الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وغيره كثير في ديننا ولكن ما الحيلة وقد ترك هذا الذي ينفع إلى غيره الذي يضر، ولكن صبرا، فالله غالب على أمره.
(الباب الرابع)
ويشمل الحديث عن المواد الآتية من ميثاق حقوق الإنسان في (هيئة الأمم المختلفة) 4-6-18-19-20-21.
المادة الرابعة: لا يجوز استرقاق أو استعباد أي شخص، ويحظر الاسترقاق وتجارة الرقيق بكافة أوضاعها.
المادة السادسة: لكل إنسان أينما وجد أن يعترف بشخصيته القانونية.
المادة الثامنة عشرة: لكل شخص الحق في حرية التفكير والضمير والدين، ويشمل هذا الحق حرية تغيير ديانته أو عقيدته، وحرية الإعراب عنهما بالتعليم والممارسة وإقامة الشعائر ومراعاتها سواء كان ذلك سرا أو مع الجماعة.
المادة التاسعة عشرة: لكل شخص الحق في حرية الرأي والتعبير، ويشمل ذلك حرية اعتناق الآراء دون أي تدخل؟ واستقاء الأنباء والأفكار وتلقيها وإذاعتها بأية وسيلة كانت دون تقيد بالحدود الجغرافية.
المادة العشرون: (أ) لكل شخص الحق في حرية الاشتراك في الجمعيات والجماعات السلمية (ب) لا يجوز إرغام أحد على جماعة ما.
المادة الحادية والعشرون: (أ) لكل فرد الحق في الاشتراك في إدارة الشؤون العامة لبلاده. إما مباشرة وإما بواسطة ممثلين يختارون اختيارا حرا.
(ب) لكل شخص نفس الحق الذي لغيره في تقلد الوظائف العامة في البلاد.
(ج) إن إرادة الشعب هي مصدر سلطة الحكومة، ويعبر عن هذه الإرادة بانتخابات نزيهة دورية تجري على أساس الاقتراع السري، وعلى قدم المساواة بين الجميع، أو حسب أي إجراء مماثل يضمن حرية التصويت.
ونبدأ بقصة الاسترقاق سائلين بقوة التحدي، هل في كتابنا أو في سنة نبينا أمر بأن يستعبد الإنسان أخاه الإنسان، وإنما الذي في قرآننا {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ} كل بني آدم، والذي في سنة نبينا "الناس سواسية كأسنان المشط" كل الناس.
إذا مصيبة الاسترقاق من أين أتت؟ فليتدبر القارئ ما يأتي:
هل كان الإسلام موجودا لما انتشرت تجارة الرق حتى بيع نبي كريم مرتين، وهو يوسف عليه السلام، الأولى عند الجب الذي ألقي فيه، وبأي ثمن بيع هذا الرسول، نعم، وإن لم يكن قد أرسل
يومها ولكن أوحى الله إليه بها وهو في ظلمات البئر {وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَذَا} بيع بما ذكرت الآية {وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ} ، والمرة الثانية التي بيع فيها هذا النبي العزيز، لما بيع لعزيز مصر الذي اشتراه من إخوته {وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِنْ مِصْرَ لامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ} .
وهل كان الإسلام موجودا لما انتشر في عهد الدولة الرومانية بناء على قانون آمِرٍ بالاسترقاق لكل من يقترض ويعجز عن قضاء دينه، ليصبح الذل ذلين، ذل الفقر وذل الاستعباد.
وهل كان الإسلام موجودا لما كان اليهود يجعلون الرق شيئا مأمورا به واجب التنفيذ، لما سجلوه على النحو التالي في كتبهم، في الإصحاح الحادي والعشرين من سفر الخروج 2-12 ما نصه (إذا اشتريت عبدا عبرانيا، فست سنين يخدم، وفي السابعة يخرج حرا مجانا، إن دخل وحده، لوحده يخرج، إن كان بعل امرأة تخرج امرأته معه، وإن أعطاه سيده امرأة وولدت له بنين وبنات، فالمرأة وأولادها يكونون للسيد، وهو يخرج وحده ولكن إذا قال العبد: أحب سيدي وامرأتي وأولادي لا أخرج حرا، يقدمه سيده إلى الله، ويقربه إلى الباب أو إلى القائمة، ويثقب سيده أذنه بالمثقب يخدمه إلى الأبد، وإذا باع رجل ابنته أمة لا تخرج كما يخرج العبيد)، (هذا عن استعباد العبراني) أما عن غير العبراني فاسمع العجب الذي قالوه:
إن حام بن نوح - وهو أبو كنعان - كان قد أغضب أباه، لأن نوحا سكر يوما - هكذا جعل اليهود نوحا عليه السلام سكيرا - ثم تعرى وهو نائم في خبائه، فأبصر حام ذلك، فلما علم نوح بهذا بعد استيقاظه غضب، ولعن نسله الذين هم كنعان، وقال في سفر التكوين إصحاح 9: 25 و26: ملعون كنعان عبد العبيد يكون لإخوته، وقال مبارك الرب إله سام، وليكن كنعان عبدا لهم، وفي الإصحاح نفسه: 27: ليفتح الله ليافث فيسكن في مساكن سام، وليكن كنعان عبدا لهم.
وها أنت لاحظت أيها القارئ الأوامر المشددة التي قرأتها بتنفيذ الاستعباد بأبشع وجه وأفحش صورة.
وهل كان الإسلام موجودا لما جاءت النصارى بعد اليهود ليأمر ملكهم بولس بما تسمع وتعجب:
أيها العبيد، أطيعوا سادتكم حسب الجسد بخوف ورعدة في بساطة قلوبكم كما للمسيح، ولا بخدمة العين كمن يرضي الناس، بل كعبيد المسيح، عاملين بمشيئة الله من القلب، خادمين بنية صالحة كما للرب ليس للناس، عاملين أنه مهما عمل كل واحد من الخير فذلك يناله من الرب عبدا كان أم حرا، وأوصى بطرس بمثل هذه الوصية وأوجبها آباء الكنيسة.
وفي المعجم الكبير للقرن التاسع عشر (لاروس) ما يلي: (لا يعجب الإنسان من بقاء الرق واستمراره بين المسيحيين إلى اليوم، فإن ثواب الدين الرسميين يقرون صحته ويسلمون بمشروعيته) وفي قاموس الكتاب المقدس: (إن المسيحية لا تعترض على العبودية من وجهها السياسي ولا من وجهها الاقتصادي، ولم تحرص (المؤمنين) أي بالمسيحية - على منابذة جيلهم في آدابهم من جهة العبودية.
واسمع عن المسيحية التي استعمرت أفريقيا قرابة خمسة قرون أخيرا:
تقول دائرة المعارف البريطانية ج2 ص779: إن اصطياد الرقيق من قراهم المحاطة بالأدغال
كان يتم بإيقاد النار في الهشيم الذي صنعت منه الحظائر المحيطة بالقرى، حتى إذا نفر أهل القرية إلى الخلاء تصيدهم الإنجليز بما أعدوا لهم من الوسائل، ويموت في أثناء الشحن 4.5% و12% أثناء الرحلة، وهكذا فعل الأسبانيون والبرتغاليون وبقية دول أوربا التي أذلت هذه القارة دهورا طويلة، إلى أن قالت دائرة المعارف: وبلغ من استعبد في هذه المدة من 1680: 86م أكثر من مليوني عبد، وكانت الملكة (اليزابث الأولى) من أكبر المتاجرين في العبيد، وكان المورّد لها أكبر نخاس في العالم يسمى (جون هونكز) وقد أهدت إليه الملكة شعارا من تمثال لعبد موصدا بالسلاسل والأغلال، أما أمريكا فقد بلغ عدد العبيد فيها قرابة عشرين مليونا يوما ما، وكانت هذه الصورة البشعة بناء على فتوى من أحبار ورهبان اليهود والمسيحيين بأن استعباد السود واجب، وعللوا الفتوى بأنهم من سلالة يافث بن نوح، وظلوا على هذه العقيدة حتى قرن الحضارة الحالي، القرن العشرين، ويرجع تاريخ هذه الفتوى التي أخذت شكل القانون الواجب تطبيقه إلى عام 1685، وكان من ضمن بنوده وإن كانت قد خفت حدته في السنوات الأخيرة (من اعتدى على السادة من العبيد بأقل اعتداء قتل، وإذا سرق عوقب أشد العقاب، وإذا أبق العبد قطعت أذناه ورجلاه وكوي بالحديد المحمّى، وإذا أبق للمرة الثانية قتل.
وفي عهد لويس الرابع عشر الفرنسي صدر قانون ينص على (احتقار الجنس الأسود مهما كانت منزلته، ولا يعطون مميزات الجنس الأبيض بأي حال) ، وأنذر من لم يخرج من البلاد قبل يناير سنة 1860م سيباع في المزاد العلني.
فهل هذا كله في تعاليم الإسلام أو فعله المسلمون، أم كان كما ذكرنا وهو قليل من كثير اكتفينا بما أوردنا تحاشيا للتطويل، ومثل يكفي عن أمثال، وهكذا فعله غيرنا، وهذا الغير هو عدونا فعله ونسبه إلينا، على طريقة (ضربني وبكى، وسبقني واشتكى) و (رمتني بدائها وانسلت) ، ليشفوا ما بصدورهم من عداوة الديانة، وضغينة العقيدة.
فماذا فعل الإسلام لما جاء، ووجد هذا الوباء قد هيمن على الأرض في كل الأرجاء، كان من الحكمة ومن جمال التنظيم الإلهي لملكوته، ألا يلغيه سبحانه بمجرد جملة وحي ينزلها، وإنما درجها على طريقة ما فعل تعالى في أمر الخمر، فملأ قرآنه بتشريعات جعل الشرط الأول في كفارتها عتق الرقاب وحرية هؤلاء الأدلاء، فقتل الخطأ بأنواعه الثلاثة، قتل مطلق ولو كان ذا قربى، وقتل عداوة الخصومة والمقتول مؤمن، وقتل المترابطين بميثاق ولو غير مؤمن، يلزم فاعل الحالات الثلاثة بعتق رقبة، ولا يقبل غيرها ما دام يملكها.
الإفطار العمد في رمضان، كذلك.
كفارة الظهار، كذلك.
كفارة اليمين، كذلك.
وبغير كل ما مر جعل الإسلام أعظم ما يتقرب به المسلم إلى ربه عتق الرقاب، ولنقدم نماذج رائعة ليعرف الكل كيف كنا مع هذا التوجيه السماوي الرفيع، بادئا بأقوال من رسولنا صلى الله عليه وسلم ثم بمن دونه.
"ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة، ومن كنت خصمه خصمته، رجل أعطي بي ثم غدر، ورجل باع حرا فأكل ثمنه، ورجل استأجر أجيرا فاستوفى منه العمل ولم يعطه أجره " رواه البخاري.
"ثلاثة لا يقبل الله منهم صلاة: من تقدم قوما وهم له كارهون، ورجل أتى الصلاة دبارا – أي يقضيها بعد فواتها- ورجل اعتبد محرره" رواه أبو داود.
"عودوا المريض، وأطعموا الجائع، وفكوا العاني" رواه البخاري.
روى أبو داود عن المعرور بن سويد قال: دخلنا على أبي ذر بالربذة، فإذا عليه برد وعلى غلامه مثله، فقلنا: يا أبا ذر، لو أخذت برد غلامك إلى بردك فكانت حُلة، وكسوته ثوبا غيره، فقال أبو ذر: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "هم إخوانكم جعلهم الله تحت أيديكم، فمن كان أخوه تحت يده فليطعمه مما يأكل، وليكسه مما يكتسي ولا يكلفه ما يغلبه، فإن كلفه ما يغلبه فليعنه " رواه البخاري.
"من قذف مملوكه بريئا مما قال، أقيم عليه الحد يوم القيامة، إلا أن يكون كما قال " رواه البخاري.
وروى عمار بن ياسر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من ضرب مملوكه ظلما، قيد منه يوم القيامة" رواه الطبراني.
عن ابن عمر أنه أعتق مملوكا له ثم أخذ من الأرض عودا أو شيئا فقال: مالي فيه من الأجر ما يساوي هذا، سمعت رسول الله يقول:"من لطم مملوكا له أو ضربه فكفارته عتقه " رواه مسلم وأبو داود.
وعن ابن عباس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "عبد أطاع الله وأطاع مواليه، أدخله الله الجنة قبل مواليه بسبعين خريفا، فيقول السيد: رب هذا كان عبدي في الدنيا، قال: جازيته بعمله، وجازيتك بعملك" من تيسير الوصول.
عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله: "من أعتق رقبة مسلمة أعتق الله بكل عضو منه عضوا منه من النار، حتى فرجه بفرجه" رواه البخاري.
وعنه صلى الله عليه وسلم: "أيما رجل مسلم أعتق رجلا مسلما فإن الله عز وجل جاعل وفاء كل عظم من عظامه، عظما من عظام محرره، وأيما امرأة مسلمة أعتقت امرأة مسلمة، فإن الله عز وجل جاعل وفاء كل عظم من عظامها، عظما من عظام محررتها من النار" رواه أبو داود.
أسر في بدر أبو عزير بن عمير أخو مصعب بن عمير رضي الله عنه، فقال: كانوا إذا قدموا غداء أوعشاء خصوني بالخبز وأكلوا التمر لوصية الله إياهم بنا.
وروي أن عليا رضي الله عنه أعطى غلاما دراهم ليشتري بها ثوبين متفاوتي القيمة، فلما أحضرهما أعطاه أرقهما نسيجا وأغلاهما قيمة، وحفظ لنفسه الآخر، وقال له:"أنت أحق مني بأجودهما، لأنك شاب تميل نفسك للتجميل، أما أنا فيكفيني هذا".
روي أن عثمان بن عفان رضي الله عنه دعك أذن عبد له على ذنب فعله، ثم قال له عثمان بعد ذلك:"تقدم واقرص أذني" فامتنع العبد، فألح عثمان عليه، فبدأ يقرص بخفة، فقال له عثمان:"أقرص جيدا فإني لا أتحمل عذاب يوم القيامة"، فقال العبد:"وكذلك يا سيدي، اليوم الذي تخشاه أخشاه أنا أيضا".
رفع عبد لزين العابدين شاة وكسر رجلها، فسأله الإمام:"لماذا فعلت هذا؟ " فقال العبد: "لأثير غضبك"، فرد عليه، "وأنا سأغضب من علّمك وهو إبليس، اذهب فأنت حر لوجه الله".
دخل رجل على سلمان الفارسي رضي الله عنه فوجده يعجن، فقال له:"يا أبا عبد الله، ما هذا؟ " فقال: "بعثنا الخادم في شغل، فكرهنا أن نجمع عليه عملين".
هذا وقد أمر الإسلام الحاكم أن يرصد ثُمُنَ الزكاة لفك الرقاب، أبعد هذا نتهم ونحن المدافعون، ويُبرَّأ غيرنا وهم الدافعون؟ أيدان البرآء ويبرؤ المجرمون؟ ولكن هكذا الإسلام، كتب عليه أن يظل في المعترك طالما الدنيا قائمة، وعندما تبيد بباطلها لن تكذب العين ناظرها، عندما ترى لمن انعقد النصر والعز أبد الآبدين.
أما عن مواد هذا الباب (الباب الرابع) التي تحدثت عن حق كل إنسان في تولي الوظائف رئاسية كانت أو مرؤوسية، ونحن لا نتركها منفلتة مطلقة، وإنما نشترط في ذلك الاستقامة على أمر الله والاشهاد بالأمانة والحرص على قضاء مصالح المسلمين، وسنكتفي بآيتين نفصلهما تفصيلا مسهبا إن شاء الله يستبين منهما القارئ ما وضعه الإسلام من ركيزة راسخة الغور، تقوم عليها ولاية الأعمال في الدولة لتخدم غيرها وليس لتخدم هي، والآية الأولى تتصل برأس الدولة، والثانية بأعضائها الذين يتكون منهما جسم هذه الدولة.
فعن الأولى يقول عز من قائل: {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ} ، والتمكين في الأرض هو بأعلى ما يتولى الإنسان من شؤون يصبح بها سيد قومه المطاع، وقد أشير بذلك في أكثر من آية، كقوله سبحانه عن ذي القرنين {إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ} ، فقد آتاه سبحانه من القوة والسلطان ما ذكرت الآية بعد ذلك، وكقوله تعالى {وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الأَرْضِ} ، وكقوله تعالى {ولقد مكناهم فيما إن مكنَّاكم فيه} أي القوة والجاه والسلطان.
{أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ} أي أساس التمكين أن يقوم الممكَّن بما يجعل من نفسه نموذجا طيبا يُتَّبع الذين سادهم وتولى أمرهم، وأساس هذا الذي يجعل منهم أهلا إلى أن يهابوا ويُتبعوا، هو أن يتبّعوا ما أمر به من الله جل علاه، ومستحيل أن يكون ذلك بغير الصلاة والزكاة، واكتفت الآية بهما لأنهما قمة العبادات وأحبها إلى الله، وإتيانهما بصدق يلزم المعتز بهما أن يجعل بقية العبادات في نفس الدرجة من حيث الحرص والأداء، ولو كانت سننا ومستحبات {وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ} . فهو بعد أن يأخذ نفسه أولا حتى يرى من رعيته على الحال الجميل الذي أسلفنا، فتأتي النظرية المأثورة سلسلة سهلة (الناس على دين ملوكهم) ، لكنه لم يقف عند تأثر الناس بمسلكه، بل راح يبحث ويراقب من
حاد عن هذا المسلك، وبذلك أصبح آمرا بالمعروف ناهيا عن المنكر بما كرمته به الآية، ولأن الله شد ملكه ومكن سلطانه، لا يكتفي بالأمر بالمعروف والنهي على طريقة الوعاظ الذين لا يملكون إلا الكلمات يحركون بها اللسان، ثم ينفلتون تاركين الخيار لمن استمعوا إليهم طاعة أو معصية، ولكن الحاكم القائم بأمر الله يملك اللسان والسنان معا، ويعطي لكلٍّ من معينه حتى يلتقي النوعان معه على وجه، هو ثم وجه الله {وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ} ، فإن كان أمر الحاكمين والمحكومين على إيداع ما ذكرت الآية، فلن يكون هناؤهم وعزهم في الدينا فقط بسبب ما أطاعوا به الله، وإنما في العاقبة الكبرى لهم شيء آخر ما خطر على البال {فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً} أي في الدنيا {وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} أي سيكون جزاء الآخرة أحسن من ذلك الذي استحسنوه في الدنيا، وإن كان الأمر على غير ما ذكرت الآية، فالعاقبة أيضا في انتظار وصولهم إليها، ولكن شتان، على صورة ما قال الشاعر:
سارت مشرقة وسرت مغربا
…
شتان بين مشرق ومغرب
والآية الثانية التي قلنا إننا سسنتناولها بالتحليل قوله تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} .
{وَعَدَ اللَّهُ} ولو قلنا وعد غيره لما اطمأنت النفس على تنفيذ الوعج إلا إذا وقع وتم، لأن غيره قد يملك أسباب الوفاء وقد لا يملك، وقد يكون ساعة الوعد صادق النية أو عكس ذلك، وحتى لو كان صادقها ويملك أسباب الوفاء فقد يطرأ له ما لم يحتسبه فريغم على عدم الوفاء أو يتأخر زمنا ما حتى تتوفر له ظروف الوفاء، لكن لما نسمع هذه الجملة {وَعَدَ اللَّهُ} فيقفز إلى الذهن حالا أن الذي يملك أسباب الوفاء كاملة، هو الأقدر من كل ما عداه على أن يفي بما وعد، وقد سأل سبحانه متحديا {وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ} ثم وعد {وَعْدَ اللَّهِ لا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ} ذلك لأن الإمكانات كلها هو آخذ بناصيتها، وبالتالي فلن يثنيه أحد عن إتمام الوعد والموعد، لأن كل من عداه مخلوق له يلازمه ضعف الخلقة العاجزة، المحتاجة إلى عون موجدها.
{الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} فالوعد بالخير لا يعطى إلا لمن قدَّم له، وعكسه له الوعيد وليس الوعد، فأصحاب الوعد هم المذكورون بصفتهم الموضحة في الآية - آمنوا وعملوا الصالحات - ذلك لأن الكثير يدعي الإيمان، ولكن الدورة الإيمانية في القلب أضعف من أن تحرك آلات الجسم بالعمل الصالح، ومن هنا فحظه في وعد الله بعيد المنال، أما إذا كانت قوة الدفع في القلب تجعل الدورة دفاقة إلى جميع البدن، فستجعله ينحني راكعان ويمد يده مزكيا، ويلجم نفسه صائما، ويجعل من الحلال والحرام جنديين يقظين يوقفانه عند حدود الله، ومن أصبح منتجا للخير يفيض منه على نفسه وغيره، فكان أن أردفت الآية ترفع شأنه لتجعله أهلا للظفر بالوعد الصدق وهو:
{لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} ، والاستخلاف نوعان: نوع خاص، وهو الخلافة والإمارة فيصبح جليلا مهابا يرهب منه ويرغب فيه، ونوع عام وهو الاستخلاف في تولي الأعمال
بجميع أنواعها والاستيلاء بالوصايا والهدايا والتوارث ونحو ذلك، فيصبح المجتمع كله نعم الخليفة لله في أرضه، وفي الآخرة هم سعداء خلقه {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَة} {لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلأَجْرُ الآخِرَةِ أَكْبَر} ، هكذا مجتمع المعرفة بالله، من قبل ومن بعد، ثم تستمر الآية التي نحن بصددها والتي أعطت حق العمل الجليل المستمر من السفح إلى الذُّرى قائلة:
{وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ} إذ لا عمل ولا هناء بعمل ولا استقرار به من الفرد إلى المجموع إلى الحاكم إلا بالدين الذي ارتضى لهم، وليس سواه البتة {وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِيناً} ، يمكنه الله لهم يجعلهم يعيشون في عز أحكامه ونور تنفيذه، يعبدون به ويحكمون به ويسوسون بأوامره ونواهيه، ويقاتلون به ومن أجله، وينشرونه ويمكنون مكانه في البلاد والعباد، وهل إذ أصبح قوم هذا شأنهم يخوفهم الله من أحد سواه؟ {وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً} فلا قوة كفار أفرادا كانوا أو دولا يستطيعون تخويفهم أو كسر شوكتهم، أليس الله بكاف عبده؟ {وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِه} ، ثم تستمر آياتنا قائلة:{يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً} ثناء من الله عليهم أولا، وسبب لما أصبحوا فيه ثانيا، وهل يكون العابد الموحد، والمعتمد على قهر القاهر فوق عباده، وعلى القائل عن نفسه {كَتَبَ اللَّهُ لأَغْلِبَنّ} هل يكون هذا النوع من الذين أدركوا الحقيقة، إلا أن يمكن لهم في الدنيا وفي الآخرة من مالكهما وحده علا وعز.
{وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} فبعد أن علم وفهم، ثم أنكر وراح يكفر، فهل بأقل من الفسق يوصف، وما من وصف هو أدنأ من الفسق، فهو لمعصيته المتمردة على كل معقول ومنقول مقبول، فهو متمرد على نفسه وظالم لها مبين، وكتمرد على كل ناصح أمين، ونهاية الأمر أن ذلك أوصله إلى التمرد على رب العالمين، فهل يبقى هملا ويترك عبثا، أم هو هذا الاستفهام الإنذاري التحقيري {أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْكَافِرِينَ} .
ذلك - بعد تحليل هاتين الآيتين - هو حقيقة العمل للصغير والكبير والمحكوم والحاكم، بشروطه الرائعة التي وضعتها الآيتين، وميزته الفذة الفريدة، أنه عمل مُسعد لأهله حالا مآلا، وليس على طريقة حقوق الإنسان التي وضعها لنفسه، فهي مادة صرفة تنتهي بنهاية مادة الدنيا، وما كان لغير الله انقطع وانفصل.
ثم كعاتنا نقدم من عاطر ما سلف من أيامنا نماذج نصِّية لا تعليق معها.
عن أبي ذر رضي الله عنه قال: "قلت يا رسول الله: ألا تستعملني؟ - أي توكل إليّ بعض عملا - فضرب بيده على منكبي ثم قال: "يا أبا ذر، إنك ضعيف، وإنها أمانة، وإنها يوم القيامة خزي وندامة، إلا من أخذها بحقها، وأدى الذي عليه فيها" رواه مسلم.
وعن يزيد بن أبي سفيان قال: قال لي أبو بكر الصديق حين بعثني إلى الشام، يا يزيد، إن لك قرابة عسيت أن تؤثرهم بالإمارة، وذلك أكثر ما أخاف عليك بعد ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من ولي من أمر المسلمين شيئا فأمّر عليهم أحد محاباه، فعليه لعنة الله، لا يقبل الله منه صرفا
ولا عدلا حتى يدخله جهنم" رواه الحاكم وصححه.
جاء رجل يسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم: متى تقوم الساعة؟ فقال له: "إذا ضيعت الأمانة فانتظر الساعة، فقال الرجل: وكيف إضاعتها؟ قال إذا وسد الأمر لغير أهله فانتظر الساعة " رواه البخاري.
عن جنادة بن أبي أمية قال: دخلنا على عبادة بن الصامت وهو مريض، قلنا: أصلحك الله حدث بحديث ينفعك الله به سمعته من النبي صلى الله عليه وسلم، قال:"دعانا النبي صلى الله عليه وسلم فبايعناه، فقال فيما أخذ علينا أن بايعنا على السمع والطاعة في منشطنا ومكرهنا، وعسرنا ويسرنا وأثرة علينا، وألا ننازع الأمر أهله، إلا أن تروا كفرا بواحا عندكم من الله فيه برهان" رواه البخاري.
جمع أبو بكر رضي الله عنه كبار الصحابة في مرض وفاته وقال لهم: "إنه قد نزل بي ما ترون، ولا أظنني إلا ميتا، فأمروا عليكم من أحببتم، فإنكم إن أمرتم في حياة مني، كان أجدر ألا تختلفوا بعدي"، لكنهم لم يجمعوا على واحد منهم وتركوا الأمر لأبي بكر، فاستشار وتم بذلك أن اختار عمر ثم وافقوا عليه، وبعد ذلك دخل عليه أحدهم قبل الوفاة وقال له:"ما أنت بقائل لربك إذا سألك عن استخلافك عمر علينا وقد ترى غلظته، وهو إذا وُلِّي كان أفظ وأغلظ"، فرد أبو بكر قائلا:"أبالله تخوفني؟ خاف من تزود من أمركم بظلم، أقول اللهم إني استخلفت على أهلك خير أهلك".
لما طعن عمر رضي الله عنه قيل له وهو بين الموت والحياة: "أوص يا أمير المؤمنين، إستخلف"، قال: أأتحمل أمركم حيا وميتا
…
! وإن أستخلف فقد استخلف من هو خير مني - أي أبو بكر - وإن أترككم فقد ترككم من هو خير مني - أي النبي صلى الله عليه وسلم –" ثم ذكر أسماء ستة من الصحابة هم عثمان بن عفان، وعلي بن أبي طالب وعبد الرحمن بن عوف، وسعد بن أبي وقاص، وطلحة بن عبيد الله، والزبير بن العوام، وأضاف إليهم ابنه عبد الله مخبرا إياه أن يبدي الرأي ولا يقبل الخلافة، حتى اختاروا بمحض إرادتهم عثمان رضي الله عنه.
قال المغيرة بن شعبة لعمر يوما وهو في عافيته: "استخلف ابنك عبد الله على المسلمين"، فقال له:"لا أَرَبَ لنا في أموركم، وما حمدتها لأرغب فيها لأحد من بيتي، إن كان خيرا فقد أصبنا منه، وإن وكان شرا فبحسب آل عمر أن يحاسب منهم رجل واحد".
ذهب بعض الصحابة إلى علي في بيته بعد مقتل عثمان ليبايعوه في بيته، فقال رضي الله عنه:"في المسجد، فإن بيعتي لا تكون خفية، ولا تكون إلا من رضا المسلمين"، ولما طعن في نهاية خلافته أقبل بعضهم وقالوا:"إن فقدناك، ولا نفقدك، أفنبايع الحسن؟ "، فقال لهم:"ما آمركم ولا أنهاكم، أنتم أبصر".
تحدث عمر رضي الله عنه مع الناس يوما فقال: "أرأيتم إذا استعملت عليكم خير من أعلم، ثم أمرته بالعدل، كنت قضيت ما عليّ"، قالوا:"نعم"، فقال: "لا حتى أنظر عمله، أعمل بما أمرته أم لا؟
…
أيما عامل لي ظلم أحدا بلغتني مظلمته فلم أغيرها فأنا ظلمته"، وقد ظلم أحد الولاة رجلا من
الرعية في أرضه فشكاه إلى عمر فبعث إليه يقول: "أنصف فلانا من نفسك، وإلا فأقبل، والسلام"، فسارع الوالي بردّ الأرض إلى صاحبها، وفي خطاب له إلى أحد الولاة يقول:"إفتح لهم بابك، وباشر أمورهم بنفسك، فإنما أنت رجل منهم، غير أن الله جعلك أثقل منهم حملا".
وكتب رضي الله عنه إلى عامله أبي موسى الأشعري: "قد بلغ أمير المؤمنين أنه فشا لك ولأهل بيتك هيئة في لباسك ومطعمك ومركبك ليس للمسلمين مثلها، فإياك يا عبد الله أن تكون مثل البهيمة التي مرت بواد خصب، فلم يكن لها هم إلا السمن، وإنما حتفها في السمن، واعلم أن للعامل مردا إلى الله، فإذا زاغ العامل زاغت رعيته، وإن أشقى الناس من شقيت به رعيته".
وبلغه رضي الله عنه أن أميره على الكوفة قد بنى لنفسه منزلا فخما، وجعل عليه حاجبا، فأرسل محمد بن مسلمة رضي الله عنه وأمره أن يأخذ زيتا وحطبا ويحرق القصر، وأعطاه رسالة ليبلغها له "بلغني أنك بنيت قصرا اتخذته حصنا، وجعلت بينك وبين الناس بابا، فليس بقصرك، ولكنه قصر الخبال، لا تجعل على منزلك بابا يمنع الناس من دخوله، وتنفيهم به عن حقوقهم".
كتب إلى عمرو بن العاص واليه على مصر يقول له: "بلغني أنك تتكئ في مجلسك، فإذا جلست فكن كسائر الناس".
وقوله رضي الله عنه: "أنا في مال المسلمين كولي اليتيم، إن استغنيت استعففت، وإن افتقرت أكلت بالمعروف".
ونختم بهذا الحديث وإن لم يأت في ترتيبه مع الأحاديث "من استعمل رجلا على عصابة، وفيهم من هو أرضى لله منه، فقد خان الله ورسوله والمؤمنين" رواه الحاكم وصححه.
وحسبنا ذلك من كثير {أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُون}
أما عن حرية الفكر فيما يدعى بإعلان حقوق الإنسان، فمن في العالمين طُرًّا يضاهيها في هذا؟ لقد زخر كتابنا الأعظم في الحصن على إطلاق الفكر بآيات عديدة، وليست باثنتين أو ثلاثة، {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَفَلا تَتَفَكَّرُونَ} ، {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} ، {قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا} ، {أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ} {أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِم} {كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآياتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ} وكثير غيرها.
والتفكر عندنا ذو غايتين، نفكر في هذا الصنع الملكوتي الهائل، سواء ما ثبت منه كالسماء وما فيها من شمس وقمر وكواكب، والأرض وما فيها من هواء وفضاء وجبال ورمال، أو ما يتقلب فيها من عوارض إنسانية وحيوانية وزرعية، أو ما لا حصر له من عجائب هذه الصنعة الكونية المهيبة، فمن شأن الفكر في هذا أن يصلنا بغير انقطاع بالقوي الأعظم الذي صنع فأبدع، فنزداد به إيمانا وعليه اعتمادا وبه وثوقا، فنأمن في جنابه وننأى عن عذابه، لما فنينا في طاعته وتسابقنا إلى مرضاته، نتيجة للتفكر في ملكوته زيادة على تصديقنا برسالاته.
والغاية الثانية من التفكر لننتج بها فجاجا من أصول شريعتنا ومعين سنتنا، بما نسميه (الاجتهاد) ، تلك الفجاج التي نأخذ نورها من نور الله الذي أنزله الله على رسول الإسلام صلى الله
عليه وسلم ليكفي به العالمين ضياء مثناء، فيستمر هذا النور بالاجتهاد وهاجا لا يخبو ما بقيت أيام الدنيا، فلا إثم يقع علينا ولا كبت يئد فكرنا.
أما عن الذين جاؤوا ليضعوا لنا في آخر الزمان حقوق الإنسان، فاسمع عنهم أيها القارئ ما ظنوه جهل لدينا.
لقد عاقبت أوربا مفكريها في أحقاب متقاربة بالموت عددا بلغ في مجموعه ثلاثمائة ألف، قتلوا منهم إحراقا بالنار وهم أحياء اثنين وثلاثين ألفا، منهم الباحثان الشهيدان (برونو) و (غاليليو) ، والأخير لأنه قال بدوران الأرض حول الشمس - سواء كان ذلك خطأ أو صوابا - فما كانت هناك ضرورة لقتله، ولما قال (دي رومنس) إن (قوس قزح) يظهر من انعكاس ضوء الشمس في ماء السحاب، وليس قوسا حربيا في يد الله ينتقم بها من عباده كما يقول الرهبان الكنسيون ليرهبوا الناس، فكان أن سجن حتى مات، ثم حاكموا جثته فألقيت في النار، وأحرقوا (جيوفث) و (فأيتي) شيا على النار لأفكار قد لا تستحق عندنا التعزير من الإمام، إن لم يكن لها قدر واحترام، ونحن المسلمين ماذا كنا وقتئذ؟ لو تحدثنا عن أنفسنا لقيل إنه شيء طبيعي أن يقول الشخص عن نفسه ما يزين به وينكر ما يشين، لهذا سنقدم إليك أيها القارئ العزيز ما قاله مفكر منهم في كتاب ألفه بعنوان (خلاصة تاريخ العرب) وهو الوزير الفرنسي (سيدو) يقول فيه:
لقد أتى محمد فربط علائق المودة بين قبائل جزيرة العرب، ووجه أفكارها إلى مقصد واحد أعلى شأنها، حتى امتدت سلطنها من نهر التاج المار بإسبانيا والبرتغال، إلى نهر الكونج وهو أعظم أنهار الهند، وانتشر نور العلم والتمدن بالشرق والغرب، وأهل أوروبا إذ ذاك في ظلمة القرون المتوسطة وجهالتها، وكأنهم نسوا نسيانا تاما ما وصل إليهم من أحاديث اليونان والرومان أسلافهم الأقدمين، واجتهد العباسيون ببغداد، والأمويون بقرطبة، والفاطميون بالقاهرة، في تقديم الفنون، ثم تمزقت ممالكهم، وفقدوا شوكتهم السياسية، فاقتصروا على السلطة الدينية التي استمرت لهم في أرجاء ممالكهم.
واستطرد (سيدو) يقول في كتابه: وكان لهم من الصنائع والمعلومات والاستكشافات ما استفاده منهم نصارى أسبانيا حين تم طردهم منها، كما أن الأتراك والمغول بعد تغلبهم على ممالك آسيا استفادوا معارف من تغلبوا عليهم، ولا نزال إلى الآن نرى آثار التمدن العربي حين نبحث عن مبادئ ما نحن فيه من المعلومات الأوروبية، فإن العرب في نهاية القرن الثامن بعد الميلاد فقدوا الحمية الحربية وشغفوا بحوز المعارف، حتى أخذت مدائن قرطبة وطليطلة والقاهرة وفاس ومراكش والرقة وأصفهان وسمرقند همتهم في الاشغال بجمع ما ابتكرته الأفهام البشرية من العلوم والفنون، واشتهروا في غالب البلاد خصوصا البلاد النصرانية من أوروبا بابتكارات تدل على أنهم أئمتنا في المعارف.
ويستمر (المسيو: سيدو) في كتابه قائلا:
ولنا شاهد صدق على علو شأنهم الذي تجهله الفرنج من أزمان بعيدة.
الأول: ما أثر عنهم من تاريخ القرون المتوسطة وأخبار الرحل والأسفار وقواميس ما اشتهر من
الأمكنة والرجال والمجاميع الشاملة لكثير من الفنون الفاخرة.
الثاني: ما كان لديهم من الصناعات الفائقة والمباني المتأنقة والاستكشافات المهمة في الفنون، وما وسعوا دائرته من علوم الطب والتاريخ الطبيعي والكيمياء الصحيحة والفلاحة والعلوم الأخرى التي مارسوها بغاية النشاط.
ونختم ما نكتفى به من قول هذا الوزير الفرنسي المفكر: المسيو (سيدو) بتقوله: لقد كان المسلمون متفردين بالعلم في تلك القرون المظلمة، فنشروه حيث وطئت أقدامهم، وكانوا هم السبب في خروج أوروبا من الظلمات إلى النور.
وحسبنا هذا فقد شهد شاهد من أهله، وأي شاهد، فهو من ساستهم وسادتهم ومفكريهم.
إن حرية الفكر عندنا لا تسامى في كل مبادئ الدنيا وقوانينها، حيث وضعها بنفسه سبحانه في أقدس وأخلد كتاب نزل لما قال {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّين} {أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} {قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدَى سَبِيلاً} {فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً} ثم بعد ذلك {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئا} وعندئذ يعرف من أحسن الفكر ومن أساءه، فليس كل من فكَّر قدر.
لقد قلت إن الاجتهاد في شريعتنا فتحٌ واسع ٌلا يوصد بابه، ولقد استعمله رجالنا العظام في أرشد عصور الإسلام، فقد رفض علي رضي الله عنه الخلافة بكل عظمتها وصولجانها عقب وفاة عمر رضي الله عنه لما عرضت عليه مشروطة تحد من فكره ومن اجتهاده، فقد جمع عبد الرحمن بن عوف المسلمين في المسجد.. ثم نادى عليا، وكان عبد الرحمن قد فوض لاختيار الخليفة بعد أن اعتذر هو عنها، على أن يتبعه المسلمون في بيعة من يبايعه.
ووضع عبد الرحمن يده في يد علي قائلا نبايعك على أن تعمل بكتاب الله وسنة رسوله واجتهاد الشيخين - يقصد أبا بكر وعمر- فلم يوافق عليّ على اجتهاد الشيخين وقال: بل أجتهد رأيي، فدفع عبد الرحمن يده ونادى عثمان رضي الله عنه فقبل اجتهاد الشيخين وإن كان قد حدث بعد ذلك ما حدث.
وموقف علي أيضا مع الخوارج مشهور، لما أرسل إليهم عبد الله بن عباس رضي الله عنه ليناظرهم، فرجع إلى علي منهم أربعة آلاف وبقي أربعة آلاف حيث هم، فأرسل إليهم علي يقول: كونوا حيث شئتم، وبيننا وبينكم ألا تسفكوا دما حراما ولا تقطعوا سبيلا، وألا تظلموا أحدا، فإن فعلتم نبذت إليكم الحرب.
ولما سئل رضي الله عنه عن حال الذين شقوا عليه عصا الطاعة وقاتلوه وهم معاوية ومن تبعه أكفار هم؟ قال: لا، أمشركون هم قال: لا، قالوا ما حالهم إذا؟ قال: إخواننا بغوا علينا، فسلام عليه وعلى كل من صنعهم الإسلام في العالمين.