المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌مكانة السنة ومنزلتها من التشريع الإسلامي: - حجية السنة النبوية ومكانتها في التشريع الإسلامي

[عبد القادر بن حبيب الله السندي]

الفصل: ‌مكانة السنة ومنزلتها من التشريع الإسلامي:

على هذا المعنى في اصطلاح أهل الحديث ما أثر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من قول أو فعل، أو تقرير، أو صفة خلقية.

قال العلامة السيد سليمان الندوي - وهو من علماء الأحناف الكبار في الهند وقد توفي رحمه الله تعالى-: "وأما الذين فرقوا بين الحديث والسنة فقد لاحظوا بينهما معناهما اللغوي فقالوا: إن الحديث اسم من التحديث وهو الإخبار ثم سمي به قول، أو فعل أو تقرير نسب إلى النبي صلى الله عليه وسلم. وأما السنة - فهي تبعا لمعناها اللغوي - كانت تطلق على الطريقة الدينية التي سلكها الرسول صلى الله عليه وسلم في سيرته المطهرة، لأن معنى السنة في اللغة الطريقة والسيرة كما سبق بيانه. فإن كان الحديث عاما يشمل قول النبي صلى الله عليه وسلم، وفعله، وتقريره فالسنة خاصة بأعمال النبي صلى الله عليه وسلم وفي ضوء هذا التباين الظاهري بين المفهومين نجد أن بعض العلماء يقولون أحيانا هذا الحديث مخالف للقياس والسنة والإجماع، ويقولون أحيانا إمام في الحديث، وإمام في السنة وإمام فيهما معا، فالحديث على هذا هو كل قول، أو فعل، أو تقرير نسب إلى المصطفى صلى الله عليه وسلم، وبتعبير آخر الحديث هو الرواية اللفظية لأقوال الرسول صلى الله عليه وسلم، وأفعاله، وتقريراته.

وأما السنة فهي اسم لكيفية عمل الرسول صلى الله عليه وسلم المنقول إلينا بالعمل سواء كان متواترا أو آحادا بأنه عمله النبي صلى الله عليه وسلم ثم من بعده الصحابة ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وهلم جرا، ولا يشترط تواترها بالرواية اللفظية فيمكن أن يكون الشيء متواترا عملا ولا يكون متواترا معنى، وأما المتداول بين علماء الحديث المتأخرين كما سبق فإنهما في معنى واحد، ولا يخفى ارتباط معناهما اللغوي بالمعنى الاصطلاحي وهذا واضح جلي إن شاء الله تعالى"1

ص: 91

‌مكانة السنة ومنزلتها من التشريع الإسلامي:

وأما مكانتها، ومنزلتها من التشريع الإسلامي، فلقد انتهى العلماء المحققون من السلف والخلف رحمهم الله تعالى إلى أن الحديث النبوي الشريف والذي صح حسب القواعد الأصولية حجة على جميع

1 انظر تحقيق معنى السنة ص (18) نقلا عن رسالة الأخ لقمان السلفي..

ص: 91

الأمة، وقد أجمعوا على ذلك إجماعا استناده الكتاب الكريم، والسنة النبوية.

وأما الكتاب فقوله جل وعلا في سورة النساء: {أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكاً عَظِيماً} 1

قال الإمام السيوطي: "أخرج الزبير بن بكار في الموفقيات عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن معاوية قال: "يا بني هاشم إنكم تريدون أن تستحقوا الخلافة كما استحقيتم2 النبوة ولا يجتمعان لأحد، وتزعمون أن لكم ملكا؟ " فقال له ابن عباس:"أما قولك إنا نستحق الخلافة بالنبوة، فإن لم نستحقها بالنبوة فبم نستحقها؟ وأما قولك أن النبوة والخلافة لا يجتمعان لأحد، فأين قول الله تعالى {فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكاً عَظِيماً} فالكتاب النبوة، والحكمة السنة"3 هذا هو الشاهد من إيراد هذه الرواية، وقد يسأل السائل أين إسناد هذه الرواية وإن كانت موقوفة، فأقول له قد بحثت عن هذا الكتاب ببعض البحث حتى أطلع على إسناده فلم أجد له أثرا في الفهارس الموجودة بين أيدينا، وقد ذكره بن النديم في الفهرست وعمر ابن شبة النميري في تاريخ المدينة وهو كتاب عظيم نافع جمعه الإمام الزبير بن بكار الأسدي المدني من شيوخ ابن ماجه رحمه الله تعالى وهو صاحب كتاب جمهرة نسب قريش المطبوع منه الجزء الأول بتحقيق الأستاذ محمود محمد شاكر، ولرواية ابن عباس الموقوفة شاهد قوي من مرسل قتادة ابن دعامة السدوسي، والحسن البصري رحمهما الله تعالى أخرجهما الإمام العلامة أبو جعفر محمد بن جرير الطبري في تفسيره تحت قوله تعالى:{رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} قال أبو جعفر: "اختلف أهل التأويل في معنى الحكمة التي ذكرها الله تعالى في هذا الموضع، فقال بعضهم: هي السنة"، ثم قال:"وذكر من قال ذلك" ثم ساق إسناده بقوله: "حدثنا بشر بن معاذ، قال حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد عن قتادة: الحكمة: أي السنة"4 قلت: لا يخفى على من له علم بأسماء الرجال أن هذا الإسناد هو من أصح الأسانيد المروية إلى قتادة بن دعامة السدوسي الإمام الثقة الحافظ الثبت التابعي.

1 سورة النساء (54) ..

2 كذا في المطبوع والصواب: استحققتم

3 الدر المنثور 173/2

4 ابن جرير الطبري 86-87/3

ص: 92

وقال العلامة ابن كثير رحمه الله تعالى في تفسيره في هذا الموضع: "الحكمة السنة قاله الحسن، وقتادة، ومقاتل بن حيان، وأبو مالك وغيرهم"1 وهكذا فسرها في جميع المواضع التي وردت في القرآن الكريم، الحكمة هي السنة، وهكذا قال العلامة الشوكاني في تفسيره فتح القدير2. فإذا علم هذا وفهم فاسمعوا ما قال الله تعالى في سورة البقرة:{كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ} 3 وقال أيضاً في هذه السورة: {وَلا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُواً وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} 4، وقال تعالى في سورة آل عمران حاكيا عن عبده ورسوله عيسى عليه الصلاة والسلام:{وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالإنْجِيلَ} 5. فهذه الآية، وآية أخرى وهي قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ} 6 فهذا نص صريح على أن الله تعالى لم يخص نبيه صلى الله عليه وسلم وحده بالسنة بل إنه جل وعلا سن هذه السنة لجميع رسله، وأنبيائه عليهم الصلاة والسلام الذين أكرمهم بالنبوة والرسالة، ونحو هذا المعنى قوله تعالى في سورة المائدة: {إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالإنْجِيلَ} 7 وقال تعالى في سورة آل عمران: {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ} 8 وقال عز من قائل في سورة النساء: {وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ

1 تفسير بن كثير 184/1

2 تفسير فتح القدير 124/1

3 البقرة (151)

4 البقرة (231)

5 آل عمران (48)

6 آل عمران (81)

7 المائدة (110)

8 آل عمران (164)

ص: 93

الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً} 1 وقال جل وعلا في حق أمهات المؤمنين في سورة الأحزاب: {وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفاً خَبِيراً} 2، قال العلامة السيوطي تحت هذه الآية الكريمة:"أخرج بن سعد وعبد الرزاق، وابن جرير الطبري، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن قتادة رضي الله تعالى عنه في قوله تعالى - ثم ذكر هذه الآية ثم قال - القرآن والسنة عتب عليهن بذلك"3 وقال جل وعلا: في سورة الجمعة {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ} 4 وهذه الجملة كبيرة من الآيات الكريمات تنص على أن السنة هي وحي الله تعالى إلى سائر رسله، وأنبيائه عليهم الصلاة والسلام. منهم هذا النبي الكريم عليه الصلاة والسلام. قال الإمام أبو جعفر محمد بن جرير الطبري تحت قوله تعالى:{وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ} قال: "وما أنزل عليكم من الحكمة وهي السنن التي علمكموها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسنها لكم"5، وقال أيضا تحت قوله تعالى:{وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالأِنْجِيلَ} ثم ساق إسناده إلى قتادة برقم (8071) وقال: "الحكمة السنة" وكذا نقل عن عبد الملك بن جريج بإسناده الصحيح. وقال أبو جعفر مفسرا لهذه الآية وهي قوله تعالى: {وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} الآية.. قال: "يعلمهم الله كتاب الله الذي أنزله عليه، ويبين لهم تأويله، ومعانيه، والحكمة السنة التي سنها الله تعالى للمؤمنين على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم وبيانه لهم" ثم أيد هذا المعنى بأثر قتادة بسياق طويل وهو برقم (8177) وإسناده من أصح الأسانيد المروية إلى قتادة وأيد هذا المعنى العلامة السيوطي

في رسالته القيمة (مفتاح الجنة في الاحتجاج بالسنة) نقلا عن أئمة الإسلام الكبار مثل الإمام الشافعي، وأبي حنيفة، وأحمد، ومالك رحمهم الله تعالى ونقل أقوالهم، ونصائحهم فيما يتعلق بالعمل بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم6 ونحو هذا المعنى في سورة النور قال الله تعالى: {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ

1 النساء (113)

2 الأحزاب (34)

3 الدر المنثور5/199

4 الجمعة (2)

5 تفسير بن جرير الطبري 5/15 من نسخة العلامة أحمد شاكر

6 ص (8)

ص: 94

لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} 1، ولقد عرفنا إن شاء الله تعالى خلال سرد هذه الآيات البينات أن السنة النبوية لها مكانة سامية، ومنزلة رفيعة في التشريع الإسلامي، وهي مفسرة، ومبينة لكتاب الله تعالى ومقيدة لعمومه كما قال تعالى في هذا المعنى في سورة الأنعام:{وَمَا لَكُمْ أَلَاّ تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَاّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ وَإِنَّ كَثِيراً لَيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ} 2.

وقال تعالى: في سورة الأعراف: {وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} 3، وقال تعالى في سورة الإسراء:{وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلاً} 4 وقال تعالى: {الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ} 5 والآيات في هذا المعنى كثيرة، ولو تضرب الأمثلة لبيان هذا التفصيل الوارد في الكتاب الكريم لم يكف لنا النهار كله، فالآيات كلها تعطينا بيانا واضحا، وتفسيرا شافيا عن منزلة السنة من القرآن الكريم، ولقد عرفنا جميعا إن شاء الله تعالى حجية السنة والاستدلال بها على ما يستدل به على أحكام الشرع حلالا، وحراما، وأمرا، ونهيا، وقال جل وعلا في سورة النساء:{فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيما} 6 قال السيوطي7: "أخرج عبد الرزاق، وأحمد، وعبد بن حميد، والبخاري ومسلم، وأبو داود، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه، وابن جرير الطبري، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن حبان، والبيهقي من طريق الزهري أن عروة بن الزبير حدث عن الزبير بن العوام، أنه خاصم رجلا من الأنصار وقد شهد بدرا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في شراج من الحرة كانا يسقيان به كلاهما النخل، فقال الأنصاري: "سرح الماء يمر" فأبى عليه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اسق يا زبير ثم أرسل الماء إلى جارك" فغضب الأنصاري وقال: "يا رسول الله أن كان ابن

1النور (51)

2الأنعام (119)

3 الأعراف (52)

4الإسراء (12)

5 هود (1)

6 النساء (65)

7 الدر المنثور 2/180

ص: 95

عمتك"، فتلون وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال: "اسق يا زبير، ثم احبس الماء حتى يرجع إلى الجدار، ثم أرسل الماء إلى جارك"، واستوعى رسول الله صلى الله عليه وسلم للزبير حقه، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل ذلك أشار على الزبير برأي أراد فيه السعة له وللأنصاري، فلما لم يرضى الأنصاري استوعى للزبير حقه في صريح الحكم فقال الزبير: "ما أحسب هذه الآية نزلت إلا في ذلك، {فَلا وَرَبِّكَ} " وهكذا أخرجه الحميدي في مسنده، وسعيد بن منصور، وعبد بن حميد، فقضى للزبير، فقال الرجل إنما قضى له لأنه ابن عمته، فأنزل الله تعالى هذه الآية، وهكذا أخرجه الإمام ابن الجارود في المنتقى، والإسماعيلي فيما نقل عنه الحافظ في الفتح"1.

قلت: إن هذه الآية الكريمة وما في معناها نص صريح في وجوب اتباع سنة الرسول صلى الله عليه وسلم. قال العلامة أبو جعفر الطبري مفسرا لهذه الآية: "فليس الأمر كما يزعمون أنهم يؤمنون بما أنزل إليك، وهم يتحاكمون إلى الطاغوت، ويصدون عنك إذا دعوا إليك يا محمد، واستأنف القسم جل ذكره، فقال: وربك يا محمد لا يؤمنون أي لا يصدقون بي وبك وبما أنزل إليك، حنى يحكموك فيما شجر بينهم، يقول: حتى يجعلوك حكما بينهم فيما اختلط بينهم من أمورهم، فالتبس عليهم حكمه، قال رحمه الله تعالى: شجر يشجر شجورا، شجرا، وتشاجر القوم إذا اختلفوا في الكلام والأمر {بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ} أي لا تأثم بإنكارها ما قضيت وشكها في طاعتك، وإن الذي قضيت به بينهم حق، لا يجوز لهم خلافه، ثم ساق أسانيده الكثيرة بهذا المعنى في أسباب نزول هذه الآية، ومنها حديث الزبير بن العوام رضي الله عنه المتفق عليه بين الشيخين وغيرهما، وحققها، وخرجها العلامة أحمد محمد شاكر في تعليقه على ابن جرير الطبري2 وللإمام عمدة المفسرين العلامة ابن كثير رحمه الله تعالى كلام جيد في تفسير هذه الآية الكريمة فليراجع منه3. وقال الله تعالى:{لا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذاً فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} 4

1 فتح الباري 5/26

2 ابن جرير الطبري8/524-525

3 تفسير ابن كثير 1/252-254

4 سورة النور (63)

ص: 96

قال العلامة الإمام ابن كثير رحمه الله تعالى في تفسيره تحت هذه الآية بعد إيراده روايات عديدة في أسباب نزولها، قال:" {يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ} أي عن أمر الرسول صلى الله عليه وسلم وهو سبيله، ومنهاجه، وطريقته، وسنته، وشريعته، فتوزن الأقوال والأعمال، بأقواله وأعماله، فما وافق ذلك قُبِل، وما خالفه فهو مردود على قائله، وفاعله، كائنا من كان، كما ثبت في الصحيحين وغيرهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد"، {فَلْيَحْذَرِ} وليخش من خالف شريعة الرسول صلى الله عليه وسلم باطنا، وظاهرا، {أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ} أي في قلوبهم من كفر، أو حد، أو حبس، أو نحو ذلك كما روى الإمام أحمد، فقال: حدثنا عبد الرزاق، حدثنا معمر، عن همام بن منبه، قال: هذا ما حدثنا عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مثلي ومثلكم كمثل رجل استوقد نارا فلما أضاءت ما حوله جعل الفراش، وهذه الدواب اللائي يقعن في النار وجعل يحجزهن، ويغلبنه فيقتحمن فيها" قال:"فذلك مثلي، ومثلكم أنا آخذ بحجزكم عن النار (أمنعكم عن النار) فتغلبوني وتقتحمون فيها" أخرجاه من حديث عبد الرزاق". قلت: أخرجه البخاري1 ومسلم2 والترمذي3 والإمام أحمد في مسنده4 والغوي في شرح السنة5. ورواه همام بن منبه عند البغوي بالإخبار. وقال العلامة الإمام البغوي في نهاية الحديث هذا حديث: "متفق على صحته أخرجه مسلم عن محمد بن رافع عن عبد الرزاق، وأخرجاه من أوجه عن أبي هريرة" اهـ. ونحو هذا المعنى قوله جل وعلا في سورة النور:{إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ. وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ} 6.

الآيات في هذا المعنى كثيرة جدا وكلها نص صريح في وجوب اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم واتباعه يتمثل في اتباع سنته الصحيحة الثابتة

1البخاري: كتاب الاعتصام، كتاب الأنبياء (6) الرقاق (26)

2 مسلم: الفضائل حديث رقم (17)

3 الترمذي الأدب (82)

4 مسند الإمام أحمد 2/244/1312

5 البغوي شرح السنة 1/189

6 سورة النور (51)(52)

ص: 97

عنه صلى الله عليه وسلم، وتثبت حجية السنة النبوية ثبوتا واضحا مبينا من قوله جل وعلا في سورة البقرة قال تعالى:{وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ} 1. والشاهد في هذه الآية الكريمة هو أنه صلى الله عليه وسلم كان يصلي إلى بيت المقدس قبل أن يؤمر بالتوجه إلى الكعبة المشرفة، وكان صلاته صلى الله عليه وسلم إلى بيت المقدس بأمر من الله تعالى ولكن أين هذا الأمر في القرآن الكريم؟ قال العلامة الإمام ابن كثير رحمه الله تعالى ملخصا ما ذكره قبل هذا الكلام: "حاصل الأمر أنه كان صلى الله عليه وسلم أمر باستقبال الصخرة من بيت المقدس فكان بمكة يصلي بين الركنين، فيكون بين يدي الكعبة وهو مستقبل الصخرة بيت المقدس، فلما هاجر إلى المدينة تعذر الجمع بينهما فأمره الله بالتوجه إلى بيت المقدس، قاله ابن عباس والجمهور". ثم قال: "وقد جاء في هذا الباب أحاديث كثيرة"2. وهكذا قال الإمام العلامة أبو جعفر في تفسيره3 أخرج الإمام الشافعي في الرسالة4 والإمام أحمد في المسند5 وأبو داود6 والترمذي7 وابن ماجه8 والبغوي في شرح السنة9 وحسنه الترمذي، وصححه الحاكم10 من حديث أبي رافع مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا ألفين أحدكم متكئا على أريكته، يأتيه الأمر من أمري مما أمرت به، أو نهيت عنه، فيقول لا أدري ما وجدناه في كتاب الله تعالى اتبعناه". قال العلامة الإمام البغوي في شرح السنة: "قال الأزهري: كل من اتُكِئَ عليه فهو أريكة. وأراد بهذه الصفة أصحاب الترفه، والدعة، الذين لزموا البيوت، وقعدوا عن طلب العلم". وفي الحديث دليل على أنه لا حاجة بالحديث إلى أن يعرض على الكتاب، وأنه مهما ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان حجة بنفسه، وقال النبي صلى الله عليه وسلم:"ألا إني أوتيت الكتاب ومثله معه" قلت: أورده السيوطي في مفتاح الجنة في

1 البقرة (143)

2 تفسير ابن كثير 1/195

3 تفسير ابن جرير الطبري /138-140

4 رسالة الإمام الشافعي 295

5 مسند الإمام أحمد 6/8

6أبو داود رقم 4605

7 الترمذي 2665

8 ابن ماجه المقدمة 13

9 شرح السنة 1/200-201

10 الحاكم في المستدرك1/108-109

ص: 98

الاحتجاج بالسنة، وقال رحمه الله تعالى:"وأخرج البيهقي بسنده عن المقدام بن معد يكرب رضي الله تعالى عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم أشياء يوم خيبر من الحمار الأهلي وغيره فقال صلى الله عليه وسلم: "يوشك أن يقعد الرجل منكم على أريكته يحدث حديثي، فيقول بيني وبينكم كتاب الله تعالى فما وجدنا فيه حلالا استحللناه وما وجدنا فيه حراما حرمناه وإنما حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل ما حرم الله"، الحديث أخرجه العلامة البغوي في شرح السنة برقم (101) وخرجه الشيخ شعيب في التعليق وقال:"أخرجه أحمد والدارمي وأبو داود، والترمذي، وابن ماجه وقال: حسنه الترمذي" اهـ قلت: نعم أخرجه الإمام الترمذي في الجامع تحت باب ما نهي عنه أن يقال عند حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحسنه ثم قال:"وروى بعضهم عن سفيان بن عيينة عن ابن المنكدر عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلا، وسالم أبي النضر عن عبيد الله ابن أبي رافع عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم، وكان ابن عيينة إذا روى هذا الحديث على الانفراد بين حديث المنكدر من حديث سالم أبي النضر، وإذا جمعهما روى هكذا" وأبو رافع مولى النبي صلى الله عليه وسلم. قال العلامة المحدث المباركفوري: "روي هذا الحديث موقوفا على أبي رافع كما ترى في طريق الترمذي ورواه أبو داود في السنن مرفوعا" ثم قال: "رواه أبو داود في السنن فقال: حدثنا أحمد بن محمد بن حنبل، وعبد الله بن محمد النفيلي، قالا: حدثنا سفيان، عن أبي النضر عن عبيد الله بن أبي رافع عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم ثم ذكر الحديث". قلت: الذين رووه بالرفع هم أكثر عددا من الذين رووه بالوقف، ورواه البغوي مرفوعا وكذا ابن ماجه، وأبو داود، وأحمد في المسند، والدارمي في سننه من غير هذا الوجه مرفوعا برقم (592) ثم قال العلامة المباركفوري: "وهذا الحديث دليل من دلائل النبوة، وعلامة من علاماتها، فقد وقع ما أخبر به صلى الله عليه وسلم فإن رجلا قد خرج في البنجاب من أقليم الهند. وسمى نفسه بأهل القرآن، شتان بينه وبين أهل القرآن بل هو من أهل الإلحاد، وكان قبل ذلك من الصالحين - قلت ما كان من الصالحين ولم يتمكن الإيمان من قلبه - فأضله الشيطان، وأغواه، وأبعده عن الصراط المستقيم فتفوه بما لا يتكلم به

ص: 99

أهل الإسلام، فأطال لسانه في رد الأحاديث النبوية بأسرها ردا بليغا وقال هذه كلها مكذوبة، ومفتريات على الله تعالى، وإنما يجب العمل على القرآن العظيم فقط دون أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم، وإن كانت صحيحة متواترة، ومن عمل على غير القرآن فهو داخل تحت قوله تعالى:{وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} ، وغير ذلك من أقواله الكفرية وتبعه على ذلك كثير من الجهال، وجعلوه إماما، وقد أفتى علماء العصر بكفره، وإلحاده، وأخرجوه من دائرة الإسلام كما قالوا". ثم خرج هذا الحديث بقوله:"أخرجه الإمام أحمد في مسنده، وأبو داود، وابن ماجه، والبيهقي في الدلائل"1. قلت: أخرجه الإمام أحمد في مسنده من ثلاث طرق، طريق أبي هريرة رضي الله تعالى عنه وفيه أبو معشر وهو ضعيف إلا أنه يكتب حديثه ويستشهد به، وطريق آخر وهو طريق أبي رافع مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم واسمه أسلم وهو طريق جيد، وطريق ثالث وهو طريق المقدام بن معد يكرب رضي الله تعالى عنه وهو أيضا طريق جيد، وأنهي هذا الموضوع بآيات من الذكر الحكيم قال تعالى في سورة الحشر: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا} 2 وقال تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً} 3 وقال تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً. وَلَمَّا رَأى الْمُؤْمِنُونَ الأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَاناً وَتَسْلِيماً} 4 وقال جل وعلا في سورة الأحزاب: {يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولا} 5 وقال جل وعلا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} 6 وقال عز من قائل في سورة الحديد: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ

1 تحفة الأحوذي 3/374

2 الحشر 7

3 الأحزاب 36

4 الأحزاب 22

5 الأحزاب 66

6 النساء 59

ص: 100