الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ونحوها لا يكون المقصود من ذكره التَّعريف بكُنهِهِ وحقيقته وكيفيَّته مُفَصَّلًا، وإنّما يُذْكَر تنبيهًا على الآيات والمَثُلات = كلُّ هذا صحيح، ولكن هل يقتضي هذا جواز أن يكون الواقع في تلك الأمور خلاف ظاهر الخبر الشرعي؟
قد كنت أنكر هذا أشدَّ الإنكار، وأقول: إنَّ الظاهر حجةٌ قطعيةٌ، وإنَّه إذا كان الواقع خلاف ظاهر الخبر كان الخبر كذبًا، وإن لم يكن المقصود من الخبر بيان ذلك الأمر.
ثم رأيتُ في أصول الفقه مسألةً تعضُدُ ما قاله ذلك العالم، وهو قول بعضهم: إنَّ النَّص إذا سِيقَ لمعنًى غير بيان الحكم، وكان عامًّا لا يُحتجُّ بعمومه في الحكم
(1)
.
ويمكن أن يطرد ذلك في سائر الدلالات الظاهرة، ووجه ذلك: أنَّ المتكلِّم إنَّما يعتني بالمعنى المقصود بالذَّات، وأمَّا ما ذُكر عَرَضًا فإنَّه لا يعتني به، كأنَّه يَكِلُ تحقيق حُكْمِه إلى موضعه.
ويقرب من هذا ما يقوله الفقهاء وغيرهم: إنَّ
المسألة إذا ذُكِرَت في غير بابها استطرادًا، ثم ذُكِرَت في بابها مع مخالفةٍ فالمعتمد فيها ما في بابها
.
وههنا معنى آخر يعضد ذلك أيضًا، وهو: أنَّ المتكلِّم في عِلْمٍ قد يذكر في أثناء كلامه مسألة من عِلْمٍ آخر، فربّما ذكر قاعدةً يكون ظاهر كلامه أنّها
(1)
لعله يقصد اختلاف الأصوليين في مسألة النص لو ورد في سياق المدح أو الذم عامًّا هل يفيده في الحكم أم لا؟ الأكثر على إفادته العموم.
ينظر في ذلك: "التحبير شرح التحرير" للمرداوي (5/ 2502 - 2505)، و"شرح الكوكب المنير" لابن النجار (3/ 254)، و"الأحكام" للآمدي (2/ 343)، و"البحر المحيط" للزركشي (3/ 195).
كُلِّية، ومع ذلك فلا يعتدّ بهذا الظاهر، ولا يُنسبُ إلى المتكلِّم أنَّه ادّعى كُلِّيتها، ولا يُعترض عليه بذكرها على ذلك الوجه.
كأن يقول المفسِّر في قوله تعالى: {هُدًى لِلْمُتَّقِينَ} [البقرة: 2]: أصل (هدى) هُدَيٌ، والقاعدة الصرفية: أنَّه إذا تحركت الياء وانفتح ما قبلها قُلِبَت ألفًا، والقاعدة الأخرى: أنَّه إذا التقى السَّاكنان حُذف الأول.
وهاتان القاعدتان ليستا على إطلاقهما، بل لكلٍّ منهما قيودٌ وشروطٌ معروفةٌ في عِلْم الصَّرْف، ومع ذلك لا يُنْسَب إلى ذلك المفسِّر قصور ولا تقصير، ولا دعوى خلاف ما تقرّر في علم الصَّرْف؛ لأنّه يقال: ليس هو في صَدَد الكلام في علم الصَّرْف حتى يُنْسَب إليه ذلك، وإنّما هو في صَدَد التفسير، ولكن انجرَّ الكلام إلى هاتين القاعدتين فذكرهما على قدر ما دعا إليه الحال. وهكذا في القواعد النحوية والبيانية وغيرها.
وأبلغ من هذا: أنَّ أصحاب الكتب المختصرة في العلوم يذكر أحدهم كثيرًا من قواعد ذلك العلم، بحيث يكون ظاهر الكلام أنّها كلية، ومع ذلك لا ينسب إليهم قصور ولا تقصير، ولا دعوى كُلِّيَّتها، بل يُقال: هذا المختصر وُضِع للحفظ ولتعليم المبتدئين، وكلٌّ من هذين يستدعي الإجمال وترك التفصيل بذكر القيود والشروط، بل يُوْكَل ذلك إلى الشروح والمطوَّلات.
وأبلغ من هذا وأبلغ: أنّ الكتب الموضوعة للمبتدئين قد يُذكَر فيها ما ليس بصحيح في نفسه، ولكن سَلَكَه المؤلِّف لأنّه أقرب إلى فهم المبتدئ، فيقول النحوي مثلًا: الكلام قد يركّب من كلمتين، اسمٍ وفعلٍ، مثل: قام الرجل، والرجل قام، أو اسمين، مثل: زيدٌ قائمٌ، أو: القائمُ زيدٌ، مع أنَّ "قامَ الرجلُ" ثلاث كلمات، و"الرَّجلُ قام" أربع كلمات، فعل وحرف واسمان،
و"زيدٌ قائمٌ" ثلاثة أسماء، و"القائمُ زيدٌ" أربعة أسماء.
ومن كان له ممارسة للنّحو والصَّرْف وَجَد فيها كثيرًا من هذا، ومن عَالَج التعليم يعلم يقينًا أنّه لا غِنَى به عن سلوك هذه الطريق في كثيرٍ من المسائل.
وكما أنَّ المعلّم النّاصح يتجنَّب أن يخرج بالطالب في الدَّرس عن ذلك العلم، فهكذا النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يتجنّب أن يَشْغلَ الناس بما لم يُبعث لأجله، بل كثيرًا ما يُقِرُّهم على ما يعلم أنّه خطأٌ وغلطٌ؛ لأنّ ذلك لا يضرُّهم في دينهم، فإذا دعت المصلحة إلى ذكر ما يتعلّق بشيءٍ من الأمور الطبيعية ذَكَرَه على وجهٍ لا يجرُّ إلى إيقاع السامعين في الخوض في أحواله الطبيعية، فيشتغلوا بذلك عن المقصود.
ومن ضرورة هذا المعنى أن لا يذكر لهم في الأمور الطبيعية خلاف ما يعرفون، أو لا يذكر لهم ممَّا لا يعرفون شيئًا فيه دقةٌ وغرابة، فلا يذكر لهم مثلًا: الأرض كروَّية، أو أنَّها تدور.
فإن قلتَ: فهل يجوز أن يُخبر عن شيء من الطبيعيَّات بكلامٍ ظاهره مخالف للحقيقة؟ هذا هو موضوع السؤال!
قلتُ: أمَّا إذا ثبت أنّ الظَّاهر في مثل ذلك لا يُعتدُّ به، بل يحتمل أنّه مراد، ويحتمل أنّه ليس بمراد، فلا مانع من ذلك؛ إذ لم يبق ذلك الظاهر ظاهرًا، تدبّر!
وقد أجاز جمهور العلماء تأخير البيان إلى وقت الحاجة، فأجازوا أن
يَرِدَ نصٌّ في الحجّ ــ مثلًا ــ يكون وروده في شهر محرَّم، ولذلك النص ظاهرٌ غير مراد، كأن يكون النص عامًّا وهو في علم الله عز وجل غير عامّ، أو مطلقًا وهو في علمه عز وجل مقيّد، أو فيه كلمة مستعملة في علم الله عز وجل في غير ما
وُضِعَت له، ولم تصحب النَّص قرينة، ثم حين حضور الحج يبيِّن الله عز وجل الخصوص والتقييد، وإرادة المجاز.
والوجه في ذلك: أنّ المخاطَبِين لمّا علموا من عادة الشريعة أنَّه قد يقع فيها مثل هذا صار ذلك الظاهر غير ظاهر عندهم، بل هو محتملٌ فقط، فإذا جاء وقت العمل ولم يبيَّن ما يخالف ذلك الظاهر علموا حينئذ أنَّه مراد.
بل قد يقال: لا حاجة إلى علم المخاطَبِين بعادة الشريعة في ذلك، ويكفي أنَّ ذلك جارٍ في العادة مطلقًا، فلو كان لرجلٍ خمسةٌ من الولد صغار، فقال لخادمه: اذهب بالأولاد يوم الخميس إلى المستشفى للتطعيم ضد الجُدَري، وعندما تريد الذهاب أخبرني، فإنَّ الخادم إذا تدبَّر هذا الكلام قال في نفسه: كلمة "الأولاد" تشمل الخمسة كلَّهم، ويمكن أن يكون أراد الخمسة كلَّهم، ويمكن أن يكون ثلاثةً أو أربعةً منهم، وعلى كل حال فحين أريد الذهاب أُخْبِرُه فيظهر ما هو مراده.
وإنّما زدتُ في المثال: "وعندما تريد الذَّهاب أخبرني" لأنَّه لو لم يقل ذلك لضَعُفَ احتمال الخصوص جدًّا؛ لأنّ الإنسان يعلم أنّه ربّما ينسى، أو يغفل، أو ينام، أو يمرض، أو يموت، أو يغيب، وإذا عَرَض له شيء من ذلك عند حضور الوقت فإنّ الخادم يذهب بالأولاد الخمسة، فلو كان يريد الخصوص لاحتاط.
فأمّا الربُّ عز وجل فإنّه مُنَزَّهٌ عن تلك العوارض، فأمرُهُ على الاحتمال حتى يحضر وقت العمل بدون حاجة إلى ما يقوم مقام قول الإنسان:"وعندما تريد الذهاب أخبرني".
وكذلك أمرُ نبيِّه عليه الصلاة والسلام؛ لأنَّه مبلِّغ عن الربّ، والربُّ تعالى متكفِّلٌ بحفظه، أن يَعْرِض له شيء من تلك العوارض يمنع من البيان قبل وقت الحاجة.
والحاصل أنَّ النَّص على الحكم وقد بَقِيَتْ مدَّةٌ إلى حضور وقته إذا كان لذلك النص ظاهرٌ = فهو ظاهر من جهة اللفظ، ولكنّه غير ظاهر من جهة المعنى، بل هو محتمل فقط، فإذا جاء الوقت ولم يُبيَّن عُلِمَ أنّ ما ظهر من اللفظ هو المراد من جهة المعنى أيضًا.
فإذا أطلق الشارع نصًّا في حُكْمٍ لم يحضر وقته، وللنّصِّ ظاهرٌ لفظيٌّ، ثم بيَّن عند الحاجة ما يرفع ذلك الظاهر = لم يلزم من إطلاق النصّ كذبٌ ولا شُبْهَة كذبٍ، فتدَّبر وأمعِن النَّظر.
ثم نقول: معرفة صفات الأمور الطبيعية ليس لها حاجةٌ في الشريعة أصلًا، فلا مانع من ترك بيان ما يتعلق بها أصلًا، وإنَّما يظهر البيان عندما يطَّلِعُ الإنسان على صفة ذلك الشيء، فيتبيَّن له حينئذٍ المعنى المراد من النص، ولا يلزم كذبٌ ولا شُبْهَة كذبٍ إذا تبيَّن أنَّ الواقع خلاف الظاهر اللَّفظي من النَّص.
فلو قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم لرجل: اذهب إلى فلان فستجده يأكل لحم إنسان، فذهب إليه فلم يجده يأكل لحمًا، ولكن وجده يغتاب إنسانًا، لقال: صدق الله ورسولُه، إنَّ اغتياب الإنسان كأكل لحمه.
ولو قال صلى الله عليه وآله وسلم لرجل: أتحبُّ فلانًا؟ فقال: نعم! فقال: أَمَا إنّك ستقتله، فلمّا كان بعد وفاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم سَقَطَت من الرجل كلمة كانت سببًا لقتل صاحبه، لقال: صدق الله ورسولُه، أنا قتلته بكلمتي.
وفي هذا نصٌّ واقع، وهو قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم لأزواجه لمَّا سألْنَهُ أيتُهُنّ أسرع لحوقًا به:"أسرعكنَّ لحوقًا بي أطولُكُنَّ يدًا".
قالت عائشة: "فكُنَّا إذا اجتمعنا في بيت إحدانا بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نمدُّ أيدينا في الجدار نتطاول، فلم نزل نفعل ذلك حتى توفيت زينب بنت جحش، وكانت امرأة قصيرة، ولم تكن أطولنا، فعرفنا حينئذ أنَّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم إنّما أراد بطول اليد الصَّدَقة، وكانت زينب امرأة صنَّاعة باليد، وكانت تدبغ وتخرز وتصدَّق في سبيل الله".
هذا لفظ رواية الحاكم في "المستدرك"
(1)
، كما حكاها الحافظ في "الفتح"
(2)
. والحديث في "الصحيحين"
(3)
، ولكن وقع في رواية البخاري اختصار ووهمٌ، نبَّه عليه الحافظ في "الفتح"
(4)
.
قال الحافظ: "وفي الحديث عَلَمٌ من أعلام النبوة ظاهر، وفيه جواز إطلاق اللَّفظ المشترك بين الحقيقة والمجاز بغير قرينة، وهو لفظ "أطولُكُنَّ"
(1)
(4/ 25) وقال: "صحيح على شرط مسلم، ولم يخرجاه"، ووافقه الذهبي.
(2)
"الفتح"(3/ 286).
(3)
البخاري (1420)، ومسلم (2452) من حديث عائشة رضي الله عنها.
(4)
والوهم والاختصار الذي وقع في رواية البخاري والذي نبَّه عليه الحافظ هو لفظه الموهم أنَّ أول نسائه موتًا بعده "سودة بنت زمعة" رضي الله عنها، والصواب أنَّها "زينب بنت جحش" رضي الله عنها.
إذا لم يكن محذورٌ. قال الزين ابن المُنَيِّر: لمَّا كان السؤال عن آجالٍ مقدَّرةٍ لا تُعْلَم إلَّا بوحيٍ أجابهُنَّ بلفظٍ غير صريح، وأحالهُنَّ على ما لا يتبيَّن إلَّا بآخره، وساغ
ذلك لكونه ليس من الأحكام التكليفيَّة". "الفتح" ج 3 ص 185
(1)
.
وقد يقال: إنّ في الحديث قرينة، بل قرينتين:
الأولى: قوله: "أطولُكُنَّ يدًا"، ولم يقل:"أطولُكُنَّ"، مع أنَّه أخصر، ففي العدول إلى ذكر طول اليد إشارة إلى المعنى المراد.
الثاني: أنَّ سُرعة اللُّحوق به فضيلة، والفضيلة إنَّما تُدْرَك بعملٍ صالح، والطُّول الحِسِّي ليس بعمل صالح.
ويمكن أن يجاب بأنَّ الأُولى مبنيَّة على أنّ الطُّول الحسِّي في اليد ملازمٌ لطول القامة، وليس كذلك ولكنَّه الغالب، وأمَّا الثانية فليست بظاهرة؛ لأنّ الموت عند تمام الأجل، فليس بمرتبط بالفضيلة ارتباطًا ظاهرًا، إذ لا مانع من طول عمر الفاضلة وقصر عمر المفضولة.
وعلى كل حالٍ فإنّما استُنبط هذا بعد العلم بحقيقة الحال، وأمَّا قبل ذلك فقد كان الظَّاهر هو طول اليد الحِسِّي، كما فَهِمَتْهُ أمّهات المؤمنين رضي الله عنهن، ولم يَزَلْنَ على ذلك حتى تبيَّن خلاف ذلك بموت زينب.
فإن قيل: كيف هذا وقد تقدَّم في كلمات خليل الله إبراهيم عليه السلام
(2)
ما عَلِمتَ، وتقرَّر هناك أنَّها لا تخلو عن شيءٍ، كأنّ المراد ما
(1)
"الفتح"(السَّلفية 3/ 287).
(2)
يعني كذباته وقد تقدم ذكرها.
يعبِّرون عنه بخلاف الأَوْلَى، وسياق الأحاديث فيها يقتضي أنّ نبينا صلى الله عليه وآله وسلم كان يتنزَّه عن مثلها، والله سبحانه وتعالى أولى أن يُنزَّه.
قلتُ: يمكن أن يُجاب بأنّ كلمات الخليل عليه السلام تتعلّق بوقائع عادية وَقَعَت له، وليست متعلِّقة بما هو غيب عند عامة الناس أو غالبهم، والبحث المتقدِّم إنّما هو فيما كان غيبًا مطلقًا، أو بالنظر إلى غالب الناس.