الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
كان سببا له، قالا آخر يحتمل أن يكون الداء ما يرض في نفس المرء من التكبر عن أكله حتى كان سببا لترك ذلك الطعام وإتلافه، والدواء ما يحصل من قمع النفس وحملها على التواضع.
وخير تفسير للداء هو ما هو ما ورد في حديث أبي سعيد الخدري _ رضي الله عنه_ عند ابن ماجه مرفوعا "فإنه يقدم السم ويؤخر الشفاء" فالداء هو السم، وهو الجراثيم التي يحملها الذباب في أطراف أرجله وخرطومه وهي جراثيم الأمراض كالتيفوئيد والكوليرا والديزنتاريا كما هو معروف لدى الأطباء اليوم1.
قوله صلى الله عليه وسلم: "وفي الآخر شفاء" في رواية "والأخرى شفاء" وفي رواية "فإن في أحد جناحيه داء، والآخر دواء" والدواء هو سبب الشفاء بإذن الله تعالى.
قال ابن حجر: في رواية أبي ذر "وفي الأخرى" وفي نسخة "والأخرى" بحذف حرف الجر وكذا وقع في رواية سليمان بن بلال "في إحدى جناحيه داء والآخر شفاء". واستدل به لمن يجيز العطف على معمولي عاملين كالأخفش، وعلى هذا فيقرأ بخفض الآخر وبنصب شفاء وعطف الآخر على الأحد وعطف شفاء على داء وسيبويه لا يجيز ذلك ويقول: إن حرف الجر حذف وبقى العمل وقد وقع صريحا في الرواية الأخرى "وفي الأخرى شفاء" ويجوز رفع شفاء على الاستئناف.
1 فتح الباري.
المسألة الأولى: مسألة فقهية
…
وفي هذا الحديث مسألتان: المسألة الأولى فقهية، والمسألة الثانية طبية ولعل في بحثنا هذا ما فيه الرد على بعض المستغربين من أبناء المسلمين حيال هذا الحديث الذي هو من أعلام النبوة2.
المسألة الأولى:
استدل بهذا الحديث على أن الماء لا ينجس بوقوع ما لا نفس له سائلة فيه، ووجه الاستدلال كما قال البيهقي عن الشافعي: إنه صلى الله عليه وسلم لا يأمر بغمس ما ينجس الماء إذا مات فيه لأن ذلك إفساد.
وقال بعض من خالف في ذلك: لا يلزم من غمس الذباب موته، فقد يغمس برفق فلا يموت، والحي لا ينجس ما يقع فيه كما صرح البغوي باستنباطه من هذا الحديث. وقال أبو الطيب الطبري: لم يقصد النبي صلى الله عليه وسلم بهذا الحديث بيان النجاسة
2 من مذكرة للشيخ الدكتور خليل ملا خاطرص47
والطهارة وإنما قصد بيان التداوي من ضرر الذباب، وكذا لم يقصد بالنهي عن الصلاة في معاطن الإبل والإذن في مراح الغنم طهارة ولا نجاسة، وإنما أشار إلى أن الخشوع لا يوجد مع الإبل دون الغنم.
قلت: وهو كلام صحيح، إلا أنه لا يمتنع أن يستنبط منه حكم آخر، بأن الأمر بغمسه يتناول صورا منها أن يغمر محترزا عن موته كما هو المدعى هنا، وأن لا يحترز بل يغمسه مات أو لم يمت. ويتناول ما لو كان الطعام حارا، فإن الغالب أنه في هذه الصورة يموت بخلاف الطعام البارد، فلما لم يقع التقييد حمل على العموم لكنه فيه نظر لأنه مطلق يصدق بصورة فإذا قام الدليل على صورة معينة حمل عليها.
واستشكل ابن دقيق العيد إلحاق غير الذباب به في الحكم المذكور بطريق أخرى فقال: ورد النص في الذباب فعدوه إلى كل ما لا نفس له سائلة، وفيه نظر، لجواز أن تكون العلة في الذباب قاصرة وهي عموم البلوى به، وهذه مستنبطة، أو التعليل بأن في أحد جناحيه داء وفي الأخرى شفاء، وهي منصوصة وهذان المعنيان لا يوجدان في غيره، فيبعد كون العلة مجرد كونه لا دم له سائل بل الذي يظهر أنه جزء علة لا علة كاملة. انتهى.
وقال ابن القيم عن هذا الحديث: هو دليل ظاهر الدلالة جدا على أن الذباب إذا مات في ماء أو مائع فإنه لا ينجسه وهذا قول جمهور العلماء ولا يعرف في السلف مخالف في ذلك، ووجه الاستدلال: أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بمقله وهو غمسه في الطعام، وهو يموت في ذلك لا سيما إذا كان الطعام حارا فلو كان ينجسه لكان أمر بإفساد الطعام، وهو صلى الله عليه وسلم أمر بإصلاحه.
ثم عدى هذا الحكم إلى كل ما لا نفس له سائلة كالنحلة والزنبور والعنكبوت وأشباه ذلك، إذ الحكم يعم بعموم علته، وكان ذلك مفقودا فيما لا دم له سائل، انتفى الحكم بالتنجيس لانتفاء علته....1
فمما سبق يتضح أن الذباب وأمثاله مما لا دم له سائل إذا وقع في الماء فإنه لا ينجسه على مذهب جمهور العلماء.
1 مذكرة السنة الثانية لمعهد الدعوة العالي في مادة الحديث لعام 1400هـ للشيخ ملا خاطر ص47.