المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌(المنصوبات) 3 - ‌ ‌(الْمَفْعُول الْمُطلق) الشَّاهِد الثَّانِي وَالثَّمَانُونَ وَهُوَ من شَوَاهِد: الْبَسِيط (هَذَا - خزانة الأدب ولب لباب لسان العرب للبغدادي - جـ ٢

[عبد القادر البغدادي]

الفصل: ‌ ‌(المنصوبات) 3 - ‌ ‌(الْمَفْعُول الْمُطلق) الشَّاهِد الثَّانِي وَالثَّمَانُونَ وَهُوَ من شَوَاهِد: الْبَسِيط (هَذَا

(المنصوبات)

3 -

(الْمَفْعُول الْمُطلق)

الشَّاهِد الثَّانِي وَالثَّمَانُونَ وَهُوَ من شَوَاهِد: الْبَسِيط

(هَذَا سراقَة لِلْقُرْآنِ يدرسه

والمرء عِنْد الرشا إِن يلقها ذيب)

على أَن الضَّمِير فِي يدرسه رَاجع إِلَى مَضْمُون يدرس أَي: يدرس الدَّرْس فَيكون رَاجعا للمصدر الْمَدْلُول عَلَيْهِ بِالْفِعْلِ وَإِنَّمَا لم يجز عوده لِلْقُرْآنِ لِئَلَّا يلْزم تعدِي الْعَامِل إِلَى الضَّمِير وَظَاهره مَعًا.

وَاسْتشْهدَ بِهِ أَبُو حَيَّان فِي شرح التسهيل على أَن ضمير الْمصدر قد يَجِيء مرَادا بِهِ التَّأْكِيد وَأَن ذَلِك لايختص بِالْمَصْدَرِ الظَّاهِر على الصَّحِيح.

وَأوردهُ سِيبَوَيْهٍ على أَن تَقْدِيره عِنْده: والمرء عِنْد الرشا ذئبٌ إِن يلقها.

وَتَقْدِيره عِنْد الْمبرد: إِن يلقها فَهُوَ ذِئْب.

وَهَذَا من أَبْيَات سِيبَوَيْهٍ الْخمسين الَّتِي لم يقف على قَائِلهَا أحد. قَالَ الأعلم: هجا هَذَا الشَّاعِر)

رجلا من الْقُرَّاء نسب إِلَيْهِ الرِّيَاء. وَقبُول الرشا. والحرص عَلَيْهَا وَكَذَلِكَ أوردهُ ابْن السراج فِي الْأُصُول

ص: 3

وَزعم الدماميني فِي الْحَاشِيَة الْهِنْدِيَّة: أَن هَذَا الْبَيْت من الْمَدْح لَا من الهجاء وَظن أَن سراقَة هُوَ سراقَة بن جعْشم الصَّحَابِيّ مَعَ أَنه فِي الْبَيْت غير مَعْلُوم من هُوَ فِيهِ تحريفات ثَلَاثَة: الأول: أَن الرشا بِضَم الرَّاء وَالْقصر: جمع رشوة فَقَالَ: هُوَ بِكَسْر الرَّاء مَعَ الْمَدّ: الْحَبل وقصره للضَّرُورَة وأنثه على معنى الْآلَة. وَكَلَامه هَذَا على حد: زِنَاهُ وَحده.

وَالثَّانِي: أَن قَوْله يلقها بِفَتْح الْيَاء من اللقي وَهُوَ ضَبطه بِضَم الْيَاء من الْإِلْقَاء.

وَالثَّالِث: أَن قَوْله ذيب بِكَسْر الذَّال وبالهمزة المبدلة يَاء وَهُوَ الْحَيَوَان الْمَعْرُوف وَهُوَ صحفه ذَنبا بِفَتْح الذَّال وَالنُّون وَقَالَ: قَوْله عِنْد الرشا مُتَعَلق بذنب لما فِيهِ من معنى التَّأَخُّر.

وَالْمعْنَى: إِن يلق إِنْسَان الرشا فَهُوَ مُتَأَخّر عِنْد إلقائها يُرِيد أَن سراقَة درس الْقُرْآن فَتقدم والمرء مُتَأَخّر عِنْد اشْتِغَاله بِمَا لَا يهم كمن امتهن نَفسه فِي السَّقْي وإلقاء الأرشية فِي الْآبَار.

هَذَا كَلَامه وَتَبعهُ فِيهِ الشمني فاعتبروا يَا أولي الْأَبْصَار وَأنْشد بعده وَهُوَ الشَّاهِد الثَّالِث وَالثَّمَانُونَ وَهُوَ من شَوَاهِد

ص: 4

: الرجز.

دَار لسعدى إذه من هواكا

على أَن الْمصدر بِمَعْنى اسْم الْمَفْعُول أَي: من مهويك.

وَبِهَذَا الْمَعْنى أوردهُ أَيْضا فِي بَاب الْمصدر فَإِن الْهوى بِالْقصرِ مصدر هويته من بَاب تَعب: إِذا وأنشده أَيْضا فِي بَاب الضَّمِير على أَن الْيَاء قد تحذف ضَرُورَة من هِيَ إِذْ أَصله إِذْ هِيَ من هواكا. وَلِهَذَا الْوَجْه أوردهُ سِيبَوَيْهٍ قَالَ الأعلم: سكن الْيَاء أَولا ضَرُورَة ثمَّ حذفهَا ضَرُورَة أُخْرَى بعد الإسكان تَشْبِيها لَهَا بعد سكونها بِالْيَاءِ اللاحقة فِي ضمير الْغَائِب إِذا سكن مَا قبله وَالْوَاو اللاحقة لَهُ فِي هَذِه الْحَال نَحْو عَلَيْهِ ولديه وَمِنْه وَعنهُ.

وَمثله للنحاس قَالَ: وَالَّذِي أحفظه عَن ابْن كيسَان: أَن هَذَا على مَذْهَب من قَالَ: هِيَ جالسة.

بِإِسْكَان الْيَاء. وَهَذَا قَول حسن.

وَهَذِه الْيَاء من سنخ الْكَلِمَة وحذفها أقبح من حذف الْيَاء فِي قَوْله: الطَّوِيل سأجعل عَيْنَيْهِ لنَفسِهِ مقنعا لِأَن الْيَاء الَّتِي تتبع الْهَاء فِي نَفسه لَيست من بنية الضَّمِير.

قَالَ الْمبرد: حذف الْيَاء من قَوْله: لنَفسِهِ لِأَنَّهَا زَائِدَة زيدت لخفاء الْهَاء وَكَذَلِكَ الْوَاو وَأَنَّك)

تقف بِغَيْر يَاء وَلَا وَاو فَلَمَّا اضْطر حذفهما فِي الْوَصْل كَمَا

يحذفان فِي الْوَقْف وَدلّ عَلَيْهِمَا مَا بَقِي من حَرَكَة كل وَاحِد مِنْهُمَا.

ص: 5

وَقَالَ أَبُو الْحسن الْأَخْفَش: حذف الْيَاء لِأَن الِاسْم إِنَّمَا هُوَ الْهَاء فَرده إِلَى أَصله وحرف اللين اللَّاحِق لَهَا زَائِد.

وَقَوله دَار لسعدى خبر لمبتدأ مَحْذُوف أَي: هَذِه وَقدره ابْن خلف: فِي دَار أَو هُوَ دَار. وَإِذ عَامله الظّرْف قبله.

قَالَ الأعلم: وصف دَارا خلت من سعدى: هَذِه الْمَرْأَة وَبعد عهدها بهَا فتغيرت بعْدهَا وَذكر أَنَّهَا كَانَت لَهَا دَارا ومستقراً إِذْ كَانَت مُقِيمَة بهَا فَكَانَ يهواها بإقامتها فِيهَا.

وَهَذَا الْبَيْت أَيْضا من الأبيات الْخمسين الَّتِي لم يعلم قَائِلهَا وَلَا يعرف لَهُ ضميمة وَرَأَيْت فِي هَل تعرف الدَّار على تبراكا بِكَسْر التَّاء الْمُثَنَّاة وَهُوَ مَوضِع. قَالَ أَبُو عبيد فِي مُعْجم مَا استعجم: تبراك بِكَسْر التَّاء: مَوضِع فِي ديار بني فقعس.

وَأنْشد بعده وَهُوَ

الشَّاهِد الرَّابِع وَالثَّمَانُونَ إِذا الدَّاعِي المثوب قَالَ يالا وصدره: فخيرٌ نَحن عِنْد الْبَأْس مِنْكُم

على أَن اللَّام خلطت ب يَا أَرَادَ أَنه خلطت لَام الاستغاثة الجارة ب يَا حرف النداء وجعلتا كالكلمة الْوَاحِدَة وحكيتا كَمَا تحكى الْأَصْوَات وَصَارَ الْمَجْمُوع شعاراً للاستغاثة.

ص: 6

قَالَ أَبُو زيد فِي نوادره: وَقَوله يالا أَرَادَ يَا لبني فلَان يُرِيد حِكَايَة الصَّارِخ المستغيث. وَهَذَا مَذْهَب أبي عَليّ أَيْضا وَأَتْبَاعه وَالْأَصْل عِنْدهم يَا لبني فلَان أَو يَا لفُلَان فَحذف مَا بعد لَام الاستغاثة كَمَا يُقَال: أَلا تا فَيُقَال: أَلا فا يُرِيدُونَ: أَلا تَفعلُوا وَألا فافعلوا. وَهَذَا أحد مَذَاهِب ثَلَاثَة فِيهِ.

ثَانِيهَا: أَن المنادى والمنفي بِلَا محذوفان أَي: يَا قوم لَا تغدوا. ذكره ابْن مَالك فِي شرح التسهيل وَابْن هِشَام فِي الْمُغنِي.

ثالثهما: أَنه بَقِيَّة يَا آل فلَان وَهُوَ مَذْهَب الْكُوفِيّين قَالُوا فِي يَا لزيد: أَصله يَا آل زيد فحذفت همزَة آل للتَّخْفِيف وَإِحْدَى الْأَلفَيْنِ لالتقاء الساكنين وَاسْتَدَلُّوا بِهَذَا الْبَيْت وَقَالُوا: لَو كَانَت اللَّام جَارة لما جَازَ الِاقْتِصَار عَلَيْهَا. قَالَ الشَّارِح الْمُحَقق: وَهُوَ ضَعِيف لِأَنَّهُ يُقَال ذَلِك فِيمَا لَا آل لَهُ نَحْو: يَا لله وَيَا للدواهي وَنَحْوهمَا.

وَأجَاب ابْن جني فِي الخصائص عَن دليلهم بقوله: فَإِن قلت: كَيفَ جَازَ تَعْلِيق حرف الْجَرّ قلت لما خلط ب يَا صَار كالجزء مِنْهَا وَلذَلِك شبه أَبُو عَليّ أَلفه الَّتِي قبل اللَّام بِأَلف بابٍ ودارٍ فَحكم عَلَيْهَا بالانقلاب وَحسن الْحَال أَيْضا شيٌ آخر: وَهُوَ تشبث اللَّام الجارة بِأَلف الْإِطْلَاق فَصَارَت كَأَنَّهَا معاقبة للمجرورة أَلا ترى أَنَّك لَو أظهرت ذَلِك الْمُضَاف إِلَيْهِ وَقلت: يَا لبني فلَان لم يجز إِلْحَاق الْألف هُنَا فِي منابها عَمَّا كَانَ يَنْبَغِي أَن يكون بمكانها مجْرى ألف الْإِطْلَاق فِي منابها عَن تَاء التَّأْنِيث فِي نَحْو قَوْله:

ص: 7

(ولاعب بالْعَشي بني بنيه

كَفعل الهر يحترش العظايا)

وَكَذَلِكَ نابت وَاو الْإِطْلَاق فِي قَوْله: الطَّوِيل فِيمَن رفع كلا عَن الضَّمِير الَّذِي يُرَاد فِي عَارِف. وكما نَاب التَّنْوِين فِي نَحْو يومئذٍ.)

وَقَالَ فِي مَوضِع آخر من الخصائص: وسألني أَبُو عَليّ عَن ألف يَا من قَوْله يَا لَا فِي هَذَا الْبَيْت فَقَالَ: أمنقلبة هِيَ قلت: لَا لِأَنَّهَا فِي حرف فَقَالَ: بل هِيَ منقلبة فاستدللته على ذَلِك فاعتصم بِأَنَّهَا قد خلطت بِاللَّامِ بعْدهَا ووقفت عَلَيْهَا فَصَارَت اللَّام كَأَنَّهَا جُزْء مِنْهَا فَصَارَت يال بِمَنْزِلَة قَالَ وَالْألف فِي مَوضِع الْعين وَهِي مَجْهُولَة فَيَنْبَغِي أَن يحكم بالانقلاب عَن الْوَاو.

وَهَذَا أجمل مَا قَالَه وَللَّه هُوَ وَعَلِيهِ رَحمته فَمَا كَانَ أقوى قِيَاسه وَأَشد بِهَذَا الْعلم اللَّطِيف الشريف أنسه وَكَأَنَّهُ إِنَّمَا كَانَ مخلوقاً لَهُ وَكَيف لَا يكون كَذَلِك وَقد أَقَامَ على هَذِه الطَّرِيقَة مَعَ جلة أَصْحَابهَا وأعيان شيوخها سبعين سنة زائحةً علله سَاقِطَة مِنْهُ كلفه لَا يعتاقه عَنهُ ولد وَلَا يُعَارضهُ فِيهِ متجر وَلَا يسوم بِهِ

مطلباً وَلَا يخْدم بِهِ رَئِيسا إِلَّا بِأخرَة وَقد حط

ص: 8

من أثقاله وَألقى عَصا ترحاله: ثمَّ إِنِّي لَا أَقُول إِلَّا حَقًا إِنِّي لأعجب من نَفسِي فِي وقتي هَذَا كَيفَ تطوع لي بِمَسْأَلَة أم كَيفَ تطمح بِي إِلَى انتزاع عِلّة مَعَ مَا الْحَال عَلَيْهِ من علق الْوَقْت وأشجانه وتذاؤبه وخلج أشطانه وَلَوْلَا مساورة الْفِكر واكتداده لَكُنْت عَن هَذَا الشَّأْن بمعزل وبأمر سواهُ على شغل.

وَللَّه دره فَكَأَنَّمَا رمى عَن قوسي وَتكلم عَن نَفسِي. وَالله المشكور فِي كل حَال وَهُوَ غَنِي وَقَوله: فخيرٌ نَحن عِنْد الْبَأْس مِنْكُم قد تكلم النَّاس على إعرابه قَدِيما وحديثاً لاسيما أَبُو عَليّ الْفَارِسِي فَإِنَّهُ تكلم عَلَيْهِ فِي أَكثر كتبه. قَالَ: فِي التَّذْكِرَة القصيرة: سَأَلت عَن هَذَا الْبَيْت ابْن الْخياط والمعمري فَلم يجيبا إِلَّا بعد مُدَّة قَالَا: لَا يَخْلُو من أَن يكون نَحن ارْتَفع بِخَبَر أَو بِالِابْتِدَاءِ وَيكون خيرٌ الْخَبَر أَو يكون تَأْكِيدًا للضمير الَّذِي فِي خير والمبتدأ مَحْذُوف أَي: نَحن خير لَا جَائِز أَن يرْتَفع بِخَير لِأَن خيرا لَا يرفع الْمظهر الْبَتَّةَ وَلَا مُبْتَدأ للُزُوم الْفَصْل بالأجنبي بَين أفعل وَبَين من وَهُوَ غير جَائِز فَثَبت أَن نَحن تَأْكِيد للضمير فِي خير.

وَقد أجمل كَلَامه هُنَا وفصله فِي الْمسَائِل المشكلة الْمَعْرُوفَة بالبغداديات. وَبعد أَن منع كَون نَحن مُبْتَدأ وَخير خَبرا قَالَ: عِنْدِي فِيهِ قَولَانِ: أَحدهمَا أَن يكون قَوْله خير خبر مُبْتَدأ مَحْذُوف تَقْدِيره: نَحن خير عِنْد الْبَأْس مِنْكُم

ص: 9

فَنحْن على هَذَا فِي الْبَيْت لَيْسَ بمبتدأ لكنه تَأْكِيد لما فِي خير من ضمير الْمُبْتَدَأ الْمَحْذُوف وَحسن هَذَا التَّأْكِيد لِأَنَّهُ حذف الْمُبْتَدَأ من اللَّفْظ وَلم يَقع الْفَصْل بِشَيْء أَجْنَبِي بل بِمَا هُوَ مِنْهُ

وَقد وَقع الْفَصْل بالفاعل بَين الصِّلَة وموصولها فِي نَحْو قَوْلهم: مَا من أَيَّام أحب إِلَى الله فِيهَا الصَّوْم مِنْهُ فِي عشر ذِي الْحجَّة وَكَانَ ذَلِك حسنا سائغاً. فَإِذا سَاغَ كَانَ)

التَّأْكِيد أسوغ لِأَنَّهُ قد يحسن حَيْثُ لَا يحسن غَيره من الْأَسْمَاء.

وَقَالَ فِي الْإِيضَاح الشعري فِي هَذَا الْوَجْه بعد أَن قَالَ: وَنحن الظَّاهِر تَأْكِيد للضمير الَّذِي فِي خير على الْمَعْنى: كَانَ يَنْبَغِي أَن يكون على لفظ الْغَيْبَة وَلَكِن جَاءَ بِهِ على الأَصْل نَحْو نَحن فعلنَا ويدلك على أَنه كَانَ يَنْبَغِي أَن يَجِيء على لفظ الْغَيْبَة: أَن أَبَا عُثْمَان قَالَ: فِي الْإِخْبَار عَن الضَّمِير الَّذِي فِي منطلق من قَوْله: أَنْت منطلق إِذا أخْبرت عَن الضَّمِير الَّذِي فِي منطلق من قَوْلك أَنْت منطلق لم يجز لِأَنَّك تجْعَل مَكَانَهُ ضميراً يرجع إِلَى الَّذِي وَلَا يرجع إِلَى الْمُخَاطب فَيصير الْمُخَاطب مُبْتَدأ لَيْسَ فِي خَبره مَا يرجع إِلَيْهِ.

فَهَذَا من قَوْله يدل على أَن الضَّمِير وَإِن كَانَ للمخاطب فِي أَنْت منطلق فَهُوَ على لفظ الْغَيْبَة وَلَوْلَا ذَلِك لم يصلح أَن يرجع إِلَى الَّذِي. على أَن هَذَا من كَلَامهم مثل أَنْتُم تذهبون وَاسم الْفَاعِل أشبه بالمضارع مِنْهُ بالماضي فَلذَلِك جعله مثله وَلم يَجعله مثل الْمَاضِي فِي أَنْتُم فَعلْتُمْ.

ثمَّ قَالَ فِي البغداديات: القَوْل الثَّانِي: أَن يَجْعَل خير صفة مُقَدّمَة يقدر ارْتِفَاع نَحن بِهِ كَمَا يُجِيز أَبُو الْحسن فِي: قَائِم الزيدان أَن ارْتِفَاع الزيدان بقائم. فَلَا يَقع على هَذَا أَيْضا فصلٌ بِشَيْء يكره وَلَا يجوز لِأَن نَحن على هَذَا مُرْتَفع بِخَبَر. إِلَّا أَن ذَا قَبِيح لِأَن خيرا وبابه لَا يعْمل عمل الْفِعْل إِذا جرى

ص: 10

على موصوفه وإعماله فِي الظَّاهِر مُبْتَدأ غير جارٍ على شَيْء أقبح وَأَشد امتناعاً.

وَالْوَجْه الأول حسن سَائِغ.

قَالَ فِي الْإِيضَاح: فَإِذا جَازَ ذَلِك فِيمَا ذَكرْنَاهُ أَي: الْوَجْه الأول لم يكن فِيمَا حمل أَبُو الْحسن عَلَيْهِ الْبَيْت من الظَّاهِر دلَالَة على إجَازَة نَحْو: الْخَلِيفَة أحب إِلَيْهِ يحيى من جَعْفَر حَتَّى يَقُول: الْخَلِيفَة يحيى أحب إِلَيْهِ من جَعْفَر أَو أحب إِلَيْهِ من جَعْفَر يحيى على مَا أجَازه سِيبَوَيْهٍ فِي: مَا رَأَيْت رجلا أحسن فِي عينه الْكحل مِنْهُ فِي عين زيد فَلَا يفصل بَينهمَا بِمَا هُوَ أَجْنَبِي مِنْهُمَا.

ثمَّ قَالَ فِي البغداديات: فَإِن قَالَ قَائِل: أَيجوزُ أَن يكون فخيرٌ خَبرا مقدما لما

بعده وَهُوَ نَحن وَيكون مِنْكُم غير صلَة وَلكنهَا ظرف كَقَوْلِه: وَلست بِالْأَكْثَرِ مِنْهُم حَصى وَتَقْدِيره: وَلست بِالْأَكْثَرِ فيهم لَا على حد: هُوَ أفضل من زيد أَلا ترى أَن الْألف وَاللَّام تعاقب من هُنَا فَالْجَوَاب: أَنه بعيد وَلَيْسَ الْمَعْنى عَلَيْهِ إِنَّمَا يُرِيد: نَحن خير مِنْكُم وَأَن الْفَزع إِلَيْنَا والاستغاثة)

بِنَا نسد مَا لَا تسدون ونمنع من الثغور مَالا تمْنَعُونَ. أَلا ترى أَن مَا بعد هَذَا الْبَيْت:

(وَلم تثق الْعَوَاتِق من غيور

بغيرته وخلين الحجالا)

وَقَوله: عِنْد الْبَأْس الْعَامِل فِيهِ خير وَلَا يجوز أَن يكون مُتَعَلقا بالمبتدأ الْمَحْذُوف على أَلا يكون التَّقْدِير: فَنحْن خير عِنْد الْبَأْس مِنْكُم يُرِيد: نَحن

ص: 11

عِنْد الْبَأْس خير مِنْكُم لِأَنَّك إِن نزلته هَذَا التَّنْزِيل فصلت بَين الصِّلَة والموصول بِمَا هُوَ أَجْنَبِي مِنْهُمَا ومتعلق بِغَيْرِهِمَا وَإِذا قدرت اتِّصَاله بِخَير والْبَأْس بِالْمُوَحَّدَةِ لَا بالنُّون وَهُوَ الشدَّة وَالْقُوَّة. والداعي من دَعَوْت زيدا: إِذا ناديته وَطلبت إقباله. والمثوب اسْم فَاعل من ثوب قَالَ أَبُو زيد: هُوَ الَّذِي يَدْعُو النَّاس يستنصرهم وَالْأَصْل فِيهِ: أَن المستغيث إِذا كَانَ بَعيدا يتعرى ويلوح بِثَوْبِهِ رَافعا صَوته ليرى فيغاث.

ووثق مِنْهُ وَبِه: اطْمَأَن إِلَيْهِ وَقَوي قلبه. وَجُمْلَة لم تثق معطوفة على مَدْخُول إِذا وَكَذَلِكَ جملَة خلين الحجالا والْعَوَاتِق: جمع عاتق وَهِي الَّتِي خرجت عَن خدمَة أَبَوَيْهَا وَعَن أَن يملكهَا الزَّوْج. والغيور: من غَار الرجل على حريمه يغار من بَاب تَعب غيرَة بِالْفَتْح فَهُوَ غيور وغيران وَهِي غيور أَيْضا وغيرى. وخلين متعدي خلا الْمنزل من أَهله يَخْلُو خلوا وخلاء فَهُوَ خالٍ. وصحفه بَعضهم بِالْحَاء الْمُهْملَة وبالبناء للْمَجْهُول على أَنه من التحلية وَهُوَ التزيين. والحجال بِكَسْر الْحَاء الْمُهْملَة: جمع حجلة بِالتَّحْرِيكِ وَهُوَ بَيت كالقبة يستر بالثياب وَيكون لَهُ أزرار كبار كَذَا فِي النِّهَايَة.

وَزَاد فِي الْقَامُوس أَنه للعروس: وَأَخْطَأ بَعضهم حَيْثُ قَالَ: هُوَ جمع حجل بِمَعْنى الخلخال وَهَذَا لَا يُنَاسب الْمقَام مَعَ أَنه لَا يجمع على حجال وَإِنَّمَا يجمع على حجول وأحجال. يُرِيد أَنَّهُنَّ فِي يَوْم فزع أَو غَارة لَا يثقن بِأَن يحميهن الْأزْوَاج والآباء وَالإِخْوَة فَنحْن عِنْدهن أوثق مِنْكُم.

ص: 12

وَهَذَانِ البيتان نسبهما أَبُو زيد فِي نوادره لزهير بن مَسْعُود الضَّبِّيّ.

الشَّاهِد الْخَامِس وَالثَّمَانُونَ وَهُوَ من أَبْيَات س:

(عمرتك الله إِلَّا مَا ذكرت لنا

هَل كنت جارتنا أَيَّام ذِي سلم)

على أَن قَوْلهم عمرك الله لَهُ فعل كَمَا فِي هَذَا الْبَيْت وعمرتك بتَشْديد الْمِيم وَضم التَّاء وَكسر الْكَاف.

وَكَذَلِكَ اسْتدلَّ بِهِ سِيبَوَيْهٍ على أَن عمرك وضع بَدَلا من اللَّفْظ بِالْفِعْلِ فَلَزِمَهُ النصب بِذكر الْفِعْل مُجَردا فِي الْبَيْت.

قَالَ الأعلم وَتَبعهُ بن خلف معنى عمرتك الله ذكرتك الله وَأَصله من عمَارَة الْموضع فَكَأَنَّهُ جعل تذكيره عمَارَة لِقَلْبِهِ فعمرك الله مصدر عِنْد سِيبَوَيْهٍ وَتَقْدِيره أَن معنى عمرك عمرتك الله أَي: سَأَلت الله عمرك وَإِذا وضح أَن عمرك بِمَعْنى عمرتك وَجب أَن يكون مصدرا.

وَقد ثَبت أَنهم يَقُولُونَ: عمرك الله وعمرتك الله بِمَعْنى فَيكون اسْم الله مَنْصُوبًا بعمرك على قَول. وَفِيه معنى السُّؤَال. وَقيل مَنْصُوب بِفعل مُقَدّر أَي: سَأَلت الله عمرك أَي بَقَاءَك.

وَالْفرق بَينه وَبَين قَول سِيبَوَيْهٍ وَإِن كَانَ بِمَعْنى سَأَلت الله تَعَالَى بَقَاءَك: أَن عمرك على مَذْهَب سِيبَوَيْهٍ بِمَعْنى عمرتك الْمُلْتَزم حذفه وَهُوَ الناصب لَهُ وَاسم الله الْمَفْعُول الثَّانِي وعَلى القَوْل

ص: 13

وروى الشَّارِح عَن الْأَخْفَش إجَازَة رفع الْجَلالَة على أَنه فَاعل. وَنسبه أَبُو حَيَّان فِي الارتشاف إِلَى ابْن الْأَعرَابِي.

وروى عَن الْأَخْفَش: أَن أَصله عِنْده بتعميرك الله حذف زَوَائِد الْمصدر وَالْفِعْل وَالْبَاء فانتصب مَا كَانَ مجروراً بهَا. وَيدل لما قَالَه الْأَخْفَش وَأَنه لَيْسَ مَنْصُوبًا على إِضْمَار فعل إِدْخَال بَاء الْجَرّ عَلَيْهِ قَالَ: بعمرك هَل رَأَيْت لَهَا سميا قَالَ أَبُو حَيَّان: وَالَّذِي يكون بعد نشدتك الله وعمرتك الله أحد سِتَّة أَشْيَاء: اسْتِفْهَام وَأمر وَنهي وَأَن وَإِلَّا وَلما بِمَعْنى إِلَّا كَقَوْلِه: عمرتك الله إِلَّا مَا ذكرت لنا وَإِذا كَانَ إِلَّا أَو مَا فِي مَعْنَاهَا فالفعل قبلهَا فِي صُورَة الْمُوجب وَهُوَ منفي فِي الْمَعْنى وَالْمعْنَى مَا أَسأَلك إِلَّا كَذَا فالمثبت لفظا منفي معنى ليتأتى التفريغ.)

قَالَ الدماميني فِي شرح التسهيل: فَإِن قلت: تَأْوِيل الْفِعْل بِالْمَصْدَرِ بِدُونِ سابك لَيْسَ قِيَاسا فَيلْزم الشذوذ كتسمع بالمعيدي أَي سماعك وادعاء الشذوذ هُنَا غير متأت لَا طراد مثل هَذَا التَّرْكِيب وفصاحته قلت: لَا نسلم أَن التَّأْوِيل بِدُونِ حرف مصدر شَاذ مُطلقًا وَإِنَّمَا يكون شاذاً إِذا لم يطرد فِي بابٍ أما إِذا طرد فِي

بَاب وَاسْتمرّ فِيهِ فَإِنَّهُ لَا يكون شاذاً كالجملة الَّتِي يُضَاف إِلَيْهَا اسْم الزَّمَان مثلا نَحْو: جئْتُك حِين ركب الْأَمِير أَي حِين ركُوبه.

وَضبط أَبُو عَليّ الْفَارِسِي كَمَا نقل ابْن خلف عَنهُ أَن أَلا فِي هَذَا الْبَيْت بِفَتْح الْهمزَة فَيكون أَصله هلا.

نقل صَاحب التَّلْخِيص عَن الْكسَائي:

ص: 14

أَن هلا وأَلا بقلب الْهَاء همزَة وَلَوْلَا ولوما للتنديم فِي الْمَاضِي وللتحضيض فِي الْمُسْتَقْبل فَالْأول نَحْو: هلا أكرمت زيدا على معنى ليتك أكرمته قصدا إِلَى جعله نَادِما على ترك الْإِكْرَام وَالثَّانِي نَحْو: هلا تقوم على معنى ليتك تقوم قصدا إِلَى حثه على الْقيام. وَمَعَ هَذَا فَلَا يَخْلُو من ضرب من التوبيخ واللوم على مَا كَانَ يجب أَن يَفْعَله الْمُخَاطب قبل أَن يطْلب مِنْهُ. ومَا زَائِدَة. وَهَذِه الْجُمْلَة جَوَاب عمرتك الله. وَهُوَ قسم سُؤَالِي. وَجُمْلَة هَل كنت جارتنا فِي مَوضِع الْمَفْعُول لذكرت مُعَلّق عَنهُ بالاستفهام وَالْأَصْل هلا ذكرت لنا جَوَاب هَذَا السُّؤَال وَجُمْلَة عمرتك الله إِلَى آخر الْبَيْت فِي مَحل نصب على أَنَّهَا مقولة لقَوْله فِي الْبَيْت السَّابِق وَهُوَ:

(إِذْ كدت أنكر من سلمى فَقلت لَهَا

لما الْتَقَيْنَا وَمَا بالعهد من قدم)

وَذُو سلم: مَوضِع عِنْد جبل قريب من الْمَدِينَة المنورة على ساكنها أفضل الصَّلَاة وَالسَّلَام.

والبيتان من قصيدة للأحوص الْأنْصَارِيّ. وَأنْشد سِيبَوَيْهٍ بَيْتا آخر مثل هَذَا الْبَيْت لعَمْرو بن أَحْمَر الْبَاهِلِيّ وَهُوَ:

(عمرتك الله الْجَلِيل فإنني

ألوي عَلَيْك لَو أَن لبك يَهْتَدِي)

ألوي عَلَيْك: أعطف عَلَيْك.

وَقَوله: لَو أَن لبك يَهْتَدِي أَي: لَو أَن قَلْبك يقبل النَّصِيحَة عبر عَنهُ باللب لِأَنَّهُ مَحَله. وَجَوَاب الْقسم السؤالي فِي بَيت بعده وَهُوَ:

(هَل لامني من صَاحب صاحبته

من حاسرٍ أَو دارعٍ أَو مرتدي)

ص: 15

وَاعْلَم أَن عمرتك الله فِي الْبَيْتَيْنِ بتَشْديد الْمِيم كَمَا يدل عَلَيْهِ كَلَام سِيبَوَيْهٍ الْمَنْقُول فِي كَلَام)

الشَّارِح وَهُوَ قَوْله: وَالْأَصْل عِنْد سِيبَوَيْهٍ: عمرتك الله تعميراً. وَمثله فِي الْعباب للصاغاني: وَقَوْلهمْ عمرتك الله أَي: سَأَلت الله تعميرك. وَأنْشد الْبَيْت الأول ثمَّ قَالَ: وَقَالَ جلّ ذكره: أَو لم نُعَمِّركُمْ مَا يتَذَكَّر فِيهِ من تذكر.

وَيجوز عِنْدِي أَن يكون قَوْلهم عمرك الله مصدرا لفعل ثلاثي وَهُوَ: فلَان يعمره من بَاب نصر أَي: يعبده بِالصَّلَاةِ وَالصَّوْم وَنَحْوهمَا وَفُلَان عمار أَي: كثير الصَّلَاة وَالصَّوْم فَيكون مَنْصُوبًا على نزع الْبَاء القسمية ومضافاً إِلَى فَاعله أَي: بعبادتك الله. وَلم أر من شَرحه على هَذَا الْوَجْه. والْأَحْوَص من الحوص بمهملتين وَهُوَ ضيق فِي مُؤخر الْعين وَقيل: فِي أحد الْعَينَيْنِ. وَهُوَ الْأَحْوَص بن مُحَمَّد بن عبد الله بن عَاصِم بن ثَابت يُسمى حمي الدبر أَي: محميها كَانَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم َ بَعثه فِي بعث فَقتله الْمُشْركُونَ وَأَرَادُوا أَن يصلبوه ويمثلوا بِهِ فحمته الدبر وَهِي النَّحْل فَلم يقدروا عَلَيْهِ.

والأحوص مقدم عِنْد أهل الْحجاز وَأكْثر الروَاة لَولَا أَفعاله الدنيئة لِأَنَّهُ أسمحهم طبعا وأسلسهم كلَاما وأصحهم معنى ولشعره رونق وحلاوة وعذوبة أَلْفَاظ لَيست لأحد. وَهُوَ محسن فِي الْغَزل وَالْفَخْر والمدح. وَكَانَ يشبب بنساء أَشْرَاف الْمَدِينَة ويشيع ذَلِك فِي النَّاس فنهي فَلم ينْتَه.

ص: 16

فشكي إِلَى عَامل سُلَيْمَان بن عبد الْملك وَسُئِلَ الْكِتَابَة فِيهِ إِلَيْهِ فَفعل فَكتب سُلَيْمَان يَأْمُرهُ أَن يضْربهُ

مائَة ويقيمه على البلس للنَّاس ثمَّ يسيره إِلَى دهلك فَفعل بِهِ ذَلِك. والبلس بِضَمَّتَيْنِ: جمع بلاس بِكَسْر الْمُوَحدَة وَهِي غَرَائِر كبار من مسوح يَجْعَل فِيهَا التِّبْن يشهر عَلَيْهَا من ينكل بِهِ وينادى عَلَيْهِ. وَمن دُعَائِهِمْ أرانيك الله على البلس وَكَانَ الْأَحْوَص يَقُول: وَهُوَ يُطَاف بِهِ:

(مَا من مُصِيبَة نكبة أمنى بهَا

إِلَّا تعظمني وترفع شأني)

(إِنِّي إِذا خَفِي اللئام رَأَيْتنِي

كَالشَّمْسِ لَا تخفى بِكُل مَكَان)

(أَصبَحت للْأَنْصَار فِيمَا نابهم

خلفا وَفِي الشُّعَرَاء من حسان)

وَأقَام الْأَحْوَص منفياً بدهلك إِلَى أَن ولي عمر بن عبد الْعَزِيز فَكتب إِلَيْهِ الْأَحْوَص يَسْتَأْذِنهُ فِي الْقدوم وَسَأَلَهُ الْأَنْصَار أَيْضا أَن يقدمهُ إِلَى الْمَدِينَة فَقَالَ لَهُم: من الْقَائِل:

(فَمَا هُوَ إِلَّا أَن أَرَاهَا فجاءةً

فأبهت حَتَّى لَا أكاد أُجِيب)

قَالُوا: الْأَحْوَص قَالَ: فَمن الَّذِي يَقُول:)

(أدور وَلَوْلَا أَن أرى أم جَعْفَر

بأبياتكم مَا درت حَيْثُ أدور)

ص: 17

قَالُوا: الْأَحْوَص قَالَ: فَمن الَّذِي يَقُول:

(سَيبقى لَهَا فِي مُضْمر الْقلب والحشا

سريرة حب يَوْم تبلى السرائر)

قَالُوا: الْأَحْوَص. قَالَ: فَمن الَّذِي يَقُول:

(الله بيني وَبَين قيمها

يفر مني بهَا وأتبع)

قَالُوا: الْأَحْوَص. قَالَ: لَا جرم مَا رَددته مَا كَانَ لي سُلْطَان قَالَ أَبُو عُبَيْدَة: كَانَ سَبَب نفي الْأَحْوَص أَن شُهُودًا شهدُوا عَلَيْهِ أَنه قَالَ: لَا أُبَالِي أَي الثَّلَاثَة أكون ناكحاً أَو منكوحاً أَو زَانيا. وَكَانَ مَشْهُورا بالأبنة وانضاف إِلَى ذَلِك أَنه دخل يَوْمًا على سكينَة بنت الْحُسَيْن رضي الله عنهما فَأذن الْمُؤَذّن فَلَمَّا قَالَ: أشهد أَن لَا إِلَه إِلَّا الله وَأشْهد أَن مُحَمَّدًا رَسُول الله صلى الله عليه وسلم َ فخرت سكينَة برَسُول الله صلى الله عليه وسلم َ فَقَالَ الْأَحْوَص:

(فخرت وانتمت فَقلت: ذَرِينِي

لَيْسَ جهل أَتَيْته ببديع)

(فَأَنا ابْن الَّذِي حمت لَحْمه الدب

ر قَتِيلا للحيان يَوْم رجيع)

(غسلت خَالِي الْمَلَائِكَة الْأَب

رار مَيتا طُوبَى لَهُ من صريع)

وَكَانَ وَفد الْأَحْوَص على الْوَلِيد بن عبد الْملك ممتدحاً لَهُ فأنزله منزلا وَأمر

ص: 18

بمطبخةٍ تمال عَلَيْهِ.

وَكَانَ قد نزل على الْوَلِيد شُعَيْب بن عبد الله بن عَمْرو بن الْعَاصِ وَكَانَ الْأَحْوَص يُرَاوِد وصفاء للوليد خبازين يريدهم أَن يَفْعَلُوا بِهِ الْفَاحِشَة وَكَانَ شُعَيْب قد غضب على مولى لَهُ ونحاه فَلَمَّا خَافَ الْأَحْوَص أَن يفتضح بمراودته الغلمان اندس لمولى شُعَيْب بذلك فَقَالَ: ادخل على أَمِير الْمُؤمنِينَ فاذكر لَهُ أَن شعيباً راودك عَن نَفسك. فَفعل الْمولى فَالْتَفت الْوَلِيد إِلَى شُعَيْب فَقَالَ: مَا يَقُول هَذَا فَقَالَ: لكَلَامه نبأ يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ فاشدد بِهِ يدك يصدقك. فَشد عَلَيْهِ فَقَالَ: أَمرنِي الْأَحْوَص بذلك. فَقَالَ قيم الخبازين: إِن الْأَحْوَص يُرَاوِد غلمانك عَن أنفسهم. فَأرْسل بِهِ الْوَلِيد إِلَى ابْن حزم وَالِي الْمَدِينَة وَأمره أَن يجلده مائَة وَيصب على رَأسه زيتاً ويقيمه على البلس فَفعل بِهِ كَمَا ذكرنَا.

وَلم يزل الْأَحْوَص بدهلك حَتَّى مَاتَ عمر بن عبد الْعَزِيز وَتَوَلَّى يزِيد بن عبد الْملك. فَبينا يزِيد وَجَارِيَة ذَات يَوْم تغنيه بعض شعر الْأَحْوَص فَقَالَ لَهَا: من يَقُول هَذَا الشّعْر قَالَت: لَا أَدْرِي)

فَأرْسل إِلَى ابْن شهَاب الزُّهْرِيّ وَسَأَلَهُ فَأخْبرهُ أَن قَائِله الْأَحْوَص. قَالَ: وَمَا فعل قَالَ: طَال حَبسه بدهلك. فَأمر بتخلية سَبيله ووهب لَهُ أَرْبَعمِائَة دِينَار.

وَعَن ابْن الْأَعرَابِي: أَن الْأَحْوَص كَانَت لَهُ جَارِيَة تسمى بشرة وَكَانَت تحبه ويحبها. فَقدم بهَا دمشق فحذرته الْمَوْت وبكت فَقَالَ الْأَحْوَص:

ص: 19

(مَا لجديد الْمَوْت يابشر لذةٌ

وكل جديدٍ تستلذ طرائفه)

ثمَّ مَاتَ فَجَزِعت عَلَيْهِ جزعاً شَدِيدا وَلم تزل تبْكي عَلَيْهِ وتندبه حَتَّى شهقت شهقةً وَمَاتَتْ. ودفنت إِلَى جنبه.

تَتِمَّة لم يذكر الْآمِدِيّ فِي المؤتلف والمختلف من اسْمه أحوص غير هَذَا.

وَذكر الْأَحْوَص بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَة وَقَالَ: هُوَ زيد بن عَمْرو بن قيس الْيَرْبُوعي التَّمِيمِي وَهُوَ شاعرٌ فَارس. وَأورد لَهُ شعرًا جيدا يفتخر بِهِ.

وَأنْشد بعده وَهُوَ

(قعيدك أَن لَا تسمعيني ملامة

وَلَا تنكئي قرح الْفُؤَاد فييجعا)

على أَن قعيدك الله وعمرك الله أَكثر مَا يستعملان فِي الْقسم السؤالي فَيكون جوابهما مَا فِيهِ الطّلب كالأمر وَالنَّهْي. وَأَن هُنَا زَائِدَة.

قَالَ أَبُو حَيَّان فِي الارتشاف: وَيَجِيء بعد قعد وقعيدك الِاسْتِفْهَام وَأَن وَلم يقيدها بِكَوْنِهَا زَائِدَة أَو مَصْدَرِيَّة أَو غَيرهمَا. وَمِثَال الِاسْتِفْهَام قَالَ الْأَزْهَرِي: قَالَت قريبَة الأعرابية:

(قعيدك عمر الله يَا ابْنة مَالك

ألم تعلمينا نعم مأوى المحصب)

وَلم أسمع بَيْتا جمع فِيهِ بَين الْعُمر والقعيد إِلَّا هَذَا. انْتهى.

ص: 20

وَبَقِي على أبي حَيَّان أَن يَقُول: وَالسَّلَام. روى أَبُو عبيد قعيدك لتفعلن وَلَا النافية كَمَا يَأْتِي فِي كَلَام الْجَوْهَرِي.

قَالَ ابْن الْحَاجِب فِي الْإِيضَاح: وقعدك الله عِنْد سِيبَوَيْهٍ مثل عمرك الله يَجعله بِمَعْنى فعل مُقَدّر مَعْنَاهُ: سَأَلته أَن يكون حفيظك وَإِن لم يتَكَلَّم بِهِ. كَأَنَّهُ قيل حفظتك الله من قَوْله تَعَالَى: عَن الْيَمين وَعَن الشمَال قعيد أَي: حَافظ.

ووضح ذَلِك فِي عمرك الله لاستعمال فعله. وَإِذا تحقق أَن معنى قعدك الله معنى الْفِعْل الْمُقدر الْمَذْكُور وضح أَيْضا أَن قعيدك الله بِمَعْنَاهُ وَفِيه أَيْضا معنى)

السُّؤَال كعمرك الله.

وَقَالَ ابْن خلف: يُرِيد سِيبَوَيْهٍ بقوله: فقعدك الله يجْرِي على هَذَا المجرى أَن فعل المصادر قد يتْرك وَيكون بِمَنْزِلَة مَا اسْتعْمل الْفِعْل فِيهِ فقعدك بِمَنْزِلَة قَوْلك: وصفك الله بالثبات وَأَنه لَا يَزُول.

يُرِيد سَأَلتك بوصفك الله بالثبات ثمَّ حذف الْفِعْل وَالْبَاء. وَلَا يسْتَعْمل فِيهِ الْفِعْل وَلَا الْبَاء وَهُوَ مصدر لَا يتَصَرَّف أَي: لَا يسْتَعْمل فِي غير هَذَا الْموضع من الْكَلَام وَلَا يسْتَعْمل إِلَّا مُضَافا.

انْتهى.

وَقَالَ أَبُو اسحاق إِبْرَاهِيم النجيرمي فِي كتاب أَيْمَان الْعَرَب: معنى قعدك الله وقعيدك الله: أخصب الله بلادك حَتَّى تكون مُقيما فِيهَا قَاعِدا غير منتجع.

وَقَالَ الْجَوْهَرِي: وَقَوْلهمْ: قعيدك لَا آتِيك وقعيدك الله لَا آتِيك وقعدك الله وقعدك الله بِالْفَتْح وَالْكَسْر: يَمِين للْعَرَب. وَهِي مصَادر اسْتعْملت مَنْصُوبَة بِفعل مُضْمر وَالْمعْنَى: بصاحبك الَّذِي هُوَ صَاحب كل

ص: 21

نجوى كَمَا يُقَال: نشدتك الله.

زَاد عَلَيْهِ صَاحب الْعباب: وَقَالَ أَبُو عبيد: عليا مُضر تَقول: قعيدك لتفعلن كَذَا يَعْنِي أَنهم يحلفونه بِأَبِيهِ قَالَ: القعيد: الْأَب.

وَأنكر صَاحب الْقَامُوس كَونهمَا للقسم فَقَالَ: قعيدك الله وقعدك بِالْكَسْرِ استعطاف لَا قسمٌ بِدَلِيل أَنه لم يجِئ جَوَاب الْقسم. وَهَذَا مُخَالف لِلْجُمْهُورِ فَإِن قَوْله لَا تسمعيني جَوَاب لقَوْله

قَالَ صَاحب الْبَسِيط وَيدل على الْقسم قَوْلهم: قعدك الله لَأَفْعَلَنَّ وروى فقعدك بِفَتْح الْقَاف وَكسرهَا. وَالْمَفْعُول الثَّانِي مَحْذُوف أَي: قعدك الله. وَالْكَاف مَكْسُورَة لِأَنَّهُ خطاب مَعَ امْرَأَة كَمَا يَأْتِي بَيَانه. وَجُمْلَة لَا تنكئي لَا مَحل لَهَا من الْإِعْرَاب كجملة الْمَعْطُوف عَلَيْهَا يُقَال نكأت القرحة بِالْهَمْز: إِذا قشرتها ونكيت فِي الْعَدو بِلَا همز. والقرح كالجرح وزنا وَمعنى. وَقَوله فييجعا مَنْصُوب بِأَن مضمرة بعد الْفَاء فِي جَوَاب النَّهْي الثَّانِي. قَالَ ابْن الْأَنْبَارِي: أهل الْحجاز يَقُولُونَ: وجع يوجع ووجل يوجل يقرونَ الْوَاو على حَالهَا إِذا سكنت وَانْفَتح مَا قبلهَا وَهِي أَجود اللُّغَات وَبَعض قيس يَقُول: وَجل ياجل ووجع ياجع وَبَنُو تَمِيم تَقول: وجع ييجع وَهِي شَرّ اللُّغَات لِأَن الْكسر من الْيَاء وَالْيَاء يقوم مقَام كسرتين فكرهوا أَن يكسروا لثقل الْكسر فِيهَا.

وَقَالَ الْفراء: إِنَّمَا كسر ليتفق اللَّفْظ فِيهَا وَاللَّفْظ بأخواتها وَذَلِكَ أَن بعض الْعَرَب يَقُول: أَنا إيجل وَأَنت تيجل وَنحن نيجل فَلَو قَالُوا هُوَ يوجل كَانَت الْيَاء قد خَالَفت أخواتها.)

وَهَذَا الْبَيْت من قصيدة مَشْهُورَة مشروحة فِي المفضليات وَغَيرهَا لمتمم

ص: 22

ابْن نُوَيْرَة الصَّحَابِيّ رضي الله عنه يرثي بهَا أَخَاهُ مَالك بن نُوَيْرَة. وَقبل هَذَا الْبَيْت ثَمَانِيَة أَبْيَات مُتَّصِلَة بِهِ وَهِي:

(تَقول ابْنة الْعمريّ مَالك بَعْدَمَا

أَرَاك حَدِيثا ناعم البال أفرعا)

ابْنة الْعمريّ: زَوجته. والْحَدِيث: الْقَرِيب. والأفرع: الْكثير شعر الرَّأْس. تَقول لَهُ: مَالك الْيَوْم فَقلت لَهَا: طول الأسى إِذْ سَأَلتنِي ولوعة حزن تتْرك الْوَجْه أسفعا الأسى: الْحزن. وَالتَّاء من سَأَلتنِي مَكْسُورَة. واللوعة: الحرقة. والسفعة بِالضَّمِّ: سَواد يضْرب إِلَى الْحمرَة.

(وفقد بني أم تداعوا فَلم أكن

خلافهم أَن أستكين وأضرعا)

فقد: مَعْطُوف على طول الأسى. وتداعوا: تفَرقُوا ودعا بَعضهم بَعْضًا. وخلافهم: بعدهمْ وخلفهم. يَقُول: لست وَإِن أصابني حزن بمستكين وَلَا خاضع فيشمت بِهِ الْأَعْدَاء.

(ولكنني أمضي على ذَاك مقدما

إِذا بعض من يلقى الحروب تكعكعا)

التكعكع: التَّأَخُّر عَن الْحَرْب من الْجُبْن والتهيب.

(وغيرني مَا غال قيسا ومالكاً

وعمراً وجزءاً بالمشقر ألمعا)

غال: أهلك. وَقيس وَعَمْرو: رجلَانِ من بني يَرْبُوع وجزء: هُوَ بن سعد الريَاحي وَهَؤُلَاء قَتلهمْ الْأسود بن الْمُنْذر يَوْم المشقر. وَيَعْنِي بِمَالك أَخَاهُ. والمشقر بالشين الْمُعْجَمَة وَالْقَاف على زنة اسْم الْمَفْعُول: قصر

ص: 23

بِالْبَحْرَيْنِ وَقيل: مَدِينَة هجر. وَقَوله: ألمعا أَي: ألمع بهم الْمَوْت وَمَعْنَاهُ ذهب بهم وَقَالَ الْكسَائي: أَرَادَ مَعًا فَزَاد أل.

(وَمَا غال نَدْمَانِي يزِيد وليتني

تمليته بالأهل وَالْمَال أجمعا)

(وَإِنِّي وَإِن هازلتني قد أصابني

من البث مَا يبكي الحزين المفجعا)

يَقُول: نزل بِي مَا يغلب الصَّبْر والتجلد حَتَّى يحمل صَاحبه على الْبكاء وَأَنا مَعَ ذَلِك أتجلد.

(وَلست إِذا مَا أحدث الدَّهْر نكبة

ورزءاً بزوار القرائب أخضعا)

يَقُول: إِذا أصابتني مُصِيبَة لم آتٍ قرائبي خاضعاً لَهُم الْحَاجة مني إِلَيْهِم ولكنني أَصْبِر وأعف مَعَ الْفقر.

وَبعده: قعيدك أَن لَا تسمعيني ملامة

... . . الْبَيْت)

ومتمم: هُوَ ابْن نُوَيْرَة بن جَمْرَة بِالْجِيم ابْن شَدَّاد ابْن عبيد بن ثَعْلَبَة ابْن يَرْبُوع بن حَنْظَلَة بن مَالك بن زيد مَنَاة بن تَمِيم.

وَكَانَ متمم من الصَّحَابَة رضي الله عنهم. وَأَخُوهُ مَالك يُقَال لَهُ فَارس ذِي الْخمار بِكَسْر الْخَاء الْمُعْجَمَة وَذُو الْخمار فرسه.

قَالَ ابْن السَّيِّد فِي شرح كَامِل الْمبرد: قَوْلهم فَتى وَلَا كمالك هُوَ مَالك بن نُوَيْرَة سيد بني يَرْبُوع قَتله خَالِد بن الْوَلِيد.

وَرَأَيْت رِسَالَة لأبي رياش أَحْمد بن أبي هَاشم الْقَيْسِي تَتَضَمَّن قصَّة قتل خَالِد بن الْوَلِيد لمَالِك كَانَ مَالك بن نُوَيْرَة قد أسلم قبل وَفَاة النَّبِي صلى الله عليه وسلم َ وَتصدق

ص: 24

وَكَانَ عريف ثَعْلَبَة بن يَرْبُوع فَقبض النَّبِي صلى الله عليه وسلم َ وإبل الصَّدَقَة برحرحان وَهُوَ مَاء دوين بطن نخل فَجمع مَالك جمعا نَحوا من ثَلَاثِينَ فَأَغَارَ عَلَيْهَا فاقتطع مِنْهَا ثَلَاثمِائَة فَلَمَّا قدم بِلَاد بني تَمِيم لامه الْأَقْرَع بن حَابِس بن عقال بن مُحَمَّد بن سُفْيَان بن مجاشع بن دارم وَضِرَار بن الْقَعْقَاع بن معبد بن زُرَارَة بن عدس بن زيد بن عبد الله بن دارم وَبلغ مَالِكًا أَنَّهُمَا يمشيان بِهِ فِي بني تَمِيم فَقَالَ مَالك يعتبهما وَيَدْعُو على مَا بَقِي من إبل الصَّدَقَة:

(أَرَانِي الله بِالنعَم المندى

ببرقة رحرحان وَقد أَرَانِي)

(أإن قرت عُيُون فاستفيئت

غَنَائِم قد يجود بهَا بناني)

(حويت جَمِيعهَا بِالسَّيْفِ صَلتا

وَلم ترْعد يداي وَلَا جناني)

(تمشى يَا ابْن عوذة فِي تَمِيم

وَصَاحِبك الأقيرع تلحياني)

(ألم أك نَار رابئة تلظى

فتتقيا أذاي وترهباني)

(فَقل لِابْنِ المذب يغض طرفا

على قطع المذلة والهوان)

وعوذة: أم ضرار بن الْقَعْقَاع وَهِي معَاذَة بنت ضرار بن عَمْرو الضَّبِّيّ. والمذبة: أم الْأَقْرَع بن حَابِس.

فَلَمَّا قَامَ أَبُو بكر وبلغه قَول مَالك بعث إِلَيْهِ خَالِد بن الْوَلِيد وَأمره أَن لَا يَأْتِي النَّاس إِلَّا عِنْد صَلَاة الْغَدَاة فَمن سمع فيهم مُؤذنًا كف عَنْهُم وَمن لم يسمع فيهم مُؤذنًا استحلهم وعزم عَلَيْهِ ليقْتلن مَالِكًا إِن أَخذه. فَأقبل خَالِد بن الْوَلِيد حَتَّى هَبَط جو الْبَعُوضَة وَبِه بَنو يَرْبُوع فَبَاتَ

ص: 25

عِنْدهم وَلَا يخافونه فَمر على بني ريَاح فَوجدَ شَيخا مِنْهُم يُقَال لَهُ مَسْعُود بن وضام يَقُول:)

(وَحجَّة أتبعهَا بِحجَّة

وهدية أَهْدَيْتهَا للأبطح)

فَمضى عَن ريَاح حَتَّى مر ببني غُدَانَة وَبني ثَعْلَبَة فَلم يسمع فيهم مُؤذنًا فَحمل عَلَيْهِم فثار النَّاس وَلَا يَدْرُونَ مَا بَيتهمْ فَلَمَّا رَأَوْا الفرسان والجيش قَالُوا: من أَنْتُم قَالُوا: نَحن الْمُسلمُونَ. قَالَ مَالك: وَنحن الْمُسلمُونَ فَلم ينْتَه الْمُسلمُونَ لذَلِك وَوَضَعُوا فيهم السَّيْف وَقتلت غُدَانَة أَشد الْقَتْل وَقتلت ثَعْلَبَة وَأعجل مَالك عَن لبس السِّلَاح وَإِن امْرَأَته ليلى بنت سِنَان بن ربيعَة بن حَنْظَلَة قَامَت دونه عُرْيَانَة وَدخل الْقبَّة وَقَامَت دونه وَلبس مَالك أداته ثمَّ خرج فَنَادَى: يَا آل عبيد.

فَلم يجبهُ أحد غير بني بهآن فَإِنَّهُم صدقُوا مَعَه يومئذٍ وطلعوا من جو الْبَعُوضَة وبلغوا ذَات المذاق

وَهِي أكمة بَينهَا وَبَين الجو ميلان أَو قدر ميل وَنصف ففزعوا من الْقَوْم غير مَالك وَغير بَقِيَّة من ولد حبشِي بن عبيد بن ثَعْلَبَة وَكَانَ عدَّة من أُصِيب مَعَ مَالك خَمْسَة وَأَرْبَعين رجلا من بني بهان.

ثمَّ إِن خَالِد بن الْوَلِيد قَالَ: يَا ابْن نُوَيْرَة هَلُمَّ إِلَى الْإِسْلَام قَالَ مَالك: وتعطيني مَاذَا قَالَ: ذمَّة الله وَذمَّة رَسُوله وَذمَّة أبي بكر وَذمَّة خَالِد بن الْوَلِيد فَأقبل مَالك وَأَعْطَاهُ بيدَيْهِ وعَلى خَالِد تِلْكَ العزمة من أبي بكر. قَالَ: يَا مَالك إِنِّي قَاتلك. قَالَ: لَا تقتلني قَالَ: لَا أَسْتَطِيع غير ذَلِك قَالَ: فأت مَا لَا تَسْتَطِيع إِلَّا إِيَّاه. فقدمه إِلَى النَّاس فتهيبوا قَتله وَقَالَ الْمُهَاجِرُونَ: أنقتل رجلا مُسلما غير ضرار ابْن الْأَزْوَر الْأَسدي من بني كوز فَإِنَّهُ قَامَ بقتْله. فَقَالَ متمم بن نُوَيْرَة يذكر غدره بِمَالك:

ص: 26

(نعم الْقَتِيل إِذا الرِّيَاح تحدبت

فَوق الكنيف قتيلك بن الْأَزْوَر)

(أدعوته بِاللَّه ثمَّ قتلته

لَو هُوَ دعَاك بِذِمَّة لم يغدر)

(ولنعم حَشْو الدرْع يَوْم لِقَائِه

ولنعم مأوى الطارق المتنور)

(لَا يلبس الْفَحْشَاء تَحت ثِيَابه

صَعب مقادته عفيف المئزر)

فَلَمَّا فرغ خَالِد مِنْهُ أقبل الْمنْهَال بن عصمَة الريَاحي فِي نَاس من بني ريَاح يدفنون قَتْلَى بني ثَعْلَبَة وَبني غُدَانَة وَمَعَ الْمنْهَال بردَان من يمنة. فَكَانُوا إِذا مروا على رجل يعرفونه قَالُوا: كفن هَذَا يَا منهال فيهمَا فَيَقُول: لَا حَتَّى أكفن فيهمَا الجفول مَالِكًا وَهُوَ الْكثير الشّعْر وَكَانَ يلقب بذلك لِكَثْرَة شعره. وَذَلِكَ فِي يَوْم شَدِيد الرّيح فَجعلُوا لَا يقدرُونَ على ذَلِك. ثمَّ رفعت الرّيح شعره

(لعمري وَمَا دهري بتأبين مَالك

وَلَا جزع مِمَّا أصَاب فأوجع)

)

(لقد كفن الْمنْهَال تَحت رِدَائه

فَتى غير مبطان العشيات أروعا)

(ألم يَأْتِ أَخْبَار الْمحل سراتنا

فيغضب مِنْهَا كل من كَانَ موجعا)

الْمحل: رجل من بني ثَعْلَبَة مر بِمَالك مقتولاً فنعاه كَأَنَّهُ شامت فذمه متمم وَأخذ خَالِد بن الْوَلِيد ليلى بنت سِنَان امْرَأَة مَالك وَابْنهَا جَراد بن مَالك فأقدمهما الْمَدِينَة ودخلها وَقد غرز سَهْمَيْنِ فِي عمَامَته فَكَأَن عمر غضب حِين رأى السهمين فَقَامَ فَأتى عليا فَقَالَ: إِن فِي حق الله أَن يُقَاد هَذَا بِمَالك قتل رجلا مُسلما ثمَّ نزا على امْرَأَته كَمَا ينزو الْحمار. ثمَّ قاما فَأتيَا طَلْحَة فتتابعوا على ذَلِك. فَقَالَ أَبُو بكر: سيف سَله الله لَا أكون أول من أغمده أكل أمره إِلَى الله.

ص: 27

فَلَمَّا قَامَ عمر بِالْأَمر وَفد عَلَيْهِ متمم فاستعداه على خَالِد. فَقَالَ: لَا أرد شَيْئا صنعه أَبُو بكر.

فَقَالَ متمم: قد كنت تزْعم أَن لَو كنت مَكَان أبي بكر أقدته بِهِ فَقَالَ عمر: لَو كنت ذَلِك الْيَوْم بمكاني الْيَوْم لفَعَلت وَلَكِنِّي لَا أرد شَيْئا أَمْضَاهُ أَبُو بكر ورد عَلَيْهِ ليلى وَابْنهَا جَراد.

وَأنْشد بعده وَهُوَ الشَّاهِد السَّابِع وَالثَّمَانُونَ:

(أَيهَا المنكح الثريا سهيلا

عمرك الله كَيفَ يَلْتَقِيَانِ)

على أَن عمرك الله يسْتَعْمل فِي الْقسم السؤالي وَيكون جَوَابه مَا فِيهِ الطّلب وَهُوَ هُنَا جملَة كَيفَ يَلْتَقِيَانِ فَإِن الِاسْتِفْهَام طلب الْفَهم وَهُوَ هُنَا تعجبي. خلافًا للجوهري فِي هَذَا فَإِنَّهُ زعم أَن عمرك الله هُنَا فِي غير الْقسم.

وَهَذَانِ البيتان من قصيدة لعمر بن أبي ربيعَة.

والمنكح: اسْم فَاعل من أنكحه أَي: زوجه. واستقل ارْتَفع. والثريا هِيَ بنت عَليّ بن عبد الله بن الْحَارِث بن أُميَّة الْأَصْغَر وهم العبلات.

وَكَانَت الثريا وَأُخْتهَا عَائِشَة أعتقتا الْغَرِيض الْمُغنِي واسْمه عبد الْملك ويكنى أَبَا يزِيد كَذَا قَالَ الْمبرد فِي الْكَامِل. قَالَ ابْن السَّيِّد فِي شَرحه: والعبلات هم بَنو أُميَّة الْأَصْغَر بن عبد شمس وَبَنُو عبد شمس: أُميَّة وَعبد أُميَّة وَنَوْفَل أَبنَاء عبد شمس نسبوا إِلَى أمّهم عبلة بنت

ص: 28

عبيد بن جادل بن قيس بن حَنْظَلَة بن مَالك بن زيد مَنَاة بن تَمِيم. وَهِي من البراجم.

وَرَأَيْت فِي كتب اللَّهْو لبن جرادبة أَن كنيته أَبُو زيد وَقَالَ: هُوَ من مولدِي البربر يضْرب الْعود أَخذ الْغناء عَن ابْن سُرَيج ثمَّ حسده فطرده وَكَانَ جميلاً وربته الثريا وعلمته النوح بالمراثي)

على من قَتله يزِيد بن مُعَاوِيَة يَوْم الْحرَّة.

وَقيل إِن الثريا بنت عبد الله بن الْحَارِث بن أُميَّة الْأَصْغَر.

وَذكر الزبير بن بكار أَنَّهَا الثريا بنت عبد الله بن مُحَمَّد بن عبد الله بن الْحَارِث ابْن أُميَّة الْأَصْغَر وَأَنَّهَا أُخْت مُحَمَّد بن عبد الله الْمَعْرُوف بِأبي جراب العبلي الَّذِي قَتله دَاوُد بن عَليّ كَذَا فِي الْغرَر والدرر للشريف.

وَأما سُهَيْل: فَهُوَ سُهَيْل بن عبد الرَّحْمَن بن عَوْف الزُّهْرِيّ. وكنيته أَبُو الْأَبْيَض. وَأمه بنت يزِيد بن سَلامَة ذِي فائش الْحِمْيَرِي. تزوج الثريا ونقلها إِلَى

مصر. فَقَالَ عمر بن أبي ربيعَة يضْرب لَهَا الْمثل بالكوكبين. فَكَانَ يشبب بهَا وَقَالَ فِيهَا أشعاراً. وَكَانَت تصيف فِي الطَّائِف فَكَانَ عمر يَغْدُو بفرسه كل غَدَاة فيسائل الَّذين يحملون الْفَاكِهَة عَن أَخْبَارهَا فَسَأَلَ بَعضهم يَوْمًا فَقَالَ: لَا أعلم خَبرا غير أَنِّي سَمِعت عِنْد رحيلنا صَوتا وصياحاً على امْرَأَة من قُرَيْش اسْمهَا اسْم نجم ذهب عني اسْمه. قَالَ عمر: الثريا قَالَ: نعم وَكَانَ قد بلغه أَنَّهَا عليلة فركض فرسه من أقرب الطَّرِيق حَتَّى انْتهى إِلَيْهَا

ص: 29

وَهِي تشرف من ثنية فَوَجَدَهَا سليمَة وَمَعَهَا أُخْتهَا فَأَخْبرهَا الْخَبَر فَضَحكت وَقَالَت: أَنا وَالله أَمرتهم لأخبر مَا عنْدك وَلما تزوج عمر هجرته الثريا وغضبت عَلَيْهِ فَقَالَ:

(قَالَ لي صَاحِبي ليعلم مَا بِي:

أَتُحِبُّ القتول أُخْت الربَاب)

(قلت: وجدي بهَا كوجدك بالما

ء إِذا مَا منعت برد الشَّرَاب)

ثمَّ تزَوجهَا سُهَيْل الْمَذْكُور وَحملهَا إِلَى مصر وَكَانَ عمر غَائِبا فَلَمَّا بلغه قَالَ: الْخَفِيف

(أَيهَا الطارق الَّذِي قد عناني

بعد مَا نَام سامر الركْبَان)

(زار من نازح بِغَيْر دَلِيل

يتخطى إِلَيّ حَتَّى أَتَانِي)

إِلَى أَن قَالَ: أَيهَا المنكح الثريا سهيلا

. . الْبَيْتَيْنِ وَزعم بَعضهم أَن سهيلا هُوَ ابْن عبد الْعَزِيز بن مَرْوَان. وَالصَّحِيح الأول. ثمَّ

سَار إِلَى الْمَدِينَة وَكتب إِلَيْهَا:

(كتبت إِلَيْك من بلدي

كتاب مولهٍ كمد)

(كثيب واكف الْعين

ين بالحسرات مُنْفَرد))

(يؤرقه لهيب الشو

ق بَين السحر والكبد)

(فَيمسك قلبه بيد

وَيمْسَح عينه بيد)

فَلَمَّا قرأته بَكت بكاء شَدِيدا ثمَّ تمثلت:

ص: 30

الطَّوِيل

(بنفسي من لَا يسْتَقلّ بِنَفسِهِ

وَمن هُوَ إِن لم يرحم الله ضائع)

وكتبت إِلَيْهِ تَقول:

(فقرطاسه قوهية ورباطه

بعقدٍ من الْيَاقُوت صافٍ وجوهر)

(وَفِي صَدره: مني إِلَيْك تحيةٌ

لقد طَال تهيامي بكم وتذكري)

(وعنوانه: من مستهامٍ فُؤَاده

إِلَى هائمٍ صب من الْحزن مسعر)

رُوِيَ أَن الثريا وعدته لَيْلَة أَن تزوره فَجَاءَت فِي الْوَقْت الَّذِي وعدته فِيهِ فصادفت أَخَاهُ الْحَارِث بن ربيعَة قد طرقه وَأقَام عِنْده وَوجه بِهِ فِي حَاجَة ونام مَكَانَهُ وغطى وَجهه بِثَوْبِهِ فَلم يشْعر إِلَّا وَقد أَلْقَت نَفسهَا عَلَيْهِ تقبله فانتبه وَجعل يَقُول: اغربي عني فلست بالفاسق أخزاكما الله فَانْصَرَفت. وَرجع عمر فَأخْبرهُ الْحَارِث بذلك فاغتنم على مَا فَاتَهُ مِنْهَا وَقَالَ: وَالله لَا تمسك النَّار أبدا وَقد أَلْقَت نَفسهَا عَلَيْك فَقَالَ: عَلَيْك وَعَلَيْهَا لعنة الله.

وَحكم لَهُ بَين الثريا وَسُهيْل تورية لَطِيفَة فَإِن الثريا يحْتَمل الْمَرْأَة الْمَذْكُورَة وَهُوَ الْمَعْنى الْبعيد المورى عَنهُ وَهُوَ المُرَاد وَيحْتَمل ثريا السَّمَاء وَهُوَ الْمَعْنى الْقَرِيب المورى بِهِ. وَسُهيْل يحْتَمل الرجل الْمَذْكُور وَهُوَ الْمَعْنى الْبعيد المورى عَنهُ وَهُوَ المُرَاد وَيحْتَمل النَّجْم الْمَعْرُوف بسهيل. فَتمكن للشاعر أَن ورى بالنجمين عَن الشخصين ليبلغ من الْإِنْكَار على من جمع بَينهمَا مَا أَرَادَ. وَهَذِه أحسن تورية وَقعت فِي شعر الْمُتَقَدِّمين.

ص: 31

وَفِي شرح بديعية العميان لِابْنِ جَابر: لَا يُقَال إِن التورية فِي الثريا مرشحة بقوله شامية إِذْ لَيست من لَوَازِم المورى بِهِ وَلَا مبينَة إِذْ لَيست من لَوَازِم المورى إِذْ الْمَرْأَة شامية الدَّار والنجم أَيْضا شَامي فاشتركا فِي ذَلِك وَلَا يكون الترشيح والتبيين إِلَّا بِلَازِم خاصي. وَكَذَلِكَ التورية فِي سُهَيْل لَا يُقَال إِنَّهَا مرشحة وَلَا مبينَة بيمانٍ إِذْ هُوَ صفة مُشْتَركَة بَينهمَا لن سهيلاً الَّذِي هُوَ رجل يمَان كسهيل الَّذِي هُوَ النَّجْم. وَسبب هذَيْن: أَن سهيلاً الْمَذْكُور تزوج الثريا الْمَذْكُورَة وَكَانَ بَينهمَا بون بعيد فِي الْخلق: كَانَت الثريا مَشْهُورَة فِي زمانها بالْحسنِ وَالْجمال وَكَانَ سُهَيْل قَبِيح المنظر وَهَذَا مُرَاده بقوله: عمرك الله كَيفَ يَلْتَقِيَانِ أَي: كَيفَ يَلْتَقِيَانِ مَعَ تفَاوت مَا بَينهمَا فِي)

الْحسن والقبح انْتهى.

وَعمر: هُوَ عمر بن عبد الله سَمَّاهُ بِهِ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم َ وَكَانَ فِي الْجَاهِلِيَّة يُسمى بحيرا بِفَتْح الْمُوَحدَة وَكسر الْمُهْملَة ابْن أبي ربيعَة واسْمه حُذَيْفَة وَكَانَ يلقب بِذِي الرمحين ابْن الْمُغيرَة بن عبد الله بن عمر بن مَخْزُوم المَخْزُومِي.

ويكنى عمر أَبَا الْخطاب. وَأَبُو جهل بن هِشَام بن الْمُغيرَة ابْن عَم أَبِيه. وَأم عمر بن الْخطاب حنتمة بنت هِشَام بن الْمُغيرَة بنت عَم أَبِيه. وَإِخْوَته عبد الله

وَعبد الرَّحْمَن والْحَارث بَنو عبد الله.

ص: 32

وَكَانَ عبد الرَّحْمَن أَخُوهُ تزوج أم كُلْثُوم بنت أبي بكر الصّديق بعد طَلْحَة وَولدت لَهُ. وأعقب وَلم يكن فِي قُرَيْش أشعر من عمر. وَهُوَ كثير الْغَزل والنوادر والمجون يُقَال: من أَرَادَ رقة الْغَزل فَعَلَيهِ بِشعر عمر بن أبي ربيعَة.

ولد لَيْلَة الْأَرْبَعَاء لأَرْبَع بَقينَ من ذِي الْحجَّة سنة ثَلَاث وَعشْرين وَهِي اللَّيْلَة الَّتِي مَاتَ فِيهَا عمر بن الْخطاب رضي الله عنه فَسُمي باسمه.

قَالَ ابْن قُتَيْبَة: كَانَ عمر فَاسِقًا يتَعَرَّض لِنسَاء الْحَاج ويشبب بِهن. فنفاه عمر بن عبد الْعَزِيز إِلَى دهلك. ثمَّ غزا فِي الْبَحْر فأحرقت السَّفِينَة الَّتِي كَانَ فِيهَا فَاحْتَرَقَ هُوَ وَمن كَانَ مَعَه.

وَفِي الأغاني بِسَنَدِهِ أَنه نظر فِي الطّواف امْرَأَة شريفة فكلمها فَلم تجبه فَقَالَ:

(الرّيح تسحب أذيالاً وتنشرها

يَا لَيْتَني كنت مِمَّن تسحب الرّيح)

فِي أَبْيَات. فَلَمَّا بلغتهَا جزعت جزعاً شَدِيدا. فَقيل لَهَا: اذكريه لزوجك واشكيه. قَالَت: وَالله مَا أشكوه إِلَّا لله اللَّهُمَّ إِن كَانَ نوه باسمي ظَالِما فاجعله طَعَاما للريح.

فَعدا يَوْمًا على فرس فَهبت ريح فَنزل فاستتر بشجرة فعصفت الرّيح فخدشه غُصْن مِنْهَا فَمَاتَ على ذَلِك.

وَكَانَ ذَلِك سنة ثَلَاث وَتِسْعين وَقد قَارب السّبْعين أَو جاوزها. وَقيل عَاشَ ثَمَانِينَ سنة.

وترجمته فِي الأغاني طَوِيلَة.

ص: 33

فَإِنَّمَا هِيَ إقبال وإدبار تقدم شَرحه فِي الشَّاهِد السّبْعين فِي بَاب الْمُبْتَدَأ.

وَأنْشد بعده وَهُوَ)

الشَّاهِد الثَّامِن وَالثَّمَانُونَ وَهُوَ من شَوَاهِد سِيبَوَيْهٍ: الْكَامِل

(عجب لتِلْك قَضِيَّة وإقامتي

فِيكُم على تِلْكَ الْقَضِيَّة أعجب)

على أَنهم يرفعون بعض المصادر المنصوبة بعد حذف عاملها لزِيَادَة الْمُبَالغَة فِي الدَّوَام. بَين الشَّارِح وَجه رَفعه على الْخَيْرِيَّة.

وَكَذَلِكَ أوردهُ سِيبَوَيْهٍ بِأَنَّهُ على إضمارٍ مُبْتَدأ أَي: أَمْرِي عجب. وَقَالَ الأعلم وَتَبعهُ بن خلف: يجوز أَن يكون مَرْفُوعا بِالِابْتِدَاءِ وَإِن كَانَ نكرَة لوُقُوعه موقع الْمَنْصُوب ويتضمن من الْوُقُوع موقع الْفِعْل مَا يتَضَمَّن الْمَنْصُوب فيستغنى عَن الْخَبَر لِأَنَّهُ كالفعل وَالْفَاعِل فَكَأَنَّهُ قَالَ: أعجب لتِلْك الْقَضِيَّة. أَو خَبره لتِلْك.

وَهَذَا هُوَ الْمَعْهُود فِي المصادر المنصوبة: إِذا رفعت جعلت مُبْتَدأ وَجعل متعلقها خَبرا مثل الْحَمد لله وَالسَّلَام عَلَيْك لتَكون فِي معنى الأَصْل أَعنِي الْجُمْلَة الفعلية لَا تزيد عَلَيْهَا إِلَّا بِالدّلَالَةِ على الثَّبَات وَقد يَجْعَل غير متعلقها خَبرا كَقَوْلِه تَعَالَى: فصبرٌ جميلٌ أَي: أحسن من غَيره.

وَقَضِيَّة مَنْصُوب على التَّمْيِيز للنوع الَّذِي أَشَارَ إِلَيْهِ بِتِلْكَ وَيجوز أَن يكون مَنْصُوبًا على الْحَال قَالَ أَبُو عَليّ: كَأَنَّهُ قَالَ:

اعجبوا لتِلْك الفعلة

ص: 34

قَضِيَّة. وَقَضِيَّة هُنَا بِمَعْنى مقضية. وروى: عجبا بِالنّصب على أَنه مصدر نَائِب عَن أعجب.

وَاعْلَم أَن الشَّارِح الْمُحَقق حقق هُنَا أَن الْمصدر الْمَنْصُوب بعد حذف عَامله يُفِيد الدَّوَام وَإِذا رفع وَجعل خَبرا أَفَادَ زِيَادَة وَهِي الْمُبَالغَة فِي الدَّوَام.

وَهَذَا مُنَاقض لكَلَامه فِي بَاب الْمُبْتَدَأ فِي سلامٌ عَلَيْك من أَن النصب بعد حذف الْفِعْل يدل على الْحُدُوث فَعدل إِلَى الرّفْع للدلالة على الدَّوَام قَالَ الدماميني فِي شرح التسهيل: الْحق مَا قَالَه الرضي فِي بَاب الْمَفْعُول الْمُطلق بِخِلَاف مَا قَالَه فِي الْمُبْتَدَأ فَإِنَّهُ غير مرضِي.

أَقُول: لَو عكس الْقَضِيَّة لَكَانَ أظهر فَإِنَّهُ مَعَ النصب الصَّرِيح كَيفَ يُفِيد الدَّوَام مَعَ أَن الْجُمْلَة فعلية والتزام الْحَذف لَا يُنَافِيهِ كَمَا فِي الظَّرْفِيَّة الْوَاقِعَة خَبرا إِذا قدر الْمُتَعَلّق فعلا مَعَ أَن الْجُمْلَة إسمية وَمَعَ هَذَا فَلم يجعلوها للدوام الثبوتي فَإِن ادّعى أَن الْعَامِل مضارع أَو اسْم فَاعل وَأَن كلا مِنْهُمَا مَحْمُول على الِاسْتِمْرَار التجددي لَا الدوامي ورد عَلَيْهِ أَن هَذَا يحصل مَعَ الذّكر)

فتخصيص الْحَذف بِهِ مِمَّا لَا دَاعِيَة إِلَيْهِ مَعَ أَن هَذَا لَيْسَ مرَادا لَهُ بل مُرَاده حُصُول الِاسْتِمْرَار الثبوتي مَعَ النصب. وَكَلَام الشَّارِح هُنَا مُخَالف لكَلَام عُلَمَاء الْمعَانِي قَالَ السَّيِّد فِي شرح الْمِفْتَاح: إِن الِاسْم كعالم مثلا يدل على ثُبُوت الْعلم لمن حكم بِهِ عَلَيْهِ وَلَيْسَ فِيهِ تعرض لاقترانه بزمانٍ وحدوثه فِيهِ وَلَا لدوامه. نعم لما كَانَ اسْم الْفَاعِل جَارِيا على الْفِعْل جَازَ أَن يقْصد بِهِ الْحُدُوث بمعونة الْقَرَائِن كَمَا فِي ضائق وَيجوز أَن يقْصد بِهِ الدَّوَام أَيْضا فِي مقَام الْمَدْح وَالْمُبَالغَة وَكَذَا حكم اسْم الْمَفْعُول وَأما الصّفة المشبهة فَلَا يقْصد بهَا إِلَّا مُجَرّد الثُّبُوت وضعا أَو الدَّوَام

ص: 35

باقتضاء الْمقَام.

وَالْجُمْلَة الاسمية إِذا كَانَ خَبَرهَا اسْما فقد يقْصد بهَا الدَّوَام والاستمرار الثبوتي بمعونة الْقَرَائِن وَإِذا كَانَ خَبَرهَا مضارعاً فقد يُفِيد استمراراً تجددياً وَهَذِه الإفادة أَيْضا بمعونة الْقَرَائِن كَمَا فِي: الله يستهزئ بهم لَكِن هَذَا الِاسْتِمْرَار التجددي مُسْتَفَاد من الْمُضَارع فِي الْحَقِيقَة وَفَائِدَة الْجُمْلَة الإسمية هَا هُنَا تقَوِّي الحكم فَلَيْسَ كل جملَة إسمية مفيدة للدوام فَإِن قَوْلك: زيد قَامَ يُفِيد تجدّد الْقيام.

فَقَوْل الشَّارِح هُنَا إِنَّمَا وَجب حذف الْفِعْل لِأَن الْمَقْصُود من مثل هَذَا الْحصْر أَو التكرير وصف الشَّيْء بدوام حُصُول الْفِعْل مِنْهُ ولزومه لَهُ وَوضع الْفِعْل على الْحُدُوث والتجدد مشكلٌ لِأَنَّهُ هُنَا جملَة إسمية خَبَرهَا فعل مضارع أَو اسْم فَاعل دلّ على الْحُدُوث لعمله فَهِيَ للاستمرار التجددي لَا الدوامي وحينئذٍ لَا فرق بَين ذكر الْعَامِل وحذفه لِأَن التَّقْدِير: مَا زيد إِلَّا يسير سيراً وَزيد يسير سيراً فَكيف جعل الْغَرَض من هَذَا الْحصْر أَو التكرير وصف الشَّيْء بدوام حُصُول الْفِعْل مِنْهُ ولزومه لَهُ مَعَ أَن الْجُمْلَة اسمية خَبَرهَا مضارع فَإِن أُجِيب: بِأَن الْجُمْلَة إِنَّمَا أفادت مَعَ الْحصْر أَو التكرير الدَّوَام الثبوتي للُزُوم حذف الْعَامِل ورد عَلَيْهِ الْجُمْلَة الاسمية الَّتِي خَبَرهَا ظرفية إِذا قدر الْمُتَعَلّق فِيهَا فعلا فَإِنَّهَا لَا تفِيد الدَّوَام الثبوتي مَعَ لُزُوم حذف الْعَامِل.

فَإِن أُجِيب: بِأَن الدَّال على الدَّوَام الثبوتي إِنَّمَا هُوَ الْحصْر أَو التكرير لَا الْجُمْلَة الإسمية الَّتِي قدر خَبَرهَا فعلا كَمَا يدل عَلَيْهِ قَوْله بعد ذَلِك لم يكن

ص: 36

فِيهِ معنى الْحصْر الْمُفِيد للدوام ورد عَلَيْهِ أَن كَلَامهم مُطلق لم يُقيد بِهَذَا الْقَيْد.

وَقَول الشَّارِح: وَإِن كَانَ يسْتَعْمل الْمُضَارع فِي بعض الْمَوَاضِع للدوام لَا يَخْلُو عَن بحث فَإِن ظَاهره)

أَن الدَّوَام الَّذِي يفِيدهُ الْمُضَارع ثبوتي لَا تجددي إِلَّا أَن يُقَال: مُرَاده مُطلق الدَّوَام وَإِن كَانَ مُخْتَلفا وَهَذَا لَا يُنَاسب أول كَلَامه. وَقَوله: وَذَلِكَ لمشابهته لاسم الْفَاعِل إِن حمل اسْم الْفَاعِل على الْعَامِل فدوامه تجددي لَا ثبوتي وَإِن حمل على غير الْعَامِل فَهُوَ يُفِيد الِاسْتِمْرَار الدوامي لَا التجددي بِالْقَرِينَةِ وَالْحمل عَلَيْهِ لَا يُنَاسب لِأَن الْمُضَارع لَا يُفِيد ذَلِك بل يُفِيد الِاسْتِمْرَار التجددي.

وَقَوله: فَلَمَّا كَانَ المُرَاد التَّنْصِيص على الدَّوَام واللزوم لم يسْتَعْمل الْعَامِل أصلا يُرِيد أَنه قد علم أَن الدَّال للدوام عِنْده هُوَ الْحصْر أَو التكرير فالتزم حذف مَا دلَالَته تنَافِي ذَلِك وَهُوَ الْعَامِل لِأَنَّهُ: إِمَّا فعل وَهُوَ مَوْضُوع للتجدد واستعماله فِي الدَّوَام إِذا كَانَ مضارعاً لَيْسَ وضيعاً بل بالقرائن فَنَظَرْنَا إِلَى أصل الْوَضع والتزمنا حذفه وَفِيه أَن الْمَحْذُوف كَالثَّابِتِ كَمَا يدل عَلَيْهِ كَلَامهم فِي مُتَعَلق الظّرْف الْوَاقِع خَبرا إِذا قدر بِالْفِعْلِ.

وَقَوله: أَو اسْم فَاعل وَهُوَ مَعَ الْعَمَل كالفعل أَي: للتجدد فَلَا يُفِيد الِاسْتِمْرَار وضعا وَإِن اسْتعْمل فِيهِ بمعونة الْقَرَائِن وَفِيه أَيْضا أَن الْمَحْذُوف كَالثَّابِتِ

وَعَمله إِنَّمَا يُنَافِي حمله على الِاسْتِمْرَار الثبوتي إِذا كَانَ عَاملا فِي الْمَفْعُول بِهِ أما عمله فِي الظّرْف أَو فِي الْمَفْعُول الْمُطلق كَمَا هُنَا فَلَا يُنَافِي إفادته للدوام الثبوتي وَأما إِذا عمل فِي الْمَفْعُول بِهِ فَإِنَّهُ يُفِيد الِاسْتِمْرَار التجددي.

وَبَيت الشَّاهِد من أَبْيَات سَبْعَة أَولهَا:

(ياجند أَخْبرنِي وَلست بمخبري

وأخوك ناصحك الَّذِي لَا يكذب)

ص: 37

(هَل فِي الْقَضِيَّة أَن إِذا استغنيتم

وأمنتم فَأَنا الْبعيد الأجنب)

(وَإِذا تكون كريهة أدعى لَهَا

وَإِذا يحاس الحيس يدعى جُنْدُب)

(ولجنب سهل الْبِلَاد وعذبها

ولي الملاح وخبتهن المجدب)

عجب لتِلْك قَضِيَّة وإقامتي

...

...

...

. الْبَيْت

(هَذَا وجدكم الصغار بِعَيْنِه

لَا أم لي إِن كَانَ ذَاك وَلَا أَب)

وَهَذَا الشّعْر لضمرة بن ضَمرَة بن جَابر بن قطن بن نهشل بن دارم شَاعِر جاهلي. وَيُقَال: إِن ضَمرَة كَانَ اسْمه شقة فَسَماهُ النُّعْمَان ضَمرَة بن ضَمرَة. وَكَانَ يبر أمه ويخدمها وَكَانَت مَعَ ذَلِك تُؤثر أَخا لَهُ يُقَال لَهُ جُنْدُب فَقَالَ هَذَا الشّعْر. هَكَذَا رَوَاهُ ابْن هِشَام اللَّخْمِيّ فِي شرح أَبْيَات الْجمل. وَرَوَاهُ بَعضهم: يَا ضمر أَخْبرنِي وَقَالَ: إِن قَائِله ضَمرَة. وَهُوَ خطأ. وَنسبه أَبُو رياش)

لهمام بن مرّة أخي جساس بن مرّة قَاتل كُلَيْب. وَزعم ابْن الْأَعرَابِي: أَنه قيل قبل الْإِسْلَام بِخَمْسِمِائَة سنة. وَفِي شرح أَبْيَات سِيبَوَيْهٍ: أَنه لبَعض مذْحج وَقَالَ السيرافي: هُوَ لزراقة الْبَاهِلِيّ.

وَقَالَ الْآمِدِيّ فِي المؤتلف والمختلف: هُوَ لهني بن أَحْمَر من بني الْحَارِث ابْن مرّة بن عبد مَنَاة بن كنَانَة بن خُزَيْمَة جاهلي. وأنشدوا لَهُ: يَا ضمر أَخْبرنِي.

وهني: مصغر هن وَأَصله هنيو فأبدلت الْوَاو يَاء وأدغمت فِي الْيَاء لسبقها بِالسُّكُونِ.

وَرَوَاهُ أَبُو مُحَمَّد الْأَعرَابِي عَن أبي الندي: أَنه لعَمْرو بن الْغَوْث بن طَيئ وأنشدوا لَهُ:

ص: 38

قَالَ: أكتبنا أَبُو الندى قَالَ: بَينا طَيئ جَالس ذَات يَوْم مَعَ وَلَده بالجبلين: أجأ وسلمى إِذْ أقبل رجلٌ من بقايا جديس ممتد الْخلق كَاد يسد الْأُفق طولا ويفرعهم باعا وَإِذا هُوَ الْأسود بن عفار الجديسي وَكَانَ نجا من حسان تبع يَوْم الْيَمَامَة فلحق بالجبلين فَقَالَ لِطَيِّئٍ: من أدخلكم بلادي وأورثكم عَن آبَائِي اخْرُجُوا عَنْهَا وَإِلَّا اضربوا بَيْننَا وَبَيْنكُم وقتا نقتتل فِيهِ فأينا غلب اسْتحق الْبَلَد فاتعدا لوقتٍ فَقَالَ طَيئ لجندب بن خَارِجَة بن سعد بن فطْرَة بن طَيئ وَأمه جديلة بنت سبيع بن عَمْرو من حمير وَبهَا يعْرفُونَ وهم جديلة طَيء وَكَانَ طَيئ لَهَا مؤثراً فَقَالَ لجندب: قَاتل عَن مكرمتك. فَقَالَت أمه آللَّهُ لتتركن بنيك ولتعرضن ابْني للْقَتْل فَقَالَ طَيئ: وَيحك إِنَّمَا خصصته بذلك. فَأَبت. فَقَالَ طَيئ لعَمْرو بن الْغَوْث بن طَيئ: عَلَيْك يَا عَمْرو الرجل فقاتله.

قَالَ عَمْرو: لَا أفعل. وَقَالَ هَذِه الأبيات وَهُوَ أول من قَالَ الشّعْر فِي طَيئ بعد طَيئ. فَقَالَ طَيئ: يابني إِنَّهَا أكْرم دارٍ فِي الْعَرَب. فَقَالَ عَمْرو: لن أفعل إِلَّا على شَرط أَن لَا يكون لبني جديلة فِي

الجبلين نصيب. فَقَالَ لَهُ طَيئ: لَك شرطك. فَأقبل الْأسود بن عفار

ص: 39

وَمَعَهُ قَوس من حَدِيد ونشاب من حَدِيد فَقَالَ: يَا عَمْرو إِن شِئْت صارعتك وَإِن شِئْت ناضلتك. وَإِلَّا سايفتك.

فَقَالَ عَمْرو: الصراع أحب إِلَيّ فاكسر قوسك لأكسرها أَيْضا ونصطرع.

وَكَانَت مَعَ عَمْرو بن الْغَوْث قوسٌ مَوْصُولَة بزرافين إِذا شَاءَ شدها وَإِذا شَاءَ خلعها فَأَهوى بهَا عَمْرو فانفتحت الزرافين وَاعْترض الْأسود بقوسه ونشابه فَكَسرهَا فَلَمَّا رأى عَمْرو ذَلِك أَخذ قوسه فركبها وأوترها وناداه: يَا أسود اسْتَعِنْ بقوسك فالرمي أحب إِلَيّ. فَقَالَ الْأسود: خدعتني. فَقَالَ عَمْرو: الْحَرْب خدعة فَصَارَت مثلا. فَرَمَاهُ عَمْرو ففلق قلبه وخلص الجبلان لِطَيِّئٍ فنزلهما بَنو الْغَوْث وَنزلت جديلة السهل مِنْهُمَا.

وروى أَمن السوية أَي: من الْعدْل. والأجنب بِالْجِيم وَالنُّون: الْغَرِيب والبعيد وروى الأخيب)

أَي: الخائب. وأشجتكم من الشجى وَهُوَ الْحزن وَفعله فِي بَاب تَعب وأشجاه أحزنه. والحيس بِفَتْح الْمُهْملَة: لبن وأقط وَسمن وتمر يصنع مِنْهُ طَعَام. والملاح بِكَسْر الْمِيم: جمع مليح يُقَال قليب مليح أَي: مَاؤُهُ ملح. والخبت بِفَتْح الْمُعْجَمَة وَسُكُون الْمُوَحدَة: المطمئن من الأَرْض فِيهِ رمل.

والمجدب اسْم فَاعل من الجدب بِفَتْح الْجِيم وَسُكُون الْمُهْملَة: نقيض الخصب بِكَسْر الْمُعْجَمَة.

وَقَوله: هَذَا وجدكم الصغار بِعَيْنِه

. الْبَيْت

ص: 40

هُوَ من شَوَاهِد س وَغَيره. وَالشَّاهِد فِيهِ رفع الِاسْم الثَّانِي مَعَ فتح الأول. وَذَلِكَ إِمَّا على إِلْغَاء الثَّانِيَة وَرفع تَالِيهَا بالْعَطْف على مَحل الأولى مَعَ اسْمهَا وعَلى هَذَا فخبرهما وَاحِد وَإِمَّا على تَقْدِير لَا الثَّانِيَة معتداً بهَا عاملةً عمل لَيْسَ فَيكون لكل من الأولى وَالثَّانيَِة خبر يَخُصهَا لِأَن خبر الأولى مَرْفُوع وَخبر الثَّانِيَة مَنْصُوب. وَهَذَا مُبْتَدأ وَخَبره الصغار بِفَتْح الصَّاد بِمَعْنى الذل. وَقَوله وجدكم جملَة قسمية مُعْتَرضَة بَين المبتدا وَالْخَبَر.

قَالَ اللَّخْمِيّ: وَالْجد هُنَا: أَبُو الْأَب: وَالْجد أَيْضا: البخت والسعد وَالْعَظَمَة. ويروى: هَذَا لعمركم.

وَقَوله بِعَيْنِه: تَأْكِيد للصغار وزيدت الْبَاء كَمَا يُقَال جَاءَ زيد بِعَيْنِه وَقيل: حَال مُؤَكدَة أَي: هَذَا الصغار حَقًا.

وَقَالَ اللَّخْمِيّ: وبعينه حَال من الصغار وَالْعَامِل فِيهِ مَا فِي هَا من معنى التَّنْبِيه أَو مَا فِي ذَا من معنى الْإِشَارَة. وَذَاكَ: فَاعل كَانَ إِذْ هِيَ تَامَّة وَيجوز أَن تكون نَاقِصَة وخبرها مَحْذُوف أَي: إِن كَانَ ذَاك مَرِيضا ولابد على الْوَجْه الأول من حذف مُضَاف أَي: إِن كَانَ رِضَاء ذَاك ليَصِح الْمَعْنى لِأَنَّهُ إِنَّمَا اشْترط أَنه لَا يرضى بذلك الْخَسْف الَّذِي يطْلب مِنْهُ وَجُمْلَة الشَّرْط مُعْتَرضَة بَين الْمَعْطُوف والمعطوف عَلَيْهِ وسد مَا قبل الشَّرْط مسد الْجَواب أَي: إِن كَانَ ذَلِك انتفيت من أُمِّي وَأبي. والمشار إِلَيْهِ باسم الْإِشَارَة فِي الْمَوْضِعَيْنِ الْفِعْل الَّذِي فَعَلُوهُ بِهِ.

وَأنْشد بعده وَهُوَ

الشَّاهِد التَّاسِع وَالثَّمَانُونَ فِيهَا ازدهاف أَيّمَا ازدهاف

ص: 41

على انه نصب أَيّمَا على الْمصدر أَو الْحَال مَعَ أَنه لم يذكر صَاحب الِاسْم وَلَا الْمَوْصُوف وَهُوَ فِي غَايَة الضعْف وَالْوَجْه الإتباع فِي مثله وَهُوَ رَفعه صفة لازدهاف لكنه حمله على الْمَعْنى لِأَنَّهُ إِذْ قَالَ فِيهَا ازدهاف فَكَأَنَّهُ قَالَ: تزدهف أَيّمَا ازدهاف.

قَالَ سِيبَوَيْهٍ: فَإِن قلت: لَهُ صَوت أَيّمَا صَوت أَو مثل صَوت الْحمار أَو لَهُ صوتٌ صَوتا حسنا جَازَ زعم ذَلِك الْخَلِيل. وَيُقَوِّي ذَلِك أَن يُونُس وَعِيسَى زعما أَن رؤبة كَانَ ينشد هَذَا الْبَيْت نصبا.

وَزعم الْجرْمِي أَن نَصبه على إِضْمَار تزدهف قَالَ: وَلَا يجوز نَصبه بازدهاف لِأَن الْمصدر لَا يعْمل فِي الْمصدر. وَهَذَا الْبَيْت من أرجوزة طَوِيلَة تزيد على ثَمَانِينَ بَيْتا لرؤية ابْن العجاج يُعَاتب بهَا أَبَاهُ مِنْهَا:

(إِنَّك لم تنصف أَبَا الجحاف

وَكَانَ يرضى مِنْك بالإنصاف)

(وَهُوَ عَلَيْك وَاسع العطاف

غاديك بالنفع وَأَنت جافي)

(عَنهُ وَلَا يخفى الَّذِي تجافي

كَيفَ تلومه على الإلطاف)

(وَأَنت لَو ملكت بِالْإِتْلَافِ

شبت لَهُ شوباً من الذعاف)

(والدهر إِن الدَّهْر ذُو ازدلاف

بِالْمَرْءِ ذُو عطفٍ وَذُو انصراف)

إِلَى أَن قَالَ: وَإِن تشكيت من الإسخاف لم أر عطفا من أَب عطاف

(فليت حظي من جداك الضافي

والنفع أَن تتركني كفاف)

(لَيست قوى حبلي بالضعاف

لَوْلَا توقي على الإشراف)

ص: 42

(أقحمني فِي النفنف النفناف

فِي مثل مهوى هوة الوصاف)

(قَوْلك أقوالاً مَعَ التحلاف

فِيهِ ازدهاف أَيّمَا ازدهاف)

وَالله بَين الْقلب والأضعاف أَبُو الجحاف بِفَتْح الْجِيم وَتَشْديد الْحَاء الْمُهْملَة: كنية رؤبة. والعطاف بِكَسْر الْعين: الرِّدَاء مَأْخُوذ من الْعَطف وَهُوَ الْميل والمحبة. وغاديك: من الغدوة وَهُوَ من أول النَّهَار إِلَى الزَّوَال يُقَال)

غَدا عَلَيْهِ غدواً وغدواً بِالضَّمِّ: إِذا بكر وغاداه: باكره. والجفو: الِارْتفَاع والتباعد ونقيض الْوَصْل. والإلطاف

بِكَسْر الْهمزَة: السّير يُقَال ألطفه بِكَذَا أَي: بره. وملكت بِالْبِنَاءِ للْمَفْعُول وَتَشْديد اللَّام. والشوب: الْخَلْط والمزج. والذعاف بِضَم الذَّال الْمُعْجَمَة: السم وَقيل سم ساعةٍ. والقراف بِكَسْر الْقَاف: المقاربة. وَضمير هُوَ للإتلاف أَي: إتلافي مقرب للأعداء إِلَيْك.

والازدلاف: الاقتراب فِي الحَدِيث ازدلفوا إِلَى الله بِرَكْعَتَيْنِ أَي: تقربُوا وأصل الزلفة الْمنزلَة والحظوة.

وَقَوله بِالْمَرْءِ مُتَعَلق بالازدلاف والعطف: الإقبال. والانصراف: الإدبار. والإسخاف بِكَسْر الْهمزَة وَبعد السِّين الْمُهْملَة خاء مُعْجمَة: رقة الْعَيْش. وسخفة الْجُوع بِالْفَتْح: رقته وهزاله والعطف: الشَّفَقَة والعطاف مُبَالغَة عاطف والجدى بِفَتْح الْجِيم وَالْقصر: الجدوى وهما الْعَطِيَّة والضافي بِالْمُعْجَمَةِ: الْكثير من ضفا المَال: إِذا كثر أَو بِمَعْنى السابغ يُقَال ثوب ضاف من ضفا الشَّيْء يضفو ضفواً.

وَقَوله: والنفع بِالْجَرِّ عطفا على جداك وروى بدله وَالْفضل.

وَقَوله: أَن تتركني كفاف خبر لَيست. أوردهُ ابْن هِشَام فِي الْمُغنِي على أَن فعال بِنَاؤُه على الْكسر مَشْهُور فِي المعارف كحذام لشبهه بنزال وَقد جَاءَ فِي غير المعارف وَمِنْه هَذَا وَالْأَصْل كافا فَهُوَ حَال أَو ترك كفاف فمصدر.

وَقَول الصاغاتي فِي الْعباب: كفاف فِي هَذَا الْبَيْت هُوَ من قَوْلهم دَعْنِي كفاف أَي: كف

ص: 43

عني وأكف عَنْك أَي: ننجو رَأْسا بِرَأْس وَعَلِيهِ فَهُوَ اسْم فعل قد جَاءَ على بَابه. والقوى جمع قُوَّة وَهِي إِحْدَى طاقات الْحَبل. والضعاف: جمع ضَعِيف. والتوقي: التخوف وَأَصله جعل النَّفس فِي وقاية مِمَّا يخَاف. والوقاية: فرط الصيانة وَقيل حفظ الشَّيْء مِمَّا يُؤْذِيه ويضره. والإشراف بِكَسْر الْهمزَة: النَّفَقَة كَذَا فِي الْعباب أَي: أَنِّي جلد غير عَاجز عَن الِاكْتِسَاب لَوْلَا أَنِّي ملازم على خدمتك وحالف على تعظيمك. وأقحمني: أدخلني يُقَال قحم فلَان بِنَفسِهِ فِي كَذَا: إِذا دخل فِيهِ من روية وفاعله هُوَ قَوْلك الْآتِي.

والنفنف: بنونين كجعفر: المهوى بَين جبلين وصقع الْجَبَل الَّذِي كَأَنَّهُ جِدَار مَبْنِيّ مستوٍ والنفناف بِمَعْنَاهُ جعل وَصفا لَهُ بِمَعْنى الصعب والشديد.

وَقَوله فِي مثل مهوى بدل من قَوْله فِي النفنف. والمهوى وَمثله المهواة بِمَعْنى الْمسْقط: اسْم مَكَان من هوى بِالْفَتْح يهوي بِالْكَسْرِ هوياً بِضَم الْهَاء وَكسر الْوَاو وَتَشْديد الْيَاء وَيُقَال لما بَين الجبلين)

وَنَحْوه أَيْضا مهوى والهوة بِضَم الْهَاء وَتَشْديد الْوَاو: الوهدة العميقة. والوصاف بِفَتْح الْوَاو وَتَشْديد الصَّاد الْمُهْملَة: رجل من سَادَات الْعَرَب اسْمه مَالك بن عَامر بن كَعْب بن سعد بن ضبيعة بن عجل بن لجيم وَسمي الوصاف لحَدِيث لَهُ قَالَ أَبُو مُحَمَّد الْأَعرَابِي: هوة الوصاف فِي شعر رؤبة. دحل بالحزن لبني الوصاف من بني عجل وهوة الوصاف مثل فِي الْعَرَب يستعملونه فِي الدُّعَاء على الْإِنْسَان يُقَال كَبه الله فِي هوة ابْن الوصاف: وقولك فَاعل أقحمني. وأقوالا: جمع قَول بِمَعْنى الْمَقُول. والتحلاف بِفَتْح التَّاء: مصدر بِمَعْنى الْحلف يَقُول: إِن أقوالك الكاذبة الْمُؤَكّدَة بالأيمان الْبَاطِلَة غرتني حَتَّى أوقعتني بالشدائد والمهالك. وَقَوله: فِيهِ أَي فِي قَوْلك أَو فِي

ص: 44

فِي الْعباب: وازدهفه: استخفه وَفِيه ازدهاف أَي: استعجال وتقحم زَاد فِي الْقَامُوس: وتزيد فِي الْكَلَام يُرِيد أَن كَلَامه يستخف الْعُقُول. وَأي هَذِه الدَّالَّة على معنى الْكَمَال وَإِذا وَقعت بعد النكرَة كَانَت صفة لَهَا وَبعد الْمعرفَة كَانَت حَالا مِنْهَا لَكِنَّهَا نصبت هُنَا على المصدرية وَيجوز رَفعهَا على الوصفية وَمَا زَائِدَة. وَالله مُبْتَدأ والظرف خَبره. والأضعاف أَعْضَاء الْجَسَد جمع ضعف بِالْكَسْرِ أَي: إِن الله عَالم بِمَا فِي الضمائر وَلَا يخفى عَلَيْهِ مَا تضمره لي.

وَالسَّبَب فِي عتاب رؤبة أَبَاهُ: مَا رَوَاهُ الْأَصْمَعِي قَالَ: قَالَ رؤبة: خرجت مَعَ أبي نُرِيد سُلَيْمَان بن عبد الْملك فَلَمَّا سرنا بعض الطَّرِيق قَالَ لي: أَبوك راجز

وَأَنت مفحم. قلت: أفأقول قَالَ: نعم. فَقلت أرجوزة. فَلَمَّا سَمعهَا قَالَ لي: اسْكُتْ فض الله فَاك.

فَلَمَّا وصلنا إِلَى سُلَيْمَان أنْشدهُ أرجوزتي فَأمر لَهُ بِعشْرَة آلَاف دِرْهَم فَلَمَّا خرجنَا من عِنْده قلت لَهُ: أتسكتني وتنشده أرجوزتي فَقَالَ: اسْكُتْ وَيلك فَإنَّك أرجز النَّاس. فَالْتمست مِنْهُ أَن يعطيني نَصِيبا مِمَّا أَخذه بشعري فَأبى فنابذته فَقَالَ:

(لطالما أجْرى أَبُو الجحاف

لهيئة بعيدَة الْأَطْرَاف)

(يَأْتِي على الأهلين والألاف

سرهفته مَا شِئْت من سرهاف)

(حَتَّى إِذا مَا آض ذَا أعراف

كالكودن المشدود بالإكاف)

ص: 45

فأجبته بِهَذِهِ الأرجوزة.

وَفِي كتاب مَنَاقِب الشبَّان وتقديمهم على ذَوي الْأَسْنَان كَانَ رؤبة يرْعَى إبل أَبِيه حَتَّى بلغ وَهُوَ لَا يقْرض الشّعْر فَتزَوج أَبوهُ امْرَأَة تسمى عقرب فَعَادَت رؤبة وَكَانَت تقسم إبِله على أَوْلَادهَا الصغار فَقَالَ رؤبة: مَا هم بِأَحَق مني لَهَا إِنِّي لأقاتل عَنْهَا السنين وأنتجع بهَا الْغَيْث. فَقَالَت)

عقرب للعجاج أسمع هَذَا وَأَنت حَيّ فَكيف بِنَا بعْدك فَخرج فزبرة وَصَاح بِهِ وَقَالَ لَهُ: اتبع إبلك ثمَّ قَالَ: الرجز

(لطالما أجْرى أَبُو الجحاف

فِي فرقة طَوِيلَة التَّجَافِي)

(لما رَآنِي أرعشت أطرافي

استعجل الدَّهْر وَفِيه كَافِي)

يخترم الإلف مَعَ الألاف فِي أَبْيَات. فأنشده رؤبة يجِيبه: الرجز

(إِنَّك لم تنصف أَبَا الجحاف

وَكَانَ يرضى مِنْك بالإنصاف)

وَهُوَ عَلَيْك دَائِم التعطاف هَكَذَا روى هذَيْن الْوَجْهَيْنِ السُّيُوطِيّ فِي شرح شَوَاهِد الْمُغنِي.

وَقَوله: لطالما أجْرى أَبُو الجحاف أجْرى: أرسل جَريا بِفَتْح الْجِيم

ص: 46

وَتَشْديد الْيَاء وَهُوَ الرَّسُول والأجير وَالْوَكِيل ومفعوله مَحْذُوف أَي أجراني يَقُول طالما استخدمني فِي صغره. والهيئة: التهيؤ يُقَال هَاء لِلْأَمْرِ يهاء ويهيء: إِذا أَخذ لَهُ هَيئته كتهيأ لَهُ وهيأه تهيئة: أصلحه. والألاف بِضَم الْهمزَة وَتَشْديد اللَّام: جمع ألف كعمال جمع عَامل. والسرهفة: نعْمَة الْغذَاء بِفَتْح النُّون يُقَال سرهفت الصَّبِي وسرعفته: إِذا أَحْسَنت غذاءه والسرهاف بِالْكَسْرِ.

وروى: سرعفته مَا شِئْت من سرعاف وآض بِمَعْنى صَار. والأعراف: جمع عرف الْفرس. والكودن: الْفرس الهجين والبرذون والبغل.

والإكاف: البرذعة. وَهَذِه صِفَات ذمّ لَهُ يُرِيد أَنه رباه حَتَّى صَار رجلا ذَا لحية. وصراف: اسْم فعل أَمر بِمَعْنى اصرف.

وَقَوله فِي الْوَجْه الثَّانِي: استعجل الدَّهْر وَفِيه كَافِي كَقَوْل الآخر: تعين عَليّ الدَّهْر والدهر مكتف

وَقَول كسْرَى: إِذا أدبر الدَّهْر عَن قوم كفى عدوهم.

وَأنْشد بعده وَهُوَ)

الشَّاهِد التِّسْعُونَ وَهُوَ من شَوَاهِد سِيبَوَيْهٍ:

ص: 47

الْكَامِل

(إِنِّي لأمنحك الصدود وإنني

قسما إِلَيْك مَعَ الصدود لأميل)

على أَن قسما تَأْكِيد للحاصل من الْكَلَام السَّابِق بِسَبَب إِن وَاللَّام يَعْنِي أَن قسما تأكيدٌ لما فِي قَوْله: وإنني مَعَ الصدود لأميل إِلَيْك: من معنى الْقسم لما فِيهِ من التَّحْقِيق والتأكيد من إِن وَلَام التَّأْكِيد فَلَمَّا كَانَ فِي الْجُمْلَة مِنْهُمَا تَحْقِيق وَالْقسم أَيْضا تَحْقِيق صَار كَأَنَّهُ قَالَ: أقسم قسما.

وَقَالَ ابْن خلف: الشَّاهِد فِيهِ أَنه جعل قسما تَأْكِيدًا لقَوْله: وإنني إِلَيْك لأميل وَقَوله وإنني إِلَيْك لأميل جَوَاب قسم فَجعل قسما تَأْكِيدًا لما هُوَ قسم.

وروى أَبُو الْحسن: أَصبَحت أمنحك كَأَنَّهُ قَالَ: أَصبَحت أمنحك الصدود وَوَاللَّه إِنِّي إِلَيْك لأميل. وهم يحذفون الْيَمين وهم يريدونها ويبقون جوابها.

وَفِيه نظر من وَجْهَيْن: الأول أَن الْجُمْلَة لَيست جَوَاب قسم مَحْذُوف. وَالثَّانِي: أَن الْمُؤَكّد لَا يحذف.

وَجعل ابْن السراج فِي الْأُصُول التوكيد من جِهَة الِاعْتِرَاض فَقَالَ: قَوْله قسما اعْتِرَاض وَجُمْلَة هَذَا الَّذِي يَجِيء مُعْتَرضًا إِنَّمَا يكون تَأْكِيد للشَّيْء أَو لدفعه لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَة الصّفة فِي الْفَائِدَة يُوضح عَن الشَّيْء ويؤكده.

وَقَالَ ابْن جني فِي إِعْرَاب الحماسة: انتصاب قسمٍ لَا يَخْلُو أَن يكون بِمَا

تقدم من قَوْله إِنِّي لأمنحك الصدود أَو من جملَة إِنَّنِي إِلَيْك لأميل. وَلَا يجوز الأول من حَيْثُ كَانَ فِي ذَلِك الحكم لجَوَاز الْفَصْل بَين اسْم إِن وخبرها بمعمول جملَة أُخْرَى أَجْنَبِي عَنْهَا فَثَبت بذلك أَنه من الْجُمْلَة الثَّانِيَة وَأَنه مَنْصُوب بِفعل مَحْذُوف دلّ عَلَيْهِ قَوْله: وإنني إِلَيْك لأميل أَي: أقسم

ص: 48

قسما وأضمر هَذَا الْفِعْل وَإِنَّمَا سبق الْجُزْء الأول من الْجُمْلَة الثَّانِيَة وَهُوَ اسْم إِن وَهَذَا وَاضح.

وَهَذَا الْبَيْت من قصيدة للأحوص الْأنْصَارِيّ يمدح بهَا عمر بن عبد الْعَزِيز الْأمَوِي. وأولها:

(يَا بَيت عَاتِكَة الَّذِي أتعزل

حذر العدا وَبِه الْفُؤَاد مُوكل)

إِنِّي لأمنحك الصدود وإنني

...

...

الْبَيْت

(وَلَقَد نزلت من الْفُؤَاد بمنزل

مَا كَانَ غَيْرك وَالْأَمَانَة ينزل)

(وَلَقَد شَكَوْت إِلَيْك بعض صبابتي

وَلما كتمت من الصبابة أطول))

(هَل عيشنا بك فِي زَمَانك رَاجع

فَلَقَد تفحش بعْدك المتعلل)

(فصددت عَنْك وَمَا صددت لبغضة

أخْشَى مقَالَة كاشح لَا يغْفل)

(وَلَئِن صددت لأَنْت لَوْلَا رقبتي

أشهى من اللائي أَزور وَأدْخل)

(وتجنبي بَيت الحبيب أحبه

أرضي البغيض بِهِ حَدِيث معضل)

وَقَالَ فِي آخرهَا يُخَاطب عمر بن عبد الْعَزِيز رحمه الله:

(وأراك تفعل مَا تَقول وَبَعْضهمْ

مذق الحَدِيث يَقُول مَا لَا يفعل)

(وَأرى الْمَدِينَة حِين كنت أميرها

أَمن البريء بهَا ونام الأعزل)

وَهَذَا آخر القصيدة.

ص: 49

وعاتكة هِيَ بنت يزِيد بن مُعَاوِيَة وَكَانَت مِمَّن يشبب بهَا من النِّسَاء.

وَقَوله: أتعزل بِالْعينِ الْمُهْملَة أَي: أتجنبه وأكون عَنهُ بمعزل. وَقَوله: وَبِه الْفُؤَاد مُوكل من وكلته بِأَمْر كَذَا: فوضته إِلَيْهِ. وَقَوله: إِنِّي لأمنحك الصدود

إِلَخ يُرِيد أَنه يظْهر هجر هَذَا الْبَيْت وَمن فِيهِ وَهُوَ محب لَهُم خوفًا من أعدائه. وَالْوَاو فِي قَوْله: وَالْأَمَانَة وَاو الْقسم. وتفحش: من فحش الشَّيْء فحشا مثل قبح قبحاً وزنا وَمعنى. والمتعلل اسْم مفعول من تعلل بالشَّيْء: إِذا تلهى بِهِ وَعلله بالشَّيْء إِذا ألهاه بِهِ كَمَا يُعلل الصَّبِي بِشَيْء من الطَّعَام عَن اللَّبن يُقَال فلَان يُعلل نَفسه بتعلة. وَجُمْلَة قَوْله: أخْشَى مقَالَة كاشح اسْتِئْنَاف بياني. ويغفل من بَاب نصر ينصر.

وَقَوله: وَلَو أَن مَا عَالَجت

إِلَخ ضمير فُؤَاده عَائِد للكاشح وَهَذَا الْبَيْت من أَبْيَات مُغنِي اللبيب وَهُوَ بِنَقْل فَتْحة الْألف إِلَى وَاو لَو وَمَا: موصوله اسْم أَن وعالجت صلَة والعائد مَحْذُوف أَي: بِهِ وَجُمْلَة استلين بِالْبِنَاءِ للْمَفْعُول خبر لِأَن والجندل نَائِب الْفَاعِل وللان جَوَاب لَو وفاعله ضمير الجندل وقسا: عطف على الصِّلَة بِالْفَاءِ وَهُوَ خَال عَن الرَّبْط لِأَن ضَمِيره عَائِد إِلَى الْفُؤَاد وَلما كَانَ فِي الْفَاء معنى السَّبَبِيَّة اكْتفى من الجملتين بضمير وَاحِد وَهُوَ الْمَجْرُور الْمَحْذُوف وحذفت بِهِ الأولى من الصِّلَة اكْتِفَاء ب بِهِ الثَّانِيَة وَهُوَ مَحل الشَّاهِد فِي الْمُغنِي.

ص: 50

وَقَوله: لَوْلَا رقبتي هُوَ بِكَسْر الرَّاء اسْم من المراقبة بِمَعْنى الْخَوْف.

وَالْبَيْت الأول قد عرض بِهِ بعض الْمَدَنِيين لأبي جَعْفَر الْمَنْصُور قَالَ المدايني: لما حج الْمَنْصُور قَالَ للربيع: أبغني فَتى من أهل الْمَدِينَة أديباً ظريفاً عَالما بقديم ديارها ورسوم آثارها فقد بعد عهدي بديار قومِي وَأُرِيد الْوُقُوف عَلَيْهَا. فالتمس لَهُ الرّبيع فَتى أعلم النَّاس بِالْمَدِينَةِ وأفهمهم بظريف الْأَخْبَار وشريف الْأَشْعَار فَعجب بِهِ

الْمَنْصُور وَكَانَ يسايره أحسن مسايرة ويحاضره)

أزين محاضرة وَلَا يبتدئه بخطاب إِلَّا على وَجه الْجَواب فَإِذا سَأَلَهُ أَتَى بأوضح دلَالَة وأفصح مقَالَة. فأعجب بِهِ الْمَنْصُور غَايَة الْإِعْجَاب وَقَالَ للربيع: ادْفَعْ إِلَيْهِ عشرَة آلَاف دِرْهَم وَكَانَ الْفَتى مملقاً مُضْطَرّا فتشاغل الرّبيع عَن الْقَضَاء واضطرته الْحَاجة إِلَى الِاقْتِضَاء وَقيل قَالَ لَهُ الرّبيع: لَا بُد من معاودته وَإِن أَحْبَبْت دفعت إِلَيْك سلفا من عِنْدِي حَتَّى أعاوده فِيمَا أَمر لَك.

فأبقى ذَلِك حَتَّى إِذا كَانَ فِي بعض اللَّيَالِي قَالَ عِنْد مُنْصَرفه مبتدئاً: وَهَذِه الدَّار يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ يَا بَيت عَاتِكَة الَّذِي أتعزل ثمَّ سكت فَأنْكر الْمَنْصُور هَذَا من حَاله وفكر فيأمره فَعرض الشّعْر على نَفسه فَإِذا فِيهِ.

(وأراك تفعل مَا تَقول وَبَعْضهمْ

مذق الحَدِيث يَقُول مَا لَا يفعل)

فَقَالَ للربيع: أدفعت للرجل مَا أمرنَا لَهُ بِهِ قَالَ: لَا يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ. قَالَ: فليدفع إِلَيْهِ مضاعفاً.

ص: 51

وَهَذَا أحسن إفهام من الْفَتى وَأحسن فهم من الْمَنْصُور. وَلم يسمع فِي التَّعْرِيض بألطف مِنْهُ.

وَلقَوْل الْأَحْوَص سَبَب ذكره عبد الله بن عُبَيْدَة بن عمار بن يَاسر قَالَ: خرجت أَنا والأحوص بن مُحَمَّد مَعَ عبد الله بن الْحسن بن الْحسن بن عَليّ بن أبي طَالب رضي الله عنه إِلَى الْحَج فَلَمَّا كُنَّا بِقديد قُلْنَا لعبد الله بن الْحسن: لَو أرْسلت إِلَى سُلَيْمَان بن أبي دباكل الْخُزَاعِيّ فأتشدنا نمن رَقِيق شعره فَأرْسل إِلَيْهِ. فأنشدنا قصيدة لَهُ يَقُول فِيهَا:

(يَا بَيت خنساء الَّذِي أتجنب

ذهب الزَّمَان وحبها لَا يذهب)

(أَصبَحت أمنحك الصدود وإنني

قسما إِلَيْك مَعَ الصدود لأجنب)

(مَالِي أحن إِلَى جمالك قربت

وأصد عَنْك وَأَنت مني أقرب)

(لله دَرك هَل لديك معول

لمتيم أم هَل لودك مطلب)

(فَلَقَد رَأَيْتُك قبل ذَاك وإنني

لموكل بهواك لَو يتَجَنَّب)

(تبْكي الْحَمَامَة شجوها فيهيجني

وَيروح عَازِب همي المتأوب)

(وتهب سَارِيَة الرِّيَاح من أَرْضكُم

فَأرى الْبِلَاد بهَا تطل وتجنب)

ص: 52

(وَأرى السمية باسمكم فيزيدني

شوقاً إِلَيْك سميك المتغرب)

(وَأرى الصّديق يودكم فأوده

إِن كَانَ ينْسب مِنْك أَو يتنسب)

(وأخالق الواشين فِيك تجملاً

وهم عَليّ ذَوُو ضغائن دؤب)

(ثمَّ اتخذتهم عَليّ وليجةً

حَتَّى غضِبت وَمثل ذَاك يغْضب))

فَلَمَّا كَانَ من قَابل حج أَبُو بكر بن عبد الْعَزِيز فَلَمَّا مر بِالْمَدِينَةِ دخل عَلَيْهِ الْأَحْوَص بن مُحَمَّد فاستصحبه فَفعل.

فَلَمَّا خرج الْأَحْوَص قَالَ لَهُ بعض من عِنْده: مَا تُرِيدُ بِنَفْسِك تقدم الشَّام بالأحوص وفيهَا من ينفسك من بني أَبِيك وَهُوَ من السَّفه على مَا علمت فَلَمَّا رَجَعَ أَبُو بكر من الْحَج دخل عَلَيْهِ الْأَحْوَص متنجزاً مَا وعده من الصُّحْبَة. فَدَعَا لَهُ بِمِائَة دِينَار وأثواب وَقَالَ: يَا خَال إِنِّي نظرت فِيمَا ضمنت لَك من الصَّحَابَة فَكرِهت أَن أهجم بك على أَمِير الْمُؤمنِينَ. فَقَالَ الْأَحْوَص: لَا حَاجَة لي بعطيتك وَلَكِنِّي سبعت عنْدك.

ثمَّ خرج فَأرْسل عمر بن عبد الْعَزِيز إِلَى الْأَحْوَص وَهُوَ أَمِير الْمَدِينَة فَلَمَّا دخل عَلَيْهِ أعطَاهُ مائَة دِينَار وكساه ثيابًا ثمَّ قَالَ: يَا خَال هَب لي عرض أخي. قَالَ:

هُوَ لَك ثمَّ خرج الْأَحْوَص وَهُوَ يَقُول فِي عرُوض قصيدة سُلَيْمَان الْمَذْكُورَة يمدح عمر بن عبد الْعَزِيز:

(يَا بَيت عَاتِكَة الَّذِي أتعزل

حذر العدا وَبِه الْفُؤَاد مُوكل)

ص: 53

حَتَّى انْتهى إِلَى قَوْله:

(فسموت عَن أَخْلَاقهم فتركتهم

لنداك إِن الحازم المتَوَكل)

(ووعدتني فِي حَاجَتي فصدقتني

ووفيت إِذْ كذبُوا الحَدِيث وبدلواد)

(وَلَقَد بدأت أُرِيد ود معاشر

وعدوا مواعد أخلفت إِذْ حصلوا)

(حَتَّى إِذا مَا صَنَعُوا إِلَيْك برحلة

عجلى وعندك مِنْهُم المتحول)

(وأراك تفعل مَا تَقول وَبَعْضهمْ

مذق الحَدِيث يَقُول مَا لَا يفعل)

فَقَالَ لَهُ عمر بن عبد الْعَزِيز: مَا أَرَاك أعفيتني مِمَّا استعفيتك والأحوص وَإِن أغار على قصيدة سُلَيْمَان فقد أربى عَلَيْهِ فِي الْإِحْسَان وَكَانَ كَمَا قَالَ ابْن الْمَرْزُبَان وَقد أنْشد لِابْنِ المعتز قصيدته فِي مناقضة ابْن طَبَاطَبَا الْعلوِي الَّتِي أَولهَا:

(دعوا الْأسد تكنس غاباتها

وَلَا تدْخلُوا بَين أنيابها)

وَقَالَ: أَخذه من قَول بعض العباسيين الْمُتَقَدِّمين: وَلكنه أَخذه ساجاً ورده عاجا. وغل قطيفة ورد ديباجا.

والمذق بِكَسْر الذَّال الْمُعْجَمَة: من يخلط بِكَلَامِهِ كذبا من مذقت اللَّبن والشارب من بَاب قتل: إِذا مزجته وخلطته.)

وعاتكة بنت يزِيد الْمَذْكُورَة هِيَ زَوْجَة عبد الْملك بن مَرْوَان وَكَانَ

ص: 54

شَدِيد الْمحبَّة لَهَا فغاضبته فِي بعض الْأُمُور وسدت الْبَاب الَّذِي بَينهَا وَبَينه فساءه ذَلِك وتعاظمه وشكاه إِلَى من يأنس بِهِ من خاصته فَقَالَ لَهُ عمر بن بِلَال الْأَسدي:

إِن أَنا أرضيتها لَك حَتَّى ترْضى فَمَا الثَّوَاب قَالَ: حكمك. فَأتى إِلَى بَابهَا وَقد مزق ثَوْبه وسوده فَاسْتَأْذن عَلَيْهَا وَقَالَ: الْأَمر الَّذِي أتيت فِيهِ عَظِيم فَأدْخل لوقته فَرمى بِنَفسِهِ وَبكى. فَقَالَت: مَا لَك يَا عَم قَالَ: لي ولدان هما من المبرة وَالْإِحْسَان إِلَيّ فِي غَايَة وَقد عدا أَحدهمَا على أَخِيه فَقتله وفجعني بِهِ فاحتسبته وَقلت: يبْقى لي ولد أَتَسَلَّى بِهِ فَأَخذه أَمِير الْمُؤمنِينَ وَقَالَ: لَا بُد من الْقود وَإِلَّا فَالنَّاس يجترئون على الْقَتْل وَهُوَ قَاتله إِلَّا أَن يغيثني الله بك فتحت الْبَاب وَدخلت على عبد الْملك وَأَكَبَّتْ على الْبسَاط تقبله وَتقول: يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ قد تعلم فضل عمر بن بِلَال وَقد عزمت على فَقتل ابْنه فشفعني فِيهِ. قَالَ عبد الْملك: مَا كنت بِالَّذِي أفعل: فَأَقْبَلت فِي الضراعة والخضوع حَتَّى وعدها الْعَفو عَنهُ وَصلح مَا بَينهمَا ووفى لعمر بِمَا وعده بِهِ.

كل هَذَا من كتاب الْجَوَاهِر فِي الْملح والنوادر تأليف أبي إِسْحَاق إِبْرَاهِيم بن عَليّ الْمَعْرُوف بالحصري صَاحب زهر الْآدَاب. وترجمة الْأَحْوَص تقدّمت فِي الشَّاهِد الْخَامِس والثمانين.

وَأنْشد بعده وَهُوَ

الشَّاهِد الْحَادِي وَالتِّسْعُونَ قَول أبي طَالب عَم النَّبِي صلى الله عليه وسلم َ:

ص: 55

(إِذن لاتبعناه على كل حَالَة

من الدَّهْر جدا غير قَول التهازل)

على أَن الْمصدر الْمُؤَكّد لغيره يكون فِي الْحَقِيقَة مؤكداُ لنَفسِهِ لِأَنَّهُ إِمَّا مَعَ صَرِيح القَوْل كَقَوْلِه تَعَالَى: ذَلِك عِيسَى ابْن مَرْيَم قَول الْحق أَو مَا هُوَ فِي معنى القَوْل كَمَا فِي هَذَا الْبَيْت فَإِن قَوْله جدا مصدر مُؤَكد لما يحْتَمل غَيره فَإِن قَوْله اتبعناه يحْتَمل أَن يكون قَالَه على سَبِيل الْجد وَهُوَ الْمَفْهُوم من اللَّفْظ وَأَن يكون قَالَه على طَرِيق الْهزْل وَهُوَ احْتِمَال عَقْلِي. فأكد الْمَعْنى الأول بِمَا هُوَ فِي معنى القَوْل لِأَنَّهُ أَرَادَ بِهِ: قولا جدا والقرينة عَلَيْهِ مَا بعده فَإِن قَول التهازل يُقَابل قَول الْجد فَكَانَ الأولى أَن يَقُول: قَول جد بِالْإِضَافَة ليناسب مَا بعده فَيكون لما حذف

الْمُضَاف أعرب الْمُضَاف إِلَيْهِ بإعرابه.

وَغير بِالنّصب صفة لقَوْله جدا وَلَا تضر الْإِضَافَة إِلَى الْمعرفَة فَإِنَّهَا متمكنة فِي الْإِبْهَام لَا وَزعم ابْن السراج أَن غيرا إِذا وَقعت بَين ضدين كَمَا هُنَا اكْتسبت التَّعْرِيف من الْإِضَافَة. وَيَردهُ قَوْله تَعَالَى: نعمل صَالحا غير الَّذِي كُنَّا نعمل وَإِن زعم أَنَّهَا فِي مثل هَذَا بدل يردهُ أَن غيراً وضعت للوصف وَالْبدل بِالْوَصْفِ ضَعِيف. والتهازل بِمَعْنى الْهزْل فَإِن تفَاعل قد يَأْتِي بِمَعْنى فعل كتوانيت بِمَعْنى ونيت لكنه أبلغ من الْمُجَرّد. وَقَوله: إِذن لاتبعناه جَوَاب قسم فِي بَيت قبله وَهُوَ:

(فو الله لَوْلَا أَن أجيء بسبة

تجر على أشياخنا فِي الْقَبَائِل)

وَالضَّمِير الْمَنْصُوب فِي اتبعناه رَاجع للنَّبِي صلى الله عليه وسلم َ. وروى لَكنا اتبعناه. والسبة بِضَم السِّين يُقَال صَار عَلَيْهِ هَذَا الْأَمر سبة

ص: 56

أَي: عاراً يسب بِهِ. وتجر: بِفَتْح الْجِيم مضارع جر من جر عَلَيْهِم جريرة أَي: جنى عَلَيْهِم جِنَايَة. وَفِي بِمَعْنى بَين.

والبيتان من قصيدة طَوِيلَة تزيد على مائَة بَيت لأبي طَالب عاذ فِيهَا بحرم مَكَّة وبمكانه مِنْهَا وتودد فِيهَا إِلَى أَشْرَاف قومه وَأخْبر قُريْشًا أَنه غير مُسلم مُحَمَّدًا رَسُول الله صلى الله عليه وسلم َ لأحد أبدا حَتَّى يهْلك دونه ومدحه فِيهَا أَيْضا. وَقَالَهَا فِي الشّعب لما اعتزل مَعَ بني هَاشم وَبني عبد الْمطلب قُريْشًا.

وَسبب دُخُوله الشّعب: أَن كفار قُرَيْش اتّفق رَأْيهمْ على قتل رَسُول الله صلى الله عليه وسلم َ)

وَقَالُوا: قد أفسد أبناءنا وَنِسَاءَنَا. فَقَالُوا لِقَوْمِهِ: خُذُوا منا دِيَة مضاعفة ويقتله رجل من غير قُرَيْش وتريحوننا وتريحون أَنفسكُم فَأبى بَنو هَاشم من ذَلِك وظاهرهم بَنو عبد الْمطلب.

فَاجْتمع الْمُشْركُونَ من قُرَيْش على منابذتهم وإخراجهم من مَكَّة إِلَى الشّعب.

فَلَمَّا دخلُوا الشّعب أَمر رَسُول الله صلى الله عليه وسلم َ من كَانَ بِمَكَّة من الْمُؤمنِينَ أَن يخرجُوا إِلَى أَرض الْحَبَشَة وَكَانَت متجراً لقريش وَكَانَ يثني على النَّجَاشِيّ بِأَنَّهُ لَا يظلم عِنْده أحد.

فَانْطَلق عَامَّة من آمن بِاللَّه وَرَسُوله إِلَى الْحَبَشَة وَدخل بَنو هَاشم وَبَنُو عبد الْمطلب الشّعب مؤمنهم وكافرهم: فالمؤمن دينا وَالْكَافِر حمية. فَلَمَّا عرفت قُرَيْش أَن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم َ قد مَنعه قومه أَجمعُوا على أَن لَا يبايعوهم وَلَا يدخلُوا إِلَيْهِم شَيْئا من الرِّفْق وَقَطعُوا عَنْهُم الْأَسْوَاق وَلم يتْركُوا

ص: 57

طَعَاما وَلَا إدَامًا إِلَّا بَادرُوا إِلَيْهِ واشتروه وَلَا يناكحوهم وَلَا يقبلُوا مِنْهُم صلحا أبدا وَلَا تأخذهم بهم رأفة حَتَّى يسلمُوا رَسُول الله صلى الله عليه وسلم َ للْقَتْل وَكَتَبُوا بذلك صحيفَة وعلقوها فِي الْكَعْبَة وتمادوا على الْعَمَل بِمَا فِيهَا من ذَلِك ثَلَاث سِنِين.

فَاشْتَدَّ الْبلَاء على بني هَاشم وَمن مَعَهم فَأَجْمعُوا على نقض مَا تَعَاهَدُوا عَلَيْهِ من الْغدر والبراءة وَقَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم َ لأبي طَالب: يَا عَم إِن رَبِّي قد سلط الأرضة على صحيفَة قُرَيْش فلحستها إِلَّا مَا كَانَ اسْما لله فأبقته. قَالَ: أربك أخْبرك بِهَذَا قَالَ: نعم قَالَ: فو الله مَا يدْخل عَلَيْك أحد ثمَّ خرج إِلَى قُرَيْش فَقَالَ: يَا معشر قُرَيْش إِن ابْن أخي أَخْبرنِي وَلم يكذبنِي أَن هَذِه الصَّحِيفَة الَّتِي فِي أَيْدِيكُم قد بعث الله عَلَيْهَا دَابَّة فلحست مَا فِيهَا فَإِن كَانَ كَمَا يَقُول فأفيقوا فَلَا وَالله لَا نسلمه حَتَّى نموت وَإِن كَانَ يَقُول بَاطِلا دفعناه إِلَيْكُم.

فَقَالُوا: قد رَضِينَا. ففتحوا الصَّحِيفَة فوجدوها كَمَا أخبر بِهِ صلى الله عليه وسلم َ وَقَالُوا: هَذَا سحر ابْن أَخِيك وَزَادَهُمْ ذَلِك بغياً وعدواناً. فَقَالَ أَبُو طَالب: يَا معشر قُرَيْش علام نحصر ونحبس وَقد بَان الْأَمر وَتبين أَنكُمْ أهل الظُّلم والقطيعة ثمَّ دخل هُوَ وَأَصْحَابه بَين أَسْتَار الْكَعْبَة وَقَالَ: اللَّهُمَّ انصرنا على من ظلمنَا وَقطع أرحامنا واستحل مَا يحرم عَلَيْهِ منا. ثمَّ انْصَرف إِلَى الشّعب وَقَالَ هَذِه القصيدة.

قَالَ ابْن كثير: هِيَ قصيدة بليغة جدا لَا يَسْتَطِيع أَن يَقُولهَا إِلَّا من نسبت إِلَيْهِ وَهِي أفحل من المعلقات السَّبع وأبلغ فِي تأدية الْمَعْنى.

وَقد أَحْبَبْت أَن أوردهَا هُنَا منتخبة مشروحةً بشرح يُوفي الْمَعْنى محبَّة فِي النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ)

وَسلم وَهِي هَذِه:

ص: 58

(خليلي مَا أُذُنِي لأوّل عاذل

بصغواء فِي حق وَلَا عِنْد بَاطِل)

بصغواء: خبر مَا النافية وَهِي حجازية وَلذَا زيدت الْبَاء. والصغو: الْميل. وأصغيت إِلَى فلَان: إِذا ملت بسمعك نَحوه. ولأول عاذل: مُتَعَلق بصغواء. وَفِي حق مُتَعَلق بعاذل أَي: لَا أميل بأذني لأوّل عاذل فِي الْحق وَإِنَّمَا قيد العاذل بِالْأولِ لِأَنَّهُ إِذا لم يقبل عذل العاذل الأول فَمن بَاب أولى أَن لَا يقبل عذل العاذل الثَّانِي فَإِن النَّفس إِذا كَانَت خَالِيَة الذِّهْن فَفِي الْغَالِب أَن يسْتَقرّ فِيهَا أول مَا يرد عَلَيْهَا.

(خليلي إِن الرَّأْي لَيْسَ بشركةٍ

وَلَا نهنه عِنْد الْأُمُور البلابل)

أَرَادَ أَن الرَّأْي الْجيد يكون بمشاركة الْعُقَلَاء فَإِن لم يتشاركوا: بِأَن كَانُوا متباغضين لم ينْتج شَيْئا والرأي مَا لم يتخمر فِي الْعُقُول كَانَ فطيرا. والنهنه بنونين وهائين كجعفر: المضيء والنير الشفاف الَّذِي يظْهر الْأَشْيَاء على جليتها وَأَصله الثَّوْب الرَّقِيق النسج وَمن شَأْنه أَن لَا يمْنَع النّظر إِلَى مَا وَرَاءه وَهُوَ مَعْطُوف على شركَة.

والبلابل: إِمَّا جمع بلبلة بِفَتْح البائين أَو جمع بلبال بفتحمها وهما بِمَعْنى الْهم ووساوس الصَّدْر كزلازل جمع زَلْزَلَة وزلزال بِالْفَتْح وَهُوَ إِمَّا على حذف مُضَاف أَي: ذَات البلابل أَو إِنَّهَا بدل من الْأُمُور.

(وَلما رَأَيْت الْقَوْم لَا ود عِنْدهم

وَقد قطعُوا كل العرى والوسائل)

ص: 59

أَرَادَ بالقوم كفار قُرَيْش. والعرا: جمع عُرْوَة وَهِي مَعْرُوفَة وَأَرَادَ بهَا هُنَا مَا يتَمَسَّك بِهِ من

(وَقد صارحونا بالعداوة والأذى

وَقد طاوعوا أَمر الْعَدو المزايل)

صارحونا: كاشفونا بالعداوة صَرِيحًا والصراحة وَإِن كَانَت لَا زمة لَكِنَّهَا لما نقلت إِلَى بَاب المفاعلة تعدت. والمزايل: اسْم فَاعل من زايله مزايلة وزيلاً: فَارقه وباينه وَإِنَّمَا يكون الْعَدو مفارقاً إِذا صرح بالعداوة فَلَا تمكن الْعشْرَة. وَمن قَالَ: المزايل: المعالج وظنه من المزاولة لم يصب.

(وَقد حالفوا قوما علينا أظنةً

يعضون غيظاً خلفنا بالأنامل)

حالفوا قوما: مثل صارحونا فِي أَنه كَانَ لَازِما وتعدى إِلَى الْمَفْعُول بنقله إِلَى بَاب المفاعلة.

والتحالف: التعاهد والتعاقد على أَن يكون الْأَمر وَاحِدًا فِي النُّصْرَة والحماية وَبَينهمَا حلف أَي:)

عهد والحليف: الْمعَاهد. وعلينا مُتَعَلق بحالفوا. والأظنة جمع ظنين وَهُوَ الرجل الْمُتَّهم والظنة بِالْكَسْرِ التُّهْمَة وَالْجمع الظنن. يُقَال مِنْهُ أطنه وَأَظنهُ: بِالطَّاءِ والظاء إِذا اتهمه.

قَالَ الشاطبي فِي شرح الألفية: أفعلة قياسٌ فِي كل اسْم مُذَكّر رباعي فِيهِ مُدَّة ثَالِثَة فَهَذِهِ أَرْبَعَة أَوْصَاف مُعْتَبرَة فَإِن كَانَ صفة لم يجمع قِيَاسا على أفعلة فَإِن جَاءَ عَلَيْهِ فمحفوظ لَا يُقَاس عَلَيْهِ قَالُوا فِي شحيح. أشحة وَفِي ظنين: أظنة. قَالَ تَعَالَى: أشحة عَلَيْكُم وَقَالَ أَبُو طَالب. . وَأنْشد هَذَا الْبَيْت.

الصَّبْر: الْحَبْس. والسمراء: الْقَنَاة. والسمحة: اللدنة اللينة الَّتِي

تسمح بالهز والانعطاف.

والأبيض: السَّيْف. والعضب: الْقَاطِع. والمقاول: جمع

ص: 60

مقول بِكَسْر الْمِيم: الرئيس وَهُوَ دون الْملك كَذَا فِي الْمِصْبَاح عَن ابْن الْأَنْبَارِي.

وَقَالَ السُّهيْلي فِي الرَّوْض الْأنف: أَرَادَ بالمقاول آباءه شبههم بالملوك وَلم يَكُونُوا ملوكاً وَلَا كَانَ فيهم ملك بِدَلِيل حَدِيث أبي سُفْيَان حِين قَالَ لَهُ هِرقل: هَل كَانَ فِي آبَائِهِ من ملك فَقَالَ: لَا.

وَيحْتَمل أَن يكون هَذَا السَّيْف من هبات الْمُلُوك لِأَبِيهِ فقد وهب ابْن ذِي يزن لعبد الْمطلب هباتٍ جزيلةً حِين وَفد عَلَيْهِ مَعَ قُرَيْش يهنئونه بظفره بِالْحَبَشَةِ وَذَلِكَ بعد مولد رَسُول الله صلى الله عليه وسلم َ بعامين.

(وأحضرت عِنْد الْبَيْت رهطي وإخوتي

وَأَمْسَكت من أثوابه بالوصائل)

الوصائل: ثِيَاب مخططة يَمَانِية كَانَ الْبَيْت يكسى بهَا.

(قيَاما مَعًا مُسْتَقْبلين رتاجه

لَدَى حَيْثُ يقْضى حلفه كل نافل)

الرتاج: الْبَاب الْعَظِيم وَهُوَ مفعول مُسْتَقْبلين. والنافل: فَاعل من النَّافِلَة وَهُوَ التَّطَوُّع.

(أعوذ بِرَبّ النَّاس من كل طاعنٍ

علينا بسوءٍ أَو ملحٍ بباطل)

(وَمن كاشحٍ يسْعَى لنا بمعيبة

وَمن ملحقٍ فِي الدَّين مَا لم نحاول)

ملح: اسْم فَاعل من ألح على الشَّيْء: إِذا أقبل عَلَيْهِ مواظباً. والمعيبة: الْعَيْب والنقيصة.

ونحاول نُرِيد.

(وثورٍ وَمن أرسى ثبيراً مَكَانَهُ

وراقٍ لبرٍ فِي حراء ونازل)

وثورٍ: مَعْطُوف على رب النَّاس. وَهُوَ وثبير وحراء. جبال بِمَكَّة. وَالْبر: خلاف الْإِثْم. وَهُوَ رِوَايَة ابْن اسحاق وَغَيره وروى ابْن هِشَام:

ص: 61

ليرقى وَهُوَ خطأ لِأَن الراقي لَا يرقى. وَإِنَّمَا هُوَ لبر)

أَي: فِي طلب بر. أقسم بطالب الْبر بصعوده فِي حراء للتعبد فِيهِ وبالنازل مِنْهُ.

(وبالبيت حق الْبَيْت من بطن مَكَّة

وَبِاللَّهِ إِن الله لَيْسَ بغافل)

(وبالحجر الْأسود إِذْ يمسحونه

إِذا اكتنفوه بالضحى والأصائل)

قَالَ السُّهيْلي: وَقَوله بِالْحجرِ الْأسود فِيهِ زحاف يُسمى الْكَفّ وَهُوَ حذف النُّون من مفاعيلن وَهُوَ بعد الْوَاو من الْأسود. والأصائل: جمع أصيلة وَالْأَصْل: جمع أصيل وَذَلِكَ لِأَن فعائل جمع فعيلة. والأصيلة: لُغَة مَعْرُوفَة فِي الْأَصِيل انْتهى. وَهُوَ مَا بعد صَلَاة الْعَصْر إِلَى الْغُرُوب.

(وموطئ إِبْرَاهِيم فِي الصخر رطبَة

على قَدَمَيْهِ حافياً غير ناعل)

موطئ إِبْرَاهِيم عليه السلام: هُوَ مَوضِع قَدَمَيْهِ حِين غسلت كنته رَأسه وَهُوَ رَاكب فاعتمد بقدمه على الصَّخْرَة حِين أمال رَأسه ليغسل وَكَانَت سارة قد أخذت عَلَيْهِ عهدا حِين استأذنها فِي أَن يطالع مَا تَركه بِمَكَّة. فَحلف لَهَا أَنه لَا ينزل عَن دَابَّته وَلَا يزِيد على السَّلَام واستطلاع الْحَال غيرَة من سارة عَلَيْهِ من هَاجر فحين اعْتمد على الصَّخْرَة ألْقى الله فِيهَا أثر قدمه آيَة. قَالَ تَعَالَى: فِيهِ آياتٌ بيناتٌ مقَام إِبْرَاهِيم. أَي مِنْهَا مقَام إِبْرَاهِيم. وَمن جعل مقَام إِبْرَاهِيم بَدَلا من آيَات قَالَ: الْمقَام جمع مقامة. وَقيل: بل هُوَ أثر قدمه حِين رفع الْقَوَاعِد من الْبَيْت وَهُوَ قَائِم عَلَيْهِ.

(وأشواط بَين المروتين إِلَى الصَّفَا

وَمَا فيهمَا من صورةٍ وتماثل)

هُوَ جمع تماثلن وَأَصله تماثيل فَحذف الْيَاء.

ص: 62

(وَمن حج بَيت الله من كل رَاكب

وَمن كل ذِي نذرٍ وَمن كل راجل)

(فَهَل بعد هَذَا من معاذٍ لعائذٍ

وَهل من معيذٍ يَتَّقِي الله عَادل)

المعاذ بِالْفَتْح: اسْم مَكَان من عاذ فلَان بِكَذَا إِذا لَجأ إِلَيْهِ واعتصم بِهِ. والمعيذ: اسْم فَاعل من أَعَاذَهُ بِاللَّه أَي: عصمه بِهِ. وعادل: صفة معيذ بِمَعْنى غير جَائِر.

(يطاع بِنَا العدا وودوا لَو أننا

تسد بِنَا أَبْوَاب تركٍ وكابل)

العدا بِضَم الْعين وَكسرهَا: اسْم جمع لِلْعَدو ضد الصّديق وروى الأعدا وَهُوَ جمع عَدو.

وتسد بِنَا أَي: علينا. وَالتّرْك وكابل بِضَم الْبَاء. صنفان من الْعَجم.

أَي: وَالله لَا نَتْرُك مَكَّة وَلَا نظعن مِنْهَا لَكِن أَمركُم فِي هموم ووساوس صدر. وروى: فِي تلاتل بِالْمُثَنَّاةِ الْفَوْقِيَّة جمع تلتلة وَهُوَ الِاضْطِرَاب وَالْحَرَكَة.)

(كَذبْتُمْ وَبَيت الله نبزى مُحَمَّدًا

وَلما نطاعن دونه ونناضل)

الْوَاو للقسم ونبزى جَوَاب الْقسم على تَقْدِير لَا النافية فَإِنَّهَا يجوز حذفهَا فِي الْجَواب كَقَوْلِه تَعَالَى: تالله تفتؤ أَي: لَا تفتؤ. ونبزى بِالْبِنَاءِ للْمَفْعُول أَي: نغلب ونقهر عَلَيْهِ يُقَال أَبْزَى فلَان بفلان إِذا غَلبه وقهرهن كَذَا فِي الصِّحَاح. فَهُوَ بِالْبَاء وَالزَّاي المنقوطة. ومحمداً مَنْصُوب بِنَزْع الْبَاء. وَلما: نَافِيَة جازمة وَالْجُمْلَة المنفية حَال من نَائِب فَاعل نبزى. والطعن يكون بِالرُّمْحِ والنضال يكون بِالسَّهْمِ.

(ونسلمه حَتَّى نصرع حوله

ونذهل عَن أَبْنَائِنَا والحلائل)

ص: 63

ونسلمه بِالرَّفْع مَعْطُوف على نبزى أَي: لَا نسلمه من أسلمه بِمَعْنى سلمه لفُلَان أَو من أسلمه بِمَعْنى خذله. ونصرع ونذهل بِالْبِنَاءِ للْمَفْعُول. والحلائل: جمع حَلِيلَة وَهِي الزَّوْجَة.

قَالَ ابْن هِشَام فِي السِّيرَة: قَالَ عُبَيْدَة بن الْحَارِث بن الْمطلب لما أُصِيب فِي قطع رجله يَوْم بدر: أما وَالله لَو أدْرك أَبَا طَالب هَذَا الْيَوْم لعلم أَنِّي أَحَق بِمَا قَالَ مِنْهُ حَيْثُ يَقُول: كَذبْتُمْ وَبَيت الله نبزى مُحَمَّدًا

. . الْبَيْت وَمَا بعده.

وينهض بِفَتْح الْيَاء وَهُوَ مَنْصُوب مَعْطُوفًا على نصرع والنهوض فِي الْحَدِيد عبارَة عَن لبسه واستعماله فِي الْحَرْب. والروايا: جمع راوية وَهُوَ الْبَعِير أَو الْبَغْل أَو الْحمار الَّذِي يستقى عَلَيْهِ.

وَذَات الصلاصل هِيَ المزادة الَّتِي ينْقل فِيهَا

المَاء وتسميها الْعَامَّة الراوية والصلاصل جمع صلصلة بِضَم الصادين وَهِي بَقِيَّة المَاء فِي الإدرة. يُرِيد: أَن الرِّجَال مثقلين بالحديد كالجمال الَّتِي تحمل الْمِيَاه مثقلة شبه قعقعة الْحَدِيد بصلصلة المَاء فِي المزادات.

(وَحَتَّى نرى ذَا الضغن يركب ردعه

من الطعْن فعل الأنكب المتحامل)

نرى بالنُّون من رُؤْيَة الْعين. والضغن بِالْكَسْرِ الحقد. وَجُمْلَة يركب حَال من مفعول نرى يُقَال للقتيل. ركب ردعه: إِذْ خر لوجهه على دَمه. والردع بِفَتْح الرَّاء وَسُكُون الدَّال: اللطخ والأثر من الدَّم والزعفران. وَمن

ص: 64

الطعْن مُتَعَلق بيركب. والأنكب: المائل إِلَى جِهَة وَأَرَادَ كَفعل الأنكب فِي الصِّحَاح: والنكب أَي: بِفتْحَتَيْنِ: دَاء يَأْخُذ الْإِبِل فِي مناكبها فتظلع مِنْهُ وتمشي منحرفة يُقَال نكب الْبَعِير بِالْكَسْرِ ينكب نكباً فَهُوَ أنكبٌ. وَهُوَ من صفة المتطاول الجائر. والمتحامل بِالْمُهْمَلَةِ: الجائر والظالم.

(وَإِنَّا لعمر الله إِن جد مَا أرى

لتلتبسن أسيافنا بالأماثل))

عمر الله مُبْتَدأ وَالْخَبَر مَحْذُوف أَي: قسمي وَجُمْلَة لتلتبسن جَوَاب الْقسم وَالْجُمْلَة القسمية خبر وَقَوله إِن جد إِن شَرْطِيَّة وجد بِمَعْنى لج ودام وَعظم وَمَا مَوْصُولَة وَأرى من رُؤْيَة الْبَصَر وَالْمَفْعُول مَحْذُوف وَهُوَ الْعَائِد وَجَوَاب الشَّرْط مَحْذُوف وجوبا لسد جَوَاب الْقسم مَحَله.

والالتباس: الِاخْتِلَاط والملابسة وَالنُّون الْخَفِيفَة للتوكيد وأسيافنا فَاعل تَلْتَبِس. والأماثل: الْأَشْرَاف جمع أمثل. وَالْمعْنَى إِن دَامَ هَذَا العناد الَّذِي أرَاهُ تنَلْ سُيُوفنَا أشرافكم.

بكفي: تَثْنِيَة كف وَالْبَاء مُتَعَلقَة بقوله تَلْتَبِس وَقد حقق الله مَا تفرسه أَبُو طَالب يَوْم بدر.

وَقَوله: مثل الشهَاب يُرِيد أَنه شجيع لَا يقاومه أحد فِي الْحَرْب كَأَنَّهُ شعلة نَار يحرق من يقرب مِنْهُ. والسميدع بِفَتْح السِّين وَضمّهَا خطأ وبفتح الدَّال الْمُهْملَة وإعجامها لَا أصل لَهُ خلافًا لصَاحب الْقَامُوس وَمَعْنَاهُ السَّيِّد الْمُوَطَّأ الأكناف.

قَالَ الْمبرد فِي أول الْكَامِل: معنى موطأ الأكناف: أَن ناحيته

ص: 65

يتَمَكَّن فِيهَا صَاحبهَا غير مؤذى وَلَا نَاب بِهِ مَوْضِعه. والتوطئة التذليل والتمهيد يُقَال دَابَّة وطئ يَا فَتى وَهُوَ الَّذِي لَا يُحَرك رَاكِبه فِي مسيره وفراش وطئ إِذا كَانَ وثيراً لَا يُؤْذِي جنب النَّائِم عَلَيْهِ.

قَالَ أَبُو الْعَبَّاس: حَدثنِي الْعَبَّاس بن الْفرج الرياشي قَالَ: حَدثنِي الْأَصْمَعِي قَالَ: قيل لأعرابي وَهُوَ المنتجع بن نَبهَان: مَا السميدع فَقَالَ: السَّيِّد الْمُوَطَّأ الأكناف. وَتَأْويل الأكناف: الجوانب يُقَال فِي الْمثل: فلَان فِي كنف فلَان كَمَا يُقَال فلَان فِي ظلّ فلَان وَفِي ذرا فلَان وَفِي نَاحيَة فلَان وَفِي والثقة: مصدر وثقت بِهِ أَثِق بكسرهما: إِذا ائتمنته. وَالْأَخ يسْتَعْمل بِمَعْنى الملازم والمداوم.

والحقيقة: مَا يحِق على الرجل أَن يحميه. والباسل: الشجيع الشَّديد الَّذِي يمْتَنع أَن يَأْخُذهُ أحد فِي الْحَرْب والمصدر البسالة وَفعله بسل بِالضَّمِّ. وَأَرَادَ بِصَاحِب هَذِه الصِّفَات الفاضلة مُحَمَّدًا صلى الله عليه وسلم َ.

(وَمَا ترك قومٍ لَا أَبَا لَك سيداً

يحوط الذمار غير ذربٍ مواكل)

مَا: استفهامية تعجبية مُبْتَدأ عِنْد سِيبَوَيْهٍ وَترك: خبر الْمُبْتَدَأ وَعند الْأَخْفَش بِالْعَكْسِ. وَقَوله: لَا أَبَا لَك يسْتَعْمل كِنَايَة عَن الْمَدْح والذم وَوجه الأول: أَن يُرَاد نفي نَظِير الممدوح بِنَفْي أَبِيه وَوجه الثَّانِي: أَن يُرَاد أَنه مَجْهُول النّسَب والمعنيان محتملان هُنَا. وَالسَّيِّد من السِّيَادَة وَهُوَ الْمجد والشرف. وحاطه يحوطه حوطاً. رعاه وَفِي الصِّحَاح: وَقَوْلهمْ فلَان حامي الذمار أَي إِذا ذمر وَغَضب حمي وَفُلَان أمنع ذماراً من فلَان. وَيُقَال الذمار: مَا وَرَاء الرجل مِمَّا يحِق عَلَيْهِ أَن)

يحميه لأَنهم قَالُوا: حلمي الذمار كَمَا قَالُوا حامي الْحَقِيقَة.

ص: 66

وَسمي ذماراً لِأَنَّهُ يجب على أَهله التذمر لَهُ وَسميت حَقِيقَة لِأَنَّهُ يحِق على أَهلهَا الدّفع عَنْهَا.

وظل يتذمر على فلَان: إِذا تنكر لَهُ وأوعده.

والذرب بِفَتْح الذَّال الْمُعْجَمَة وَكسر الرَّاء لكنه سكنه هُنَا وَهُوَ الْفَاحِش

البذي اللِّسَان.

والمواكل: اسْم فَاعل من واكلت فلَانا موكلة: إِذا اتكلت عَلَيْهِ واتكل هُوَ عَلَيْك وَرجل وكل بِفتْحَتَيْنِ ووكله كهمزة وتكله أَي عَاجز يكل أمره إِلَى غَيره ويتكل عَلَيْهِ.

(وأبيض يستسقى الْغَمَام بِوَجْهِهِ

ثمال الْيَتَامَى عصمَة للأرامل)

أَبيض: مَعْطُوف على سيد الْمَنْصُوب بِالْمَصْدَرِ قبله وَهُوَ من عطف الصِّفَات الَّتِي موصوفها وَاحِد هَكَذَا أعربه الزَّرْكَشِيّ فِي نكته على البُخَارِيّ الْمُسَمّى بالتنقيح لألفاظ الْجَامِع الصَّحِيح وَقَالَ: لَا يجوز غير هَذَا. وَتَبعهُ ابْن حجر فِي فتح الْبَارِي وَكَذَلِكَ الدماميني فِي تَعْلِيق المصابيح على الْجَامِع الصَّحِيح وَفِي حَاشِيَته على مُغنِي اللبيب أَيْضا.

وَزعم ابْن هِشَام فِي الْمُغنِي: أَن أَبيض مجرور بِرَبّ مقدرَة وَأَنَّهَا للتقليل. وَالصَّوَاب الأول فَإِن الْمَعْنى لَيْسَ على التنكير بل الْمَوْصُوف بِهَذَا الْوَصْف واحدٌ مَعْلُوم. والأبيض هُنَا بِمَعْنى الْكَرِيم.

قَالَ السمين فِي عُمْدَة الْحفاظ: عبر عَن الْكَرم بالبياض فَيُقَال: لَهُ عِنْدِي يَد بَيْضَاء أَي: مَعْرُوف وَأورد هَذَا الْبَيْت. وَالْبَيَاض أشرف الألوان وَهُوَ أَصْلهَا إِذْ هُوَ قَابل لجميعها وَقد كني بِهِ عَن السرُور والبشر وبالسواد عَن الْغم. وَلما كَانَ الْبيَاض أفضل الألوان قَالُوا: الْبيَاض أفضل والسواد أهول والحمرة أجمل والصفرة أشكل.

ويستسقى بِالْبِنَاءِ للْمَفْعُول وَالْجُمْلَة صفة أَبيض. والثمال: الْعِمَاد والملجأ والمطعم وَالْمُغني وَالْكَافِي. والعصمة: مَا يعتصم بِهِ ويتمسك قَالَ الزَّرْكَشِيّ: يجوز فيهمَا النصب وَالرَّفْع.

والأرامل جمع أرملة وَهِي الَّتِي لَا زوج لَهَا

ص: 67

لافتقارها إِلَى من ينْفق عَلَيْهَا وَأَصله من أرمل الرجل: إِذا نفذ زَاده وافتقر فَهُوَ مرمل وَجَاء أرمل على غير قِيَاس. قَالَ الْأَزْهَرِي: لَا يُقَال للْمَرْأَة أرملة إِلَّا إِذا كَانَت فقيرة فَإِن كَانَت موسرة فَلَيْسَتْ بأرملة وَالْجمع أرامل حَتَّى قيل رجل أرمل إِذا لم يكن لَهُ زوج.

قَالَ ابْن الْأَنْبَارِي: وَهُوَ قَلِيل لِأَنَّهُ لَا يذهب بفقد امْرَأَته لِأَنَّهَا لم تكن قيمَة عَلَيْهِ.

وَقَالَ ابْن السّكيت: الأرامل: الْمَسَاكِين رجَالًا كَانُوا أَو نسَاء.)

قَالَ السُّهيْلي فِي الرَّوْض الْأنف: فَإِن قيل: كَيفَ قَالَ أَبُو طَالب: وأبيض يستسقى الْغَمَام بِوَجْهِهِ وَلم يره قطّ استسقي بِهِ إِنَّمَا كَانَت استقاءاته عليه الصلاة والسلام ُ بِالْمَدِينَةِ فِي سفر وَحضر وفيهَا شوهد مَا كَانَ من سرعَة إِجَابَة الله لَهُ فَالْجَوَاب: أَن أَبَا طَالب قد شَاهد من ذَلِك فِي حَيَاة عبد الْمطلب مَا دله على مَا قَالَ. انْتهى.

ورده بَعضهم بِأَن قَضِيَّة الاسْتِسْقَاء متكررة إِذْ وَاقعَة أبي طَالب كَانَ الاسْتِسْقَاء بِهِ عِنْد الْكَعْبَة وواقعة عبد الْمطلب كَانَ أَولهَا أَنهم أمروا باستلام الرُّكْن ثمَّ بصعودهم جبل أبي قبيس ليدعو عبد الْمطلب وَمَعَهُ النَّبِي صلى الله عليه وسلم َ ويؤمن الْقَوْم فسقوا بِهِ.

قَالَ ابْن هِشَام فِي السِّيرَة: حَدثنِي من أَثِق بِهِ قَالَ: أقحط أهل الْمَدِينَة فَأتوا رَسُول الله صلى الله عليه وسلم َ فشكوا ذَلِك إِلَيْهِ فَصَعدَ رَسُول

ص: 68

الله صلى الله عليه وسلم َ الْمِنْبَر فَاسْتَسْقَى فَمَا لبث أَن جَاءَ من الْمَطَر مَا أَتَاهُ أهل الضواحي يَشكونَ مِنْهُ الْغَرق فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم َ: اللَّهُمَّ حوالينا وَلَا علينا فانجاب السَّحَاب عَن الْمَدِينَة فَصَارَ حواليها كالإكليل فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم َ: لَو أدْرك أَبُو طَالب هَذَا الْيَوْم لسره. فَقَالَ لَهُ بعض أَصْحَابه وَهُوَ عَليّ رضي الله عنه: كَأَنَّك أردْت يَا رَسُول الله قَوْله

وأبيض يستسقى الْغَمَام بِوَجْهِهِ. . الْبَيْت قَالَ أجل انْتهى.

وبتصديق النَّبِي صلى الله عليه وسلم َ كَون هَذَا الْبَيْت لأبي طَالب وَعلي اتّفق أهل السّير سقط مَا أوردهُ الدَّمِيرِيّ فِي شرح الْمِنْهَاج فِي بَاب الاسْتِسْقَاء عَن الطَّبَرَانِيّ وَابْن سعد: أَن عبد الْمطلب استسقى بِالنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم َ فسقوا وَلذَلِك يَقُول عبد الْمطلب فِيهِ يمدحه.

وأبيض يستسقى الْغَمَام بِوَجْهِهِ. . الْبَيْت قَالَ ابْن حجر الهيتمي فِي شرح الهمزية: وَسبب غلط الدَّمِيرِيّ فِي نِسْبَة هَذَا الْبَيْت لعبد الْمطلب: أَن رقيقَة برَاء مَضْمُومَة وقافين بنت أبي صَيْفِي بن هَاشم وَهِي الَّتِي سَمِعت الْهَاتِف فِي النّوم أَو فِي الْيَقَظَة لما تَتَابَعَت على قُرَيْش سنُون أهلكتهم يصْرخ: يَا معشر قُرَيْش إِن هَذَا النَّبِي الْمَبْعُوث قد أَظَلَّتْكُم أَيَّامه فَحَيَّهَلا بالحيا وَالْخصب. ثمَّ امرهم بِأَن يستسقوا بِهِ وَذكر كَيْفيَّة يطول ذكرهَا. . فَلَمَّا ذكرت الرِّوَايَة فِي الْقِصَّة أنشأت تمدح النَّبِي صلى الله عليه وسلم َ بِأَبْيَات آخرهَا:)

ص: 69

(مبارك الْأَمر يستسقى الْغَمَام بِهِ

مَا فِي الْأَنَام لَهُ عدلٌ وَلَا خطر)

فَإِن الدَّمِيرِيّ لما رأى هَذَا الْبَيْت فِي رِوَايَة قصَّة عبد الْمطلب الَّتِي رَوَاهَا الطَّبَرَانِيّ وَهُوَ يشبه بَيت أبي طَالب إِذْ فِي كل استسقاء الْغَمَام بِهِ توهم أَن بَيت أبي طَالب لعبد الْمطلب. وَإِنَّمَا هُوَ لرقيقة الْمَذْكُورَة.

وَالْحكم عَلَيْهِ بِأَنَّهُ عين الْبَيْت الْمَنْسُوب لأبي طَالب لَيْسَ كَذَلِك بل شتان مَا بَينهمَا. فَتَأمل هَذَا الْمحل فَإِنَّهُ مُبْهَم. وَقد اغْترَّ بِكَلَام الدَّمِيرِيّ من لَا خيرة لَهُ بالسير انْتهى.

(يلوذ بِهِ الْهَلَاك من آل هاشمٍ

فهم عِنْده فِي رَحْمَة وفواضل)

يلوذ صفة أُخْرَى لموصوف سيد. والهلاك: الْفُقَرَاء والصعاليك الَّذين ينتابون النَّاس طلبا لمعروفهم من سوء الْحَال وَهُوَ جمع هَالك قَالَ جميل:

(أَبيت مَعَ الْهَلَاك ضيفاً لأَهْلهَا

وَأَهلي قريب موسعون ذَوُو فضلٍ)

(ترى الأرامل والهلاك تتبعه

يستن مِنْهُ عَلَيْهِم وابلٌ رذم)

(جزى الله عَنَّا عبد شمسٍ ونوفلاً

عُقُوبَة شَرّ عَاجلا غير آجل)

نَوْفَل هُوَ ابْن خويلد بن أَسد ابْن عبد الْعُزَّى بن قصي وَهُوَ ابْن العدوية وَكَانَ من شياطين قُرَيْش قَتله عَليّ بن أبي طَالب يَوْم بدر.

ص: 70

(بميزان قسطٍ لَا يخس شعيرَة

لَهُ شاهدٌ من نَفسه غير عائل)

بميزان مُتَعَلق بجزى الله. والقسط بِالْكَسْرِ: الْعدْل. وخس يخس من بَاب ضرب: إِذا نقص وخف وَزنه فَلم يعادل مَا يُقَابله. وَله أَي: للميزان شَاهد أَي: لِسَان من نَفسه أَي: من نفس الْقسْط غير عائل صفة شَاهد أَي غير مائل يُقَال: عَال الْمِيزَان يعول: إِذا مَال كَذَا فِي الْعباب وَأنْشد هَذَا الْبَيْت كَذَا:

(بميزان صدق لَا يغل شعيرَة

لَهُ شَاهد

. . الْبَيْت)

(وَنحن الصميم من ذؤابة هاشمٍ

وأل قصي فِي الخطوب الْأَوَائِل)

الصميم: الْخَالِص من كل شَيْء. والذؤابة: الْجَمَاعَة الْعَالِيَة وَأَصله الْخصْلَة من شعر الرَّأْس.

(وكل صديقٍ وَابْن أختٍ نعده

لعمري وجدنَا غبه غير طائل)

الغب بِالْكَسْرِ: الْعَاقِبَة. وَيُقَال هَذَا الْأَمر لَا طائل فِيهِ إِذا لم يكن فِيهِ غناء ومزية مَأْخُوذ من

(سوى أَن رهطاً من كلاب بن مرةٍ

براءٌ إِلَيْنَا من معقة خاذل))

قَالَ السُّهيْلي: يُقَال قوم برَاء بِالضَّمِّ وبراء بِالْفَتْح وبراء بِالْكَسْرِ: فَأَما برَاء بِالْكَسْرِ فَجمع بَرِيء مثل كريم وكرام وَأما برَاء فمصدر مثل سَلام والهمزة فِيهِ وَفِي الَّذِي قبله لَام الْفِعْل وَيُقَال رجل برَاء ورجلان برَاء وَإِذا كسرتها أَو ضممت لم يجز إِلَّا فِي الْجمع وَأما برَاء بِضَم الْبَاء فَالْأَصْل فِيهِ بُرَآء

ص: 71

مثل كرماء واستثقلوا اجْتِمَاع الهمزتين فحذفوا الأولى وَكَانَ وَزنه فعلاء فَلَمَّا حذفوا الَّتِي هِيَ لَام الْفِعْل صَار وَزنه فعاء وَانْصَرف لِأَنَّهُ أشبه فعالا. والمعقة بِفَتْح الْمِيم: مصدر بِمَعْنى العقوق.

(وَنعم ابْن أُخْت الْقَوْم غير مكذبٍ

زهيرٌ حساماً مُفردا من حمائل)

قَالَ ابْن هِشَام فِي السِّيرَة: زُهَيْر هُوَ ابْن أبي أُميَّة بن الْمُغيرَة بن عبد الله بن عمر بن مَخْزُوم وَأمه عَاتِكَة بنت عبد الْمطلب انْتهى.

وَزُهَيْر هُوَ الْمَخْصُوص بالمدح مُبْتَدأ وَجُمْلَة نعم ابْن أُخْت الْقَوْم هُوَ الْخَبَر وَغير مكذب بِالنّصب حَال من فَاعل نعم وَهُوَ ابْن. ومكذب: على صِيغَة اسْم الْمَفْعُول يُقَال كَذبته بِالتَّشْدِيدِ إِذا نسبته إِلَى الْكَذِب وَوَجَدته كَاذِبًا أَي: هُوَ صَادِق فِي مودته لم يلف كَاذِبًا فِيهَا. والحسام: السَّيْف الْقَاطِع وَهُوَ مَنْصُوب على الْمَدْح بِفعل مَحْذُوف أَي: يشبه الحسام المسلول فِي المضاء.

وَرَوَاهُ الْعَيْنِيّ فِي شرح شَوَاهِد الألفية: حسامٌ مفردٌ برفعهما وَقَالَ:

حسام صفة لزهير وَقَوله مُفْرد من حمائل صفة للحسام وَهَذَا على تَقْدِير صِحَة الرِّوَايَة خبط عشواء فَإِن زهيراً علم وحسام نكرَة والمفرد: الْمُجَرّد. والحمائل: جمع حمالَة وَهِي علاقَة السَّيْف مثل الْمحمل بِكَسْر الْمِيم هَذَا قَول الْخَلِيل وَقَالَ الْأَصْمَعِي: حمائل السَّيْف لَا وَاحِد لَهَا من لَفظهَا وَإِنَّمَا وَاحِدهَا محمل كَذَا فِي الْعباب.

وَهَذَا الْبَيْت اسْتشْهد بِهِ شرَّاح الألفية على أَن فَاعل نعم مظهر مُضَاف إِلَى مَا أضيف إِلَى الْمُعَرّف بِاللَّامِ.

(أَشمّ من الشم البهاليل ينتمي

إِلَى حسبٍ فِي حومة الْمجد فَاضل)

ص: 72

الشمم: ارْتِفَاع فِي قَصَبَة الْأنف مَعَ اسْتِوَاء أَعْلَاهُ وَهَذَا مِمَّا يمدح بِهِ وَهُوَ أَشمّ من قوم شم.

والبهاليل: جمع بهْلُول بِالضَّمِّ.

قَالَ الصَّاغَانِي: والبهلول من الرِّجَال الضَّحَّاك وَقَالَ ابْن عباد: هُوَ الْحَيِي الْكَرِيم. وينتمي: ينتسب. وفاضل بالضاد الْمُعْجَمَة صفة حسب.)

(لعمري لقد كلفت وجدا بأحمدٍ

وَإِخْوَته دأب الْمُحب المواصل)

كلفت بِالْبِنَاءِ للْمَفْعُول وَالتَّشْدِيد: مُبَالغَة كلفت بِهِ كلفاً من بَاب تَعب: إِذا أحببته وأولعت بِهِ ووجداً أَي: كلف وجد يُقَال: وجدت بِهِ وجدا: إِذا حزنت عَلَيْهِ. وبأحمد مُتَعَلق بكلفت وَهُوَ اسْم نَبينَا مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم َ. وَيجوز أَن يكون من كلفته الْأَمر فتكلفه مثل حَملته فتحمله وزنا وَمعنى مَعَ مشقة فوجداً مَفْعُوله الثَّانِي وَبِدُون التَّضْعِيف مُتَعَدٍّ لوَاحِد يُقَال كلفت الْأَمر من بَاب تَعب: حَملته على مشقة. وَأَرَادَ بإخوته أَوْلَاده جعفراً وعقيلاً وعلياً رضي الله عنهم فَإِن أَبَا طَالب كَانَ عَم النَّبِي صلى الله عليه وسلم َ وَالْعم أَب فأولاده إخْوَة النَّبِي صلى الله عليه وسلم َ. ودأب مصدر مَنْصُوب بِفِعْلِهِ الْمَحْذُوف أَي: ودأبت دأب الْمُحب يُقَال فلَان دأب فِي عمله: إِذا جد وتعب.

(فَلَا زَالَ فِي الدُّنْيَا جمالاً لأَهْلهَا

وزيناً لمن ولاه ذب المشاكل)

الذب: الدّفع والمشاكل: جمع مشكلة

(فَمن مثله فِي النَّاس أَي مؤملٍ

إِذا قاسه الْحُكَّام عِنْد التَّفَاضُل)

أَي هِيَ الدَّالَّة على الْكَمَال خبر مُبْتَدأ مَحْذُوف أَي: هُوَ والمؤمل الَّذِي يُرْجَى لكل خير: والتفاضل بالضاد الْمُعْجَمَة وَهُوَ التغالب بِالْفَضْلِ.

(حليمٌ رشيدٌ عادلٌ غير طائش

يوالي إِلَهًا لَيْسَ عَنهُ بغافل)

ص: 73

أَي: هُوَ حَلِيم. والطيش: النزق والخفة: ويوالي إِلَهًا أَي: يَتَّخِذهُ وليا. وَهُوَ فعيل بِمَعْنى فَاعل.

(فأيده رب الْعباد بنصره

وَأظْهر دينا حَقه غير ناصل)

الْحق: خلاف الْبَاطِل وَهُوَ مصدر حق الشَّيْء من بَاب ضرب وَقتل: إِذا وَجب وَثَبت.

والناصل: الزائل المضمحل يُقَال نصل السهْم: إِذا خرج مِنْهُ النصل ونصل الشّعْر ينصل نصولاً: زَالَ عَنهُ الخضاب.

(فو الله لَوْلَا أَن أجيء بسبةٍ

تجر على أشياخنا فِي الْقَبَائِل)

(لَكنا اتبعناه على كل حالةٍ

من الدَّهْر جدا غير قَول التهازل)

تقدم شرحهما أَولا.

(لقد علمُوا أَن ابننا لَا مكذبٌ

لدينا وَلَا يعْنى بقول الأباطل)

فِي النِّهَايَة: يُقَال عنيت بحاجتك أعنى بهَا فَأَنا بهَا معني وعنيت بهَا فَأَنا عانٍ وَالْأول أَكثر أَي:)

اهتممت بهَا واشتغلت. انْتهى. وَهُوَ من بَاب تَعب.

(فَأصْبح فِينَا أحمدٌ فِي أرومةٍ

يقصر عَنْهَا سُورَة المتطاول)

تَنْوِين أَحْمد للضَّرُورَة. والأرومة بِفَتْح الْهمزَة وَضم الرَّاء الْمُهْملَة: الأَصْل وَالسورَة بِالضَّمِّ: الْمنزلَة وبفتح السِّين السطوة والاعتداء. والمتطاول من الطول بِالْفَتْح وَهُوَ الْفضل وَهَذَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمنزلَة أَو من تطاول عَلَيْهِ: إِذا قهره وغلبه وَهَذَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى السطوة.

ص: 74

حدب عَلَيْهِ كفرح وتحدب عَلَيْهِ أَيْضا بِمَعْنى تعطف عَلَيْهِ وَحَقِيقَته جعل نَفسه كالأحدب بالانحناء أَمَامه ليتلقى عَنهُ مَا يُؤْذِيه. ودونه أَمَامه. والذرا

بِالضَّمِّ: أعالي الشَّيْء جمع ذرْوَة بِكَسْر الذَّال وَضمّهَا. والكلاكل: جمع كلكل كجعفر بِمَعْنى الصَّدْر.

تَنْبِيه رِوَايَة هَذِه القصيدة كَمَا سطرت نقلتها من سيرة الشَّامي وَرَوَاهَا ابْن هِشَام فِي السِّيرَة أَزِيد من ثَمَانِينَ بَيْتا ومطلعها عِنْده:

(وَلما رَأَيْت الْقَوْم لَا ود فيهم

وَقد قطعُوا كل العرى والوسائل)

وَلم يذكر الْبَيْتَيْنِ الْأَوَّلين مطلع القصيدة فِي رِوَايَة الشَّامي وَلَا تعرض لَهما السُّهيْلي بِشَيْء.

وَأَبُو طَالب هُوَ عَم النَّبِي صلى الله عليه وسلم َ وناصره. ولد قبل النَّبِي صلى الله عليه وسلم َ بِخمْس وَثَلَاثِينَ سنة. وَلما مَاتَ عبد الْمطلب وصّى بِالنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم َ إِلَيْهِ فَكَفَلَهُ وَأحسن تَرْبِيَته وسافر بِهِ إِلَى الشَّام وَهُوَ شَاب وَلما بعث صلى الله عليه وسلم َ قَامَ بنصرته وذب عَنهُ من عَادَاهُ ومدحه عدَّة مدائح.

واسْمه عبد منَاف على الْمَشْهُور واشتهر بكنيته وَقيل: اسْمه عمرَان

ص: 75

وَقيل: شيبَة. قَالَ الْوَاقِدِيّ: وَتُوفِّي أَبُو طَالب فِي النّصْف من شَوَّال فِي السّنة الْعَاشِرَة من النُّبُوَّة وَهُوَ ابْن بضع وَثَمَانِينَ وَاخْتلف فِي إِسْلَامه قَالَ ابْن حجر: رَأَيْت لعَلي بن حَمْزَة الْبَصْرِيّ جُزْءا جمع فِيهِ شعر أبي طَالب وَزعم أَنه كَانَ مُسلما وَمَات على الْإِسْلَام وَأَن الحشوية تزْعم أَنه مَاتَ كَافِرًا وَاسْتدلَّ لدعواه بِمَا لَا دلَالَة فِيهِ. انْتهى.

وَمن شعره قَوْله:

(وَدَعَوْتنِي وَزَعَمت أَنَّك صادقٌ

وَلَقَد صدقت وَكنت قبل أَمينا)

(وَلَقَد علمت بِأَن دين محمدٍ

من خير أَدْيَان الْبَريَّة دينا)

)

وَمن شعره الَّذِي قَالَه وَهُوَ فِي الشّعب:

(أَلا أبلغا عني على ذَات بَيْننَا

لؤياً وخصا من لؤَي بني كَعْب)

(ألم تعلمُوا أَنا وجدنَا مُحَمَّدًا

نَبيا كموسى خطّ فِي أول الْكتب)

(وَأَن عَلَيْهِ فِي الْعباد مَوَدَّة

وَخير فِيمَن خصّه الله بالحب)

وَهِي قصيدة جَيِّدَة على هَذَا الأسلوب.

وَأنْشد بعده وَهُوَ الشَّاهِد الثَّانِي وَالتِّسْعُونَ

ص: 76

على أَن جدكما لَيْسَ مصدرا مؤكداً لقَوْله: لَا تقضيان بل هُوَ إِمَّا مَنْصُوب بِنَزْع الْخَافِض وَإِمَّا حَال وَإِمَّا مصدر حذف عَامله وجوبا.

أما كَونه لَيْسَ مؤكداً لمضمون الْجُمْلَة بعده فلشيئين: الأول: أَن قَوْله أجدكما لَو جعل مؤكداً لمضمون مَا بعده لَكَانَ مؤكداً لمضمون الْمُفْرد وَهُوَ الْفِعْل فَقَط لَا لمضمون الْجُمْلَة كَمَا بَينه الشَّارِح.

وَالثَّانِي: أَنه إِنَّمَا يكون الْمصدر مؤكداً لغيره إِذا أكد معنى القَوْل الَّذِي هُوَ مَضْمُون الْجُمْلَة وَلَا يجوز أَن يقدر أجدكما أَقُول لَا تقضيان لفساد الْمَعْنى لِأَن القَوْل من الْمُتَكَلّم وَعدم الْقَضَاء من الْمُخَاطب.

وَأما كَونه مَنْصُوبًا بِنَزْع الْخَافِض فَلِأَنَّهُ فِي معنى حَقًا وَهُوَ على تَقْدِير فِي وَجدك وَحقا متقاربان معنى فالأنسب تقاربهما فِي الْإِعْرَاب أَيْضا.

وَأما كَونه حَالا فَمَعْنَاه: لَا تقضيان كراكما جادين فعامل الْحَال الْفِعْل الَّذِي بعْدهَا وصاحبها ضمير التَّثْنِيَة.

وَأما الثَّالِث فَهُوَ مُؤَكد لنَفسِهِ لِأَنَّهُ أكد مَضْمُون الْمُفْرد لَا مَضْمُون الْجُمْلَة لِأَنَّهُ أكد الْفِعْل بِدُونِ الْفَاعِل وَالْفِعْل يدل وَحده على الْحَدث وَالزَّمَان.

هَذَا مُحَصل كَلَامه. والحالية لَا تطرد فِي كل مَوضِع وَلِهَذَا ذهب الإِمَام المرزوقي فِي شرح فصيح ثَعْلَب إِلَى أَن انتصاب أجدكما إِمَّا بِنَزْع الْخَافِض وَإِمَّا بِفِعْلِهِ الْمَحْذُوف.

وَالْمَفْهُوم من كَلَام بن جني على هَذَا الْبَيْت فِي إِعْرَاب الحماسة: أَن أجدكما مَنْصُوب بِفِعْلِهِ الْمَحْذُوف. لَكِن جعله جملَة لَا تقضيان حَالا غير جيد لِأَنَّهَا مُقَيّدَة وجدكما قيد لَهَا والمقيد هُوَ)

أصل الْكَلَام. ثمَّ جَوَابه عَن إِيرَاده

ص: 77

على جعله الْجُمْلَة حَالا أَنَّهَا مصدرة بِعلم الِاسْتِقْبَال بِأَن الشَّاعِر أَرَادَ امتداد الْحَال فَلَمَّا لاحظ حَال الِاسْتِمْرَار والاستقبال أَتَى بِلَا غير صَحِيح فَإِن لَا لَيست للاستقبال على الصَّحِيح والمضارع الْمَنْفِيّ بهَا يَقع حَالا نَحْو: مالكم لَا ترجون لله وقارا. وَقد تعسف أَيْضا فِي نَحْو أجدك لَا تفعل بِأَنَّهُ على إِرَادَة اسْتِمْرَار حِكَايَة الْحَال الممتدة فِيمَا مضى.

قَالَ أَبُو حَيَّان فِي الارتشاف: وَلَا تفعل عِنْد أبي عَليّ حَال أَو على إِضْمَار أَن فَحذف أَن وارتفع الْفِعْل.

وَاعْلَم أَن صَنِيع الشَّارِح الْمُحَقق فِيهِ رد لمن جعل كَابْن الْحَاجِب أجدك لَا تفعل كَذَا من قبيل الْمصدر الْمُؤَكّد لغيره قَالَ ابْن الْحَاجِب فِي الْإِيضَاح: أَصله لَا تفعل كَذَا جدا لِأَن الَّذِي يَنْبَغِي الْفِعْل عَنهُ يجوز أَن يكون بجد مِنْهُ وَيجوز أَن يكون من غير جد فَإِذا قَالَ: جدا فقد ذكر أحد المحتملين ثمَّ أدخلُوا همزَة الِاسْتِفْهَام إِيذَانًا بِأَن الْأَمر يَنْبَغِي أَن يكون كَذَلِك على سَبِيل التَّقْرِير فَقدم الْمصدر من أجل همزَة الِاسْتِفْهَام فَصَارَ: أجدك لَا تفعل ثمَّ لما كَانَ مَعْنَاهُ تَقْرِير أَن يكون الْأَمر على وفْق مَا أخبر صَار فِي معنى تَأْكِيد كَلَام الْمُتَكَلّم فيتكلم بِهِ من يقْصد إِلَى التَّأْكِيد وَإِن كَانَ مَا تقدم هُوَ الأَصْل الْجَارِي على قِيَاس لغتهم.

وَيجوز أَن يكون معنى أجدك فِي مثله: أتفعله جدا مِنْك على سَبِيل الْإِنْكَار لفعله جدا ثمَّ نَهَاهُ عَنهُ أَو أخبر عَنهُ بِأَنَّهُ لَا يفعل فَيكون أجدك توكيداً لجملة مقدرَة دلّ سِيَاق الْكَلَام عَلَيْهَا. وَمِمَّا يدل على أَنهم يَقُولُونَ أَفعلهُ جدا قَول أبي طَالب:

إِذن لاتبعناه على كل حَالَة

الْبَيْت هَذَا كَلَامه.

وَقَوله ثمَّ نَهَاهُ عَنهُ يفهم مِنْهُ أَن أجدك يَقع بعْدهَا النَّهْي

ص: 78

وَكَذَا قَول بَعضهم أجدك هَل تفعل كَذَا يفهم مِنْهُ أَن الِاسْتِفْهَام يَقع بعده.

وَقد قَالَ الشَّارِح الْمُحَقق: إِن أجدك لَا يسْتَعْمل إِلَّا مَعَ النَّفْي. وَلم أر هَذَا التقيد لغيره وَظَاهره: سَوَاء كَانَ النَّافِي لَا أَو مَا أَو لن كَقَوْلِه:

(أجدك لن ترى بثعيلبات

وَلَا بيدان نَاجِية ذمولا)

(أجدك لم تغتمض لَيْلَة

فترقدها مَعَ رقادها))

فَإِن قلت: قد وَقع بعْدهَا الِاسْتِفْهَام فِي هَذَا الْبَيْت الَّذِي أوردهُ ثَعْلَب فِي فصيحه وَهُوَ:

(أجدك مَا لعينيك لَا تنام

كَأَن جفونها فِيهَا كَلَام)

قلت: النَّفْي الَّذِي يَقع بعد أجدك مَوْجُود وَهُوَ قَوْله لَا تنام والاستفهام الثَّانِي سُؤال عَن عِلّة عدم نوم عينه وَمثله قَول كَعْب بن مَالك الصَّحَابِيّ رضي الله عنه فِي غَزْوَة الطَّائِف:

(أجدهم أَلَيْسَ لَهُم نصيحٌ

من الأقوام كَانَ لنا عريفا)

(يُخْبِرهُمْ بِأَنا قد جَمعنَا

عتاق الْخَيل وَالْبخْت الطروفا)

وَفِي الارتشاف: وَلَا يسْتَعْمل أجدك إِلَّا مُضَافا وغالباً بعده لَا أَو لم أَو لن.

وَفِي النِّهَايَة لِابْنِ الخباز قَالَ الْأَعْشَى:

ص: 79

أجدك ودعت الدمى والولائدا ودعت موجبٌ وَجَاء مَعَ لَا كثيرا.

وَقد ذكر صَاحب الصِّحَاح وَغَيره: أَن أجدك يجوز فِي جيمه الْكسر وَالْفَتْح لَكِن الْكسر هُوَ الفصيح وَلِهَذَا قَالَ ثَعْلَب فِي فصيحه: وَمَا أَتَاك أجدك فمكسور وَمَا أَتَاك وَجدك فمفتوح. وَهُوَ من الْجد ضد الْهزْل وَأَصله من الْجد فِي الْأَمر بِمَعْنى الِاجْتِهَاد فِيهِ لِأَن الهازل لَا يبْذل الِاجْتِهَاد وَأغْرب صَاحب الْقَامُوس حَيْثُ جعله من جاده بِمَعْنى حاققه ثمَّ قَالَ: وأجدك لَا تفعل لَا يُقَال إِلَّا مُضَافا وَإِذا كسر استحلفه بحقيقته وَإِذا فتح استحلفه ببخته انْتهى. وَهَذَا شَيْء انْفَرد بِهِ وَكَأَنَّهُ جنح لما ذهب إِلَيْهِ الشلوبين حَيْثُ زعم أَن فِيهِ معنى الْقسم وَلذَلِك قدم.

وَهَذَا المصارع من شعر لقس بن سَاعِدَة. وَهُوَ:

(خليلي هبا طالما قد رقدتما

أجدكما لَا تفيضان كراكما)

(ألم تعلما أَنِّي بسمعان مُفردا

وَمَالِي فِيهِ من خَلِيل سواكما)

(مُقيم على قبريكما لست بارحاً

طوال اللَّيَالِي أَو يُجيب صداكما)

(أبكيكما طول الْحَيَاة وَمَا الَّذِي

يرد على ذِي لوعةٍ أَن بكاكما)

(كأنكما وَالْمَوْت اقْربْ غائبٍ

بروحي فِي قبريكماٍ قد أتاكما)

ص: 80

(أَمن طول نوم لَا تجيبان دَاعيا

كَأَن الَّذِي يسْقِي الْعقار سقاكما)

(فَلَو جعلت نفسٌ لنفسٍ وقايةً

لجدت بنفسي أَن تكون فداكما)

فِي سيرة ابْن سيد النَّاس بِسَنَدِهِ إِلَى ابْن عَبَّاس فِي حَدِيث الْجَارُود بن عبد الله لما قدم مُؤمنا)

بِالنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم َ وَسَأَلَهُ النَّبِي صلى الله عليه وسلم َ عَن قس بن سَاعِدَة والْحَدِيث طَوِيل إِلَى أَن قَالَ ابْن عَبَّاس: وَقَامَ رجل أشدق أجش الصَّوْت فَقَالَ: لقد رَأَيْت من قس عجبا:

(يَا أَيهَا الراقد فِي اللَّيْل الأحم

قد بعث الله نَبيا فِي الْحرم)

(من هَاشم أهل الْوَقار وَالْكَرم

يجلو دجنات اللَّيَالِي والبهم)

قَالَ: فأدرت طرفِي فَمَا رَأَيْت لَهُ شخصا. فأنشأت أَقُول:

(يَا أَيهَا الْهَاتِف فِي دجى الظُّلم

أَهلا وسهلاً بك من طيفٍ ألم)

(بَين هداك الله فِي لحن الْكَلم

من الَّذِي تَدْعُو إِلَيْهِ تغتنم)

فَإِذا أَنا بنحنحة وقائلٍ يَقُول: ظهر النُّور وَبَطل الزُّور وَبعث الله مُحَمَّدًا صلى الله عليه وسلم َ بالحبور صَاحب النجيب الْأَحْمَر والتاج والمغفر وَالْوَجْه الْأَزْهَر والحاجب الْأَقْمَر والطرف الأحور صَاحب قَول شَهَادَة أَن لَا إِلَه إِلَّا الله فَذَاك مُحَمَّد الْمَبْعُوث إِلَى الْأسود والأحمر أهل الْمدر والوبر. ثمَّ أنشأ يَقُول:

(الْحَمد لله الَّذِي

لم يخلق الْخلق عَبث)

ص: 81

(وَلم يخلنا سدى

من بعد عِيسَى واكترث)

(أرسل فِينَا أحمدا

خير نَبِي قد بعث)

(صلى عَلَيْهِ الله مَا

حج لَهُ ركبٌ وحث)

قَالَ: ولاح الصَّباح فَإِذا أَنا بالفنيق يشقشق إِلَى النوق فملكت خطامه وعلوت سنامه حَتَّى إِذا لغب فَنزلت فِي رَوْضَة خضرَة فَإِذا أَنا بقس بن سَاعِدَة فِي

ظلّ شَجَرَة وَبِيَدِهِ قضيب من أَرَاك ينكت بِهِ الأَرْض وَهُوَ يَقُول:

(يَا ناعي الْمَوْت والأموات فِي جدثٍ

عَلَيْهِم من بقايا بزهم خرق)

(دعهم فَإِن لَهُم يَوْمًا يصاح بهم

فهم إِذا انتبهوا من نومهم فرقوا)

(حَتَّى يعودوا لحَال غير حَالهم

خلقا جَدِيدا كَمَا من قبله خلقُوا)

(مِنْهُم عراةٌ وَمِنْهُم فِي ثِيَابهمْ:

مِنْهَا الْجَدِيد وَمِنْهَا الْمنْهَج الْخلق)

قَالَ: فدنوت مِنْهُ فَسلمت عَلَيْهِ فَرد عَليّ السَّلَام وَإِذا أَنا بِعَين خرارة فِي أَرض خوارة وَمَسْجِد بَين قبرين وأسدين عظيمين يلوذان بِهِ وَإِذا بِأَحَدِهِمَا قد سبق الآخر إِلَى المَاء فَتَبِعَهُ الآخر يطْلب المَاء. فَضَربهُ بالقضيب الَّذِي فِي يَده وَقَالَ: ارْجع ثكلتك أمك حَتَّى يشرب الَّذِي ورد قبلك)

فَرجع ثمَّ ورد بعده. فَقلت لَهُ: مَا هَذَانِ القبران قَالَ: هَذَانِ قبرا أَخَوَيْنِ كَانَا لي يعبدان الله عز وجل معي فِي هَذَا الْمَكَان لَا يشركان بِاللَّه عز وجل شَيْئا فأدركهما الْمَوْت فقبرتهما وَهَا أَنا بَين قبريهما حَتَّى ألحق بهما ثمَّ نظر إِلَيْهِمَا وَجعل يَقُول:

ص: 82

(خليلي هبا طالما قد رقدتما

أجدكما لَا تقضيان كراكما)

الأبيات السَّابِقَة: فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم َ: رحم الله قساً إِنِّي أَرْجُو أَن يَبْعَثهُ الْأمة: الشَّخْص الْمُنْفَرد بدين أَي: يبْعَث وَاحِدًا يقوم مقَام جمَاعَة. والأجش: الغليظ الصَّوْت.

وعسعس اللَّيْل: أدبر وَيَأْتِي بِمَعْنى أقبل فَهُوَ ضد. والأحم: الْأسود. والدجنة بِضَمَّتَيْنِ وَتَشْديد النُّون: الظلمَة وَكَذَلِكَ البهمة وَجَمعهَا بهم. ولحن القَوْل قَالَ الْأَزْهَرِي: هُوَ كالعنوان والعلامة تُشِير بهَا فيظن الْمُخَاطب لغرضك. والنجيب: الْكَرِيم من الْإِبِل. والحاجب الْأَقْمَر: أَرَادَ أَنه مفروق مَا بَين الحاجبين فَيكون أَبْلَج نيرا. والفنيق: الْفَحْل المكرم من الْإِبِل الَّذِي لَا يركب وَلَا يهان لكرامته. ويشقشق: يهدر بشقشقته. ولغب: تَعب. وَالْعين الخرارة: الغزيرة النبع من الخرير وَهُوَ صَوت المَاء. وَالْأَرْض الخوارة: اللينة السهلة من خار يخور: إِذا ضعف.

وهبا: أَمر مُسْند إِلَى ضمير الخليلين من الهب يُقَال هَب من نَومه من بَاب قتل: إِذا اسْتَيْقَظَ.

وطالما: قَالَ التبريزي فِي شرح الحماسة: إِن جعلت مَا مَصْدَرِيَّة كتبت مُنْفَصِلَة وَإِن جعلت كَافَّة فمتصلة. والرقود: النّوم فِي ليل أَو نَهَار وَخَصه بَعضهم بنوم اللَّيْل وَالْأول هُوَ الْحق وَيشْهد لَهُ الْمُطَابقَة فِي قَوْله تَعَالَى: وتحسبهم أيقاظاً وهم رقود قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: إِذا رَأَيْتهمْ حسبتهم أيقاظاً لِأَن أَعينهم مفتحة وهم نيام. وتقضيان: من قضيت. وطري: إِذا بلغته ونلته. والكرى: النّوم قَالُوا: أول النّوم النعاس والوسن ثقل النعاس ثمَّ الترنيق وَهُوَ مُخَالطَة النعاس للعين

ص: 83

ثمَّ الْكرَى والغمض وَهُوَ أَن يكون الْإِنْسَان بَين النَّائِم وَالْيَقظَان ثمَّ الهجود والهجوع وَهُوَ النّوم الْغَرق.

وسمعان بِفَتْح السِّين. مَوضِع. وبارحاً بِالْمُوَحَّدَةِ والمهملة: فَاعل من برح الشَّيْء يبرح من بَاب تَعب براحاً: إِذا زَالَ من مَكَانَهُ. وطوال اللَّيَالِي بِفَتْح الطَّاء بِمَعْنى الطول بضمهما وَهُوَ مَنْصُوب على الظَّرْفِيَّة يُقَال: لَا ُأكَلِّمهُ طوال الدَّهْر وَطول الدَّهْر وهما بِمَعْنى يُرِيد إِنَّنِي مُقيم أبدا. وأو بِمَعْنى إِلَى أَو بِمَعْنى إِلَّا ويجيب مَنْصُوب بِأَن بعْدهَا. والصدى هُنَا بِمَعْنى مَا يبْقى من الْمَيِّت فِي قَبره وَمِنْه قَول النمر بن تولب الصَّحَابِيّ رضي الله عنه:

(أعاذل إِن يصبح صداي بقفرةٍ

بَعيدا نآني صَاحِبي وقريبي))

(ترى أَن مَا أبقيت لم أك ربه

وَأَن الَّذِي أنفقت كَانَ نَصِيبي)

وَله معَان أخر: أَحدهمَا ذكر البوم ثَانِيهمَا: حشْوَة الرَّأْس يُقَال لذَلِك الهامة والصدى وَتَأْويل ذَلِك عِنْد الْعَرَب فِي الْجَاهِلِيَّة: أَن الرجل كَانَ عِنْدهم إِذا قتل فَلم يدْرك بِهِ الثأر أَنه يخرج من رَأسه طَائِر كالبومة وَهِي الهامة وَالذكر الصدى فَيَصِيح على قَبره: اسقوني اسقوني فَإِن قتل قَاتله كف ذَلِك الطَّائِر. قَالَ:

(ياعمرو إِن لَا تدع شتمي ومنقصتي

أضربك حَتَّى تَقول الهامة اسقوني)

ثالثهما مَا يرجع عَلَيْك من الصَّوْت إِذا كنت بمتسع من الأَرْض أَو بِقرب جبل. رَابِعهَا: بِمَعْنى الْعَطش مصدر صدى يصدى. والصدأ بِالْهَمْزَةِ: صدأ الْحَدِيد وَمَا أشبهه كَذَا فِي الْكَامِل

ص: 84

وأبكيكما قَالَ الْأَصْمَعِي: بَكَيْت الرجل وبكيته بِالتَّشْدِيدِ كِلَاهُمَا إِذا بَكَيْت عَلَيْهِ. وَمَا اسْم اسْتِفْهَام مُبْتَدأ وَالَّذِي خَبره أَو بِالْعَكْسِ وَالْمعْنَى: أَي شَيْء الَّذِي يردهُ الْبكاء على ذِي اللوعة وَهِي الحرقة. وروى ذِي عولة وَهِي رفع الصَّوْت بالبكاء بِمَعْنى العويل. أَن بكاكما: بِفَتْح الْهمزَة مَصْدَرِيَّة ومؤولها فَاعل يرد وروى بِكَسْر الْهمزَة فَهِيَ شَرْطِيَّة وَالْجَوَاب مَدْلُول عَلَيْهِ بأبكيكما وفاعل يرد ضمير مَفْهُوم من أبكيكما وَهُوَ الْبكاء وَيجوز أَن يكون دلّ عَلَيْهِ قَوْله أَن بكاكما.

وَقَوله كأنكما. كَأَن هُنَا للتقريب وَجُمْلَة قد أتاكما خبر كَأَن وفاعل أَتَى ضمير الْمَوْت والظرفان متعلقان بِهِ وَجُمْلَة وَالْمَوْت أقرب غَائِب اعتراضية. وَالْعَقار بِالضَّمِّ: الْخمر.

والفدى بِكَسْر الْفَاء وَفتحهَا وبالقصر: مصدر فدَاه من الْأسر يفْدِيه: إِذا استنقذه بِمَال وَاسم ذَلِك المَال الْفِدْيَة وَهُوَ عوض الْأَسير وَأما الْفِدَاء بِالْكَسْرِ وَالْمدّ فمصدر فاديته مفاداة وَفِدَاء: أخذت فديته وأطلقته وَقَالَ الْمبرد: المفاداة: أَن تدفع رجلا وَتَأْخُذ رجلا والفدى: أَن تشتريه وَقيل هما وَاحِد.

تَنْبِيه أورد أَبُو تَمام فِي الحماسة هَذِه الأبيات على غير هَذَا النمط وَقَالَ: ذكرُوا أَن رجلَيْنِ من بني أَسد خرجا إِلَى أَصْبَهَان فآخيا بهَا دهقاناً فِي مَوضِع يُقَال لَهُ راوند فَمَاتَ أَحدهمَا وَبَقِي الآخر والدهقان ينادمان قَبره ويشربان كأسين ويصبان على

قَبره كأساً فَمَاتَ الدهْقَان فَكَانَ الْأَسدي ينادم قبريهما وَيشْرب قدحاً وَيصب على قبريهما قدحين ويترنم بِهَذَا الشّعْر:)

ص: 85

خليلي هبا طالما قد رقدتما

...

...

...

... . الْبَيْت

(ألم تعلما مَا لي براوند كلهَا

وَلَا بخزاق من صديق سواكما)

(أصب على قبريكما من مدامة

فإلا تنالاها ترو جثاكما)

أقيم على قبريكما

...

...

...

... . . الْبَيْت وأبكيكما حَتَّى الْمَمَات وَمَا الَّذِي

...

... الْبَيْت

(جرى النّوم بَين الْجلد وَاللَّحم مِنْكُمَا

كأنكما ساقي عقار سقاكما)

وروى الْأَصْبَهَانِيّ فِي الأغاني بِسَنَدِهِ إِلَى يَعْقُوب بن السّكيت أَن هَذَا الشّعْر لعيسى بن قدامَة الْأَسدي قدم قاشان وَله نديمان فماتا فَكَانَ يجلس عِنْد قبريهما وهما براوند بِموضع يُقَال لَهُ خزاق فيشرب وَيصب على القبرين حَتَّى يقْضِي وطره ثمَّ ينْصَرف وينشد وَهُوَ يشرب. وروى مَا رَوَاهُ أَبُو تَمام وَزَاد عَلَيْهِ.

(تحمل من يَبْغِي القفول وغادروا

أَخا لَكمَا أشجاه مَا قد شجاكما)

(أناديكما كَيْمَا تجيبا وتنطقا

وَلَيْسَ مجاباً صَوته من دعاكما)

(قضيت بِأَنِّي لَا محَالة هَالك

وَأَنِّي سيعروني الَّذِي قد عراكما)

وروى الْأَصْبَهَانِيّ أَيْضا بِسَنَدِهِ إِلَى عبد الله بن صَالح البَجلِيّ أَنه قَالَ:

ص: 86

بَلغنِي أَن ثَلَاثَة نفرٍ من أهل الْكُوفَة كَانُوا فِي الْجَيْش الَّذِي وَجهه الْحجَّاج إِلَى الديلم وَكَانُوا يتنادمون وَلَا يخالطون غَيرهم وَإِنَّهُم لعلى ذَلِك إِذا مَاتَ أحدهم فدفنه صَاحِبَاه فَكَانَا يشربان عِنْد قَبره فَإِذا بلغه الكأس هراقاها على قَبره وبكيا. ثمَّ إِن الثَّانِي مَاتَ

فدفنه الْبَاقِي إِلَى جنب صَاحبه وَكَانَ يجلس عِنْد قبريهما فيشرب وَيصب كأسين عَلَيْهِمَا ويبكي وَيَقُول ثمَّ ذكر الأبيات الَّتِي تقدم ذكرهَا وَقَالَ مَكَان براوند: بقزوين قَالَ: وقبورهم هُنَاكَ تعرف بقبور الندماء.

قَالَ الْأَصْبَهَانِيّ: وَذكر الْعُتْبِي عَن أَبِيه أَن الشّعْر للحزين بن الْحَارِث أحد بني عَامر بن صعصعة وَكَانَ أحد نديميه من بني أَسد وَالْآخر من بني حنيفَة فَلَمَّا مَاتَ أَحدهمَا كَانَ يشرب وَيصب على قَبره وَيَقُول:

(لَا تصرد هَامة من كأسها

واسقه الْخمر وَإِن كَانَ قبر)

(كَانَ حرا فهوى فِيمَن هوى

كل عودٍ ذِي شعوبٍ ينكسر)

ثمَّ مَاتَ الآخر فَكَانَ يشرب على قبريهما وَيَقُول:)

وَأما أَبُو عبيد فِي مُعْجم مَا استعجم وَيَاقُوت فِي مُعْجم الْبلدَانِ فقد نسبا هَذِه الأبيات للأسدي وذكرا حكايته كَأبي تَمام ثمَّ قَالَ ياقوت: وَقَالَ بَعضهم: إِن هَذَا الشّعْر لقس بن سَاعِدَة فِي خليلين لَهُ كَانَا وَمَاتَا.

وَقَالَ آخَرُونَ

ص: 87

هَذَا الشّعْر لنصر بن غَالب يرثي بِهِ أَوْس بن خَالِد وأنيسا وَزَاد فِي الأبيات وَنقص وَهَذِه رِوَايَته بعد الْبَيْت الأول:

(أجدكما مَا ترثيان لموجع

حزينٍ على قبريكما قد رثاكما)

جرى النّوم بَين الْعظم وَالْجَلد مِنْكُمَا

...

... الْبَيْت ألم تعلما مَالِي براوند كلهَا

...

...

...

الْبَيْت

(أصب على قبريكما من مدامةٍ

فإلا تذوقاها ترو ثراكما)

(ألم ترحماني أنني صرت مُفردا

وَأَنِّي مشتاقٌ إِلَى أَن أراكما)

(فَإِن كنتما لَا تسمعان فَمَا الَّذِي

خليلي عَن سمع الدُّعَاء نهاكما)

أقيم على قبريكما لست بارحا

...

...

...

. . الْبَيْت

وأبكيكماطول الْحَيَاة وَمَا الَّذِي

...

...

...

. . الْبَيْت قَالَ ياقوت راوند: بليدَة قرب قاشان وأصفهان قَالَ حَمْزَة: أَصْلهَا راهاوند وَمَعْنَاهَا الْخَيْر المضاعف. قَالَ بَعضهم: وراوند مَدِينَة بالموصل قديمَة بناها راوند الْأَكْبَر بن بيوراسف الضَّحَّاك.

وخزاق: بِضَم الْخَاء وبالزاي المعجمتين وَآخره قَاف: مَوضِع فِي سَواد أضفهان. كَذَا فِي المعجم لأبي عبيد وَأنْشد هَذَا الْبَيْت. وَرَأَيْت فِي هامشه بِخَط من يوثق بِهِ: خزاق اسْم قَرْيَة من قرى راوند من أَعمال أصفهان. والجثا بِضَم الْجِيم وبالثاء الْمُثَلَّثَة: جمع جثوَة مُثَلّثَة الْجِيم وَهِي الْحِجَارَة الْمَجْمُوعَة

ص: 88

والجسد. والدهقان مُعرب دهجان وَمَعْنَاهُ رَئِيس الْقرْيَة وَفِي الْقَامُوس: الدهْقَان بِالْكَسْرِ وَالضَّم زعيم فلاحي الْعَجم وَرَئِيس الإقليم مُعرب.

وَقَوله ألم تعلما مَالِي: مَا نَافِيَة قَالَ ابْن جني فِي إِعْرَاب الحماسة: استعملها بعد الْعلم وَهِي مقتضية لمفعوليها لما دَخلهَا من معنى الْقسم فَكَأَنَّهُ قَالَ: وَالله مَالِي براوند من صديق غيركما وَجَاز اسْتِعْمَال الْعلم فِي مَوضِع الْقسم من حَيْثُ كَانَا مثبتين مؤكدين. انْتهى.

وَقس بن سَاعِدَة إيادي بِكَسْر الْهمزَة وإياد حَيّ من معد بن عدنان. قَالَ الذَّهَبِيّ: قس بن)

سَاعِدَة أوردهُ ابْن شاهين وعبدان فِي الصَّحَابَة. وَكَذَلِكَ قَالَ ابْن حجر فِي الْإِصَابَة: ذكره أَبُو عَليّ بن السكن وَابْن شاهين وعبدان الْمروزِي وَأَبُو مُوسَى فِي الصَّحَابَة وَصرح ابْن السكن بِأَنَّهُ مَاتَ قبل الْبعْثَة.

وَفِي سيرة ابْن سيد النَّاس بِسَنَدِهِ إِلَى ابْن عَبَّاس قَالَ: قدم الْجَارُود بن عبد الله وَكَانَ سيداً فِي قومه على رَسُول الله صلى الله عليه وسلم َ فَقَالَ: وَالَّذِي بَعثك بِالْحَقِّ

لقد وجدت صِفَتك فِي الْإِنْجِيل وَلَقَد بشر بك ابْن البتول فَأَنا أشهد أَن لَا إِلَه إِلَّا الله وَأَنَّك مُحَمَّد رَسُول الله. قَالَ: فَآمن الْجَارُود وَأمن من قومه كل سيد. فسر النَّبِي صلى الله عليه وسلم َ بهم وَقَالَ: يَا جارود هَل فِي جمَاعَة وَفد عبد الْقَيْس من يعرف لنا قساً قَالُوا: كلنا نعرفه يَا رَسُول الله وَأَنا من بَين يَدي الْقَوْم كنت أقفو أَثَره

ص: 89

كَانَ من أَسْبَاط الْعَرَب فصيحاً عمر سَبْعمِائة سنة أدْرك من الحواريين سمْعَان فَهُوَ أول من تأله من الْعَرَب أَي: تعبد كَأَنِّي أنظر إِلَيْهِ يقسم بالرب الَّذِي هُوَ لَهُ ليبلغن الْكتاب أَجله وليوفين كل عَامل عمله ثمَّ أنشأ يَقُول:

(هاج للقلب من جواه ادكار

وليالٍ خلالهن نَهَار)

فِي أَبْيَات آخرهَا:

(وَالَّذِي قد ذكرت دلّ على الله

نفوساً لَهَا هدى وَاعْتِبَار)

فَقَالَ النَّبِي صلى الله عليه وسلم َ: على رسلك ياجارود فلست أنساه بسوق عكاظ على جمل أَوْرَق وَهُوَ يتَكَلَّم بِكَلَام مَا أَظن أَنِّي أحفظه. فَقَالَ أَبُو بكر رضي الله عنه: يَا رَسُول الله فَإِنِّي أحفظه: كنت حَاضرا ذَلِك الْيَوْم بسوق عكاظ فَقَالَ فِي خطبَته: يَا أَيهَا النَّاس اسمعوا وعوا فَإِذا وعيتم فانتفعوا إِنَّه من عَاشَ مَاتَ وَمن مَاتَ فَاتَ وكل مَا هُوَ آتٍ أت. . إِلَى آخر مَا أوردهُ من الْوَعْظ.

وَالَّذِي فِي كتاب المعمرين لأبي حَاتِم السجسْتانِي: عَاشَ قس بن سَاعِدَة ثلثمِائة وَثَمَانِينَ سنة وَقد أدْرك نَبينَا صلى الله عليه وسلم َ وَسمع النَّبِي صلى الله عليه وسلم َ حكمته وَهُوَ أول من آمن بِالْبَعْثِ من أهل الْجَاهِلِيَّة وَأول من توكأ على عَصا وَأول من قَالَ أما بعد. وَكَانَ من حكماء الْعَرَب. وَهُوَ أول من كتب من فلَان إِلَى فلَان ابْن فلَان.

وَقَالَ المرزباني: ذكر كثير من أهل الْعلم أَنه عَاشَ سِتّمائَة سنة.

ص: 90

وَذكر الجاحظ فِي الْبَيَان والتبيين قساً وَقَومه وَقَالَ: إِن لَهُ ولقومه فَضِيلَة لَيست لأحد من الْعَرَب)

لِأَن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم َ روى كَلَامه وموقفه على جمله بعكاظ وموعظته. وَعجب من حسن كَلَامه وَأظْهر تصويبه. وَهَذَا شرف تعجز عَنهُ الْأَمَانِي وتنقطع دونه الآمال. وَإِنَّمَا وفْق الله ذَلِك لقس لاحتجاجه للتوحيد ولإظهار الْإِخْلَاص وإيمانه بِالْبَعْثِ وَمن ثمَّ كَانَ قس خطيب الْعَرَب قاطبة.

وَفِي نسبه خلاف. فَقيل قس بن سَاعِدَة بن حذافة بن زفر وَقيل حذافة بن زهر بن إياد بن نزار.

وَقيل هُوَ قس بن سَاعِدَة بن عَمْرو بن عدي بن مَالك بن ايدعان بن النمر بن وَاثِلَة بن الطشان بن عوذ بن مَنَاة بن يقدم بن أفصى بن دعمي بن إياد. وَقيل: هُوَ ابْن سَاعِدَة بن عَمْرو بن شمر بن عدي بن مَالك وَالله أعلم.

وَأنْشد بعده:

(أحقاً بني أَبنَاء سلمى بن جندل

تهددكم إيَّايَ وسط الْمجَالِس)

ص: 91

على أَن حَقًا ظرف مَنْصُوب بِتَقْدِير فِي.

وَتقدم شَرحه فِي الشَّاهِد الرَّابِع وَالسِّتِّينَ من بَاب الْمُبْتَدَأ.

وَأنْشد بعده وَهُوَ

الشَّاهِد الثَّالِث وَالتِّسْعُونَ وَهُوَ من شَوَاهِد سِيبَوَيْهٍ:

(دَعَوْت لما نابني مسوراً

فلبى فلبي يَدي مسور)

على أَن لبيْك مثنى عِنْد سِيبَوَيْهٍ لَا مُفْرد ك لَدَى قلبت ألفها يَاء لما أضيفت إِلَى الْمُضمر خلافًا ليونس بِدَلِيل بَقَاء يائها مُضَافَة إِلَى الظَّاهِر كَمَا فِي هَذَا الْبَيْت.

أما الأول فقد قَالَ أَبُو حَيَّان فِي الارتشاف: ذهب الْخَلِيل وسيبويه وَالْجُمْهُور إِلَى أَن لبيْك تَثْنِيَة وَحكى سِيبَوَيْهٍ عَن بعض الْعَرَب لب على أَنه مُفْرد لبيْك غير أَنه مَبْنِيّ على الْكسر كأمس وعلق لقلَّة تمكنه ونصبه نصب الْمصدر كَأَنَّهُ قَالَ: إِجَابَة. وَزعم ابْن مَالك أَنه اسْم فعل. وَهُوَ فَاسد لِإِضَافَتِهِ ويضاف إِلَى الظَّاهِر تَقول: لبي زيد وَإِلَى ضمير الْغَائِب قَالُوا: لبيه. وَدَعوى الشذوذ فيهمَا بَاطِلَة. انْتهى.

وَهَذَا مُخَالف لما قَالَه ابْن هِشَام فِي الْمُغنِي: أَن شَرط مجرور لبي وسعدي وحناني ضمير الْخطاب وشذ:

ص: 92

(دَعونِي فيا لبي إِذا هدرت لَهُم

شقاشق أقوامٍ فأسكتها بَدْرِي)

لعدم الْإِضَافَة وَنَحْو: لَقلت لبيه لمن يدعوني لِإِضَافَتِهِ إِلَى ضمير الْغَيْبَة كَمَا شَذَّ إِضَافَته إِلَى الظَّاهِر فِي قَوْله: فلبى فلبي يَدي مسور وَأما الثَّانِي فَهُوَ اسْم مُفْرد مَقْصُور عِنْد يُونُس. قَالَ ابْن جني فِي سر الصِّنَاعَة: أَصله عِنْده لببٌ ووزنه فعللٌ وَلَا يجوز أَن تحمله على فعل لقلَّة فعل فِي الْكَلَام وَكَثْرَة فعلل فقلبت الْبَاء الَّتِي هِيَ اللَّام الثَّانِيَة من لبب يَاء هرباً من التَّضْعِيف فَصَارَ لبي ثمَّ أبدل الْيَاء ألفا لتحركها وانفتاح مَا قبلهَا فَصَارَت لبا ثمَّ إِنَّهَا لما وصلت بِالْكَاف فِي لبيْك وبالهاء فِي لبيه قلبت الْألف يَاء كَمَا قلبت فِي على ولدى إِذا وصلتها بالضمير وَوجه الشّبَه بَينهمَا: أَنه اسْم لَيْسَ لَهُ تصرف غَيره فِي الْأَسْمَاء لِأَنَّهُ لَا يكون إِلَّا مَنْصُوبًا

ص: 93

وَلَا يكون إِلَّا مُضَافا كَمَا أَن إِلَيْك وَعَلَيْك ولديك لَا تكون إِلَّا مَنْصُوبَة الْمَوَاضِع مُلَازمَة للإضافة فقلبوا أَلفه يَاء فَقَالُوا: لبيْك كَمَا قَالُوا: عَلَيْك. وَنَظِير هَذَا كلا وكلتا فِي قلب ألفهما يَاء مَتى اتَّصَلت بضمير وَكَانَت فِي مَوضِع نصب أَو جر وَلم يقلبوا الْألف فِي)

مَوضِع الرّفْع يَاء لِأَنَّهُمَا بعدا برفعهما عَن شبه عَلَيْك ولديك إِذْ كَانَ لاحظ لَهُنَّ فِي الرّفْع.

وَاحْتج سِيبَوَيْهٍ على يُونُس فَقَالَ: لَو كَانَت يَاء إِلَيْك بِمَنْزِلَة يَاء عَلَيْك ولديك لوَجَبَ مَتى أضفتها إِلَى الْمظهر أَن تقرها ألفا فلبي فِي هَذَا الْبَيْت بِالْيَاءِ مَعَ إِضَافَته إِلَى الْمظهر دلَالَة على أَنه اسْم مثنى.

وَأجَاب ابْن جني فِي الْمُحْتَسب: بِأَن من الْعَرَب من يُبدل ألف الْمَقْصُور فِي الْوَقْف يَاء فَيَقُول: هَذِه عصي وَرَأَيْت حبلي وَمِنْهُم من يبدلها واواً فِيهِ أَيْضا فَيَقُول: هَذِه عصو وحبلو وَفِي الْوَصْل أَيْضا نَحْو هَذِه حبلو يَا فَتى وَمِنْه قِرَاءَة الْحسن: يَوْم يَدْعُو كل أناسٍ بِضَم الْيَاء وَفتح الْعين.

وعَلى هَذَا التَّخْرِيج يسْقط قَول سِيبَوَيْهٍ عَن يُونُس.

قَالَ أَبُو عَليّ: يُمكن يُونُس أَن يَقُول: إِنَّه أجْرى الْوَصْل مجْرى الْوَقْف فَكَمَا يَقُول فِي الْوَقْف: عصى وفتى كَذَلِك قَالَ: فلبي ثمَّ وصل على ذَلِك. هَذَا مَا قَالَه أَبُو عَليّ. وَعَلِيهِ يُقَال: كَيفَ يحسن تَقْدِير الْوَقْف على الْمُضَاف دون الْمُضَاف إِلَيْهِ وَجَوَابه أَن ذَلِك قد جَاءَ أنْشد أَبُو زيد: ضخم نجاري طيبٌ عنصري أَرَادَ عنصري فثقل الرَّاء لنِيَّة الْوَقْف ثمَّ أطلق يَاء الْإِضَافَة من بعد.

ص: 94

وَإِذا جَازَ هَذَا التَّوَهُّم مَعَ أَن الْمُضَاف إِلَيْهِ مُضْمر والمضمر الْمَجْرُور لَا يجوز تصور انْفِصَاله فجوازه مَعَ الْمظهر أولى من حَيْثُ كَانَ الْمظهر أقوى من الْمُضمر. وَمثله قَوْله: يَا ليتها قد خرجت من فَمه أَرَادَ: من فَمه ثمَّ نوى الْوَقْف على الْمِيم فثقلها على حد قَوْلهم فِي الْوَقْف: هَذَا خالدٌ وَهُوَ يَجْعَل ثمَّ أضَاف على ذَلِك. ويروى: من فَم يضم الْمِيم أَيْضا وَفِيه أَكثر من هَذَا. انْتهى.

فوزن لبيْك عِنْدهمَا فَعَلَيْك وَعند يُونُس فعللك.

وَاعْلَم أَن الشَّارِح جوز أَن يكون أصل لبيْك إِمَّا إلبابين حذف مِنْهَا

الزَّوَائِد وَإِمَّا من لب بِالْمَكَانِ بِمَعْنى أَقَامَ فَلَا حذف. وَيَنْبَغِي أَن يكون الْمَأْخُوذ مِنْهُ هَذَا فَإِنَّهُ لَا تكلّف فِيهِ وَفعله وَوَصفه ثَابت أما الْفِعْل فقد روى الْمفضل بن سَلمَة فِي الفاخر: أَنه يُقَال: لب بِالْمَكَانِ: إِذا أَقَامَ فِيهِ وَأنْشد قَول الراجز: وَأما الْوَصْف فقد قَالَ صَاحب الصِّحَاح: وَرجل لبٌ أَي: لَازم لِلْأَمْرِ وَأنْشد: لبا بأعجاز الْمطِي لاحقا)

ص: 95

وَرجل لَبِيب مثل لب قَالَ:

(فَقلت لَهَا فيئي إِلَيْك فإنني

حرامٌ وَإِنِّي بعد ذَاك لَبِيب)

وَقيل: هُوَ بِمَعْنى ملب بِالْحَجِّ من التَّلْبِيَة وَحرَام: بِمَعْنى محرم وَبعد ذَاك أَي: مَعَ ذَاك. وَقيل: إِنَّه مَأْخُوذ من قَوْلهم: دَاري تلب دَارك أَي: تقَابلهَا فَيكون مَعْنَاهُ: اتجاهي إِلَيْك وإقبالي عَلَيْك.

حَكَاهُمَا المضل فِي الفاخر وَأسْندَ أَولهمَا إِلَى الْخَلِيل عَن أبي عبيد. وَقيل: مَعْنَاهُ إخلاصي لَك من قَوْلهم: حسبٌ لباب.

وَاخْتلف فِي كَاف لبيْك فَقَالَ أَبُو حَيَّان فِي الارتشاف: وَهِي فِي لبيْك وَسَعْديك وحنانيك الْوَاقِع موقع الَّذِي هُوَ خير فِي مَوضِع الْمَفْعُول وَفِي دواليك وهذاذيك وحنانيك إِذا وَقعت موقع الطّلب فِي مَوضِع الْفَاعِل. وَذهب الأعلم إِلَى أَن الْكَاف حرف خطاب فَلَا مَوضِع لَهَا من الْإِعْرَاب.

وحذفت النُّون لشبه الْإِضَافَة. وَيجوز اسْتِعْمَال لبيْك وَحده وَأما سعديك فَلَا يسْتَعْمل إِلَّا تَابعا للبيك. انْتهى.

وَقَوله فِي الْبَيْت فلبى هُوَ فعل مَاض من التَّلْبِيَة وفاعله الضَّمِير الْعَائِد إِلَى مسور قَالَ الشَّارِح الْمُحَقق وَأما قَوْلهم: لبّى يُلَبِّي فَهُوَ مُشْتَقّ من لبيْك لِأَن معنى لبّى: قَالَ لبيْك كَمَا أَن معنى سبح وَسلم وبسمل: قَالَ سُبْحَانَ الله وَسَلام عَلَيْك وبسم الله.

وَهَذَا مَأْخُوذ من سر الصِّنَاعَة لِابْنِ جني فَإِنَّهُ قَالَ: فَأَما حَقِيقَة لبيت عِنْد أهل الصَّنْعَة فَلَيْسَ أصل يائه بَاء وَإِنَّمَا الْيَاء فِي لبيت هِيَ الْيَاء فِي قَوْلهم:

ص: 96

لبيْك وَسَعْديك اشتقوا من الصَّوْت فعلا مجمعا من حُرُوفه كَمَا قَالُوا من سُبْحَانَ الله: سبحت أَي: قلت سُبْحَانَ الله وَمن لَا إِلَه إِلَّا الله: هللت وَمن لَا حول وَلَا قُوَّة إِلَّا بِاللَّه: حوقلت وحولقت وَمن بِسم الله: بسملت وَمن هَلُمَّ وَهُوَ مركب من هَا وَلم عندنَا وَهل وَأم عِنْد البغداديين فَقَالُوا: هلممت.

وَكتب إِلَيّ أَبُو عَليّ فِي شَيْء سَأَلته عَنهُ قَالَ: قَالَ بَعضهم: سَأَلتك حَاجَة فَلَا لَيْت لي أَي قلت لي: لَا وَسَأَلْتُك حَاجَة فلوليت لي أَي: قلت لي: لَوْلَا قَالَ: وَقَالُوا: بأبأ الصَّبِي أَبَاهُ أَي: قَالَ لَهُ بَابا. وَكَذَلِكَ اشتقوا أَيْضا لبيت من لفظ لبيْك فجاؤوا فِي لبيت بِالْيَاءِ الَّتِي هِيَ للتثنية.

ثمَّ قَالَ ابْن جني: وَقَول من قَالَ: إِن لبيت بِالْحَجِّ إِنَّمَا هُوَ من قَوْلنَا ألب بِالْمَكَانِ إِلَى قَول يُونُس أقرب مِنْهُ إِلَى قَول سِيبَوَيْهٍ. أَلا ترى أَن الْيَاء فِي لبيْك عِنْد يُونُس إِنَّمَا هِيَ بدل من الْألف المبدلة من الْيَاء المبدلة من الْبَاء الثَّالِثَة فِي لبب. انْتهى.)

وَعِنْدِي أَن التَّلْبِيَة من مَادَّة معتلة غير مَادَّة المضاعف ونظائره كَثِيرَة مثل صر وصرى فَإِن لبّى غير منحصر مَعْنَاهُ فِي قَالَ لبيْك بل يَأْتِي بِمَعْنى أَقَامَ ولازم مثل ألب بِالْمَكَانِ قَالَ طفيل الغنوي أنْشدهُ الْمفضل فِي الفاخر:

(رددن حصيناً من عدي ورهطه

وتيم تلبي فِي العروج وتحلب)

أَي: تلازمها وتقيم بهَا.

ص: 97

وَقَوله لما نابني: اللَّام للتَّعْلِيل. وَاسْتشْهدَ بِهِ صَاحب الْكَشَّاف على أَن اللَّام فِي قَوْله تَعَالَى: يدعوكم ليغفر لكم تَعْلِيله كَمَا فِي هَذَا الْبَيْت. ومسور بِكَسْر الْمِيم: اسْم رجل. وَالْفَاء الأولى عطفت جملَة لبّى على جملَة دَعَوْت وَالثَّانيَِة سَبَبِيَّة ومدخولها جملَة دعائية يَقُول: دَعَوْت مسوراً لدفع مَا نابني فَأَجَابَنِي أجَاب الله دعاءه قَالَ الشاطبي فِي شرح الألفية: رُوِيَ فِي بعض الْأَحَادِيث عَن النَّبِي صلى الله عليه وسلم َ أَنه قَالَ: إِذا دَعَا أحدكُم أَخَاهُ فَقَالَ لبيْك فَلَا يَقُولَن لبي يَديك وَليقل أجابك الله بِمَا تحب. وَهَذَا يشْعر بِأَن عَادَة الْعَرَب إِذا دعت فأجيبت بلبيك أَن تَقول: لبي يَديك فَنهى عليه الصلاة والسلام ُ عَن هَذَا القَوْل وَعوض مِنْهُ كلَاما حسنا.

وَقَالَ الأعلم: يَقُول: دَعَوْت مسوراً لدفع نَائِبه نابتني فَأَجَابَنِي بالعطاء فِيهَا وكفاني مؤنتها. وَكَأَنَّهُ سَأَلَهُ فِي دِيَة. وَإِنَّمَا لبّى يَدَيْهِ لِأَنَّهُمَا الدافعتان إِلَيْهِ مَا سَأَلَهُ مِنْهُ فخصهما بِالتَّلْبِيَةِ لذَلِك.

(دَعَوْت فَتى أجَاب فَتى دَعَاهُ

بلبيه أَشمّ شمردلي)

وَأنْشد بعده وَهُوَ

الشَّاهِد الرَّابِع وَالتِّسْعُونَ وَهُوَ من أَبْيَات س:

ص: 98

(إِذا شقّ بردٌ شقّ بالبرد مثله

دواليك حَتَّى كلنا غير لابس)

على أَن دواليك مَنْصُوب بعامل مَحْذُوف.

قَالَ: يُقَال دواليك أَي: تداول الْأَمر دوالين ظَاهره أَن دواليك بدل من فعل الْأَمر. وَلَيْسَ كَذَلِك كَمَا يعلم مِمَّا سَيَأْتِي.

اعْلَم أَن دوالين مثنى دوال والدوال بِالْكَسْرِ: مصدر داولت الشَّيْء مداولة ودولا وبالفتح: اسْم مصدر. وَرُوِيَ بِالْوَجْهَيْنِ مَا أنْشدهُ أَبُو زيد فِي نوادره لضباب بن سبيع بن عَوْف الْحَنْظَلِي:

(جزوني بِمَا ربيتهم وحملتهم

كَذَلِك مَا أَن الخطوب دوال)

والتداول: حُصُول الشَّيْء فِي يَد هَذَا تَارَة وَفِي يَد ذَاك أُخْرَى وَالِاسْم الدولة بِفَتْح الدَّال وَضمّهَا وَمِنْهُم من يَقُول: الدولة بِالضَّمِّ فِي المَال وبالفتح فِي الْحَرْب ودالت الْأَيَّام مثل دارت وزنا وَمعنى. ودواليك مَعْنَاهُ مداولة بعد مداولة وَثني لِأَنَّهُ فعل اثْنَيْنِ.

قَالَ الشاطبي: وَلَا تجوز إِضَافَته إِلَى الظَّاهِر لَا تَقول: دوالي زيد. وَقَالَ الأعلم: الْكَاف للخطاب وَلذَلِك لم يتعرف بهَا مَا قبلهَا.

وَأنْشد سِيبَوَيْهٍ هَذَا الْبَيْت على أَن دواليك مصدر وضع مَوضِع الْحَال.

ص: 99

وَدلّ قَوْله: إِذا شقّ برد على الْفِعْل الَّذِي نصب دواليك أَي: نشقهما متداولين بإضمار فعل لَهُ وَلها يعْمل فِي دواليك. وَرُوِيَ: إِذا شقّ بردٌ شقّ بالبرد برقع

يَعْنِي أَنه يشق برقعها وَهِي تشق برده. وَمَعْنَاهُ: أَن الْعَرَب يَزْعمُونَ أَن المتحابين إِذا شقّ كل وَاحِد مِنْهُمَا ثوب صَاحبه دَامَت مودتهما وَلم تفْسد. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَة: كَانَ من شَأْن الْعَرَب إِذا تجالسوا مَعَ الفتيات للتغزل أَن يتعابثوا بشق الثِّيَاب لشدَّة المعالجة عَن إبداء المحاسن. وَقيل إِنَّمَا يَفْعَلُونَ ذَلِك ليذكر كل وَاحِد مِنْهُمَا صَاحبه بِهِ.

وَقَالَ الْعَيْنِيّ: كَانَت عَادَة الْعَرَب فِي الْجَاهِلِيَّة أَن يلبس كل وَاحِد من الزَّوْجَيْنِ برد الآخر ثمَّ يتداولان على تخريقه حَتَّى لَا يبْقى فِيهِ لبس طلبا لتأكيد الْمَوَدَّة. وَقَالَ الْجَوْهَرِي: يزْعم النِّسَاء إِذا شقّ أحد الزَّوْجَيْنِ عِنْد البضاع شَيْئا من ثوب صَاحبه دَامَ الود بَينهمَا وَإِلَّا تهاجرا.)

وشق فِي الْمَوْضِعَيْنِ بِالْبِنَاءِ للْمَفْعُول وبردٌ وَمثله: نَائِبا الْفَاعِل وَالْبَاء للمقابلة. وَالْبرد: الثَّوْب من أَي شَيْء كَانَ وَقَالَ أَبُو حَاتِم: لَا يُقَال لَهُ برد حَتَّى يكون فِيهِ وشي فَإِن كَانَ من صوف فَهُوَ بردة. وَحَتَّى ابتدائية وكلنَا مُبْتَدأ وَغير لابس خَبره.

وروى الْعَيْنِيّ: لَيْسَ للبرد لابس كصاحب الصِّحَاح. وَهُوَ غير صَحِيح فَإِن القوافي مجرورة.

وَأثبت صَاحب الصِّحَاح هذاذيك مَوضِع دواليك وَالصَّوَاب مَا ذكرنَا. وأنشده سِيبَوَيْهٍ أَيْضا كصاحب الصِّحَاح فَيكون فِيهِ إقواء.

ص: 100

وَهَذَا الْبَيْت من قصيدة لسحيم عبد بني الحسحاس. وأولها:

(كَأَن الصبيريات يَوْم لقيننا

ظباءٌ حنت أعناقها للمكانس)

(وَهن بَنَات الْقَوْم إِن يشعروا بِنَا

يكن فِي ثِيَاب الْقَوْم إِحْدَى الدهارس)

وَقبل الْبَيْت الشَّاهِد:

(فكم قد شققنا من رداءٍ منيرٍ

على طفلةٍ ممكورةٍ غير عانس)

قَالَ ابْن السَّيِّد: أَرَادَ بالصبيريات: نسَاء بني صبيرة بن يَرْبُوع. وحنت: أمالت. والمكانس: جمع مكنس بِمَعْنى الكناس وَهُوَ مَوضِع الظباء فِي الشّجر يكتن فِيهِ ويستتر وكنس الظبي يكنس بِالْكَسْرِ. والدهارس: بِفَتْح الدَّال: الدَّوَاهِي جمع دهرس كجعفر والدهاريس جمع الْجمع.

والرداء الْمُنِير: الَّذِي لَهُ نير بِالْكَسْرِ وَهُوَ علم الثَّوْب. وَجَارِيَة طفلة بِفَتْح الطَّاء أَي: ناعمة.

وَالْمُنَاسِب لقَوْله غير عانس أَن يكون طفلة بِكَسْر الطَّاء. والممكورة: المطوية الْخلق من النِّسَاء يُقَال: امْرَأَة ممكورة السَّاقَيْن أَي: جدلاء مفتولة.

وَقَالَ ابْن السَّيِّد: الممكورة: الطَّوِيلَة الْخلق. والعانس بالنُّون فِي الصِّحَاح: عنست الْجَارِيَة تعنس عنوساً وعناساً فَهِيَ عانس وَذَلِكَ إِذا طَال مكثها فِي منَازِل أَهلهَا بعد إِدْرَاكهَا حَتَّى خرجت من عداد الْأَبْكَار وَهَذَا مَا لم تتَزَوَّج فَإِن تزوجت مرّة فَلَا يُقَال عنست. يَقُول: إِذا شقّ هَؤُلَاءِ

ص: 101

النِّسَاء اللَّاتِي يلعبن معي بردي شققت أَنا أَيْضا أرديتهن وبراقعهن حَتَّى نعرى جَمِيعًا. وَمثل هَذَا قَول رجل من بني أَسد:

(كَأَن ثِيَابِي نازعت شوك عرفطٍ

ترى الثَّوْب لم يخلق وَقد شقّ جَانِبه)

وسحيمٌ عبد بني الحسحاس من المخضرمين: قد أدْرك الْجَاهِلِيَّة وَالْإِسْلَام. وَلَا يعرف لَهُ صُحْبَة. وَكَانَ أسود شَدِيد السوَاد. وَبَنُو الحسحاس قَالَ بن هِشَام فِي السِّيرَة: هم من بني أَسد)

بن خُزَيْمَة والحسحاس بمهملات هُوَ ابْن نفاثة بن سعد ابْن عَمْرو بن مَالك بن ثَعْلَبَة بن دودان بن أَسد بن خُزَيْمَة بن مدركة بن إلْيَاس. وَمن شعر سحيم:

(إِن كنت عبدا فنفسي حرةٌ كرماً

أَو أسود اللَّوْن إِنِّي أَبيض الْخلق)

وَله القصيدة الْمَشْهُورَة الَّتِي مطْلعهَا وَهُوَ من شَوَاهِد مُغنِي اللبيب:

قَالَ الْمبرد فِي الْكَامِل: وَكَانَ عبد بني الحسحاس يرتضخ لكنةً حبشية فَلَمَّا أنْشد عمر بن الْخطاب رضي الله عنه هَذَا المطلع قَالَ لَهُ عمر: لَو كنت قدمت الْإِسْلَام على الشيب لأجزتك.

فَقَالَ سحيم: مَا سعرت يُرِيد مَا شَعرت.

وَفِي الأغاني للأصبهاني من طَرِيق أبي عُبَيْدَة قَالَ: كَانَ سحيم أسود أعجمياً أدْرك النَّبِي صلى الله عليه وسلم َ وَقد تمثل النَّبِي صلى الله عليه وسلم َ من شعره روى المرزباني فِي تَرْجَمته والدينوري فِي المجالسة من طَرِيق

ص: 102

عَليّ بن يزِيد عَن الْحسن رضي الله عنه أَن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم َ قَالَ: كفى بِالْإِسْلَامِ والشيب للمرء ناهياً فَقَالَ لَهُ أَبُو بكر رضي الله عنه إِنَّمَا قَالَ الشَّاعِر: كفى الشيب وَالْإِسْلَام للمرء ناهياً فَأَعَادَهَا النَّبِي صلى الله عليه وسلم َ كَالْأولِ فَقَالَ أَبُو بكر: أشهد إِنَّك لرَسُول الله وَمَا علمناه الشّعْر وَمَا يَنْبَغِي لَهُ. وَقَالَ عمر بن شبة: قدم سحيم بعد ذَلِك على عمر بن الْخطاب فأنشده هَذِه القصيدة فَقَالَ لَهُ عمر: لَو قدمت الْإِسْلَام لأجزتك.

وَقتل سحيم فِي خلَافَة عُثْمَان. قَالَ بن حجر فِي الْإِصَابَة: يُقَال إِن سَبَب قَتله أَن امْرَأَة من بني الحسحاس أسرها بعض الْيَهُود واستخصها لنَفسِهِ وَجعلهَا فِي حصن لَهُ فَبلغ ذَلِك سحيماً فَأَخَذته الْغيرَة فَمَا زَالَ يتحيل لَهُ حَتَّى تسور على الْيَهُودِيّ حصنه فَقتله وخلص الْمَرْأَة فأوصلها إِلَى قَومهَا فَلَقِيته يَوْمًا فَقَالَت لَهُ: يَا سحيم وَالله لَوَدِدْت أَنِّي قدرت على مكافأتك على تخليصي من الْيَهُودِيّ فَقَالَ لَهَا: وَالله إِنَّك لقادرة على ذَلِك عرض لَهَا بِنَفسِهَا فاستحيت وَذَهَبت ثمَّ لَقيته مرّة أُخْرَى فَعرض لَهَا بذلك فأطاعته فهويها وطفق يتغزل فِيهَا ففطنوا لَهُ فَقَتَلُوهُ خشيَة الْعَار.

وَقَالَ ابْن حبيب: أنْشد رَسُول الله صلى الله عليه وسلم َ قَول سحيم عبد بني الحسحاس:

(الْحَمد لله حمداً لَا انْقِطَاع لَهُ

فَلَيْسَ إحسانه عَنَّا بمقطوع))

فَقَالَ: أحسن وَصدق وَإِن الله يشْكر مثل هَذَا وَلَئِن سدد وقارب إِنَّه لمن أهل الْجنَّة. انْتهى.

ص: 103

وَقَالَ اللَّخْمِيّ فِي شرح شَوَاهِد الْجمل: اسْم عبد بني الحسحاس سحيم وَقيل اسْمه حَيَّة ومولاه جندل بن معبد من بني الحسحاس. وَكَانَ سحيم حَبَشِيًّا أعجمي اللِّسَان ينشد الشّعْر ثمَّ يَقُول: أهشند وَالله يُرِيد أَحْسَنت وَالله وَكَانَ عبد الله بن أبي ربيعَة قد اشْتَرَاهُ وَكتب إِلَى عُثْمَان بن عَفَّان رضي الله عنه: إِنِّي قد ابتعت لَك غُلَاما شَاعِرًا حَبَشِيًّا. فَكتب إِلَيْهِ عُثْمَان: لَا حَاجَة لي بِهِ فاردده فَإِنَّمَا قصارى أهل العَبْد الشَّاعِر إِن شبع أَن يشبب بنسائهم وَإِن جَاع أَن يهجوهم. فَرده عبد الله فَاشْتَرَاهُ أَبُو معبد فَكَانَ كَمَا قَالَ عُثْمَان رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ: شَبَّبَ فَمن ذَلِك قَوْله فِيهَا:

(ألكني إِلَيْهَا عمرك الله يافتى

بِآيَة مَا جَاءَت إِلَيْنَا تهادياً)

(وبتنا وسادانا إِلَى علجانةٍ

وحقفٍ تهاداه الرِّيَاح تهاديا)

(وهبت شمالٌ آخر اللَّيْل قرةٌ

وَلَا ثوب إِلَّا بردهَا وردائيا)

(توسدني كفا وَتثني بمعصمٍ

عَليّ وتحوي رجلهَا من ورائيا)

(فَمَا زَالَ بردي طيبا من ثِيَابهَا

إِلَى الْحول حَتَّى أنهج الْبرد بَالِيًا)

ألكني إِلَيْهَا: مَعْنَاهُ ابلغ رسالتي إِلَيْهَا. والألوك: الرسَالَة. وعلجانة: شَجَرَة مَعْرُوفَة. والحقف: مَا تراكم من الرمل. والقرة بِالضَّمِّ: الْبرد. وانهج: أخلق.

وَذكر مُحَمَّد بن حبيب فِي كتاب من قتل من الشُّعَرَاء: أَن سحيماً كَانَ

ص: 104

صَاحب تغزل فاتهمه مَوْلَاهُ بابنته فَجَلَسَ لَهُ فِي مَكَان إِذا رعى سحيم قَالَ فِيهِ. فَلَمَّا اضْطجع تنفس الصعداء ثمَّ قَالَ:

(يَا ذكرةً مَالك فِي الْحَاضِر

تذكرها وَأَنت فِي السادر)

(من كل بَيْضَاء لَهَا كعشبٌ

مثل سَنَام الرّبع المائر)

فَقَالَ لَهُ سَيّده وَظهر من مَوْضِعه الَّذِي كَانَ كمن فِيهِ وَمَالك فلجلج فِي مَنْطِقه. فَلَمَّا رَجَعَ وهم على قَتله خرجت غليه صاحبته فَحَدَّثته وأخبرته بِمَا يُرَاد بِهِ فَقَامَ ينفض برده ويعفي أَثَره.

فَلَمَّا انْطلق بِهِ ليقْتل ضحِكت امْرَأَة كَانَ بَينه وَبَينهَا شَيْء فَقَالَ:

(إِن تضحكي مني فيا رب ليلةٍ

تركتك فِيهَا كالقباء المفرج)

فَلَمَّا قدم ليقْتل قَالَ:)

(شدوا وثاق العَبْد لَا يغلبكم

إِن الْحَيَاة من الْمَمَات قريب)

(فَلَقَد تحدر من جبين فتاتكم

عرقٌ على ظهر الْفراش وَطيب)

فَقتل. انْتهى.

تَتِمَّة قَالَ ابْن السَّيِّد فِي شرح شَوَاهِد الْجمل وَتَبعهُ ابْن خَافَ: إِن سحيماً مصغر أسحم وَهُوَ الْأسود تَصْغِير ترخيم وَيجوز أَن يكون مصغر سحم وَهُوَ ضرب

ص: 105

من النَّبَات وَالْأول أَجود لِأَنَّهُ كَانَ عبدا أسود. وَأما الحسحاس فالأشبه أَن يكون

اسْما مرتجلاً مشتقاً من قَوْلهم: حسحست الشواء: إِذا أزلت عَنهُ الْجَمْر والرماد وَقد يُمكن أَن يكون مَنْقُولًا لأَنهم قَالُوا: ذُو الحسحاس: الرجل الْجواد قَالَ الراجز: فَهُوَ قطعا مَنْقُول مِنْهُ. وَقَوله: من حسحست الشواء. . قَالَ فِي الصِّحَاح: وحسست اللَّحْم وحسحسته بِمَعْنى: إِذا جعلته على الْجَمْر. . وحسست النَّار: إِذا رَددتهَا بالعصا على خبْزَة الْملَّة أَو الشواء من نواحيه لينضج. وَمن كَلَامهم: قَالَت الخبزة: لَوْلَا الْحس مَا باليت بالدس.

فَكَلَامه لَا يُوَافق شَيْئا من هَذَا فَتَأمل.

وَأنْشد بعده وَهُوَ

الشَّاهِد الْخَامِس وَالتِّسْعُونَ وَهُوَ من أَبْيَات سِيبَوَيْهٍ: ضربا هذاذيك وطعناً وخضا على أَن هذاذيك بِمَعْنى أسْرع إسراعين أَي: ضربا يُقَال فِيهِ هذاذيك. أَرَادَ أَن هذاذيك بِمَعْنى أسْرع وَأَنه بدل من فعل الْأَمر. وَلَا يخفى أَنه بدل من الهذ وَهُوَ فِي جَمِيع تَصَرُّفَاته مَعْنَاهُ السرعة فِي الْقطع لَا السرعة مُطلقًا بل حكم اللحياني فِي نوادره أَن الهذ: الْقطع نَفسه. وَأنْشد هَذَا الْبَيْت.

وَكَذَلِكَ صَاحب الْقَامُوس قَالَ: هذاذيك: قطعا بعد قطع.

ص: 106

وهذاذيك لَيْسَ بَدَلا من فعل الْأَمر حَتَّى يحْتَاج إِلَى تَقْدِير القَوْل ليَصِح وُقُوعه وَصفا لما قبله بل مَعْنَاهُ ضربا يهذ هَذَا بعد هذٍ أَي: قطعا سَرِيعا بعد قطع سريع فَهُوَ صفة بِدُونِ إِضْمَار القَوْل والأنسب تهذ بِهِ هَذَا بِالْخِطَابِ ليظْهر كَونه مُضَافا لفَاعِله.

وَجوز شرَّاح أَبْيَات سِيبَوَيْهٍ وأبيات الْجمل أَن يكون بَدَلا من قَوْله ضربا وان يكون حَالا مِنْهُ على ضعف.

وَقَالَ ابْن هِشَام اللَّخْمِيّ: وَقيل: إِن هذاذيك مَنْصُوب بإضمار فعل من لَفظه وَذَلِكَ الْفِعْل فِي مَوضِع نصب على الصّفة للضرب وَذَلِكَ الضَّرْب مَنْصُوب بإضمار فعلٍ من لَفظه كَأَنَّهُ قَالَ: تضربه ضربا يهذ اللَّحْم هَذَا بعد هَذ أَو تطعنهم طَعنا وخضاً يردد دِمَائِهِمْ فِي أَجْوَافهم. وَقَالَ ابْن السَّيِّد: معنى ضربا هذاذيك: ضربا يهذك هَذَا بعد هَذ. وَهَذَا عكس الْمَعْنى المُرَاد كَأَنَّهُ ظن أَن الْمصدر مُضَاف لمفعوله وَلَيْسَ كَذَلِك.

وَهَذَا الْبَيْت من أرجوزة للعجاج مدح بهَا الْحجَّاج بن يُوسُف الثَّقَفِيّ عَامله الله بِمَا يسْتَحقّهُ وَذكر فِيهَا ابْن الْأَشْعَث وَأَصْحَابه. وَقَبله:

(تجزيهم بالطعن فرضا فرضا

وَتارَة يلقون قرضا قرضا)

(حَتَّى تقضي الْأَجَل المنقضا

ضربا هذاذيك وطعناً وخضا)

يمْضِي إِلَى عاصي الْعُرُوق النحضا

(جاؤوا مخلين فلاقوا حمضا

طاغين لَا يزْجر بعضٌ بَعْضًا)

قَوْله: تجزيهم الْخطاب للحجاج وَالضَّمِير الْمَنْصُوب لِابْنِ الْأَشْعَث

ص: 107

وَأَصْحَابه مُتَعَدٍّ لمفعولين)

يُقَال: جزاه الله خيرا. والطعن يكون بِالرُّمْحِ وَفعله من بَاب قتل. وَالْفَرْض بِالْفَاءِ: الحز فِي الشَّيْء وَالثَّانِي تَأْكِيد للْأولِ. وَالْقَرْض بِالْقَافِ: الْقطع وتقضي بِالْبِنَاءِ للْفَاعِل وَالْخطاب أَيْضا يُقَال قضى حَاجته بِالتَّشْدِيدِ كقضى بِالتَّخْفِيفِ: أَي: أتمهَا. والمنقض: السَّاقِط يُقَال انقض الْجِدَار أَي: سقط وانقض الطَّائِر: هوى فِي طيرانه. أَي: يجازيهم إِلَى أَن يتم أَجلهم المنقض عَلَيْهِم انقضاض الطير على صَيْده.

وَقَوله: ضربا هذاذيك: ضربا إِمَّا مَنْصُوب بِفعل مَحْذُوف أَي: تضربهم ضربا وَالْجُمْلَة حَال من فَاعل تقضى وَيجوز أَن يكون مَنْصُوبًا بِنَزْع الْخَافِض أَي:

بِضَرْب. والوخض بِفَتْح الْوَاو وَسُكُون الْخَاء الْمُعْجَمَة: مصدر وخضه بِمَعْنى طعنه من غير أَن ينفذ فِي جَوْفه. يُرِيد: إِنَّك تضرب أَعْنَاقهم وتطعن فِي أَجْوَافهم. ويمضي من الْإِمْضَاء يُقَال أمضيت الْأَمر: إِذا أنفذته ومفعوله النحض وَهُوَ بِفَتْح النُّون وَسُكُون الْمُهْملَة وَهُوَ اللَّحْم. وعاصي الْعُرُوق أَي: الْعُرُوق العاصية. فِي الصِّحَاح: العَاصِي: الْعرق الَّذِي لَا يرقأ. ومخلين: اسْم فَاعل من أخل إِذا طلب الْخلَّة بِضَم الْخَاء وَهِي من النبت مَا هُوَ حُلْو. والحمض بِفَتْح الْمُهْملَة وَسُكُون الْمِيم: مَا ملح وَأمر من النَّبَات كالأثل وترجمة العجاج قد تقدّمت فِي الشَّاهِد الْحَادِي وَالْعِشْرين.

ص: 108

وَأنْشد بعده وَهُوَ الشَّاهِد السَّادِس وَالتِّسْعُونَ: جاؤوا بمذق هَل رَأَيْت الذِّئْب قطّ على أَن قَوْلهم: هَل رَأَيْت وَقعت صفة مذق بِتَقْدِير القَوْل يَعْنِي أَن الْجُمْلَة الَّتِي تقع صفة شَرطهَا أَن تكون خبرية لِأَنَّهَا فِي الْمَعْنى كالخبر عَن الْمَوْصُوف فجملة هَل رَأَيْت. . ظَاهرهَا أَنَّهَا وَقعت صفة لمذق مَعَ أَنَّهَا استفهامية والاستفهام قسم من الْإِنْشَاء. فَأجَاب بِأَن التَّحْقِيق أَنَّهَا معمولة للصفة المحذوفة أَي: بمذق مقولٍ فِيهِ: هَل رَأَيْت أَو يَقُول فِيهِ من رَآهُ هَذَا القَوْل وَنَحْوه.

وَهَذَا الْبَيْت قد كرر الشَّارِح إنشاده فِي هَذَا الْكتاب فقد أوردهُ فِي النَّعْت وَفِي الْمَوْصُول مرَّتَيْنِ وَفِي أَفعَال الْقُلُوب وَفِي الْحُرُوف المشبهة بِالْفِعْلِ. وَرَوَاهُ الدينَوَرِي فِي النَّبَات وَابْن قُتَيْبَة فِي أَبْيَات الْمعَانِي والزجاجي وَابْن الشجري فِي أماليهما:

جاؤوا بضيحٍ هَل رَأَيْت الذِّئْب قطّ وَقَالَ الدينَوَرِي: نزل هَذَا الشَّاعِر بِقوم فقروه ضياحاً وَهُوَ اللَّبن الَّذِي قد أَكثر عَلَيْهِ من المَاء.)

وَقَالَ ابْن جني فِي الْمُحْتَسب: قَوْله هَل رَأَيْت: جملَة استفهامية إِلَّا أَنَّهَا فِي مَوضِع وصف الضيح حملا على مَعْنَاهَا دون لَفظهَا لِأَن الصّفة ضرب

ص: 109

من الْخَبَر فَكَأَنَّهُ قَالَ: جاؤوا بضيح يشبه لَونه لون الذِّئْب. والضيح هُوَ اللَّبن الْمَخْلُوط بِالْمَاءِ فَهُوَ يضْرب إِلَى الخضرة والطلسة.

وَأوردهُ صَاحب الْكَشَّاف عِنْد قَوْله تَعَالَى: وَاتَّقوا فتْنَة لَا تصيبن الَّذين ظلمُوا على أَن لَا تصيبن صفة لفتنة على إِرَادَة القَوْل كَهَذا الْبَيْت.

والمذق: اللَّبن الممزوج بِالْمَاءِ وَهُوَ يشبه لون الذِّئْب لِأَن فِيهِ غبرة وكدرة واصله مصدر مذقت اللَّبن: إِذا مزجته بِالْمَاءِ. وقط اسْتعْملت هُنَا مَعَ الِاسْتِفْهَام مَعَ أَنَّهَا لَا تسْتَعْمل إِلَّا مَعَ الْمَاضِي الْمَنْفِيّ لِأَن الِاسْتِفْهَام أَخُو النَّفْي فِي أَكثر الْأَحْكَام. لَكِن قَالَ ابْن مَالك: قد ترد قطّ فِي الْإِثْبَات.

وَاسْتشْهدَ لَهُ بِمَا وَقع فِي حَدِيث البُخَارِيّ فِي قَوْله: قَصرنَا الصَّلَاة فِي السّفر مَعَ النَّبِي صلى الله عليه وسلم َ أَكثر مَا كُنَّا قطّ. وَأما قَوْله: جاؤوا بمذق هَل رَأَيْت الذِّئْب قطّ فَلَا شَاهد فِيهِ لِأَن الِاسْتِفْهَام أَخُو النَّفْي. وَهَذَا مِمَّا خَفِي على كثير من النُّحَاة. انْتهى.

وَتَبعهُ الْكرْمَانِي عَلَيْهِ فِي شرح هَذَا الحَدِيث.

قَالَ الْمبرد فِي الْكَامِل: الْعَرَب تختصر التَّشْبِيه وَرُبمَا أَوْمَأت بِهِ إِيمَاء قَالَ

أحد الرجاز:

(بتنا بحسانٍ ومعزاه يئط

مَا زلت أسعى بَينهم وألتبط)

يَقُول فِي لون الذِّئْب. وَاللَّبن إِذا اخْتَلَط بِالْمَاءِ ضرب إِلَى الغبرة. انْتهى.

ص: 110

وبتنا: ماضٍ من الْمبيت فِي الْمِصْبَاح: بَات بِموضع كدا أَي: صَار بِهِ سَوَاء كَانَ فِي ليل أَو نَهَار وَبَات يفعل كَذَا: إِذا فعله لَيْلًا وَلَا يُقَال بِمَعْنى نَام. وَحسان: اسْم رجل ينْصَرف إِن اخذ من الْحسن وَلَا ينْصَرف إِن كَانَ من الْحسن بِالتَّشْدِيدِ. والمعزى: من الْغنم خلاف الضَّأْن وَهُوَ اسْم جنس وَكَذَلِكَ الْمعز وَالْوَاحد مَاعِز وَالْأُنْثَى ماعزة وَهِي العنز.

قَالَ سِيبَوَيْهٍ: ألف معزى للإلحاق بدرهم ى للتأنيث فَهُوَ منون مَصْرُوف بِدَلِيل تصغيره على معيز فَلَو كَانَت للتأنيث لم يقلبوها يَاء كَمَا لم يقلبوها فِي حبيلى وَهُوَ مُضَاف إِلَى ضمير حسان.

ويئط: مضارع أط أَي: صَوت جَوْفه من الْجُوع والمصدر الأطيط كَذَا فِي الصِّحَاح وَيَأْتِي بِمَعْنى تصويت الرحل وَالْإِبِل من ثقل أحمالها وَعَلِيهِ اقْتصر الْعَيْنِيّ وَلَا مُنَاسبَة لَهُ هُنَا.

وَرُوِيَ بعده بيتان زِيَادَة فِي بعض الرِّوَايَات وهما:)

يلمس أُذُنه وحيناً يمتخط يُقَال: امتخط وتمخط أَي: استنثر وَرُبمَا قَالُوا: امتخط مَا فِي يَده: نَزعه واختلسه كَذَا فِي الصِّحَاح.

فِي سمنٍ مِنْهُ كثيرٍ وأقط مُتَعَلق بقوله يمتخط. وَالسمن بِسُكُون الْمِيم وَفتحهَا هُنَا للضَّرُورَة. والأقط: قَالَ الْأَزْهَرِي: اللَّبن المخيض يطْبخ ثمَّ يتْرك حَتَّى يمصل وَهَذَا يدل على خسته ودنسه.

مَا زلت أسعى بَينهم وألتبط

ص: 111

أعَاد الضَّمِير من بَينهم إِلَى حسان بِاعْتِبَار حيه وقبيلته أسعى بَينهم أَي: أتردد إِلَيْهِم وألتبط: أعدو يُقَال التبط الْبَعِير: إِذا عدا وَضرب بقوائمه الأَرْض وتلبط: اضْطجع وتمرغ. وروى بدله: وأختبط أَي: أسأَل معروفهم من غير وَسِيلَة وَهَذَا يدل على كَمَال شحهم حَيْثُ كَانَ ضيفاً عِنْدهم لم يشبعوه مَعَ أَنه يعرض لمعروفهم.

حَتَّى إِذا كَانَ الظلام يخْتَلط غَايَة لقَوْله أسعى وألتبط. وَكَاد: قرب. وروى: حَتَّى إِذا جن الظلام وَاخْتَلَطَ يُرِيد ستر الظلام كل شَيْء. وَصفهم بالشح وَعدم إكرامهم الضَّيْف وَبَالغ فِي أَنهم لم يَأْتُوا بِمَا أَتَوا بِهِ إِلَّا بعد سعي ومضي جَانب من اللَّيْل ثمَّ لم يَأْتُوا إِلَّا بِلَبن أَكْثَره مَاء.

وَهَذَا الرجز لم ينْسبهُ أحد من الروَاة إِلَى قَائِله. وَقيل: قَائِله العجاج وَالله أعلم.

وَأنْشد بعده وَهُوَ وَهُوَ من شَوَاهِد سِيبَوَيْهٍ:

(فَقَالَت: حنانٌ مَا أَتَى بك هَهُنَا

أذو نسب أم أَنْت بالحي عَارِف)

ص: 112

على أَن لبيْك ودواليك وَنَحْوهمَا مصَادر لم تسْتَعْمل إِلَّا للتكرير بِخِلَاف حنانيك فَإِنَّهُ يسْتَعْمل حنان: يُرِيد أَن حنانيك لَا يلْزم أَن يكون للتكرير بل قد يكون لَهُ وَقد لَا يكون بل قد اسْتعْمل مُفردا كَمَا فِي هَذَا الْبَيْت. وَيُزَاد عَلَيْهِ

دواليك أَيْضا فَإِنَّهُ لَا يلْزم وَقد اسْتعْمل مفرده كَمَا تقدم قَرِيبا.

والحنان الرَّحْمَة وَهُوَ مصدر حن يحن بِالْكَسْرِ حناناً وتحنن عَلَيْهِ: ترحم وَالْعرب تَقول حنانك)

يارب وحنانيك بِمَعْنى وَاحِد أَي: رحمتك كَذَا فِي الصِّحَاح.

وَقَالَ ابْن هِشَام فِي شرح الشواهد تبعا للفارسي فِي التَّذْكِرَة القصرية: وَالْأَصْل أتحنن عَلَيْك تحنناً ثمَّ حذف الْفِعْل وزائد الْمصدر فَصَارَ حناناً. انْتهى: وَهَذَا تكلّف مَعَ وجود حن يحن.

وأنشده سِيبَوَيْهٍ على أَن حناناً خبر مُبْتَدأ مَحْذُوف أَي شأني حنان وَالْأَصْل أحن حناناً فَحذف الْفِعْل وَرفع الْمصدر على الخبرية لتفيد الْجُمْلَة الاسمية الدَّوَام: وَمَا استفهامية مُبْتَدأ وَجُمْلَة أَتَى بك خَبره. ثمَّ سَأَلته عَن عِلّة مَجِيئه: هَل هُوَ نسب بَينه وَبَين قَومهَا أَو لمعْرِفَة بَينه وَبينهمْ وَالْمعْنَى: لأي شَيْء جِئْت إِلَى هُنَا أَلَك قرَابَة جِئْت إِلَيْهِم أم لَك معرفَة بالحي وَهَذَا الْبَيْت من جملَة أَبْيَات للمنذر بن دِرْهَم الْكَلْبِيّ ذكرهَا أَبُو مُحَمَّد الْأَعرَابِي فِي فرحة الأديب وَيَاقُوت فِي مُعْجم الْبلدَانِ عَن أبي الندى وَهِي:

(سقى رَوْضَة الثري عَنَّا وَأَهْلهَا

ركام سرى من آخر اللَّيْل رادف)

(أَمن حب أم الأشيمين وَذكرهَا

فُؤَادك معمودٌ لَهُ أَو مقارف)

ص: 113

(تمنيتها حَتَّى تمنيت أَن أرى

من الوجد كَلْبا للوكيعين آلف)

(أَقُول وَمَا لي حَاجَة فِي ترددي

سواهَا بِأَهْل الرَّوْض هَل أَنْت عاطف)

(وأحدث عهدٍ من أُميَّة نظرةٌ

على جَانب العلياء إِذْ أَنا وَاقِف)

(تَقول: حنان مَا أَتَى بك هَهُنَا

أذو نسبٍ أم أَنْت بالحي عَارِف)

(فَقلت لَهَا: ذُو حاجةٍ وَمُسلم

فَصم علينا المأزق المتضايف)

قَالَ ياقوت: رَوْضَة المثري بالثاء الْمُثَلَّثَة ويروى بِالْمُثَنَّاةِ. وَأَرَادَ بالوكيعين: الوكيع بن الطُّفَيْل الْكَلْبِيّ وَابْنه. انْتهى.

وَالظَّاهِر أَن المثري اسْم رجل أضيفت الرَّوْضَة إِلَيْهِ لكَونه كَانَ صَاحبهَا وَهُوَ اسْم مفعول من قَوْلهم: ثرى الله الْقَوْم أَي: كثرهم فَالْأَصْل مثروي قلبت الْوَاو يَاء وأدغمت عملا بالقاعدة أَهلهَا: مَعْطُوف على رَوْضَة. وركامٌ فَاعل سقى وَهُوَ بِضَم الرَّاء السَّحَاب المتراكم بعضه على بعض. والرادف نَعته وَمَعْنَاهُ الرَّاكِب خلف الشَّيْء يُرِيد: سحائب مترادفة بَعْضهَا خلف بعض. وَجُمْلَة سرى نعت لركام وصف بهَا قبل الْوَصْف بالمفرد.

وَقَوله: أَمن حب الْهمزَة للاستفهام. والأشيمين: مثنى أَشْيَم وَهُوَ الَّذِي بِهِ شامة. والمعمود: السقيم يُقَال عمده الْمَرَض أَي: فدحه وَرجل وعمود وعميد أَي: هده الْعِشْق. وَله: أَي:)

للحب. والمقارف: المقارب

ص: 114

يُقَال: قارفه أَي قاربه. وآلف: اسْم فَاعل من ألف يألف ألفة مُبْتَدأ للوكيعين خَبره وَالْجُمْلَة صفة كلب.

وَقَوله هَل أَنْت عاطف مقول أَقُول وَهُوَ خطاب لصَاحبه يطْلب مِنْهُ الْعَطف فِي الذّهاب إِلَى حيها مَعَه. وأحدث عهد أَي: أقرب مَا أعهده وأحفظه وَهُوَ مُبْتَدأ ونظرة خَبره. والعلياء بِفَتْح الْعين: مَوضِع وكل مَكَان عَال مشرفٍ. وَالْمُسلم من التَّسْلِيم بِمَعْنى التَّحِيَّة. وصم بِالْبِنَاءِ للْمَفْعُول أَي: سد علينا من الصمم وَهُوَ انسداد الْأذن وصم القارورة أَي: سدها وأصمها: جعل لَهَا صماماً بِالْكَسْرِ وَهُوَ مايسد بِهِ فمها. والمأزق بِالْهَمْز كمجلس: الْمضيق من أزق بالزاي الْمُعْجَمَة وَالْقَاف كفرح وَضرب أزقاً وأزقا: ضَاقَ. والمتضايف: الْمُجْتَمع الَّذِي أضيف بعضه على بعض.

وَمِمَّنْ نسب الْبَيْت الشَّاهِد للمنذر بن دِرْهَم الْكَلْبِيّ ابْن خَافَ والزمخشري فِي شرح أَبْيَات سِيبَوَيْهٍ وَفِي الْكَشَّاف اسْتشْهد بِهِ على أَن حنانا فِي قَوْله تَعَالَى: وَحَنَانًا من لدنا بِمَعْنى الرَّحْمَة. وَذكر مَعَه الْبَيْت الَّذِي قبله.

وَأنْشد بعده وَهُوَ الشَّاهِد الثَّامِن وَالتِّسْعُونَ: أَرضًا وذؤبان الخطوب تنوشني على أَن رضَا مصدر حذف فعله وجوبا للتوبيخ وَالْأَصْل: أترضى رضَا فالهمزة للإنكار التوبيخي وَهُوَ يَقْتَضِي أَن مَا بعْدهَا وَاقع وفاعله ملوم وَالْوَاو وَاو الْحَال. والذؤبان: جمع ذِئْب جمع كَثْرَة والخطوب

ص: 115

جمع خطب بِالْفَتْح وَهُوَ الْأَمر الشَّديد ينزل على الْإِنْسَان وَالْإِضَافَة من قبيل لجين المَاء أَي: المصائب الَّتِي كالذئاب. وتنوشني مضارع ناشه نوشاً أَي: تناله وتصيبه.

وَجُمْلَة تنوشني خبر الْمُبْتَدَأ الَّذِي هُوَ ذؤبان. وَالْجُمْلَة الاسمية حَال من فَاعل الْفِعْل الْمَحْذُوف.

وَأنْشد بعده وَهُوَ

الشَّاهِد التَّاسِع وَالتِّسْعُونَ وَهُوَ من شَوَاهِد سِيبَوَيْهٍ فاها لفيك

(فَقلت لَهُ: فاها لفيك فَإِنَّهَا

قلُوص امرئٍ قاريك مَا أَنْت حاذره)

على أَن فاها لفيك وضع مَوضِع الْمصدر وَالْأَصْل فوها لفيك فَلَمَّا صَارَت الْجُمْلَة بِمَعْنى الْمصدر أَي: أَصَابَته داهية أعرب الْجُزْء الأول بإعراب الْمصدر

فَصَارَ فاها لفيك. وَقيل فاها مَنْصُوب بِفعل مَحْذُوف أَي: جعل الله فا الداهية إِلَى فِيك. وَلِهَذَا الْوَجْه أنْشدهُ سِيبَوَيْهٍ.

قَالَ الأعلم: الشَّاهِد فِيهِ قَوْله فاها لفيك أَي: فَم الداهية ونصبه على إِضْمَار فعل وَالتَّقْدِير: ألصق الله فاها لفيك وَجعل فاها لفيك. وَوضع مَوضِع دهاك الله فَلذَلِك لزم النصب لِأَنَّهُ بدل من اللَّفْظ بِالْفِعْلِ فَجرى فِي النصب مجْرى الْمصدر. وَخص الْفَم فِي هَذَا دون سَائِر الْأَعْضَاء لِأَن أَكثر المتالف يكون مِنْهُ بِمَا يُؤْكَل أَو يشرب من السمُوم. وَيُقَال: مَعْنَاهُ فَم الخيبة لفيك فَمَعْنَاه على هَذَا خيبك الله.

ص: 116

وَمثله لأبي زيد فِي نوادره قَالَ: وَإِذا أَرَادَ الرجل أَن يَدْعُو على رجل قَالَ: فاها لفيك أَي: لَك الخيبة. قَالَ الْأَخْفَش فِيمَا كتبه على نوادره: وَالَّذِي أختاره مَا فسره الْأَصْمَعِي وَأَبُو عُبَيْدَة فَإِنَّهُمَا قَالَا: معنى قَوْلهم فاها لفيك: ألصق الله فاها لفيك يعنون الداهية والهلكة.

وَالْأول تَقْدِير سِيبَوَيْهٍ وَكِلَاهُمَا صَحِيح.

وَقَوله: فَقلت لَهُ أَي: لهواس وَهُوَ الْأسد. وَقَوله: فَإِنَّهَا أَي: رَاحِلَتي والقلوص: النَّاقة الشَّابَّة.

وعنى بامرئ نَفسه. وَقَوله قاريك أَي: يَجْعَل مَوضِع قراك وَمَا يقوم لَك مقَام الْقرى مَا أَنْت حاذره من الْمَوْت أَي: لَيْسَ لَك قرى عِنْدِي غير الْقَتْل مثل قَوْله تَعَالَى: فبشرهم بعذابٍ أَلِيم.

وَقيل: يُفَسر فاها لفيك: أَن الشَّاعِر لما غشي الْأسد ضربه ضَرْبَة وَاحِدَة فعض التُّرَاب فَقَالَ لَهُ: فاها لفيك يَعْنِي فَم الأَرْض.

قَالَ سِيبَوَيْهٍ: وَالدَّلِيل على أَنه يُرِيد بقوله فاها فَم الداهية قَول عَامر بن جُوَيْن الطَّائِي:

(وداهية من دواهي المنو

ن يحسبها النَّاس لَا فا لَهَا)

(دفعت سنا برقها إِذا بَدَت

وَكنت على الْجهد حمالها)

وَمعنى لَا فا لَهَا: لَا مدْخل إِلَى معاناتها والتداوي مِنْهَا أَي: هِيَ داهية مشكلة والمنون: الْمَوْت.)

وفا مَنْصُوب بِلَا وَاللَّام مقحمة وَالْخَبَر مَحْذُوف

ص: 117

أَي: فِي الدُّنْيَا أَو فِيمَا يُعلمهُ النَّاس. والسنا هُوَ الضَّوْء يُرِيد: أَنه دفع شَرها والتهاب نارها حِين أَقبلت وَكَانَ هُوَ حمال ثقلهَا.

وَالْبَيْت الشَّاهِد من أَبْيَات أَولهَا:

(تحسب هواسٌ وأيقن أنني

بهَا مفتدٍ من وَاحِد لَا أغامره)

(ظللنا مَعًا جارين نحترس الثأى

يسائرني من ختله وأسائره)

فَقلت لَهُ فاها لفيك

...

...

...

... . . الْبَيْت تحسب بِمَعْنى حسب بِالتَّخْفِيفِ وَقيل: هُوَ بِمَعْنى تحسس يُقَال: فلَان يتحسس الْأَخْبَار أَي: يتجسس وَقيل: تحسب فِي معنى حسبته فتحسب مثل كفيته فَاكْتفى قَالَ النّحاس: معنى تحسب اكْتفى.

وَكَذَلِكَ قَالَ الْأَخْفَش فِيمَا كتبه على نَوَادِر أبي زيد عَن الْمبرد أَنه قَالَ: معنى تحسب اكْتفى من قَوْلك حَسبك كَقَوْلِه تَعَالَى: عَطاء حسابا أَي: كَافِيا. وَتقول الْعَرَب: مَا أحسبك فَهُوَ لي محسب أَي: مَا كَفاك فَهُوَ لي كَاف.

والهواس: الْأسد. سمي هواساً لِأَنَّهُ يهوس الفريسة أَي يدقها والهوس: الدق الْخَفي وَقيل: الهواس: الَّذِي يطَأ وطئا خفِيا حَتَّى لَا يشْعر بِهِ.

قَالَ السيرافي: مَعْنَاهُ: أَنه عرض الْأسد لناقة هَذَا الشَّاعِر فَحكى عَن الْأسد أَنه توهم أنني أدع النَّاقة وأفتدي بهَا من لِقَاء الْأسد وَلَا أغامره وَلَا أقاتله وَلَا أرد مَعَه غَمَرَات الْحَرْب. وَالرِّوَايَة: تحسب هواس وَأَقْبل وَرُوِيَ أَيْضا: من صَاحب لَا أغاوره أَي: أغور عَلَيْهِ ويغور عَليّ.

وروى: لَا أناظره. والثأى بِالْمُثَلثَةِ والهمز على وزن الْفَتى: الخرم والفتق. والختل: الْمَكْر وَالْخداع.

ص: 118

وَهَذِه الأبيات قَالَ الْجرْمِي: هِيَ لأبي سِدْرَة الْأَعرَابِي. وَقَالَ أَبُو زيد فِي نوادره: إِنَّهَا لرجل من بني الهجيم. وهما شَيْء وَاحِد قَالَ أَبُو مُحَمَّد الْأَعرَابِي فِي فرحة الأديب: أَبُو سِدْرَة هُوَ سحيم بن الْعرف من بني الهجيم بن عَمْرو بن تَمِيم. وَله مقطعات مليحة مِنْهَا قَوْله فِي حسان بن سعد عَامل الْحجَّاج على الْبَحْرين:

(إِلَى حسان من أكناف نجدٍ

رحلنا العيس تنفخ فِي براها)

(نعد قرَابَة ونعد صهراً

ويسعد بِالْقَرَابَةِ من رعاها)

(فَمَا جئْنَاك من عدمٍ وَلَكِن

يهش إِلَى الْإِمَارَة من رجاها))

(وأياً مَا أتيت فَإِن نَفسِي

تعد صَلَاح نَفسك من غناها)

قَالَ ابْن قُتَيْبَة فِي كتاب الشُّعَرَاء. وَفِيه وَفِي قبيلته يَقُول جرير:

(وَبَنُو الهجيم قبيلةٌ مذمومةٌ

صفر اللحى متشابهو الألوان)

(لَو يسمعُونَ بأكلة أَو شربةٍ

بعمان أصبح جمعهم بعمان)

يُرِيد: أَنهم يوقدون البعر فتصفر لحاهم بدخانه.

وَهُوَ شَاعِر إسلامي من معاصري جرير والفرزدق.

ص: 119