المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ نظرة الإسلام إلى الجريمة: - دفاع عن العقوبات الإسلامية

[محمد بن ناصر السحيباني]

الفصل: ‌ نظرة الإسلام إلى الجريمة:

كان لا يمتنع استعمالها لغة في هذا الموضع، أعني موضع الجناية

والله أعلم.

ص: 73

ثانيا:‌

‌ نظرة الإِسلام إلى الجريمة:

إنه باستقراء النصوص من الآيات القرآنية الكريمة والأحاديث النبوية الشريفة نلاحظ أن نظرة الإسلام إلى الجريمة- الجناية- نظرته إلى الظاهرة العادية فهو يعتبر الجريمة جزءً من المجتمع الإنساني لا تنفك عنه. فكما أن النقص والتقصير لا ينفك عن الإنسان، وبالتالي عن المجتمع الإنساني، فإن الجريمة كذلك، فهي ليست إلا صورة من صور النقص والتقصير الذي يعتبر صفة ملازمة لبني آدم في هذه الحياة يقول سبحانه وتعالى عن الإنسان:{قُتِلَ الإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ} . (عبس: آية 17){كَلَاّ إِنَّ الإِنْسَانَ لَيَطْغَى} (العلق: 6) . {وَكَانَ الإِنْسَانُ عَجُولاً} . (الإسراء: 11) . {وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً} . (الأحزاب: 72) وفى الحديث عن أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه أنه قال حين حضرته الوفاة: قد كنت كتمت عنكم شيئا سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لولا أنكم تذنبون لخلق الله تبارك وتعالى قوماً يذنبون فيغفر لهم". رواه أحمد1، وفى الحديث عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:" كل ابن آدم خطاء وخير الخطائين التوابون"2. أخرجه الترمذي. وقال: "هذا حديث غريب"، والحديث وان اختلف في صحته فمعناه صحيح.

إذن فالجريمة بحد ذاتها كظاهرة اجتماعية، تعتبر في نظر الإسلام أمراً مسلما به، ولابد منه لأن الكمال لله سبحانه، والعصمة لله وحده. ولكن كونَ الجريمة ظاهرة لابد منها، لا يعني هذا أنه يسلم بوجودها وتترك في المجتمع لتنمو وتنتشر وتتكاثر دون أن تستنكر وتحارب، بل إن الإسلام وضع لها الحل السليم والعلاج الشافي والحكم العادل، فالإسلام يحارب تكاثر الجرَيمة وتصاعدها، إلا أنه من الأمور المسلم بها أنه لا يمكن بحَال من الأحوال أن يخلو مجتمع من جريمة، ولو كان ذلك ممكناً، لكان المجتمع النبوي في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي عهد الخلفاء الراشدين، لكان هذا المجتمع أولى المجتمعات وأقريها إلى الخلو من الجريمة وأحراها بالقضاء عليها، إلا أنه من المعروف أن هذا المجتمع الطاهر النظيف قد وجدت فيه الجرائم على اختلاف أنواعها، فالإسلام لا ينظر إلى المجتمع الإنساني نظرة مثالية خيالية، تهدف إلى إنهاء الجريمة من الَمجتمع والقضاء عليها قضاء مبرماً، لأن من المبادئ الرئيسية أن الإنسان مبتلى بالخير والشر- والله سبحانه قد سلط عليه

1 المسند ج/5 ص 4 41 وهو صحيح وقد أخرجه مسلم والترمذي أنظر سلسلة الأحاديث الصحيحة ج/ 4 ص هـ 34.

2 جامع الأصول ج/ 2 ص هـ 1 5، سنن الترمذي ج/7 ص 1 9 1 وراجع كشف الخفاء ج/ 2 ص 76 1 وأسنى المطالب للحوت البيروتي ص 167.

ص: 73

الشيطان، ابتلاءً وامتحاناً، فمادام الشيطان موجوداً، فالجريمة موجودة لأنه هو الذي يوسوس بها في نفس الإنسان، وهو الذي يدعوه إلى ارتكابها ويحسنها له {يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَاّ غُرُوراً} (النساء: 120) {قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَلأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} (الحجر: 39-0 4) .

والآيات بهذا الشأن كثيرة جدا والمسألة واضحة. إلا أن الإسلام وهو يسلّم بوجود الجريمة لا يتركها هكذا كما أسلفت بل يسعى إلى تقليلها، ووضعهاَ في حجم معين ويسعى إلى حصر آثارها والتخفيف من نتائجها، ومن ناحية أخرى فالإِسلام بهذه النظرة لا يقطع خط الرجعة على المجرمين، بل يدعوهم ويطالبهم بالعودة إلى المجتمع، ويعيد لهم اعتبارهم، ولا يجعل من مقار فتهم للجريمة أياً كانت سبباً في نبذهم وطردهم إلا بقدر محدود، عندما يصرون على ارتكاب الجريمة وير تكسون في الإجرام حيث لا تجدي فيهم الموعظة1، فإنه في هذه الحالة ينتقل إلى العقوبة ومع العقوبة كذلك لا يعتبرهم منبوذين، بل يعتبرهم جزء من المجتمع، ويترك لهم الفرصة ليعيدوا الاعتبار إلى أنفسهم إذا كانوا أحياء، وإذا كانوا في عداد الأموات- في حالة العقوبة المتلفة- فهو يعتبرهم مسلمين، لهم ما للمسلمين من حقوق واحترَام، في الحديث أن خالد بن الوليد رضي الله عنه سب المرأة التي رجمت من الزنا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"مهلا يا خالد، فوالذي نفسي بيده لقد تابت توبة لو تابها صاحب مكس لغفر له، ثم أمر بها فصلى عليها ودفنت". رواه أحمد ومسلم وأبو داود.

وقال لعمر رضي الله عنه عندما قال: تصلي عليها وقد زنت. " لقد تابت توبة لو قسمت بين سبعين من أهل المدينة لوسعتهم، وهل وجدت أفضل من أن جادت بنفسها لله". رواه مسلم وغيره، في بعض روايات قصة ماعز بن مالك الأسلمي فيما رواه أبو هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سمع رجلين من أصحابه يقول أحدهما لصاحبه: انظر إلى هذا الذي ستر الله عليه فلم تدعه نفسه حتى رجم رجم الكلب، فسكت عنهما، وسار ساعة حتى مر بجيفة حمار شائلا رجله. فقال:"أين فلان وفلان؟ " فقالا: نحن ذان يا رسول الله. قال: "كلا من جيفة هذا الحمار" فقالا: يا نبي الله من يأكل من هذا؟ قال: "فما نلتما من عرض أخيكما أنفاَ أشد من أكل منه، والذي نفسي بيده إنه الآن لفي أنهار الجنة ينغمس فيها". رواه أبو داود.

ولما جاءوا بالسارق بعد قطعه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قل استغفر الله وأتوب إليه فقال:

1 لا ينبغي أن يفهم من ذلك أن العقوبة لا توقع عليهم إلا في حالة الإصرار بل أن العقوبة توقع على المجرم بمجرد ارتكابه للجريمة ولو لم يصر أو تتكرر منه، إلا في التعازير فالأمر فيها يختلف.

ص: 74