الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فاسمعوا يا واضعي حقوق الإنسان، هذه هي حقوقه في الإسلام فأيهما أفضل، ما وضعه خالق الإنسان للإنسان، أم ما وضعه الإنسان؟ الله أكبر، سبحانه من رحيم كريم، لا يضاهى ولا يمثل.
الباب الثاني: المواد (7- 8- 9- 10- 11) من حقوق الإنسان
…
الباب الثاني: نتحدث في هذا الباب عن المواد 7، 8، 9، 10، 11 من حقوق الإنسان. ونورد نصوصها فيما يلي:
المادة السابعة: كل الناس سواسية أمام القانون، ولهم الحق في التمتع بحماية متكافئة منه دون أية تفرقة، كما أن لهم جميعا الحق في حماية متساوية ضد أي تمييز يخل بهذا الإعلان، وضد أي تحريض على تمييز كهذا.
المادة الثامنة: لكل شخص الحق في أن يلجأ إلى المحاكم الوطنية لإنصافه من أعمال فيها اعتداء على الحقوق الأساسية التي يمنحها إياه القانون.
المادة التاسعة: لا يجوز القبض على أي إنسان أو حجزه أو نفيه تعسفا.
المادة العاشرة: لكل إنسان الحق على قدم المساواة التامة مع الآخرين في أن ينظر قضيته أمام محكمة مستقلة نزيهة نظر عادلا علنيا للفصل في حقوقه والتزاماته وأية تهمة جنائية توجه إليه.
المادة الحادية عشرة: كل شخص متهم بجريمة يعتبر بريئا حتى تثبت إدانته قانونا بمحاكمة علنية تؤمَن له فيها الضمانات الضرورية للدفاع عنه.
ولا يدان أي شخص من جراء أداء عمل الامتناع عن أداء عمل إلا إذا كان ذلكَ يعتبر جرما وفقا للقانون الوطني أو الدولي وقت الارتكاب، كذلك لا توقع عليه عقوبة أشد من تلك التي كان يجوز توقيعها وقت ارتكاب الجريمة.
وسأبدأ الحديث عن هذا الباب بآيات من القرآن من قانون العدل كله، نفصلها ليدرك بها الكثير دقة مواد القضاء النازل من السماء، وأقصد بالكثرة المسلمين الذين لا يعلمون كتابهم، إلا أن يفتنوا بمن يؤلفون غيره.
بدأ سبحانه الآية بتأكيد لفظي ليضفي على ما سيذكره التأكيد المعنوي، {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ} ، وكلمة {يَأْمُرُكُمْ} جاءت بعد اسم من أصدر الأمر، لتنشعر الهيبة والرهبة من عظمة صاحب الاسم الأمر بما سيقوله بعد، ولأن الآمر سبحانه وقد عرفتموه لا يمكن لأحد أن يأمر معه، أو ينقص من أمره قدر قطمير، ثم اختيار كلمة الأمر بعد اسمه المعظم يعطي الفهم القاطع بأن المقررات التي ستوضحها الكلمات التي في الآية لا تجيز الترك وعدمه، وإنما هي إلزام حتمي للتنفيذ، تلك هي {أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} ، ولشتى أنواع الأمانة جاءت بلفظ الجمع، أعلاها الأمانة التي حملها الإنسان تجاه ربه، وهي إقامة شرائعه خالصة لذاته، وأدناها كلمة سر يؤتمن عليها، وبين الاثنين حقوق لا تحصى تتصل بالله تعالى، والكل مأمور بأدائها كاملة إلى أهلها، لكن الآكد في الآية من حيث الأمر بالأداء هو المرتبط بحقوق العباد لأن المرتبط بحقوق الله تعالى تعرضت له آيات أخرى عديدة، والقرينة التي تدل على أن حقوق الإنسان هي المعنية في هذه الآية، قوله تعالى بعد ذلك:{وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ} ، فالحكم بالعدل لا يمكن إلا في قضية عرضت ليرد حق سلب أو اغتصب، وهذا شأن من شؤون بني الإنسان ملازم لوجوده إلى أن ينتهي وجوده بانتهاء الدنيا، فلا بد من ظالم ومظلوم وباغ ومبغي
عليه، ومن هنا يأتي العدل في صورة حكم،
يصدر من حكم صفته الحكمة التي لا تنثني ولا تميل، ثم من قرائن اهتمام الآية خاصة بحديثها عن الإنسان كلمة {بَيْنَ النَّاسِ} ، فإذا ما جاء بعدها ما يدل على أن الناس حكم بينهم بالعدل، كان ذلك عملا بموعظة جليلة الخطر عظيمة الأثر، مدحها الله بقوله:{إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ} نعم ما يفيدكم به، ذلك أنه ما من شيء يذهب الغيظ ويجمع الشتات ويقيم المجتمعات على التآخي أكثر من العدل.
ولهذا كان الإمام العادل ضمن أنواع سبعة فقط من عباد ممتازين، لا يلفح وجوههم اللهب يوم الحر الأكبر، حيث استظلوا ببرد الظل الأعظم دون سواهم، ثم يختم سبحانه آيته الكريمة بقوله:{إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعاً بَصِيراً} ، فهذه الكينونة الملازمة له سبحانه أزلا ودواما، كينونة اتصاف بكل كمال، وتنزيه عن كل نقص، ومنها ما ذكره هنا بصيغة المبالغة {سَمِيعاً بَصِيراً} ، فهو سميع لما يقال سرا أو علنا، بصير بما يعمل جهرا أو خفاء، وعلى قاعدة أن نهايات الآيات لا بد من ارتباطها بما يذكر فيها، فإن رد العباد على الذي أمرهم به في الآية سيكون قولا يدل على الاستعداد للعدل أو عكسه، وهذا القول إما بصوت أو بهمس، وهو في الحالين سميع، ثم ينتقل الأمر من القول إلى العمل، فإن كان القول طاعة تبعه العمل بالعدل، وإن كان القول معصية فلا عدل وكان الظلم، ثم المثوبة أو العقوبة، فمستحيل أن يأمر الله بشيء ثم يترك أثره هملا، هذا هو العدل الذي يقتضي بحفظ الحقوق ونزاهة إصدار الأحكام، بصورة ما ترامى إلى الآذان شبيه لها، ذلك لأنها من الحكم العدل العظيم أحكم الحاكمين.
فأيهما أنفع للإنسان، حقوق وضعها لنفسه هو طامع أن يسلبها من غيره، أم حقوق من خالقه لا طمع له فيها لأنه المنزه عن الاحتياج لغيره؟.
تحليل لآية ثانية: يقول الحق المبين:
بدأت الآية بنداء، فمن المنادي؟، ومن المنادون؟، وما هو المطلوب من النداء؟
المنادي هو أحكام الحاكمين، والمنادون هم المؤمنون به المطيعون له، ولن يكون ردهم على راحمهم وقد آمنوا به إلا لبيك خير المنادين، فلن يكون نداؤك إلا الخير لنا أجمعين.
وما هو المطلوب من النداء؟ آمركم أن تكونوا ملازمين قائمين أبدا بالعدل، ولهذا بالغت في صورة اللفظ {قَوَّامِينَ} فالعدل أمر قائم لا ينقطع، وهكذا اجعلوه بينكم لا يخل ميزانه ولا يختل أركانه، والعدل من أهم ما يظهره ويقيمه إذا ما أريد حجبه من المتخاصمين، بالإنكار أو بليِّ اللسان بزخرف الكلام، هو الشهادة بالواقع الصحيح الذي رئي أو سمع، {شُهَدَاءَ لِلَّهِ} ، وكلمة شهداء أتت بعدها كلمة {لِلَّهِ} لتؤدي معنيين، أولهما، وأنت تشهد سواء كنت مدعوا أو متطوعا، أن تؤديها وأنت مراقب لله، فاستحضارك مراقبة الله أثناء الشهادة سيجعلك تقول الصدق الذي يظهر الحق، وثاني المعنيين أن تقصد بهذه الشهادة مثوبة الله ورضاه، وليس أجرا من أحد المتخاصمين تعطاه، أو ثناء من الحاكم أو القاضي الذي أعنته بشهادتك على إعلان الحق وخذلان الباطل فهذان المعنيان إذا حضرا الشاهد أثناء شهادته، كان العدل أصفى وأنقى عندما يستعمل لتؤدى به الحقوق، ثم تستمر الآية قائلة {وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأََقْرَبِينَ} ، مراتب ثلاث، بدأ بأعلاها سبحانه وانتهى بأدناها، فليس لدى النفس، ولو كان غير النفس أبا أو أما، فإذا ما هيمن الشاهد على نفسه وقتل فيها حب الإيثار الملازم للنفوس عادة، فيصبح انتصاره في المرتبة الثانية أيسر وأسهل، ولهذا ذكرت الآية الوالدين بعد النفس {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ} ، فهو مستعد أن يشهد على والديه وقد شهد على ما هو أعز
منهما، فما بعد روحه (الذي فيه) روح، وبهذا يكون عند المرتبة الثالثة {وَالأََقْرَبِينَ} أولى لأداء الشهادة بيسر أكثر وسهولة أوفر، فأي الأقربين أقرب إليه من أبويه،.
ثم تقول الآية: {إِنْ يَكُنْ غَنِيّاً أَوْ فَقِيراً فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا} ولأنه اختلف إن كان هذا تشريعا محضا أو تشريعا مسببا، فقد رأينا أن نترك هذا الأمر ونستمر في التحليل المتصل بهذا البحث، فالغنى مظهر قد يرغب أو يرهب، والفقر مظهر قد يدعوا إلى ازدراء الفقير أو العطف عليه، وكلا النوعين إما ظالم أو مظلوم، وعندئذ يكون الشاهد ناظرا من أعلى إلى هذا كله، لأنه سيؤدي الشهادة ومعه الحليتان اللتان ذكرناهما آنفا، مراقبة الله والرغبة في رضاه، إذا فيترك أمر الكل إلى من هو بالكل أرحم، فلا ينحني أمام رهبة، ولا يميل أمام رغبة، فالله أولى وأحق بعباده من أن يتفضل عليهم سواه {إِنْ يَكُنْ غَنِيّاً أَوْ فَقِيراً فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا} ، {فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا} ، فالهوى هو الغالب وجوده عند الشهادة أو الإقرار بالحق على النفس، والغالب وجوده أيضا عند الشهادة أو الإقرار بالحق على الوالدين، ونفس الأمر عند الشهادة أو الإقرار بالحق على الأقربين، ونفس الأمر عندما نرهب غنيا أو نستضعف فقيرا ولم يزد هذا الهوى خوف من الله ولا رجاء ما عنده، يكون الهوى قد اتبع، وتبعا لذلك يكون العدل قد غاب، ويكون الظلم قد حضر، والحق قد أهدر، وهل يكون إتباع الخاطف من العواطف إلا هذا هوى- متبعا وعدلا ضائعا، لهذا كان النهي القوي في كلام الآية المقدر بهذا المعنى: احذروا أن تتبعوا الهوى فإن يؤدي بكم إلى أن لا تعدلوا.
{تَلْوُو أَوْ تُعْرِضُوا} ، فالألتواء وهو الميل مع الهوى عن الحق، من شاهد أو قاض، أو الإعراض وهو أبعد خطرا وأضر أثرا، يقع أيضا من شاهد أو قاض، إن وقع أحدهما أو هما معا من الشهود أو القضاة {فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً} .
فهو عند أهل المعاني قبل أهل التأويل ليس ختام الآية هذا خبرا لمجرد العلم به، وإنما يحمل إنذارا مخيفا لمن لم يطع ما في الآية، فلوى وأعرض حتى أظهر باطلا وأمات حقا، لأن صفة الخبرة بالنسبة لله تعالى ليست في حاجة إلى أن تقدم للمؤمنين ليعرفوها فما اعتبروا مؤمنين وما استحقوا أن يناديهم الله بها في أول الآية إلا لأن مستلزمات الإيمان جعلتهم عرفوا فيما عرفوا خبرة الله بكل ملكوته وما يجري فيه {لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ} ، وإنما نهاية الآية تقول للمؤمنين: إذا اتبعتم هواكم بعد أن علمتم أني خبير لا يخفى علي شيء، فقد استوجبتم عقاب فاعلي ذلك، ومبلغ علمي إن شاء الله أن مفسرا واحدا لم يشذ عن معنى ما ذكرناه.
إذا فأسال: أيهما أنفع للإنسان، هذه الحقوق التي وضعها له خالقه، وأولاها حراسة قوية تولاها بنفسه سبحانه، أم تلك التي سماها الإنسان حقوقا وحتى لم يحقها لنفسه وإنما أتبعها هواه؟، الله أكبر، ومن أحسن من الله حكما؟.
وعن آية ثالثة نتحدث:
فمن عظمة القرآن الذي أنزله الله على خير إنسان صلى الله عليه وسلم نقدم قوله تعالى: {وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ إِذْ دَخَلُوا عَلَى دَاوُدَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قَالُوا لا تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلا تُشْطِطْ وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاءِ الصِّرَاطِ إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلَاّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ وَظَنَّ دَاوُدُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعاً وَأَنَابَ} .
الآية الكريمة: بدأت بتقديم ما فيها من رواسخ الدعائم القضائية، لتثبت حقوق الإنسان على الأرض إلى أن تنتهي الأرض وإنسانها، دون السماح لكائن أن يغير مما أحق الله ورسم، ولو كان رسولا نبيا كداود أو غيره، فبدأت
بالترغيب للإصغاء، وهل أتاك
يا رسولنا محمدا، خبر قصة أخيك داود لما امتحناه بقضية حقوقية ليفصل فيها. ثم يمشي القارئ معي ليجد أن حديثي عن الآية لن يتناول القصة من حيث السرد وحكاية الوقائع، وما قيل في ذلك من كلام طويل تعرض فيه الكثير للقول المؤلف والرأي المختلف، وسأفضل الظاهر من ألفاظ الآية لأربط ذلك بموضوع حقوق الإنسان الذي نحن بصدده، وحتى الحديث في قصة داود عليه السلام بالظاهر الكلامي هو أسلم وأبرأ إلى الله من الشطح والغلو الأسطوري المهلك، فقد أنذر علي رضي الله عنه من يخوص في أمر داود بما يحلى القصاص من التزويق الحديثي، بأن يجلده ستين ومائة جلدة.
إذا فما يعنيني من هذه الواقعة الحقوقية في الآية، أنها بدأت بقفز المتقاضين من فوق الحائط وهو منظر شاذ جدا لا يفعله إلا من يريد أمرا جللا من قتل أو سرقة، وهذا ما دعا داود عليه السلام إلى الفزع لما رآهم يهبطون عليه من سور مسجده وهو في خلوته مع الله، وأن الفزع هو من تصور شر قد يقع له منهم، فالمسالم لا يقتحم الأسوار وإنما يأتي من باب الدار، لكن الذي تأكد بعد ذلك أنهم من مسالمون، بل هم لداود وحكمته وعدله طالبون، ولهذا كانوا مسرعين إلى طمأنة داود وإزالة ما لاحظوا عليه من فزع {قَالُوا لا تَخَفْ} وقدموا أنفسهم إليه زيادة في تهدئة روعه {خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ} .
تحدثت الآية عن الخصمين بالجمع لأن كلا منهما معه مناصر له- إذا فالخصومة وطلب الحقوق شيء لا صبر معه، وأن الخصومات إذا طالت دون فصل، والحقوق إذا ضاعت دون رد، فسيتولد منها مخاطر تدمر المجتمعات وتأتي عليها من القواعد، فالمظلوم لا يصبر طويلا وعلقم الظلم يملأ فمه بالمرارة، فإما أن ينصف سريعا ممن تولوا أمر مجتمعه أو يتولى بنفسه رفع الظلم عن نفسه ورد حقه إليه ولو بصورة ليس فيها نازع ولا رادع، وهذا ما جعلنا نأخذ هذا المعنى من تسور المحراب، ولم ينتظر حتى يزول المانع من الدخول من الباب. حيث كان في هذا اليوم ممنوعا لأكثر من سبب ذكرها المفسرون، فهل قدر الظالمون ما يموج في ضلوع المظلومين؟ ، ثم بدأ عرض القضية على داود من المتسورين سواء كانوا ملائكة أو بشرا حسبما اختلف المؤولون، لأن القصد من الواقعة كلها إقرار حق وتثبيت عدل يبقى إلى يوم الساعة، وبدأ العرض من الطرفين بالطريقة المؤدبة التي تليق بتقديم القضايا للقضاة، حيث قالوا مقيمين الاحترام لداود دون أن يرجح أحدهم كفة الحق لنفسه، حتى يسمعوا الحكم ممن احتكموا إليه {بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ} ولم يقل أحد الخصمين احكم لي فالحق لي، وكل ما قالوه {وَلا تُشْطِطْ} ، ذكروه بعدم الميل بعاطفة، فقد يكون في أمر أحد المتخاصمين ما يرقق القلب دون الحق، فيقع الحكم بالتعجل وليس بالتدقق، وهذا ما يرجح بأن المتسورين للحائط ملائكة، موجهون بهذه الكلمات الشرعة من الذي أرسلهم سبحانه، ثم زادوا {وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاءِ الصِّرَاطِ} ، أي احكم بيننا بالحل بالوسط المرضي لقواعد الحق ولو لم يرض المحكوم له أو المحكوم عليه، وهذا مبدأ رائع لعرض الأمور من غير تهور ولا رعونة، والقضية هي {إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ} .
فهنا ترك داود عليه السلام بداية الكلام للشاكي، لأنه الأحق بسبب ما يعانيه من ضياع حقه - وهذا مبدأ أخذ منا حتى اليوم- ثم على الشاكي ألا يبدأ شكواه بالغضب والسب لشاكيه، ولهذا قال رغم تألمه من خصمه {إِنَّ هَذَا أَخِي} ، ذلك بأن الحقوق بعد أن ترد يجب أن يبقى الود - وهذا مبدأ قرره القرآن أيضا وقد انعدم أو كاد - فالتقاضي الآن أصبح يولد أحقادا قد يتقاذفها الورثة ليبقى عداء بعيد الأمد سيء الأثر.
وعريضة الدعوى المقدمة إلى القاضي داود عليه السلام، وهي- فيما أعلم- قضية تدريب له كيف يتعلم الفصل في القضايا على أنها أول قضيه تعرض عليه، هي غاية في الغرابة وأشد ما تكون شدا للعاطفة وتأثيرا مجنحا إلى الميل، أحد الخصمين يملكَ مائة شاة إلا واحدة، وبلغ به طمعه أن يجعلها تكمل المائة، والشاة المكملة للمائة
لأجير فقير يعمل عنده يقوم بأمر غنمه مقابل أن تتربى شاته تطعم من طعام غنمه، ويبدو أن الشاة بورك فيها وأصبحت بحال طيب لفت نظر الغني صاحب التسعة والتسعين، فأراد أن يضمها إلى غنمه، ويجعل صاحب الشاة مجرد أجير، يعوض عنها بشيء ولا يكون له في الغنم شيء، ومكنه وضعه أن يضغط على صاحب الشاة ترغيبا أو ترهيبا، {وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ} ، أي خاطبني بما تأكدت به من إصراره على ما يريد، وأنا أريد أن تبقى شاتي لي.
وسواء كانت صورة الدعوى هكذا حدثت في الواقع، أو وضعت لضرب المثل للقضايا الصعبة السريعة التأثير في نفس القاضي- الله أعلم- فإنها قد أخذت الشكل المتوقع، خصوصا لدى القلوب الحانية التي تستقر بين جنوب الأنبياء صلوات الله عليهم {بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} .
ومن هنا كان النطق بالحكم من داود عاجلا وسريعا بسرعة نسبة واحدة إلى تسعة وتسعين {لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ} ، والعجب أن حنو داود قد فاض بالحكم لذي النعجة مع أنها لا زالت في حوزته ولم تنزع منه بعد، وألصق جناية الظلم بخصمه لمجرد أن سأله نعجته {لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ} ، فكيف لو اتبع السؤال بالاستيلاء؟، إنها من حيث الأساس رأفة تليق بنبي صفي، ولكن في هذا الموضع وهو مقام تمحيص الحقوق، لا بد أن تقترن الرأفة بالتروي والتأني، حتى تدرس القضية بكل المتخاصمين وبكل الشاهدين، وهذا لم يفعله داود عليه السلام، ومع أنه قدم حيثيات الحكم الصحيحة لما قال:{وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلَاّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ} ، فهذا تقرير لأمر يلابس الناس دواما، خاصة شركاء المادة، لغلبة سوء الظن على حسنه، بأن شريكه ليس كفئا له، أو يحتوي على حظ أكثر من حقه، ومن هنا يأتي بغي بعض على بعض، ويستمر القرآن في تقدير الأمر يجريه الأمر سبحانه على لسان هذا النبي الكريم، حيث لم يدخل في الكثرة التي تبغي على بعضها أولئك الذين آمنوا بربهم، فراقبوه متبعين ما أحل مجتنبين ما حرم، ولما كان الوصف الكمي للباغين هو الكثرة، فلابد أن يكون العكس هو القلة {إِلَاّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ} .
بيد أن هذا القول الحق لم يعف داود عليه السلام من نتائج حكمه غير المسدد وسبب عدم تسديده أمران، أولهما مطاوعته لرقة قلبه لوضع ذي النعجة الواحدة، خاصة أنه الشاكي، ولا يغلب على الشعور إلا أن الشاكي هو المعتدى عليه في أي الاحتكام يقع بين خصمين، فتعجل عليه السلام بإصدار الحكم لصالح الشاكي قبل أن يسمع دفاع لمشكو تجاه شاكيه وهذا أمر لا يمكن أن يبيحه الله الذي شدد فرضية العدل في ملكوته،.
والأمر الثاني الذي جعل الحكم غير مسدد هو- والله أعلم- أن داود عليه السلام وهو يؤدي أول اختبار في الفصل في القضايا، دفعه الحنان أيضا إلى عدم انتظار توجيه السماء، فما كان مرسله سبحانه يدعه ليحيد، فكان عليه وهو نبي من أهل الوحي أن ينتظر حتى تهبط عليه طريقة الفصل في المنازعات لتصبح الركائز المعروضة فقط وقتئذ.
فكانت نتيجة امتحان داود في نهاية الموضوع هو قوله سبحانه {وَظَنَّ دَاوُدُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ} ، والظن هنا بمعنى الإدراك والعلم، وبالصورة التي أعلمه بها، وليس بخرافات الإسرائيليات التي أترعت بها التفاسير الغثة، عندما وقع في مصيدتها عشاق الأقاصيص، {أَنَّمَا فَتَنَّاهُ} امتحناه وما جفيناه، حيث قبلنا سجدته وغفرنا هفوته وأحسنا أوبته {فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ} ذلك لأن الدرس أفاض عليه كامل المعرفة بأسرار القضايا وخبايا المشاكل البشرية التي سيظل الإنسان يتخبط فيها بسبب ماديته المتأصلة فيه، وبعده عن الروحية المتوادة المتسامحة.
لقد انتفع داود بالدرس التدريبي العظيم هذا، فاستحق لما علم منه ربه ذلك بأن يجعله الخليفة العادل في الأرض، والقاضي المتحق الذي لا سبيل معه لميل الهوى {يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأََرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ} .
وانظر إلى نهاية الآية المنذرة بالعذاب الشديد، لمن يميل مع الهوى ويضل بتضيع الحقوق، عندما يحكم أمة أو يفصل في قضية، فويل له من ناس ليوم الحساب، عندما يكون يومها حسابا عسيرا كأعسر ما يكون الحساب، ذلك أنه أؤتمن على شيء هو من أعظم الحرمات عند الله، وما كانت كذلك - وهو أعلم - إلا لأنها خير ما يتم به الهدوء النفسي والأمان الإنساني، فإن لم يحاسب الحاكم أو القاضي نفسه ليوزع الحساب بين من لجأوا إليه أو ألوا إليه بدقة، اعتبرته الآية ضالا غاويا له العقاب الخاص بالضالين.
وبعد انتهائي من عرض العجائب الحقوقية لهذه الآية، وإنذارها من يحيد عن هذه الحقوق بلفتة بصر أن ينال جزاءه، بالشدة التي ذكرتها كلماتها الرهيبة، أكان يجوز للإنسان أن يجد لنفسه أقوى وأحكم مما جعله الله، حقا إن الإنسان لربه لكنود.
لكن الآسى الذي يملأ القلب نكدا، يأتي من الإنسان الذي ادعى الإيمان، وراح يثق بحقوق صنعت للغرض والغاية، وترك قرآنه وقانونه {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ} ، ولكن بعد أن مات صلى الله عليه وسلم، ما فتنا فقط عن البعض وإنما عن الكل، فحاق بنا ما ذكرت نفس الآية {فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ} ، (وقد كان) وعسى ألا يقع بالبعض الباقي.
وننهي هذا الباب بنصوص من فخرنا العدلي واعتزازنا القضائي، بما نباهي به الدنيا قاطبة، نقدمها عددا ونصا بغير تعليق لمن يدخرها.
1-
آية من آيات زخر بها كتاب الله العظيم:
2-
حدث أن النبي صلى الله عليه وسلم وهو عند أم سلمة رضي الله عنها، أن دعا وصيفة لها مرات فلم ترد عليه، فاستبان الغضب في وجهه، فخرجت أم سلمة تبحث عنها فوجدتها تلعب فقالت لها:"أراك هنا تلعبين ورسول الله يدعوك! " فأقبلت الصبية على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي تقول: "والذي بعثك بالحق ما سمعتك"، وكان بيد الرسول سواك فقال لها:"لولا خشية القود لأوجعتك بهذا السواك" رواه الإمام أحمد.
3-
أتت امرأة عمر بن الخطاب رضي الله عنه تذكر زوجها عنده فقالت: "زوجي من خير أهل الدنيا، يقوم الليل حتى يصبح، ويصوم النهار حتى يمسي"، فقال لها عمر:"جزاك الله خيرا، فقد أحسنت الثناء"، فلما ذهبت قال كعب بن مسور رضي الله عنه، وكان جالسا بجانب عمر:"يا أمير المؤمنين، لقد أبلغت إليك في الشكوى"، فقال عمر:"ومن اشتكت؟ "، فقال كعب:"اشتكت زوجها"، قال عمر:"علي بها"، فعادت ومعها زوجها، فقال عمر لكعب:"أقض بينهما"، فقال كعب:"أقضي وأنت حاضر"، قال له عمر:"إنك فطنت إلى ما لم أفطن إليه"، فقال: "كعب وهو يقضي بينها: إن الله تعالى يقول: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ} ، فعلى زوجها
أن يصوم ثلاثة أيام ويفطر عندها يوما، ويقوم ثلاث ليال ويبيت عندها ليلة"،.. وتفصيل حكم كعب رضي الله عنه، إشارة إلى قوله تعالى:{فَانْكِحُوا} ، أي من حق الزوجة أن تباشر لتعف، ثم الإنجاب تبعا لذلك إن كان، ولا يجوز تركها في ذلك ولو بنوافل العبادات، ثم أمر كعب زوجها أن يعطيها يوما بليلة بعد كل ثلاث لتصبح هي الرابعة.
وقد بنى هذا الحكم على افتراض أنه متزوج بأقصى المباح لما قرأ {مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ} على أنه سيغيب عنها مع زوجاته الثلاث، كل بحقها المؤقت لها، وهي الزوجة الرابعة يعطيها الوقت الرابع، فسر عمر رضي الله عنه من فطانة كعب ومن حسن ما قضى به، وبعثه قاضيا على البصرة) من (الطرق الحكيمة) لابن القيم.
4-
وكتب عمر بن الخطاب منشور للناس يقول فيه:
"إني لم أبعث عمالي- ولاتي - لا ليضربوا جلودكم، ولا ليأخذوا أموالكم، فمن فعل به ذلك فليرفعه إلي لأقتص له"، فقال عمرو بن العاص،:"لو أن رجلا أدب بعض رعيته، أتقصه منه؟ "، فقال عمر:"إي والذي نفسي بيده لأقصنه منه، وقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقلق من نفسه". المصدر السابق.
5-
وقصة (جبلة بن الأيهم) المشهورة:
وكان من ذوي الجاه والسلطان في الجاهلية وفي الإسلام، فقد كان يطوف يوما بالكعبة ورداؤه يجره خلفه فوطئ عليه أحد الطائفين من ضعفاء المسلمين، فاستدار إليه ابن الأيهم ولطمه لطمة شديدة، وكان ذلك أيضا في خلافة عمر رضي الله عنه، فذهب المضروب إلى عمر وشكا إليه، فاستدعاه عمر وحكم بأن يضربه الرجل إلا أن يصفح، لكن الرجل أبى الصفح وأصر على أن يقتص، فقال جبلة لعمر:"كيف تسويني به وأنا ملك وهو سوقة"- أي من عامة الناس- فقال رضي الله عنه: "إن الإسلام سوى بينكما"، فطلب من عمر أن يمهله، فأمهله، فذهب ولم يرجع وإنما فر هاربا إلى بلاد الرومان، وارتد عن الإسلام إلى نصرانيته وبعد مدة أحس بالندم، وعلم بأنه ترك الحق وعاد إلى الباطل، ثم كتب قصيدة في ذلك، منها هذه الأبيات.
تنصرت الأشراف من عار لطمة
…
وما كان فيها لو صبرت لها ضرر
تكنفني منها لجاج ونخوة
…
وبعت لها العين الصحيحة بالعور
فيا ليت أمي لم تلدني وليتني
…
رجعت إلى الأمر الذي قاله عمر
6-
في (الطرق الحكمية) لابن القيم رحمه الله قوله:
من له ذوق في الشريعة وإطلاع على كمالها، وتضمنها لغاية مصالح العباد في المعاش والمعاد، ومجيئها بغاية العدل الذي يسع الخلائق، وأنه لا عدل فوق عدلها، ولا مصلحة فوق ما تضمنته من المصالح، تبين له أن السياسة العادلة جزء من أجزائها، وفرع من فروعها، وأن من أحاط بمقاصدها وحسن فهمه فيها، لم يحتج معها إلى سياسة غيرها البتة، فإن السياسة نوعان: سياسة ظالمة فالشريعة تحرمها، وسياسة عادلة تستخرج الحق من الظالم الفاجر، فهي من الشريعة، علمها من علمها، وجهلها من جهلها.
وفي تاريخ إسلامنا من هذه الأمثلة الشيء الكثير ثم يأتي الإنسان ليضع لنفسه أف له ولما وضع، وهل ينبئك مثل خبير؟.