الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فصل سُورَة اللَّيْل (معنى آيَة {إِن علينا للهدى} ونظيريها من سورتي الْحجر والنحل وَبَيَان اغلاط الْمُفَسّرين فِيهَا)
قَالَ شيخ الاسلام أَبُو الْعَبَّاس أَحْمد بن عبد الحليم بن عبد السَّلَام بن تَيْمِية الْحَرَّانِي قدس الله روحه وَنور ضريحه ورحمه
فصل فِي آيَات ثَلَاث متناسبة متشابهة اللَّفْظ وَالْمعْنَى يخفى مَعْنَاهَا على أَكثر النَّاس
قَوْله تَعَالَى {قَالَ هَذَا صِرَاط عَليّ مُسْتَقِيم إِن عبَادي لَيْسَ لَك عَلَيْهِم سُلْطَان إِلَّا من اتبعك من الغاوين} الْحجر 15 41 42
وَقَوله تَعَالَى {وعَلى الله قصد السَّبِيل وَمِنْهَا جَائِر} النَّحْل 16 6 وَقَوله تَعَالَى {إِن علينا للهدى وَإِن لنا للآخرة وَالْأولَى} اللَّيْل 92 12 13 فَلفظ هَذِه الْآيَات فِيهِ أَن السَّبِيل الْهَادِي هُوَ على الله
وَقد ذكر أَبُو الْفرج بن الْجَوْزِيّ فِي الْآيَة الأولى ثَلَاثَة أَقْوَال بِخِلَاف الْآيَتَيْنِ الآخريين فَإِنَّهُ لم يذكر فيهمَا إِلَّا قَوْله وَاحِدًا فَقَالَ فِي تِلْكَ الْآيَة اخْتلفُوا فِي معنى هَذَا الْكَلَام على ثَلَاثَة أَقْوَال
أَحدهَا انه يَعْنِي بقوله هَذَا الاخلاص فَالْمَعْنى أَن الاخلاص طَرِيق إِلَيّ مُسْتَقِيم وعَلى بِمَعْنى إِلَى
وَالثَّانِي هَذَا طَرِيق عَليّ جَوَازه لِأَنِّي بالمرصاد فأجازيهم بأعمالهم وَهُوَ خَارج مخرج الْوَعيد كَمَا تَقول للرجل تخاصمه طريقك عَليّ فَهُوَ كَقَوْلِه {إِن رَبك لبالمرصاد} الْفجْر 89 14
وَالثَّالِث هَذَا صِرَاط على استقامته أَي أَنا ضَامِن لاستقامته بِالْبَيَانِ والبرهان قَالَ وَقَرَأَ قَتَادَة وَيَعْقُوب (هَذَا صِرَاط عَليّ) أَي رفيع
(قلت) هَذِه الْأَقْوَال الثَّلَاثَة قد ذكرهَا من قبله كَالثَّعْلَبِيِّ والواحدي وَالْبَغوِيّ وَذكروا قولا رَابِعا فَقَالُوا وَاللَّفْظ لِلْبَغوِيِّ وَهُوَ مُخْتَصر الثَّعْلَبِيّ
قَالَ الْحسن مَعْنَاهُ صِرَاط إِلَى مُسْتَقِيم وَقَالَ مُجَاهِد الْحق يرجع إِلَيّ وَعَلِيهِ طَرِيقه لَا يعرج على شَيْء
وَقَالَ الاخفش يَعْنِي على الدّلَالَة على الصِّرَاط الْمُسْتَقيم
وَقَالَ الْكسَائي هَذَا على التهديد والوعيد كَمَا يَقُول الرجل لمن يخاصمه طريقك عَليّ أَي لَا تفلت مني كَمَا قَالَ تَعَالَى {إِن رَبك لبالمرصاد}
وَقيل مَعْنَاهُ على استقامته بِالْبَيَانِ والبرهان والتوفيق وَالْهِدَايَة
فَذكرُوا الْأَقْوَال الثَّلَاثَة وَذكروا قَول الاخفش على الدّلَالَة على الصِّرَاط الْمُسْتَقيم وَهُوَ يشبه القَوْل الْأَخير لَكِن بَينهمَا فرق فَإِن ذَاك يَقُول على استقامته بِإِقَامَة الْأَدِلَّة فَمن سلكه كَانَ على صِرَاط مُسْتَقِيم وَالْآخر يَقُول أَن أدل الْخلق عَلَيْهِ بِإِقَامَة الْحجَج فَفِي كلا الْقَوْلَيْنِ أَنه بَين الصِّرَاط الْمُسْتَقيم بِنصْف الْأَدِلَّة لَكِن هَذَا جعل عَلَيْهِ الدّلَالَة عَلَيْهِ وَهَذَا جعل عَلَيْهِ استقامته أَي بَيَان استقامته وهما متلازمان وَلِهَذَا وَالله أعلم لم يَجعله أَبُو الْفرج قولا رَابِعا
وَذكروا الْقِرَاءَة الْأُخْرَى عَن يَعْقُوب وَغَيره أَي رفيع قَالَ الْبَغَوِيّ وَعبر بَعضهم عَنهُ رفيع أَن ينَال مُسْتَقِيم أَن يمال
(قلت) القَوْل الصَّوَاب هُوَ قَول أَئِمَّة السّلف قَول مُجَاهِد وَنَحْوه فَإِنَّهُم أعلم بمعاني الْقُرْآن لَا سِيمَا مُجَاهِد فَإِنَّهُ قَالَ عرضت الْمُصحف على ابْن عَبَّاس من فاتحته إِلَى خاتمته أقفه عِنْد كل آيَة وأسأله عَنْهَا وَقَالَ الثَّوْريّ إِذا جَاءَك التَّفْسِير عَن مُجَاهِد فحسبك بِهِ وَالْأَئِمَّة كالشافعي وَأحمد وَالْبُخَارِيّ وَنَحْوهم يعتمدون على تَفْسِيره وَالْبُخَارِيّ فِي صَحِيحَة أَكثر مَا يَنْقُلهُ من التَّفْسِير يَنْقُلهُ عَنهُ
وَالْحسن الْبَصْرِيّ أَعلَى التَّابِعين بِالْبَصْرَةِ
وَمَا ذَكرُوهُ عَن مُجَاهِد ثَابت عَنهُ رَوَاهُ النَّاس كَابْن أبي حَاتِم وَغَيره من تَفْسِير وَرْقَاء عَن ابْن أبي نجيح عَن مُجَاهِد فِي قَوْله (هَذَا صِرَاط عَليّ مُسْتَقِيم) الْحق يرجع الى الله وَعَلِيهِ طَريقَة لَا يعرج على شَيْء
وَذكر عَن قَتَادَة أَنه فَسرهَا على قِرَاءَته وَهُوَ يقْرَأ عَليّ فَقَالَ أَي رفيع مُسْتَقِيم
وَكَذَلِكَ ذكر ابْن أبي حَاتِم عَن السّلف أَنهم فسروا آيَة النَّحْل فروى من طَرِيق وَرْقَاء عَن ابْن أبي نجيح عَن مُجَاهِد قَوْله {قصد السَّبِيل} قَالَ طَرِيق الْحق على الله قَالَ وروى السّديّ أَنه قَالَ الاسلام وَعَطَاء قَالَ هِيَ طَرِيق الْجنَّة
فَهَذِهِ الْأَقْوَال قَول مُجَاهِد وَالسُّديّ وَعَطَاء فِي هَذِه الْآيَة هِيَ مثل قَول مُجَاهِد وَالْحسن فِي تِلْكَ الْآيَة
وَذكر ابْن أبي الحاتم من تَفْسِير الْعَوْفِيّ عَن ابْن عَبَّاس فِي قَوْله {وعَلى الله قصد السَّبِيل} يَقُول على الله الْبَيَان أَن يبين الْهدى والضلالة
وَذكر ابْن أبي حَاتِم فِي هَذِه الْآيَة قَوْلَيْنِ وَلم يذكر فِي آيَة الْحجر إِلَّا قَول مُجَاهِد فَقَط
وَابْن الْجَوْزِيّ لم يذكر فِي آيَة النَّحْل إِلَّا هَذَا القَوْل الثَّانِي وَذكره عَن الزجاح فَقَالَ
{وعَلى الله قصد السَّبِيل} الْقَصْد استقامة الطَّرِيق يُقَال طَرِيق قصد وقاصد إِذا قصد بك إِلَى مَا تُرِيدُ قَالَ الزّجاج الْمَعْنى وعَلى الله تَبْيِين الطَّرِيق الْمُسْتَقيم وَالدُّعَاء إِلَيْهِ بالحجج والبراهين
وَكَذَلِكَ الثَّعْلَبِيّ وَالْبَغوِيّ وَنَحْوهمَا لم يذكرُوا إِلَّا هَذَا القَوْل لَكِن ذَكرُوهُ باللفظين
قَالَ الْبَغَوِيّ يَعْنِي بَيَان طَرِيق الْهدى من الضَّلَالَة وَقيل بَيَان الْحق بِالْآيَاتِ والبراهين
قَالَ وَالْقَصْد الصِّرَاط الْمُسْتَقيم و {وَمِنْهَا جَائِر} يَعْنِي وَمن السَّبِيل مَا هُوَ جَائِر عَن الاسْتقَامَة معوج فالقصد من السَّبِيل دين الاسلام والجائر مِنْهَا الْيَهُودِيَّة والنصرانية وَسَائِر ملل الْكفْر قَالَ جَابر بن عبد الله قصد السَّبِيل بَيَان الشَّرَائِع والفرائض وَقَالَ عبد الله بن الْمُبَارك وَسَهل بن عبد الله قصد السَّبِيل السّنة (وَمِنْهَا جَائِر) الْأَهْوَاء والبدع وَدَلِيله قَوْله تَعَالَى {وَأَن هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبعُوهُ وَلَا تتبعوا السبل فَتفرق بكم عَن سَبيله} الْأَنْعَام 6 153
وَلَكِن الْبَغَوِيّ ذكر فِيهَا القَوْل الآخر ذكره فِي تَفْسِير قَوْله تَعَالَى {إِن علينا للهدى} اللَّيْل عَن الْقُرَّاء كَمَا سَيَأْتِي فقد ذكر الْقَوْلَيْنِ فِي الْآيَات الثَّلَاث تبعا لمن قبله كَالثَّعْلَبِيِّ وَغَيره
والمهدوي ذكر فِي الْآيَة الأولى قَوْلَيْنِ من الثَّلَاثَة وَذكر فِي الثَّانِيَة مَا رَوَاهُ الْعَوْفِيّ وقولا آخر فَقَالَ
قَوْله {هَذَا صِرَاط عَليّ مُسْتَقِيم} أَي على أَمْرِي وارادتي وَقيل هُوَ على التهديد كَمَا يُقَال على طريقك وَإِلَى مصيرك
وَقَالَ فِي قَوْله {وعَلى الله قصد السَّبِيل} قَالَ ابْن عَبَّاس أَي بَيَان الْهدى من الضلال وَقيل السَّبِيل الاسلام وَمِنْهَا جَائِر أَي وَمن السبل جَائِر أَي عَادل عَن الْحق وَقيل الْمَعْنى وعنها جَائِر أَي عَن السَّبِيل ف من بِمَعْنى عَن
وَقيل معنى قصد السَّبِيل سيركم ووجوعكم والسبيل وَاحِدَة بِمَعْنى الْجمع
(قلت) هَذَا قَول بعض الْمُتَأَخِّرين جعل الْقَصْد بِمَعْنى الارادة أَي عَلَيْهِ قصدكم للسبيل فِي ذهابكم ورجوعكم وَهُوَ كَلَام من لم يفهم الْآيَة فَإِن السَّبِيل الْقَصْد هِيَ السَّبِيل العادلة أَي عَلَيْهِ السَّبِيل الْقَصْد والسبيل اسْم جنس وَلِهَذَا قَالَ وَمِنْهَا جَائِر أَي عَلَيْهِ الْقَصْد من السَّبِيل وَمن السَّبِيل جَائِر فاضافة إِلَى اسْم الْجِنْس إِضَافَة النَّوْع إِلَى الْجِنْس أَي الْقَصْد من السَّبِيل كَمَا تَقول ثوب خَز وَلِهَذَا قَالَ وَمِنْهَا جَائِر
وَأما من ظن أَن التَّقْدِير قصدكم السَّبِيل فَهَذَا لَا يُطَابق لفظ الْآيَة ونظمها من وجود مُتعَدِّدَة
وَابْن عَطِيَّة لم يذكر فِي آيَة الْحجر إِلَّا قَول الْكسَائي وَهُوَ أَضْعَف الْأَقْوَال وَذكر الْمَعْنى الصَّحِيح تَفْسِير للْقِرَاءَة الْأُخْرَى فَذكر أَن جمَاعَة من السّلف قرأوا على مُسْتَقِيم من الْعُلُوّ والرفعة قَالَ والاشارة بِهَذَا على هَذِه الْقِرَاءَة إِلَى الاخلاص لما اسْتثْنى ابليس من أخْلص قَالَ الله لَهُ هَذَا الاخلاص طَرِيق رفيع مُسْتَقِيم لَا تنَال أَنْت باغوائك أَهله
قَالَ وَقَرَأَ جُمْهُور النَّاس على مُسْتَقِيم والاشارة بِهَذَا على هَذِه الْقِرَاءَة إِلَى انقسام النَّاس إِلَى غاو ومخلص لما قسم ابليس هذَيْن الْقسمَيْنِ قَالَ الله هَذَا طَرِيق عَليّ أَي هَذَا أَمر إِلَى مصيره وَالْعرب تَقول طريقك فِي هَذَا الْأَمر على فلَان أَي اليه يصير النّظر فِي أَمرك وَهَذَا نَحْو قَوْله {إِن رَبك لبالمرصاد} قَالَ وَالْآيَة على هَذِه الْقِرَاءَة خبر يتَضَمَّن وعيدا
(قلت) هَذَا قَول لم ينْقل عَن أحد من عُلَمَاء التَّفْسِير لَا فِي هَذِه الْآيَة وَلَا فِي نظيرها وَإِنَّمَا قَالَه الْكسَائي لما أشكل عَلَيْهِ معنى الْآيَة الَّذِي فهمه السّلف وَدلّ عَلَيْهِ السِّيَاق والنظائر
وَكَلَام الْعَرَب لَا يدل على هَذَا القَوْل فَإِن الرجل وَإِن كَانَ يَقُول لمن يتهدده ويتوعده على طريقك فَإِنَّهُ لَا يَقُول إِن طريقك مُسْتَقِيم
وَأَيْضًا فالوعيد إنم يكون للمسيء لَا يكون للمخلصين فَكيف يكون قَوْله هَذَا إِشَارَة إِلَى انقسام النَّاس إِلَى غاو ومخلص وَطَرِيق هَؤُلَاءِ غير طَرِيق هَؤُلَاءِ هَؤُلَاءِ سلكوا الطَّرِيق الْمُسْتَقيم الَّتِي تدل على الله وَهَؤُلَاء سلكوا السَّبِيل الجائرة
وَأَيْضًا فَإِنَّمَا يَقُول لغيره فِي التهديد طريقك عَليّ من لَا يقدر عَلَيْهِ فِي الْحَال لَكِن ذَاك يمر
بِنَفسِهِ عَلَيْهِ وَهُوَ مُتَمَكن مِنْهُ كَمَا كَانَ أهل الْمَدِينَة يتوعدون أهل مَكَّة بِأَن طريقكم علينا لما تهددوهم بأنكم آويتم مُحَمَّدًا وَأَصْحَابه كَمَا قَالَ أَبُو جهل لسعد بن معَاذ لما ذهب سعد إِلَى مَكَّة إِلَّا أَرَاك تَطوف بِالْبَيْتِ أمنا وَقد آويتم الصباة وزعمتم أَنكُمْ تنصرونهم فَقَالَ لَئِن منعتني هَذَا لأمنعنك مَا هُوَ أَشد عَلَيْك مِنْهُ طريقك على الْمَدِينَة أَو نَحْو هَذَا
فَذكر أَن طريقهم فِي متجرهم إِلَى الشَّام عَلَيْهِم فيتمكنون حِينَئِذٍ من جزائهم
وَمثل هَذَا الْمَعْنى لَا يُقَال فِي حق الله تَعَالَى فَإِن الله قَادر على الْعباد حَيْثُ كَانُوا كَمَا قَالَت الْجِنّ {وَأَنا ظننا أَن لن نعجز الله فِي الأَرْض وَلنْ نعجزه هربا} الْجِنّ 72 13 وَقَالَ {وَمَا أَنْتُم بمعجزين فِي الأَرْض} العنكبوت 29 22
فلَان أَي إِلَيْهِ يصير أَمرك فَهَذَا يُطَابق تَفْسِير مُجَاهِد وَغَيره من السّلف كَمَا قَالَ مُجَاهِد الْحق يرجع إِلَى الله وَعَلِيهِ طَرِيقه لَا يعرج على شَيْء فطريق الْحق على الله وَهُوَ الصِّرَاط الْمُسْتَقيم الَّذِي قَالَ الله فِيهِ {هَذَا صِرَاط عَليّ مُسْتَقِيم} كَمَا فسرت بِهِ الْقِرَاءَة الْأُخْرَى
فالصراط فِي القرائتين هَذَا الصِّرَاط الْمُسْتَقيم الَّذِي أَمر الله الْمُؤمنِينَ أَن يسألوه اياه فِي صلَاتهم فيقولوا {اهدنا الصِّرَاط الْمُسْتَقيم صِرَاط الَّذين أَنْعَمت عَلَيْهِم غير المغضوب عَلَيْهِم وَلَا الضَّالّين} وَهُوَ الَّذِي وصّى بِهِ فِي قَوْله {وَأَن هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبعُوهُ وَلَا تتبعوا السبل فَتفرق بكم عَن سَبيله ذَلِكُم وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُون} الْأَنْعَام
وَقَوله هَذَا إِشَارَة إِلَى مَا تقدم ذكره وَهُوَ قَوْله {إِلَّا عِبَادك مِنْهُم المخلصين} الْحجر 15 40 فتعبد الْعباد لَهُ باخلاص الدّين لَهُ طَرِيق يدل عَلَيْهِ وَهُوَ طَرِيق مُسْتَقِيم وَلِهَذَا قَالَ بعده {إِن عبَادي لَيْسَ لَك عَلَيْهِم سُلْطَان} الْحجر 15 42