الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
تفسير قوله تعالى: (إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات)
قال الله تعالى: {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [العصر:3].
لقد استثنى ربنا جل جلاله من عموم الخسران من اتصفوا بأربع صفات: الصفة الأولى: الإيمان، قال تعالى:{إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا} [العصر:3]، والإيمان كما قال الإمام البخاري رحمه الله: لقيت أكثر من ألف من أهل العلم يقولون: الإيمان قول وعمل، ولذلك لا تجد في القرآن أن الله عز وجل يذكر الإيمان وحده، بل لابد أن يتبع الإيمان بالعمل كما قال تعالى:{إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [العصر:3] ونحو ذلك من الآيات، ولذلك فإن الإمام البخاري رحمه الله بوب في صحيحه: باب الإيمان نية وقول وعمل، وعلى هذا اتفاق أهل الحق.
فالإيمان اعتقاد بالجنان، وقول باللسان، وعمل بالأركان، فلو أن إنساناً لا يصلي الفرض، ولا يصوم رمضان، ولا يحج البيت، ولا يزكي ماله، ولا يحل الحلال، ولا يحرم الحرام، ثم يزعم أنه مؤمن، فهو كذاب؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال:(أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك فقد عصموا مني دماءهم وأموالهم) فكون الإنسان يفعل شيئاً من الطاعات، ويرتكب المحرمات، ثم يقول: أنا مؤمن، والإيمان موجود في القلب، نقول له: نحن لا نعرف ما بداخل القلب، فلا بد أن نرى آثار ما في القلب تظهر في الأعمال؛ لأن الله نصب العمل أمارة على وجود الإيمان، كما قال الحسن البصري رحمه الله: وإن قوماً أساءوا وقالوا: نحن نحسن الظن بالله، وكذبوا لو أحسنوا الظن لأحسنوا العمل.
الصفة الثانية: قال تعالى: ((وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ)) الصالحات تشمل فعل الفرائض وإتيان المستحبات، واجتناب المحرمات والتورع عن المكروهات والشبهات.
الصفة الثالثة: قال تعالى: ((وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ)).
قال الرازي رحمه الله في تفسيره: علم بهذه الآية أن تبعة الحق ثقيلة.
ويقول سيد قطب رحمه الله: والحق ثقيل يحتاج إلى تواص؛ لأنه يعارضه طغيان الطغاة، وظلم الظالمين، وجور الجائرين، وتصورات البيئة، وضغوط المادة، هذه كلها تعارض الحق، فلابد أن يوصي بعضنا بعضاً.
وقد تأكد هذا المعنى في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم كما جاء في حديث عبادة بن الصامت في الصحيحين قال: (بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة في المنشط والمكره، والعسر واليسر، وعلى أثرة علينا، وعلى أن نقول الحق أينما كنا، لا نخاف في الله لومة لائم).
وفي حديث أبي ذر الغفاري رضي الله عنه قال: (أوصاني خليلي صلى الله عليه وسلم بخصال الخير: ألا أخاف في الله لومة لائم، وأن أقول بالحق أينما كنت) رواه ابن حبان في صحيحه.
وحديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا هابت أمتي أن تقول للظالم: يا ظالم فقد تودع منهم) رواه الحاكم وقال: صحيح الإسناد.
وحديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يحقرن أحدكم نفسه، قالوا: كيف يحقر أحدنا نفسه يا رسول الله؟! قال: يرى لله مقالاً فلا يقول به، فيقول له الله يوم القيامة: ما منعك أن تقول كذا وكذا في كذا وكذا؟ يقول: يا رب خشيت الناس، فيقول الله عز وجل: فإياي كنت أحق أن تخشى)، ولذلك فإن الله عز وجل قال:{فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ} [المائدة:44]، وهذا المعنى فهمه الصحابة الكرام رضوان الله عليهم، لما مر عمر بن الخطاب في السوق استوقفته امرأة عجوز وقالت له: يا ابن الخطاب لقد عهدتك في سوق عكاظ ترعى الغنم بعصاك، تدعى عميراً تضرب الصبيان، ثم لم تمض الأيام حتى صرت عمر، ثم لم تمض الأيام حتى سميت أمير المؤمنين، فاتق الله في الرعية، واعلم أنه من خاف الوعيد قرب عليه البعيد، ومن أيقن بالحساب أعد له العدة، فبكى عمر رضي الله عنه، فقال لها بعض الناس: إيه يا امرأة لقد أغلظت على أمير المؤمنين، قال عمر: دعها فإنها خولة بنت ثعلبة التي سمع الله قولها من فوق سبع سماوات، فـ عمر أحرى أن يسمع لها.
فهذا من التواصي بالحق الذي كان بين الصحابة رضوان الله عليهم.
الصفة الرابعة: قال تعالى: ((وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ)) أوصى بعضهم بعضاً بالصبر بأنواعه الثلاثة: النوع الأول: الصبر على طاعة الله، فمثلاً: صلاة التراويح تحتاج إلى صبر، والصيام يحتاج إلى صبر، وصلاة الصبح في شدة البرد تحتاج إلى صبر، وقل مثل ذلك في الطاعات كلها.
النوع الثاني: الصبر عن معصية الله، وذلك بأن يصبر عما لا يحبه الله ولا يرضاه، رغم أن نفسه تشتهيه وقلبه يميل إليه.
النوع الثالث: الصبر على قضاء الله وقدره، وقد جاء في بعض الكتب: أن الله عز وجل أوحى إلى داود عليه السلام: يا داود! اصبر على المئونة تكن مني المعونة، والمعنى: اصبر على مئونة الدنيا ومئونة التكاليف الشرعية تكن مني المعونة.
وهذا ظاهرٌ، فكثير من الخيرات يبدؤها الإنسان وهو متهيب متردد، لكن الله عز وجل يثبت القلب ويربط على الفؤاد، وبعد أن كان الإنسان متردداً جباناً، يجعله شجاعاً مقداماً، يقدم على هذه الطاعات وهو يعلم أنها زاده إلى الآخرة.