المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الباب الثاني: مقدمة في الصدق والكذب - حقيقة التأويل - ضمن «آثار المعلمي» - جـ ٦

[عبد الرحمن المعلمي اليماني]

الفصل: ‌الباب الثاني: مقدمة في الصدق والكذب

‌الباب الثاني: مقدمة في الصدق والكذب

اعلمْ أنَّ من أعظم نِعَم الله عز وجل على عباده تيسيره لهم الكلام، الذي يتفاهمون به، ولولاه لكانوا كالأنعام أو أضل سبيلًا. أَلَا ترى أنَّ الإنسان إذا نَشَأ مُنْفَرِدًا عن أبناء جِنْسه لا يُدرِك إلَّا ما وقعت عليه حواسُّه، والحواسُّ لا تهتدي إلى حقائق الأشياء، فإذا رأى مثلًا شجرةً لم يهْتَدِ إلى معرفة نفعها من ضرّها إلَّا بتجربةٍ، والتجربة قد تُودِي بحياته، ثمَّ لا يهتدي إلى صفة استنباتها، والقيام عليها وإصلاحها إلَّا بتجربةٍ، قد يفوز فيها، وقد لا يفوز. ولعلَّه يقضي عمره كلَّه في بضع تجارب، ولا يتفرَّغ مع ذلك للنظر في غير قوته، فلا يمكنه تحصيل علمٍ، ولا إتقان صناعةٍ، ولا معرفة ما لم يقع عليه بصرُه من الأرض. فأمّا الدِّين فلا وَصْلَة بينه وبينه إلَّا بعض أمورٍ كليةٍ، إذا قُضِيَ له أن يتفرّغ لها، ورُزِقَ عقلًا صحيحًا، وذكاءً مرهفًا.

ثُمّ إذا اجتمع هذا بأمثاله، ولم يكن هناك كلامٌ يتفاهمون به، فقد يتعاونون على تحصيل القُوت ونحوه تعاون النمل والنحل، ولكنَّه لا يستطيع أحدهم أنْ يُطْلِعَ الآخر على ما اطَّلَعَ عليه، إلَّا بأن يذهب به إلى ذلك الشيء حتى يَقِفَه عليه، فإذا كان الذي اطَّلَعَ عليه الأول معنىً من المعاني تعذَّر إطْلَاعُه الآخر عليه.

نعم هنالك الإشارة، ولكنَّها ضئيلة الفائدة عسرة الفهم، وأنت ترى الأخرس وما يُعانيه من مشقَّة الحياة، وترى الغريب إذا دخل بلد قومٍ لا يعرفها، ولا يعرف لغتهم، ولا يعرفون لغته ما تكون حاله! فيسَّر الله عز وجل للنَّاس بالكلام أنْ يَطَّلِعَ أحدهم على جميع ما اطَّلَعَ عليه ألوفٌ منهم بأيسر وقتٍ.

ص: 10

فالقضية التي لا يُمكن أن يفهمها بالإشارة، أو يمكن أن يفهمها بعد صرف ساعةٍ أو ساعتين يفهمها بكلمةٍ واحدةٍ، وبذلك بَلَغَ الإنسانُ إلى ما تراه من العِلْم والمدنيَّة.

إذن فلولا الكلام لكان الناس كالأنعام. فنعمةٌ هذا شأنها وخطرها ما عسى أن يكون حالُ من استعملها في نقيض مقصودها؟!

أَلَا ترى لو أنَّ امرأةً سافرت برضيعها، فنَزَلَت في بيتٍ من مدينة، ثم تَرَكَت طفلها وخَرَجَت، ولمَّا أرادت الرجوع إلى البيت لإرضاع طفلها لم تهتد إلى الطريق، فسألت شخصًا، وذكرت له اسم المحلَّة، فأرشدها إلى الطريق، فرَجَعَت إلى طفلها، فوجدته يكاد يموت، وعَلِمَت أنها لو تأخَّرَت ساعةً مات؛ فأرضعته. ثم تدبَّرَت نعمة الكلام، أليست تعلمُ أنَّها لو كانت بكماء لمات ابنها.

فافرض أنّ الذي سَأَلَتْه كذب عليها، فأراها طريقًا تؤدي إلى محلَّة أخرى فذهبت فيها، فمَشَت ساعةً أو أكثر، ثمَّ تبيَّن لها الأمر فسألت آخر فأرشدها، فلم تبلغ البيت إلَّا وقد مات طفلها، أليست تتمنَّى أنَّ الذي كذب عليها لم يُخْلَق، أو أنّه كان أصمَّ لا يسمع سؤالها، أو نحو ذلك؟ بلى، وكلُّ إنسان يتمنَّى معها ذلك.

ثم افرض أنَّ الذي أخبرها أوَّلًا وَرَّى في خبره، كأن قال لها: هذا القطار يذهب إلى تلك المحلَّة، وأومأ إلى قطار ذاهب إلى جهةٍ أخرى، وعَنَى أنَّه عند رجوعه يذهب إلى تلك المحلَّة أَلَا تكون النتيجة واحدة، والمفسدة واحدة؟ سواء أَوَرَّى أم لم يُوَرِّ.

ص: 11