المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌فصل: ومنها قوله تعالى: (واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها فأتبعه الشيطان فكان من الغاوين ولو شئنا لرفعناه بها ولكنه أخلد إلى الأرض واتبع هواه فمثله كمثل الكلب إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث ذلك مثل القوم الذين كذبوا بآياتنا فاقصص القصص - الأمثال في القرآن - من اعلام الموقعين

[ابن القيم]

فهرس الكتاب

- ‌الماء الذي به الحياة

- ‌فصل: ومنها قوله تعالى: (إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَاراً فَجَعَلْنَاهَا حَصِيداً كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ

- ‌فصل:

- ‌ فصل:

- ‌فصل: ومنها قوله تعالى: (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ

- ‌(ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً رَجُلاً

الفصل: ‌فصل: ومنها قوله تعالى: (واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها فأتبعه الشيطان فكان من الغاوين ولو شئنا لرفعناه بها ولكنه أخلد إلى الأرض واتبع هواه فمثله كمثل الكلب إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث ذلك مثل القوم الذين كذبوا بآياتنا فاقصص القصص

من كتاب الله كحظ هذا الحمار من الكتب التي على ظهره فهذا المثل وإن كان قد ضرب لليهود فهو متناول من حيث المعنى لمن حمل القرآن فترك العمل به ولم يؤد حقه ولم يرعه حق رعايته (127) .

‌فصل: ومنها قوله تعالى: (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ

لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) (128) فشبه سبحانه من آتاه كتابه وعلمه العلم الذي منعه غيره فترك العمل به واتبع هواه وآثر سخط الله على رضاه ودنياه على آخرته والمخلوق على الخالق بالكلب الذي هو من أخبث الحيوانات وأوضعها قدرا وأخبثها (129) نفسا وهمته لا تتعدى بطنه وأشدها شرها وحرصا ومن حرصه أنه لا يمشي إلا وخطمه في الأرض يتشمم ويتروح حرصا وشرها ولا يزال يشم دبره دون سائر أجزائه وإذا رميت له بحجر رجع إليه ليعضه من فرط نهمته وهو من أمهن الحيوانات وأحملها للهوان وأرضاها بالدنايا والجيف المروحة أحب إليه من اللحم الطري والقذرة أحب إليه من الحلوى وإذا ظفر بميتة تكفي مائة كلب لم يدع كلبا (130) يتناول معه منه شئ إلا هر عليه وقهره (131) لحرصه وبخله وشره ومن عجيب أمره وحرصه أنه إذا رأى ذا هيئة رثة وثياب دنية وحال زرية نبحه وحمل عليه كأنه يتصور مشاركته له ومنازعته في قوته وإذا رأى ذا هيئة حسنة وثياب جميلة ورئاسة وضع له خطمه (132) بالأرض وخضع له ولم يرفع إليه رأسه وفي تشبيه من آثر الدنيا وعاجلها على

(127) الجمان 312 / 313.

(128)

الاعراف: 176.

(129)

في م، ع (احنسها) .

(130)

في م (كلبا واحدا) .

(131)

في م (الا عن غلبة وقهر) .

(132)

خشمه.

(*)

ص: 27

الله والدار الآخرة مع وفور علمه بالكلب في لهثه (133) سر بديع وهو أن الذي حاله ما ذكره الله من انسلاخه من آياته واتباعه هواه إنما كان لشدة لهفه على الدنيا لانقطاع قلبه عن الله والدار الآخرة فهو شديد اللهف عليها، ولهفه نظير لهف الكلب الدائم في حال ازعاجه وتركه، واللهف واللهث شقيقان وأخوان في اللفظ والمعنى قال ابن جريج:(134)(الكلب منقطع الفؤاد لا فؤاد له أن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث فهو مثل الذي يترك الهدى لا فؤاد له إنما فؤاده ينقطع)، قلت: مراده بانقطاع فؤاده أنه ليس له فؤاد يحمله على الصبر وترك اللهث وهكذا الذي انسلخ من آيات الله لم يبق معه فؤاد يحمله على الصبر عن الدنيا وترك اللهف عليها فهذا يلهف على الدنيا من قلة صبره عليها وهذا يلهث من قلة صبره على الماء فالكلب من أقل الحيوانات صبرا عن الماء، وإذا عطش أكل الثرى من العطش وإن كان صبر عن الجوع (135)، وعلى كل حال فهو من أشد الحيوانات لهثا يلهث قائما وقاعدا وماشيا وواقفا ذلك لشدة حرصه فحرارة الحرص في كبده توجب له دوام اللهث فهكذا مشبهه شدة (136) حرارة الشهوة في قلبه توجب له دوام اللهث (137) فإن حملت عليه بالموعظة والنصيحة فهو يلهث وإن تركته ولم تعظه فهو يلهف قال مجاهد (138) : وذلك مثال الذي أوتى الكتاب ولم يعمل به، وقال ابن عباس (139) : إن تحمل عليه الكلمة لم يحملها وإن تركته لم يهتد إلى الخير

(133) في م (لهفه) .

(134)

في م (وإن كان فيه صبر على الجوع) سبق تعريفه انظر الطبري 9 / 129.

(135)

في م (وإن كان فيه على الجوع) .

(136)

في م (شدة الحرص وحرارة الشهوة) .

(137)

في م (اللهف) .

(138)

تفسير مجاهد 1 / 251، الطبري 9 / البغوي 2 / 315.

(139)

الطبري 9 / 129.

(*)

ص: 28

كالكلب إن كان رابضا لهث وإن طرد لهث، وقال الحسن:(140)(وهو المنافق لا يثبت على الحق دعي أو لم يدع وعظ أم لم يوعظ كالكلب يلهث طرد أو ترك، وقال عطاء (141) : ينبح إن حملت عليه أو لم تحمل عليه، وقال محمد بن قتيبة (142) :(كل شئ يلهث إنما يلهث من إعياء أو عطش إلا الكلب فإنه يلهث في حال الكلال أو حال الراحة وحال الصحة وحال المرض والعطش فضربه الله مثلا لمن كذب بآياته) ، وقال ابن عطية (إن وعظته فهو ضال وإن تركته فهو ضال كالكلب إن طردته لهث وإن تركته على حاله لهث، ونظيره قوله تعالى: (وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لا يَتَّبِعُوكُمْ سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صَامِتُونَ)(14 3) .

وتأمل ما في هذا المثل من الحكم والمعنى فمنها قوله: (وآتيناه آيَاتِنَا)) فأخبر سبحانه أنه هو الذي آتاه آياته فإنها نعمة، والله هو الذي أنعم بها عليه فأضافها إلى نفسه ثم قال:(فَانْسَلَخَ مِنْهَا) أي خرج منها كما تنسلخ الحية من جلدها وفارقها فراق الجلد ينسلخ عن اللحم، ولم يقل فسلخناه منها لأنه هو الذي تسبب إلى انسلاخه منها باتباع هواه، ومنها قوله سبحانه:(فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ) أي لحقه وأدركه كما قال تعالى في قوم فرعون: (فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ (144)) فكان محفوظا محروسا بآيات الله محمي الجانب بها من الشيطان لا ينال منه شيئا إلا غلى غرة وخطفة فلما انسلخ من آيات الله ظفر به الشيطان ظفر الأسد بفريسته فكان من الغاوين العاملين بخلاف علمهم الذين يعرفون الحق ويعملون

(140) الطبري 9 / 129 وابن كثير 2 / 267.

(141)

الكشف والبيان: 131.

(142)

انظر تاريخ بغداد ح 2 توفى سنة 389 هـ انظر تأويل مشكل القرآن 365 والقرطبى / 322، البغوي 2 / 316.

(143)

تفسير البغوي 2 / 316.

(144)

الشعراء: 60.

(*)

ص: 29

بخلافه كعلماء السوء، ومنها أنه سبحانه قال:(وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا)(145) فأخبر سبحانه أن الرفعة عنده ليست بمجرد العلم (فإن هذا كان من العلماء)(146) وإنما هي باتباع الحق إيثاره وقصد مرضاة الله تعالى فان هذا كان من أعلم أهل زمانه ولم يرفعه الله بعلمه ولم ينفعه به فتعوذ بالله من علم لا ينفع، وأخبر سبحانه أنه هو الذي يرفع عبده إذا شاء بما آتاه الله من العلم وإن لم يرفعه الله فهو موضوع لا يرفع أحد به رأسا فإن الخافض الرافع الله سبحانه خفضه ولم يرفعه، والمعنى: ولو شئنا فضلناه وشرفناه ورفعنا قدره ومنزلته بالآيات التي آتيناه، قال ابن عباس رضي الله عنهما (147) :(ولو شئنا لرفعناه بعلمه بها) وقالت طائفة (148) : الضمير في قوله (لَرَفَعْنَاهُ) عائد على الكفر، والمعنى، ولو شئنا لرفعناه عن الكفر بما معه من آياتنا، قال مجاهد وعطاء (149) :(لرفعنا عنه الكفر بالإيمان وعصمناه) وهذا المعنى حق والأول مراد الآية، وهذا من لوازم المراد وقد تقدم أن السلف كثيرا ما ينبهون على لازم معنى الآية فيظن الظان أن ذلك هو المراد منها، وقوله:(وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ)، قال سعيد بن جبير (150) : ركن إلى الأرض.

وقال مجاهد (151) : سكن، وقال مقاتل (152) رضي بالدنيا، وقال

(145) الاعراف: 176 وانظر الكشاف 3 / 115.

(146)

زيادة في م، ع.

(147)

انظر تفسير الطبري 9 / 127 والبغوى 2 / 315.

(138)

انظر زاد المسير 3 / 190 والفخر الرازي 15 / 55 وروح المعاني 3 / 163.

(149)

مجاهد بن جبير المكى 21 - 103 هـ من أبرز التابعين قال عنه الامام الثوري (إذا جاءك التفسير من مجاهد فحسبك) انظر البغوي والخازن 2 / 315 (قال مجاهد وعطاء) .

(150)

سعيد بن حبير بن هشام الاسدي الوالى توفى سنة 95 هـ انظر القرطبى 7 / 321 والطبري 9 / 127.

(151)

القرطبى 7 / 322 والطبري 9 / 127.

(152)

هو ابن سليمان البلخى انظر البرهان للزركشي 2 / 158 وغرائب القرآن 9 / 85.

(*)

ص: 30

أبو عبيدة (153) : (لزمها وأبطأ والمخلد من الرجال هو الذي تبطئ مشيته ومن الدواب الذي تبقى ثناياه إلى أن تخرج رباعيته) وقال الزجاج (154) : خلد وأخلد (واحد)(155) وأصله من الخلود وهو الدوام والبقاء يقال: فلان أخلد ولاذ بالمكان إذا أقام به) قال مالك بن نويره: بأبناء حي من قبائل مالك وعمرو بن يربوع أقاموا وأخلدوا.

قلت: ومنه قوله تعالى: (يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ)(156) أي قد خلقوا للبقاء لذلك لا يتغيرون ولا يكبرون وهم على سن (157) واحد أبدا (158) ، وقيل (159) المقرطون في آذانهم والمسورون في أيديهم (160) وأصحاب هذا القول فسروا اللفظ ببعض لوازمه وذلك إشارة (161) إلى التخليد على ذلك السن فلا ينافي القولين (162) .

وقوله: (وَاتَّبَعَ هَوَاهُ) قال الكلبي (163) : (اتبع مسافل الأمور وترك معاليها) وقال أبو روق (164)(اختار الدنيا على الآخرة) وقال عطاء: (165)

(153) انظر الطبري 9 / 128 ومجاز القرآن 9 / 85.

(154)

النحوي وتفسيره معاني القرآن البغوي 2 / 315 والرازي 15 / 56 وزاد الميسر 3 / 290.

(155)

الزيادة من البغوي.

(156)

الواقعة: 17.

(157)

في م (على ذلك) .

(158)

زاد المسير 8 / 136.

(159)

في م (هم المقرطون) .

(160)

غريب القرآن 153، وزاد المسير 8 / 136.

(161)

في م، ع (إمارة التخليك) .

(162)

في م، ع (فلا تنافى بين القولين) .

(163)

الكلبى هو أبو النضر محمد بن السائب بن بشر الكلبى الكوفى انظر وميزان الاعتدال 3 / 61.

والكشف والبيان 131.

(164)

الكشف والبيان 131 وهو عطية بن الحارث الكوفى ذكره سعد في الطقة الخامسة من الكوفيين انظر الطبقات 6 / 369.

(165)

البغوي 2 / 315.

(*)

ص: 31

أراد الدنيا وأطاع..شيطانه) ، وقال ابن زيد (166) :(كان هواه مع القوم) يعني الذين حاربوا موسى عليه الصلاة والسلام وقومه وقال يمان: (اتبع امرأته لأنها هي التي حملته على ما فعله (167)، فإن قيل الإستدراك بلكن يقتضي أن يثبت بعدها نفي (168) ما قبلها أو ينفي ما أثبت كما تقول: لو شئت لأعطيته

لكني لم أعطه ولو شئت لما فعلت كذا لكني فعلته، فالاستدراك يقتضي (وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا) ولكنا لم نشأ، أو فلم نرفع ولكنه أخلد (169) فكيف استدرك بقوله:(وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ) بعد قوله: (وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ (170) بِهَا) قيل: هذا من الكلام الملحوظ فيه (171) المعنى المعدول فيه عن مراعاة الألفاظ إلى المعاني، وذلك أن مضمون قوله:(وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا) أنه لم يتعاط الأسباب التي تقتضي رفعه بالآيات من ايثار الله ومرضاته على هواه ولكنه آثر الدنيا وأخلد إلى الأرض واتبع هواه، وقال الزمخشري (172) (المعنى ولو لزم آياتنا لرفعناه بها فذكر المشيئة والمراد ما هي تابعة له ومسببة عنه قال: ألا ترى إلى قوله: (وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ) فاستدرك المشيئة بإخلاده الذي هو فعله فوجب أن تكون (وَلَوْ شِئْنَا) في معنى ما هو فعله ولو كان الكلام على ظاهره لوجب أن يقال ولو شئنا لرفعناه ولكنا لم نشأ: فهذا (173) منه شنشنة نعرفها من قدري ناف للمشيئة العامة مبعد للنجعة في جعل كلام الله معتزليا

(166) انظر زاد المسير 3 / 290 والبغوى 2 / 315 والقرطبى 7 / 322.

(167)

الكشف والبيان 131 وزاد المسير 3 / 290 وفتح القدير 2 / 265.

(168)

في م، ع (يثبت بعدها مانقى قبلها) .

(169)

ليست في م.

(170)

الاعراف: 176.

(171)

في م، ع (جانب المعنى) .

(172)

هو أبو القاسم جار الله محمد الزمخشري المتوفى سنة 538 هـ وكان عالما وإماما باللغة والنحو والتفسير انظر تفسيره الكشاف 1 / 587 ويفضل قراءة النسخة الخاصة بالكشاف المحققة لبيان ما فيها من الاعتزال والتعليق عليها.

(173)

انظر الكشاف 2 / 131 بنفس النص.

(*)

ص: 32

قدريا فأين قوله: (وَلَوْ شِئْنَا) من قوله ولو لزمها ثم إذا كان اللزوم لها موقوفا على مشيئة الله.

وهو الحق بطل أصله، وقوله:(إن مشيئة الله تابعة للزومه لآياته تابعة لمشيئة الله عز وجل فمشيئة الله سبحانه متبوعة لاتابعة وقال وسبب لا مسبب وموجب مقتضي لا مقتضى (174) فما شاء الله وجب وجوده وما لم يشأ امتنع وجوده.

فصل: ومنها قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ، وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ)(175) ، وهذا من أحسن القياس التمثيلي فانه شبه تمزيق عرض (الأخ بتمزيق لحمه ولما كان المغتاب يمزق عرض) أخيه في غيبته كان بمنزلة من يقطع لحمه في حال غيبة روحه عنه بالموت لما كان المغتاب عاجزا عن دفعه بنفسه بكونه غائبا عن ذمه كان بمنزلة الميت الذي يقطع لحمه ولا يستطيع أن يدفع عن نفسه، ولما كان مقتضى الأخوة التراحم والتواصل والتناصر فعلق عليها المغتاب ضد مقتضاها من الذم والعيب والطعن كان ذلك نظير (176) تقطيعه لحم، أخيه والأخوة تقتضي حفظه وصيانته والذب عنه، ولما كان المغتاب متفكها (177) بغيبته وذمه متحليا بذلك شبه بأكل لحم أخيه بعد تقطيعه، ولما كان المغتاب محبا لذلك معجبا به شبه بمن يحب أكل لحم أخيه ميتا ومحبته لذلك قدر زائد على مجرد أكله كما أن أكله قدر زائد على تمزيقه، فتأمل هذا التشبيه والتمثيل وحسن موقعه ومطابقة المعقول فيه للمحسوس وتأمل أخباره عنهم بكراهة أكل لحم الأخ ميتا، ووصفهم بذلك في آخر الآية والإنكار عليهم في أولها أن يجب

(174) في ع (يقتضى لا يقتضى) .

(175)

الحجرات: 12 انظر الكشاف 3 / 567.

(176)

في ع (بمنزلة) .

(177)

في م (متمتعا بعرض أخى متفكها) وفى ع (مستمتعا) .

(*)

ص: 33

أحدهم ذلك فكما أن هذا مكروه في طباعهم فكيف يحبون ما هو مثله ونظيره فاحتج عليهم بما كرهوه على ما أحبوه وشبه لهم ما يحبونه بما هو أكره شئ إليهم وهم أشد شئ نفرة عنه فلهذا يوجب العقل والفطرة والحكمة أن يكونوا اشد شئ نفرة عما هو نظيره ومشبهه (178) وبالله التوفيق فصل: ومنها قوله تعالى: (مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلَى شئ ذَلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ)(179) فشبه تعالى أعمال الكفار في بطلانها وعدم الانتفاع بها برماد مرت عليه ريح شديدة في يوم عاصف فشبه سبحانه أعمالهم في حبوطها وذهابها باطلا كالهباء المنثور لكونها على غير أساس من الإيمان والإحسان وكونها لغير الله عز وجل وعلى غير أمره برماد طيرته الريح العاصف فلا يقدر صاحبه على شئ منه وقت شدة حاجته إليه فلذلك لا يقدرون مما كسبوا على شئ لا يقدرون يوم القيامة مما كسبوا من أعمالهم على شئ فلا يرون لها (180) أثرا من ثواب ولا فائدة نافعة فإن الله لا يقبل من العمل إلا ما كان خالصا لوجهه موافقا لشرعه، والأعمال أربعة فواحد مقبول وثلاثة مردودة، فالمقبول: الخالص الصواب، فالخالص أن يكون لله لا لغير، والصواب أن يكون مما شرعه على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، والثلاثة المردودة: ما خالف ذلك.

وفي تشبيهها بالرماد سر بديع وذلك للتشابه الذي بين أعمالهم وبين الرماد في

إحراق النار وإذهابها لأصل هذا وهذا فكانت الأعمال التي لغير الله عز وجل وعلى غير مراده طعمة للنار وبها تسعر النار على أصحابها وينشئ الله لهم من أعمالهم الباطلة نارا وعذابا كما ينشئ لأهل الأعمال الموافقة لأمره (181)

(178) في ع (شبيهه) .

(179)

إبراهيم: 18 الزمخشري 2 / 372.

(180)

في م، ع (له) .

(181)

في م (لأمره ونهيه) .

(*)

ص: 34

التي هي خالصة لوجهه من أعمالهم نعيما وروحا فأثرت النار في أعمال أولئك حتى جعلتها رمادا فهم وما يعبدون من دون الله وقود النار (182) .

فصل: ومنها قوله تعالى: (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ)(183) فشبه سبحانه الكلمة الطيبة بالشجرة الطيبة لأن الكلمة الطيبة تثمر العمل الصالح والشجرة الطيبة تثمر الثمر النافع وهذا ظاهر على قول جمهور المفسرين الذين يقولون: (الكلمة الطيبة هي شهادة أن لا إله إلا الله (184)) فإنها تثمر جميع الأعمال الصالحة الظاهرة والباطنة فكل عمل صالح مرضي لله عز وجل ثمرة هذا الكلمة، وفي تفسير علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما قال (185) : أصلها ثابت قول (186) لا إله إلا الله في قلب المؤمن، وفرعها في السماء يقول: يرفع بها عمل المؤمن إلى السماء) وقال الربيع بن أنس (187) : [كلمة طيبة هذا مثل الإيمان، والإيمان الشجرة الطيبة، وأصلها الثابت الذي لا يزول الإخلاص فيه، وفرعه في السماء خشية الله، والتشبيه على هذا القول

أصح وأظهر وأحسن] فإنه سبحانه شبه شجرة التوحيد في القلب بالشجرة الطيبة الثابتة الأصل الباسقة الفرع في السماء علوا التي لا تزال تؤتي ثمرتها كل

(182) انظر الطبري 13 - 196 / 197 والدر المنثور 4 / 75 والبغوى 4 / 37.

(183)

إبراهيم: 24 والكشاف 2 / 376.

(184)

انظر الطبري 13 / 203 وابن كثير 2 / 530 والدر المنثور 4 / 75 البغوي.

(185)

انظر ابن كثير 2 / 530 والطبري 13 / 203.

(186)

في الطبري وابن كثير (يقول) .

(187)

ابن جرير 13 / 203، 104.

(*)

ص: 35

حين، وإذا تأملت هذا التشبيه رأيته مطابقا لشجرة التوحيد الثابتة الراسخة في القلب التي فروعها من الأعمال الصالحة صاعدة إلى السماء ولا تزال هذه الشجرة تثمر الأعمال الصالحة كل وقت بحسب ثباتها في القلب ومحبة القلب لها وإخلاصه فيها ومعرفته بحقيقتها وقيامه بحقها (188) ومراعاتها حق رعايتها فمن رسخت هذه الكلمة في قلبه بحقيقتها التي هي حقيقتها واتصف قلبه بها وانصبغ بها بصبغة الله التي لا أحسن صبغة منها فيعرف حقيقة الهيئة (189) التي يثبتها قلبه لله ويشهد بها لسانه وتصدقها جوارحه ونفى تلك الحقيقة ولوازمها عن كل ما سوى الله عز وجل وواطأ (190) قلبه لسانه في هذا النفي والإثبات وانقادت جوارحه لمن شهد له بالوحدانية طائعة سالكة سبل ربه ذللا غير ناكبة عنها ولا باغية سواها بدلا كما لا يبتغي القلب سوى معبوده الحق بدلا، فلا ريب أن هذه الكلمة من هذا القلب على هذا اللسان لا تزال تؤتى ثمرتها من العمل الصالح الصاعد إلى الرب تعالى وهذه الكلمة الطيبة تثمر كثيرا طيبا كلما يقارنه (191) عمل صالح فيرفع العمل الصالح الكلم الطيب كما قال

تعالى: (إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ والعمل الصالح يرفعه)(192) فأخبر سبحانه أن العمل الصالح يرفع الكلم الطيب وأخبر أن الكلمة (193) الطيبة تثمر لقائلها كل وقت عملا صالحا كل وقت.

والمقصود أن كلمة التوحيد إذا شهد المؤمن بها عارفا بمعناها وحقيقتها نفيا وإثباتا متصفا بموجبها قائما قلبه ولسانه وجوارحه بشهادته، فهذه الكلمة (194) من هذا الشاهد أصلها ثبات راسخ في قلبه وفروعها متصلة

(188) في م (بحقوقها) .

(189)

في م (الإلهية) .

(190)

في م ع (وافق) .

(191)

في م، ع (تثمر كلما كثيرا طيبا) .

(192)

فاطر: 10.

(193)

في الاضل الكلم الطيبة فأثبتنا التاء في آخرها انظر الكشاف 2 / 302.

(194)

في م (فهذه الكلمة الطيبة هي التى رفعت هذا العمل من هذا الشاهد) .

(*)

ص: 36

بالسماء وهي مخرجة لثمرتها كل وقت، ومن السلف من قال [إن الشجرة الطيبة هي النخلة](195) ويدل عليه حديث ابن عمر الصحيح (196)، ومنهم من قال: هي المؤمن نفسه كما قال محمد بن سعد حدثني أبي حدثني عمي حدثني أبي عن أبيه عن ابن عباس قوله: (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ) يعني بالشجرة الطيبة المؤمن ويعني بالأصل الثابت في الأرض والفرع في السماء يكون المؤمن يعمل في الأرض ويتكلم فيبلغ قوله وعمله السماء وهو في الأرض (197)، وقال عطية العوفي في (ضَرَبَ الله مثلا كلمة طيبة كشجرة طيبة) قال (198) :(ذلك مثل المؤمن لا يزال يخرج منه كلام طيب وعمل صالح يصعد إلى الله) .

وقال الربيع بن أنس (199) : (أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ) قال: ذلك المؤمن ضرب مثله في الإخلاص لله وحده وعبادته وحده لا شريك له (قال: أَصْلُهَا ثَابِتٌ) قال: أصل عمله ثابت في الأرض (وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ) قال: ذكره في السماء.

ولا اختلاف بين القولين، فالمقصود بالمثل المؤمن والنخلة مشبهة به وهو مشبه بها وإذا كانت النخلة شجرة طيبة فالمؤمن المشبه بها أولى أن يكون كذلك ومن قال من السلف: إنها شجرة في الجنة (200) فالنخلة من أشرف أشجار الجنة.

(195) انظر الطبري 13 / 204 وابن كثير 2 / 530 والبغوى 4 / 40 وتفسير مجاهد 1 / 337.

(196)

صحيح البخاري 1 / 130 ومسلم 4 / 2165 ونصه (إن من الشجر شجرة لا يسقط ورقها وإنها مثل المسلم فحدثوني ماهى ? فوقع الناس في شجر البوادى، قال عبد الله.

وقع في نفسي أنها النخلة فاستحييت ثم قالوا: حدثنا ماهى يارسول؟ فقال (هي النخلة) .

(197)

ابن جرير 13 / 204.

(198)

نفس المصدر السابق.

(199)

سبق تعريفه.

(200)

انظر الخزن والبغوى 4 / 40 وابن كثير 2 / 530 وزاد المسير 4 / 358.

(*)

ص: 37

وفي هذا المثل من الأسرار والعلوم والمعارف ما يليق (201) ويقتضيه علم الذي تكلم به سبحانه وحكمته، فمن ذلك أن الشجرة لا بد لها من عروق (وساق وفروع)(202) وورق وثمر فكذلك شجرة الإيمان والإسلام ليطابق المشبه المشبه به فعروقها العلم والمعرفة واليقين وساقها الإخلاص وفروعها

الأعمال وثمرتها ما توجبه الأعمال الصالحة من الآثار الحميدة والصفات الممدوحة والأخلاق الزكية والسمت الصالح والهدى والدل (203) المرضى فيستدل على غرس هذه الشجرة في القلب وثبوتها فيه بهذه الأمور فإذا كان العلم صحيحا مطابقا لمعلومه الذي أنزل الله كتابه به، والاعتقاد مطابقا لما أخبر به عن نفسه وأخبرت به عنه رسله صلوات الله وسلامه عليهم والإخلاص قائم في القلب والأعمال موافقة للأمر والهدى والدل والسمت مشابه لهذه الأصول مناسب لها علم أن شجرة الإيمان في القلب أصلها ثابت وفرعها في السماء وإذا كان الأمر بالعكس علم أن القائم بالقلب إنما هو الشجرة الخبيثة التي اجتثت من فوق الأرض مالها من قرار، ومنها: أن الشجرة لا تبقى حية إلا بمادة تسقيها وتنميها فإذا انقطع عنها السقي أوشك أن تيبس فهكذا شجرة الإسلام (204) في القلب إن لم يتعاهدها صاحبها بسقيها كل وقت بالعمل النافع والعمل الصالح والعود بالتذكر على التفكر والتفكر على التذكر وإلا أوشك أن تيبس، وفي مسند الإمام أحمد (205) من حديث أبي هريرة (206) رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الإيمان يخلق في القلب كما يخلق الثوب

(201) في م، ع (يليق به) .

(202)

زيادة ممن م، ع.

(203)

زيادة من م، ع.

(204)

في ع (شجرة الايمان) .

(205)

وهو الامام المحدث الفقيه.

(206)

هو عبد الرحمن بن صخر الدوسى وكان من أكثر الصحابة حفظا للحديث ورواية له توفى سنة 95 هـ.

(*)

ص: 38

فجددوا إيمانكم) (207) .

وبالجملة فالغرس إن لم يتعاهده صاحبه أوشك أن يهلك، ومن هنا يعلم شدة حاجة العباد إلى ما أمر الله به من العبادات على تعاقب الأوقات وعظيم رحمته وتمام نعمته وإحسانه إلى عباده بأن وضعها عليهم وجعلها مادة لسقي غراس التوحيد الذي غرسه في قلوبهم.

ومنها: إن الغرس والزرع النافع قد أجرى الله سبحانه العادة (أنه)(208) لا بد أن يخالطه دغل ونبت غريب ليس من جنسه فإن تعاهده ربه ونقاه وقلمه كمل الغرس والزرع واستوى وتم نباته وكان أوفر لثمرته وأطيب وأزكى وإن تركه أوشك أن يغلب على الغرس والزرع ويكون الحكم له أو يضعف الأصل ويجعل الثمرة ذميمة ناقصة بحسب كثرته وقلته ومن لم يكن له فقه يقيس (209) في هذا ومعرفته به فإنه يفوته ربح (210) كثير وهو لا يشعر فالمؤمن دائم سعيه في شيئين (211) : سقي هذه الشجرة وتنقية ما حولها فبسقيها (212) تبقى وتدوم وبتنقية ما حولها تكمل وتتم والله المستعان وعليه التكلان.

فهذا بعض ما تضمنه هذا المثل العظيم الجليل من الأسرار والحكم، ولعلها قطرة من بحر بحسب أذهاننا الواقعة وقلوبنا المخبطة (213) وعلومنا القاصرة وأعمالنا التي توجب التوبة والاستغفار وإلا فلو طهرت منا القلوب وصفت الأذهان وزكت النفوس وخلصت الأعمال وتجردت الهمم للتقي عن الله تعالى

(207) أيضا في معجم الطبراني والمستدرك والملخص 1 / 4 عن عبد الله بن عمرو وهو حديث حسن.

(208)

زيادة في م.

(209)

في م (فقه نفيس) وفى ع (فقه في نفس هذه) .

(210)

زيادة في م وفى ع (فاته ربح كثير) .

(211)

في ع (شأن سقى) .

(212)

الفاء زائدة لم تكن في الاصل.

(213)

في م (المخطئة) وهى الاصح.

(*)

ص: 39

ورسوله صلى الله عليه وسلم لشاهدنا من معاني كلام الله عز وجل وأسراره وحكمه ما تضمحل عنده العلوم وتتلاشى عنده معارف الحق وبهذا يعرف قدر علوم الصحابة ومعارفهم رضي الله عنهم وإن التفاوت الذي بين علومهم وعلوم من بعدهم كالتفاوت الذي بينهم في الفضل والله أعلم حيث يجعل مواقع فضله ومن يختص برحمته فصل: ثم ذكر سبحانه مثل الكلمة الخبيثة فشبهها بالشجرة الخبيثة التي اجتثت من فوق الأرض ما لها من قرار (214) فلا عرق ثابت ولا فرع عال ولا ثمرة زاكية ولا ظل ولا جنى ولا ساق قائم ولا عرق في الأرض ثابت مغدق ولا أعلاها مونق ولا جنى لها ولا تعلو بلى تعلى.

وإذا تأمل اللبيب أكثر كلام هذا الخلق في خطابهم وكتبهم (215) وجده كذلك فالخسران كل الخسران (216) الوقوف معه والاشتغال به عن أفضل الكلام وأنفعه، قال الضحاك:(217)(ضرب الله مثلا للكافر بشجرة اجتثت من فوق الأرض ما لها من قرار) يقول: ليس لها أصل ولا فرع وليس لها ثمرة ولا فيها منفعة كذلك الكافر ليس يعمل خيرا ولا يقوله ولا يجعل الله فيه بركة ولا منفعة وقال ابن عباس (218) .

(ومثل كلمة خبيثة وهي الشرك كشجرة خبيثة يعني الكافر اجتثت من فوق الأرض ما لها من قرار، يقول: الشرك ليس له أصل يأخذ به الكافر ولا برهان ولا يقبل الله عمل المشرك ولا يصعد إلى الله فليس له

أصل ثابت في الأرض ولا فرع في السماء يقول ليس له عمل صالح في السماء ولا في الآخرة، وقال الربيع بن أنس (219) .

(مثل الشجرة الخبيثة مثل

(214) زيادة في م.

(115)

في م (وكسبهم) .

(216)

(الخسران) الثانية ساقطة من م.

(217)

هو ابن مزاحم الهلالي مولاهم الخرساني روى عن بعض الصحابة وأخذ عنهم العلم توفى سنة 105 هـ انظر الطبري 13 / 213.

(219)

تفسير الطبري 13 / 213.

(*)

ص: 40

الكافر ليس لقوله ولا لعمله أصل ولا فرع ولا يستقر قوله ولا عمله على الأرض ولا يصعد إلى السماء) وقال سعيد عن قتادة في هذه الآية (إن رجلا لقي رجلا من أهل العلم فقال له: ما تقول في الكلمة الخبيثة؟ قال لا اعلم لها في الأرض مستقرا ولا في السماء مصعدا إلا أن تلزم عنق صاحبها حتى يوافي بها يوم القيامة)(220) وقوله اجتثت أي استؤصلت من فوق الأرض، ثم أخبر سبحانه عن فصله وعدله في الفريقين أصحاب الكلم الطيب والكلم الخبيث فأخبر أنه يثبت الذين آمنوا بالقول الثابت أحوج ما يكونون إليه في الدنيا والآخرة وأنه يضل الظالمين وهم المشركون عن القول الثابت فأضل هؤلاء بعدله لظلمهم وثبت المؤمنين بفضله لإيمانهم.

وتحت قوله: (يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ) كنز عظيم من وقف عليه لظنته (221) وهو وأحسن استخراجه واقتناءه (222) وأنفق منه فقد غنم ومن حرمه فقد حرم وذلك أن العبد لا يستغني عن تثبيت الله طرفة عين فإن لم يثبته وإلا زالت سماء إيمانه وأرضه عن مكانهما وقد قال تعالى لأكرم خلقه عليه، عبده

ورسوله صلى الله عليه وسلم: (وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً)(223)، وقال تعالى:(إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا)(224) وفي الصحيحين من حديث البجلي قال: (وهو يسألهم ويثبتهم)(225) ، وقال تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم (وَكُلاًّ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نثبت به فؤادك)(226) .

(220) الطبري 13 / 212.

(221)

في ع، م من وفق لمظنته.

(222)

في ع (واقتتنه) .

(223)

الإسراء: 74.

(224)

الأنفال: 12 انظر الكشاف 2 / 460.

(225)

رواه الترمزى 4 / 689 - 690 ومسند أحمد 2، 368 / 369 (وهو يأمرهم ويثبتهم) (226) هود:120.

(*)

ص: 41

فالخلق كلهم قسمان: موفق بالتثبيت ومخذول بترك التثبيت، ومادة التثبيت وأصله ومنشأه من القول الثابت وفعل ما أمر به العبد فيهما يثبت الله عبده فكل ما كان أثبت قولا وأحسن فعلا كان أعظم تثبتا، قال تعالى:(وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً)(227) فأثبت الناس قلبا أثبتهم قولا والقول الثابت هو القول الحق والصدق وهو ضد القول الباطل الكذب، فالقول نوعان: ثابت له حقيقة وباطل لا حقيقة له، وأثبت القول كلمة التوحيد ولوازمها فهي أعظم ما يثبت الله بها عباده في الدنيا والآخرة، ولهذا ترى الصادق من أثبت الناس وأشجعهم قلبا والكاذب من أمهن الناس

وأخبثهم وأكثرهم تلويا وأقلهم ثباتا (228) ، وأهل الفراسة يعرفون صدق الصادق من ثبات قلبه وقت الاختبار وشجاعته ومهابته ويعرفون (229) كذب الكاذب بضد ذلك، ولا يخفى ذلك إلا على ضعيف البصيرة، وسئل بعضهم عن كلام سمعه من متكلم به فقال: والله ما فهمت منه شيئا الا أني سمعت لكلامه صولة ليست بصولة مبطل فما منح العبد منحة أفضل من منحة القول الثابت) ويجد أهل القول الثابت ثمرته أحوج ما يكونون إليه في قبورهم ويوم معادهم كما في صحيح مسلم (230) من حديث البراء (231) بن عازب عن النبي صلى الله عليه وسلم: أن هذه الآية نزلت في عذاب القبر (232)، وقد جاء (هذا) (233) مبينا في أحاديث صحاح فمنها ما في المسند من حديث داود بن أبي هند عن أبي نضرة عن أبي سعيد قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في جنازة فقال: (يا أيها الناس إن هذه الأمة تبتلى في قبورها فإذا الإنسان دفن وتفرق عنه

(227) النساء: 66 انظر تفسير الكشاف 1 / 539.

(228)

في ع (وأجبنهم تلوما) وفى م (أجبنهم وأكثرهم تلونا) .

(229)

زيادة في م، ع (230) هو الحافظ الحسين بن الحجاج بن مسلم القشيرى النيسابوري ولد سنه 304 هـ.

(231)

البراء بن عازم بن الحارث بن عدى الانصاري انظر تجريد الاسماء الذهبي 1 / 46.

(232)

مسلم 4 / 2201، 2202 صحيح البخاري 3، 104 / 105 والنسائي 4 / 84.

(233)

زيادة من م، ع.

(*)

ص: 42

أصحابه جاءه ملك بيده مطراق فأقعده فقال: ما تقول في هذا الرجل؟ فإن كان مؤمنا قال: أشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله فيقول له صدقت فيفتح له باب إلى النار فيقال له: هذا منزلك

لو كفرت بربك فأما إذ آمنت فإن الله أبدلك به هذا ثم يفتح له باب إلى الجنة فيريد أن ينهض له: اسكن ثم يفسح له في قبره، وأما الكافر والمنافق فيقال له: ما تقول في هذا الرجل فيقول: لا أدري، فيقال: لا دريت ولا اهتديت، ثم يفتح له باب إلى الجنة فيقال له: هذا منزلك لو آمنت بربك فأما إذ كفرت فإن الله أبدلك به هذا ثم يفتح له باب إلى النار ثم يقمعه الملك بالمطراق قمعة يسمعه خلق الله كلهم إلا الثقلين (234) قال بعض أصحابه: يا رسول الله: ما منا من أحد يقوم على رأسه ملك بيده مطراق إلا هيل عند ذلك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ)(235) .

وفي المسند (236) من حديث البراء بن عازب وروى المنهال عن عمرو وعن زاذان عن البراء قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وذكر قبض روح المؤمن فقال يأتيه آت - يعني في قبره - فيقول: من ربك وما دينك ومن نبيك؟ فيقول ربي الله وديني الإسلام ونبي محمد صلى الله عليه وسلم قال: فيقول له: ما ربك وما دينك وهي آخر فتنة تعرض على المؤمن فذلك حين يقول الله: (يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ) فيقول: ربي الله وديني الإسلام ونبيي محمد صلى الله عليه وسلم فيقال له: صدقت) (237) وهذا حديث صحيح.

(234) مسلم جنة 67 ومسند أحمد 3 / 423 الطبري 13 / 214.

(235)

ابراهيم: 27 وانظر تفسير الكشاف 2 / 377.

(236)

مسند أحمد 4 / 274.

(237)

سنن أبى داود والمسند 2 / 296.

ونحن بصدد طبع كتاب (سكرات الموت) وفقنا الله لاتماته.

(*)

ص: 43

وقال حماد بن سلمة عن محمد بن عمر وعن أبي سلمة عن أبي هريرة (238) قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ) قال: إذا قيل له في القبر: من ربك وما دينك فيقول: ربي الله وديني الإسلام ونبي محمد جاء بالبينات من عند الله فآمنت وصدقت فيقال له: صدقت، على هذا عشت وعليه مت وعليه تبعث) (239) وقال الأعمش (240) عن المنهال بن عمرو عن زاذان عن البراء بن عازب قال: قال إ رسول الله صلى الله عليه وسلم وذكر قبض روح المؤمن قال: فترجع روحه في جسده ويبعث إليه ملكان شديدان فيجلسانه وينهرانه ويقولان من ربك؟ فيقول: الله وما دينك؟ فيقول: الإسلام، فيقولان: ما هذا الرجل الذي بعث فيكم؟ فيقول: محمد رسول الله.

قال: فيقولان له: وما يدريك؟ قال: يقول قرأت كتاب الله فآمنت به وصدقت، وذلك قول الله تبارك وتعالى:(يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ) رواه ابن حبان (241) في صحيحه وأحمد (242)، وفي صحيحه أيضا من حديث أبي هريرة يرفعه قال: (إن الميت ليسمع خفق نعالهم يولون عنه مدبرين، فإذا كان مؤمنا كانت الصلاة عند رأسه والزكاة عن يمينه وكان الصيام عن يساره، وكان فعل الخيرات من الصدقة والصلة والمعروف والإحسان إلى الناس عند رجليه فيؤتى من عند رأسه فتقول الصلاة: ما قبلي مدخل فيؤتى عن يمينه فتقول الزكاة: ما قبلي مدخل فيؤتي عن يساره فيقول الصيام: ما قبلي مدخلى فيؤتى من عند

(238) ادظر الاصابة لابن حجر 4 / 202 - 212.

(239)

سنن النسائي - كتاب الجنائز 114، مسند أحمد 3 / 4 والطبري 13 / 215.

(240)

هو سليمان بن ممران الاسدي بالولاء أبو محمد الملقب بالاعمش التابعي انظر وفيات الاعيان 1 / 213.

(241)

هو ابن حاتم محمد بن حيان البستى المتوفى سنة 354 هـ انظر كشف الظنون لحاجى

خليفة 2 / 1075.

(242)

الطبري 13 / 215 ترجمة أحمد انظر كشف الظنون 2 / 1680 هـ.

(*)

ص: 44

رجليه فتقول فعل الخيرات من الصدقة والصلة والمعروف والإحسان إلى الناس ما قبلي مدخل، فيقال له: اجلس فيجلس قد مثلت له الشمس قد قدمت للغروب فيقال له: أخبرنا عما نسألك عنه فيقول: وعم تسألوني؟ فيقول: دعوني حتى أصلي فيقال: إنك ستفعل.

فأخبرنا عما نسألك فيقول: وعم تسألون؟ فيقال له: أرأيت هذا الرجل الذي بعث فيكم ماذا تقول فيه وماذا تشهد به عليه؟ فيقول: محمد صلى الله عليه وسلم، فيقولون: نعم، فيقول: أشهد أنه رسول الله وأنه جاءنا بالبينات من عند الله فصدقناه فيقال له: على ذلك حييت وعلى ذلك مت وعلى ذلك تبعث إن شاء الله ثم يفسح له في قبره سبعون ذراعا وينور له فيه ثم يفتح له باب إلى الجنة فيقال: انظر إلى ما أعد الله لك فيها فيزداد غبطة وسرورا ثم يجعل نسمته في النسم الطيبة وهي طير خضر تعلق بشجر الجنة فيعاد الجسد إلى ما بدا منه من التراب وذلك قول الله (يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ)(243) ولا تستطل هذا الفصل المعترض فالمفتي والشاهد والحاكم بل وكل مسلم أشد ضرورة إليه من الطعام والشراب والنفس، وبالله التوفيق.

فصل: ومنها قوله تعالى: (فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّور.

حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ) (244) فتأمل هذا المثل ومطابقته لحال من أشرك بالله وتعلق بغيره ويجوز لك في هذا التشبيه أمران: أحدهما أن تجعله تشبيها مركبا ويكون قد شبه من أشرك بالله وعبد معه غيره

(243) مسلم جنه 71، البخاري جنائز 67 وسنن أبى داود ومسند أحمد 3 / 233.

، 347، 445، 4 / 296 والترغيب والترهيب 4، 125 / 126 والطبري 13 / 215 / 216.

(244)

الحج: 30، 31 انظر تفسير الكشاف 3 / 12.

(*)

ص: 45

برجل قد تسبب إلى هلاك نفسه هلاكا لا يرجى معه نجاة فصور حاله بصورة من خر من السماء فاختطفه الطير في الهوى فتمزق مزعا (245) في حواصلها أو عصفت به الريح حتى هوت في بعض المطارح البعيدة وعلى هذا لا ينظر إلى كل فرد من أفراد الشبه ومقابلته من المشبه به.

والثاني أن يكون من التشبيه المفرق فيقابل كل واحد من أجزاء الممثل بالممثل به وعلى هذا فيكون قد شبه الإيمان (246) والتوحيد في علوه وسعته وشرفه بالسماء التي هي مصعده ومهبطه، فمنها يهبط إلى الأرض وإليها يصعد منها وشبه تارك الإيمان والتوحيد بالساقط من السماء إلى أسفل سافلين من حيث التضييق الشديد والآلام المتراكمة والطير الذي يخطف (247) أعضاءه ويمزقه فقال كل ممزق بالشياطين التي يرسلها الله سبحانه وتعالى عليه تؤزه أي أزا وتزعجه وتقلقه إلى مظان هلاكه، فكل شيطان له مزعة من دينه وقلبه كما أن لكل طير مزعة من لحمه وأعضائه، والريح التي تهوي به في مكان سحيق (248) هو هواه الذي يحمله القاء نفسه في أسفل مكان وأبعده من السماء.

فصل: ومنها قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَاباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضعف الطالب والمطلوب.

وما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عزيز) (249) حقيق كل عبد أن يستمع (250) لهذا

(245) في ع (فتقذمزقا) في م (فتمزق مزقا) .

(246)

انظر معارج القبول للشيخ الحكمى والعقيدة الطحاوية للامام الطحاوي ودعوة التوحيد والادوار التى بها د.

خليل هراس طبعتنا.

(247)

في ع (والطير التى تتخظف) .

(248)

سحيق (بعيد الاغوار) ترتيب قاموس المحيط 2 / 530.

(249)

الحج، 73: 74 انظر تفسير الزمخشري 2 / 530.

(250)

في م، ع (يستمع قلبه) .

(*)

ص: 46

المثل ويتدبره حق تدبره فإنه يقطع موارد (251) الشرك من قلبه، وذلك أن المعبود أقل درجاته أن يقدر على إيجاد ما ينفع عابده وإعدام ما يضره والآلهة التي يعبدها المشركون من دون الله لن (252) تقدر على خلق ذباب (253) ولو اجتمعوا كلهم لخلقه فكيف ما هو أكبر منه ولا يقدرون على الانتصار من الذباب إذا سلبهم شيئا مما عليهم من طيب ونحوه فيستنقذونه منه فلا هم قادرون على خلق الذباب الذي هو من أضعف الحيوان ولا على الانتصار منه واسترجاع ما سلبهم إياه فلا أعجز من هذه الآلهة ولا أضعف منها فكيف يستحسن عاقل عبادتها من دون الله تعالى، وهذا المثل من أبلغ ما أنزل الله سبحانه في بطلان الشرك وتجهيل أهله وتقبيح عقولهم والشهادة على أن الشياطين قد تتلاعب (254) بهم أعظم من تلاعب الصبيان بالكرة حيث أعطوا الإلهية التي من بعض لوازمها القدرة على جميع المقدورات والإحاطة بجميع المعلومات والغنى عن جميع المخلوقات وأن يعمد (255) إلى الرب في جميع الحاجات وتفريج الكربات وإغاثة اللهفات وإجابة الدعوات فأعطوها صورا وتماثيل تمتنع عليها القدرة على مخلوقات الآلهة (256) الحق وأذلها وأصغرها وأحقرها ولو اجتمعوا لذلك وتعاونوا عليه، وأدل من ذلك على

عجزهم وانتفاء آلهتهم أن هذا الخلق الأقل الأذل العاجز الضعيف لو اختطف منهم شيئا واستلبه فاجتمعوا على أن يستنقذوه منه لعجزوا عن ذلك ولم يقدروا عليه ثم سوى بين العابد والمعبود في الضعف والعجز بقوله: (ضعف الطالب

(251) في م، ع (مواد) والشرك الضلال والغى والتمادى به ترتيب القاموس المحيط 2 / 704.

(252)

في ع (لا تقدر) .

(253)

في ع (الذباب) .

(254)

في ع، م (أن الشيطان قد تلاعب بهم) والشيطان كل عات متمرد من أنس وجن أو دابه 2 / 304 تريب القاموس المحيط.

(255)

في م، ع (وأن يصمد) .

(256)

في ع (يمتنع عليها القدرة على أقل مخلوقات الاله الحق) وفى م (أفل مخلوقات الاله) .

(*)

ص: 47

وَالْمَطْلُوبُ) قيل: الطالب العابد والمطلوب المعبود (257) فهو عاجز متعلق بعاجز، وقيل: هو تسوية بين السالب والمسلوب وهو تسوية بين الإله والذباب في الضعف والعجز وعلى هذا (258) فالطالب الإله الباطل والمطلوب الذباب يطلب منه ما استنقذه (259) منه، وقيل الطالب الذباب والمطلوب الآلهة (260) فالذباب يطلب منه ما يأخذه مما عليه، والصحيح أن اللفظ يتناول الجميع فضعف العابد والمعبود والمستلب والمستلب (261) فمن جعل هذا الآلهة مع القوي العزيز، فما قدره حق قدره ولا عرفه حق معرفته ولا عظمه حق عظمته (262) فصل: ومنها قوله تعالى: (وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا

لا يَسْمَعُ إِلاّ دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ) (263) .

فتضمن هذا المثل ناعقا أي مصوتا بالغنم وغيرها ومنعوقا ثنا به (264) وهو الدواب فقيل: الناعق العابد وهو الداعي للصنم والصنم هو المنعوق به المدعو وإن حال الكافر في دعائه كحال من ينعق بما لا يسمعه هذا قول طائفة منهم عبد الرحمن بن زيد وغيره (265) واستشكل صاحب الكشاف (266) وجماعة معه هذا القول وقالوا: (قوله إلا دعاء ونداء) لا يساعد عليه لأن الأصنام لا تسمع دعاء ولا نداء (267) ، وقد أجيب عن هذا الاشكال (268) بثلاثة

(257) زاد المسير 5 / 452 والبغوى والخازن 5 / 38.

(258)

في م، ع (فقيل الطالب) .

(259)

في م (ما استلبه منه) .

(260)

تفسير الطبري 17 / 203.

(261)

مذيره في م، ع.

(262)

في ع، م (تعظيمه) .

(263)

سوره البقرة: 171 انظر الزمخشري 3 / 328.

(264)

في ع (ومنعوقا) .

(265)

هو عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب العدوى القرشى انظر تهذيب التهذيب 6 / 179.

(266)

راجع كشف الظنون 2 / 1475.

(267)

تفسير الكشاف 1 / 250.

(268)

في ع (الاستشكال) .

(*)

ص: 48

أجوبة: أحدها أن زائدة، والمعنى بما لا يسمع دعاء ونداء قالوا وقد ذكر الأصمعي في قول الشاعر:(269)

(جراجيج به لا تنفعك إلا مناخة) .

أي متنفك مناخة، وهذا جواب فاسد فإن (إلا) لا تزاد في الكلام.

الجواب الثاني: أن التشبيه وقع في مطلق الدعاء لا في خصوصات المدعو الجواب الثالث: أن المعنى أن مثل هؤلاء في دعائهم آلهتهم التي لا تفقه دعاءهم هذا كمثل الناعق بغنمه فلا ينتفع بنعقته (270) ثم شيئا غير أنه في (271) دعآء ونداء وكذا (272) المشرك ليس له من دعائه وعبادته إلا العناء، وقيل: المعنى ومثل الذين كفروا كالبهائم التي لا تفقه مما يقول الراعي أكثر من الصوت، فالراعي هو داعي الكفار والكفار هم البهائم المنعوق بها (273) قال سيبويه (274) : المعنى.

ومثلك يا محمد ومثل الذين كفروا كمثل الناعق والمنعوق به) وعلى قوله فيكون المعنى ومثل الذين كفروا وداعيهم (275) كمثل الغنم والناعق بها ذلك أن تجعل هذا من التشبيه المركب وأن تجعله من التشبيه المفرق، فإن جعلته من المركب كان تشبيها للكفار في عدم فقههم (276) وانتفاعهم بالغنم التي ينعق بها الراعي فلا تفقه من قوله شيئا غير الصوت المجرد الذي هو الدعاء والنداء وإن جعلته من التشبيه المفرق فالذين

(269) ديوان ذى الرمة 3 / 1419 وانظر الموشح: 182 وتمام البيت (على الخسف أو نرمى بها بلدا قفرا) .

(270)

في م (من نعيقه بشئ) وفى ع (من نعقه بغنمه) .

(271)

في م (انه هو في) .

(272)

في م (وكذلك) .

(273)

انظر امالي المرتصى: 1 / 215 - 218.

(274)

صاحب كتاب اللغه المشهور 1 / 108، 109 (والنص أنما المعنى مثلكم) .

(275)

في ع (ودعائهم) .

(276)

في ع (تفقههم) .

(*)

ص: 49

كفروا بمنزلة البهائم ودعاؤهم إلى الطريق (277) والهدى بمنزلة النعيق وإدراكهم مجرد الدعاء والنداء كإدراك البهائم مجرد صوت الناعق والله أعلم.

فصل: ومنها قوله تعالى: (مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ)(278) شبه سبحانه نفقة المنفق في سبيله سواء كان المراد به الجهاد أو جميع سبل الخير من كل بر بمن بذر بذرا فأنبتت كل حبة سبع سنابل اشتملت كل سنبلة على مائة حبة والله يضاعف (279) بحسب حال المنفق وإيمانه وإخلاصه واحسانه ونفع نفقته وقدرها ووقوعها موقعها فان ثواب الانفاق يتفاوت بحسب ما يقوم بالقلب من الايمان والاخلاص (والتثبت)(280) عند النفقة وهو اخراج المال بقلب ثابت قد انشرح صدره باخراجه وسمحت به نفسه وخرج من قلبه قبل خروجه من يده فهو ثابت القلب عند اخراجه غير جزع ولا هلع ولا متبعه نفسه ترجف يده وفؤاده، ويتفاوت بحسب نفع الإنفاق ومصارفه بمواقعه وبحسب طيب المنفق وذكائه (281) وتحت هذا المثل من الفقه: أنه سبحانه شبه الانفاق بالبذر فالمنفق ماله الطيب لله لا لغيره باذر ماله في أرض زكية فمغلة بحسب بذرة وطيب أرضه وتعاهد البذر بالسقي ونفي الدغل (282) والنبات الغريب عنه فإذا اجتمعت هذه الأمور ولم تحرق الزرع نار ولا لحقته جائحة (283) جاء أمثال الجبال وكان مثله كمثل حبة بربوة وهي المكان فيه نصب (284)

(277) كلمة (الطريق) غير موجودة في م.

(278)

سورة البقرة: 261 وانظر تفسير الكشاف 1 / 393.

(279)

في م (يضاعف لمن يشاء فوق ذلك بحسب) وفى ع (لمن يشاء بحسب) .

(280)

زيادة من م، ع.

(281)

في م (زكاته) وفى ع (وزكائه) .

(282)

الدغل: محركة: دخل في الامر مفسد والشجر الكثير الملتف النبت وكثرته 2 / 190 من ترتيب القاموس المحيط.

(283)

منه الجائحه للشده المحتاجة للحال ترتيب القاموس 1 / 552.

(284)

(يكون في نصب الشمس) وفى م (تكون الجنة نصب) .

(*)

ص: 50

الشمس والرياح فتربى (285) الأشجار هناك أتم تربية فنزل عليها من السماء مطر عظيم القطر متتابع فرواها ونماها فآتت أكلها ضعفي ما تؤتيه غيرها بسبب ذلك الوابل وإن لم يصبها وابل (286) فطل مطر صغير القطر (287) يكفيها لكرم منبتها تزكو على الطل وتنمي عليه مع أن في ذكر نوعي الوابل والطل إشارة إلى نوعي الإنفاق الكثير والقليل فمن الناس من يكون إنفاقه وابلا ومنهم من يكون إنفاقه طلا والله لا يضيع مثقال ذرة فإن عرض لهذا (288) العامل ما يفرق أعماله ويبطل (289) بها حسناته كان بمنزلة رجل له جنة من نخيل وأعناب تجري من تحتها الأنهار وله فيها من كل الثمرات وأصابه الكبر وله ذرية ضعفاء فأصابها إعصار فيه نار فاحترقت فإذا كان يوم استيفاء الأعمال وإحراز الأجور وجد (290) العامل عمله قد أصابه ما أصاب صاحب هذه الجنة فحسرته حينئذ أشد من حسرة هذا على جنته فهذا مثل ضربه الله سبحانه في الحسرة لسلب النعمة عند شدة الحاجة إليها مع عظم قدرها ومنفعتها والذي ذهبت عنه قد أصابه الكبر والضعف فهو أحوج ما كان إلى نعمته ومع هذا فله ذرية ضعفآء لا يقدرون على نفعه والقيام بمصالحه بل هم في عياله فحاجته إلى نعمته حينئذ أشد ما كانت لضعفه وضعف ذريته فكيف يكون حال هذا إذا

كان له بستان عظيم فيه من جميع الفواكه والثمر وسلطان ثمره أجل الفواكه وأنفعها وهو ثمر النخيل والأعناب فنخله (291) يقوم بكفايته وكفاية ذريته فأصبح يوما وقد وجده محترقا كله كالصريم فأي حسرة أعظم * (ههامش) 8 (285) في ع (فتتزين) .

(286)

الوابل (المطر الشديد القاس العاتى) .

(287)

في الاصل، القدر.

(288)

في ع (هذا) .

(289)

في ع، م (يبطل حسناته) .

(290)

في ع، م (هذا) .

(291)

في ع، م (فمغله)(*)

ص: 51

من حسرته، قال ابن عباس:(292) هذا مثل الذي يختم له بالفساد في آخر عمره، وقال مجاهد (293) : هذا مثل المفرط في طاعة الله حتى يموت) ، وقال السري (294) : هذا مثل للمرائي في نفقته الذي ينفق لغير الله ينقطع عنه نفعها أحوج ما يكون إليها، وسأل عمر بن الخطاب الصحابة رضي الله عنهم يوما عن هذه الآية فقالوا: الله أعلم فغضب عمر وقال: قولوا نعلم أو لا نعلم، فقال ابن عباس: في نفسي منها شئ يا أمير المؤمنين قال: قل يا ابن أخي ولا تحصر نفسك، قال:(ضرب مثل لعمل)، قال: لأي عمل؟ قال (لرجل غنى يعمل بالحسنات ثم بعث الله له الشيطان فعمل بالمعاصي حتى أحرق أعماله كلها (295)، وقال الحسن (296) : هذا مثل قل والله أعلم من يعقله من الناس شيخ ضعف جسمه وكثر صبيانه أفقر ما كان إلى جنته وإن أحدكم والله أفقر ما يكون إلى عمله إذا انقطعت عنه الدنيا) .

فصل: فإن عرض لهذه الأعمال من الصدقات ما يبطلها من المن (297) والأذى والرياء فالرياء يمنع انعقادها سببا للثواب والمن والأذى يبطل الثواب الذي كان سببا له فمثل صاحبها وبطلان عمله كمثل (صفوان) وهو الحجر الأملس عليه تراب فأصابه وابل وهو المطر الشديد فتركه صلدا لا شئ عليه وتأمل جزاء هذا المثل البليغ وانطباقها على أجزاء الممثل به تعرف عظمة القرآن وجلالته فإن الحجر في مقابلة قلب هذا المرائي والمان والمؤذي فقلبه في

(292) انظر الدر المنثور 10 / 340 والطبري 3 / 76.

(293)

انظر الطبري 3 / 75 والدر المنثور 1 / 340 وزاد المسير 1 / 321.

(294)

قال السدى هو اسماعيل بن عبد الرحمن توفى سنة 128 هـ انظر النجوم الزاهرة 1 / 308 واللباب 1 / 537.

(295)

البخاري 3 / 78 والطبري 3 / 76.

(296)

انظر تفسير الطبري 3 / 77.

(297)

المن: من عليه منا: أي أنعم واصطنع عنده صنيعة ومنحة ومنحه المن.

(*)

ص: 52

قسوته عن الإيمان والإخلاص (والإحسان)(298) بمنزلة الحجر، والعمل الذي (299) لغير الله بمنزلة التراب الذي على ذلك الحجر فقوة ما تحته وصلابته تمنعه من الثبات والنبات (300) عند نزول الوابل فليس له مادة متصلة بالذي يقبل الماء وينبت الكلأ وكذلك قلب المرآئي ليس له ثبات عند وابل الأمر والنهي والقضاء والقدر فإذا نزل عليه وابل الوحي انكشف عنه ذلك التراب اليسير الذي كان عليه فبرز ما تحته حجرا صلدا لا نبات فيه، وهذا مثل ضربه الله سبحانه لعمل المرآئي ونفقته لا يقدر يوم القيامة على ثواب شئ منه أحوج ما كان إليه وبالله التوفيق (301) .

فصل: ومنها قوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ.

مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ.

وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (302)) هذا مثل ضربه الله تعالى لمن أنفق ماله في غير طاعته ومرضاته فشبه سبحانه ما ينفقه هؤلاء من أموالهم في المكارم والمفاخر وكسب الثناء وحسن الذكر لا يبتغون (303) به وجه الله وما ينفقونه ليصدوا به عن سبيل الله واتباع رسله عليهم الصلاة والسلام بالزرع الذي زرعه صاحبه يرجو نفعه وخيره فأصابته ريح شديدة البرد جدا يحرق بردها ما يمر عليه من الزرع والثمار فأهلكت ذلك الزرع وأيبسته

(298) زيادة في م، ع.

(299)

في م، ع (الذى عمله لغير الله) .

(300)

في م، ع (من النبات والثبات) .

(301)

يلاحظ ان الاية التالية أذا أضيفت الى الشرح السابق تمم المعنى والمراد.

(302)

سورة آل عمران: 116، 117.

(303)

في م، ع (يبتغون) .

(*)

ص: 53