الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لا يَتَّقُونَ} إذا ماذا لهم من علاج؟ {فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ} ، إذا وهذا إخبار الله عنهم فالتعاهد والتوادد مع اليهود ضرب من المحال، ومحاولة لا تأتي إلا بأسوأ الوبال.
ولهذا لم يكن منه صلى الله عليه وسلم بعد أن أمهلوه من الله بحلم طويل، وصابرهم عليه السلام الصبر الجميل، إلا أن ينفذ أمر الله النازل إليه فيهم، فاستأصل شأفه شرهم، ومحا وصحبه أثرهم، وأزال من أرض الجزيرة كل ما عانوه من نجس ودنس، ذلك لأن اليهودي مخلوق فاقد الحياء مع الله والرسل والناس، فما من أمة سبت ربها بأبشع وأقذع ما يقال إلا َهم، وما من أمة قتلت الأنبياء غيرهم، فماذا تنتظر منهم أن يفعلوا بمن دون ذلك؟
فلن تصفو الحياة إلا إذا اختفوا من الحياة، فهل من مدكر؟
والآن نبدأ في تفاصيل البحث، طالبين العون من المستعان وأن يجعله عملا نافعا لمن كتب ولمن قرأ، بعد أن يجري القلم بصادق القول والقصد له وحده.
الباب الأول: المادتان الأوليتان من إعلان حقوق الإنسان
.
1-
يولد جميع الناس أحرار متساوين في الكرامة، وقد وهبوا عقلا وضميرا وعليهم أن يعامل بعضهم بعضا بروح الإخاء.
2-
لكل إنسان حق التمتع بكافة الحقوق والحريات الواردة في هذا الإعلان دون أي تمييز، كالتمييز بسبب العنصر أو اللون أو الجنس أو اللغة أو الدين أو الرأي السياسي أو أي رأي آخر، أو الأصل الوطني أو الاجتماعي أو الثروة أو الميلاد أو أي وضع آخر، دون تفرقة بين الرجال والنساء، وفضلا عما تقدم فلن يكون هناك أي تمييز أساسه الوضع السياسي أو القانوني أو الدولي للبلد أو البقعة التي ينتمي إليها الفرد، سواء كان هذا البلد أو تلك مستقلا أو تحت الوصاية أو غير متمتع بالحكم الذاتي أو كانت سيادته خاضعة لأي قيد من القيود. سنلاحظ أن هاتين المادتين وكثيراً من مواد الإعلان ذات كلمات جميلة أخّاذة، ظاهرها الرحمة لبني الإنسان، وتلك حقيقة إن تمت، ولكنها لم تتم لأن باطنها شغف هؤلاء الناس بإلفات النظر إليهم على أنهم الإنسانيون المتمدينون دون من عداهم، ولهذا فهم يصدرون المبادئ الصالحة والتعاليم النافعة وقد ظنوا أننا من البلاهة بحيث لا ندرك أن المفيد من إعلانهم قد أعلناه منذ أربع مائة وألف سنة، أفاء الله به علينا رحمة ظاهرة وباطنة بواسطة رسول بنا رؤوف رحيم {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَاّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} فأسبغ الله علينا به نعمة ظاهرة وباطنة، لمن يسمع ويقرأ ادّعاء ورياء، وباطنها ضد ظاهرها عداء واعتداء، حتى ألفاظ الإعلان وضعوها بصورة يوهمون بها بأنهم أوجدوها ولسيوا من عندنا أخذوها.
وها نحن نبدأ حديثنا عن المادتين اللتين ذكرنا نصهما آنفا من إعلان حقوق الإنسان فنقول وبتطويل:
لو رجعنا إلى بداية الخليقة لنسلط عليها فكر الباحث لوجدنا أن صفتي التعنصر والتميز هما من وضع أعدى عدو لله وللخلق أجمعين، ذلك هو إبليس الرجيم اللعين، في قصته مع آدم لما ميَز نفسه بعنصره، حيث توهم الفرق بين العنصر الذي خلق منه وهو النار، والعنصر الذي خلق منه آدم وهو التراب، قال:{أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ} ، فأدت به هذه العنصرية إلى الطرد من رحمة الله، وعليه فالأصل في العنصرية أنها صفة إبليسية، ومن تلبس بها تأبلس، وإذا فقد يلحق به في الطرد من رحمة الله، تلك قضية واقعية لا نماري فيها.
ولكن انطواء هذه العنصرية أو انطلاقها على مدى الدهور، يكون حسب معرفة الإنسان لصانعه وأصل صنعته، فإذا ما أدرك قدرة الصانع الأعظم سبحانه، عرف ضلة نفسه باعتباره مصنوعا له، وإذا أدرك أصل صنعته وهو التراب، عرف تفاهة قدره، فلا موجب لديه يجعله يميز نفسه عن غيره فقد فهم أن الصانع واحد هو الله، وأن الأصل واحد هو التراب تدوسه النعال، كلكم لآدام وآدم من تراب، فإذا ما علم هذا وسيطر على الأفهام في أي عصر، سيطرت روح التآخي وهيمنت مشاعر التواصل، وانزوت نزوات التعالي والكبر، فقد اعتصموا بحبل الله جميعا ولم يتفرقوا.
أما إذا أخلد الإنسان إلى الأرض واتبع هواه، ونسي ربه الذي سواه، وأصبح فكره حبيس نفس غرور، ولم يخطر بباله ذلك الطين الذي خلق منه، حتى ولو ادعى بأن له دينا، فيمسي على الفور عنصر عصيا ومفرقا غويا، فيبدأ بتمييز ذاته عن ذوات الغير، فإذا انتقل داخل وطنه ميز مسقط رأسه، فإذا تنقل خارج وطنه ميز وطنه، فإذا انتقل خارج قارته ميز قارته، ثم لا ينسى أن يميز نفسه بلونه ولنا في هذا التفصيل يأتي عند الحديث عن المواد المتصلة بذلك.. بل بلغ الأمر إلى العيب على ما يرتديه الغير من زي لأنه ليس كما يلبس هو وقومه، بل وعلى نوع الطعام لأند مخالف لطريقة ما يطهى عندهم ويطعم، بل وعلى اللهجات يسخر منها حيث لم تكن كما ينطق هو ويتكلم، وهكذا أصبح يعيش في نفس غيابة نسيت عيبها، فقد نسيت خالقها وما منه صنعت، لأن عنصريته التي قام عليها كيانه لم تفهم صيحة القرآن في الناس {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} .
وأحب أن أتناول هذه الآية بتوضيح فيه بعض التفصيل، فقد حفظت هذه الآية حتى من غير المتعلمين؟ وأصبح يدلل بها في هذا المجال بصورة عامة لم تبين الكثير من جمال الآية، فالنداء العظيم في أولها بدأ أولا من الله إلى الناس، يذكرهم بأن الأب واحد والأم، آدم وحواء، أي كلكم أشقاء، ولما تكاثرتم نشرناكم في الأرض، فأصبحتم قبائل وشعوبا هنا وهناك، لكن ذلك لا ينسيكم أصل الأبوين، فتعارفوا لتشعروا أنكم على سواء، والأشقاء في النسب شيء واحد، لكن لن يكونوا شيئا واحدا إذا ما تحول التعارف بينهم إلى معرفة موجدهم الأعز، لأن معرفته تعالى تعطي صبغة الإيمان، وهي أعلى ما يعلو به الإنسان، ومن صبغة الإيمان هذه تأتي صورة التآخي، وهي أعلى من التعارف، لأن التعارف عام بين كل الناس والتآخي خاص بين المؤمنين ولو كانوا غير أشقاء، فقد يكون في الأشقاء من استقام ومن أعوج، بل قد يكون منهم من آمن ومنهم من كفر.
ولهذا سمت خصوصية التآخي على عمومية التعارف {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَة} فإنَ تنافي في هذه الجملة القرآنية المعظمة أكدت معنيين، أولهما تأكيد مكانة الأخوة، وثانيهما أن تكون فقط بين المؤمنين، ومن هو تحت ذلك فيقف أمرهم عند التعارف، وأن نبرهم ونقسط إليهم ما لم يكونوا مقاتلين أو مخرجين لنا من الديار، وعندئذ فلا برَ ولا قسط، ولكن ذراع يرفع بالسلام لا ينثني {فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ} ، وكمله، {أَكْرَمَكُمْ} في الآية تعطي واضح الفهم بأن المكرمات عند الله للمؤمنين الأتقياء رتب تتفاوت، وفي النهاية جعلت الآية أعلى الرتب في المكرمات لمن توقى من تقي إلى أتقى، فلم يقل سبحانه (تقيكم) وإنما قال {أَتْقَاكُمْ} لأن تقيكم مرتبه أدنى من أتقاكم، ولهذا جاءت الكلمتان {أَكْرَمَكُمْ} و {أَتْقَاكُمْ} على صيغة تفضيل واحدة، أي الأعلى منزلة في الإكرام هو الأعلى درجة في التقوى جعلنا الله منهم- أما ختام الآية {عَلِيمٌ خَبِيرٌ} فمتصل بما ذكر فيها عليم بخلقكم هذا الذي أخبرتكم بشيء منه، لكن خبرته بأتقاكم بها (هو أعلم بمن اتقى) فتصبح المعاني في الآية.. مرتبة بالخلق فالانتشار فالتعارف فعليكم تقوى من فعل وحده ذلك.؟
تلك هي الآية التي يقرؤها الكثير اليوم ولا يعيها، والله بها أعلم، فلما وعاها أهل القرآن يوما عملوا بها واتحدوا عليها، فتعاملوا مع غيرهم بنصفها الأول ومع بعضهم بنصفها الآخر، فلم يتفاضلوا فيما
بينهم إلا بعمل ما يطمع أحدهم به أن يكون من الأتقى
فلما صمَت الآذان عن هذه الآية وأمثالها المنظمة للأسرة البشرية كل حسب مكانه ومكانته، أصبحت السيادة الآن في هذه الدنيا لذئاب التمييز والعنصرية، وكان الشعار هو أن يأكل الكبير الصغير، وجاء إعلان حقوق الإنسان فزادت شراسة هذا الشعار بما لم يعد معه ثقة ولا أمن ولا أمان.
(فأيهما أنفع للإنسان؟ ما وضعه الله له؟ أم الذي وضعه هو لنفسه؟)
…
ولما شاء الله تعالى أن ينزل من السماء نوره ليحمله إلى خلقه خير خلقه صلوات الله وسلامه عليه، حاولت هوام الظلام يومئذ أن تطفئ نور الله هذا، فتشعبت جوانب كيدهم منقضة جميعها على النور البازغ حديثا، في شخص الرسول صلى الله عليه وسلم والقلة لا تملك من المنعة شيئا للدفاع عن نفسها وكان من أبرز جوانب هذه المعركة عنجهية الجاهلية، والتي انحدرت متعاقبة منذ القرون الأولى فكان أول اصطدامها بضدها في عصر نوح عليه السلام، وظل شرها المميز العنصري يتوارث ويظهر مع رسالة كل رسول، حتى الرسول الخاتم صلى الله عليه وسلم، فأرادت أن تعمل معه عملها الذي تعودته مع غيره، فكانت أن لقيت حتفها تماما على يد نبي الإسلام بما نزل عليه من وحي قاصم لكل عتل غاشم، ومادمنا قد اكتفينا بضرب المثل بأول الرسل وبآخرهم عليهم جميعا سلام الله، فلنذكر شيئا مما وقع في ذلك، بادئين بنبي الإسلام صلى الله عليه وسلم، لا تحيزا منا ولا تمييزا، وإنما مرسلهم سبحانه هو الذي فضلهم على بعض {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْض} ، فإنه وإن كان نبينا صلوات الله عليه هو الآخر في ترتيب الأزمنة، فهو الأول في ترتيب المنزلة، فقد وضعه القرآن قبلهم جميعا في قوله:{إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِه} فبدأ سبحانه الخطاب به قبل نوح {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ} ، ثم ذكر بعد ذلك نوحا والنبيين من بعده، وأيضا في قوله تعالى:{وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ} ، فالآية بالنبيين بدأت عامة؟ وعند الترتيب وضعت نبينا في أولى الدرجات قبل نوح ومن بعده {وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيم} إلى آخر الآية، وشمل ذلك رسل أولي العزم، وفي القرآن أمر رسولنا أن يقول:{وَأُمِرْتُ لأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ} ، وأمر نوح أن يقول:{وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} .
ولقد عمدت إلى توضيح هذا حتى لا يتوهم أحد أننا نميز رسولنا لمجرد التمييز تعصبا منا كما يفعل أهل الأديان الأخرى لأنبيائهم، فنحن نؤمن بهم جميعا ولا نفضل إلا من فضل الله {لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِه} ، والمقصود - والله أعلم بعدم التفريق هنا في مهمتهم الكبرى التي جاؤوا بها جميعا، وهي تعريف المخلوقين بالخالق ليوحدوه بلا ند ولا نظير، أما درجات أشخاصهم وشمول شرائعهم فهو تفضيل وليس بالتفريق، وقد عقد الله لنبينا في ذلك الأفضلية في شخصه وشريعته كما أوضحنا آنفا.
أعود فأقول إن أول ما بدأت تقاوم به دعوة الرسول الكريم كانت العنصرية، تلك الصفة التي لا يتشح بها إلا الجاهلون، وكل جاهلي في كل عصر، فقد صور الكفر للغلاظ من سادة قريش أن الفرق بينهم ومن أجابوا المنادي صلوات الله عليه من المساكن يمنع التساوي معهم بالدين الجديد، ومن هذا النوع قدم القرآن قصصا عنهم في أكثر من آية وأكثر من سورة، لكني اخترت البعض منها لأتحدث عنه اكتفاء بما نريد الوصول إليه في معرض هذا البحث.
فقصة الضعفاء التي أوردها علماء أسباب النزول في آيات سورة الأنعام البادئة بقوله تعالى: {وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ} وما تلاها من آيات سنذكرها بعد، أسندوا روايتها بلفظ يختلف ومعنى يتحد إلى ابن حبان وأحمد والطبراني وابن جرير الطبري وابن أبي حاتم، عن الصحابة سعد بن أبى وقاص وابن مسعود وعكرمة وخباب رضي الله عنهم أجمعين.
تقول القصة: جاء عتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة، ومطعم بن عدي، والحارث ابن نوفل، في أشراف بني عبد مناف من أهل الكفر إلى أبي طالب فقالوا: "لو أن ابن أخيك يطرد هؤلاء الأعبد، كان أعظم في صدورنا
وأطوع له عندنا، وأدنى لاتباعنا إياه"، فكلم أبو طالب النبي صلى الله عليه وسلم، فقال عمر بن الخطاب: "لو فعلنا ذلك حتى ننظر ما الذي يريدون؟ " فنزل قوله تعالى: {وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ..} إلى قوله تعالى: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ} ، وكان هؤلاء الضعفاء الذين قصدوهم، هم بلال، وعمار ابن ياسر، وسالم مولى أبي حذيفة، وصالح مولى أسيد، وعبد الله بن مسعود، والمقدام بن عبد الله، وواقد بن عبد الله الحنظلي، وغيرهم، رضي الله عنهم جميعا وأرضاهم، فأقبل عمر فاعتذر، فنزلت فيه الآية {وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآياتِنَا..} إلى آخر الآية، انتهى لفظ القصة. ولنقرأ أولا الآيات كاملة، ثم نتناول بعضها بالتفصيل.
{وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} {وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ} {وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ} ؟
فالآية الأولى قدمت قضية الحقيقة أساسا، وهي أن الذي يخاف من يوم المحشر هو الذي يقبل دائما أن ينذر، والذين لا يخافون هذا اليوم لا تغنيهم النذر ولا ينتفعون بها {وَمَا تُغْنِي الآياتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ} ، ثم يأتي بعد ذلك في الآية موضوع الطرد ليصحح الوضع، فالذين قبلوا الإنذار خوفا من يوم الحشر دخلوا في رحمة الله، فلا يملك أحد طردهم منها ولا الرسول نفسه، فأمره سبحانه أن يبقيهم في حضرته حتى لا يحرموا من تلقي الخير الهابط من السماء يقدمه إليهم من ربه، وأخبره بأنه سيكون ظالما لو طردهم، أما المستحق حقيقة للطرد فهو الذي عصى النذير، لأنه لا يخاف أن يحشر فتكبر، فكان أن طرد من حضرة الرسول ومن جنة ربه، وهكذا سدد الإسلام وفي أول ظهوره ضربة ماحقة إلى من تحمله العجرفة على تمييز نفسه وتحقير غيره.
ودور عمر رضي الله عنه في القصة هام، فقد استولت عليه الرهبة لما نزلت الآيات تخالف رأيه، عندما قال:"لو فعلنا ذلك حتى ننظر ما الذي يريدون" فأسرع واجفا إلى النبي صلى الله عليه وسلم يعتذر إلى الله بين يديه، فتنزل الآية بقبول اعتذاره، لكن بعد أن ذكرت أن ما وقع من عمر كان سوءا، فلما علم الله أن هذا السوء غير منوي، وإنما وقع بغير عمد من صحابي ولي، شرفه في نهاية الآية بالمغفرة له وإحلال الرحمة عليه، فقد خاطب سبحانه نبيه في شأن عمر قائلا:{وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآياتِنَا فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءاً بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَإَِنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} ، فإذا كان ما أراده عمر رضي الله عنه هو استدراج المتعالين لعلهم يؤمنون، ومع ذلك أعتبر الله عمله سوءا يوجب التوبة، ولم يشفع لعمر منزلته عند الله وعند رسوله إلا التوبة مما قال، فكيف بمن يشمخون اليوم ويتميزون، ومن يمدونهم في طغيانهم بالملق والزلفى؟، أظن لهم ميعاد يوم لا يستأخرون عنه ساعة ولا يستقدمون.
أما الذين قالوا لنبيهم نوح عليه السلام: {وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَاّ الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا} وقالوا له: {أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الأَرْذَلُونَ} . رد نوح عن الأولى بشجاعة حملة الحق {وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّهُمْ مُلاقُو رَبِّهِمْ} ، ملاقوا ربهم لينتصر لهم ممن يهزأ بهم، وهو نفسه علم أنه لن يسلم من أمر يفعله الله به إذا رضخ لقومه وطرد الضعفاء {وَيَا قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ طَرَدْتُهُمْ؟} .
فهو عليه السلام أدرك بأن النصر مؤكد لهؤلاء الذين ازدري بهم، وأن نبوته لن تغني عنه شيئا إذا عصى الله وطردهم، ثم لكي يغيظهم بدفاعه عن الضعفاء بدَل كلمة (الأرذلين) منهم بكلمة (المؤمنين) منه لما قال:{وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا} في آية {وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الْمُؤْمِنِينَ} في أخرى، بل ورد الإهانة عنهم بأن وصم خصومهم المستهزئين بهم، بالجهل مرة، وبعدم الفهم والتذكر ثانية {وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ} ثم، {أَفَلا تَذَكَّرُونَ} .
وبعد الذي قدمه القرآن عن نبينا وعن نوح صلوات الله عليهما، وهما الرسولان اللذان حصرا الدنيا بكاملها بين رسالتيهما نسأل: أيهما أرفع وأنفع، وأكرم وأدوم، ما وضعه الله للإنسان، أم ما وضعه الإنسان لنفسه.
لقد مشت على هذا الصراط أمتنا الإسلامية سنين عديدة، لم يقم وزنا لحسب ولا عصب، اختفت في مجتمعها القومية وارتقت الربانية، إلى أن بدأ المسلمون ينسلَون من دينهم رويدا عصرا بعد عصر، وبدأ ثعبان العصبيات والقوميات يخرج من حجره، والذي حبسته في حجره طويلا تعارف الإنسان وأخوة الإسلام، إلى أن جاء عصرنا فحرص أعداء الإسلام والمستعمرون الذين احتلوا معظم رقعه الأرض الإسلامية أحقابا طوالا، ألا ينجابوا عنها إلا بعد أن يوقظوا فيها حمية القومية، فنودي على الفور بعد جلاء الخبثاء المفرقين بالقومية العربية، قبل أن يسبق أحد بنداء الإسلامية، وساد نداء القومية الجاهلية. وكان قد قدم لها بعمل ثابت وهو إنشاء الجامعة العربية في عصر احتلال الإنجليز للأرض العربية كلها تقريبا. وصرخت أصوات مسلمة مخلصة إبان ذلك تطالب بجعلها جامعة إسلامية لتوصد الباب على تحريك القوميات مستقبلا، وليجتمع فيها العالم الإسلامي كله، عسى أن يكون ذلك تمهيدا لعودة الخلافة الإسلامية لتعود بها قوة المسلمين لما وحدوا تحت الحكم بالقانون القرآني، لكن هذه الأصوات المخلصة أهملت ولم يصغ إليها، وغلبت فكرة الجامعة العربية الإسلامية، وأتى بعدها تبعا شعار القومية العربية وليست الأخوة الدينية، والآن تم للأعداء ما أرادوه من إيقاظ التفرقة والتمييز، حيث نظر بقية العالم الإسلامي إلى العرب نظرة الحذر والخيفة، فلم يشتركوا معنا نحن العرب إلا بالقرارات في المؤتمرات، ولم يطلقوا 1معنا رصاصة واحدة لما أخذ اليهود بتلابيبنا، والحق لهم لأننا أغفلناهم وجعلنا لأنفسنا جامعة تختص بنا، وقومية نتميز بها.
وفي ظل الجامعة العربية والقومية دخلت الشيوعية عدوة الإسلام الأولى أرض العرب وانتشرت، بل سادت وحكمت، وفي ظل ذلك أيضا اشتعلت الخصومات بين العرب، بل وتقاتلت دولهم بالجيوش، وفتك أبناء العم ببعضهم بالآلاف، في حروب شبه مستمرة مستعرة، وتتجدد هنا وهناك في عرض أرض العرب وطولها، وفي ظل الجامعة العربية والقومية العربية تجري مؤامرات العرب الصليبيين في لبنان لحصر المسلمين هناك بين فكي عبدة العجل اليهود، وعبدة الصليب النصارى، وذلك بمساعدة الدول المسيحية الصليبية.
وفي ظل القومية العربية وقعت بنا أشنع رزية، لما أصيبت أمتنا الإسلامية في أحشائها بضياع قدسها وما حوله من ملك إسلامي عريض قدمه إلينا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوة زنودهم لما جمعتهم جامعة إسلامية، وأضعناه في عصر القومية العربية.
وليمشي المكر السيئ من أعدائنا بلا توقف، جعلوا قضيتنا مع اليهود إقليمية وليست عقدية، حتى لا تتحرك لها مشاعر صاحب الإسراء صلوات الله عليه، فدرجوها من قضية القدس المقدس إلى قضية فلسطين، ثم إلى أزمة الشرق الأوسط، ولأننا أصبحنا إقليميين قوميين تقبلناها منهم بسرعة، واستقر الأمر على أنها مجرد أزمة وتزول، وأصبحنا جميعا على كل مستوى نرددها، فلم تعد قضية إسلامية ولا حتى عربية، وقل أن تذكر فلسطينية، وإنما هي أزمة الشرق الأوسط، ولا زلنا وحدنا نبتلع غم هذا الكرب العظيم، وراح من أوقعنا في فخ هذه القومية ينظر ضاحكا متشفيا، فهل بعد هذه النكبات المبكية نتحد في جامعة إسلامية، وفيما نزل بنا من عقاب الله كفاية {أَوَلا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لا يَتُوبُونَ وَلا هُمْ يَذَّكَّرُونَ} .
ولكن من المؤكد أنه سيعز دين الله، وسيطرد اليهود إن شاء الله من قدسنا مذؤومين مدحورين، ولو لينتقم سبحانه لنفسه منهم لتطاولهم عليه، وليس لأجل العرب والمسلمين الذين عاهدوهم وأعطوا الدنيئة في أنفسهم ودينهم، وما كانوا اليوم أوفى من ماضيهم الغادر، لما عاهدوا الرسول صلى الله عليه وسلم خانوه، فما كان لليهود يوما دولة ولن يكون، فيكم قرناء الذلة والتيه، وثلاثون عاما أو زهاء ليست شيئا في أعمار الأمم حتى يحسب بها لليهود دولة، والانتظار لن يطول بما ليس في حسبان أهل التشاؤم والوهن والخنوع إن شاء الله،
1 بل حاولوا ولم تسمح لهم الدول العربية بذلك تعميقا لمعنى القومية العنصرية.
وما قصه التفرق بسبب اللون؟ وهي قصة تلطخت بها مدنية المتحضرين فوق تلخطات ومخازي أهلت الأكثر في بؤر المظهر. وخاصة من الذين وضعوا إعلان حقوق الإنسان.
لقد أعطاني المدرس وأنا صغير درسا في سبب تباين ألوان البشرة، وقال لي: إن البشرة يسود لونها إذا عاش الإنسان في المناطق التي تشتد فيها حرارة الشمس، وتكون بيضاء في المناطق الباردة، فلما كبرت وكبرت معي مداركي بعض الشيء، علمت أولا أن هذه النظرية مصدرة إلينا عبر الماضي من عند غيرنا، وعلى كل حال لا مانع من أن نقبل أي مفيد من أي جهة، فلسنا متزمتين وقد يكون ذلك صحيحا فالكون لله والحر والبرد هو مقلبهما، لكن سألت نفسي، إن الأوروبيين عاشوا مئات السنين وهم مستعمرون للمناطق الحارة ولم يتغير لون بشرتهم، وزنوج أمريكا عاشوا فيها قرونا طويلة ولم يتغير لون بشرتهم، والطفل الأوروبي الذي ولد تحت خط الاستواء وتلقفته الشمس الحامية وكبر تحتها لم تغير لونه، والملونون من مستوطني البلاد الثلجة لم تغير الثلوج البيضاء ألوان أطفالهم التي لونهم الله بها وهم أجنة في بطون أمهاتهم، ثم إن هؤلاء السمر ابتداء من صعيد مصر إلى آخر القارة الإفريقية هل كانوا جميعا عراة حتى غيرت الشمس لون كل أجسامهم؟..
أم أنه لو كانت الشمس هي المغيرة للون لكان الوجه وحده هو الذي يتغير ويبقى الجسم المستور بالثياب بغير تغيير، فمعروف أن الأبيض كله أبيض، وأن الأسمر كله أسمر، وهكذا، وقد يقول قائل: إننا نلاحظ تغيير لون الوجه الأبيض إذا تعرض للشمس طويلا، ولكنه تغيير قليل لا يلبث أن يعود إلى أصل لونه عندما ينتهي التعرض لحرارة الشمس هناك، ثم هناك ألوان متعددة، فاللون الأصفر يغلب على معظم دول آسيا، فهل الشمس هناك صفراء؟ والبلاد العربية لونها بين بين، فهل لون الشمس في هذه المنطقة كذلك؟ وغير ذلك من ألوان في أنحاء الأرض متباينة وصور في تكوين الوجه مختلفة، كلنا نراها وخاصة في موسم الحج الجامع المهيب.
وإذا من الذي لون وصور {هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ} {هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ} ، إننا نرى الأشقاء بل التوائم يختلفون صورا ولونا وطولا وقصرا، وما خلقوا جميعا إلا من نطفة لا يتغير لونها، وكونوا في رحم واحد ما تعرضوا فيه لحرارة الشمس ولا لصقيع البرد، فجل الخالق وعز، وعفا الله عن المدرس الذي علمني وأنا صغير عكس هذا يوما، ولكنه هو الآخر معذور فقد تعلمه قبلي من غيره، والذي قبله كذلك وهكذا نسي الخالق ونسبت صنعته إلى غيره {أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأََمْرُ} ويا ليتنا وقفنا عند هذا، بل رحنا نتخذ من صنعة الله هذه تفرقة تمييزا، ووقع في هذه الفتنة الوافدة مسلمون كثيرون في جهات وأماكن مختلفة، أقولها وأنا متأكد منها، ألسنا هائمين إعجابا بتقليد الأجانب في كل شيء حتى ولو عصينا بذلك ربنا وصريح ما أنزله على رسولنا؟ لما قدم إلينا سبحانه تغير ألواننا على أنه آية من آياته، لا يفعلها سواه، لنجعلها ينابيع الإيمان للنفس الفاهمة المدركة، ففي سورة (الروم) وهو اسم لأمة غير عربية، سمى الله بها سورة من سور كتابه، يقول سبحانه فيها:{وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآياتٍ لِلْعَالِمِينَ} ، فالآية دليل على ما قلته آنفا من تحليل قصة اللون، وأن اختلاف اللغات والألوان بقدر لا يحصيه غيره هو خلق له مباشر، وليس بسبب كوني تقلبي من حرارة أو برودة أو تضاريس أو مناخ بيئة، فالتقدير المجمل للآية هو:
ومن دلائل وجوده وقدرته، خلق السموات والأرض، وخلق اختلاف لهجاتكم واختلاف ألوان أجسادكم، ومع أن اللغة واللون داخلان في خلق السموات والأرض، لكن اختصتا وحدهما في الآية بعبارة منفردة ليلفت سبحانه أنظار عباده إلى عظم آياته، والعالمين منهم خاصة كما ذكرت الآية، والتي من أعجبها فقط مجرد اللغة واللون، وإنما اختلافهما، وذكر سبحانه كلمة {لآياتٍ} مرتين، في أول الآية وآخرها، ليؤكد أن ذلك من معجزات الصانع وحده، ولكن هذه الآيات لا يجني جناها ويستفيد منها إلا (العالمين) ، الذين علموا حقيقة الوجود والموجد عز وتنزه،.
فما الحال إذا قدم الله إلى خلقه ما ذكرته الآية ليميزوا بها الحقيقة الواقعة في هذا الملكوت فعكسوا الآية كما يقولون، وانطلقوا يميزون بين الناس بلون الجلد، فإن كان أهل الفكران والكفران مصرين على تسفلهم هذا، أو من تبعهم منا في هذا بما يعدّ عدم تصديق بما أنزل به القرآن، فنحن عندنا أيضا تمييز لهم يوم يقال ما سيعوه جيدا {وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ} ، وبلون الوجوه كذلك، فعندنا لوجوههم سواد لن يزول أبدا {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوه} ولو كانت في الدنيا بيضاء لامعة، فهي يومئذ بكفرهم سوداء حالكة. وإذا كانت اليوم سوداء فهي يومئذ بإيمانهم جميلة بيضاء.
ثم نسمع أيضا وصفا للتمييز عندنا بلون الوجوه فنقرأ {وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئَاتِ جَزَاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ مَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعاً مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِماً} ، يا لرهبة الوصف، ولو وقف سبحانه عند كلمة (الليل) لأعطت المعنى، ولكن لأن الليل قد يضيئه قمر وتتلألؤ فيه نجوم، فحدد وجه صاحب السيئات بالليل المظلم الذي لا قمر فيه ولا نجوم عندما يغيب كلاهما في آخر الليل، ونزيد من هذه الألوان ما قال كتابنا أيضا:{وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ} ، فوجه سواد الوجه في الآية الأولى لأنهم كفروا بربهم، وفي الثانية لأنهم كسبوا السيئات، وفي الثالثة لأنهم كذبوا على الله. بل منهم من سيميز بلون لم يسبق في الدنيا أن لون وجه أحد، وهو اللون الأزرق {يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقاً} .
هذه قاعدة التفرقة والتمييز عندنا، وحتى التفرقة بياض الوجه لها عندنا أيضا قول جميل {وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} وإذا كان الخلود هنا في الرحمة بمعنى الجنة، فإن ما سنسمع في الآية الآتية أحسن من الجنة {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} ، فالنظر إلى وجه بارئ الجنة خير من كل الجنة، أما الوجود التعسة فهي {وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ، تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ} . باسرة: شديدة العبوس. وفاقرة: داهية تقصمهم..
ثم نسمع من القرآن ما لا يشبع منه مسمع، لنعرف القاعدة الصحيحة للتمييز بين الوجوه، {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ. ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ} . مسفرة: مضيئة من الفرح {وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ. تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ} . قترة: ظلمة، من هم هؤلاء؟ تجيب الآية، {أُولَئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ} .
هذه هي قاعدة التفريق والتمييز عندنا نحن المسلمين، قاعدة تطبع الوجوه بطابع العمل الرباني، وليس ببشرة تتلون في دنيا التلون.
ووجه الله غايتنا
…
وليس لغيره ننظر
ومن عن ربه يعرض
…
لحقا وجهه مغبر
فبالتوحيد وحدتنا
…
بهذا وحده نفخر
ألا سحْقا لمجتمع
…
يفرق بينه المظهر 1
وفي أواخر هذا الباب نورد مجموعة وقائع تاريخنا العاطر ابتداء من عصر النبوة فما بعد لمن أراد المزيد، حيث ما مضى من حديثنا المطول كان كله قائما على أرفع الأدلة، وأيقن مقال، وهو القرآن الكريم، وأورد الآتي من غير تعليق.
1 من قصيدة لنا في محاضرة ألقيناها منذ عامين في موسم الجامعة الثقافي عن التفرقة والتمييز.
1-
من قول الرسول صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع:
"ليس لعربي على عجمي، ولا لعجمي على عربي، ولا أحمر على أبيض، ولا لأبيض على أحمر فضل إلا بالتقوى"، (ابن هشام) .
2-
بلال الأسود جدا، رضي الله عنه، قال له الرسول صلى الله عليه وسلم يوما:"يا بلال ما دخلت الجنة إلا وسمعت دف نعليك بين يدي، فما تصنع في الإسلام؟ فقال: لا شيء يا رسول الله غير أني كلما توضأت صليت ركعتين بعد الوضوء" رواه البخاري، وأصبحت ركعتا بلال سنة في الإسلام أقرها النبي صلوات الله عليه.
3-
تجادل أبو ذر رضي الله عنه مع رجل أسود، قيل هو بلال وقيل غيره، فلما برح به الغضب عند الاحتداء قال له: يا ابن السوداء، فشكى إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال لأبي ذر:"أعيرته بأمه؟ إنك امرؤ فيكَ جاهلية، وقال: طف الصاع. طف الصاع، ليس لابن البيضاء على ابن السوداء فضل إلا بالتقوى أو بعمل صالح"(البخاري) .
4-
جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سأل جليسا له وقد مر بهما رجل: " ما رأيك في هذا؟ " فقال: "الجليس هذا رجل من أشراف الناس، هذا حري والله إن خطب أن يزوج، وإن شفع أن يشفع، وإن قال أن يسمع لقوله". فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم مر رجل آخر، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم:"ما رأيك في هذا؟ ". فقال: "يا رسول الله هذا رجل من فقراء المسلمين، هذا والله حري إن خطب ألا يزوج، وإن شفع ألا يشفع، وإن قال ألا يسمع لقوله". فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هذا خير- يقصد الفقير- من ملء الأرض من مثل هذا"(البخاري) .
5-
قال الرسول الكريم صلوات الله وسلامه عليه: "هل ترزقون وتنصرون إلا بضعفائكم؟ "(البخاري)"أبغوني في ضعفائكم، إنما ترزقون وتنصرون بضعفائكم"(أبو داود) .
6-
وأثر عن عمر رضي الله عنه قوله للمسلمين: "لوددت أني وإياكم في سفينة في لجة البحر، تذهب بنا شرقا وغربا، فلن يعجز الناس أن يولوا رجلا، منهم فإن استقام اتبعوه. وإن جنف قتلوه، فقال طلحة رضي الله عنه: وما عليك لو قلت، وإن تعوج عزلوه، فقال عمر: لا، القتل أنكل لمن بعده".
7-
وكتب إلى أبي موسى الأشعري واليه على الكوفة يقول: "يا أبا موسى، إنما أنت واحد من الناس، غير أن الله جعلك أثقلهم حملا، إن من ولي أمر المسلمين يجب عليه ما يجب على العبد لسيده".
8 ـ وقال للناس يوما: "ما قولكم لو أن أمير المؤمنين شاهد امرأة على معصية؟ فقال له علي رضي الله عنه: يأتي بأربعة شهداء، أو يجلد حد القذف كسائر المسلمين".
9-
واشتكى يهودي عليا إلى عمر رضي الله عنهما، وكان جالسا بجانبه، فقال له عمر:"قم يا أبا الحسن، قف بجانب اليهودي موقف القضاء"، وبعد تبرئة علي باعتراف اليهودي، لا حظ عمر على وجه علي تغيرا، فقال له:"أو قد ساءك أني أوقفتك بجانب اليهودي موقف القضاء"، فقال علي:"لا وإنما خشيت ظن اليهودي محاباتي عليه لما ناديته باسمه وناديتني بيا أبا الحسن".
10-
وقولته (أي عمر) رضي الله عنه لعمرو بن العاص لما ضرب ابنه واحدا من أهل مصر- في قصة مشهورة -: "متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا، وأعطى سوطه للشاكي وأمره أن يضرب ابن عمرو".
11-
قال عثمان رضي الله عنه للمسلمين أثناء خلافته: "إني أثوب، وأنزع ولا أعود لشيء عابه المسلمون، فإذا نزلت من منبري فليأتني أشرافكم فليروني رأيهم فوالله لئن ردني الحق عبد لأذلن ذل العبيد". (من تاريخ العصر الراشدي)