الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وجسد عليه جلد من وسخ
…
كأنه أشرب نفطا أو لطخ
تخال من تحت إبطه إذا عرق
…
لحية قاض قد نجا من الغرق
وريقه كمثل طوق من أدم
…
وليس من ترك السؤال يحتشم
في صدره من واكف وقاطر
…
كأثر الذرق على الكنادر
هذا، كذا، وما تركت أكثر
…
فجربوا ما قلته وفكروا1
1 رسائل ابن المعتز بتحقيق الدكتور عبد المنعم خفاجي مطبعة مصطفى الحلبي عام 1946 م ص 107 -114.
في ميدان السير والتاريخ:
لعل أهم عملين كبيرين في هذا المجال مزدوجتان: مزدوجة علي بن الجهم2 ومزدوجة عبد الله بن المعتز في السير والتاريخ..
أما ابن الجهم (188 –249 هجري) فله مزدوجة تسمى ((المحبّرة)) شديدة الطول، تقع في ثلاثمائة وثمانية أبيات، ذكر فيها ابتداء الخلق والأنبياء والخلفاء إلى أيامه –أيام الخليفة المستعين العباسي 248 هجري- وبدأ حديثه بحمد الله والصلاة على نبيه، ثم أخذ يجيب من يسأله عن بدء الخليقة:
الحمد لله المعيد المبدي
…
حمدا كثيرا، وهو أهل الحمد
ثم الصلاة أولا وآخرا
…
على النبي باطنا وظاهرا
يا سائلي عن ابتداء الخلق
…
مسألة القاصد قصد الحق
أخبرني قوم من الثقات
…
أولو علوم وأولو هيئات
تقدموا في طلب الآثار
…
وعرفوا حقائق الأخبار
وفهموا التوراة والإنجيلا
…
واحكموا التنزيل والتأويلا
أن الذي يفعل ما يشاء
…
ومن له العزة والبقاء
أنشأ خلق آدم إنشاء
…
وقد منه زوجه حواء
مبتدئا ذلك يوم الجمعة
…
حتى إذا أكمل منه صنعة
أسكنه وزوجه الجنانا
…
فكان من أمرهما ما كانا
وراح يتحدث عن إغراء إبليس آدم وزوجه، واستجابتهما له، وكيف أهبطا من الجنة إلى الأرض في جبل بالهند يسمى ((واسم))
…
واستمر يتحدث عن أبناء آدم وأحفاده، إلى أن جاء إلى نوح عليه السلام، فقال:
فأرسل الله إليهم نوحا
…
عبدا لمن أرسله نصوحا
1 رسائل ابن المعتز بتحقيق الدكتور عبد المنعم خفاجي مطبعة مصطفى الحلبي عام 1946 م ص 107 -114.
فعاش ألفا غير خمسين سنة
…
يدعو إلى الله وتمضى الأزمنة
يدعوهم سرا ويدعو جهرا
…
فلم يزدهم ذلك إلا كفرا
وانهمكوا في الكفر والطغيان
…
وأظهروا عبادة الأوثان
وهكذا يمضي الشاعر في أرجوزته يتحدث في استفاضة، ودقة متناهية عن قصة أبي البشر الثاني مع قومه، وما أعقب ذلك من أحداث. وتحدث عن الأنبياء والرسل نبيا نبيا، ورسولا رسولا، وعن الأمم والشعوب من عرب وعجم قبل مطلع النور –الإسلام- فيقول:
فهذه جملة أخبار الأمم
…
منقولة من عرب ومن عجم
وكل قوم لهم فكير
…
وقلما تحصل الأمور
وعميت في الفترة الأخبار
…
إلا التي سارت بها الأشعار
والفرس والروم لهم أيام
…
يمنع من تفخيمها الإسلام
وإنما يقنع أهل العقل
…
بكتب الله وقول الرسل
جاء الإسلام بنوره الوهاج:
ثم أزال الظلمة الضياء
…
وعاودت جدتها الأشياء
ودانت الشعوب والأحياء
…
وجاء ما ليس به خفاء
أتاهم المنتخب الأوّاه
…
محمد صلى عليه الله
وانساب الشاعر يصور الأحداث حدثا حدثا، والخلفاء خليفة خليفة إلى أيام المستعين الذي عاصره الشاعر، واختتم أرجوزته قائلا:
فنحن في خلافة مباركة
…
خلت عن الأضرار والمشاركة
فالحمد لله على إنعامه
…
جميع هذا الأمر من أحكامه
ثم الصلاة أولا وآخرا
…
على النبي باطنا وظاهرا1
وبذا يكون علي بن الجهم أول شاعر يقوم بعمل متكامل وصل إلينا كاملا في هذا الباب2.
أما عبد الله بن المعتز ((247 -296 هجري)) فقد نظم في أرجوزته حياة الخليفة العباسي المعتضد ((279 -289 هجري)) وسيرته وما قام به من أعمال كبيرة وعظيمة، فرفع من شأن الخلافة بعد اتضاع، وأخذ على يد الأتراك بقدر المستطاع، وشرح الشاعر فيها الحالة
1 راجع القصيدة في ديوانه ص 228 -250.
2 انظر مقدمة محقق الديوان.
الاجتماعية والاقتصادية والسياسية وفسادها، وتحدث عن القضاء على الثائرين والمتمردين!..
وهذه الأرجوزة يحسبها كثير من النقاد والباحثين مظهرا من مظاهر الشعر القصصي1، ويقول الأستاذ أحمد أمين: "
…
هي صورة مصغرة لنمط الملاحم كالإلياذة والشاهنامة سدت بعض النقص في الشعر العربي من هذا النوع"2.
يفتتح الشاعر أرجوزته على الطريقة التي سلكتها المتون في الأزهر القديم:
باسم الإله الملك الرحمن
…
ذي العز والقدرة والسلطان
الحمد لله على ألائه
…
أحمده والحمد من نعمائه
أبدع خلقا لم يكن فكان
…
وأظهر الحجة والبرهانا
وجعل الخاتم للنبوة
…
أحمد ذا الشفاعة المرجوة
الصادق المهذب المطهرا
…
صلى عليه ربنا فأكثرا
مضى وأبقى لبني العباس
…
ميراث ملك ثابت الأساس
برغم كل حاسد يبغيه
…
يهدمه كأنه يبنيه
ثم يذكر أنه ألف هذه القصيدة في سيرة أبي العباس المعتضد، ويعرض لحال الخلافة قبله، والفوضى السياسية والاجتماعية التي كانت سائدة، وأعمال أبيه ((الموفق)) والقضاء على فتنة الثائر العلوي 270 هجري، فيقول:
قام بأمر الملك لما ضاعا
…
وكان نهبا في الورى مضاعا
تذللا ليست له مهابة
…
يخاف إن طنت به ذبابة
وكل يوم ملك مقتول
…
أو خائف مروع ذليل
أو خالع للعقد كيما يغني
…
وذاك أدعى للردى وأدنى
وكم أمير كان رأس جيش
…
قد نغصوا عليه كل عيش
وكل يوم شغب وغصب
…
وأنفس مقتولة وحرب
وكم فتى قد راح نهبا راكبا
…
إما جليس ملك أو كاتبا
فوضعوا في رأسه السياطا
…
وجعلوا يردونه شطاطا
وكم فتاة خرجت من منزل
…
فغصبوها نفسها في المحفل
وفضحوها عند من يعرفها
…
وصدقوا العشيق كي يقرفها
وحصل الزوج لضعف حيلته
…
على نواحه ونتف لحيته
وكل يوم عسكر فعسكرا
…
بالكرخ والدور مواتا أحمرا
1 من حديث الشعر والنثر لطه حسين ص 285 وما بعدها.
2 ظهر الإسلام لأحمد أمين ج 1 /25.
كذاك حتى أفقروا الخلافة
…
وعودوها الرعب والمخافة
فتلك أطلال لهم قفارا
…
ترى الشياطين بها نهارا
ويصور الشاعر الفظائع التي كانت تنصب على أفراد الأمة من مصادرات لأموالهم بعد انتهاك حرماتهم، فيقول:
أجرأ خلق الله ظلما فاحشا
…
وأجور الناس عقابا بالوشى
يأخذ من هذا الشقي ضيعته
…
وذا يريد ماله وحرمته
وويل من مات أبوه موسرا
…
أليس هذا محكما مشهرا؟!
وطال في دار البلاء سجنه
…
وقال: من يدري بأنك ابنه؟!
فقال جيراني ومن يعرفني
…
فنتفوا سباله حتى فنى
وأسرفوا في لكمه ودفعه
…
وخدرت أكفهم في صفعه
ولم يزل في أضيق الحبوس
…
حتى رمى إليهم بالكيس
وتاجر ذي جوهر ومال
…
كان من الله بحسن حال
قيل له عندك للسلطان
…
ودائع غالية الأثمان
فقال: لا والله ما عندي له
…
صغيرة من ذا ولا جليلة
وإنما أربحت في التجارة
…
ولم أكن في المال ذا خسارة
فدخنوه بدخان التبن
…
وأوقدوه بثفال اللبن
حتى إذا مل الحياة وضجر
…
وقال ليت المال جمعا في سقر
أعطاهم ما طلبوا فأطلقا
…
يستعمل المشي ويمشي العنقا1
ثم يأتي إلى تصوير عناية الخليفة المعتضد بالجيش واختياره جنوده، وقيامه بحركة تطهير واسعة في هذا الجيش ونبذ غير اللائقين منهم بكرامة الجندي:
واختار من جنوده كل بطل
…
مجرب إن حضر الموت قتل
ثم نفى كل دخيل قد مرق
…
إذا رأى السيف جرى من الفرق
حتى إذا صفى خيار الجند
…
قال يا حرب اهزلي وجدي
1 إنها لصورة حية للشعوب التيب منيت بالحكم الاشتراكي والماركسي في العصر الحديث المجلة.
سار إلى الموصل ينوي أمرا
…
فملأ البر معا والبحرا1
وهكذا يسير ابن المعتز في أرجوزته، أو قل ملحمته التي بلغت نحوا من عشرين وأربعمائة بيت في تاريخ الخليفة المعتضد.
ومن هنا: نرى أن الشعر التعليمي قد وجد عند العرب منذ جاهليتهم بكل أقسامه التي عرفت عند اليونان، وقد رأينا لذلك أمثلة عند شعراء جاهليين، كما وجدناه عند الشعراء الأمويين في أخص أقسامه، في أبياته في صناعة الكيمياء.. ووجدناه في الأرجوزة الأموية التي اتخذت وسيلة لتعليم غريب اللغة، مما ألهم المقامة فيما بعد، ودفع بالشعراء في العصر العباسي إلى التوسع في الشعر التعليمي، حتى إذا ولج أبان اللاحقي هذا الميدان، فتح الباب واسعا، فتهافت عليه من تهافت من الشعراء أو النظاميين!..
وبهذا يتضح أن الشعر التعليمي العباسي لم يكن في جملته وتفصيله تقليدا لمثيله عند الأمم الأخرى كالهنود واليونان.. تلك الأمم التي عرفت هذا اللون من الشعر!..
ولكن هل يعني هذا الكلام أننا ننكر أن للثقافة الدخيلة والفكر الوافد أثرا في الشعر التعليمي خلال هذا العصر؟!.
كلا!.. نحن لا ننكر هذا التأثير، ولكنا نريد أن نقول: إن التأثير الوافد لم يكن في إنشاء هذا اللون من الشعر في الأدب العربي وإيجاده –فلقد كان ذلك موجودا في العربية منذ زمن طويل كما رأينا- ولكن التأثير كان في تشكيله وإعطائه ملامح نهائية، وسمات بينة، متعاونا مع عوامل أخرى
…
إن تأثير الفكر الوافد في الشعر التعليمي لا يعدو أن يكون هو التأثير ذاته أثره في الخمريات وشعر اللهو والمجون، والزهد
…
الخ في هذا العصر، وكل أولئك كان موجودا في العصور السابقة لهذا العصر، ولم يعز أحد ابتكارها وابتداعها للعصر العباسي، مع ذلك فلا ينكر أحد أنها في هذا الوقت قد زيدت مساحتها ومدت الرقعة التي تشغلها، وأنه أضيف إلى الصورة أشياء وألوان، حتى لقد ينخدع كثيرون بأن كل ما هناك جديد مبتكر.. والشعر التعليمي لم يكن بدعا في ذلك؛ فهو قد تأثر بالعصر وظروفه وملابساته، وبما كان يموج فيه من فكر وثقافة ومعرفة متعددة المصادر والينابيع.. ولقد بانت في هذا العصر ملامح وحدود كثير من العلوم، واتضحت معالم كثير من المعارف، فأخذ الشعراء منذئذ يتناولون هذه
1 رسائل ابن المعتز بتحقيق الدكتور خفاجي ص 80 -107.