إن من البيان لسحراً " وفيه كلام مذكور في شروحه، وضرب الصفح عبارة عن الإعراض، والتناسي وسيأتي تحقيقه في قوله تعالى:{؟ أفنضرث عنكم الذكرّ ضفحاً} [الزخرف: 25] وترى من الرؤية البصرية أو العلمية أي تشاهده، وتتحققه أي لأنّ الاستعارة لا تكون إلا إذا ترك المستعار له لفظا وتقديرا فإنّ المقدّر كالمذكور كما في هذه الآية فإذا كان كذلك تناسوا الث مبيه المستدعي لذكر لطرفين
عند الحذف وادخال المشبه في جنس المشبه به حتى كأنه لا تشبيه كما في قوله ويصعد إلخ فإنّ العلو المكاني أستعير لرفعة القدر، وجعل كالحقيقيّ الذي يتوهم فيه إنّ له حاجة في السماء صعد لها، وقد يفعلون ذلك مع التصريح به أيضا كقول العباس بن الأحتف:
هي الشمس مسكنهافي السماء فعزالفؤاد عزاء جميلا
فلن تستطيع إليها الصعودا ولن تستطيع إليك النزولا
كما يدريه من تتغ كتب علم المعاني. قوله: (ويصعد إلخ) هو من قصيدة لأبي تمام الطائي يرثي بها يزيد بن خالد الشيباني أوّلها:
نعاء إلى كل حيّ نعاء فتى العرب اختط ربع الغناء
ومنها:
فمازال يفرع تلك العلا مع النجم مرتديابالعماء ويصعدحتى يظن الجهول بأنّ له حاجة في السماء
إلى آخرها، وهي قصيدة طويلة، ويفرع بمعنى يعلو بفاء وراء مهملة من فرع المنبر والجبل إذا صعده وأصله الصعود إلى فروع الشجر وفي رواية بدل يصعد يرقى، ويروى أيضا بدل حتى يظن حتى لظن باللإم الابتدائية أو هي جواب لقسم كما في شرحه للتبريزي، والشاهد في استعارة يصعد حيث بنى عليها ما بعدها كما سمعته آنفاً كذا قاله قدس سره وغيره من شراح الكشاف، وهو الذي عناه المصنف تبعاً للكشف، وفي الكشف فروع العلاء مستعار من فروع المنابر والجبال، ثم بنى عليه ما يبنى على الفرع الحقيقيّ فجعله ذاهبا في جهة العلو قاصدا نحو السماء لغرض، وهكذا شأن كل استعارة مرشحة اهـ. فجعل قوله يصعد إلخ ترشيحاً للاستعارة في قوله يفرع إلخ، والعماء بفتح العين والمد السحاب الرقيق، وارتداؤه جعله كالرداء وجعل الظان جهولاً لإدّعائه أنه لا حاجة له لأنّ الله أعلاه وأغناه بجده وسعده فلا يقال إنّ الأنسب بالإدعاء في المدح أن يقول الخبير ويروى منزلاً بدل حاجة، وأعلم أنّ ما ذهب إليه صاحب الكشف هو التحقيق لكنه لا يناسب المقام إلاً بتكلف بعيد جذاً. قوله:(وههنا إلخ) يعني أنّ الطرفين لا يشترط في التشبيه ذكرهما بالفعل، بل يكفي الذكر ولو تقديرا ونية فانّ المقدر المنوي كالمذكور كما أنه لا يضرّ الذكر مطلقا بل على طريق القصد فلو كان ذكره غير مقصود بالذات لم يناف الاستعارة كما قرّروه في نحو قوله:
لاتعجبوامن بلى غلالته قد زرّ أزراره على القمر
وقوله أسد إلى هو من شعر لدمران بن حطان رأس الخوارج يخاطب به الحجاج، وكان
همّ بأخذه وقتله وأعد لذلك عدته، وهو من شعر هو بتمامه كما في كامل المبرد:
أسد عليّ وفي الحروب نعامة فتخاءتنفرمن صفيرالصافر
هلاكررت على غزالة في الوغى بل كان قلبك في جناحي طائر
غشيت غزالة حفلةا بفوارس توكت فوارسه كأمس! الدابر
والشاهد في قوله أسد فإنه تشبيه لا استعارة لذكر الطرفين تقديرا فيه أي أنت أسد كما في
الآية الكريمة فهو في حكم المنطوق، وفي ذكر البيت إشارة إلى أنه لا ينافي التشبيه أن يذكر بعد المشبه به ما يشعر بأنه ليس بمعناه الوضعي كقوله عليّ هنا، وفي الحروب المتعلق بنعامة، وغزالة ممنوع من. الصمرف لأنه علم إمرأة رجل من الخوارج سث! هور يقا! ل ل! شبيب، وكان الحجاج قتله فلما أتى خبره لامرأته وكانت من الشجاعة بمنزلة عجيبة لم يعهد مثلها في النساء لبست درعا وتققدت بسيف ورمح وركبت في ثلاثين فارسا من الشجعان الخوارج، وكانت نذرت أن تغزو الحجاج بالبصرة نهارا وتصلي في جامعها بسورة البقرة ففعلت ذلك، وبالبصرة أكثر من ثلاثي! ألف مقاتل، وهرب الحجاج منها ولم يبرز فلمح في هذا الشعر لقصتها وعير الحجاج بها، والنعامة طائر معروف بالجبن وشدة الهرب، والفتخاء المسترخية الجناحين اللينة المفاصل وهو من صفاتها والصفير صوت بغير حروف، والصافر الريح أو كل مصوّت والظاهر الثاني، وكررت بمعنى رجعت ويروى برزت بدله، والوغى أصله الأصوات المرتفعة المختلطة وبه سمي الحرب وهو المرادء وغشيت بمعنى نزلت وحفلة مرّة الحفل من قولهم رجل ذو حفل أي مبالغ فيما يفعله والمعنى ذات حفلة كما في الكشف، والتشبيه بأمس الدابر أي الماضي في العدم حقيقة أو حكماً وكون قلبه في جناحي طائر من بليغ الكلام وبديعه لأنه عبارة عن ذهابه فارا وقلبه في غاية الخفقان من شدة خوفه، وهذا لا يدرك حسنه إلاً من رزقه الله ذوق حلاوة العربية، وهو تصوير لفراره مرعموبا وفي الكشف فتخاء من باب التصوير كيقولون بأفواههم وقال بعض المتأخرين: كما رأيته بخطه بل هو لبيان وجه الشبه على طريق الإشارة لترتيب، 1 لحكم على المشتق وفيه نظر، وفتخاء بفاء ومثناة فوقية وخاء معجمة ممدوداً.
وأعلم أنه إذا ذكر الطرفان كما مرّ، وعمل الثاني منهما كما في البيت المذكور فهذه مسئلة
مقرّرة في كتب النحو والمعاني والتفسير، وقد ذكرت
في كتاب سيبويه وقال: في التسهيل لا يتحمل غير المشتق ضميرا ما لم يؤوّل بمشتق خلافا للكسائي وفي شرحه لأبي حيان إذا أوّل تحمل ضميرأ كمررت بقوم عرب أجمعون، وبقاع عرفج كله بتأكيد الضمير المستتر بتأؤيله بفصحاء وخشن فإذا أسند إلى ظاهر رفعه كما قاله سيبويه في نحو مررت برجل أسد أبوه ومنه قوله:
كأنّ لتأمنها بيوتا حصينة مسوحاً أعاليها وساجا كسورها
برفع الظاهر لتاويله بمشتق أفي سودأ وكثيفا وأجاز الكسائيّ، وبعض الكوفيين ذلك في
الجامد وان لم يؤوّل وأستبعده ابن مالك وقال: ينبغي أن يحمل على ما كان لمسماه معنى لازم بين اللزوم كالإقدام والقوّة للأسد اهـ، وقال ابن مالك أيضاً في شرح كافيته لو أشرت إلى رجل، وقلت هذا أسد لكان لك فيه ثلاثة أوجه تنزيله منزلة الأسد مبالغة دون التفات إلى
تشبيه، وقصد التشبيه بتقدير مثل ونحوه وعلى هذين لا ضمير فيه، والثالث أن يؤوّل لفظ أسد بصفة وافية بمعنى الأسدية فتجريه مجرى ما أوّلته به فيرفع الضمير والظاهر وينصب الحال والتمييز وهو مجاز على هذا دون ما قبله هذا زبدة ما قاله المضحاة كما قرّره شرّاح التسهجل في باب المبتدأ والخبر، والذي قاله علماء المعاني مبنيّ عليه فقال المحقق السعد اسم المشبه به وان ذكر معه ما يشعر بأنه ليس في معناه كعليّ! في أسد عليّ، فالكلام تشبيه فليس النزاع فيه لفظيا بل مبنيّ على أنه في معناه الحقيقيّ حتى لا يستقيم إلاً بتقدير نحو الكاف؟ ، وييه! ون تشبيها أو في معنى المشبه كالرجل الشجاع فيكون استعارة ويصح الحمل، وهو المختار عندي كما يشهد به الاستعمال فإن هعنى أسد عليّ مجترىء صائل ومعنى نعامة جبان هارب، ومعنى الطير أغربة عليه باكية وتقول هو أخي في الله.
وقال انجن مالك: إذا قلت هذا أسد مشيراً للسبع فلا ضصير " ميه، وان قلته مشيراً إلى الرجل الشجح " لفيه ضمير لأنه مؤوّل بما فيه معنى الفعل. وقال قدّس سرّه: تعلق عليّ بملاحظة ما يلزمه من الجراءة لا لأنه في فعنى مجترىء صائل وإلا كان مجازا مرسلاً، وفات معنى التشبيه بالكلية كما في زيد شجاع أ! مجترىء، وما قيل من أنّ أسداً في زيد أسد مسحمل في المشبه وهو الرجل الشجاع مردود بأنّ هذا المجموع الس خنشبهاً بالأسد فإنّ الشجاعة خارجة عن الطرفين إتفاقاً فالحق أنّ أسدا مس! صمل في محعناه الحقيقيّ، وحمل على زيد لإدّعاء أنه من إفراد. مبالغة ولو قدّر فيه الأداءة فاتت المبالغة،! فم قد يلاحظ ما يلزم معناه الحقيقيّ من اجراءة فيعمل كما في نحو رأيت رجلاً أسداً أبوه إمّا لقصمد معنى المشابهة، أو لإعتبار ال! حزم سواء جعل تابعاً أو مستعملَا فيه اللفظ.
وبقي ههنا بحث، وهو أنه لا نجزاع في أنّ التقدير هنا هم صم لكن ليس المستعار ل! حينئذ مذكورا لأنه لبيان أحوال مشاعر المنافقين لا ذواتهم ففي هذه الصفات ااستعارة قبعية مصرّحة فلا يختلف ف! يها الاستعارة مصادرها! لتلك الأحوال، ثم اشتق منها فإن س أجيب بجعل! ها في عداد الأسماء نافاه قوله إلاً أنّ هذا في الصفات، وظ ك في الأسماء أو بأنّ هم صم في قوّة حال إسماعهم الصمم فتمحل مستغنى عنه فإنّ لقيت صما إسنعارة قطعاً، وتقديره أشخاصاً صما وهو في قوّة الحمل إلاً أن يقال تشبيه ذوات! " المنافقين بذوات الأشخاص الصم متفرّع على تشبيه حالهم بالصمصم، فالقصد إلمى إثبات هذا! الفرع أقوى وأبلغ كأنّ المشابهة بين الحالين تعدت إلى الذإتين فحملت الآية على هذا التشبيه رعاية للمبالغة في إثبات الآفة وهو غاية ما يتكلف هنا، هذا زبدة ما قاله الفاضلاق، وقد قيل عليه إنه إن أراد بكون الشجاعة خارجة عن الطرفين خروجها عن حقيقتهما النوعية فمسلم لكنه غير مفيد، وان أرادالخروج من حميث كونه مشبهاً به فغير مسلم إذ ألاتفاق على! ضلافه ". لظهور أن المشبه ليس زيداً نفسه بل باعتبار جراءته كما أنّ المشبه به ليس الأسد ففسه بدون ذلك الإعتبار، ولو كان مستعملاً في معنا. الحقيقيّ كان جامدا محضا وان لوحظ فيه قبعية معناه الحقيقيّ ما يلزمه من نحو الجراءة وإمكان هذا
القدر كاف في العمل في الظرف دون غيره لأنه يكفيه رائحة الفعل، ولذا اضطرّ آخرا فقال: أو مستعملَا فيه اللفظ فالتحقيق أنّ أسداً مجاز عن شجاع بقرينة الحمل كما في رأيت أسدا يرمي فالمراد ذوات مبهمة مشبهة بالأسد، ولا يلزم منه سوق الكلام لإثبات أنّ زيدا هو تلك الذات المشبهة بالأسد لأنّ المؤوّل بشيء لا يعطي حكمه من كل وجه، بل هو مسوق لإدعاء الإتحاد بينهما، ولو لزم ذلك لزم كون معنى
رأيت أسداً يرمي رجلَا شجاعا يرمي وظهر عدم الفرق بينهما فيما يتعلق بالغرض إلاً أنّ سوق هذا لإثبات الرؤية لتلك الذات، وهذا الإدعاء الإتحاد بينهما، وقيل أيضاً إنّ الشجاع في قوله كالرجل الشجاع قيد للمشبه لا جزؤه حتى يكون المشبه مركباً فليس بمناف لقولهم إنّ الشجاعة خاوجة عن الطرفين مع أنّ الحق أنّ الشجاعة ليست قيدا أيضاً لشيء من الطرفين لأنّ المقصود نقل الشجاعة الكاملة من المشبه به إلى المشبه، والظرف متعلق بمضمون الكلام بحسب المآل أي مجترىء كامل، وقى عليه نعم المتبادر من العبارة تعلق الظرف بالمشبه على وجه القيدية بل بالمشبه به على تقدير التشبيه لا الاستعارة.
أقول إذا عرفت أنّ هذه المسئلة مما حققه المتقدمون على اختلاف فيها وأنها من مسائل الكتاب، وكان القول ما قالت حذام، وكان منشأ اختلاف النحاة العمل واختلاف أهل المعاني قصد البليغ عرفت أنّ الحق ما قاله الفاضل المحقق لقوّة أساسه، وسطوع نبراسه، فالنزاع ليس بلفظيّ لابتنائه على ما ذكروه مما يختلف فيه مثل الأسد لفظا بعمله ومعنى بالتجوّز فيه لاستعماله في غير معناه، وما أورده عليه المدقق ليس ليء وإن لاح وروده في النظرة الأولى فقوله إنه عمل باعتبار ما يلزمه من الجراءة مبنى على قول الكسائيّ الضعيف المستبعد عندهم كما عرفته، وقوله إنه إذا كان مستعملَا في معنى مجترىء صائل كان مستعملاً في لازم معناه فهو مجاز مرسل لا استعارة خيال فارغ، فإنك إذا قلت في زيد أسد إنه مؤوّل بما ذكر، ومعناه رجل مجترىء كالأسد فلا مرية في إنه استعارة لصحة ذلك التشبيه، وترك المشبه فيه بالكلية وإنما لئم تذكر الرجل اعتمادا على إشتهار الجراءة والصولة في صفات العقلاء، وفي بعض كتب اللغة ما يقتضي أنه حقيقتها، وقوله زيد شجاع ليس نظيرا لما ذكره بل نظيره زيدى رجل شجاع كالأسد، وقوله المجموع ليس مشبها بالأسد غير مسلم ولا يلزمه التركيب مع التعبير عنه بالأسد، وقوله إنّ الشجاعة خارجة عن الطرفين إتفاقا ليت شعري من أين جاء هذا الإتفاق فعلى هذا قد شبهت الرجل الشجاع بالأسد في شدة بطشه، واهلاك مقاتلة وإن كثر، ثم إنّ قوله قد يلاحظ ما يلزم معناه الحقيقي من الجراءة إلخ مع أنه لا طائل تحته مناقض لما قبله فإنه إذا كان مستعملَا في معناه الحقيقي كيف يجوز استعماله في لازم معناه إلاً أن يريد أنه كناية حينئذ، وهو مع تكلفه مبنيّ على القول الضعيفبهما مرّ.
واعلم بعدما ارتفع الغين، عن العين ووضح الصبح لذي عينين، أنّ ما ذكره قدس سره
من البحث الذي استصعبه حتى جعل الأسنة له مركبا، وسلمه له من مشى خلفه ليس بوارد أيضاً، وما أفسده فيه اً كثر مما أصلحه، وحسن ظننا بالسلف أنا لا نقول به لأنه ناشىء من عدم
إعمال النظر في مطاوي كلامهم لأنّ هم المقدّر راجع للمنافقين السابق حالهم وصفاتهم وتشهيرهم بها حتى صاروا مثلاً فكأنه قيل هؤلاء المتصفون بما ترى صم إلخ على أنّ المستعار له ما تضمنه الضمير الذي جعل عبارة عن المتصفين بما مرّ والمستعار ما تضمن الصمم وأخويه من قوله صمّ إلخ فقد انكشف الغطاء من الطرفين، وليس هذا بابعد مما مرّ في قولهم إمتطى الجهل، وبهذا إضمحلت الشبهة من غير حاجة إلى ما ذكر من التعسفات، وأمّا ما ذكر آنفا مما أورده عليه البعض من قوله إن أراد بكون الشجاعة خارجة إلخ فمعلوم أنه لا طائل تحته، وقوله إنّ الشجاعة داخلة في الطرفين، من حيث التشبيه لا وجه له لأنه على مدعاه من أنّ الطرفين زيد والأسد كيف يكون هذا، وهو خارح عنهما وإن كان لازماًاطما، ولو لم يكن هذا مع إرخائه العنان في مجاراة الخصم كان غير صحيح أيضا، وكذا ما قيل من أنّ الشجاع قيد للمشبه لما قدمناه لك فلا تكن من الغافلين، وإنما سحبنا أذيال البيان لما في هذا المقام، من العقد التي لم تحلها أسنان الأقلام، ففي الزوايا خبايا، وفي الرجال بقايا. قوله:(هذا) أي الأمر هذا أوخذ من هذا أوها اسم فعل بمعنى خذ وذا مفعوله، وهذا وان استغنى عن التقدير بعيد مع مخالفته الرسم، والإشارة إلى التفسير المذكور بقوله لما سدّوا مسامعهم إلخ، وقوله إذا جعلت الضمير إلخ المراد بالضمير المقدر هنا مبتدأ وهو هم صم إلخ لا هو والضمير في قوله بنورهم كما توفم لبعده لفظا، ومعنى لأنه قد فرغ عنه فعلى هذا تكون هذه محصل ما سبق واجماله لأنه تمثيل لحالهم، وهو عبارة عن جميع ما مز من أحوالهم السابقة، وقد علم من قوله
لا يشعرون ولا يبصرون أنهم صمّ عمي ومن كونهم يكذبون أنهم لا ينطقون بالحق فهم كالبكم، ومن كونهم غير مهتدين أنهم لا يرجعون ووجه الترتيب ما مرّ فلا يرد عليه ما قيل من أنّ التمثيل إنما فيه عدم الإبصار، وأمّا الصمم والبكم فلا حتى يجاب بأنه مثلت حالهم في التحير بالمستوقد فأفاد تحيرهم في المحسوس، والمعقول ولم يذكر سفههم وكونهم عن العقل بمعزل لأنه مفروغ عنه، وهذا نظير الختم على السمع والبصر المستلزم للختم على اللسان في قصة الكفار، وسقط أيضاً ما قيل إنه يرد عليه أنّ نتيجة التمثيل كونهم عميا لا غير وأنه على تقدير صحته المناسب تقديم العمى، وقوله فذلكة التمثيل ونتيجته قيل عطف النتيجة على الفذلكة تفسيريّ، والظاهر أنّ بينهما مغايرة إعتبارية فإن كان إجمالاً لما قبله فهو فذلكة وان كان ما قبله منساقاً إليه ومستلزما له فهو نتيجة له، ولذا قدره بعضهم بقوله فهم صم إلخ، والحاصل أنّ حالهم المضروب له المثل وسعيهم الخاسر أدّأهم إلى فقد الحواس، والقوى ووقوعهم في قفار لا يرجع من ضل فيها والفذلكة عبارة عن إجمال الأمور مأخوذة من قول الحاسب بعدما يملي مفردأت ما يحسبه فجملة ذلك كذا فركب هذا اللفظ من بعض حروفه، ويسمى هذا عند الأدباء نحتاً بالنون كقوله حوقلة، وبسملة وهو مقصور على السماع، وهذه اللفظة لم تسمع من فصحاء العراب الذين يحتج بكلامهم، وإنما أحدثها المولدون كما قال المتنبي:
نسقوا لنا نسق الخساب مقدما وأتى فذالك إذ أتيت مؤخرا
وأعلم أنّ الجملة الواقعة موقع النتيجة وردت بالفاء ودونها في كلام الفصحاء فالأوّل
كقوله تعالى: {وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلَاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ليلة وأتممناها بعشر فتتم ميقات ربه أرشين ليلة} [الأعراف: 142] والثاني كقوله {فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ} الحني وسبعة إذا زتجنتم تلك عَشرّة كاملة} [البقرة: 196، لأنّ إستلزام ما قبله له أو تضمنه له بالقوّة منزل منزلة المتحد معه فيقتضي ترك العطف، ومغايرتها لما قبلها وترتبها عليه ترتب النتاج، والفرع على أصله يقتضي اقترانها بالفاء، وهذا هو المعروف في الاستعمال، وهي بدونها مستأنفة أو حالية،. وعلى الأوّل لا محل لها فمن قال: إنها لا تكون إلا مع الفاء وهي بدونها لا يدري من أيّ أنواع الجمل هي فقد قصر فيما قدر. قوله: (وإن جعلته للمستوقدين إلخ) أي! إذا جعلت هذا من تتمة التمثيل على أنه داخل فيه لا حاجة إلى اعتبار التجوّز فيما ذكر إذ لا مانع من الحقيقة، وهي الأصل فلا يعدل عنه بدون مقتض يقتضيه، والتمثيل لا يقتضي تحقق الممثل به في الخارج بل يكفي فرضه وان امتغ عادة كما في قوله:
اعلام ياقوت نشرن على رماح من. زبرجد
فلا يرد عليه ما قيل من أنه من المعلوم أنّ من إنطفأت ناره ووقع في ظلمة شديدة مطبقة لا يحصل له صمم ولا بكم ولا عمى، فالظاهر أنها مجازات لا حقائق وأنّ هذا الوجه بعيد، ولذا لم يلتفس! له في الكشاف وشروحه وجعلوه من أحوال المنافقين سواء كان ذهب جوابا أم لا، ولا حاجة إلى الجواب عنه فإنّ من وقع في ظلمات مخوفة هائلة ربما أذاه ذلك إلى الموت فضلاً عن فقد الحواس ألا ترى أنّ من حبس زماناً في مطمورة مظلمة قد يذهب بصره، ويبتلى بأمراض حارّة يعتقل بها لسانه، والذي دعى المصنف إلى اعتبار هذا قراءة النصب فإنها تعينه على الجوابية، وأخره إشارة إلى أنه مرجوح عند. فلا غبار عليه حتى ينقض. قوله:(بحيث اختلت حواسهم وانتقضت قواهم) هذا كعبارة الزمخشرفي السابقة وقد مرّ تفسيرها وبيان القوى فيها والإنتقاض إفتعال من النقض بمعنى الهدم أو الحل فهو استعارة يقال نقضت البناء نقضا إذا هدمته، والنقض بكسر النون وضمها ا! منقوض من البناء ونقضت الحبل إذا فككت ما فتل منه، ومنه يقال نقض ما أبرمه إذا أبطله فانتقض هو بنفسه، وقوله بالنصب على الحال هو أحد الوجوه فيه، وقد جوّز أن يكون ثاني مفعولي ترك بناء على جواز تعديته لمفعولين وعلى تعدد ما هو خبر في الأصل أو منصوبا على الذمّ، وأصل الصمم الصلابة الحاصلة من إكتناز الأجزاء أي اجتماعها
الصوت بتموّجه، والبكم الخرس، والعمى عدم البصو عما من شأنه أن يبصر، وقد يقال لعدم البصيرة {؟ قهغ لا تزبلون} لا يعودون إلى الهدى الذي باعوه، وضيعوه أو عن الضلالة التي اشتروها، أو فهم متحيرون لا يدرون أيتقدّمون أم يتأخرون، والى حيث ابتدؤا منه كيف يرجعون، والفاء للدلالة على إنّ اتصافهم بالأحكام السابقة سبب لتحيرهم،
وتداخلها، ومنه الكنز والقناة الرمح وتوصف بأنها صماء لصلابتها ولذا تظرّف القائل:
لاتفشين سرّالملوك فحولهم صم الرماح تميل للإصغاء
وصمام القارورة بكسر الصاد المهملة ما تسد به لمنعها ما فيها بتداخله، والصماخ بالكسر
أيضاً خرق الأذن، وقوله لا تجويف فيه تفسير لقوله مكتنزاً وقوله سببه إلخ إشارة إلى ما ذكره الأطباء من أنّ الصمم أن يخلق الصماخ بدون تجويف فهو كالفراغ المشتمل على اليواء الراكد الذي يسمع الصوت بتموّجه فيه قالو! وقد يكون له تجويف لكن العصب لا يؤدّي قوّة الحس فما ذكره المصنف رحمه الله أحد قسميه، وكأنه أقتصر عليه لأنه الأصل الغالب فيه، ولكن لا يخفى أنه لا يناسب جعله حالاً مما قبله لأنه خلقي لا عارض بسبب الظلمة كما قيل، وهو غفلة لأنّ المعنى كالصم، والتفسير للمشبه به فإن لم تبلغ الآفة عدم الحسق فهو يسمى طرشاً عند الأطباء وان اختلف أهل اللغة في تفسيره. قوله:(والبكم الخرس) بفتحتين فيهما وهذا قول لأهل اللغة كما في المصباح، وقال الراغب: الأبكم هو الذي يولد أخرس. فكل أبكم أخرس، وليس كل أخرى أبكم وقد يقال هو تفسير ئلمراد منه هنا، وقوله: عما من شأنه إشارة إلى أنه من تقابل العدم والملكة وإطلاقه على عدم البصيرة مجاز، وظاهر كلام بعضهم أنه حقيقة فيه أيضاً. قوله: (لا يعودون إلى الهدى إلخ (هذا بيان لارتباطه بما قبله على الوجوه السابقة وإلى أن رجع كعاد يتعذى بإلى وبعن وإذا كان لازماً فمصدره الرجوع كما هنا لا متعدّيا مصدره الرجع كما في قوله:
عسى الأيام أن يرج! ن قوما كالذي كانوا
وعن تدخل على المتروك والى على المأخوذ وإلى الاحتمالين أشار بقوله إلى الهدى أو
عن الضلالة وهو على كون الضمير راجعا للمنافقين، وقوله أو فهم متحيرون إشارة إلى جعل الضمير للمستوقدين وبينه على تقدير إلى وسكت عن تقدير عن لظهوره، أي لا يرجعون عما هم فيه، وقيل: إنه إشارة إلى أنه منزل منزلة اللازم بالنظر إلى متعلقه كما أنه لازم في نفسه، وهو كناية عن التحير، وقوله: لا يدرون مستأنف لبيان تحيرهم، وقوله: والى حيث ابتدؤا منه يأباه لولا ما ذكره من التكلف، وقوله لا يرجعون، وان عئم الحيرة وعدمها والعامّ لا دلالة له على الخاص فهو يدل على ذلك بقرينة السياق، والسباق قيل: لوجهان المتقدمان على أنّ وجه الشبه في التمثيل مستنبط من توله {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرُوُاْ} والثالث على أنه من قوله: {ذَهَبَ اللهُ بِنُورِهِمْ} كما مرّ واعتبار التعلق إنما هو على تقدير أن يكون قوله فهم لا يرجعون من تتمة قوله {؟ أولئك الذين اشرتوا} إلخ وما بينهما اعتراض فتأمل. قوله:) والفاء للدّلالة إلخ (إشارة إلى أن
هذا متفرّع ومتسبب عما قبله على الوجوه كلها لا أنه على إطلاق لا يرجعون عن المتعلق السابق وترك التعرّض لمعناها على التقييد كما توهم والأحكام السابقة إمّا اشتراء الضلالة بالهدى والعمى وما معه من الظلمة وغيرها والإحتباس الإمتناع وعدم الرجوع لأنه أعمى لا ينظر طريقاً وأبكم لا يسأل عنها، وأصم لا يسمع صوتا من صوب مرجعه فيهتدي به، وهو على الوجهين ظاهر أيضاً وقوله لتحيرهم ناظر إلى المنافقين واحساسهم إلى المستوقد أو بالعكس كما قيل فهو شامل لهما لا مختص بالمستوقد، وترك التعرّض لحال المنافق لأنه يعلم بالمقايسة عليه كما قيل وجملة لا يرجعون خبرية، وقيل إنها دعائية والدعائية تكون فعلية كارحمنا ورحمك الله ويرحمه الله واسمية. قوله:(عطف على الذي استوقد إلخ) في الكشاف، ثمّ ثنى الله سبحانه في شأنهم بتمثيل آخر ليكون كشفاً لحالهم بعد كشف، وايضاحاً غبّ إيضاح وكما يجب على البليغ في مظان الإجمال والإيجاز أن يجمل ويوجز فكذلك الواجب عليه في موارد التفصيل والإشباع أن يفصل ويشبع وأنشد الجاحظ:
ترمون بالخطب الطوال وتارة وحي الملاحظ خيفة الرقباء
وقوله عطف على الذي خبر مبتدأ أي هو عطف وهكذا وقعت العبارة في جميع النسخ،
وكان الظاهر أدط يقول عطف على كمثل الذي استوقد ناراً إلاً أنه تسمح فيها إعتمادا على ظهور المراد فاقتصر على جزئه المعين له لعدم تكرّره وكلامه ناطق به، وقيل: في توجيهه إنه إشارة إلى أنه من عطف مفردات على مفردات فالكاف مرفوع المحل معطوف على الكاف الأولى ومثل المقدر معطوف على مثل السابق، والصيب على
الذي استوقد بتقدير ذوي، وإنما عدل عن الظاهر لإفادة كمال الارتباط بين الجملتين بارتباط مفرداتها وأنه لا بد من إعتبار لفظ مثل مقدرا في النظم كما سيأتي وإليه أشار بقوله ذوي صيب، ولا يخفى ما فيه من التعسف الذي يأباه الطبع السليم، وعطص الكاف وحده غير مستقيم، وان أئده بعضهم بنقله عن مكيّ والكواشيّ والحق الجاوي على نهج الصواب أن يقال إنما عبر المصنف بما ذكر لأنه المقصود بالعطف التخييري أوّلاً وبالذات لأنّ القاف أداة تشبيه والمثل بمعنى القصة كالعنوان، والفهرسة لما بعده فكأنه يقول أنت في تمثيل حال هؤلاء بالخيار إن شئت مثلتها بالذي استوقد نارا وان شئت بذوي صيب مظلم مرعد مبرق فتدبر. قوله:(أي كمثل ذوي صيب إلخ) في الكشاف، والمعنى أو كمثل ذوي صيب والمراد كمثل قوم أخذتهم السماء على هذه الصفة فلقوا منها ما لقوا، ثم قال: لولا طلب الراجع في قوله {يَجْعَلُونَ أَصْابِعَهُمْ فِي آذَانِهِم} ما يرجع إليه لكنت مستغنيا عن تقديره أي تقدير ذوي الذي هو جمع ذو بمعنى صاحب محذوف النون للإضافة، وتبعه المصنف فيما ذكر.
وقال المدقق: في الكشف الظاهر من كلام السكاكيّ أن يقدر المضاف لأنّ المقصود تشبيه الصفة بالصفة لا الصفة بالذوات وهو حق لأنّ التركيب إنما أستفيد من تشبيه القصة بالقضة، أمّا أنّ ذوي القصة في الأوّل هم المنافقون وفي الثاني أصحاب الصيب فما لا نزاع
فيه، وتحريره أنّ تقدير مثل لا بذ منه للعطف السابق وحينئذ يقدّر ذوي لاستقامة إضافة المثل لها لأن التشبيه يسوق إلى ذلك، وان أمكن إضافة القصة إلى كلى من الأجزاء التي لها مدخل فيها لكن الإضافة إلى أصحابها حقيقية والى الباقي مجازية، وقد نصى المصنف في قوله تعالى {مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ} [البقرة: 261] إلخ على أنه لا بدّ من حذف المضاف أي مثل نفقتهم أو كمثل باذر حبة لكن المصنف منع ههنا كون التشبيه سائقا إلى ذلك وهو حق، وذكر سبباً واحدا من موجبات حذف المضاف، ولم يمنع أن يكون ثمة موجب آخر أو موجبات، ورده الفاضل المحقق، وقال: نفس التشبيه لا يقتضي تقدير شيء، وضمائر يجعلون إلخ لا تقتضي إلاً تقدير ذوي لكن الملايمة للمعطوف عليه والمشبه تقتضي تقدير مثل وما قيل من أنه لا بدّ منه فيه نظر لأن كلام المصنف صريح في أنه لا موجب لتقدير المضاف سوى طلبية الضمير مرجعاً، وإنما احتاج في الآيتين إلى تقدير المضاف إليه لأنه قد صرّح في جانبي المشبه، والمشبه به بلفظ مثل بمعنى الحال والقصة فلا بد من إضافته إلى ما يستقيم فيه أن يقال هذا الحال ذاك فليتأمّل، ولا خلاف بين الزمخشريّ والسكاكي كما قاله المدقق، إلا أنه اقتصر على أحد وجهي التشبيه لأنه أبلغ وسيأتي لهذا تتمة إن شاء الله تعالى. قوله:(وأوفى الآصل للتساوي في الشك) أي للتساوي الواقع في الشك في النسبة المتعلقة بهما وهو أحد المذاهب للنحاة فيها، والثاني أنها مشتركة بين معان نحو العشرة على ما بينوه، والثالث أنها لأحد الأمرين أو الأمور في الخبر والإنشاء وهو الذي اختاره في المفصل تبعاً لما في الكتاب وأرتضاه محققو النحاة كما في المغني، وقوله للتساوي في الشك أحسن من قول النحاة للشك لما فيه من تحقيق المعنى، والتمهيد لتوجيه التجوز المذكور بعده فلا يتوهم أنّ معنى الشك تساوي وقوع النسبة أولاً وقوعها عند العفل فالتساوي في الشك مآل معناه إلى التساوي في التساوي، وهو لغو من القول كما قيل، وهو لظهوره مستغن عما ذكره من التوجيه فإن قلت قوله قدّس سرّه إنها كلمة شك على هذه افتختص بالخبر لا يظهر مع وقوع الشك كثيراً في غيره كقولك أزيد عندك أو عمرو مستفهماً عما شككت فيه، والإستفهام إنشاء من غير مرية قلت هذا مما صرّح به النحاة، وقد قال الرضي: قالوا إنّ أو إذا كانت في الخبر فلها ثلاثة معان الشك والإبهام والتفصيل وإذا كانت في الأمر فلها معنيان التخيير والإباحة ولهذا لما قالوا إنها حقيقة في الشك جعلوها بعد الأمر والنهى مجازا، ولما قالوا إنها موضوعة لأحد الأمرين قالوا إنها تعم الخبر وغيره كما صرّح به في المفصل فهذا عندهم معنى غير حقيقيّ، أو الجملة خبرية فيه والإستفهام في الحقيقة في المتعلق وكذا الشك وكما صرّحوا باختصاص الشك بالخبر صرّحوا باختصاص التخيير والإباحة بالأمر والطلب، وخالفهم فيه ابن مالك وبعض النحاة فذهبوا إلى ورود ذلك في الخبر الا أنّ كثره ورد في التشبيه كما في هذه الآية وفي قوله تعالى {فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً} [البقرة: 74]
أيّ بأي هذين شبهت فأنت مصيب د ان شئت فبهما جميعاً وعليه قول ابن مقبل:
يهززر. للمشي أوصالاً منعمة هز الجنوب ضحا عيدان نسرينا
أو كاهتزاز ردييّ تذاوقه أيدي التجار فزادوا متنه لينا
قوله: (ثم لسع فيها إلخ) هذا معنى ما في الكشاف من قوله أستعيرت للتساوي في غير الشك، وذلك قولك جال! الحسن أو ابن سيرين تريد أنهما سيان في استصواب أن يجالسا وهو جواب عن سؤال تقديره إذا كانت أو موضوعة للتساوي في الشك الوارد في الخبر فما وجه استعمالها مع الأمر وغيره من الطلب، وارادة غير ذلك بلا شك فأجاب بأنه وارد على التوسع والتجوّز، وفي شرح الهادي أو لما كانت للتساوي المشكوك فيه جاءت للتساوي من غير شك على الإتساع.
وقول الزمخشريّ استعيرت إن صل على ظاهره فالعلاقة المشابهة بأنّ شبه التساوي في
غير الشك با! لتساوي الواقع فيه الآ أنه قيل إنّ الأظهر أنّ المراد بالاستعارة الاستعارة اللغوية، كما اصطلح عليه أهل الأصول فإنه مجاز مرسل من إطلاق المقيد اعلى المطلق كالمشفر للشفة، والمتبادر من ظاهر كلامهم هنا إنّ أو نفسها ك! ما تفيد الشك والإبهام تفيد التخيير أو الإباحة وأنه مستفاد منها لا من عرض الكلام كما في التلويح وشرح المفتاح وارتضاه بعض المحققين وأيده بأنه نسب تارة لأو وأخرى للأمر وذهب كثير إلى خلافه، وقال: كيف يكون ذلك من الأمر، وقد ورد في الخبر كما مرّ، وفي المغني التحقيق أنّ أو موضوعة لأحد الشيئين أو الأشياء، وهو الذي يقوله المتقدمون، وقذ. تحرج إلى معنى بل والى معنى الواو، وأمّا بقية المعاني فمستعارة من غيرها ومن العجب أنهم ذكروا أنّ من معاني صيغة اً فعل التخيير، والإباحة، ومثلوه بنحو خد من مالي درهما أو دينارا أو جالس الحسن أو ابن سيرين، ثم ذكروا أنّ أو تفيدهما ومثلوا بالمثالين المذكورين لذلك، اهـ. وأشار العلامة بقوله إستصواب إلى أنّ الأمر هنا ليس للوجوب بل للندب والاستحباب فعلى هذا قد تجوّز بأو الموضوعة للتساوي في الشك عن مطلوب التساوي فيما سيق له الكلام، وحينئذ فإذا دل الأمر على الطلب الاستحبابي دلت كلنة أو على تساويهما في تلك المطلوبية وكلاهما أمر وضمي، وليس معنى تعلق ذلك الطلب بشيئين على حد سواء الآ تخيير المخاطب فيهما، أو إباحتهما له والمفيد لمجموع هذا المعنى! صيغة الأمر ولفظ أو فقد علم أنّ هذا منطوق لا مفهوم التزاميّ على هذا القول بخلافه على القول الآخر، فلهذا تراهم يضيفونه تارة إلى الأمر، وتارة إلى أو لأنّ كل منهما مدخلاً فيه فلا وجه للاعتراض عليه والعجب من صاحب المغني كيف تعجب منه، ولا خلاف في ورود أو! لهذه المعاني كلها لأحد من النحاة وإنما الخلاف بينهم هل هي موضوعة للتساوي في الشك مجاز نجي غيره أو موضوعة لأحد الأمر! شامل كثرها أو هو مشترك بينها، واذ دار الأمر بين التجوّز والاشتراك اختلف أهل الأصول في الأرجح والأولى كما فصل في محله فذهب الزمخشري هنا إلى أحد القولين، وفي المفصل إلى الآخر فلا تعارض بين كلاميه كما توهمه
الطيبي، وإلى هذا أشار المدقق في الكشف. قوله:(ولا تطع منهم آثماً أو كفورا) إشارة إلى ما مرّ أيضاً من وقوعها بعد النهي لغير التساوي في الشك توسعا، وفي الكشاف ومنه قوله تعالى {وَلَا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا} [سررة الإنسان، الآبة: 24] أي الآثم والكفور متساويان في وجوب عصيانهما، وقال المصنف رحمه الله. أو للدلالة على أنهما سيان نجي إستحقاق العصيان والاستقلال به كما سيأتي تحقيقه ثمة، والحاصل أنها على هذا التجوز تدل على أنهما متساويان في كون طاعتهما ممنوعة منهيا نها وعصيانهما واجباً مطلوبا، والتساوي في المنع والحرمة يقتضي حرمة إطاعة كل واحد من القبيلين وحرمة إطاعتهما جميعاً بالضرورة إذ لو انتهى عن أحدهما دون الآخر لم يتساويا في ذلك كما لا يخفى فلا ترد الآية على من ذهب إلى هذا المذهب، وإنما يشكل بحسب الظاهر على من قال إنها موضوعة لأحد الأمرين كما في المفصل، ولذا قال في الإيضاح استشكل بعضهم أو في هذه الآية بأنه لو انتهى عن أحدهما لم يمتثل، ولا يعد ممتثلاً الا بالانتهاء عنهما جميعا، ومن ثمة حملت على معنى الواو والأولى أن تبقى على بابها، وإنما جاء التعميم من النهي الذي فيه معنى النفي لأنّ تقديره قبل وجود النهي تطيع آثماً
أو كفوراً أي واحداً منهما فورد النهي على ما كان ثابتا فالمعنى لا تطع واحدا منهما، والتعميم من النهي، وهي على بابها لأنه لا يحصل الانتهاء عن أحدهما حتى ينتهي عنهما بخلاف الإثبات فإنه قد يفعل أحدهما دون الآخر، وهذا معنى دقيق علم منه أنّ التعميم لم يجيء منها وإنما جاء من جهة المضموم إليها.
وقال قدّس سرّه إن تفسير النهي عن الطاعة بوجوب العصيان بناء على أنّ النهي عن الطاعة ما-له الأمر بالعصيان فيكون المفعول متعلقا بالنفي كأنه قيل إعص هذا أو ذاك فإنهما متساويان في وجوب العصيان، وذهب بعضهم إلى أنّ كلمة أو هنا على بابها أي لأحد الأمريه، وإنما جاء التعميم في عدم الإطاعة من النهي الذي في معنى النفي إذ المعنى قبل وجود النهي تطيع آثما أو كفوراً أي واحدا منهما فيعم، وقيل: هي بمعنى الواو وإنما يصح إذا اعتبر عطف النفي على النفي لا المنفيّ على المنفيّ، كما قيل ويردّه ما ذكره في سورة الإنسان من أنه لو قيل لا تطعهما لجاز أن يطيع أحدهما لماذا قيل لا تطع أحدهما علم أنّ الناهي عن طاعة أحدهما ناه عن طاعتهما جميعاً اهـ، كما يعلم من تحريم التأفيف تحريم الضرب، وحاصله أنّ العطف بالواو يفيد النهي عن الجمع دون كل واحد وبأو يفيد النهي عن كل واحد منفرداً صريحا، ومعاً بطريق الأولى، وقيل عطف أحد النفيين على الآخر يفيد تحقق أحدهما بلا عموم، وعطف المنفيّ على المنفيّ بأو يفيد العموم في النفي والعطف بالواو على العكس من ذلك فلذا جعل كلام الظاهريين على اعتبار العطف بين النفيين فعط ن وجه ذلك أنّ العامل في النسق يقدر من جنس عامل المعطوف عليه، وهو قول للنحاة وانّ الآية من عطف الجملة على الأخرى بحسب المعنى كما ذكر في قوله تعالى {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ}
[الحج: 18] الآية، ثم ما ذكره في سورة الإنسان مبنيّ على أنه من عطف المفردات على الإنسحاب بلا تقدير كما هو الظاهر لكن ما ذكره كأنه لتوجيه جعل أو بمعنى الواو مصحح له فلا يكون مردودا بما في سورة الإنسان قلت هذا زبدة ما قاله النحاة، وعطف عليه من بعدهم بالردّ والقبول، وهو من الكنوز المدخرة في خزائن العقول.
وفيه مباحث: منها أنه قدس سرّه جعل تفسير النهي عن الإطاعة بوجوب العصيان لأنه
ما-له وفرّع عليه كون المفعول متعلقا بالنفي، ونحو منه في شرح الفاضل أيضاً وظاهره أنّ النهي مؤوّل بالنفي، وهو العامل في المفعول وليس كذلك والذي جنحوا إليه في هذا ما ذكر في الأصول من أنّ المطلوب في المنهي الذي تعلق النهي به إنما هو فعل ضد المنهيّ عنه، فإذا قلت لا تتحرك فمعناه اسكن لأنّ المكلف إنما يكلف بما هو مقدور له، والعدم الأصلي ليس بمقدور وخالف الجمهور فيه أبو هاشم والغزالي بناء على أنه ليس بعدم محض بل عدم مضاف متجدّد ومثله مقدور، وهذه المسثلة قريب من قولهم النهي عن الشيء أمر بضده، وفي الفرق بينهما وتحقيق أدلتهم كلام لا يهمنا هنا.
ومنها أنّ ما نقله عن البعض 5 س كلام ابن الحاجب في الإيضاح وهو مبنيّ على القول المنقول عن النحاة كما مرّ لا على ما ارتضاه المفسرون تبعاً للزجاح، وذكر بعض أرباب الحواشي له في تحقيق ما في الكشاف خلط لأحد المسئلتين بالأخرى، وإنما ذكره قدس سرّه تتميماً للفائدة وتنبيهاً على ما ذكر.
ومنها أنّ ما ذكره بعض الفضلاء في توجيه عطف النفي إذا كان بمعنى الواو وابتناء. على
ما قاله من عطف الجمل أو المفردات بالإنسحاب كلام في غاية الخفاء والتشويش وكذا ما قالوه من ردّه بما ذكره الزمخشريّ في سورة الإنسان، وقد ذكر ابن مالك في التسهيل أنّ أو في الآية بمعنى ولا فقال: وتوافق ولا بعد النهي والنفي ومثل شرّاحه للنهي بهذه الآية وللنفي بقوله تعالى {وَلَا عَلَى أَنفُسِكُمْ أَن تَأْكُلُوا مِن بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبَائِكُمْ} [النور: 61] الآية فتدبر. . قوله: (ومن ذلك قوله أو كصيب إلخ) هذا معنى قوله في الكشاف معناه أنّ كيفية قصة المنافقين مشبهة بكيفيتي هاتين القصتين وأن القصتين سواء في استقلال كل واحد منهما بوجه التمثيل فبايتهما مثلتها فأنت مصيب، وان مثلتها بهما جميعاً فكذلك يعني أنّ أو ههنا مستعارة لمطلق التساوي، والتسوية في الآية بطريق الإباحة التخيير، وقد فرقوا بينهما بأنه في التخيير لا يملك الجمع بينهما بخلاف الإباحة وردّ هذا أبو حيان في البحر وقال الظاهر أنها للتفصيل ولا ضرووة تدعو إلى كون أو للإباحة وان ذهب إليه الزجاج وغيره من النحاة لأنّ التخيير والإباحة إنما يكونان ني الأمر وما في معناه
وما هنا خبر صرف فهو مودود كالقول بأنها بمعنى الواو إو للشك بالنسبة للمخاطبين، أو للإبهام أو بمعنى بل، وليس ما ذكره بوارد لأن النحاة اختلفوا في
أو التي للإباحة أو التخيير فقيل إنها تختص بالطلب، وذهب كثير من النحاة إلى أنها لا تختص به فتكون في الخبر كثيراً، وهو مذهب الزمخشري كما صرّح به في الكشف، وقال في المغني ذكر ابن مالك أنّ أكثر ورود أو للإباحة في التشبيه نحو فهي كالحجارة أو أشد قسوة والتقدير نحو {فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى} [النجم: 9] فلم يخصها بالمسبوقة بالطلب، اهـ وقد أنطقه الذي أنطق كل شيء حيث قال وما في معناه لأنه مؤوّل بالأمر أي مثله بهذا أو هذا، ويكفي من القلادة ما أحاط بالعنق فتدبر. قوله:(وإنهما سواء في صحة الثثبيه إلخ) إشارة إلى أنها وان صارت لمطلق التساوي بغير شك إلاً أنّ المراد التساوي في صحة التشبيه في الجملة لا التساوي من جميع الوجوه لأنّ التشبيه الثاني أبلغ من الأوّل لدلالته على فرط الحيرة، وشدة الهول وفظاكأ 9، ولذا أخره فإنهم قد يتدرّجون من الأسهل الأهون إلى الأغلظ الأهول كما في الكشاف وستراه عن قريب، وليس المراد بقوله في التمثيل بهما إنه يجوز أن يجعل مجموع الآيتين تمثيلَا واحداً كما زعمه بعضهم، وقال إنه وجه أوجه وفسره بما تركه خير من ذكره فإنّ كلمة أو واعادة الكاف تأباه ولذا قال بعض الفضلا اء إنّ المراد أنّ حال المنافقين شبيهة بالحالتين المذكورتين، وإذا كان كذلد، صح التشبيه بهما جميعاً أي بأن يذكر الحالتان معاً ويشبه حال المنافقين بكل منهما، أو يذكر إحداهما فقط ويشبه حالهم بها وليس المعنى أنه يصح أن يشبه بالمجموع من حيث هو مجموع. قوله:(والصيب فيعل من الصوب إلخ) هذا هو الصحيح عند اللغويين وفيعل بفتح الفاء وكسر العين يكون صفة كسيد وميت واسم جنس كصيب، وكونه فعيل كطويل فقلب تكلف، وهذا الوزن يكون في المعتل وتفتح عينه في الصحيح كصيقل وضيغم، وقال الإلام المرزوقي إن ياءه للنقل من المصدرية إلى الوصفية في الأصل، وإذا كان صفة فهو بمعنى نازل أو منزل فلذا أطلق على المطر والسحاب، وقيل إنه لوجود معنى النزول فيهما وهو من الصوب والصوب له معان منها النزول والمطر ومنه الصيب بمعنى المطر، والسحاب ويكون بمعنى الصواب وبمعنى الجهة كما في قولهم صوب الصواب ذكره في المصباح، وعليه قول الحريري رجوت أن يعرج إلى صوبي وفي الأساس لست على صوب فلأن وأوبه، أي على طريقته ووجهه وقوله: يقال للمطر وللسحاب أي يطلق على كل منهما وهو محتمل للوصفية والاسمية كما جمرفته. قوله: (وأسحم دان إلخ) هو مصراع من قصيدة طويلة أوّلها:
ارسما جديدا من سعاد تجنب عفت روضة الأحداد منه فيثقب
عفا آية ريح الجنوب مع الصبا وأسحم دان مزنه متصوّب
وهكذا روي وروي كما ذكره المصنف رحمه الله وأسحم دان صادق الرعد صيب، وعلى
الأول لا شاهد فيه واختلف في قائله فقيل إنه للنابغة الذبياني من قصيدة مدح بها النعمان بن المنذر، وقيل للشماخ وهو شاعر مخضرم اسمه معقل وقيل الهيثم بن ضرار بن حرملة بن صيفي وهو شاعر مشهور، وهذا ما وقع في بعض الحواشي وهو تخليط منه فإنّ ما ذكره شعر آخر وان وافقه وزناً وروياً، وعفا بمعنى أمحى وخرّب وليس هو من العفو بمعنى الصفح كما قال:
عفا الله عن قوم عفا الصبر عنهم فلورمت ذركى غيرهم خرس الفم
والآي جمع آية أو كتمر وتمرة بمعنى الأثر والعلامة، وريح الجنوب والصبا معروفان
وقد وقع بدل ريح في نسخ نسج بتشبيه اختلاف هبوبها بنسج الحائك كأنّ إحداهما سدى والأخرى لحمة، وقريب منه قول البحتري في بعض قصائده:
يا دمية جاذبتها الريح بهجتها تبيت تنشرها طوراً وتطويها
لا زلت في حلل للغيث صافية ينيرها البرق أحياناً ويسديها
والضمير في قوله عفا آية للمنزل أو للرسم المذكور قبله، وأسحم بمعنى أسود مرفوع معطوف على قوله نسج وهو صفة للسحاب والأسود منه ممطر ففيه إشارة إلى أنّ كثرة المطر مما غير الديار أيضاً، ودان بمعنى قريب من الأرض وهكذا يوصف السحاب المملوء ماء كما قال: يكاد يلمسه من قام بالراح. وصادق الرعد براء وعين
ودال مهملات أي إذا أرعد أمطر فكأنه وعد برعده وهو استعارة حسنة ولذا جعله بعض الشعراء تحية كما قال:
حياك يا ترب الهادي الرسول حيا بمنطق الرعد باد من فم السحب
ووقع في بعض الحواشي الوعد بالواو بدل الراء، وفسره بأنه يفي بوعده للديار، وهو حسن أيضاً الا أني أظن الرواية خلافه، والاستشهاد بالبيت للثاني وإنما استشهد له لأنّ المعروف أنه بمعنى المطر ولذا لم يثبته لشهرته والآية تحتملهما كما سيأتي والاحتمال لا ينافي كون أحدهما أشهر وأظهر، وما قيل من أنّ الأسحم عبارة عن المطر النازل خطوطا مستقيمة كالسدي) والريحان بمنزلة اللحمة، ولذا قيل إنّ الصيب في البيت يحتمل المطر فليس بنص في إرادة السحاب كلام من لم يدر مقاصد العرب في أشعارها، ومن أحال على الذوق فقد أحال على مليء، وقيل ظاهر عبارة المصنف إنه في البيت محتمل لكل من المطر والسحاب، ويحتمل أن يكون ناظرا للسحاب لقربه، ولتبادره من الصفات المذكورة. قوله:(وفي الآية يحتملهما) أي المطر والسحاب والاحتمال لا ينافي الترجيح لأحدهما، وفي قوله وتنكيره لأنه أريد به نوع من المطر شديد إشارة مّا إلى ترجيح كونه بمعنى المطر كما لا يخفى، والتنكير فيه للتنويع والتعظيم ولا مانع من الجمع بين معنييه، ويحتمل أنّ التنويع من التنوين والشدة من صيغة الصفة المشبهة وإن كان المشهور فيها الدلالة على الثبوت لا على التهويل والتعظيم، وأن كان لا مانع منه، وما قيل إنّ المصنف رحمه الله حمل التنكير على النوعية لأنّ الصيب نوعان شديد وضعيف والأولى جعل تنكيره للتعظيم، وإنما اختار النوعية لإشتمالها على معنى
العظمة، ولذا وصف النوع بالشدة إلاً أنّ هذا مناف لقوله والآية تحتملهما كلام ناشىء من قلة التدبر وفيما قدّمناه لك كفاية، وإنما رجح المصنف تفسيره بالمطر على عادة السلف في ترجيح التفسير المأثور، وهذا كما قال السيوطي أخرجه ابن جرير من عدّة طرق عن ابن عباس وابن مسعود ومجاهد وعطاء وقتادة وغيرهم من غير اختلاف فيه. قوله:(وتعريف السماء إلخ) يعني أنّ السماء تطلق على السماء الدنيا، وعلى الغمام كما تطلق على جميع طبقاتها وعلى كل ما علا من سقف، وغره وتطلق على المطر أيضاً كما في قوله إذا نزل السماء بأرض قوم.
وتطلق على كل جانب من سماء الدنيا مسامت لقطر من أقطارها، وهو المراد هنا، والآفاق بالمدّ جمع أفق بضمتين يطلق على كل ناحية من نواحي الأرض، ومنه آفاقي وأفقي للمسافر وعلى كل ناحية، وجانب من السماء ومطبق بضم الميم وكسر الباء مشددة ومخففة بمعنى محيط وشامل، وآخذ بالمدّ اسم فاعل بدل أو عطف بيان لمطبق من الأخذ وأصل معناه التناول، ويكون بمعنى الإمساك كالأخذ بالخطام واللجام، وبمعنى الحوز والتحصيل هذا هو المعنى الحقيقي، وما يقرب منه، ثم إنه تجوّز به عن معان أخر كالإحاطة والستر لأنه من شأن المحوز المأخوذ، وهو المراد هنا كما في قول الفرزدق:
أخذنا بآفاق السماء عليكم لنا جبلاها والنجوم الطوالع
فهو تعبير جيد هنا، ثم بئن المصنف رحمه الله تعريف السماء على وجه يتضمن بيان فائدتها، ودفع السؤال، وهو أنّ كل صيب مطرا كان أو سحاباً من السماء فلا حاجة لذكره، وإذا كان السماء بمنى الأفق وتعريفه للاستغراق أفاد فاثدة سنية، وهي أنّ السحاب محيط بجميع حواسهم وكذا المطر النازل عليهم منصت من كل أطرافهم ففيه مع الدلالة على قوّته تمهيد لظلمته، وأجاد المصنف رحمه الله إذ عقب التنكير بالتعريف على نهج أدمج فيه ما ذكر. قوله:(ومن بعد أرض إلخ) هو بيت هكذا:
فأوه لذكراها إذا ما ذكرتها ومن بعد أرض بنينا وسماء
وهو كما في الكشاف دليل على إطلاق السماء على كل أفق من آفاقها، وأوه وروي آه وكلاهما اسم فعل مبنيّ على الكسر بمعنى أتوجع ويوصل بمن واللام، وقال قدس سرّه: أي توجعت لذكر الحبيبة ومن بعد ما بيني وبينها من قطعة أرض، وقطعة سماء تقابل تلك القطعة الأرضية فنكرهما إذ لا يتصوّر بينهما بعد جميع الأرض والسماء، ولما صح إطلاقها على كل ناحية وأفق منها جيء بها معرّفة باللام لتفيد العموم، وتدل على أنه غمام مطبق، ولو نكرت لجاز أن يكون الصيب من بعض الآفاق.
قلت: هكذا فسروه، ولا يخفى
أن تباعد مسافة الأرض والتفجع لها في غاية الظهور،
وأمّا تباعد ما يقابلها من السماء ففي غاية البعد عن مواطن الاستعمال، وما ذكروه معنى لا حاصل له، فالظاهر أنّ هذا جار على ما عرف في التخاطب إذا وصفوا الشيء بغاية التباعد يقولون بي! نهما ما بين السماء والأرض فأصله ومن بعد كبعد أرض وسماء فاقام المشبه به مقام المشبه مبالغة، وأمّا ما قيل من أنه إنما ذكر سماء مع أنه لا يزيد على ما أفاده بعد الأرض لأنه كما تكون موانع الوصول من الأرض تكون من السماء كشدة البرد، والحرّ والأمطار فبعده عن السياق بعد ما بين السماء والأرض. قوله:(أمذ به ما في صيب إلخ) خبر آخر لقوله تعريف السماء، وأمد بمعنى قوّى وأكد كما مرّ في قوله تعالى:{وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ} وقوله (من المبالنة إلخ) بيان لما في صيب لأنّ تعريفه يفيد المبالغة بإطلاقه على جميع الأقطار كما سمعته آنفاً، وصيب يفيد مبالغة باصله أي مادّة حروفه من الصاد المستعلية، والياء المشدّدة والباء الشديدة الدالة على شدة نزوله، والبناء بمعنى البنية والصيغة لأنّ فيعل صفة مشبهة مفيد للثبوت، والدوام المستلزم للكثرة فسقط ما توهم من أنّ الثبوت لا يدل على المبالغة كما أشرنا إليه، وتنكيره دال على التهويل والتكثير، وقوله وقيل المراد بالسماء السحاب أشار بتمريضه إلى أنّ المرضيّ عنده تفسيره بالمطر كما مرّ، وقوله واللام لتعريف الماهية أي على هذا، وليس المراد بالماهية الحقيقية من حيث هي بل في ضمن فرد مّا وهو العهد الذهني، وإنما تعين على هذا لأنه لم ينزل من جميع السحاب ولا من سحاب معين، ولا يصح قصد الأوّل إدّعاء للمبالغة كما في جميع الآفاق لأنه لا يخفى ركاكة أن يقال نزل ليهم مطر شديد من جميع السحاب دون من جميع الآفاق والنواحي فلا حاجة إلى ما قيل من أنّ المصنف ضرب على هذا بقلمه، وما يتوهم من أنّ المراد بالط هية، والحقيقة ما يشمل الاستغراق حتى لا ينافي ما مرّ فخبط بما لا يخفى فساده فتأمّل، وما قيل: من أنّ قوله من السماء يبطل ما قيل من أنّ السحاب يأخذ ماءه من البحر أو أنّ ماءه يكون من أبخرة متصاعدة من الأرض في الهواء لأنّ نزوله من جهة السماء لا ينافي شيئا مما ذكر، ولذا تركه المصنف. قوله:(إن أريد بالصيب المطر الخ) الإضافة في ظلماته لأدنى ملابسة لا بمعنى في وتكاثفه بتتابع القطر لأن تلاصق القطرات وتقاربها يقتضي قلة تخلل الهواء المنتشر المستنير، وظلمتة بسحمته وسواده لأنه لا ظلمة له في نفسه كالمطر، وقوله مع ظلمة الليل أي منضمة إليها ولم يقل وظلمة الليل لأنها ليست في المطر بل الأمر بالعكس، ثم إنّ الظرف بينه وبين المظروف ملابسة تامّة فاستعيرت الأداة الدالة على تلك الملابسة لمطلق الملابسة الشاملة للسببية، والمجاورة وغيرهما فلا يتوهم أنه جمع فيه بين معنيين أو معان مجازية، والأحسن أن يقال إنها بمعنى مع كمال في قوله تعالى {ادْخُلُواْ فِي أُمَمٍ} [الأعراف: 38] فإنه أحد معانيها ال مذكورة في المغني وغيره، ولك أن
تقول قول المصنف مع ظلمة الليل إشارة إلى هذا، وأمّا جعل ظلمة الليل فيه بتبعية الظلمتين الأخريين تغلي! اً كما قاله: قدس سرّه ومن تبعه فتعسف لما فيه من تغليب المعنى المجازي، وجعل المجاز على المجاز، وظلمة الليل في كلا التمثيلين كالمصرّح بها كما أشار إليه الفاضل المحقق ألا ترى قوله استوقد نارا هل يوقد للإضاءة في غير الليل، أما سمعت قولهم في المثل كموقد الشمع في الشمس وكذا قوله {وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُواْ} أيكون مثله في سلطان الشمس بالنهار، ولكونها ظلمة أصلية لا ينفك عنها الزمان لم يصرّح بها إيجازا فلا يرد عليه ما فيل من أنّ ظلمة الليل من أين تستفاد حتى يحتاج إلى الجواب بأنها من الجمع، ومقام المبالغة فتدبر. قوله:(وجعله مكاناً للرّعد إلخ) إشارة إلى أنّ الظرفية فيهما مجازية بالمعنى السابق لا بمعنى آخر، وفي الكشاف إذا كانا في أعلاه ومصبه وملتبسين في الجملة به فهما فيه ألا تراك تقول فلان في البلد، وما هو منه إلاً في حيز يشغله جرمه، ولشراحه فيه كلام لم يصف من الكدر والذي ارتضاه سيد المحققين أنه توجيه لظرفية المطر للرعد والبرق لعدم ظهورها ظهور ظرفية السحاب لهما بأنهما لما كانا في محل متصل به هو أعلاه، ومصبه أي السحاب جعلا كأنهما فيه باستعارة في لملابسة شبيهة بملابسة الظرفية كما شبهت بها ملابسة الشخص للبلد، وأستعملت فيها وليس المراد بالبلد جزأه، وقيل أراد أنّ المطر كما ينزل من أسفل السحاب ينزل من أعلاه فيشمل الفضاء الذي فيه الغيم فهما في جزء من المطر
متصل بالسحاب كالشخص في جزء من البلد وهذا أقرب إلى المثال وذاك إلى عبارة الكتاب، وقد تبع فيه الشارح المحقز،، وترك ما فيه من أنّ من الناس من ذهب إلى أنّ المراد بالبلد جزؤه، وزعم أنّ الأعلى والمصب جزء من المطر وليس بذاك، ومنهم من جعله من إطلاق أحد المجاورين على الآخر والأعلى والمصب سحاب والتمثيل لمجرّد التلبس، ولمجاورة ورد بأنه يكون المعنى حيحئذ في السحاب رعد وبرق لا في المطر على ما هو المطلوب.
ثم قال ردّاً لما في الكشف: فإن قلت الظلمة والرعد أي الصت والبرق أي النارية واللمعان كلها أعراض، والعرض لا يتمكن في المكان إلاً بنوع توسع من غير فرق بين المطر والسحاب، وبين الظلمة والرعد غاية ما في الباب أنّ وجه التلبس يكون في البعض أوضح كالرعد بالنسبة إلى السحاب.
قك: معنى الظرفية التي تفيدها في أعم من أن يكون على وجه التمكن في المكان كالجسم في الحيز أو على وجه الحلول في المحل كالعرض في الموضوع أو على وجه الاختصاص بالزمان كالضرب في وقت كذا، وظلمة السحمة والتطبيق في السحاب حقيقة بخلاف ظلمة الليل، وكذا تمكن الجسم الذي يقوم به صوت الرعد وبريق البرق حقيقة في السحاب لا في المطر فاحتيج للتأويل، وما ذكره من أنّ ظرفية الزمان والمكان حقيقة تدل عليها في بالوضع مسلم عند الأدباء وأمّا كون ظرفية العرض في الموضوع كذلك فغير مسلم،
والظاهر أنّ إطلاق في على ما ذكره بطريق الاشتراك اللفظي أو المعنوفي لا الحقيقة والمجاز كما قيل، والذي في الكشف أنّ الظرفية الحقيقية أي كون الشيء مكانا لآخر لا تراد هنا فإنهما عرضاه والتمكن من خواص الأجسام وإنما يضاف للعرض بواسطة معروضة، وهو وإن لم يرتضه الفاضل فهو الظاهر الموافق لكلام النحاة، وليس قصره الظرفية الحقيقية على المكانية لنفي الزمانية بل لأنه محل النزاع، ثم إنّ الذي أوقعهم في النزإع قوله أعلاه ومصبه فإنّ ضميربه للمطر وأصل إضافة اسم التفضيل أن يكون لما هو بعض منه فمنهم من أبقاه على ظاهره فجعل الظرف والمظروف قطرا ومنهم من صرفه عنه، وجعله غير مضاف لبعضه وهو الحق وكأنه استعمله ظرفا بمعنى فوق كما أنّ أسفل يكون بمعنى تحت من غير تفضيل أي إذا كانا في شيء فوقه وهو منشؤه ومصبه والمراد بمصبه محل ينصب منه لا فيه وإليه كما توهم، وفي حواشي ابن الصائغ حكى الشيخ عز الدين عن أبي عليّ فيه أي في وقته، وقال غيره في مصبه، وهو ضعيف لأنّ الرعد والبرق لا يكونان في الأرض وهو وهم لما عرفت.
وأعلم أنّ ألمصنف رحمه الله أتى بعبارة أوجز من عبارة الزمخشريّ، وقصد في تغييرها
مقاصد حسنة فعدل عن قوله مصبه إلى منحدره بضم الميم وفتح الدال المهملة، وهو اسم مكان أيضا لما في عبارة الكشاف من الغموض واحتمال إرادة الأرض! وهو فاسد كما مرّ، وحذف قوله في الجملة إذ لا طإئلى تحتة، وترك قوله ألا تراك إلخ لأنّ المتبادر منه أنّ فلانا في البلد مجاز كما صرّح به بعض شرّاحه، وهو مخالف لما يفهم من العرف، وقد صرّحوا بأن صمت في الشهر حقيقة في صوم يوم منه كما صرّحوا به وقياسه يقتضي أن هذا حقيقة أيضا كما صرّح به في التلويح فقال في للظرف بأنّ يشتمل المجرور على ما قبلها اشتمالاً مكانياً أو زمانيا تحقيقا ن! حو الماء في الكوز وزيد في البلد، أو تشبيها نحو زيد في نعمة، وفي الرضى الظرفية الشحقيقية نحو زيد في الدار وهو مما لا خفاء فيه، وقد يقال إنه تنظير بقطع النظر عن الحقيقة والمجاز فإنّ الكائن في بقعة من البلد يجعل في جميعها لما بينهما من الملابسة إلا أنه يرد حينئذ ما ذكر على شرّاحه فتدبر، وقد أطلنا هنا تحريراً وتقريرا إلا أنّ فيما أبدعناه ما يجعل ذنب الإسهاب (1) مغفوراً، ويبدي لعين الإنصاف نضرة وسرورا. قوله:(وإن أريد به السحاب إلخ) ما مرّ كله على أنّ المراد بالصيب المطر وقدمه لأنه المعروف في اللغة والاستعمال، وسحمته بضم السين سواده وظلمته، وتطبيقه كون بعضه فوق بعض، وفيه تسامح ولم يقل وظلمة الليل لما مرّ وظلمة الليل مستفادة من التظلم كما مرّ وما قيل من أنه يجوز أن يعتبر ظلمات حصلت من إحاطة الغمام، بآفاق السماء على التمام فإنّ كل أفق إذا استتر بسحاب تتراكم الظلمات بلا ارتياب.
قلت: لم يزد شيثاً على ما ذكروه، فإنّ ما تصلف به هو معنى تطبيقه بعينه غايته أنه جعل
جزء الوجه وجها مستقلاً، وقوله وارتفاعها فضمير المؤنث لظلمات، وفي نسخة وارتفاعه بتذكيره لأنه لفظ والمراد أنّ
الظرف هنا لإعتماده على الموصوف يجوز كون المرفوع بعده وهو ظلمات فاعلَا له كما يجوز أن يكون مبتدأ فيه خبر مقدّم عليه لأنه نكرة بخلاف ما إذ لم يعتمد فإن للنحاة في جواز كونه فاعلاً خلافاً فعند سيبويه والجمهور يتعين أنه مبتدأ هذا هو المراد لا أنّ الفاعلية هنا متعينة بالإتفاق إذ لم يقل به أحد من أهل العربية، وفي التسهيل اشترط سيبويه مع الارتفاع كون المرفوع حدثاً وليس هذا محل تفصيله، وما بعد ظلمات مما عطف عليه حكمه حكمه، ولم يتعرّضوا له لظهوره. قوله:(والمشهور أنّ سببه إلخ الما ذكر أنّ حقيقة الرعد الصوت المسموع من السحاب بين سببه بناء على ما اشتهر بين الحكماء من أنّ الشمس إذا أشرقت عاى الأرض اليابسة حللت منها أجزاء نارية يخالطها أجزاء أرضية فيركب منهما دخان، ويختلط بالبخار ويتصاعدان معاً إلى الطبقة الباردة فينعقد ثمة سحاباً ويحتقن الدخان فيه، ويطلب الصعود إن بقي على طبعه الحارّ والنزول إن ثقل وبرد، وكيف كان يمزق السحاب بعنفه فيحدث منه الرعد، وقد تشتعل بشدّة حرمته ومحاكته نار لامعة، وهي البرق إن لطفت والصاعقة إن غلظت كذا قرّره في حكمة العين ولهم فيه أقوال أخر غير مرضية كما أشار إليه في الشفاء، وقوله اضطراب افتعال من الضوب أي ضرب بعضه بعضاً، ولذا ف! ن! ره بقوله واصطكاكها لأنه يكون بمعنى الحوكة العنيفة مطلقاً ومنه أستعير الاضطراب النفسانيّ. قوله: " ذا حدته! الريح) أصل الحدو من الحداء، وهو غناء للعرب معروف تنشط به الإبل، ثم استعمل بمعنى السوق، وهو المراد هنا وفيه استعارة مكنية حسنة لتشبيه السحاب بإبل وركاب تساق وهو كثير في كلام العرب كقول بعضهم:
ركائب تحدوها الثمال زمامها بكف الصبا حتى أتيحت على نجد
وفي الحديث كما رواه ابن جرير " الرعد ملك موكل بالسحاب يسوقها كما يسوق الحادي
الإبل) (1) وقال الحكماء أيضاً إنّ بعض الرياح كالشمال مبرّدة لحرارة السحاب، وتحدث فيه رعدا وبرقاً قيل ما ذكره المصنف رحمه الله تبع فيه الزمخشريّ، والحكماء ولا عبرة به، والذي عليه التعويل كما قاله الطيبي، ما ورد في الأحاديث الصحيحة من طرق مختلفة في السنن أنّ الرعد ملك، والبرق مخراق من حديد أو من نار أو من نور يضرب به السحاب (2) ، وعن ابن
عباس رضي الله عهما الرعد ملك يسوق السحاب بالتسبيح وهو صوته، وورد " سبحان من يسئح الرعد بحمده "(1) وقيل البرق ضحكه، وقيل نار تخرج من فيه إذا غضب وله عدّة طرق، وروايات ذكرها السيوطيّ في الدر المنثور ولا شبهة في صحته فتركه لخرافات الحكماء مما لا يليق كما ذهب إليه بعض من كتب على هذا الكتاب، والقول بأنّ ما في الحديث تمثيلات مسخ لكلام النبوّة نعم لك أن تقول الأجرام العلوية وما في الجوّ موكل بها ملائكة تتصرّف فيها بإذن الله وأمره كملك السحاب والمطر فإذا ساق السحاب، وقطعها حدث من تفريقها أصوات، ولمعان نورية مختلطة فتسبح ملائكتها فأهل الله يسمعون تسبيحها معرضين عما سواه، والمتشبث باذيال العقل يسمع حركاتها ويرى ما يحدث من إصطكاكها فتأمّل. قوله:(من الارتعاد إلخ) قيل عليه إنّ للنحاة، والأدباء في الإشتقاق ثلاثة مذاهب كون المشتق منه المصدر، وكونه مطلقا وكون الفعل من المصدر وبقية المشتقات من الفعل كاسم الفاعل، وأمّا اشتقاق المصدر من المصدر فلم يذهب إليه ذاهب على أنه لو قيل به؟ ، ن المزيد منه مأخوذا من المجرّد لا عكسه كالذي نحن فيه فقيل إنه لم يرد بأنه أصله ظاهره لأنّ أصله الرعدة وإنما أراد أنّ فيه معنى الاضطراب، وهذا تسليم للإعتراض، وقيل إنه على ظاهره وأنه أراد أنه مشتق من الإرتعاد فإنّ الزمخشريّ قد يردّ المجرّد إلى المزيد إذا كان المزيد أعرف، وأعرق في المعنى المعتبر في الاشتقاق كالقدر من التقدير والوجه من المواجهة وهذا منع للسؤال، وقيل من فيه اتصالية والمراد أنهما من جنس واحد يجمعهما الاشتقاق من الرعدة، وكذا قوله من برق الشيء بريقاً وليس فيما ذكر ما يشفي الصدور فلّك أن تقول إنّ مبناه على تعليل الأوضاع اللغوية، والمعنى أنّ الرعد وضمع لما ذكر لما فيه من الإرتعاد وقد مهد له بذكر الاضطراب وليس المراد أنه مأخوذ ولا مشتق من الارتعاد كما فهموه فمن ابتدائية والتقدير مصوغ من مادّة دالة على الارتعاد
ومثل هذا التقدير غير منكر في كلام أهل العربية. قوله: (وكلاهما مصدر إلخ) في الكشاف، لما سأل لم لم يجمع الرعد والبرق كما جمعت الظلمات فإن الظاهر أن يكون على نمط واحد، وأيضا الجمع أبلغ فلم عدل عته، أجاب بأنّ فيه وجهين أحدهما أن يراد العينان ولكنهما لما كانا مصدرين في الأصل يقال رعدت السماء رعدا وبرقت برقا روعي حكم أصلهما
- يا أبا القاسم إنا نسألك عن خمسة أشياء فإن أنبأتهن عرفنا أنك نبي واتبعناك قالوا: فأخبرنا عن الرعد ما هو؟ قال: ملك من الملائكة موكل بالس! ب معه مخاريق من نار يسوق بها السحاب حيث شاء الله. قالوأ: فط الصوت الذي نسمع فيه؟ قال: زجرة السحاب إذا زجره حتى ينتهي إلى حيث أمر " قالوا صدقت. . . . . ".
تال الترمذي: حسن غريب اهـ ورجاله كلهم ثقات سوى ئغير بن شهاب فإنه مقبول كما في التقريب.
وقال الإمام الذهبي في الميزان: عراقي صدوق.
بأن ترك جمعهما، وان أريد معنى الجمع والثاني أن يراد الحدثان كأنه قيل، وارعاد وإبراق، وإنما جاءت هذه الأشياء منكرات لأنّ المراد أنواع منها كأنه قيل فيه ظلمات داجية ورعد قاصف وبرق خاطف، اهـ. وكون الأصل في المصدر أن لا يجمع مما أتفق عليه، ونص عليه في الكتاب سواء كان مفعولاً مطلقا أو لا حتى إذا جمع على خلاف القياس كان مقصوراً على السماع، ووجهه أنه اسم وحدث والمعاني لا تتغاير إلاً باعتبار المحل بخلاف الأجسام وهو شامل للقليل، والكثير فلا فائدة في جمعه والعدول عن مفرده المفيد لما أفاده مع أنه أخف وأخصر إلاً أن يقصد الأنواع، ثم إذا نقل فأكثر فيه أن يبقى على أصله ويجوز أن يعامل معاملة أسماء الأجرام، ثم إنّ المصنف رحمه الله ترك ما في الكشاف من احتمال أنه مصدر باق على أصله لأنه بعيد بل لم يسمع في الكلام المداول، وترك كون تنوينه للتنويع لما فيه من الخلل لأنه لو أريد نوع مخصوص كان المناسب تعريفه لأن النكرة لا تدل على زعمه، وأيضاً لو صح ما ذكر كان المناسب إفراد الظلمة أيضاً، وهذا من مقاصده فإنه إذا أسقط شيئاً منه أشار إلى ردّه، وهو مما ينبغي التنبه له في هذا الكتاب، وأكثر أرباب الحواشي لا ينبه عليه، ثم إنّ هنا نكتة سرية في أفرادهما هنا وهي أنّ الرعد كما ورد في الحديث وجرت به العادة يسوق السحاب من مكان لآخر فلو تعدد وكثر لم يكن السحاب مطبقاً فتزول شدة ظلمته، وكذا البرق لو كثر لمعانه لم تطبق الظلمة كما يثير إليه قوله {كُلَّمَا أَضَاء لَهُم مَّشَوْاْ فِيهِ} فإفرادهما متعين هنا، وهذا مما لمعت به بوارق الهداية في ظلمات الخواطر. قوله:) الضمير لأصحاب إلخ) فيه إيجاز لطيف وأصله كذوي الذي بمعنى أصحاب لأنه جمع ذو بمعنى صاحب وهو أشهر معانيه، والبيت المذكور لحسان بن ثابت رضي الله عنه من قصيدة له مشهورة في مدح آل جفنة ملوك الشام وأوّلها:
أسألت رسم الدار أم لم تسأل بين الجوابي فالنصيع فحومل
ومنها:
لله درّ عصابة نادمتهم يوماً بجلق في الزمان الأوّل
أولاد جفنة حول قبر أبيهم قبر ابن مارية الجواد المفضل
يسقون من ورد البريض عليهم بردى يصفق بالرحيق السلسل
وهي طويلة وضمير يسقون لأولاد جفنة وبردى بفتح الموحدة، والراء والدال المهملئين
نهر بدمشق وقيل: وأدبها والبريض بالضاد المعحمة وروي بالصاد المهملة وهو الأشهر وعليه اقتصر في القاموس اسم لخليج، وشعبة من نهر بردى وقيل إنه اسم موضع فيه أنهار كثيرة
بدليل قوله:
فما لحم الغراب لنا بزاد ولا سرطان أنهار البريض
وفيه نظر، وورد بمعنى قدم وأصل معنى ورد جاء الماء ليستقي ففيه إبهام هنا وورد كقدم يتعدّى بعلى، وقيل إنه يضمن معنى نزل، وبردى مؤتث لما فيه من ألف التأنيث والتقدير ماء بردى، والتصفيق التحويل من إناء إلى آخر ليصفي، والمراد به هنا يمزج ويصفق كما قال أبو حيان: روي بالياء لتحتية والتاء الفوقية والأوّل مراعاة لماء المقدر هنا، وهو محل الاستشهاد هنا كما جمع الضمير العائد على ذوي، ولولاه كان مفردا مذكرا، والثاني مراعاة لبردى ويجوز أن يكون لإكتساب المضاف التأنيث من المضاف إليه، والرحيق الشراب الخالص! ، والسلسل السائغ السهل الإنحدار في الحلق، وقوله أن يعوّل عليه أي يراعى من عوّلت عليه، وبه إذا اعتمدت فتجوّز به عما ذكر، وقوله حيث ذكر الضمير أي بناء على اشهر الروايتين فيه، وذكر بالتشديد من التذكير ضد التأنيث. قوله:(والجملة استئناف إلخ) أي استئناف بياني في جواب سؤال مقدر كما أشار إليه المصنف رحمه الله، ولذا لم تعطف فلا محل لها من الإعراب وجوّزوا فيها وجوها
أخر ككونها في محل جر على أنها صفة لذوي المقدر، وقد جوّز فيها وفي جملة يكاد كونها صفة صيب لتأويلها بلا يطيقونه، ونحوه أو في محل نص على الحال من ضمير فيه، والعائد محذوف أو الألف واللام نائبة عنه والتقدير من صواعقه، وقوله لما ذكر ما يؤذن بالشدّة والهول أي ما يدل على شدّة ما هم فيه من الأمور المخوفة المهولة.
وفي الكشاف لما ذكر الرعد والبرق على ما يؤذن بالثدة والهول فكأنّ قائلاً قال: فكيف حالهم مع مثل ذلك الرعد فقيل يجعلون أصابعهم في آذانهم من الصواعق، ثم قال: فكيف حالهم مع مثل ذلك البرق فقيل يكاد البرق يخطف أبصارهم، وقيل: بين الكلامين بون بعيد وفرق ظاهر لأنّ المراد بما يؤذن إلخ في كلام المصنف الظلمة والرعد والبرق، وتنكيرها لأنه الأصل من غير مقتض للعدول عنه ووجه إيذانها أنها إمارات، ومقدمات للصواعق لأنها تسبق بها متعاقبة على ترتيب النظم عادة فمنشأ الاستئناف تلك الأمور بلا تفرقة بينها، فالأولى عنده جواب السؤال الناشىء من المجموع، والثانية عن السؤال الناشىء عن ذكر الصواجمق المستلزمة للبرق، والثالثة عما نشا من الجواب الثاني، وأورد عليه أنّ الثالثة لو كانت كذلك كانت على وتيرتها في التعبير والأمر فيه سهل، واختار في الكشاف أنّ منشأ السؤال هنا الرعد القاصف وحده والتنكيو للنوعية كما مرّ فعنده الجمل الثلاثة أي {يَجْعَلُونَ} {؟ ويكاد البوق} {؟ وكلما أضاء} إلخ أجوبة عن أسئلة ثلاثة من قوله {فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ} باعتبار الرعد والبرق واختلاف الحال المفهوم من الظلمات والبرق على اللف والنشر المرتب، أمّا في الأوّلين فظاهر، وأمّ في الثالث فلأنّ الاختلاف من تمامها، وأورد عليه أنه إن أراد بالقاصف ما معه. ر فهو عين الصاعقة فلا يتجه الاش خاف لأنّ لفظة فيه إلخ دال على وقوع الرعد فلا يكون وضع
الأصابع إلاً بعد وقوع الصاعقة، وهو عبث وإن أراد ما يخلو عنها كان من مقدّماتها قيساويه الباقيان معنى مع أنّ البرق أقرب للصاعقة من الظلمات فلا وجه لاختياوه وهذا هو السرّ في عدول المصنف عما في الكشاف، وقد قيل: عليه أنّ الجواب الأوّل لا يطابق السؤال الذي قدره لأنه يبين حالهم مع الصواعق دون الرعد وان أجابوا عنه بأنه لم كانت الصاعقة بصفة رعد أي شدّة صوت منه ينقض معها شعبة من نار كان الجواب مطابقاً له كأنه قيل يجعلون أصابعهم في آذانهم من شدّة صوت الرعد المنقض معه النار.
أقول لك أن تقول لا نسلم أنّ المصنف قصد مخالفة الزمخشريّ، والرد عليه فإنه لا مخالفة بينهما في الثالث إذ قدر ما قدّره بعينه، وكذا في الثاني لأن الزمخشريّ قال كيف حالهم مع مثل ذلك البرق والمصنف قال مع تلك الصواعق وكلاهما نوع واحد ناري كما مرّ وكذا في الأوّل لأنّ كلام المصنف محتمل فيه حيث قال: مع ذلك فلك أن تجعل الإشارة للرعد، ولو سلم أنه للمجموع فقول الزمخشريّ مثل هذا الرعد يريد به المصاحب للظلمة والبرق فلا فرق مع أنه لو سلم تغايرهما فلا وجه لجعل الأصابع في الآذان مع الظلمة والبرق، وكذا الأوجه لجواب السؤال بكيف حالهم مع تلك الصواعق بيكاد البرق إلا بالتوجيه السابق فما في الكشاف أحسن لما فيه من تطبيق الجواب على السؤال، واصابة المحز فمن قال: بترجيح ما هنا عليه لم يصب، ثم إنّ ما ذكره في التنوين ليس في كلام المصنف ما يقتضيه بوجه من الوجوه، والظاهر أنّ المراد بإيذانها بالشدة والهول ما يلوح لهم من مقدمات الهلاك بعد الوقوع في تيه الحيرة، والحسرة لا خصوص الصواعق ليكون الجواب أتمّ فائدة وأوفى عائدة، وما أورده على تقدير الرعد القاصف ليس بشيء، وقد فسر الراغب القاصف بما في صوته تكسر بشدة فالمراد الثاني، وكونه مساوياً لأخويه لا ضير فيه لمن له شعور وبصير، وقوله فأجيب بها الضمير للجملة، ويجوز عوده على الحال. قوله:(وإنما أطلق الأصابع إلخ) أي أوردها واستعملها في موضمع الأنامل المرادة هنا لأجل المبالغة لأنّ الأصابع معروفة، وفيها عقد والأنامل جمع أنملة بفتح الهمزة، ونتح الميم أكثر من ضمها وفي المصباح أنه حكى فيها تثليث الهمزة مع تثليث الميم ففيها تسع لغات، وهي العقدة من الأصابع وبعضهم يقول الأنامل جزء من الأصابع كما في المصباح أيضاً، وعلى كل حال فهي جزء مخصوص، أو غير مخصوص من الأصابع أطلق على كلها مبالغة كأنهم يبالغون حتى يدخلوا جميع
الأصبع أي أصبعهم في آذانهم مبالغة في السدان لم يحمل على التوزيع، وقيل إنّ في قولهم آذان دون صماخ مبالغة أيضا، ولا يخفى أنّ الجعل مع في بمعنى الإدخال يأباه، وقال علامة الروم في تعليقات الفرائد في قوله تعالى {يَجْعَلُونَ} مبالغة في فرط دهشتهم وكما حيرتهم من وجوه.
أحدها نسبة الجعل إلى كل الأححابع، وهر منسوب إلى البعض منها وهو الأنامل.
وثانيها من حيث الإبهام في الأصابع والمعهود إدخال إصبع مخصوص هو السبابة فكأنهم
من فرط دهشتهم يدخلون، أيّ إصبع كانت في آذانهم ولا يسلكون المسلك المعهود.
وثالثها في ذكر الجعل موضع الإدخال فإن جعل شيء في شيء أدل على إحاطة الثاني
بالأوّل من إدخاله فيه، وهذه دقائق لم يتنبهوا لها.
فإن قلت: هل هذا من المجاز اللغوي لتسمية الكل باسم جزئه، أو للتجوّز في الجعل،
أو هو من المجاز العقلي بأن ينسب الجعل للأصابع وهو للأنامل.
قلت: الذي ذكروه في كتب المعاتي وغيرها أنه من الأوّل الآ اًنّ للمتأخرين فيه كلاما
فقال خاتمة المحققين ابن كمال في تكميل الفرائد أيضاً أنهم ظنوه مجازا لغويا، وهو مجاز عقليّ بإسناد ما للبعض إلى الكل، لأنّ المبالغة في الاحتراز عن إستماع ائصاعقة لفرط الخوف إنما تكون على هذا لا على ما قالوه، ولخفاء الفرق بين الاعتبارير، قال: في شرح المفتاح في إطلاق الأصابع على الأنامل مبالغة يخلو عنها ذكر الأنامل، والمبالغة إنما تتأتى إذا كانت الأصابع باقية على حفيقتها إذ لا مب لغة في ذثرها مراداً بها الأنامل، كما لا مبالغة في رجل عدل إذا أوّل بعادل على ما صرّح به القوم تبعاً لصاحب الدلائل، وارادة الأنامل من الأصابع مجاز مرسل، وإنما المبالغة في جعل أجزاء الأصابع في الأذن، والتجوّز في تعلق الجعل لا في متعلقه، وهو الأصابع ثم أنّ بعض فضلاء العصر قال: فيما قرّره القوم نظر آخر لأنه قد يقال إنه لا مجاز هنا، وذلك لأنّ نسبة بعض الأفعال إلى دّي أجزاء تنقسم، يكفي فيها تلبسه ببعض أجزائه، كما يقال دخلت البلد وجئت ليلة الخميس ومسحت بالمنديل ونحوه، فمعنى نسبة الجعل في الأذن إلى الأصبع إذا تليس ببعض منه، وهو الأنملة صحيح حقيقة من غير إحتياج إلى التجوّز في الكلمة أو الإسناد، أو على تقدير مضاف كأنملة أصابعهم.
أ! دول الذي غرّه هذا قول بعض أهل المعاني أنّ المجاز المرسل لا يفيد مبالغة كالاستعارة، وهو غير مسلم عند العلامة لتصريحهم بخلافه في مواضع من الكشاف وبه نطقت زبر المتقدّمين، ولو لم يكن كذلك كان العدول عن الحقيقة في أمثاله عبثا لا يحوم مثله حول حمى التنزيل، ويكفي في المبالغة تبادر الذهن إلى أنّ الكل أدخل في الأذن قبل النظر للقرينة كما لا يخفى على ذي بصيرة نقادة وفطنة وقادة، وأمّا كون مثل دخلت البلد لمن دخل دارا منها حقيقة فليس على إطلاقه ولعل النوبة تفضي إلى تحقيقه في نحل آخر،، ثم أنه قال في الكشاف: إنّ ما يسد الأذن أصبع خاصة وهي السبابة إلا أنها لما كانت فعالة من السب كان اجتنابها أولى بأدب القرآن، ولذا كنوا عنها لاستبشاعها بالمسبحة والسباحة والمهللة والدعاءة. اهـ وهذا كما قال المعرّي:
يشار إليك بدعاءة ويثني على فضلك الخنصر
وقال التبريزي: في شرح سقط الزند أنها يوما بها في الخصام فكأنها يسبّ بها ويفظع،
أو هي من السبب لأنها تشير للشيء فهي سبب لمعرفته فنزهه عن تسميتها سبابة لأنها مشتقة من السب فجعلها دعاءة. اهـ والمصنف لم يلتفت لهذا أمّا لأنه لا وجه لما ذكره من الاختصاص أو لأنّ هذا مقام ذم وسب لهم فالسبابة أنسب به كما لا يخفى، وهذا من الحور المقصورة في خبايا الأذهان والأزهار التي لم تنفتح لها كمام الآذان. قوله:(أي من أجلها يجعلون إلخ) جعله متعلقاً بيجعلون لأنّ تعلقه بالموت، وان صح بعيد كما في سقاه من العيمة أي من أجلها، بمعنى أنها الباعث وذلك لأنّ من هنا تغني غناء اللام في المفعول له فهي تعليليه، وقد يكون غاية يقصد حصولها، وقد يكون باعثاً بتقدّم وجوده كما قيل، وقيل: من ابتدائية على سبيل العلية، وما بعدها أمر باعث على الفعل الذي قبلها كقعد من الجبن، ولا يكون غرضاً مطلوباً منه إلاً إذا صرّح بما يدل على التعليل ظاهراً، كقولك: ضربته من أجل التاديب بخلاف اللام فإنها تستعمل في كل واحد
منهما، وهو ودّ على المحقق في جعله من التعليلية كاللام تدخل على الباعث المتقدّم، والغرض! المتأخر بأنه إطلاق في محل التقييد لأنها إنما تدخل على المتأخر إذا صحبها ما يدل على التعليل، كلفظ أجل فيما ذكره وهو مخالف لأهل العربية، فإنهم صرحوا بأنها تجيء للتعليل مطلقاً من غير فرق بينهما، وقد قال الطيبي: طيب الله ثراه بعدما ذكر أنها للتعليل هنا أنه كقوله تعالى {وَوَهَبْنَا لَهُ مِن رَّحْمَتِنَا} [مريم: 53] أي من أجل رحمتنا والرحمة الإحسان، وهو نتيجة الهبة منه مرتب عليها كالتأديب، وكذا في الذر المصون وغيره، ومثله {أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ} [تريثى: 4] قال أبو حيان رحمه الله من هنا للتعليل أي لأجل الجوع، وما قيل عليه من أنّ الجوع لا يجامع الإطعام، فالظاهر أنها بدلية لا وجه له فإنهم قالوا في ضابط البدلية إنها ما يحسن وضع لفظ بدل موضعها، ولا يخفى أنه لا يحسن أن يقال الإطعام بدل الجوخ، والعيمة شدة شهوة اللبن بحيث لا يصبر عته، والغيمة بالمعجمة شدة شهوة الماء، والأيمة شدّة شهوة النكاج، والقرم شدة شهوة اللحم، يقال عام إلى اللبن إذا اشتهاه، والعرب تقول سقاه من العيمة أي من جهة العيمة، ولأجلها وعن العيمة أي أنّ سقيه تجاوز به عن حكم العيمة إلى الريّ. قوله:(والصاعقة قصفة رعد هائل إلخ) القصفة واحدة القصف وأصل معناه الكسر، وقاصف الرعد أشده يكون صوتا متعاقباً متكسراً، وهائل بزنة اسم الفاعل بمعنى موقع في الهول وهو الخوف، قال ابن جني: يقال هالني الشيء يهولني فهو هائل وأنا ههول، والعامّة تقول أمر مهول ولا وجه له إلا أنه وقع ني خطب ابن نباتة مهول منظره، وقال بعض شراحها إنه صحيح أيضاً وقصفة رعد على ظاهره لا بمعنى رعد قاصف كما توهم للفرق بينهما، وقيل: إنّ المصنف فسر الصاعقة بتفسيرين دفع بهما ما أورد عليه من أنّ الجواب لا يطابق السؤال، لأنّ السؤال عن حالهم مع الرعد فدفعه بأنّ الصواعق
حال الرعد أيضا، أو بأنها تطلق كل حال هائل، وهو مما تبع فيه شراح الكشاف، وهو تخليط كما مرّ لأنّ المصنف لا يقدر السؤال الأوّل بما ذكره، وتفسيره الأوّل حاصله أنها مجموع أمرين شديد رعد ونار تهلك ما تصيبه، لأنّ أصلها اسم فاعل من صعق بمعنى صرخ صراخاً شديداً، كما قال تعالى {وَخَرَّ موسَى صَعِقًا} [الأعراف: 143] وقد يكون معها جرم حجري أو حديديّ يبلغ أرطالاً كما فصله ابن سينا في الشفاء، وربما تطلق على النار أو الجرم فقط لكنه غير مناسب هنا، وقيل إنها ريح سحابي تهي إلى الأرض بحدة أشتعال ونفوذ، فربما أحرقت الذهب في الصرة وأذابتة من غير أن تضره، وقوله: أتت عليه بمعنى أهلكته وأفنته لأنّ أتى المتعدي بعلى يكون بهذا المعنى كما سياني تحقيقه في محله. قوله: (وفد تطلق على كل هائل إلخ) وقع في بعض النسخ مسموع ومشاهد، وفي بعضها أو بدل الواو قال الراغب: قال بعض أهل اللغة: الصاعقة على ثلاثة أوجه الموت كقوله {فَصَعِقَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ} [الزمر: 68] والعذاب كقوله {أَنذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِّثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ} [فصلت: 13] والنار كقوله {وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَن يَشَاء} [الرعد: 13] وهي أشياء متولدة من الصاعقة هو قريب مما ذكر وقوله ويقال إلخ. بيان لشمولها للمسموع والمشاهد. قوله: (وهو ليس بقلب إلخ) يعني أنّ الصاعقة والصاقعة وإن تقاربا لفظاً ومعنى فليس أحدهما أصلاً والآخر فرع مقلوب منه قلباً مكانياً لوجهين ذكر أحدهما وهو الأشهر الأظهر، وأنّ قاعدة القلب أن تكون تصاريف الأصل تامّة بأن يصاغ منه فعل ومصدر وصفة، وييبهون الآخر ليس كذلك فيعلم من عدم تكميل تصاريفه أنه ليس بنية أصلية، وهذه قاعدة مقرّرة عند النحاة، والثاني ما ذكره الراغب من أنّ الصقع في الأجسام الأرضية، والصعق في الأجسام العلوية، وهذا غير مطرد، ولذا تركه المصنف رحمه الله مع أنه مخصوص بهذا والأوّل عام، قال في التسهيل: علامة صحة القلب كون أحد البناءين فائقاً للآخر ببعض وجوه التصريف، وله تفصيل في شروحه، ولا شذوذ في جمع صاعقة على صواعق لأنه إنما يثذ في جمع فاعل المذكر العاقل الوصف، فهذا بعيد عن الشذوذ بمراحل، وقول الطيبي والفاضل اليمني إذا كانت الصاعقة للمذكر والتاء للمبالغة فالجمع على فواعل شاذ غفلة عن تحقيق المسئلة، وقوله: يقال صقع الديك أي صاح بيان لاستواء البناءين في التصرف، والمراد بالراوية الراوي الذي تكثر روايته للشعر وغيره، ومصقع كمنير جهوري الصوت،
والظاهر أنّ الصاعقة في الأصل صفة وتاؤها للتأنيث إن قدرت صفة لمؤنث كقصفة، أو للمبالغة إن لم تقدّر كذلك، كراوية أو هي للنقل من الوصفية إلى الاسمية كما في حقيقة، أو هي مصدر رسمي به لأنّ
فاعلا مع التاء، وبدونها يكون مصدرا لكنه نادر مقصور على السماع كما مرّ في الفاتحة، ومنه العافية بالفاء بمعنى العفو، ويجوز أن يكون بالقاف والباء الموحدة لأنه قيل في قوله تعالى {وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [الأعراف: 128] إنه مصدر بمعنى العقبى والكاذبة بمعنى الكذب وهذا أضعفها، ولذا أخرّه المصنف رحمه الله. قوله:(ئصب على العلة) يعني أنه مفعول لأجله ولما كان الغالب فيه التنكير، وجرّ ما ورد منه معرفا باللام استشهد له بالبيت المذكور وهو من قصيدة لحاتم الطاتي الجواد المشهور حث فيها على مكارم الأخلاق والصبر على أذى الأقرباء ومداراتهم وأوّلها:
أتعرف أطلالاً ونؤيا مهدما كخطك في رق كتاباً منمنما
ومنها:
إذا شئت ماريت امرأ السوء ما ترى إليك ولاطمت اللئيم الملطما وعوراءقدأعرضت عنهافلم تضر وذي أود قومته فتقوما
وأغفر عوراء الكريم إدخاره وأعرض عن شتم اللئيم تكرّما
ولا أخذل المولى وإن كان خاذلا ولا أشتم ابن العم إن كان مفحما
وهي طويلة. وقال ابن يسعون أنه لم يقل قديماً في معناها أحسن منها، وأغفر هنا بمعنى
أستر أو أعفو وأصفح، والعوراء الخصلة والفعلة القبيحة كلاما كانت أولاً، وتفسيرها بالكلمة القبيحة غير مناسب هنا، إلا أنه شاع القول للكلمة القبيحة عوراء كما يقال لضدها عيناء أي أتحمله وأسترزلته لتدوم مودّته كما قيل:
تريدمهذباً لاعيب فيه وهل عود يفوح بلا دخان
فالمراد بإدخاره إدخار مودته ومحبته، والضمير للكريم أو للغفران المفهوم من أغفر، والشاهد فيه حيث نصبه على أنه مفعول له مع أنه معرفة بالإضافة وأكثر في مثله جرّ. باللام، كقوله {لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ} [قريش: ا] وتكرما مفعول له أيضاً على الأصل في بابه واستشهادهم بهذا البيت هنا في موقعه والمراد بالتكرّم المبالغة في الكرم لا تكلفه وإن صح هنا.
وقال أبو حيان إعرابهم له مفعولاً له مع اسنيفائه شروطه فيه نظر، لأنّ قوله من الصواعق
في المعنى مفعول له، ولو كان معطوفا لجاز كقوله تعالى {ابْتِغَاء مَرْضَاتِ اللهِ وَتَثْبِيتًا مِّنْ أَنفُسِهِمْ} [البقرة: 265] وقد جوزوا أن يكون منصوباً على المصدر أي يحذرون حذر الموت، وما ادّعاه لا يتم له بسلامة الأمير، فإنّ لزوم العطف في نحو زرت زيداً لمحبته إكراماً له غير مسلم، وما استشهد به لا شاهد فيه.
وقال ابن الصائغ رحمه الله: ومن خطه نقلت بعدما ذكر ما قاله أبو حيان جوابه أنهما إمّا نوعان: أحدهما منصوب، والآخر مجرور، فهما كالمفعول معهما في قوله تعالى {أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ} [سبأ: 10] في أحد القولين وأمّا أنّ من الصواعق علة ليجعلون أصابعهم في آذانهم أي لمطلق الجعل، وحذر الموت علة للفعل المعلل أي للفعل مع علته، وهو كلام نفيس فليحفظ فإنّ هذه المسثلة لم يصرّح بها أحد من أهل العربية. قوله:(والموت زوال الحياة إلخ) قال المتكلمون الحياة قوّة هي مبدأ للحس والحركة، وقيل: قوّة تتبع اعتدال النوع وتفيض عنها سائر القوى الحيوانية كما فصلوه مع ما له وعليه، والموت زوال الحياة ومعنى زوال الصفة عدمها عما يتصف بها بالفعل، فبكون عدم ملكة للحياة كالعمى الطارىء على البصر لا مطلق العمى، ولا يلزم كون عدم الحياة عن الجنين عند استعداده للحياة موتاً.
وعلى هذا حمل قول المعتزلة أنّ الموت فعل من الله أو من الملك يقتضي زوال حياة الجسم من غير جرح، واحترز بالقيد الأخير عن القتل، وحمل الفعل على الكيفية الصادرة مبني على أنّ المراد به الأثر الصادر عن الفاعل، إذ لو أريد التأثير كان ذلك إماتة لا موتاً، واستدل على كون الموت وجودياً بقوله تعالى {خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ} [الملك: 2] فإنّ العدم لا يوصف بكونه مخلوقاً، وأجيب بأنّ المراد بالخلق التقدير أي تعيين المقدار بوجه مّا وهو حقيقة لغة كما قال:
ولأنت تفري ما خلقت وب! ض القوم يخلق ثم لا يفري
وهو مما يوصف به المعدوم والموجود لأن العدم له مدّة ومقدار معين عنده تعالى {وَكُلُّ شَيْءٍ عِندَهُ بِمِقْدَارٍ} [الرعد: 8] ولو سلم فالمراد بخلق الموت إحداث أسبابه، فالمراد بخلق الموت والحياة خلق أسبابهما وهيأها.
وأمّا ما قيل من أنّ أعدام الملكات الطارئة مخلوقة أيضا لأن من شأنها التحقق، فقد قيل
عليه أنه إن أراد بالخلق الإيجاد لم يستقم، إذ مجرّد التحقق لا يكفي في الإيجاد، دان أراد الإحداث استقام لأنه أعم من الإيجاد إلا أنه مجاز أيضاً باستعمال المقيد في المطلق، فلا يخرجه عن صرف الخلق عن ظاهره وحقيقته، وإن كان جواباً آخر، فللناس قيما يعشقون مذاهب: وأما ما ورد في الحديث من أنّ " الحياة فرس والموت كبش أملح " حتى ذهب بعض الظاهرية إلى أنهما جسمان فمن متشاب الحديث أو هو تمثيل محتاج للتأويل، وما وقع في شرح مسلم من أنّ الموت عند أهل السنة عرض، وعند المعتزلة عدم محض ليس بشيء، وان إغترّ به بعض أرباب الحواشي، فاعترض على المصنف بأنه تبع صاحب الكشاف في تقويره وتقديمه
لمذهب المعتزلة، وسيأتي لهذا تتمة إن شاء الله تعالى. قوله:(لا يفوتونه إلخ) في الكشاف واحاطة الله بالكافرين مجاز، والمعنى أنهم لا يفوتونه كما لا يفوت المحاط به المحيط به حقيقة، وقال أبو عليّ الفارسيّ: يجوز في محيط أن يكون بمعنى مهلك كما في قوله تعالى {وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ} [البقرة: 81] ويجوز أن يكون بمعنى عالم علم مجازاة ومكافأة كما في قوله تعالى {وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ} [الجن: 28] وهؤلاء جعلوه مجازاً عن قدرته عليهم ففيه استعارة شبه اقتداره عليهم وكونهم في قبضة تصرّفه بإحاطة الجيش بالعدوّ بحيث لا يفوته ولا ينجيه منه حيلة وخداع، ثم إنه قيل إن شبه شمول القدرة لهم بإحاطة المحيط بما أ-ظ د به في امتناع الفوات كانت الاستعارة تبعية، وان شبه حاله تعالى معهم بحال المحيط مع المحاط بأن شبهت هيئة منتزعة من عدّة أمور بمثلها فهناك استعارة تمثيلية لا تصرف في مفرداتها، إلا أنه صرّح بالعمدة منها وقدر الباقي.
ومن زعم أنها استعارة تبعية لا تنافي التمثيلية لم يصب، وقد مرّ ردّه، وأنّ التركيب باعتبار ما ذكر مع لوازمه ليس بأبعد من اعتبار ألفاظ منوية مقدرة فتذكر ما أسلفناه، تكن على هدى. قوله:(والجملة اعتراضية إلخ) فالواو فيه اعتراضية لا عاطفة ولا حالية، كما بئن في كتب العربية، والاعتراض يكون في وسط الكلام وفي آخره، والمراد بآخره تمامه وانقطاعه حقيقة، كآخر السور والخطب والقصائد، لا آخر الجمل المنقطعة عما بعدها بوجه من وجوه القطع المذكور في باب الفصل والوصل، فما نحن فيه من القسم الأوّل، ولذا قال أبو حيان أنها دخلت بين هاتين الجملتين يجعلون أصابعهم، ويكاد البرق، وهما من قصة وتمثيل واحد، فما قيل من أنّ هذا الاعتراض على مسلك الزمخشريّ وأقع في آخر الكلام، ومخالف لمختار الجمهور من تخصيصه بإثناء الكلام أو الكلامين المتصلين معنى، ولذا عدل عنه المصنف رحمه الله خيال فارغ غنيّ عن الردّ، ثم أنّ الجملة المعترضة لا بذ من مناسبتها لما اعترضت فيه والاً كانت مستهجنة، واشترط أكثر فيها كونها مؤكدة للكلام، وسمى الأدباء ما تمت مناسبته حشو إللوزنيج، وضدّه حشو اكبر، وما نحن فيه من الأوّل لأنّ أصله والله محيط بهم أي بذوي الصيب، فوضمع فيه الظاهر وهو الكافرين موضع الضمير، والمراد بالكافرين قوم غير معينين جحدوا مولاهم وعبر به إشعاراً باستحقاق ذوي الصيب ذلك العذاب لكفرهم، وفيه تتميم للمقصود من التمثيل بما يفيده من المبالغة كما في قوله تعالى {مَثَلُ مَا يُنفِقُونَ فِي هِذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ} [آل عمران: 117] لأنّ الإهلاك عن سخط أبلغ وأشد كما أفاده الطيبي طيب الله ثراه، ففيه تاييد للكلام الدال على اشتغالهم بما لا يفيدهم من سد الآذان حذر الموت، وقد أحاط بهم الهلاك بما كسبت أيديهم، وليس المراد بالكافرين المنافقين كما يوهمه قول المصنف رحمه الله، لا
يخلصهم الخداع والحيل لأنه من صفاتهم الشالفة في قوله {يُخَادِعُونَ اللهَ} [النساء: 142، إلخ على أنّ المراد بالحيل جمع حيلة مداراة المؤمنين ومداهنتهم لأنه لبيان مناسبة الاعتراض لما وقع فيه لأنّ من أحيط به ووقع في شرك الهلاك دأبه الخداع والتحيل في وجوه الخلاص، وبه تتم مناسبة التمثيل للممثل له، فلا وجه لما قيل هنا من أنّ هذا الاعتراض من جملة أحوال المشبه على أنّ المراد بالكافرين المنافقون فإنهم لا محيص لهم عن العذاب في الدارين، ووسط بين أحوال المشبه به تنبيهاً على
شدة الاتصال والمناسبة. قوله: (استئناف ثان إلخ) جوز أبو حيان في هذه الجملة أن تكون في محل جر صفة لذوي المقدرة أيضاً، والذي اختاره الشيخان الإسنئناف البياني، وقد مرّ أنه في الكشاف قدر السؤال هنا فكيف حالهم مع مثل ذلك البرق فقيل) يكاد البرق) إلخ والمصنف رحمه الله عدل عنه وقدره ما حالهم مع تلك الصواعق، ويتراءى من ظاهر الحال في النظرة الأولى أنّ الأوّل أنسب بالجواب وأنّ الثاني أقرب لما قبله مما هو منشأ السؤال، ولذا قيل إنه إذا قدر السؤال كما قدره المصنف لا يلائمه الجواب بأنّ البرق يخطف أبصارهم، لأن البرق شيء والصاعقة شيء آخر، ولقد أحسن صاحب الكشاف في تقديره السابق، وقيل: إنّ المصنف أراد بالصواعق الصواعق المقرونة بالبرق، فقيل في جوابه يكاد البرق أي برقها على أنّ اللام العهدية عوض عن المضاف إليه، فارتبط الجواب بالسؤال على الوجه الوجيه والتوجيه الصواب، وتحقيق كلام المصنف رحمه الله على هذا المنوال من فيض الملك المتعال، ولعمري لقد استسمن ذا ورم، ونفخ في غير ضرم، وقد مرّ من الإفادة ما يغني عن الإعادة فتذكر. قوله:(وضعت لمقاربة الخبر من الوجود إلخ) أفعإل المقاربة أفعال مخصوصة سماها النحاة بهذا الاسم وان لم تكن كلها للمقاربة، لأنّ منها ما هو للشروع كطفق، ومنها ما هو للترجي، ومنها ما هو للمقاربة، سميت بها تغليبا لها لأنها أشهرها وأصلها كما في شرح التسهيل، وفد يخص بكاد وأخواتها ويجعل ما عداها من الباب قسماً آخر أو ملحقاً بها، والمشهور الأوّل فتدخل فيها عسى، والدلالة على الدنو والقرب مخصوص بكاد وأخواتها، واعتبره الجزولي في جميع الباب من غير تغليب، والمحققون على خلافه لأنّ عسى وضع لرجاء الخبر مطلقاً لا لرجاء دنوه كما زعمه، وطفق يدل على الشروع، وأخذ أوّل أجزاء الخبر، والدنوّ إنما يكون قبل الشروع فيه فليس فيهما مقاربة، وقد قيل إنّ ظاهر كلام المصنف رحمه الله يدل على أنّ عسى ير داخلة في أفعال المقارية لكونها موضوعة لرجاء الخبر، لا لرجاء دنوّه إلا أنّ في كلامه ما يدل على خلافه، كقوله: تنبيهاً على أنه المقصود بالقرب، ولو جعلت الضمير في قوله وضعت لمقاربة الخبر لكاد لا لأفعال المقاربة لم يرد عليه شيء وإن احتاج ما بعده للتأويل، ثم أنّ عسى لاستعماله فيما يطمع في مما يمكن
وقوعه، لو قيل قيه مقاربة لأنّ كل آت قريب ولله در القائل:
وإني لأرجو الله حتى كأنما أرى بجميل الظن ما الله صانع
لم يبعد وما قيل من أنّ المصنف رحمه الله ذهب إلى أنّ عسى ليس من أفعال المقاربة
ليس بشيء، وقوله من الوجود متعلق بمقاربة، والمراد بعروض! سببه حدوثه وكونه في معرض الوقوع، وضمير لكنه لم يوجد للخبر لا للسبب، وقد أورد عليه أنّ المقاربة كما تتصوّر بوجود السبب مع فقد الشرط، أو وجود المانع تتصوّر بفقد المانع ووجود الشرائط كلها، وفقد السبب فتخصيص كاد بالأوّل لا تساعده قواعد العربية إلا أن يقال إنه تصوير للمقاربة من غير تخصيص بها، وليس بشيء لأنّ المراد أنّ قرب الخبر لوجود السبب، وأنه لولا فقد الشرط أو وجود المانع أو نحوه لوفع، وليس مراده الحصر حتى يرد عليه ما ذكر، ثم أنّ ما ذكره بناء على ما جرت به العادة من أنّ الله تعالى إذا أراد شيئاً هيأ أسبابه، وإذا وجدت الأسباب فعدم الوقوع لما ذكر، فلا يرد عليه ما قيل من أنه إذا لم يوجد سبب الخروج مثلاً، ولكنه قرب يصح أن يقال كاد زيد يخرح وهذا كه من ضيق العطن وسياتي تحقيقه، والحاصل أنّ كاد تدل على قرب الوقوع وأنه لم يقع، والأوّل لوجود أسبابه، والثاني لمانع أو فقد شرط، وهذا كله بحسب العادة فلا إشكال فيه. قوله:(فهي خبر محض ولذلك جاءت متصرفة بخلاف عسى) أي كاد خبر لشى فيه شائبة إنشاء فهو متصرّف كغيره، بخلاف عسى فإنها لكونها استعملت ني الإنشاء شابهت الحروف فلم تتصرّف، وهذا هو المشهور في كتب النحو واللغة وبه صرّح ثعلب في الفصيح، وفي شرحه للفهري أنها لم تتصرّف فيستعمل منها مستقبل واسم فاعل لأنها ليست على الحقيقة فعلَا، وإنما هي حرف أطلقوا عليها الفعل مجازاً لما رأوها تعطي أحكامه، فيقال عسيت وعسيتما إلخ، وهذا هو الذي يجزم به فلا يعتذر لعدم تصرّفها، على أنّ ابن ظفر رحمه الله حكى عن أبي عبيدة في شرح المقامات أنه يقال: عسيت أعسى، قال: وعلى هذا يقال عاس اسم فاعل، وفي كتاب حل الفكر
للقيرواني أنّ أبا زيد ذكر أنه جاء منه ع! بكسر السين بوزن حذر، وقد قال المعرّي:
عساك تعذر إن قصرت في مدحي فإنّ مثلي بهجران القريض عسى
وهذا غلط فإنّ كلامنا في عسى التي للترجي وهذه بمعنى جدير، وتكون عسى بمعنى
ييس أيضاً كقول البحتري:
يتعاطى القريض وهو جماد الذهن يحفو عن القريض ويعسو
فقوله إنّ عسى لا تتصرّف أي بناء على المشهور من قول النحاة. قوله: (وخبرها مشروط
فيه إلخ) أي يشترط في خبر كاد أن يكون مضارعاً غير مقترن بأن المصدرية الإستقبالية، أمّا المضارع فلدلالته على الحال المناسب للقرب والدنوّ بملاصقته له حتى كأنه لشدة قربه وقع،
ولذا دلت على تأكيد وقوع الخبر على الأصح وجردت لذلك عن أن لمنافاتها لما قصحد منها، وهذا بناء على أكثر الأفصح، والاً فقد جاء خبرها اسماً مفرداً كقوله: فأبت إلى فهم وما كدت آبياً. ووت د مع أن كقوله: قد كاد من طول البكاء أن يمحصا. وفي الحديث كاد الفقر أن يكون كفرا. وقد يكون الخبر جملة اسمية كما حكاه ثعلب من قول العرب كاد زيد قائم على أنّ اسم كاد ضمير الشأن والجملة الاسمية خبرها بخلاف عسى، فإنه يجوز في خبرها أن يقرن بأن وهو أكثر، وقد يجرد منها كقوله:
عسى الكرب الذ؟ ب أميت فيه يكون وراءه فرج قريب
وإلى ذلك أشار المصنف رحمه الله بقوله: وقد تدخل أي أن المصدرية عليه أي على
خبر كاد كما مرّ حملاً لها على أختها عسى، كما تحذف من خبو عسى حملاً على كاد، وقوله في أصل معنى المقاربة يدل على أنّ عسى فيها معنى المقاربة عنده خلافا لمن توهم خلافه. قوله:(وقرىء يخطف بكسر الطاء إلخ) أي قرىء بكسر الطاء المخففة وهي قراءة مجاهد والفتح أفصح وعليه القراءة المعروفة، وفي الصحاح الخطف الإستلاب يقال خطفة بالكسر وهي اللغة الجيدة وعليها المضارع مفتوح العين، وفيه لغة أخرى حكاها الأخفش بفتح العين في الماضي وكسرها في المضارع، وقرىء في الشواذ يخطف بفتح الخاء وكسر الطاء المشددة، وأصله يختطف افتعال من الخطف فنقلت حركة التاء إلى الخاء وأدغمت في الطاء، ولذا لما لم ينقل إلى الخاء الساكنة حركة التاء كسرت لإلتقاء الساكنين أو اتباعا للطاء، وكسرت الياء التحتية أتباعاً لها، وفيها قراءات أخرى ذكرها في الحجة، والقراءة الأخيرة يتخطف بالبناء للفاعل، ونصب أبصارهم لأنه متعد كما في قوله يتخطف الناس من حولهم. قوله:(كأنه قيل ما يفعلون إلخ) قد مرّ الكلام على هذا السؤال، والجواب فليكن على ذكر منك، وخفوق البرق بضم الخاء المعجمة والفاء، وفي آخره قاف لمعانه، وأصله الاضطراب ومنه خفقت الراية والسراب، وخفية بفتح الخاء المعجمة وسكون الفاء، وياء مثناة تحتية وهاء تأنيث بزنة المرة من خفي يخفى، كعلم يعلم، أو خفي يخفو، كدخل يدخل، إذا لمع لمعانا ضعيفاً في نواحي الغيم، كما في بعض الحواشي ولا وجه له فإنه تكرار غير منالسب للمراد، فالظاهر أنه أراد ظهوره واختفاءه، وقد وقع في بعض النساث وخفيته بالإضافة للضمير من الخفاء، ويجوز أن يكون
خفية أو خفيته نقل من خفت البرق إذا سكن كما في الأساس، وقد ف! ره الفاضل الحفيد بلمعان البرق واستتاره وهو الحق، وهذه العبارة وقعت كذلك في الكشاف ولم يعتن شرّاحه بضبطها، وتارتي خفوقه مثنى تارة وهي المرة، والحالة أي في حالتي الظهور والخفاء. قوله: (وأضاء امّا متعد إلخ الم يتردّد في مجيء أضاء لازما وصشعدّيا لإتفاق أهل اللغة عليه وشيوعه في كلام العرب كقول الفرزدق:
أعد نظرايا عبد قيس لعلما أضطءت لك النار الحمار المقيدا
وأمثاله مما لا يحصى، والممشى محل المشي ونكره إشارة إلى دهشتهم وحيرتهم بحيث يخبطون خبط عشواء، ويمشون كل ممشى، وقوله أخذوه بمعنى سلكوه.
قال الراغب: يقال أخذ مأخذه أي سلك مسلكه، ونحوه في الأساس فلا تسمح فيه،
وعلى التعدّي معناه نوره وعلى اللزوم معناه لمع، وقوله في مطرح نوره أصل معنى المطرح محل الطرح وهو الإلقاء، لكنه استعملى بمعنى محل مطلقاً، وشاع حتى صار حقيقة فيه وهو المراد،
وأشار به إلى بيان المعنى وأن في النظم مفعولاً مقدرا، وضمير فيه على التعدّي راجع إليه، كما أشار إليه بقوله: أخذوه المفسر به مشوا فيه، إذ ليس المشي في البرق بل في محله، وعلى اللزوم فيه مضافان مقدران، كما أشار إليه بقوله: مطرح نوره وكون في للتعليل، والمعنى مشوا لأجل الإضاءة فيه، كما قيل ركيك لا يليق تنزيل نظم التنزيل عليه لمن له ذوق في العربية. قوله:(وكذلك أطلم) أي هو مثل أضاء في التعدي وا أطزوم، وفي التشبيه إيماء إلى جواز أن يحمل عليه كما يحمل الضد على الضد في ذلك، وقال بهاء الدين بن عقيل رحمه الله: إذا كان أظلم متعدياً فالفاعل ضمير الله، أو البرق أي أفسم ابى ق بسبب خفائه معاينة الطريق، والظاهر الثاني على الوجهين، والإسناد مجازيّ كما يعله من قوله بسبب خفائه.
وفي الصحاح ظلم الليل بالكسر، وأظلم بمعنى حكاه الفرّاء، وعلى التعدي فالهمزة
نقلت ظلم كفرح من اللزوم إلى التهرزي كما أشار إليه المصنف رحمه الله، ولم يبين اللزوم لظهوره والإتفاق عليه، وكون ظلم بمعنى أظلم، كما نقل عن الفرّاء لا ينافي نقل الهمزة له كما توهم، فإنّ الهمزة لها معان فلا مانع من إشتراكها في كلمة واحدة. كاكب، فإنه ورد متعدّيا، وهمزته للنقل، ولازما وهمزته للصيرورة، وكذا ما نحن فيه. قوله:(ويشهد له قراءة أظلم إلخ) أي يدل له دلالة بينة ناطقة بتأييده قراءته مبنيا للمجهول في قراءة شاذة منسوبة ليزيد بن قطيب، وقيل عليه أنّ شهادة ما ذكر شهادة زور مردودة بجواز كونه لازماً مسنداً إلى الظرف وهو عليهم، وأجيب بأنّ عليهم مقابل لهم فإن جعلا مستقرّين لم يصح أن يقوم عليهم مقام الفاعل أصلاً، وان جعلا صلتين للفعل على تضمين معنى النفع والضر ففيه نظر، لأنه يصلح لأن يقوم
مقام فاعل المضمن دون المضمن فيه، وعلى تقدير صلوحه فعطف إذا أظلم على كلما أضاء مع كونهما معاً جوابا للسؤال عما يصنعون في تارتي البرق، يقتضي أنّ أظلم مسند إلى ضمير البرق كأضاء، على معنى كلما نفعهم البرق بإضاءته اعترضوه، وإذا ضرّهم باختفائه دهشوا، ومبنى البلاغة على رعاية المناسبات.
وقد يجاب أيضاً بأنّ بناء الفعل للمفعول من المتعدي بنفسه أكثر فالحمل عليه أولى ولا يخفى ما فيه، وأمّا احتمال إضمار ضمير المصدر كما في قعد أي فعل القعود ففي غاية البعد مع أنه مدفوع أيضاً بما ذكر، فإن قيل إنما غير لأسلوب ولم يعتبر المناسبة لأنّ إظلام البرق غير معقول، فيحتاج إلى أن يتجوز عن إختفائه كما مرّ، قيل إلاً بلغية تقاوم مخالفة الأصل مع أنه لا بدّ منه في غيره أيضاً.
أقول هذا ما قاله شراح الكتابين برمته لم يترك منه إلاً ما لا خير فيه.
وفيه بحث لأنه تطولل للمقذمات من غير نتيجة، لأنّ حاصل المدّعى إن أظلم قد يتعدّى بدليل هذه القراءة لاتفاق النحاة على أنّ المطرد بناء المجهول من المتعدي بنفسه، فاعترض عليه بأنّ الأفصح المستعمل لزوم أظلم، 9 يجوز إبقاؤه على أصله في هذه القراءة بما ذكر فلا ينهض الدليل، فإن قيل إنّ المعترض عدل عن الأصل قيل هو بعينه لازم للمستدل، وأمّا كون الظرف مستقرا هنا فلغو لا احتمال له، وتعلقه باعتبار الضرّ والنفع نظرا للام، وعلى ليس بشيء لأنه مخصوص بفعل الذعاء كدعا له وعليه ألا ترى قولهم صلى عليه وأوقد له نار الحرب وأمثاله مما لا يحصى، والضرّ والنفع هنا مفهوم من المنطوق من غير احتياج للتضين أصلاً، ولذا قيل إنه مؤيد مستأنس به لا دليل فتأمّل. قوله:(وقول أبي تمام إلخ) أبو تمام كنيته واسمه حبيب بق أوس بن الحارث بن قيس الطائي قبيلة الشامي مولداً، وهو مع فصاحته التامة كان من كبار الأدباء والعلماء في عصره، وديوانه مشهور شرحه الكبار، وروى عنه الأخيار وألف الصولي كتابا في أخباره وآثاره، والبيت المذكور من قصيدة له مدح بها عيام! بن لهيعة الحضرمي أوّلها:
تقي جمحاتي لست طوع مؤنبي وليس جنيي إن عذلت بمصحبي
ومنها:
أحاولت إرشادي فعقلي مرشدي أم استمت تأديبي فدهري مؤدّبي
هما أظلماحاليّ ثمت أجلياف، ميهما عن وجه أمرد أشيب
إلى آخرها، ومن أرادها فلينظر ديوانه.
وقال الإمام التبويزي: في شرح ارديوان جعل أظلم متعديا وذلك قليل في الاستعمال،
وهو في القياس جائز قياساً على قول من قال ظلم الليل بمعنى أظلم، فإن ادّعى أنّ أظلم ههنا غير متعد، وأنّ حاليّ منصوب انتصاب الظرف، فقوله أجليا ظلاميهما يدفعه لأنه عدي أجليا إلى
الظلامين، وقوله عن وجه إلخ عنى به نفسه، وهو يحتمل معنيين أحدهما أن يكون قد شاب في حال كونه أمرد لعظم ما لاقاه من الشدائد، والآخر أن يكون أراد أنه فتى في السن شيخ في العقل، وقوله هما أظلما أي أني صغير السن وقد شيبني عقلي ودهري. اهـ، فضميرهما للعقل والدهر على ما ذكره الإمام التبريزي، وتبعه بعض شرّاح الكشاف، وجوز التفتازاني أن يكون لإرشاد العاذلة، وتأديبها في البيت الذي قبله، وجوز في الكشف أن يكون لليوم واللبلة، وهو بعيد جدا والحالان الخير والشر، أو الغنى والفقر، أو الشيب والثباب، وقيل هما الدنيويّ والأخرويّ وليس بشيء، وقيل هو عام في كل متقابلين خيراً وشراً، أو غنى وفقرا، أو مرضا وصحة، أو عسرا ويسرا، وأسند الإظلام إلى العقل لأنّ العاقل لا يطيب له عيس، وإلى الدهر لأنه لا يسالم الحر أبدا، وأجليا بمعنى كشفا ظلاميهما، وأمرد أشيب تجريد كما مرّ، وهمزة أحاولت إنكارية أي لا ينبغي أن تتجشمي في الإرشاد والتأديب، والفاء تعليلية لمقدّر أي لا تحاوليهما ففي العقل والدهر كفاية عن كل مرشد ومؤدّب، وهذا زبدة ما في شروح الكشاف في هذا البيت (والذي أراه (أنّ المراد بارشادها إياه عتبه وعذله لتصريحه بذلك قبله في قوله:
فلم توقدي سخطاً على متنصلي ولم تنزلي عتباً بساحة معتب
وضميرهما للعقل والدهر، وحالات صغره وشبابه، وكبره وشيبه، لقوله: أمرد أشيب
وفي قوله بعده:
شجي في حلوق الحادثات مشرّق به عزمه في الترّهات مغرّب
كأن له دينا على كل مشرّق من الأرض أوثارا على كل مغرب
فإنه كما في الشرح يصف جده في الأمور وصحة رأيه، وعزمه ولعبه في الصبا ولهوه، واظلامهما عدم كشف حالهما بحيث امتزج صباه بشيخوخته، وهو كقول أبي فراس:
وما بلغت أوان الشيب سني فما عذر المشيب إلى عذاري
وفي الظلام وانجلائه إيماء إلى سواد الشعر وبياضه. قوله: (فإنه وإن كان من المحدثين
إلخ) قالوا: الشعراء على طبقات جاهليون، كامرىء القيس، ومخضرمون بضم الميم وفتح الخاء المعجمة وفتح الراء المهملة، يليها ميم قال ابن خلكان: إنه سمع فيه محضرم بالحاء المهملة وكسر الراء، واستغربه وهو من قال الشعر في الجاهلية، ثم أدرك الإسلام كلبيد، وقد يقال لكل من أدرك دولتين، وأطلقه المحذثون على كل من أدرك الجاهلية، وأدرك حياة النبيّ صلى الله عليه وسلم وليست له صحبة، ولم يشترط بعض أهل اللغة نفي الصحبة، وفي
المحكم رجل مخضرم إذا كان نصف عمره في الجاهلية ونصفه في الإسلام، وقال ابن فارس: إنه من الأسماء التي حدثت في الإسلام، وهو من قولهم لحم مخضرم إذا لم يدر من ذكر هو أم أنثى، أو من خضرم الشيء إذا قطعه، وخضرم فلان عطيته إذا قطعها، فكأنهم قطعوا عن الكفر إلى الإسلام، أو لأنّ رتبتهم في الشعر نقصت، لأنّ حال الثعراء تطامنت ينزول القرآن كما قاله ابن فارس: ومتقدّمون، ويقال إسلاميون، وهم الذين كانوا في صدر الإسلام كجرير والفرزدق، ومولدون وهم من بعدهم كبشار، ومحدثون وهم من بعدبم كأبي تمام والبحتري، ومتأخرون كمن حدث يعدهم من شعراء الحجاز والعراق، ولا يستدل بشعر هؤلاء بالإتفاق، كما يستدل بالجاهليين والمخضرمين والإسلاميين في الألفاظ بالإتفاق، واختلف في المحدثين فقيل: لا يستشهد بشعرهم مطلقاً، وقيل يستشهد به في المعاني دون الألفاظ، وقيل: يستشهد يمن يوثق به منهم مطلقاً، واختاره الزمخشريّ ومن حذا حذوه، قال: لأتي أجعل ما يقوله يمنزلة ما يرويه، واعترض عليه بأنّ قبول الرواية مبيّ على الضبط والوثوق، واعتبار القول مبنيّ على معرفة الأوضاع اللغوية، والإحاطة بقوانينها، ومن البين أنّ أنقان الرواية لا يستلزم إتقان الدرا ية.
وفي الكشف: إنّ القول دراية خاعة فهي كنقل الحديث بالمعنى، وقال المحقق التفتازاني: القول بأن بمنزلة نقل الحديث بالمعنى ليس بسديد بل هو يعمل الراوي أشبه، وهو لا يوجب السصاع الآ إن كان من علماء العربية الموثوق بهم، فالظاهر أنه لا يخالف مقتضاها، فإن استؤنى به ولم يجعل دليلَا لم يرد عليه ما ذكر، ولا ما قيل من أنه لو فتح هذا الباب لزم الاسندلال يكل
بكل ما وقع في كلام علماء المحدثين كالحريري وأضرابه والحجة فيما رووه لا فيما رأوه، وقد خطؤوا المتنبي وأبا تمام والبحتري في أشياء كثيرة، كما هو مسطور في شروح تلك الدواوين، ثم إنه لا حاجة لمخالفة الجمهور فيه مع وجود ما يقي عنه، وهو أنّ الأزهري وناهيك به قال في التهذيب كل واحد من أضاء وأظلم يكون لازماً ومتعدّياً، وإذا جاء نهر الله يطل نهرمعقل.
وقد أورد عليه أيضا أنه يجوز أن يكون لازماً في البيت، وحاليّ ظرف إلا أنك قد عرفت
ما يدفعه، وثمت في البيت ثم العاطفة زيد فيها تاء التأنيث، وهو لغة فيه كربت، وفيل إنه مخصوص بعطف الجمل، وعن المازني أنه كثريّ لا كليّ. قوله:(وإفما قال مع الإضاءة كلما الخ) يعنى أنه استعمل كلما المستعملة في التكرار في لازم معناها كناية أو مجازا، وهو الحرص والمحبة لما دخلت عليه، وإذا فيما لا يريدونه فضلاً عن الحرص لأنّ الإظلام والتوقف ليس يمراد لهم، وإفادة كلما التكرار صرّح به أهل الأصول، وذهب إليه بعض النحاة واللغوين.
قال في المصباح: كلما تفيد التكرار دون غيرها من أدوات الشرط، فقول أيي حيان لا
فرق عندي بين كلما وإذا من جهة المعنى، إذ التكرار متى فهم من كلما أضاء لزم منه التكرار، أيضاً في إذا اظلم عليهم قاموا إذ الأمر دائر بين إضاءة البرق والإظلام، ومتى وجد ذا فقد ذا فلزم من تكرار وجود ذا تكرار عدم ذا، على أنّ من النحاة من ذهب إلى أن إذا تدل على التكرار ككلما كقوله:
إذا وجدت أوار الحب في كبدي أقبلت نحو سقاء القوم ابترد
لأنّ معناه كلما والتكرار الذي ذكره الأصوليون والفقهاء في كلما إنما جاء من عموم كل
لا من وضعها، كما يدل عليه كلامهم، وإنما جاءت كل لتكيد العموم المستفاد من ما الظرفية مع مخالفتة للمنقول مخالف للمعقول.
وأمّا الأوّل فلما سمعته.
وأمّا الثاني فلأنّ النحاة صرّحوا بأنّ كلما في هذه الآية وأمثالها منصوبة على الظرفية، وناصبها ما هو جواب معنى، وما حرف مصدري، أو اسم نكرة بمعنى وقت، فالجملة بعدها صلة أو صفة، وجعلت شرطاً لما فيها من معناه وهي لتقدير ما بعدها بنكرة تفيد عموماً بدلياً، وليس معنى التكرار إلاً هذا، فكيف لا تفيده وضعاً، وأمّا القول بأنّ إذا وغيرها من أدوات الشرط تفيد ذلك فليس بصحيح فإن فهم منه فهو من القرائن الخارجية، وأمّا ما اعترض به من أنه يلزم من تكرار الإضاءة تكرار الإظلام فغفلة عما أرادوه من المعنى الكنائي، والفرصة واحدة الفرص كغرفة وغرف، وأصل معناها النوية في شرب الماء القليل، يقال جاءت فرصة فلان أي نويته، والمبادرة لذلك يقال لها انتهاز وهو افتعال من النهز بالزاي المعجمة، وقال الأزهري أصل النهز الدفع، وانتهز الفرصة انتهض لها مبادرة، والحراص جمع حريص، والتوقف معنى فوله قاموا. قوله:(ومعنى قاموا وقفوا) وقف كقام يكون في مقابلة قعد أو جلس، وحينثذ يتجوّز به عن الظهور والرواج، فيقال قام أمره وقامت السوق، ومنه يقيمون الصلاة كأنها علت وظهرت ولم تستثقل فتختفي، ويكون قام ووفف في مقابلة مش أو جرى، وحينئذ يتجوّز به عن الكساد وعدم النفاق، كما يقال في ضدّه مشت الحال، ومنه ما نحن فيه لمقابلته بمشوا فليس قام في الرواج والكساد من الأضداد في شيء كما توهم، وركد من قولهم ركد الماء فهو راكد إذا لم يجر، ويكون بمعنى سكن مطلقاً فيعم الماء وغيره. وهو المراد هنا إلاً أنّ التعبير به وقع في محزة لإقترانه بجمود الماء، ويقال قام الماء إذا جمد لوقوفه عن الجري، كما قال المتنبى:
وكذا الكريم إذا أقام ببلدة سال النضار بها وقام الماء
على كلام فيه من شرح ديوانه ليس هذا محله، وقد كشفت لك غطاء لم يكشف قبل،
وإن توهم أنه أمر متعلق بالألفاظ يتساهل فيه فتدبر. قوله: (أن يذهب بسمعهم بقصيف الرعد إلخ) سمعهم اسم للجارحة المخصوصة، وأبصارهم جمع بصر والجار والمجرور بعدهما متعلق بيذهب لا مصدر، وبقصيف الرعد متعلق به كالإبصار المتعلق به قوله بوميض البرق، وقصيف فعيل من القصف، وأصله كسر الأجرام اليابسة وهو شدة صوته بتكسر وارتعاد، والوميض شدّة الشعشعة واللمعان، والقصيف والوميض مصدران أو وصفان كالنذير بمعنى الإنذار، وذكر في الكشاف أنّ المعنى لو شاء الله أن يذهب بسمعهم وأبصارهم لذهب بها،
وأراد لو شاء الله لذهب بسمعهم بقصيف الرعد، وأبصارهم بوميض البرق، والمصنف غير صنيعه فقيد المفعول المحذوف دون الجواب كما صنعه، ولم يتعرضوا لوجه عدول المصنف عنه، ولا لما قصده، ولم يزيدوا على نقل ما في شروح الكشاف على عادتهم فكأنه لما في الكشاف من مخالفته للمعتاد من التقدير في موضعين من الشرط والجواب، فلذا اقتصر المصنف على أحدهما، ولو قيل بأنه بيان لحاصل المعنى لم يكن في محله أيضاً، فصنيع المصنف أحسن على كل حال وفيه نظر سيأتن، وأمّا التقييد بما ذكر فوجهه كما قال قدس سرّه: أنه إشارة إلى أنّ جملة ولو شاء الله عطف على مجموع الجمل الاستئنافية، أعني يجعلون وما بعده نظر إلى محصول معناها، فإنّ الأوّل متعلق با أس عد وشدّة صوته، والآخرين بالبرق وشدّة ضوئه، وقيل: غرضه من هذا التقدير بيان ربطها المعنويّ بتلك الجمل، وأمّا عطفها فعلى قوله {كُلَّمَا أَضَاء لَهُم مَّشَوْاْ فِيهِ} [البقرة: 20] وعليه قيل: إنه كان ينبغي أن يجعل السؤال مركباً من أمرين، كأنه قيل كيف يصنعون في خفوق البرق وخفيته، وهل كان البرق يضرّهم، إلا أنه لم يذكر الثاني عند الإسنئناف الثالث لظهور العلم به، كما قيل في رد ما أورد عليه وأشير إليه بصيغة التمريض من أنه لا يظهر كون هذه الجمل جواباً للسؤال المقدّر قبل قويه كلما أضاء إلخ، وأمّا القول بأنّ هذا الردّ غير تام لأنّ العطف لا يقتضي استقلال المعطوف في حكم المعطوف عليه، لجواز كون الثاني من تتمة الأوّل، ويكونان مشتركين في حكم واحد كما في قوله السكنجبيل خل وعسل، والرمان حلو حامض، فلا بد من ضم عدم كون المعطوف من تتمة المعطوف عليه، والأوجه في التوجيه أن يقال هذه الجملة معترضة على رأي، أو معطوفة على الاستئنافية الأولى، أو حال من ضمير قاموا بتقدير وهم لو شاء الله إلخ، فليس بشيء كما ستراه، وكذا ما قيل من أنّ الأظهر أنّ هذه الجملة أتى بها لتوبيخ المنافقين حيث لم يتنبهوا، لأنّ من قدر على أيجاد قصيف الرعد، ووميض البرق وإعدامهما قادر على إذهاب سمعهم، وأبصارهم فلا يرجعون عن ضلالهم فلا حاجة إلى اعتبار إذهابه بالقصيف والوميض، إلا أن يقال أنه لو لم يعتبر الإذهاب بالأسباب كان تعلق المشيئة غريبا، إلا أنه ظهر للشرطية فائدة هي أليق بالمقام، وإنما قصصنا عليك جملة المقال لتعلم أنه ليس في السويداء رجال، فإن أردت أن تقف عنى حقيقة الحال فاعلم أنهم لما رأوا ترك العاطف، أولآ لما مرّ
واقتران هذه به لما بينهما من المناسبة، وهي أنّ المراد بالإذهاب الإذهاب بالقصيف، والوميض، لا المطلق رأى الفاضل المحقق أنّ العطف على الأقرب أظهر هنا وأقرب، ولما رأى المناسبة بين المتعاطفين في الجوابية غير تامة جعلها بالنظر لجميع ما قبلها، فكأنه قيل هم محترزون من الرعد بسد المسامع، ويتألمون بالبرق الخاطف والإظلام، ولو أراد الله أعماهم وأصمهم فلم يفدهم صنيعهم شيئا، فأشار قدّس سرّه إلى ردّه بأنّ المناسبة إنما تعتبر بين المتعاطفين، وعطف ما ليس بجواب على الجواب ليس بصواب، فلتكن معطوفة على جميع ما قبلها من غير تكلف، وكأنه جعله من عطف القصة على القصة لخروجه عن التمثيل فكأنه قصة أخرى، وهو وإن كان خلاف الظاهر أسلم من التكلف وأحسن من هذا، وأسلم أن يقال لا بأس بأن يزاد في الجواب ما يناسبه، وان لم يكن له دخل فيه فلو أنّ أحدا قال لك أين تسكن فقلت أسكن البصرة وأتكسب فيها مكاسب واسعة واسعف بفضل كسبي إخواني لم يعده أحد خطأ، بل يستحسن إذا اقتضاه المقام ألا ترى قوله تعالى {وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى} [طه: 17] وقوله في الجواب هي عصاي إلخ كما سمعته غير مرّة، وأمّا ما قصصناه من قول بعض أرباب الحواشي أنه يجوز كونه تتمة للأوّل أو في حكم شيء واحد كالسكنجبيل خل وعسل فلا محصل له، لأنّ المعترض قال: إنّ فيه عطف ما ليس بجواب عليه، ومثله لا يصح، وما ذكره من مثل الرمان حلو حامض لا يجري في الجمل، ولا يجوز عطفه على الأصح عند أهل العربية لأنهما في حكم كلمة واحدة لتأويلهما بمز، ولا مساس له بما نحن فيه، وكون الجملة اعتراضية أو حالية بتقدير المبتدأ، أو معطوفة على الجملة الأولى مع تخلل الفاصل، والأسئلة المقدرة وعدة أوجه لا وجه له، ومثله فضول عند أهل الفضل، لأنه لا يجدي في دفع الاعتراض الذي هو بصدده، وما ذكره القائل بأنها للتوبيخ إلخ، محل للتوبيخ لأنّ العطف يأباه إذ لا يصح عطف الممثل له على حال الممثل به، ألا ترى أنه لما قصد مثله فصل
في قوله {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ} فإن قلت إذا قيد المفعول المقدر بما قيد به المصنف في قوله أن يذهب بسمعهم إلخ، يكون مستغرباً لأن ذهاب السمع والبصر بمثله غير معهود فتقديره في الجواب كما فعله الزمخشريّ، إن لم يكن لازماً فهو أحسن، وهو الداعي له على ذلك فالمصنف غافلى أو متغافل قلت قول الزمخشريّ، وأراه يحتمل أن يريد أنه مراد من الكلام من غير تقدير، وعليه فلا إشكال ولا مخالفة بين كلام المصنف وكلامه، ولذا لم يقل والتقدير وعطفه بالواو على تفسيره مطلقاً، ولو سلم فلك أن تقول إنه لما قدم ما يدل عليه من قوله {يَجْعَلُونَ أَصْابِعَهُمْ فِي} [البقرة: 19] انهم} وقوله {يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ} قوى دلالة السياق عليه، فأخرجه عن الغرابة، ولك أن تقول لو أبقى على إطلاقه كان أقوى، والمعنى لو أراد الله إذهاب قواهم أذهبها من غير سبب فلا يغنيهم الاحتراز والخوف مما خافوه، والمناسبة المحسنة للعطف موجودة فلم تركوه فتدبر. قوله:(ولقد تكاثر حذفه في شاء وأراد) أي حذف المفعول
في شاء وأراد ومتصرفاتهما إذا وقعت في حيز الشرط لدلالة الجواب على ذلك المحذوف معنى مع وقوعه في محله لفظا، ولأنّ فيه نوعاً من التفسير يعد الإبهام إلاً في المستغرب، فلا يكتفي فيه بدلالة الجواب بل يصرح به اعتناء بتعيينه ودفعاً لتوهم غيره لاستبعاد تعلق الفعل به لاستغرابه، فلو قلت لو شئت بكيت دماً جاز، توهم قصدك لو شئت بكا بالدمع الجاري على المعتاد، والدم المذكور جاء بدلاً عنه من غير فصدك له كأنك قلت لو شئت أن أبكي دمعا بكيت دماً فاعتمدت في حذف المفعول وتعييته على العادة المعروفة وكونه مرجوحا لدلالة تقييد الجواب على خلافه، وأنّ المقدر مثله لا ينافي الاحتمال والتوهم، فإذا ذكر المفعول زال الاحتمال خصوصاً إذا لم يكن المخاطب ذكياً فمن قال إن لو شئت بكيت دماً لا يحتمل سوى لو شت أن أبكي دما لبكيتة، فقد كابر يعئ قول الفاضل المحقق هنا أنّ التعليل بأنه لو حذف فقيل لو شئت أن أبكي لبكيت دماً كما قال الآخر:
ولم يبق مني الشوق غيرتفكري فلوشئت أن أيكي بكيت تفكرا
أي يخرج بدل الدمع التفكر ليس بمستقيم لأنّ الكلام في مفعول المشيئة فلو قيل لو شئت بكيت دماً واكتفى بقرينة الجواب لم يحتمل سوى لو شئت أن أبكي دماً لبكيتة.
أ-دول إنه قدّس سرّه لم ينصف فيما ثغ به على السعد رحمه الله وجعله مكابرة لأنّ مراده
الردّ لما وقع في الكشف في تمثيله واستشهاده لأنّ هنا أمرين معمول المشيئة نفسها ومفعول متعلقه، وما نحن فيه هو الأوّل وما مثل به من لو شثت أن أبكي بكيت دماً من الثاني لأنّ المحذوف مفعول أبكي لا مفعول شثت، ثم إنه لم يقل لا احتمال فيه أصلاً حتى يقال: إنه مكابرة بلى قال لو اكتفى بقرينة الجواب، ولم يكن ثمة غيرها ولا شبهة حينئذ في عدم الاحتمال وأمّا إذا لوحظ معها قرينة أخرى كالمعتاد في البكا من الدمع احتمل غير ما ذكر فسقط الاعتراض، ولو قيل إنه استشهاد معنويّ على حذف مفعول مغاير لما في الجواب كان مع تكلفه غير مسلم أيضاً لأنّ البيت يحتمل عدم التقدير بتنزيل البكا منزلة اللازم أي لو شئت بكا ما بكيت تفكرا كما في دلائل الإعجاز، ولا تكلف فيه أصلَا، وأمّا ما قيل من أنّ المذكور في جواب لو هو البكا المتعلق بالدم فأخذ البكا من المذكور يخيه، وترك متعلقه والاعتماد في تعيينه بالمعتاد خروج عن الإنصاف، ومخالفة للحق الظاهر دال على أنّ المعترض ليس هو المكابر فالصواب في الجواب أن يقال لا نزاع في أنّ الكلام في متعلق المشيئة لكنه قد يكون مطلقاً عن القيد كما في فلو شئت أن أبكي بكيت تفكراً فيتبادر منه المعتاد، وقد يقيد بقيد هو منشأ الغرابة فإذا حذف اعنمادا على الجواب لم يخكن المفعول الذي تعلق به فعل المشيئة غريبا مذكورا لانتفاء المقيد بانتفاء قيده فيلتيس المفعول المقيد بما يفيد الغرابة بمفعول مطلق عنه، ويراد به
المعتاد فاستقم واترك العناد فجريرة لا طائل تحتها، وإنما أوقعه فيه عدم الوقوف على المراد وإنما أوردناه لئلا يتوهم الناظر فيه أنه شيء يعبا به ويقي هنا كلام طويل يعلم مما في المطول وحواشيه، وقوله تكاثر المراد به المبالغة في الكثرة لا التفاعل وإن كان هو أصله. قوله:(ولو شئت أن أبكي دماً إلخ) هو بيت من قصيدة لأبي يعقوب الخزيمي يرثي بها خزيم بن عامر المرّي، وفي شرح شواهد المعاني يرثي بها ابنه ليثا.
ومنها:
وأعددته ذخرا لكل ملمة وسهم الرزايا بالذخائر مولع
ومنها وهو آخرها:
ولو شئت أن أبكي دماً لبكيته عليك ولكن ساحة الصبرأوسع
وإني وإن أظهرت صبرا وحسبة وصانعت أعدائي عليك لموجع
وما قي بعض الحواشي من أنه للبحتري كأنه من تحريف الناسخ، والبكا الدمع مع الحزن
أو مطلق الدمع ويقال بكاه وبكى له وبكى عليه، وظاهر كتب اللغة وكلام الشرّاح هنا أنها بمعنى، وما وقع من التفرقة بين بكيته ويكيت عليه بأنّ الأول إذا بكى تألماً منه والثاني إذا بكى رحمة ورقة عليه كما في قوله:
ما إن بكيت زمانا إلا بكيت عليه
كأنه استعمال طارىء أو على أنّ أصل بكيتة بكيت منه ويكى يتعدّى للمبكيّ عليه بنفسه وباللام وعلى وأمّا المبكيّ به فإنما يتعدّى إليه بالباء فتعديته للدم هنا لجعله بمعنى الصت مجازا، وأمّ تضمينه على ما قالوه هنا ففي إجرائه في الضمير المتصل على المشهور فيه فيه خفاء، وقوله ساحة الصبر أوسع الساحة الموضع المتسع فوصفها بالسعة مبالغة، والمراد بسعة ساحته إمّا زيادة تجلده لتلازم عظم الشيء، وسعة مكانه أو كونه جميلَا محموداً أو مستمرّا باقياً.
وأعلم أنّ ما ذكر هنا وفي كتب المعاني من تقدير المفعول من جنس الجواب إذا لم
يكن مستغربا بشروطه السايقة أمر أغلبيّ إستحسانيّ، كما يشير إليه التعبير بالكثرة فلو جاء على خلافه مع القرينة المصححة له لم يكن خطأ، ولهذا خالف المصنف هذه القاعدة في مواضع كثيرة من تفسيره هذا فقدر في قوله {وَلَوْ شَاء اللهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِن بَعْدِهِم} [البقرة: 53 ا] ولو شاء هداهم ما اقتتل إلخ فقيل عليه الظاهر أن يقول عدبم إقتتالهم، وفي قوله تعالى {وَلَوْ شَاء اللهُ مَا أَشْرَكُواْ} [الأنعام: 07 ا] لو شاء توحيدهم ما أشركوا فقيل عليه الظاهر لو شاء عدم إشراكهم، وفي قوله تعالى {وَلَوْ شَاء رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ} [الأنعام: 12 ا] لو شاء إيمانهم إلى غير ذلك فكأنه يراها غير لازمة فيقدر المذكور بعينه أو ما يلزمه
كما بينا.، وقيل إنه إشارة! !! أنّ المشيئة لا تتعقق بالعدم والقاعدة عنده مخصوصة بالمثبت، وهو مخالف لما في المفتاح لذكره المنفيّ والمثبت بقوله:
فلوشئت لم ترفل ولوشئت أرفلت مخافة ملويّ من القد محصد
كما بينه شرّاحه وحزم القواعد غير سهل. قوله: (وظاهرها الدلالة على انتفل! الأوّل إلخ)
تبع فيه ابن الحاجب، ومن حذا حذوه كنجم الأئمة وستراه فريبا، وتحقيقه أنّ الجملة الأولى هنا لا تخلو من احتمال أن تكون سببا وعلة فالثانية مسبب ومعلول أو لازما وملزوما وبالعكس، إلا أنّ الذي ذكره أهل العربية أنها لامتناع الثاني لامتناع الأوّل فهي لنفيهما مع تعليل الثاني بالأوّل، وقيل عليه هذا مآل معناها لأنها وضعت لتعليق وجود مقدر بوجود مقدر للأوّل في الماضي فيفيد إنتفاءهما مع سببية انتفاء الأوّل لإنتفاء الثاني في الواقع من غير استدلال.
وقال ابن هشام رحمه الله: إنها تدل على عقد السببية والمسببية في الماضي وامتناع السبب فهي لامتناع الجواب لامتناع الشرط على الأصح لا للعكس، ولا أنها لا تدل على إمتناع أصلَا كما ذهب إليه الشلوبين، وليست لامتناع الشرط خاصة من غير دلالة على ثبوت الجواب أو انتفائه، ثم إنه تارة يعقل بين الجزأين ارتباط مناسب كالسببية، وتارة لا يعقل ذلك والأوّل إمّا مع انحصار مسببية الثاني في سببية الأوّل عقلاً أو شرعا نحو ولو شئنا لرفعناه بها ولو كانت الشمس طالعة كان النهار موجودا فيلزم من امتناع الأوّل فيه امتناع الثاني، فإن لم ينحصر فيه نحو لو كانت الشمس طالعة كان الضوء موجوداً ولو نام انتقض وضوءه لم يلزم من اشاعه امتناعه، وتارة يجؤز العقل فيه الانحصار وعدمه نحو لو زارني أكرمته فلا يدل عقلاً على انتفاء الثاني، وان دل عليه في استعمال العرف، وذهب ابن الحاجب ومن تبعه إلى أنها تدل على امتناع الشرط لامتناع الجواب وخطأ الجمهور وقال إنّ انتفاء السبب لا يدل على انتفاء المسببلا لجواز أن يكون لأشياء أخر كما يشهد له قوله تعالى {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ} [الأنبياء: 22] إلخ فإنها لنفي تعدد الآلهة لامتناع الفساد لا لامتناع الفساد لامتناع الآلهة لأنه خلاف ما يفهم مته، ومن نظائره إذ لا يلزم من انتفاء تعدد الآلهة انتفاء الفساد بمعنى اختلال نظام العالم لجواز وقوعه من إله واحد لمقتض
له، وقال بعض المحققين دليله باطل، ومدعاه حق لأنّ الشرط النحوي أعمّ من أن يكون سبباً نحو لو كانت الشمس طالعة كان العالم مضيئا أو شرطا نحو لو كان لي مال حججت أو غيرهما، وأمّ الثاني فلأنّ الشرط ملزوم والجزاء لازم وانتفاء اللازم يوجب انتفاء الملزوم دون العكس فوضعها ليكون جزاؤها معدوم المضمون فيمتنع مضمون الشرط الملزوم لامتناع لازمه، وهو الجزاء فهي لامتناع الأوّل لامتناع الثاني فيدل انتفاء الجزاء على انتفاء الشرط، ولهذا قالوا في القياس البرهاني إنّ رفع التالي يوجب رفع المقدم دون العكس كما ارتضاه الفحول، وقال المحقق التفتازاني في شرح التلخيصى نحن نقول ليس معنى قولهم لو لإمتناع الثاني لامتناع الأوّل إنه يستدل بامتناعه على امتناعه حتى يرد أنّ
انتفاء المسبب أو الملزوم لا يدلّ على أنتفاء السبب واللازم بل أنّ انتفاء الثاني في الخارج إنما هو بسبب انتفاء الأوّل فهي تستعمل للدّلالة على أنّ علة انتفاء مضمون الجزاء في الخارج هي انتفاء مضمون الشرط من غير التفات إلى أنّ علة العلم بانتفاء الجزاء ما هي، وأرباب المعقول جعلوا أدوات الشرط كلها دالة على لزوم الجزاء للشرط من غير قصد إلى القطع بانتفائهما فصح عندهم استثناء عين المقدم نحو لو كانت الشمس طالعة فالنهار موجود لكن الشمس طالعة فيستعملونها للدلالة على أنّ العلم بانتفاء الثاني علة للعلم بانتفاء الأوّل ضرورة انتفاء الملزوم بانتفاء اللازم من غير التفات إلى أنّ علة انتفاء الجزاء في الخارج ما هي لاستعماله لها في اكتساب العلوم والتصديقات، ولا شك أنّ العلم بانتفاء الملزوم لا يوجب العلم بانتفاء اللازم بل العكس فإذا تصفحنا وجدنا استعمالها على حد قاعدة اللغة أكثر لكنها قد تستعمل على قاعدتهم كما في قوله تعالى {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ} [الأنبياء: 22] إلخ فاعتراض ابن الحاجب غلط صريح، وقال قدس سرّه: إنه يفهم منه أنّ المعنى الثاني إنما هو بحسب الأوضاع الاصطلاحية لأرباب المعقول والآية واردة على أوضاعهم، وهو بعيد جداً قالحق أنه من المعاني المعتبرة لغة الواردة في استعمالاتهم عرفا فإنهم قد يتصدون للاستدلال ويسمى المذهب الكلامي عندهم إلاً أنه أقل استعمالاً من المعنى الأوّل كالمعنى الثاني المذكور في نحو نعم العبد صهيب إلخ، وقد قيل في توجيهه أنه أراد بقوله قد يستعمل على قاعدتهم أنّ العرب قد تستعمله منطبقاً على قاعدتهم لا جريا عليها بل تجوز العلاقة بين المعنى اللغوي والاصطلاحي، وهذا محصل ما قالوه بأسرهم ردّا وقبولاً، وقد بقيت في النفس منه أمور لأنّ مآل ما ارتضاه الفاضلان، ومحققو المتأخرين أنّ لها ثلاثة معان في اللغة واستعمال العرب سواء كانت حقيقية، أو بعضها حقيقة أحدها مذهب الجمهور، والثاني مسلك ابن الحاجب، والثالث ما ذكر في الأثر وما ضاهاه، وحينئذ يتجه أنه كيف يعد ما قاله غلطا وهو اختيار لأحد المعاني الثابتة فإن كان لإنكار ما عداه فهو مثترك بينه وبين الجمهور إلاً أنه كثر استعمالاً، وقد اختار المصنف رحمه الله ما اختاره ابن الحاجب، وقيل يحتمل أنّ مراده أنّ ظاهر الآية هنا الدلالة على انتفاء الأوّل لانتفاء الثاني يعني أنّ استعمال لو قد يكون للاستدلال، وهو الظاهر إلا أنّ حق العبارة الدلالة على انتفاء الأوّل بانتفاء الثاني لأنه يقال دل عليه بكذا دون لكذا، وهو غريب منه لبعد ما ادّعاه واللام تعليلية لا صلة الانتفاء.
وقال قدس سرّه: لو بمعنى إن مجردة عن الدلالة على الانتفاء، وقد يقال إنها باقية على أصلها. قوله:(وقرىء لا ذهب إلخ) أمّا على زيادة الباء لتأكيد التعدية، أو على أنّ أذهب لازم بمعنى ذهب كما قيل بنحوه في تنبت بالدهن، وفي قوله ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة، إذ الجمع بين أداتي تعدي لا يجوز، وأسماعهم جمع سمع وفي نسخة سمعهم مفرداً، ويجوز أن
يقدر له مفعول أي لأذهبهم وهو أقرب. قوله: (وفائدة هذه الشرطية إلخ) يعني أنّ إذهاب الله لمثله ليس بشيء في جنب مثيئتة، وقدرته فأيّ فائدة في ذكره، والمانع هنا إنتفاء شرطه، وهو تعلق مشيثة الله به لأنّ ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، والمقتضى سببه من الرعد والبرق كما يدل عليه ما قبله، وما قيل على المصنف رحمه الله من أن ما ذكره هنا يناقض قوله قبله إنّ لو ظاهرة الدلالة على انتفاء الأوّل لانتفاء الثاني إلخ لجعله مشيئة الله شرطاً والظاهر انتفاء الشيء بانتفاء شرطه لا عكسه كما مرّ، أجيب عنه بأن لو هنا استدلالية تفيد أنّ العلم بانتفاء المشروط التالي
لوجود السبب الموقوف على الشرط يوجب العلم بانتفائه فلا تناقض فتدبر. قوله: (والتنبيه على أنّ تأتلير الأسباب إلخ الأنه لو لم يكن مشروطاً لما تخلف الأثر عن المؤثر القوفي، من الرعد والبرق والصواعق في ظلمات متراكمة، وبيان الحكم في مادّة بيان له في سائرها لإشتراكهما في العلة، وتأثير الأسباب وقيام المعنى المقتضي بناء على الظاهر، وجرى على العادة التي أجراها الله تعالى فلا يقال إنه ليس على ما ينبغي لأنّ الأسباب لا تأثير لها في المسببات، وليس التأثير لغير الله تعالى عند أهل الحق، ودلالتها على الوقوع بقدرته لأنّ المشيئة سواء كانت مرادفة للإرادة أولا شأنها ترجيح أحد طرفي المقدور من الفعل، والترك على الآخر فيستلزمها وإن كان بينهما فرق ظاهر ولذا كان قوله تعالى {إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [اكل عمران: 65 ا] مقرّراً لما قبله فسقط ما قيل من أنّ وجودها بقدرته على هذا الوجه لا يفهم من الشرطية المذكورة، وإنما المفهوم منها توقف وقوعها على المشيئة، وعدم تخلفهأ عنها فتدبر. قوله: (كالتصريح به والتقرير له) أي ولذا لم يعطف عليه، وقال: كالتصريح لأنه عامّ في جميع المقدورات فيدخل فيه القدرة على ما ذكر واذهابه دخولاً أولياً فهو كالإثبات بالبرهان والتنوير بالبينة لأنّ القادر على الكل قادر على البعض وضمير به وله للتنبيه، لا يقال لا يلزم من قدرته على كل شيء وقوعه بقدرته لتغاير معنييهما، لأنا نقول لما ثبت أنه لا يجوز وقوع مقدورين من قادرين مؤثرين ببرهان التمانع، وثبت أنه تعالى قادر على كل شيء لزم أن لا يكون غيره قادراً مؤثراً فكل شيء واقع بقدرته، وقدرته تابعة لمشيئته في التاثير فثبت أنّ كل شيء واقع بمشيثته. قوله:(والشيء يختص بالموجود إلخ) الكلام في شيء وتفسيره من جهتين ومقامين، فالأوّل في تحقيقه عند المتكلمين فإنهم اختلفوا في أنّ المعدوم الممكن هل هو ثابت، وشيء أم لا وفي أنه هل بين الموجود والمعدوم واسطة أم لا والمذاهب أربعة حسب الاحتمالات أعني إثبات الأمرين أو نفيهما أو إثبات الأوّل، ونفي الثاني
أو بالعكس وذلك لأنه إمّا أن يكون المعدوم ثابتاً أولا وعلى التقديرين إمّا أن يكون بين الموجود والمعدوم واسطة أو لا، والحق نفيهما ولهم تردّد في اتحاد مفهوم الوجود والمشيئة، والكلام فيه مرتبط بالوجود الذهني أيضاً فعلى هذا هل يختص بالموجود، أو يشمله ويشمل المعدوم الممكن قولان والثاني في تحقيقه لغة، وهو يقع على كل ما أخبر عنه سواء كان جسماً أو عرضا، ويقع على القديم وعلى المعدوم والمحال فهو أعم العامّ كما في الكشاف فلا يرد عليه ما قيل من أنّ الخلاف بيننا وبين المعتزلة في المعدوم الممكن هل هو شيء أم لا، وأمّا المحال فليس بشيء اتفافا فإنّ الخلاف في المشيئة بمعنى التقرّو والثبوت في الخارج لا في إطلاق لفظ الشيء فإنه بحث لغويّ مرجعه إلى النقل، والسماع لا يصلح محلَا لاختلاف العقلاء الناظرين في المياحث العلمية لا سيما ورد ورد استعماله على العموم في القرآن وكلام العرب بحيث لا يخفى على أحد.
وما ذكره المصنف رحمه الله برمته ماخوذ من كلام الراغب، وفيه المشيئة عند المتكلمين كالإرادة سواء، وعند بعضهم أصل المشيئة إيجاد الشيء وإصابته، وان استعمل عرفا في موضع الإرادة فالمشيئة من الله هي الإيجاد ومن الناس الإصابة، والمشيئة من الله تقتضي الوجود، ولذا قيل ما شاء الله كان بخلاف الإرادة وارادة الإنسان قد تحصل من غير إرادة الله، ومشيئته لا تكون إلا بعد مشيئته كما قال {وَمَا تَشَاؤُونَ إِلَّا أَن يَشَاء اللَّهُ} [الإنسان: 30] ولذا يقال إن شاء الله دون إن أراد الله، فقول المصنف رحمه الله يختص بالموجود أراد به بيان معناه عند المتكلمين بناء على المشهور من مذهب أهل السنة خلافا للمعتزلة فإنه عندهم يشمل الموجود والمعدوم الممكن بناء على القول بأنه ثابت، وإنّ الثبوت أعم من الوجود، وما نقل عنهم من القول بشموله للمعدوم مطلقاً هنا من عدم الفرق بين معنييه لما سمعته من الإتفاق عليه، وكلام المصنف ظاهره أنه تفسير لما في النظم، وقال: بعض الفضلاء فيه إنّ الشيء في الآية محمول على المعنى اللغوي لا على الموجود كما اصطلح عليه أهل الكلام وفيه نظر فتأمّل. قوله: (أطلق بمعنى شاء) اسم فاعل كجاء، وأصله شاتي فاعل إعلأل قاض فهو مصدر أطلق على الفاعل، وهو من قامت به المشيئة كعدل بمعنى عادل، ولذا فنر بمريد ثم شاع حتى صار حقيقة فبه ومن قامت به المشيئة موجود لا محالة، وحينئذ يصح إطلاقه على الله لقيام المشيئة به، ولأنه موجود واجب
الوجود، ثم استشهد على إطلاقه على الله بالآية وأسقط الاستشهاد بقوله تعالى {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} [القصص: 88] لما سيأتي في تفسيرها وأشار إلى الردّ على ابن جهم، ومن تابعه في منع إطلاق شيء على الله لقوله تعالى {عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} ولو كان شيئاً دخل تحت القدرة، وهو مناف لأنه واجب الوجود بأنّ الذي في الآية بمعنى، والذي يطلق عليه بمعنى آخر أو هو عامّ مخصوص بالعقل، وما قيل من أنّ إرادة شاء بزنة فاعل في قوله تعالى {قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادةً} [الأنعام: 19] بعيد جذاً
بل المراد أيّ موجود أكبر شهادة كما لا يخفى مدفوع بأنه أصله ذلك، ثم غلب على الموجود مطلقا، وهو المراد كما سنوضح لك عن قريب. قوله:(وبمعنى مشء) بفتح الميم وفي آخره همزة، وقد تبدل ياء، وتدغم اسم مفعول بوزن مبغ ومهيب، وعلى ما قبله وهو اسم فاعل وهو في الأصل مصدر تجوّز به عن كل من هذين المعنيين، واستعمل استعمال المشترك، ثم شاع وغلب استعماله في ذات كل موجود وهو بعد هذه الغلبة عامّ لا مشترك لفظيّ، ولا ينافيه أنه قد يلتفت إلى معناه الأصلي فيراد في الاستعمال كما ذكره المصنف فيما نحن فيه الآن فلا يرد عليه أنّ معناه المصدري قد زال بالنقل إلى الاسمية والاشتراك بين الفاعل والمفعول خلاف الظاهر لتعين معناه لمطلق الوجود، ولذا قالوا الشيئية تساوق الوجود، وفيه بحث. قوله: (وما شاء الله وجوده فهو موجود إلخ الا يخفى ما في كلامه من الخرق الذي أتسع على الراقع، وان غفل عته كثير ممن شرحه، ولنحك ما قالوه أوّلاً، ثم نبين ما فيه فنقول من الناس من قال: المراد أنه مقدر الوجود في وقت مقدر له أو في علم الله تعالى، وفيه رائحة من الاعتزال لقوله بأنه يطلق على المعدوم، وإنما تكلفه ليخرج المستحيل الذي سماه المعتزلة شيئاً، وإنما يسمى قبل وجوده شيئا باعتبار ما يؤول إليه، وما في الانتصاف من أنه يسمى أوّل وجوده شيئاً بلا خلاف ليس بشيء لمن عنده إنصاف، وقيل: إنه من مزال الأقدام لما مرّ من تحرير محل النزاع بين المعتزلة وأهل السنة، والفرق بين كلامهم وكلام أهل اللغة، والمصنف رحمه الله خلط ذلك خلطاً لا يخفى، وتوجيهه أنه أراد أنّ الشيء في أصل اللغة مصدر أطلق بمعنى شاء أو مثى، وكلاهما موجود أمّا الأوّل فظاهر، وأمّا الثاني فلأنه ما تعلقت به المشيئة، وما تعلقت به فهو موجود فثبت أنّ الشيء مختص بالموجود وان أراد أنّ الشيء بمعنى الشيئية يختص بالموجود وانق الجمهور الآ أنّ إثبات تعليله المذكور دونه خرط القتاد، ولعل مراده هو الأوّل، وقيل: إنه " جواب عما يرد عليه من أنّ طروّ العدم من الممكن قد يقع متعلقاً للمشيثة كالإعدام بعد الإيجاد بأنّ المشيئة إذا أطلقت تنصرف إلى الكاملة فمشيئة الله لما شاء وجوده تصيره موجودا في الجملة، ولو في المستقبل والمراد بيان المناسبة بين المنقول، والمنقول عنه، وكلها إعتذارات أعظم من الجنايات وتطويل بغير طائل، وتحصيل لغير حاصل وأنت بعدما غرفت أنّ الخلاف في إطلاقه على المعدوم الممكن كما ستراه وما يوجد في المستقبل قبل وجود. معدوم ممكن فلا يكون بيننا وبينهم على ما ذكره المصنف رحمه الله خلاف أصلاً، والذي أوقعه فيما وقع فيه كلام الراغب، ثم إنّ ما ذكره من قوله وعليه قوله تعالى إلخ هو دليل لهم لا لنا لإستحالة تعلق القدرة والخلق، والإيجاد بالموجود بعد وجوده وهو مع جوابه مذكور في التفسير الكبير فتدبر.
وقيل إنه مبنيّ على أنّ العدم لا يحتاج إلى المشيئة بل عدم مشيثة الوجود كاف- في العدم
فإنّ علة عدم المعلول عدم علته، وهذا هو الباعث له على تقديره في نحو قوله {وَلَوْ شَاء اللهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِن بَعْدِهِم} [البقرة: 253] {وَلَوْ شَاء لَهَدَاكُمْ} كما مرّ فإن قلت إذا كان على كل شيء قدير على ظاهره من غير احتياج إلى تخصيصه عند المصنف رحمه الله فلم قال في قوله تعالى {أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ} [السجدة: 7] على قراءتيه مخصوص بمنفصل أو متصل كما سيأتي قلت لما كان المعنى الأصلي فيه متروكاً في الأغلب، وقامت القرينة على تركه، وهو التصريح بخلقه بعده بنى ما هناك عليه فتأمّل. قوله:(بلا مثنوية) المثنوية كالمعنوية بمعنى الاستثناء صرّح به أهل اللغة وورد في الحديث الشريف وفي كلام فصحاء العرب كقول النابغة:
حلفت يميناً غيرذي مثنوية ولاعلم إلاً حسن ظن بصاحب
وقال في النبراس أصل معناها الرجوع والانصراف كما في قول حمزة سيد الشهداء:
فلما التقينالم تكن مثنوية لناغيرطعن بالمثقفة السمر
وكذا ورد في الحديث الثنية (1 (بمعنى الاستثناء أيضا ولما لم يقف بعضهم على ما ذكر تكلف لتأويله فقيل إنه منسوب إلى المثنى مصدر بمعنى الاستثناء، وقيل بمعنى اثنين اثنين، وقد وضح الصبح لذي عينين، ومراد المصنف بها التخصيص تجوزا بقرينة ما بعده. قوله: (والمعتزلة لما قالوا إلخ) قيل إنه تعريض ورد لما في الكشاف من قوله والشيء ما صح أن يعلم ويخبر عنه قال سيبوبه: وهو أعثم العام كما أنّ الله أخص الخاص يجري على الجسم، والعرض! والقديم تقول شيء لا كالأشياء أي معلوم لا كسائر المعلومات، وعلى المعدوم، والمحال فإن كان مقصود المصنف رحمه الله ما زعمه هذا القائل فلا وجه له لأنه بيان لمعناه لغة والخلاف بيننا وبين المعتزلة في شيء آخر غير المعنى اللغوي، وقد تقدّم أنه في المعدوم الممكن، وأنّ غيره من المعدومات ليس بشيء بالاتفاق منا ومنهم، وهو المصرّج به في كتب الأصول القديمة والجديدة فلا يصح الردّ ولا النقل عهم لأنّ ما في الكشاف بيان للمراد به في كلام العرب، واستعمالهم كما أشار إليه بنقله عن سيبويه، فإن قلت لعل المصنف رحمه الله ظفر بنقل فيه فهو قول لهم غير مشهور، ويؤيده قوله في شرح المقاصد، وعند كثير من المعتزلة هو اسم للمعلوم، ويلزمهم أن يكون المستحيل شيئا وهم لا يقولون به اللهم إلا أن يمنع كون المستحيل معلوما على ما بيناه، أو يمنع عدم قولهم بإطلاق الشيء عليه فقد ذكر جار الله إنه اسم لما
يصح أن يعلم يستوي فيه الموجود والمعدوم والمحال والمستقيم، اهـ قلت هذا بعينه ما ذكره المصنف، وقد استقرّ كلامه في شرح الكشاف الذي هو آخر تأليفه على خلافه وهو الموافق لما في كتب الأصول بأسرها قال الإمام في كتابه المسمى بالمسائل الأربعين هذه المسئلة متفرّعة على مسئلة أخرى، وهي أنّ الوجود هل هو مغاير للماهية أم لا، ثم قال: بعد ذلك فلترجع إلى تعيين محل النزاع في هذه المسئلة فنقول المعدوم إمّا أن يكون واجب العدم ممتنع الوجود، وامّا أن يكون جائزاً لعدم جائز الوجود، أمّا الممتنع فقد اتفقوا على أنه نفي، وعدم صرف وليس بذات ولا شيء، وأمّا المعدوم الذي يجوز وجوده، ويجوز عدمه فقد ذهب أصحابنا إلى أنه قبل الوجود نفي محض، وعدم صرف وليس بشيء ولا بذات وهذا قول أبي الحسن البصري من المعتزلة وذهب ممثر شيوخ المعتزلة إلى أنها ماهيات وحقائق حالتي وجودها وعدمها، فهذا هوق اخيص محل النزاع، اهـ فقد ظهر لك أنّ ما ذكره المصنف وبعض محشيه لا وجه له وكأنه فهم أنّ الموجود ما يوجد في أحد الأزمنة الثلاثة، والمعدوم خلافه ممكناً كان أو مستحيلَا وأعلم أنه لا نزاع في استعمال الشيء في كلام الله وكلام العرب في الموجود والمعدوم والمحال والواجب والحادث كما ذكره الزمخشري، وقوله: يصح أن يوجد بمعنى يمكن أن يوجد فإنّ الصحة كما تقابل السقم والفساد تقابل الامتناع الذاتي في كلامهم وهو استعارة مشهورة، والإمكان عام مقيد بالوجود فيشمل الواجب وصفاته عند القائل بها وأفعال العباد لأنها مقدورة له بالذات، أو بواسطة التمكين، وقوله ما يصح أن يعلم ويخبر عته إن قيل ليس هذا شاملاً للفعل، والحرف قلنا يصح الإخبار عنهصا لكن بشرط أن لا يراد معناهما في ضمن لفظيهما، وإذا عرفت أنّ الصحة هنا بمعنى الإمكان العامّ، وهو سلب الضرورة عن أحد الجانبين سقط ما يتوهم من أنّ فيه إطلاق الجائز على الواجب، وهو غير جائز. قؤله:(لزمهم التخصيص إلخ) أي تخصيص شيء في قوله على كل شيء قدير. وخالق كل شيء بالممكن ليخرج الواجب والممتنع، وأمّا إذا كان بمعنى المشيء، وجوده فهو باق على عمومه كما لا يخفى، وظاهره أنه محذور مع أنّ التخصيص به جائز على الأصح فلا ضرر فيه كما يوهمه سوقه إلاً أن يقال إنه خلاف الأصل لا سيما مع كل المقتضية للعموم، وليس ببعيد فإن قلت التخصيص بالممكن لا يكفي في قوله {خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [الأنبياء: 02 ا] على مذهبهم لأنّ من الممكنات ما لا تتعلق الإرادة بوجوده، وأفعال العباد ممكنة، وليست مخلوقة له عندهم، قلت تعلق الخلق به كما يدلّ على إمكانه يدلّ على تعفق الإرادة بإيجاده فهو إشارة إلى لزوم المخصص بلا حصر، أو قوله بالممكن على زعمهم إشارة إلى ما فيه من القصوره قوله:(والقدرة هو التمكن الخ) ذكر الضمير رعاية للخبر، ولو أنثه نظرا لمرجعه جاز إلاً أنّ الأوّل
أرجح عند صاحب الإيضاح، وفي المواقف القدرة صفة تؤثر وفق
الإرادة، وقيل هي مبدأ قريب للأفعال المختلفة، وهذا فيما قيل يقتضي أنها ليست نفس التمكن بل مبدأة ومقتضيه وبينهما مخالفة، والذي قاله المتكلمون إنها صفة موجودة ثابتة له تعالى، والتمكن أمر اعتباريّ لا وجود له في الخارج فهو معناها لغة وذاك اصطلاحيّ، وقيل إنّ كلام المصنف رحمه الله إشارة إلى أنّ فيها اختلافاً هل هي صفة إضافية أو ذاتية، وقيل إنّ قوله هو التمكن إلخ يقرب من مذهب المعتزلة، ويشعر بأنّ القدرة ليست صفة حقيقية والتفسير الثاني مذهب الأشاعرة، والثالث يشعر بأنها من الصفات السلبية والتحقيق ما في المسائل الأربعين للإمام من أنّ الصفات ثلاثة أقسام صفات حقيقية عارية عن الإضافات كالسواد والبياض وصفات حقيقية يلزمها إضافات كالعلم، والقدرة لأنّ العلم صفة حقيقية يلزمها إضافة مخصوصة إلى المعلوم، وكذا القدرة صفة حقيقية لها تعلق بالمقدور، وذلك التعلّق إضافة مخصوصة بين القدرة والمقدور وإضافة ونسب محضة ككون الشيء قبل غيره أو بعده فمن فسرها بالمبدا ونحوه نظر إلى حقيقتها، ومن فسرها بغيره رسمها بلوازمها فلا مخالفة في التحقيق، ثم إنه قيل عليه أنه لا يتناول التمكن من إعدامه بعد وجوده ولا التمكق من إبقاء الممكن، وهو معتبر كما سنراه إلا أن يقال التمكن من الإيجاد يستلزم التمكن منهما استلزاماً ظاهراً، فلذا اقتصر عليه مع شرفه، فعلم ضعف ما قيل من أنّ المقدور إن أريد به ما تعلقت به القدرة لا يكون إلاً موجودا، وان أريد ما يصلح لأن يتعلق به يكون معدوما وهو المعنيّ بقولهم إنه تعالى قادر على جميع المقدورأت، وأنّ مقدوراته غير متناهية يني أنها صفة قديمة قائمة بالقادر قبل الإلجاد لمقدوراته وبعد الإيجاد والبقاء فتدبر. قوله:(وقيل صفة تقتضي التمكن) هذا هو القول المرضي فكأنه لم يقصد تمريضه، والمراد التمكن من الإيجاد والإعدام والإبقاء كما سمعتة آنفاً، وقوله وقيل: قدرة الإنسان إلخ فيه إشارة إلى أنّ ما قبله عامّ فيهما أو خاص بالله، والظاهر الثاني ووجه تمريضه أنه وإن فرق بين القدرتين إلا أنه يقتضي أنّ القدرة من الصفات السلبية، والذي عليه المحققون أنها صفة ثبوتية ذاتية، والعجز يضادّها وينافيها فالقائل به اختاره تقليلاً للصفات الذاتية أو نفياً لها، ثم إنّ الهيئة إنما تستعمل إذا أطلقت في المحسوسات، والفعل شامل للإيجاد والإعدام كما مرّ وصاحب هذا القول هو الراغب كما صرّح به في مفرداته فتأمّل. قوله:(والقادر هو الذي إلخ) هذا يحتمل أن يكون كلاما مستأنفا، ويحتمل أنه من تتمة القيل فكلاهما من كلام الحكماء لأنهم لا يقولون بإثبات صفات زائدة كالمعتزلة على ما حقق في الكلام، ويخالفون المتكلمين في أن القدرة عبارة عن صحة الفعل، والترك ويقولون هي عبارة عن كونه بحيث إن شاء فعل وان شاء ترك، أو لم يفعل ومقدم الشرطية الأولى بالنسبة إلى وجود العالم دائم الوقوع، ومقدم الشرطية الثانية بالنسبة إلى وجود العالم دائم اللاوقوع، وصدق الشرطية لا يستلزم صدق طرفيها ولا ينافى كذبهما ودوام الفعل، وامتناع الترك بسبب الغير لا ينافي الاختبار عندهم، وفي نسخة وان شاة لم يفعل بدل قوله وان
لم يشأ لم يفعل، ولما ذهب الفلاسفة إلى أنّ إيجاد العالم بطريق الإيجاب لم يثبتوا لموجده الإرادة والاختيار إلا بمعنى إنه إن شاء فعل إلخ وهو متفق عليه بين الفريقين، وفيه كلام في نهاية الإمام المدقق الطوسي ليس هذا محله، وقيل إنّ قول المصنف هو الذي إن شاء فعل وان لم يشأ لم يفعل أحسن مما قيل إن شاء ترك لأنّ ظاهره يقتضي أن يكون العدم الأصلي متعلق المشيئة، وليس كذلك كما قرّروه، ثم إنّ كلاً من الفعل وعدمه أعمّ من الإيجاد أو الإعدام فالمعنى إن شاء الإيجاد، أو الإعدام فعله وان لم يشأ الإيجاد أو الإعدام لم يفعله، ومعنى كونه قادرا على الموجود حال وجود. أنه إن شاء عدمه أعدمه، وان لم يشأ لم يعدمه، ومعنى كونه قادراً على المعدوم حال عدمه إنه إن شاء وجوده أوجده وان لم يشأ وجوده لم يوجده فأحفظه فمانه نافع وفيه بحث. قوله:(والقدير الفغال لما يثاء إلخ) قال الراغب: محال أن يوصف غير الله تعالى بالقدرة المطلقة يعني بل حقه أن يقال قادر على كذا، والقدير هو الفاعل لما يشاء على قدر ما تقتضي الحكمة لا زائداً عليه
ولا ناقصا عته، ولذلك لا يصح أن يوصف به إلاً الله تعالى والمقتدر يقاربه لكنه قد يوصف به البشر وإذا اسنعمل في الله فمعناه القدير وإذا استعمل في البشر فمعناه المتكلف والمكتسب للقدرة، اهـ ومنه أخذ المصنف رحمه الله ما ذكره ملخصاً فمعنى قوله على ما يشاء إنه متقن جار على وفق الحكمة، وقيل معناه على الوجه الذي يشاء ما يشاؤه عليه من الوجوه المختلفة، ولا محصل له إلاً أن يريد به التعميم أي على كل وجه أراله، وهو توطئة لإختصاصه تعالى به لأنه لا يقدر على إيجاد كل ما يشاء وجوده أو على إيجاد ما شاء في غأية الإتقان جارياً على وفق الحكمة إلاً الله تعالى، والفعال هو المبالغ فيما يفعله كماً وكيفاً، وقيل: إن أراد بالفعال لما يشاء إلخ في الجملة فهو لا يقتضي عدم اتصاف (لع! رب وان أريد العموم لكل ما يدخل تحت المشيئة لزم أن لا يوصف به غيره ولو مجازا، وأورد عبيه أنّ أوّل كلامه في تفسير القدرة يقتضي أن يكون القدير المتمكن من إيجاد الشيء أو ذا صفة ققتضي التمكن منه لا الفعال إلا أن يثبت هذا المعنى نقلَا ورد بأنّ القدير صيغة مبالغة فقيه زيادة على القادر، وزيادة التمكن التام تقتضي أن يكون فعالاً، ولا يخفى أنّ المراد الثاني وأنه قد التزم ما لزمه فأيّ محذور فيه، ثم إنّ ما ذكره هنا إن كان من تتمة القيل لم يرد ما ذكره، وإن كان ابتداء كلام آخر والقدرة والتمكن الموصوف به الله تعالى صفة قديمة باقي أزلاً وأبداً فيكون قبل الوجود ومعه، وبعده فلا حاجة إلى جعله معنى آخر مستقلاً ولا إلى غيره مما ذكره نعم ما ذكره المصنف رحمه الله تبعاً للراغب من أنّ القدير لا يوصف به غير الله بخلاف القادر، والمقتدر بناء على أنّ المبالغة في القدرة بالمعنى المذكور لا يتصف به غيره تعالى فيه نظر لأنّ المبالغة أمر نسبيّ لا يلزم أن تكون بالمعنى المذكور، ولو تتبعت كلام العرب، وأهل اللغة لم تجده مختصاً به تعالى، ولذا وقع في بعض النسخ قلما يوصف به غير البارىء، وكانّ المصنف أصلح به ما في النسخة الأولى على أنه قد خالف ما ذكره بقوله في أوّل الخطبة فلم
يجد به قديراً، فإنّ المراد به غيره تعالى إلاً أن يقال أنه نفى للقدير عن غيره إذ المعنى لا قدير فيوجد وحينئذ لا ينافي ما ذكر. قوله:(واشتقاق القدرة من القدر إلخ) قيل فيه إشارة إلى الردّ على الزمخشري حيث عدل عن قوله: واشتقاق القدير من التقدير لما فيه من إشتقاق المجرّد من المزيد وان أجيب عنه بأنه لم يرد به الاشتقاق المعروف بل إنّ بينهما اتصالاً، ومناسبة، فإنّ القدير مشتق من القدرة، ومعناها الإيقاع على مقدار قوّته، وحكمته وهو معنى التقدير، وقد جرت عادته أن يعين للغات أصلاً يرجع إليه ولما كان في جميع مواده معنى التقدير جعله أصلا له هكذا نقل عنه وإذا اشتمل المزيد على معنى المجرّد، وزيادة جعل أصلاً كالقدير من التقدير، والوجه من المواجهة والبرج من التبرّج والاشتقاق فيه لغوي بمعنى الأخذ من أشهر مواده لا ما اصطلح عليه أهل التصريف، ولذا تراهم يجعلون المصدر مشتقاً من مصدر آخر فلا إشكال فيه كما تقدم. قوله:(وفيه دليل على أنّ الحادث إلخ) أي في قوله إنّ الله على كل شيء قدير لأز الحادث والممكن شيء بالاتفاق وكل شيء مقدور كما صرّح به المصنف، وصورة الدليل كما قيل الحادث حال حدوثه شيء، وكل شيء مقدور له تعالى ينتج أنّ الحادث حال حدوثه مقدور له تعالى أو الممكن حال وجوده شيء مقدور له تعالى، فينتج أنّ الممكن حال وجوده مقدور له وأورد عليه مغالطة مذكورة مع ردّها في حواشي بعض الفضلاء فلا حاجة لإيرادها هنا فوجد الأوّل، وبقاء الثاني بقدرته تعالى، وهذا ردّ على من زعم أنّ الحادث محتاج إلى الفاعل القادر حال حدوثه دون بقائه، والاً لزم تحصيل الحاصل إذ إيجاد الموجود محال، وتأثير القدرة هو الإيجاد وأجابوا عنه بأن المحال إيجاد الموجود بوجود سابق، وهو غير لازم بل إيجاده لوجود هو أثر ذلك الإيجاد مع أنّ هذا مبنيّ على أنّ تأثير القدرة الإيجاد فقط، وليس كذلك لجواز أن يكون الإعدام بعد الوجود فالأحسن أنّ معنى أنه مقدور أنّ الفاعل، إن شاء أعدمه وإن لم يشأ لم يعدمه كما مرّ، وقيل لما رأى بعض المتكلمين أنّ عدم احتياج الباقي في بقائه شنيع قالوا إنّ الجواهر لا تخلو عن الإعراض، والعرض لا يبقى زمانين فلا يتصوّر الاستغناء عن القادر في كل أوان، وهذا مما أنكره كثير من المتكلمين على الأشعري، وقالوا إنّ إدّعاء مثله
في الأعراضى القارّة مكابرة في المحسوس اللهم، إلا أن يقال إنّ المراد إنه ليس له بحسب ذاته بقاء واستمرار، وبقاؤه بالعرض إستناداً لما يقوم به كالجأع المائل إذا استند إلى جدار منى فارقه سقط. قوله:(والممكن حال بقائه) لأنّ المحققين على أنّ علة الاحتياج الإمكان لا الحدوث كما هو مقرر في الكلام قيل إنما أفرد المصنف الممكن بالذكر، وكان يكفي أن يقول الحادث حال حدوثه، وبقائه إشارة إلى صفاته تعالى فإنها ممكنة مع قدمها لكن كونها مقدورة في غاية الإشكال لما تقرّر من أنّ أثر المختار لا يكون الا حادثا، ولذا اضطروا إلى أنه تعالى موجب بالذات في حق الصفات كما كتب الكلام، وقيل عليه أيضاً إنّ صفاته
ممكنة فيلزم كونها مقدورة حال بقائها، وقد فسر القادر بالذي إن شاء فعل، وإن شاء لم يفعل، وحاصله صحة الفعل والترك، وهي يمقتضى ذاته فلا يصح فيها الترك إلا أن يريد المصنف رحمه الله بالممكن الحادث، لكنه خلاف ما يقتضيه سياقه، إذ لو كان كذلك قال حال حدوثه وبقائه. ا! دول الذي ارتضاه المحققون من المتكلمين كما قاله الإمام في الأربعين، أنّ صفات الله تعالى ممكنة لذاتها واجبة الوجود لوجوب الذات، وحاصلة أنّ الصفات واجبة للذات لا بالذات، أي واجبة لأجل الذات المقدّسة لا أنّ ذات الصفات اقتضت وجوب وجود نفسها فتكون ممكنة في حد نفسها معللة بالذات القديمة، لكن يجب أن تكون الذات موجباً بالنسبة إليها مختارا بالنسبة لما سواها، وإلا لزم حدوثها بناء على ما تقرّر من أنّ الصادر عن المختار حادث البتة، وقوله في التفسير الكبير أن الذات المقدّس كالمبدأ للصفات أورد عليه إنّ ظاهر التشبيه أنها ليست مبدأ لها، وإذا لم تكن مبدأ لها لم تكن الصفات ممكنة بل واجبة فيتعذد الواجب وهو لا يجوز، وأجيب بأن المتبادر من الميدأ هو الموجد بعد العدم والصفات ليست مسبوقة بالعدم، إلاً أنها تقتضي الذات وتحتاج إليها وتتوقف عليها فالذات بالنسبة لها كالمبدأ، وإن لم تكن مبدأ حقيقة، وأمّا تعلق القدرة وشمولها للصفات الذاتية فاختلفوا فيه على ما أشار إليه في شرح المقاصد، فقيل تتعلق بها والإيجاب لا ينافي المقدورية بل يحققها، والاختيار بمعنى إن شاء فعل، وإن شاء لم يفعل لا ينافيه أيضاً كط مرّ، وقيل إنه قد يفسر شمول قدرته بأنّ ما سوى الذات والصفات من الموجودات واقع بقدرته فتدبر. فوله:(وأنّ مقدور العبد مقدور الله) المراد بمقدوره الفعل الصادر عنه باختياره وقدرته الكاسبة له مقدور الله أي تتعلق به قدوة الله المؤثرة في إيجاده، وهو مذهب الأشعريّ، ولا يلزمه تعنق قدرتين بمقدور واحد لأنّ المؤثر قدرة الله فقط، والمحذور توارد مؤثرين متساوين ولا يلزمه الجبر أيضاً، لا يقال التأثير معتبر في القدرة لما مرّ من تعريفها بأنها صفة تؤثر وفق الإرادة، لأنا نقول الأشعريّ رحمه الله قسم القدرة إلى المؤثرة والكاسبة، وما ذكرتم تعريف القسم الأوّل لا مطلق القدرة، ومن هنا تبين أنّ معنى الكسب الذي يثبتة الأشعريّ هو تعلق القدرة والإرادة الذي هو سبب عاديّ لتقدير الله تعالى وخلقه في العبد، وأفعال العباد دائرة بحسب الاحتمال العقلي بين أمور.
الأوّل: أن يكون حصولها بقدرته تعالى وإرادته من غير مدخل لقدرة العبد.
والثاني أن يكون حصولها بقدرة العبد وارادته من غير مدخل لقدرة الله عز وجل وإرادته
فيها، أي بلا واسطة إذ لا ينكر عاقل أنّ الأقدار والتصكين مستندان إليه تعالى، إمّا ابتداء أو بواسطة.
والثالث أن يكون بمجموع القدرتين، وذلك بأن يكون المؤثر قدرة الله تعالى بواسطة
قدرة العبد أو بالعكس، أو يكون المؤثر مجموعهما من غير تخصيص لإحداهما بالمؤثرية،
والأخرى بالآلية ذهب إلى كل من الاحتمالات ما خلا الاحتمال الثاني، من محتملات الشق الثالث طائفة، والأخرى بالآلية ذهب إلى كل من الاحتمالات ما خلا الاحتمال الثاني، من محتملات الشق الثالث طائفة، والأوّل مذهب الأشعرية، والثاني مذهب المعتزلة، والثا اث مذهب الاستاذ الإسفرايني، والكلام عليه مبسوط في الكتب الكلامية، وقوله لأنه شيء إلخ إشارة إلى القياس الذي ذكرناه. قوله:(والظاهر أق التمثيلين إلخ) المراد بهما ما في قوله {كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَاراً} إلخ وقوله {أَوْ كَصَيِّبٍ} إلخ وإنما جعله الظاهر لأنه أبلغ وأقرب من كونه مفرقاً ومفردا، وعرفه ضمناً بتشبيه هيئة منتزعة من عدّة أمور متلاصقة تلاصقاً معنويا حتى صارت كشيء واحد بمثلها، ومثل له بقوله تعالى {مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ} [الجمعة: 5] إلخ لظهور التركيهب فيها
كما سيأتي تفسيرها مع المناسبة لما هنا لأنها في حق اليهود وأكثر المنافقين منهم، وحمل التوراة قراءتها وحفظها، وقوله {لَمْ يَحْمِلُوهَا} [الجمعة: ا] لتنزيل حملهم لها منزلة العدم كما في قوله تعالى: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ} [الأنفال: 17] أو المراد لم يلتزموا حقها كما في قوله تعالى {وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ} [الأحزاب: 72] فحالهم مع التوراة التي هي كتاب عظيم فيه نور وهدى نافع مع عدم الانتفاع به لجهلهم وحمقهم، كحال حمار يحمل حملاً ثقيلاً من الكتب النفيسة، ولا يناله منها إلا التعب والكد، وفي ذكر الأسفار هنا لطف ظاهر لإيهام أن يكون جمع سفر بفتحتين، مع أنه المتعارف في التعبير عنها كما لا يخفى. قوله:(والنرض منهما إلخ) أي المقصود والمعنى المراد، وليس المراد ما يترتب على الشيء حتى يفسر بالحكمة والمصلحة، لأنّ أفعاله تعالى لا تعلل بالأغراض! ، كما قيل، فالمراد من التشحيه فيهما على تقدير التركيب تشبيه حالتين بحالتين، والمشبه في الأوّل مجموع أحوال المنافقين في تحيرهم واضطرابهم مع إظهارهم الإيمان حفظاً لدمائهم وأموالهم وذراريهم وأهلهم، وزوال ذلك عنهم سريعاً بإفشاء أسرارهم وافتضاحهم المؤدّي إلى خسارة الدارين، والمشبه به حال المستوقد نارا مضيئة له فانطفأت، ووجه الشه صلاح ظاهر الحال الذي يؤول لخلافه، وفي الثاني حالهم في الشدّة ولباس إيمانهم المبطن بالكفر المطرّز بالخداع حذر القتل، بحال ذوي مطر شديد ببرق ورعد يرقعون خروق آذانهم بأناملهم حذر الهلاك، ووجه الشبه وجدان ما ينفع ظاهره وفي باطنه بلاء عظيم، والمكابدة المقاساة وأخذته السماء بمعنى أحاط به مطرها وغلبه، وفي قوله: من الحيرة والشدة لف وير
مرتب، فالحيرة للتمثيل الأوّل، والشدّة للتمثيل الثاني، ويحتمل رجوع كل منهما لكل منهما، وبحال معطوف على بما يكابد وما مصدرية أو موصول، وطفئت مجهول مهموز اللام، وفي نسخة انطفأت، وفي أخرى انطفت بدون همز بإبدالها وإجرائه مجرى المعتل، والقياس غيره. قوله:(من قببل التمثيل المفرد إلخ) يعني أنه من تشبيه المفردات بالمفردأت، وهو المسمى بالتشبيه المفرق، ولما كان قوله: المفرد يوهم أنه لا تعدد فيه فسره بقوله: وهو أن أخذ أشياء إلخ، أي أن تأخذ أشياء متعدّدة من غير تركيب فتشبهها بمثلها. كما سنبينه لك، وفي الكشاف أنه إذا كان التشبيه مفرقا فالمشبهات مطوية على سنن الاستعارة، كقوله {وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ} ! سورة فاطر: 12] الآية. ثم قال: فإن قلت الذي كنت تقدره في المفرق من التشبيه من حذف المضاف وهو قولك أو كمثل ذوي صيب هل تقدّر مثله في المركب منه، قلت لولا طلب الراجع في قوله {يَجْعَلُونَ أَصْابِعَهُمْ فِي آذَانِهِم} ما يرجع إليه لكنت مستغنيا عن تقديره، لأني أراعي الكيفية المنتزعة من مجموع الكلام، فلا عليّ أولى حرف التشبيه مفرد يتاتى التشبيه به أم لم يله إلخ، والمراد أنه على التفريق طوى ذكر المشبهات، كما في الاستعارة المصرّحة لطيّ ذكر المشبه فيها لفظا وتقديرا قطعاً، وقد يجري التشبيه على سننها وان فرق بينهما بوجهين، الأوّل أنّ المتروك في التشبيه منويّ مراد، وفي الاستعارة منسيّ بالكلية، كما مرّ تحقيقه في الاستعارة التمثيلية في قوله {خَتَمَ اللهُ} الآية من أنّ المعاني قد يقصد إليها بألفاظ منوية غير مقدرة في النظم، الثاني أنّ لفظ المشبه به في التشبيه مستعمل في معناه الحقيقيّ، وفي الاستعارة في معنى المشبه حتى لو أقيم مقامه صح أصل المعنى من غير فرق، وإن فاتت المبالغة، وإذا قدّر فربما انتظم مع المذكور بلا تغيير كما هنا، وقد يحتاج إلى التغيير كما في قوله تعالى {وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ} [فاطر: 2 ا] على ما فصل في محله ثم إنه ذكر أنه على التفرين يحتاج إلى التقدير دون التركيب، وظاهره أنه يقدّر كمثل ذوي صيب إلا أنّ تعليله بطلب الضمير للمرجع يقتضي تقدير ذوي صيب، وأمّا تقدير مثل فلأنّ المقصود تشبيه صفة المنافقين بصفة ذوي الصيب، فتقديره أو في بتأدية هدّا المعنى، وأشد ملاءمة مع المعطوف عليه، وهو كمثل الذي إلخ. ومع المشبه وهو مثلهم وان صح أن يقال أو كذوي صيب كقوله تعالى {إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاء أَنزَلْنَاهُ} [يونس: 24] إلخ وقيل تقدير المثل أمر مسلم يقتضيه العطف على السابق وينبني عليه تقدير ذوي لأنّ إضافة القصة إلى كل من الأجزاء التي تدخل فيها صحيحة، لكن إضافتها لأصحابها حقيقية ولغيرهم مجازية لما ذكر في قوله {مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ} [البقرة: 261] وقد قيل عليه ما فيل فمن أراده فعليه بالنظر فيه، وهذا كله مما لا كلام
فيه، وإنما الكلام في أنّ المصنف رحمه الله ترك حديث التركيب والتفريق بين التركيب والتفريق، فأمّا أن يكون اكتفاء بما قالوه مع الإشارة إليه
سابقاً حيث اقتصر على تقديره، وامّ أن يكون تركه لعدم ارتضائه له لما فيه من الخفاء، مع أنّ طيّ ذكر المشبهات غير ظاهر لأنّ المشبه في التمثيلين مصرّح به في قوله أوّلاً مثلهم، لأنّ المثل بمعنى القصة، والحال الشاملة لجميع أحوال المنافقين المشبهة إجمالاً، ولا يلزم في التفريق التصريح بالطرفين تفصيلَا كام قالوه في اللف والنشر التقديري، على أنّ إجماله في قوّة التفصيل لقرب العهد به، فكيف يقال أنه طوى فيه ذكر المشبهات على أنه لا مانع من إبقاء الكلام على حاله من غير تقدير أصلاً، وما ذكره قدس سرّه من نية الألفاظ في التمثيلية مز تحقيقه، إلا أنّ قياسه الاستعارة على التشبيه قياس مع الفارق فإنّ المشبه يطوي ذكره كثيراً بخلاف أجزاء اللفظ المستعار، فتأييد مدعاه به غير تامّ. قوله:{وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى} [فاطر: 9 ا] هذا من قبيل التشبيه المفرّق وهو نظير لما نحن فيه من وجهين التفريق وتكرير التشبيه، ولذا أعاد لا النافية فشبه الكافر الضال بالأعمى، والمؤمن المهتدي بالبصير، ثم شبهه مرّة أخرى فقال {وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاء وَلَا الْأَمْوَاتُ} [فاطر: 22] والظلمات والنور، الباطل والحق، والظل والحرور، الثواب والعقاب، وقيل الأعمى والبصير مثلان للصنم والله عز وجل كما سيأتي في سورة فاطر. قوله:(وقول امرىء القيس) بن حجر الكنديّ الشاعر الجاهلي المشهور من فصيدة طويلة أوّلها:
ألا عم صباحا أيها الطلل البالي وهل يعمن من كان في العصر الخالي
وهل يعمن من كان أقرب عهده ثمانين عاماً في ثماني أحوال
كأني بفتخاءالجناحين لقوة على عجل منها أطاطىءشملالي
تخطة! حران الأنيعم بالضحا وقد حجرت منها ثعالب أرآل
كأنّ قلوب الطيررطبا ويابسا لدى وكرها العناب والحشف البالي
وضمير وكرها لفتخاء وهي العقاب المذكور أوّلاً، وهو شاهد للتشبيه المفرد، حيث شبه قلوب الطير الطرية وقلوبها المقددة على اللف والنشر المرتب بالعناب في الشكل واللون، وبحشف التمر وهو الردىء أليابس منه، والعقاب من سباع الطير ويوصف بمحبة أكل اللحم دون قلوب الطير، وقال ابن قتيبة: قلوب الطير ألذ ما فيها فهي تأني بها لتزق فراخها ولكثرتها يبقى منها الرطب واليابس وهو الظاهر، وفي كامل المبرّد أنّ هذا البيت عند الرواة أحسن ما قيل في تشبيه شيئين مختلفين في حالين مختلفتين بشيئين كذلك، ورطباً ويابسق حالان من قلوب الطير والعامل فيهما كأنّ نها بمعنى أشبه، ولدى وكرها حال أيضا، والعناب بالرفع خبر كأنّ وهو بزنة رمّان ثمر معروف. قوله:(بأن يشبه في الأوّل ذوات المنافقين إلخ) الجارّ والمجرور متعلق بقوله يمكن أو بجعلهما وعبر بالذوات هنا، وبالأنفس فيما سيجيء تفنناً، واشارة إلى أنه لا بد منه في التشبيه المفرّق لأنهم المشبهون بالمستوقدين، وأصحاب الصيب
بخلافه على التركيب فإنّ النظر فيه إلى المجموع فلذا لم يتعرّض له وقد بيناه لك أوّلاً مع ما فيه، وقوله: وإظهارهم الإيمان بإستيقاد النار عدل، عما في الكشاف من قوله وإظهاره الإيمان بالإضاءة لما قيل من إنه اعترض عليه بأنه يخالف ما قدّمه، من أنّ المشبه بالإضاءة هو الانتفاع بالكلمة المجراة على ألسنتهم، ولا يناسب ما بعده من قوله أنّ المشبه بإنطفاء النار هو انقطاع الانتفاع، إذ المناسب له أن يشبه انقطاع الإظهار بالإنطفاء، وإن أجيب عنه بأن المراد هنا الإضاءة المتعدّية وهي ثمة لازمة، أو أراد بإظهار الإيمان أثره، وهو الانتفاع به، فمعناه شبه المنافق أي نفاقه وإظهاره الإيمان بالمستوقد أي بإسنيقاده، وشبه أثر الأوّل من الانتفاع به، فمعناه شبه المنافق أي نفاقه وإظهاره الإيمان بالمستوقد أي بإستيقاده، وشبه أثر الأوّل من الانتفاع باثر الثاني من الإضاءة، وشبه انقطاع الانتفاع بانقطاع الإضاءة، ويؤيد هذا أنّ تشبيه ذات المنافق بذات المستوقد ليس مقصوداً في الآية قطعاً، والحمل على التوطئة بعيد، فحينئذ للمستوقد إستيقاد واستضاءة وخمود نار، وللمنافق إظهار إيمان وانتفاع به، وانقطاع بالموت وغيره، وهذا زبدة ما في الشروح مما ارتضاه الشريف المرتضى قدس سرّه، وقيل للمستوقدين ذوات، وثلاث حالات الاستيقاد، واضاءة نارهم ما حولهم، وانطفاء نارهم، وكذا
للمنافقين ذوات وثلاث حالات فإظهار الإيمان بإزاء الاستيقاد، وحقن الدماء وسلامة المال والأولاد، ونحوها من المنافع الحاصلة بإظهار الإيمان بإزاء الإضحاءة، وزواله بإزاء إنطفاء النار فشبهت الأربعة بالأربعة، ووجه الشبه في الأوّل الوقوع في حيرة ودهشة، وفي الثاني التسبب لحصول المراد، وفي الثالث كونه خيراً لمباشر الفعل، وفي الرابع الفناء بسرعة، والمصنف رحمه الله شبه إظهار الإيمان بالإستيقاد، والزمخشريّ بالإضاءة، وقد قيل عليه أنّ الظاهر أن يشبه إظهار الإيمان بالاستيقاد والانتفاع بالإضاءة كما مرّ، ولذا عدل عنه المصنف وربع القسمة إلا أنه شبه زوال اننفع بإطفاء النار، والمناسب أن يجعل المشبه الإزالة والمشبه به الإنطفاء.
6هول لا يرد ما أورده بعد النظر التامّ ولا مغايرة بين ما ذكره المصنف رحمه الله، وبين ما
في الكشاف إلا باختلاف العبارة، وهما في الما! واحد، وتوضيحه أنّ المستوقد هنا بمعنى الموقد، وإيقاد النار إشعالها بحطب ونحوها ويترتب عليه إضاءتها أي جعلها أو كونها مضيثة منتشرة الضوء، ويترتب على هذا الاستضاءة التي هي أثرها، ومطاوعها وهي عين الانتفاع بها، ثم تضمحل النار والنور، ويبدّل الخير بالشرور، وهذا ما في جانب المشبه به، وفي المشبه على ترتيبها المنافق ينطق بقوله ولمنا} وكلمة الشهادة، فيترتب على نطقه إظهار إيمانه بدلالة فحواها، ثم يترتب على هذا الإظهار الانتفاع بصيانة الأموال والدماء ونحوها، ثم ينقلب نفعه ضرّاً بافتضاحه واستحقاقه العقاب في الدارين فتخيب آماله، وتنعكس أحواله، فإذا عرفت هذا
ظهر لك بلا اشتباه أنّ إظهار إيمانه في لحقيقة بدلالة الكلمة المجراة لا أنه نفسها، والمشبه بالإيقاد حقيقة إجراء الكلمة، فالمشبه بالإضاءة إظهار الإيمان كما في الكشاف، إلا أنه لقرب الإيقاد من الإضاءة وتلازمهما يجوز أن يقال شبه إظهار الإيان بالإيقاد، والانتفاع بالإضاءة، وان كان استضاءة لأنهما كشيء واحد كما قيل في التعليم والتعقم، فسقط ما أورد على المصنف رحمه الله في الإطفاء والانطفاء، والعجب مما توهم من منافاة قول الزمخشريّ هنا شبه إظهار الإيمان بالإضإ ءة لقوله: أوّلاً المراد ما استضاؤوا به قليلاً من الانتفاع بالكلمة المجراة على ألسنتهم، وبين الاستضاءة والإضاءة بعد ما بين المشرقين، والباء في قول المصنف رحمه الله بإهلاكهم سببية متعلقة بزوال، وفي قوله بإطفاء متعلقة بيشبه السابق لا بمثله مقدرا ولا بإبقاء. قوله:(وفي الثاني أنفسهم بأصحاب الصيب إلخ) معطوف على قوله في الأوّل، وأنفسهم بالرفع معطوف على قوله ذوات أ، ئب فاعل يشبه المجهول، وبأصحاب معطوف على قوله بالمستوقدين، وأصحاب إشارة إلى ذوي المقدّر، وقوله حذراً إلخ، لنكايات جمع نكاية من نكأت بالهمز، ونكيت معتل الآخر وهي ما يؤلمهم ألماً شديدا، وطرق يطرق من باب كتب إذا أتى ليلَا، والمراد به ما يصيب الكفرة من الإذلال والإهلاك، فشبه حذرهم منهم بسدّ الآذان للإتقاء به، وقوله (من حيث إلخ) هو وجه الشبه، وانتهزوها بالزاي المعجمة بمعنى اغتنموها وبادروا لها بسرعة، وفرصة كغرفة أصل معناه النوبة والشرب، ثم شاع في كل مطلوب يبادر له خثية فواته وهو منصوب على الحال أو التمييز، أو هو مفعول ثان لانتهز بتضميته معنى التصيير والإيجاد، وأصل معنى الانتهاز الدفع، ثم قيل انتهز بمعنى نهض وبادر، وخطا بضم الخاء مقصور جمع حظوة، ومتقيدين مجاز أو كناية بمعنى واقفين، وحراك بفتح الحاء المهملة بمعنى حركة، وقوله: خفقة بمعنى لمعة، وخفي بمعنى فتر هنا من خفي البرق كرمى إذا لمع بضعف، وفي قوله: يمكن إشارة إلى مرجوحية التفريق بالنسبة إلى التركيب لأنه أبلغ كما صرّح به الشيخ ويس هـ من أهل المعاني. قوله: (وقيل شبه الإيمان إلخ) هذا تفسير لقوله {أَوْ كَصَيِّبٍ} إلخ على أنّ التشبيه مفرّق أيضاً وقائله قيل: إنه الراغب في تفسيره، وقريب منه ما اختاره السمرقنديّ رحمه الله تعالى فقال: جعل الدعاء إلى الإسلام كالصيب وما فيه من الجهاد
كظلمة الليل، وما فيه من الغنيمة كالبرق، إشارة إلى أنه عليه الصلاة والسلام دعاهم إلى الإسلام الذي هو سبب المنافع في الدارين حقيقة بمنزلة الصيب الذي هو سبب المنفعة حقيقة إلا أنّ في الإسلام نوعاً شديداً من الجهاد والحدود وغيرها، بمنزلة ظلمة الليل والسحاب، وصوت الرعد مع الصيب، وفي من الغنيمة والمنافع كالبرق هناك، فجعل المنافقون أصابعهم في آذانهم من سماع ما في
الإسلام من الشدائد، كما جعل من ابتلي بهذا الصيب في ليلة مظلمة في مفازة أصبعه في أذنه من الصواعق، يكاد البرق يخطف أبصارهم أي ما في الإسلام من الغنيمة والنفع، ومعناه أنّ المنافقين إذا رأوا خيراً في الإسلام وغنيمة مشوا إليه، وإذا أظلم عليهم بالشدائد قاموا متحيرين مغمومين وصدوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. اهـ. وتحقيقه بعد العلم باختصاصه بالمنافقين أيضا لا عمومه للكافرين، وان ذهب إليه بعض المفسرين، والفرق بينه وبين ما قبله مع التفريق وتشبيه أحوال المنافقين فيهما أنه على ما قبله الصيب بإزاء إيمان المنافقين، والظلمات كفرهم المضمر، والرعد والبرق المخوّف خداعهم المصير النفع ضرّا، ونفاقهم لدفع المضرّة عنهم بإزاء جعل الأصابع في الآذان مع عدم إفادته، وتحيرهم في جهلهم بمصادفة برق يمشون فيه ثم يقفون، وأمّا على هذا فالصيب بإزاء الإيمان المحقق الخالص، والقرآن المجيد وما يفيده من المعارف التي يحيا بها كل قلب سليم حياة أبدية، كما أن من الماء كل شيء حيّ، وكون المنافقين أصحاب هذا الصيب مع عدم حصوله لهم، ولذا لم يضف إليهم في العبارة لتمكنهم منه وتلبسهم بما يضاهيه، ولأنهم قد أظلهم زمان حصوله كما يشير إليه قوله وسائر ما أوتي الإنسان دون ما أوتوا، والظلمات بإزاء الشبهات والرعد، اأس عد لتبشيره برحمة الغيث، والوعيد لإنذاره بنقمة الصواعق وما فيه من الآيات القرآنية ونعوته ألباهرة أي القاهرة للعقول بإزاء البرق الخاطف للأبصار أي الصارف عما سواه لو هداهم الله، وانصرافهم عن الاستماع والإذعان بإزاء سدّ الآذان عما يخاف من الوعيد واتقائه بما لا يفيد فإنّ الله محيط بالكافرين، وإنما أخره ومرضه لما في جعلهم أصحاب هذا الصيب من البعد الذي هو مع التقدير كالألغاز، وبعد تشبيه الوعد بالرعد، وتشبيه الآيات بالبرق، ومما ذكرناه علم غفلة من قال: إنه لم يتعرّض للتشبيه في قوله {يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ} وأنه يمكن أن يقال شبه قرب صرف الآيات أنظارهم عما كانوا يصرفونها إليه من حطام الدنيا والأباطيل بخطف البرق أبصارهم، وحياة الأرض بهجتها بنباتها وارتبكت بها الضمير في ارتبكت عائد على ما، وأنثه باعتبار معنى الشبه، وضمير بها للمعارف أو للمذكورات بأسرها، والمعارف جمع معرفة وهي معروفة، وفي بعض الحواشي صححه معاون بواو ونون في آخره جمع معونة من العون وهو اأظهير وفسره بالعون بتهيئة آلات المعارف، وارتبك بمعنى اختلط،
يقال ربكه ولبكه إذا خالطه ومازجه، والمبطلة وفي نسخة الطائفة المبطلة، وهم أهل البدع والضلالة المحاولون لإبطال الحق، واعترضت دونها أي حال بينها وبين الحق، والباهر الظاهر العجيب ويهوله بالتخفيف والتشديد أي يخوّفه. قوله:(وهو معنى قوله الله محيط إلخ) أي عدم خلاصهم مما يخافون، وقوله واهتزازهم أي وشبه اهتزازهم وهو في الأصل توالي الحركات في محل واحد، ويكنى به عن النشاط والفرح كما في قول ابن الرومي رحمه الله:
ذهب الذين يهزهم مدّاحهم هز الكماة عوالي المرّان
وهو المراد هنا ومن فسره بالحركة فقد قصر، وقوله: يلمع لهم من رشد بضم فسكون
أو بفتحتين ضد الغيّ، ولم! فه استعارة من لمعان البرق لظهوره ظهورا لا يثبت ويزول سريعا، ورفد بكسر الراء المهملة وسكون الفاء يليها دال مهملة معناه العطاء والشيء المعطى، وتطمح تنظر أو تنتظر يقال طمح بعينه إذا شخص بها، والمطرح موضع الطرح ثم عمّ لكل موضع، وتوقفهم في الأمر ترددهم فيه وهو مجاز من الوقوف شاع في هذا الصعنى إذا تعدّى بفي، وتوقف عن الأمر أمسك عنه ووقف الأمر على كذا علقه عليه، ووقف الميراث إلى الوضع أخره، فيختلف معناه باختلاف تعديه، وتعن يكسر العين المهملة وتشديد النون مضارع عن بمعنى ظهر أو طرأ، وعرض وبتوقفهم متعلق بشبه كقوله بمشيهم، وقوله ونبه أي نبه الله المؤمنين أو نبه كل من يتنبه وهو مما ينبغي التنبه له، وإن لم ينبهوا عليه لأنّ هذا التنبيه من تتمة التشبيه المفرّق، وارتباطه إنما هو به بل بالقيل الأخير ولولا هذا لم يكن لذكره وتأخيره إلى هنا محلى، وبيانه أنه لما كان في التشبيه على هذا إيماء إلى العقائد الحقة والمعارف الإلهية التي مدت نعمها على موائد الوجود
وحرم ذوقها هؤلاء المنافقون كما أريناكه آنفاً فهم تحت سماء مغدقة على رياض مخصبة، وقد أحدثوا فانتجعوا بصرفهم الحواس عن أعمالها فيما حقها أن تصرف له وجعلها كالعدم، فنعى الله ذلك عليهم وقال: إنهم تعاموا وتصاموا عمن لو شاء أعماهم وأصمهم حقيقة، وقوله با احالة إلخ المراد بها الصمم والبكم والعمى، وضمير يجعلونها للأسماع والأبصار، وضمير جعلهم مفعول أوّل، وبالحالة مفعول ثان، أي ملتبسين بها، أو ظرف لغو متعلق به، وقد جوّز في يجعلونها أن يبني للفاعل وللمفعول، فقيل: إن التنبيه من كلمة لولا الامتناعية وظاهره أنّ قوله {وَلَوْ شَاء} إلخ في شأن المنافقين، والظاهر أنه تتميم لأصحاب الصيب الممثل بهم، ويجعلون على البناء للمفعول، وضمير المفعول للحالة والاً لزم الاقتصار على أحد مفعولي جعل الذي هو من أفعال القلوب، والمعنى بالحالة ال! ي يجعلون لأنفسمهم تلك الحالة على أن يكون تعلق الجعل بالمفعول الأوّل القائم مقام الفاعل، أو بالثاني. والمراد به الحالة التي هم عليها على الحذف، والإيصال وفيه تكلف، أو! لى البناء
للفاعل وهو الظاهر، والمعنى الحالة التي يفعلونها فحينئذ لا يكون الجعل من أفعال القلوب، ولا يلزم المحذور المذكور، اهـ وفيه ما لا يخفى فإنّ التنبيه إنما هو من التذييل يهذه الجملة لا من لو، وجعل يجعلى مبنية للفاعل وليست مما يتعدّى للمفعولين بل لواحد، وهو كثير فيها لأن لها معاني، فتكون بمعنى اعتقد، وبمعنى صير، وهي على هذا ملحقة بأفعال القلوب، وأمّا بمعنى أوجد وأوجب فيتعدّى لواحد، وهو المراد هنا فلا حاجة لما ارتكبوه من التعسف. تم. تنم الجزء الأول ويليه الجزء الثاني أؤله فوله تعالى {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ} .
وفاعله ضمير يرجع إلى الله أو مبني للمفعول والمعنى واحد أي ادّعاء ذلك بالرأي والتشهي كما قرّرناه لك، وتحريم المجتهد وتحليله لشى من هذا القبيل لأنه لأخذه من النمى، واستناده إليه قائم مقامه فكأنه هو، وهذا جواب عن قوله ومّ المشركين إلخ ولم يتعرّض لجواب الأوّل لشهرته في علم الكلام لأنّ استحالة التمكين من الحرام ممنوعة لأن قبح الحرام باعتبار إضافته إلى من اتصف به لا إلى من أوجده. وقوله:(واختصاص إلخ) القرينة هي إسناده إليه تعالى ومدحهم بالإنفاق منه ووصفهم بالتقوى، وهذا ليس محل النزاع بيننا وبينهم مع أنّ في من التبعيضية المشيرة إلى أنّ الحلال بعض الرزق لا كله ما يومىء إلى عمومه وهذا ردّ لما استدلوا به معقب بدليل المخالف لهم. قوله:(وتمسكوا إلخ) تمسك بكذا بمعنى أخذ به وتعلق تجوّز به عن الاستدلال وفيه إشارة لقوّته ووجهه أنه سمى ما حرّم رزقا أو بيته به، وان قيل عليه أنه لا يدلّ على أنه رزق لمن حرّم عليه فليكن رزقا لمن أحل له، ولذا استدل به بعض المعتزلة إلا أنه يكفي لنا دلالة ظاهرة فهو عليهم لا لهم وعمرو بن قرّة بضم القاف وتشديد الراء المفتوحة لأنّ بعدها هاء تأنيث.
قال ابن حجر في الإصابة: أنه ذكره غير واحد في الصحابة، وأسندوا له هذا الحديث
ولم يزد على ذلك فيه، ثم ذكر هذا الحديث وهو في سنن ابن ماجه عن صفوان بن أمية رضي الله عنه قال كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ جاء عمرو بن قرّة فقال يا رسول الله إنّ الله كتب عليّ الشقوة فلا آراني أوزق إلا من دفي بكفي، فأذن لي في الغناء من غير فاحشة، فقال عليه الصلاة والسلام: " لا آذن لك ولا كرامة ولا نعمة كذبت يا عدوّ الله لقد رزقك) إلخ. مأ. ذكره المصنف رحمه الله وقوله يا عدوّ الله يشعر بأنه كافر أو منافق، وهو مخالف لما مرّ إلا أن يقال أنه لزجره، وفيه دليل على حرمة التكسب بالغناء. قوله:(لم يكن المتنذي به إلخ) متفعل من الغذاء بالذال المعجمة لا بالمهملة لاختصاصه بطعام أوّل النهار فلا (يناسب ما هنا وهذا هو الدليل العقلي لأهل السنة أتى به بعد الدليل النقلي أي لو لم يكن الحرام رزقا كان المتغذي به طول عمره غير مرزوق، والنص على أنّ كل دابة مرزوقة يبطله وقد أجيب عن هذا من طرفهم تارة بالنقض بمن مات ولم يرزق حراما ولا حلالاً، فما كان جوابكم فهو جوابنا وأخرى بأنّ معنى الآية ما من دابة متصفة بالمرزوقية، كما قالوا في قولهم كل دابة تذبح
بالسكين أي كل دابة تتصف بالمذبوحية، فيخرج السمك وقد قيل إنّ هذا يتوقف على وجود من لم يتغذ طول عمره بحلال مّا، وأن لا يكون له في الأرض مناط، وهو لا يكاد يوجد على أنّ الآية إنما تدل على أنه يسوق الرزق إلى كل دابة ويمكنها منه لا أنها تتغذى بما سيق لها بالفعل.
(وقد سنح لي هنا نكتة) وهي أنّ الدابة، وإن عمت إلا أنّ المتبادر منها الحيوانات غير الناطقة، ففيها توبيخ لمن يهتم بتدبير المعيشة، فكأنه قيل له ما لك تتعب فيما يتيسر للحيوان بلا تعب. قوله:(وأنفق الشيء وأنفذه إلخ) أنفذه بالدال المهملة، والمراد بالاخوّة توافقهما في الاشتقاق، وهو هنا الاشتقاق الأكبر، وهو الاشتراك في أصل المعنى، وأكثر الحروف مع التناسب في الباقي مخرجا، ولذا اقتصر على الفاء والعين كنفي ونفع وأمثالهما والذهاب يكون بمعنى المضيّ والضياع. وقوله:(والظاهر إلخ) يعني به أنّ الظاهر منه حمل الإنفاق على ما يشمل أنواعه فرضاً ونفلَا، ومن حمله على الزكاة كما أخرجه ابن جرير عن ابن عباس رضي الله عنهما، وكذا من فسره بالنفقة على الأهل فيحتمل أنه لم يرد التخصيص، وإنما اقتصر على كمل أفرادها وأمّا أن يريده بقرينة الصلاة المقرونة بالزكاة في كثير من الآيات والشيء بالشيء يذكر والقرينة أمر ظنيّ لا قعلعيّ حتى يقال: مع القرينة المذكورة كيف يحمل على العموم. وقوله: (في سبيل الخير) وقع في نسخة بدله سبيل الله وهما متقاربان، وفي شرح سير محمد الكبير للسرخسي سبيلَا لله جهة القربة والطاعة، فلو أوص بثلث ماله في سبيل الله صرف في طاعة وقربة لأنّ كل طاعة سبيل ألله كما في الحديث:" من شاب شيبة في سببل الله كانت له نورا يوم القيامة "(1) أي في الطاعة لرواية في الإسلام، وهو إن أطلق يتبادر منه الغزو والجهاد وكون الزكاة أفضل أنواع الإنفاق لأنها فرض، فتكون كثر ثواباً ولذا عدّت من أصول الدين، وشقيقتها أختها والمراد بها الصلاة لاقترانها بها وكونها بمنزلتها في العبادات البدنية لاستتباعها لغيرها، وقولهم باب الصلاة باب الزكاة، وفلان يقيم الصلاة ويؤتي الزكاة لا يستشهد به هنا لتفرّعه عما ورد في التنزيل فتأمّل. قوله:(وتقديم المفعول الخ) في الكشاف أنه دلالة على
بسم الله الرحمن الرحيم
قوله: (لما عدّد فرق المكلفين الخ) أي المؤمنين والكفار والمنافقين السابق ذكرهم من أوّل السورة إلى هنا، وخواصهم ما اختص به كل فريق منهم من الاهتداء بالقرآن، وإنفاق الحلال والإيمان بالغيب والفلاح والفوز في الدنيا، والعقبى في المؤمنين، واصرار غيرهم على الكفر وتغشية قلوبهم، وسوء عقباهم في الكفرة وإخفاء الكفر والخداع، وضررهم العائد عليهم في المنافقين. وقوله: ومصارف أمورهم المصارف جمع مصرف من صرف المال إذا أنفقه أو من صرف الدينار بالدراهم إذا أبدله استعير هنا لما هم عليه في أعمالهم وأعمارهم أو لما يؤول إليه أمرهم من الفوز بالسعادة أو الخسران وهو ظاهر، وهذا معنى قوله في الكشاف عذد الله فرق المكلفين من المؤمنين والكفار والمنافقين وذكر صفاتهم وأحوالهم ومصارف أمورهم وما اختصت به كل فرقة مما يسعدها ويشقيها ويحظيها عند الله تعالى ويرديها ولقد أجاد في حسن تلخيصه، ويحتمل أنه طوى البيان بقوله مما يسعدها الخ، لما يرد عليه من أنه لم يذكر للمؤمنين مشقيات ومرديات ولا للكافرين مسعدات ومحظيات وإن أجيب عنه بأن المذكور صريحا للمؤمنين المسعدات ولغيرهم المرديات ويفهم من ذلك ما يقابله ضمنا فيكون الكل مذكورا للحل فإنه ردّ بأنّ الاختصاص حينئذ لا معنى له فإن المقابل لما اختص بكل فرقة ليس مخصوصا بها لوجوده في المقابل الآخر وان كان غير وارد لأن مسلكه أسلم من التكلف على أنا نقول إنه لا وجه للردّ لأن مقابل كل خاصة لم يلحظ فيه اتصاف الآخر به هنا إذ مقابل الاهتداء بنور الفرقان شامل لعدم الوقوف عليه كمن لم تبلغه الدعوة وإنفاقه الخير في الخير يقابله عدمه الشامل لمن لم ينفق أصلا ولم يقصد ذمّ مقابلتهم بذلك وكذا الصلاة وغيرها من العبادات ومسعدات الأشقياء المفهومة مما أشقاهم الله به لا يمدح به المؤمنون كما قيل:
ألم تر أن السيف ينقص قدره إذا ~ قيل إن السيف أمضى من العصى
(فلا) وجه لما قيل من أن الردّ مردود لظهور اختصاص ذلك المقابل بتلك الفرقة بملاحظة انفهامه ضمنا وكونه مفروضا غير محقق مثلاً إذا قلت الصفات المذكورة للمؤمنين مسعدات يفهم منه أنهم لو كانوا