الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وأطرافه، أمكننا أن نتصور كيف أن إيقاع العقوبات على بعض الأفراد يعتبر علاجاً للمجتمع، تماماً كما يعالج جسم الإنسان، إما بأدوية مرة، أو بالمضاد، أو بالشق والجراحة، وقد يصل الأمر إلى بتر العضو وإزالته حتى لا يكون سببا في تلف الجسم كله، وهذا ما يحصل لخلايا وأعضاء هذا الجسم الكبير المجتمع، فقد يعالج بعض أفراده بالجَلد، أو الهجر أو الحبس أو القطع أو القتل إذا لزم الأمر.
وللعقوبة من ناحية أخرى أهداف ترجع إلى الجاني وأهداف ترجع إلى عموم الناس، فبالنسبة للجاني تهدف العقوبة إلى استصلاحه وزجره إذا لم تكن العقوبة متلفه (قتلا) ، وبالنسبة لسائر الناس فإن العقوبة تهدف من ناحية إلى حماية مصالحهم الضرورية في الأعراض والأموال والأبدان، والعقول، وغير ذلك من المصالح، ومن ناحية أخرى تهدف إلى ردع المجرمين وتخويفهم وتحذيرهم من الوقوع فيما وقع فيه المتهم فيحل بهم مثل ما حل به من العقوبة.
هل العقوبات الإسلامية قاسية:
تعرضت العقوبات التي شرعها الله سبحانه وتعالى، وشرعها رسوله صلى الله عليه وسلم، لتأديب المجرمين وزجرهم وردعهم، من جلد وهجر أو قطع أو رجم أو قتل، لقد تعرضت للهجوم والسخرية والاستهزاء من قبل كثير من الكتاب، فتارة توصف بأنها وحشية وتارة توصف بأنها عقوبات قاسية قديمة ولا تليق بالعصر الحديث، ومن المؤسف أن نجد مثل هذا الانتقاد عند بعض الكتاب المسلمين، فهذا أحد الكتاب وهو يتحدث عن العقوبات وتطورها يقول: والتعويض المدني يمتاز عن الدية بأنه مرن يزيد وينقص حسب مقدار الضرر الناتج عن الجريمة، كما أنه يمتاز عن القصاص في أنه لا يقصد به مجرد الانتقام من الجاني وإنما يقصد به إزالة الضرر الواقع على المجني عليه إذا أمكن، أو تعويضه عن هذا الضرر ليخفف أثره إذا لم تكن الإزالة ممكنة، كما أن التعويض المدني يمتاز عن الدية والقصاص في أنه حق مدني منفصل عن العقوبة فيمكن للمجني عليه أن يتنازل عنه، ولكن ذلك لا يعفى الجاني من العقوبة التي هي حق للمجتمع1 وهذا كلام جاهل بالشريعة، وإلا فأي مرونة أكثر من المرونة في تقاد ير الديات في التشريع الإسلامي وتقديرها بحسب الضرر الذي يصيب المجني عليه، ولم تبلغ شريعة من الشرائع ولَا نظام من الأنظمة ما بلغته هذه الشريعة في تقدير الديات بحسب الإصابة، حتى قدروا للظفر ديته، وللشعر ديته، ولكل جرح
1 العقوبات الجنائية في التشريعات العربية: د. توفيق الشاوي الصفحات 24، 73- هـ 7.
بحسب غوره في البدن ديته التي تناسبه، فأي مرونة أكثر من هذه المرونة، ومن ذا الذي يجهل أن للمجني عليه أن يتنازل عن الدية، بل هو مدعو إلى ذلك ومرغّب فيه، كما أن التنازل عن الدية لا يعنى الإعفاء من المسئولية مطلقا، بل لولى الأمر أن يعزر الجاني تعزيراً مناسبا، كل هذه المعلومات يدركها أقل المسلمين اطلاعا، ولكنه الجهل أو التجاهل.
وفي موضع آخر يقول: "ومنذ بدأت حركة إصلاح النظم الجنائية في العصور الحديثة أصبحت العقوبات البدنية محل هجوم شديد من ناحية الفلاسفة والمصلحين، باعتبار أنها تتضمن امتهاناً لكرامة الإنسانية الواجب رعايتها حتى بالنسبة للمجرمين
…
" إلى أن قال: "ولم تشذ التشريعات العَربية عن تأثير المذاهب الإصلاحية بل نرى أن التطور التشريعي في بلادنا يأخذ نفس الاتجاه
…
" ثم يمضى في كلامه
…
"ورغم أن الاتجاه الحديث يرمى إلى الغاء هذه- العقوبات الجسمانية، لما يترتب عليها من مهانة وإذلال للآدمي بمعاملته معاملة الحيوان، فإن بعض المؤلفين يرى ضرورة بقائها في أحوال معينة، ولكن الاتجاه الغالب في العالم المتحضر يدعو إلى الغائها باعتبارها لا تتناسب مع المدنية الحاضرة"1 أما عقوبة القتل فهي بزعمهم أصبحت محل نقد كثير من الفلاسفة والباحثين، لأنهم يرون أن القتل إجراء وحشي لا يجوز أن يرتكبه المجتمع ضد أحد الأفراد لأي سبب كان مادام يمكن الاستعاضة عنه بالسجن المؤبد2.
وعن عقوبة الجَلد: لقد تأثرت التشريعات المعاصرة بالنقد الموجه إلى عقوبة الجلد أو الضرب ذلك النقد الذي يستند إلى منافاتها لكرامة البشرية إذ أن استعمال الضرب في تأديب الإنسان تشبيه له بالحيوان ونزول به إلى مرتبة الدواب مما يتعارض مع الاحترام الذي تقتضيه الَصفة الإنسانية التي لا يمكن نزعها عن الشخص لمجرد أرتكابه جريمة3. هذا نموذج من النماذج الكثيرة. ونحن نرد على هؤلاء المتهجمين بردين رد مجمل ورد مفصل مع الاختصار الذي يقتضيه المقام.
فأما الرد المجمل:
فإن هؤلاء المتهجمين على العقوبات الإسلامية أحد رجلين، أما كافر بالإسلام لا يؤمن بالله ولا برسوله صلى الله عليه وسلم، وأما مسلم، فبالنسبةَ للكافر فإن القضية مع الكفار أكبر وأعظم من أن تقف عند فرع من فروع الدين فهم أصلا لا يؤمنون بالله سبحانه ومن يزعم منهم أنه
1 العقوبات الجنائية في التشريعات العربية. د. توفيق الشاوي الصفحات 24، 73- هـ 7.
2 العقوبات الجنائية في التشريعات العربية. د. توفيق الشاوي الصفحات 24، 73- هـ 7.
3 العقوبات الجنائية في التشريعات العربية. د. توفيق الشاوي 24، 73- هـ 7.
يؤمن بالله فهو لا يؤمن به الإيمان الصحيح الكامل، ولا ينطلق في إيمانه من تصور صحيح. فهم لا يؤمنون بالرسول ولا يقرون برسالته ولا يؤمنون بالقرآن ولا بالبعث بعد الموت والحساب والجزاء. وهذه القضايا أخطر وأكبر من قضية العقوبات. فمادام هؤلاء لا يسلمون بأصول الدين ولا يسلمون لله سبحانه بالحكمة والعدالة والرحمة، بل إنهم ليتهجمون على الشريعة الإسلامية ويسخرون منها فمن باب أولى ألا يسلموا بما دون ذلك. وأما المسلم الذي يتهجم على العقوبات الإسلامية فإما أن يكون متظاهرا بالإسلام مجرد تظاهر وهو يبطن الكفر والإلحاد والنفاق، فهذا شأنه شأن الفريق الأول، وإما أَن يكون مسلما ضعيفا جاهلا، فهذا ينبغي أن يعرف أنه لا يصح إيمانه حتى يسلم بكل ما شرعه الله وشرعه رسوله صلى الله عليه وسلم، فالله سبحانه وتعالى عليم حكيم خبير، متصف بكل صفات الكمال منزه عن كل صفات النقص فأحكامه وشرائعه تبدو فيها صفاته من الحكمة والرحمة وقد ندرك ذلك وقد لا ندركه ولكن مقتضى الإيمان أن نسلم لله سبحانه بكل ما شرعه لنا، وإن كان هذا لا يمنع أن نتحرى الحكمة ونبحث عن أسرار التشريع بأدب مع الله سبحانه ومع رسوله صلى الله عليه وسلم، هذا هو الرد المجمل باختصار.
أما الرد المفصل فإنه:
يحتاج منا إلى وقفات وهى وقفات سريعة حيث أن المقام لا يتحمل الإطالة.
الوقفة الأولى:
مقارنة العقوبات الإسلامية بالعقوبات في المجتمعات الأخرى لنرى مدى القسوة والشدة فيهما، ولقد تطرق الأستاذ عبد القادر عوده رحمه الله في كتابه التشريع الجنائي الإسلامي إلى شيء من ذلك فقال:"فإذا قدرنا أن الجرائم التعزيرية التي يمكن العقاب عَليها بالقتل تصل إلى خمس جرائم، كانت كل الجرائم المعاقب عليها بالقتل في الشريعة لا تزيد على عشر جرائم عند من يجيزون القتل تعزيرا، وكان عددها لا يزيد على خمس جرائم عند من لا يجيزون القتل تعزيرا، وتلك ميزة انفردت بها الشريعة الإسلامية من يوم نزولها، فهي لا تسرف في عقوبة القتل ولا تفرضها دون مقتضى، ونستطيع أن نحيط بمدى تفوق الشريعة في هذه الوجهة، إذا علمنا أن القوانين الوضعية كانت إلى آواخر القرن الثامن عشر تسرف في عقوبة القتل إلى حد بعيد، بحيث كان القانون الإنجليزي مثلا يعاقب على مائتي جريمة بالإعدام، والقانون الفرنسي يعاقب على مائة وخمس عشرة جريمة بالإعدام"1.
1 التشريع الجنائي الإسلامي ج 1ص 9 68.
ويقول في موضع آخر وهو بصدد الحديث عن أساس المسئولية الجنائية، "كانت القوانين الوضعية في العصور الوسطى والى ما قبل الثورة الفرنسية تجعل الإنسان والحيوان بل والجماد محلا للمسئولية الجنائية، وكان الجماد يعاقب كالحيوان على ما نسب إليه من أفعال ضارة، كما يعاقب الإنسان على ما ينسب إليه من أفعال محرمة، وكانت العقوبة تَصيب الأموات كما تصيب الأحياء، ولمِ يكن الموت من الأسباب التي تعفى الميت من المحاكمة والعقاب. ولم يكن الإنسان مسئولا جنائياً عن أفعاله فقط وإنما كان يسأل عن عمل غيره ولو لم يكن عالماً بعمل هذا الغير، ولو لم يكن له سلطان على هذا الغير، فكانت العقوبة تتعدى المجرم إلى أهله وأصدقائه وتصيبهم كما تصيبه، وهو وحده الجاني وهم البرءاء من جنايته.
وكان الإنسان يعتبر مسئولا جنائيا عن عمله، سواء كان رجلا أو طفلا مميزا أو غير مميز وسواء كان مختَارا أو غير مختار، مدركا أو فاقد الإدراك وكانت الأفعال المحرمة لا تعين قبل تحريمها، ولا يعلم بها الناس قبل مؤاخذتهم عليها، وكانت العقوبات التي توقع غير معينة في الغالب
…
" الخ 1
وكان من الممكن في بعض الشرائع القديمة بل وفي العصور الوسطى في أوربا نفسها أن توقع العقوبات الجنائية على حيوان، أو على جثة الجاني بعد موته أو على من به مس من الجنون2.
ولقد ألمحتُ في الفقرة السابقة إلى بعض العقوبات القاسية التي تمارس في بعض المجتمعات كما في الهند والصين- فالعقوبات الإسلامية كما نلاحظ من هذا العرض المختصر المقارن أشد ما تكون قتلا أو قطعا ومع ذلك فعدد الجرائم التي يعاقب عليها بالقتل لا يجاوز العشر أو الخمس، والجرائم التي يعاقب عليها بالقطع جريمتان فقط. وسوف نلاحظ فيما بعد الحكمة الدقيقة في سن هذه العقوبات للجرائم الخاصة بها.
والقوانين الوضعية وإن كان أغلبها في العصر الحاضر قد استبدل عقوبة الحبس المؤبد بعقوبة الإعدام وصارت تركز على عقوبة السجن مؤقتا أو مؤبدا فإن السجن المؤبد أو الطويل الأجل ليس إلا قتلا بالتقسيط للمجرم، وقتلا لأسرته معه، فلا هو بالميت الذي استراح من عناء السجن ورهبته وأفضى إلى ما قدم من خير أو شر، ولا هو بالمطلق سراحه ليعمل ويكدح، وكم تعاني أسرة السجين من الشقاء والضياع، وكم تفقد من العناية والرعاية.
1 التشريع الجنائي ج1 ص 381.
2 محاضرات عن المسئولية الجنائية في التشريعات العربية. د. توفيق الشاوي ص 32.
ولقد لخص "عودة" رحمه الله عيوب عقوبة الحبس بعدة نقاط مؤيدة بالأرقام الإحصائية فذكر منها1:
أولا: إرهاق خزانة الدولة وتعطيل الإنتاج فلاشك أن الدولة سوف تتحمل نفقات كبيرة لإعداد السجون وصيانتها والعناية بها، ومع ذلك فلا يزال السجناء يعانون في كثير من الدول من قلة العناية والرعاية.
ثانيا: إفساد المسجونين ويقول بهذا الصدد وكان من الممكن أن تتحمل الجماعة هذه الخسارة الكبيرة سنوياً أي نفقات هذا السجن والسجناء لو كانت عقوبة الحبس تؤدي إلى إصلاح المسجونين، ولكنها في الواقع تؤدي بالصالح إلى الفساد وتزيد الفاسد فساداَ على فساده، فالسجن يجمع بين المجرم الذي ألف الإجرام وتمرس بأساليبه، وبين المجرم المتخصص في نوع من الإجرام وبين المجرم العادي، كما يضم السجن أشخاصاً ليسوا بمجرمين حقيقين، وإنما جعلهم القانون مجرمين اعتبارا كالمحكوم عليهم في حمل الأسلحة أو لعدم زراعة نسبة معينة من القمح والشعير، وكالمحكوم عليهم في جرائم الخطأ والإهمال، إلى آخر ما ذكره رحمه الله. فحاصل ما ذكر أن السجن أصبح مدرسة إجرامية يلقن فيها المجرمون العتاة والمعتادون المبتدئين من المجرمين.
إلى أن قال: ولقد دلت المشاهدات على أن الرجل يدخل السجن لأمر لا يعتبره العرف جريمة كضبط قطعة سلاح معه، وكان المعروف عنه قبل دخوله السجن أنه يكره المجرمين ويأنف أن يكون منهم، فإذا خرج من السجن حبب إليه الإجرام واحترافه بل صار يتباهى به إلى آخر ما ذكر، وهو كلام جيد مدعم بالإحصائيات فيحسن الرجوع إليه.
ثالثا: قتل الشعور بالمسئولية: وعقوبة الحبس فوق أنها غير رادعة فإنها تؤدى إلى قتل الشعور بالمسئولية في نفوس المجرمين، وتحبب إليهم التعطل، خاصة من يقضى منهم مدة طويلة في السجن.
رابعا: انعدام قوة الردع: إن عقوبة الحبس قد فرضت على أساس أنها عقوبة رادعة ولكن الواقع قد أثبت أنها لا فائدة منها ولا أثر لها في نفوس المجرمين، فالذين يعاقبون بالأشغال الشاقة وهى أقصى أنواع الحبس لا يكادون يخرجون من السجن حتى يعودوا لارتكاب الجرائم، ولو كانت العقوبة رادعة لما عادوا، لما عوقبوا عليه بهذه السرعة ثم ذكر إحصائيات تدعم ذلك.
1 لقلتها من التشريع الجنائي ج1 من الصفحة 732-.74. ملخصة بشيء من التصرف.
ومن الطريف ما ذكره بعض الكتاب أنهم في أمريكا قاموا بعرض أفلام على السجناء عن بعض المجرمين وكيف كانت نهايتهم المحزنة، وأن الجريمة لم تجرهم إلا إلى الخيبة والفشل، ثم استطلعوا آراء السجناء ليعرفوا مدى تأثرهم بهذه الأفلام وتأثيرها في سلوكهم، وكان الباحثون يتوقعون أن يعتبر السجناء بمصير المجرمين ويتعظوا، ولكن الذي حصل هو أن السجناء كانوا يركزون على البحث في نقاط الضعف في الخطط التي سلكها المجرمون، ويركزون على الأخطاء التي صدرت عنهم، وكانت سببا في القبض عليهم، فكانوا يقولون لو أن المجرم عمل كذا لنجا، ولو أنه لم يعمل كذا لما قبض عليه وهكذا، مما يدل على تأصل الروح الإجرامية في هؤلاء، وأن السجن لم يزدهم إلا عتوا وتمردا، مصادقا لما ذكره عودة رحمه الله.
خامسا: ازدياد سلطان المجرمين بعد خروجهم من السجن وتمردهم على المجتمع.
سادسا: انخفاض المستوى الصحي والأخلاقي نظرا لأن السجون ثابتة المساحة. بينما السجناء يزداد عددهم يوما بعد يوم، وبالتالي ينخفض مستوى الخدمات التي تقدم لهم.
سابعا: ازدياد الجرائم: وقد وضعت عقوبة الحبس على اختلاف أنواعها لمحاربة الجريمة ولكن الإحصائيات التي لا تكذب تدل على أن الجرائم تزداد عاماً بعد عام زيادة تسترعى النظر وتبعث على التفكير الطويل ثم أورد الإحصائيات الرسمية التي تؤيد ذلك.
ثامنا: وأمر مهم أغفله "عودة" رحمه الله ألا وهو وضع عوائل المسجونين. من ينفق عليها، ومن يقوم بشأنها، ومن يتولى تصريف شئونها وتدبير أمورها، من يغمر صغارهم بالعطف والمودة، لاشك أن أسرة السجين سوف تتعرض للضياع، وربما لحقت بوليها في ركاب الإجرام نتيجة الانحراف الذي ينجرف بها إلى الإجرام، وبسبب الحاجة الماسة وانعدام الشفقة والعطف، وربما قيل إن المجرم وجوده كعدمه في الأسرة. بل قد يكون وجوده وبالا عليها وسببا في ضلالها وانحرافها إن كان وليا لها أو مجرد فرد من أفرادها ربما قيل ذلك.
ولكننا نقول أولا: إن أكثر المسجونين والعدد الأكبر منهم ليسوا مجرمين بمعنى الكلمة كما ذكر "عودة" رحمه الله، وليست قضاياهم بالقضايا الإجرامية الخطيرة، بل قد لا تكون جريمة على الإطلاق، ولكنها مخالفة بسيطة وبالتالي فلا خوف على السجين لأنه ليس مجرما.
ثانيا: إن المجرم مهما كان متماديا في الأجرام فإنه أولى برعاية أسرته وهو أشفق عليها
وأرحم بها من غيره، كما أن الحيوانات المتوحشة تعطف على أبنائها وتربيهم رغم ما فيها من القسوة والوحشية، فكذلك هذا الإنسان المجرم اللهم إلا في الجرائم الخطيرة جدا وهي قليلة نادرة فقد تقتضي المصلحة عزلة الَمجرم وإبعاده عن أسرته لألا يفسدها وهذا نادر.
فمن هذه الوقفة يتبين لنا كيف أن العقوبات الإسلامية هي أفضل بكثير من العقوبات الوضعية التي تتمثل أكثر مما تتمثل بالسجن المؤقت أو المؤبد والذي ذكرنا شيئا من مساؤه وعيوبه فالعقوبات الإسلامية أفضل في حق المجرم وفي حق المجتمع.
الوقفة الثانية:
هؤلاء الذين يزعمون أن العقوبات الإسلامية قاسية هل درسوها حقيقة وعرفوا الجرائم الشنيعة التي فرضت من أجلها هذه العقَوبات، وهل أدركوا مدى تأثير هذه الجرائم على المجتمع وخطورتها عليه، ولو أنهم لاحظوا ذلك لما نبسوا ببنت شفه. ومن ناحية أخرى هل درسوا أدلة الإثبات في هذه الجرائم وكيف أن أدلة الإثبات متناسبة مع العقوبة ومع الجريمة فكما أن العَقوبة مشددة فإن أدلة الإثبات كذلك مشددة فيها، وهناك شروط متعددة ودقيقة ولابد من توافرها في المجرم والجريمة كي توقع العقوبة على المتهم.
إن أغلب الظن أن هؤلاء المتهجمين على العقوبات الشرعية يسمعون بها مجرد سماع دون أن يدرسوها دراسة متأنية منصفة متجردة، وإلا لو فعلوا ذلك لما وسعهم إلا الإكبار لهذه الشريعة في أحكامها العادلة.
الوقفة الثالثة:
لماذا هؤلاء دائما في صف المجرم، ولا يرِد في تصورهم إلا المجرم وهو تحت العقوبة جلداً أو قطعا أو قتلاً، ولا يرد في تصورهم مطلقاَ ذلك الضحية المسكين، الذي اعتدى عليه بغير حق، فجرح أو فقئت عينه أو قتل ظلماً وعدواناً، أليس المعتدى عليه أولى بالعطف والشفقة والرحمة من ذلك المجرم.
الوقفة الرابعة:
إن العقوبات الشرعية التي تبدوا شديدة لا تخرج عن حالتين:
الحالة الأولى: القصاص حيث يجرح من جرح قصاصاً، وتفقأ عينه قصاصاً إذا فقأ عين غيره عمدا أو جرحه عمدا. ويقتل من قتل قصاصاً، إذا قتل على وجه العمد، ولا يمكن أن يعترض حكيم أو عاقل منصف على هذه النظرية، نظرية القصاص حيث يعاقب
المجرم بنفس الطريقة التي أرتكبها مع الضحية ما أمكن ذلك، إلا في الحالات التي لا يمكن تنفيذ القصاص فيها، أو أن القصاص يؤدى إلى مفسدة. فيما عدا ذلك فالقصاص هو الأصل ولا يعترض عليه أو ينتقده إلا مغفل أو مغرض. هذه حاله.
الحالة الثانية: أن تكون العقوبة التي تبدو شديدة جدا، والعقوبات الحدية التي قد تكون شديدة لا تزيد عن ثلاث: عقوبة الزاني المحصن رجما، والمحارب قاطع الطريق، بقطعه من خلاف، يده اليمنى، ورجله اليسرى والسارق بقطع يده اليمنى، وهذه الجرائم لا يمكن بحال من الأحوال أن تعالج إلا بهذه العقوبات، هذا أمر، والأمر الثاني أن من ينظر في هذه الحدود الثلاثة وطرق إثباتها يلاحظ أنها لا تثبت إلا عن طريقين فقط.
الطريق الأولى: طريِقة الاعتراف الصحيح، الخالي من الموانع، الصادر من عاقل بالغ، وفى حالة معتبرة شرعاً، دون إكراه أو ضرورة، وأن يثبت على إقراره حتى يتم تنفيذ العقوبة فيه، وله الحق أن يرجع عن إقراره ولو بعد الشروع في معاقبته.
فأي شدة أو قسوة في ذلك؟ إذا كان إنسان عاقل بالغ مدرك يختار عقوبته بنفسه ويعلم أنه سوف يرجم أو تقطع يده أو يجلد إذا أصر على إقراره واستمر فيه، فما ذنب الحاكم في ذلك، إذا كان هذا المتهم مؤمن ومعتقد بأنه سوف يقدم على ربه، ويعتبر تحمل هذه العقوبة من باب التوبة الصادقة مع العلم بأنه لا يجوز التحايل لأخذ الإقرار في الحدود، بل القاعدة على العكس حيث يستحب تلقين المتهم ما يصرفه عن الاعترَاف الصريح.
الطريقة الثانية: أن تثبت هذه الحدود عن طريق الشهادة، وإنها لطريق صعبة، ومسلك وعر، فقد وضعت شروط دقيقة عديدة، قل أن تتوفر، خاصة بالنسبة للزنا، فهناك شروط في الشاهد، وهناك شروط في الشهادة وشروط في الإحصان، وشروط في الزنا، ومن النادر جدا أن تتوفر هذه الشروط في قضية من القضايا1.
ولقد سألنا من نعرف من العلماء والباحثين عما إذا كانوا يعرفون واقعة زنا ثبتت في عصر من العصور بالشهادة، فلم نجد عندهم جوابا، مما يدل على أن هذا الأمر نادر جدا، فهذه العقوبات والله أعلم هي للتهويل والتخويف، والتهييب للمجرمين، أكثر مما يراد بها إيقاعها بهم. فالمجرم لاشك أنه إذا علم بهذه العقوبة الشديدة، سوف يتصور أنها ربما أوقعت به، ولا يزال في ذهنه شيء من الاحتمال مهما كان قليلا، وهذا التصور وهذا الاحتمال له دور كبير في صرف المجرم عن جريمته، ولفت نظره لإعادة الحساب. والله سبحانه وتعالى أعلم.
1 ذكر صاحب المغنى أنه حصل في عهد الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله واقعة زنا ثبتت بالشهادة وذلك في الجزء السابع ص163 في كتاب الفرائض.
الوقفة الخامسة:
لننظر في نتائج وآثار العقوبات الإسلامية في المجتمع الإسلامي، وآثار العقوبات الوضعية في المجتمعات الأخرى.
لقد كانت آثار هذه العقوبات التي يزعمون أنها قاسية، لقد كانت آثارها الاستقرار والأمن الذي لا يتصور، فلا تكاد تحدث جريمة، فاطمأن الناس على أنفسهم وأعراضهم وأموالهم وانصرفوا إلى العمل والإنتاج والإصلاح حتى إن الرجل ليترك متاعه في الطريق دون أن يتعرض له أحد بسوء، وينقل لنا الأستاذ أبو الحسن الندوي انطباعات الأستاذ محمد أسد، وهو من النمسا عندما زار دمشق في أول القرن العشرين الميلادي، ويوم كانت دمشق تعيش تحت ظل الخلافة العثمانية، على ما كان فيها من تقصير وإهمال يقول:"وقفت على ذلك الاستقرار الروحي في حياة سكانها، إن أمنهم الباطني كان يمكن أن يرى في الطريقة التي كان أحدهم يتصرف بها نحو الآخر، ثم يسترسل فيقول: وفي الطريقة التي كان أصحاب الدكاكين يعاملون بعضهم بعضا، أولئك التجار في الحوانيت الصغيرة الذين كانوا يبدون وكأنما ليس فيهم أيما قدر من الخوف أو الحسد، حتى إن صاحب دكان فيهم ليترك دكانه في عهدة جاره ومزاحمه، كل ما دعته حاجته إلى التغيب بعض الوقت، وما أكثر ما رأيت زبونا يقف أمام دكان غاب صاحبه عنه، يتساءل فيما بينه وبين نفسه، ما إذا كان ينتظر عودة البائع أو ينتقل إلى الدكان المجاور، فيتقدم التاجر المجاور دائما " التاجر المزاحم "، ويسأل الزبون عن حاجته ويبيعه ما يطلب من البضاعة، لا بضاعته هو بل بضاعة جاره الغائب، ويترك له الثمن على مقعده، أين في أوربا يستطيع المرء أن يشاهد مثل هذه الصفقه. هذه صورة1.
أما الصورة الثانية: فينقلها لنا الأستاذ الدكتور عبد القادر عودة رحمه الله، وهو يشير إلى ازدياد الجرائم في المجتمع المصري، بسبب عدم تطبيق التشريعات الإسلامية، مقارناً بين المجيمع المصري والمجتمع السعودي في ظل الإسلام، فيقول إن الحالة الإقتصادية مهما قيل فيها لا تكون سبباً في ازدياد الجرائم، ما دامت العقوبة رادعة، وليس أدل على صحة هذا القول من الحالة في الحجاز، فلا شك أن الحالة الإقتصادية والاجتماعية في مصر أفضل منها في الحجاز، ومع ذلك فقد قلت الجرائم في الحجاز وازدادت في مصر وانتشر الأمن هناك واختل هنا. ولقد كان الحجاز في يوم ما مضرب الأمثال في اختلال الأمن والنظام، والجرأة على
1من نهر كابل إلى نهر اليرموك أبو الحسن الندوي ص 155.
ارتكاب الجرائم وترويع الآمنيين، والحجاج والمسافرين، وقطع الطريق عليهم لنهب مالهم ومتاعهم، ولعل الحالة الإقتصادية والاجتماعية في الحجاز الآن ليست خيراً منها يوم كان الفساد مستشرياً في الحجاز، والفرق بين الحجاز قديماً وحديثاً هو نفس الفرق بين مصر والحجاز اليوم، هو وجود العقوبة الرادعة في الحجاز الآن، وانعدامها قديماً، وهو كذلك انعدام هذه العقوبة في مصر اليوم، فهذه العقوبة الرادعة في ظل الشريعة الإسلامية هي التي وطدت الأمن في الحجاز، وقضت على السلب والنهب وقطع الطريق، وجعلت الأمن فيه مضرب الأمثال، فلا يسقط من مسافر شيء إلا وجده في دار الشرطة، ولا يضيع لأحد شيء إلا رد إليه حيث كان، ولو لم يبلغ بضياعه مادام مع المال ما يدل على اسم صاحبه1 وهذا ما نعيشه الآن في هذه البلاد والحمد لله حيث أن الإنسان دائما- إلا في حالات نادرة- مطمئن على متاعه وعلى أمواله يتركها غالبا دون ماَ حراسة تذكر ودون اهتمام بها فيوفر المجتمع بذلك طاقات كبيرة وجهودا كثيرة بينما الدول الأخرى كما هو معروف، حيث نقرأ يوميا عن الجرائم البشعة التي لا تتصور، حيث تداهم البيوت والمؤسسات المالية ويهجم على المصارف ويختطف التجار والسياسيون، أو أبناؤهم ولا يطلقون إلا مقابل فدية مالية كبيرة، وتختطف الطائرات أما لأغراض سياسية أو لأغراض إجرامية بحته، وأصبح الناس في كثير من الدول التي تزعم أنها متطورة ومتقدمة وفي قمة الحضارة، أصبح الناس يحذرون من التجول بعد غروب الشمس، وهذا الأستاذ محمد قطب يذكر في إحدى محاضراته أنه في سان فرنسسكو حدثه أكثر من شخص وأنه قرأ في الصحف كذلك، أن الإنسان لا يملك أن يخرج وحده في هذه المدينة بعد غروب الشمس، ويقول: كنت في زيارة قصيرة لمدينة صغيرة في فلادليفيا مدينة أشبه بالمدن الريفية وهي بالنسبة لمدننا كبيرة ولكنها بالنسبة للمدن الأمريكية صغيرة جدا، وجاء الغروب فحدثتنا أنفسنا أن نخرج قليلا للتنزه، فقال لنا المقيمون هناك، احذروا، لا تستطيعون أن تخرجوا، قلنا لماذا، قالوا بسبب العصابات، حيث إنها تبدأ عملها بعد غروب الشمس، قتلا وخطفا وسرقة2.
وهذه دولة من الدول الحديثة، المتقدمة صناعيا، وهي ألمانيا، تقول عنها إحدى الجرائد اليومية، أنه في تقرير نشر عنها أظهر أن لصوص ألمانيا الغربية يحافظون على سمعة مواطنيهم، بوصفهم شعباً عرف بتفانيه في العمل، فقد أوضح التقرير أن هؤلاء اللصوص يرتكبون حادث سرقة كل دقيقة في شتى أنحاء البلاد، وتقدر لجنة غير حكومية قيمة
1 التشريع الجنائي ج 1ص 740.
2 من محاضرة ألقاها الأستاذ محمد قطب في كلية الشريعة لجامعة قطر في أول عام 401 اهـ.
الممتلكات التي تتعرض للفقد أو الإتلاف نتيجة للسرقات بثلاثة آلاف مليون مارك في العام الواحد، وقد طالبت اللجنة المواطنين الذين يقضون عطلاتهم خارج مساكنهم بتأمين منازلهم بواسطة الأقفال والسلاسل، أو أجهزة الإنذار 1.
ولم يزل الإجرام يفتك بالدول الغربية وغيرها حتى أصبح المجرمون لهم مراكز خطيرة، وكلمة نافذة، بل أصبح لهم مؤسسات رسمية أو شبه رسمية، تحميهم وتدافع عنهم، حتى صاروا كما يقال حكومات داخل الحكومات. ويقول الأستاذ عودة رحمه الله في هذا الصدد، وهو يتحدث عن سلطان المجرمين "ومن المجرمين من يغادر السجن ليعيش عالة على الجماعة، يستغل جريمته السابقة لإخافة الناس وإرهابهم، وابتزاز أموالهم، ويعيش على هذا السلطان الموهوم وهذا المال المحرم، دون أن يفكر في حياة العمل الشريف والكسب الحلال، وقد أصبح سلطان هؤلاء المجرمين على السكان الآمنين، يزاحم سلطان الحكومات، بل أصبح المجرمون في الواقع أصحاب الكلمة النافذة، والأمر المطاع، ومن الوقائع التي اعرفها ويعرفها غيري أن رجال الإدارة يستعينون بالمجرمين أيام الانتخابات العامة، ليوجهوا الناخبين المتمسكين بحزبيتهم، وجهات معينة بعد أن يعجزوا هم عن هذا التوجيه.
وقد أدى هذا المركز الخطير، إلى زيادة المجرمين الشباب الذين يتطلعون بدافع من طموحهم إلى نوال كل مركز ممتاز كما أدى إلى قلب الموازين والأوضاع، فبعد أن كانت الجريمة عارا وذلا في القديم، أصبحت اليوم مدعاة للتباهي والتفاخر، وبعد أن كان المجرم يطرد ذليلا مهانا، أصبح اليوم عزيز الجانب مسموع الكلمة نافذ السلطان"2.
فهذه هي بعض آثار العقوبات الوضعية في المجتمعات الغربية ليست إلا خوفا واضطرابا ورعبا وزيادة مضطردة في عدد الجرائم وأساليبها وأنواعها.
وتلك بعض آثار العقوبات الشرعية ونتائجها في المجتمع الإسلامي قديما وحديثا، أمن واستقرار واطمئنان وانخفاض في نسبة الجرائم، فأي الفريقين أحق بالأمن، وأي الفريقين أحق بالفخر والاعتزاز، فليصفوا العقوبات الشرعية بما شاءوا من الأقاويل، وليتهجموا مادامت تلك آثارها وهذه نتائجها.
والحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين نبينا محمد وآله وأصحابه أجمعين.
1 جريدة الرياض العدد 1333 الصادر بتاريخ 6/ 5/ 396 1 هـ.
2 التشريع الجنائي 1/737.