المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌سُورَة التِّين فصل (قَوْله فِي أَسْفَل سافلين) وَفِي قَوْله {أَسْفَل سافلين} قَولَانِ - دقائق التفسير - جـ ٣

[ابن تيمية]

الفصل: ‌ ‌سُورَة التِّين فصل (قَوْله فِي أَسْفَل سافلين) وَفِي قَوْله {أَسْفَل سافلين} قَولَانِ

‌سُورَة التِّين

فصل (قَوْله فِي أَسْفَل سافلين)

وَفِي قَوْله {أَسْفَل سافلين} قَولَانِ قيل الْهَرم وَقيل الْعَذَاب بعد الْمَوْت وَهَذَا هُوَ الَّذِي دلّت عَلَيْهِ الْآيَة قطعا فَإِنَّهُ جعله فِي أَسْفَل سافلين إِلَّا الْمُؤمنِينَ وَالنَّاس نَوْعَانِ فالكافر بعد الْمَوْت يعذب فِي أَسْفَل سافلين وَالْمُؤمن فِي عليين

وَأما القَوْل الأول فَفِيهِ نظر فَإِنَّهُ لَيْسَ كل من سوى الْمُؤمنِينَ يهرم فَيرد إِلَى أَسْفَل سافلين بل كثير من الْكفَّار يموتون قبل الْهَرم وَكثير من الْمُؤمنِينَ يهرم وَإِن كَانَ حَال الْمُؤمن فِي الْهَرم أحسن حَالا من الْكَافِر فَكَذَلِك فِي الشَّبَاب حَال الْمُؤمن أحسن من حَال الْكَافِر فَجعل الرَّد إِلَى أَسْفَل سافلين فِي آخر الْعُمر وتخصيصه بالكفار ضَعِيف

وَلِهَذَا قَالَ بَعضهم إِن الِاسْتِثْنَاء مُنْقَطع على هَذَا القَوْل وَهُوَ أَيْضا ضَعِيف فَإِن الْمُنْقَطع لَا يكون فِي الْمُوجب وَلَو جَازَ هَذَا لجَاز لكل أحد أَن يدعى فِي أَي اسْتثِْنَاء شَاءَ أَنه مُنْقَطع وَأَيْضًا فالمنقطع لَا يكون الثَّانِي مِنْهُ بعض الأول والمؤمنون بعض نوع الانسان

وَقد فسر ذَلِك بَعضهم على القَوْل الأول بِأَن الْمُؤمن يكْتب لَهُ مَا كَانَ يعمله إِذا عجز قَالَ ابراهيم النَّخعِيّ إِذا بلغ الْمُؤمن من الْكبر مَا يعجز عَن الْعَمَل كتب الله لَهُ مَا كَانَ يعْمل وَهُوَ قَوْله {فَلهم أجر غير ممنون} وَقَالَ ابْن قُتَيْبَة الْمَعْنى الا الَّذين

ص: 154

آمنُوا فِي وَقت الْقُوَّة وَالْقُدْرَة فَإِنَّهُم فِي حَال الْكبر غير منقوصين وَإِن عجزوا عَن الطَّاعَات فَإِن الله يعلم لَو لم يسلبهم الْقُوَّة لم ينقطعوا عَن أَفعَال الْخَيْر فَهُوَ يجْرِي لَهُم أجر ذَلِك

فَيُقَال وَهَذَا أَيْضا ثَابت فِي حَال الشَّبَاب إِذا عجز الشَّاب لمَرض أَو سفر كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَن أبي مُوسَى عَن النَّبِي صلى الله عليه وسلم قَالَ إِذا مرض العَبْد أَو سَافر كتب الله لَهُ من الْعَمَل مَا كَانَ يعْمل وَهُوَ صَحِيح مُقيم

وَفَسرهُ بَعضهم بِمَا رُوِيَ عَن ابْن عَبَّاس أَنه قَالَ من قَرَأَ الْقُرْآن فَإِنَّهُ لَا يرد إِلَى ارذل الْعُمر فَيُقَال هَذَا مَخْصُوص بقارىء الْقُرْآن وَالْآيَة استثنت الَّذين آمنُوا وَعمِلُوا الصَّالِحَات سَوَاء قرأوا الْقُرْآن أَو لم يقرأوه وَقد قَالَ النَّبِي صلى الله عليه وسلم فِي الحَدِيث الصَّحِيح مثل الْمُؤمن الَّذِي يقْرَأ الْقُرْآن كَمثل الأترجة طعمها طيب وريحها طيب وَمثل الْمُؤمن الَّذِي لَا يقْرَأ الْقُرْآن كَمثل التمرة طعمها طيب وَلَا ريح لَهَا

وَأَيْضًا فَيُقَال هرم الْحَيَوَان لَيْسَ مَخْصُوصًا بالانسان بل غَيره من الْحَيَوَان إِذا كبر هرم

وَأَيْضًا فالشيخ وان ضعف بدنه فعقله أقوى من عقل الشَّاب وَلَو قدر أَنه ينقص بعض قواه فَلَيْسَ هَذَا ردا إِلَى أَسْفَل سافلين فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ إِنَّمَا يصف الْهَرم بالضعف كَقَوْلِه {ثمَّ جعل من بعد قُوَّة ضعفا وَشَيْبَة} الرّوم 30 54 وَقَوله {وَمن نعمره ننكسه فِي الْخلق} يس 36 68 فَهُوَ يُعِيدهُ إِلَى حَال الضعْف وَمَعْلُوم أَن الطِّفْل لَيْسَ هُوَ فِي أَسْفَل سافلين فالشيخ كَذَلِك أولى

وَإِنَّمَا فِي أَسْفَل سافلين من يكون فِي سِجِّين لَا فِي عليين كَمَا قَالَ تَعَالَى {إِن الْمُنَافِقين فِي الدَّرك الْأَسْفَل من النَّار} النِّسَاء 4 145

وَمِمَّا يبين ذَلِك قَوْله {فَمَا يكذبك بعد بِالدّينِ} التِّين 95 7 فَإِنَّهُ يَقْتَضِي ارتباط هَذَا بِمَا قبله لذكره بِحرف الْفَاء وَلَو كَانَ الْمَذْكُور إِنَّمَا هُوَ رده إِلَى الْهَرم دون مَا بعد

ص: 155

الْمَوْت لم يكن هُنَاكَ تعرض الدّين وَالْجَزَاء بِخِلَاف مَا إِذا كَانَ الْمَذْكُور أَنه بعد الْمَوْت يرد إِلَى أَسْفَل سافلين غير الْمُؤمن المصلح فَإِن هَذَا يتَضَمَّن الْخَبَر بِأَن الله يدين الْعباد بعد الْمَوْت فيكرم الْمُؤمنِينَ ويهيمن الْكَافرين

وَأَيْضًا فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ أقسم على ذَلِك بأقسام عَظِيمَة بِالتِّينِ وَالزَّيْتُون وطور سِنِين وَهَذَا الْبَلَد الْأمين وَهِي الْمَوَاضِع الَّتِي جَاءَ مِنْهَا مُحَمَّد والمسيح ومُوسَى وَأرْسل الله بهَا هَؤُلَاءِ الرُّسُل مبشرين ومنذرين

وَهَذَا الاقسام لَا يكون على مُجَرّد الْهَرم الَّذِي يعرفهُ كل وَاحِد بل على الْأُمُور الغائبة الَّتِي تؤكد بالأقسام فان اقسام الله وَهُوَ على أنباء الْغَيْب

وَفِي نفس الْمقسم بِهِ وَهُوَ ارسال هَؤُلَاءِ الرُّسُل تَحْقِيق للمقسم عَلَيْهِ وَهُوَ الثَّوَاب وَالْعِقَاب بعد الْمَوْت لِأَن الرُّسُل أخبروا ب

وَهُوَ يتَضَمَّن أَيْضا الْجَزَاء فِي الدُّنْيَا كاهلاك من أهلكهم من الْكفَّار فانه ردهم إِلَى أَسْفَل سافلين بهلاكهم فِي الدُّنْيَا وَهُوَ تَنْبِيه على زَوَال النعم إِذا حصلت الْمعاصِي كمن رد فِي الدُّنْيَا إِلَى أَسْفَل جَزَاء على ذنُوبه

وَقَوله {فَمَا يكذبك بعد بِالدّينِ} أَي بالجزاء يتَنَاوَل جزاءه على الْأَعْمَال فِي الدُّنْيَا والرزخ وَالْآخِرَة إِذا كَانَ قد أقسم بأماكن هَؤُلَاءِ الْمُرْسلين الَّذين أرْسلُوا بِالْآيَاتِ الْبَينَات الدَّالَّة على أَمر الله وَنَهْيه ووعده ووعيده مبشرين لأهل الايمان منذرين لأهل الْكفْر وَقد أقسم بذلك على أَن الانسان بعد أَن جعل فِي أحسن تَقْوِيم ان آمن وَعمل صَالحا كَانَ لَهُ أجر غير ممنون والا كَانَ فِي أَسْفَل سافلين

ص: 156

فتضمن السُّورَة بَيَان مَا بعث بِهِ هَؤُلَاءِ الرُّسُل الَّذين أقسم بأماكنهم والاقسام بمواضع محنهم تَعْظِيم لَهُم فَإِن مَوضِع الانسان إِذا عظم لأَجله كَانَ هُوَ أَحَق التَّعْظِيم وَلِهَذَا يُقَال فِي الكاتبات إِلَى الْمجْلس وَالْمقر وَنَحْو ذَلِك السَّامِي والعالي وَيذكر بخضوع لَهُ وتعظيم وَالْمرَاد صَاحبه

فَلَمَّا قَالَ {فَمَا يكذبك بعد بِالدّينِ} دلّ على أَن مَا تقدم قد بَين فِيهِ مَا يمْنَع التَّكْذِيب بِالدّينِ

وَفِي قَوْله {يكذبك} قَولَانِ قيل هُوَ خطاب للْإنْسَان كَمَا قَالَ مُجَاهِد وَعِكْرِمَة وَمُقَاتِل وَلم يذكر الْبَغَوِيّ غَيره قَالَ عِكْرِمَة يَقُول فَمَا يكذبك بعد بِهَذِهِ الْأَشْيَاء الَّتِي فعلت بك وَعَن مقَاتل فَمَا الَّذِي يجعلك مُكَذبا بالجزاء وَزعم أَنَّهَا نزلت فِي عَيَّاش بن أبي ربيعَة

وَالثَّانِي أَنه خطاب للرسول وَهَذَا أظهر فَإِن الانسان إِنَّمَا ذكر مخبرا عَنهُ لم يُخَاطب وَالرَّسُول هُوَ الَّذِي أنزل عَلَيْهِ الْقُرْآن وَالْخطاب فِي هَذِه السُّور لَهُ كَقَوْلِه {مَا وَدعك رَبك وَمَا قلى} وَقَوله {ألم نشرح لَك صدرك} وَقَوله {اقْرَأ باسم رَبك}

والانسان إِذا خُوطِبَ قيل لَهُ {يَا أَيهَا الْإِنْسَان مَا غَرَّك بِرَبِّك الْكَرِيم} {يَا أَيهَا الْإِنْسَان إِنَّك كَادِح إِلَى رَبك كدحا}

وَأَيْضًا فبتقدير أَن يكون خطابا للانسان يجب أَن يكون خطابا للْجِنْس كَقَوْلِه {يَا أَيهَا الْإِنْسَان إِنَّك كَادِح} وعَلى قَول هَؤُلَاءِ أَنما هُوَ خطاب للْكَافِرِ خَاصَّة المكذب بِالدّينِ

وَأَيْضًا فان قَوْله {يكذبك بعد بِالدّينِ} أَي يجعلك كَاذِبًا هَذَا هُوَ الْمَعْرُوف من لُغَة الْعَرَب فَإِن اسْتِعْمَال كذب غَيره أَي نسبه إِلَى الْكَذِب وَجعله كَاذِبًا مَشْهُور وَالْقُرْآن مَمْلُوء من هَذَا وَحَيْثُ ذكر الله تَكْذِيب المكذبين للرسل أَو التَّكْذِيب بِالْحَقِّ وَنَحْو ذَلِك فَهَذَا مُرَاده

لَكِن هَذِه الْآيَة فِيهَا غموض من جِهَة كَونه قَالَ {يكذبك بعد بِالدّينِ} فَذكر المكذب بِالدّينِ فَذكر المكذب والمكذب بِهِ جَمِيعًا وَهَذَا قَلِيل جَاءَ نَظِيره فِي قَوْله {فقد كذبوكم بِمَا تَقولُونَ} الْفرْقَان 25 19 فَأَما أَكثر الْمَوَاضِع فَإِنَّمَا يذكر أَحدهمَا اما المكذب كَقَوْلِه {كذبت قوم نوح الْمُرْسلين} وَأما المكذب بِهِ كَقَوْلِه {بل كذبُوا بالساعة} وَأما الْجمع بَين ذكر المكذب والمكذب بِهِ فقليل

ص: 157

وَمن هُنَا اشتبهت هَذِه الْآيَة على من جعل الْخطاب فِيهَا للانسان وَفسّر معنى قَوْله {فَمَا يكذبك} فَمَا يجعلك مُكَذبا

وَعبارَة آخَرين فَمَا يجعلك كذابا قَالَ ابْن عَطِيَّة وَقَالَ جُمْهُور من الْمُفَسّرين الْمُخَاطب الانسان الْكَافِر أَي مَا الَّذِي يجعلك كذابا بِالدّينِ تجْعَل لله أندادا وتزعم أَنه لَا بعث بعد هَذِه الدَّلَائِل

(قلت) وكلا الْقَوْلَيْنِ غير مَعْرُوف فِي لُغَة الْعَرَب أَن يَقُول كَذبك أَي جعلك مُكَذبا بل كَذبك جعلك كذابا

وَمَا قيل جعلك كَاذِبًا أَي كَاذِبًا فِيمَا يخبر بِهِ كَمَا جعل الْكفَّار الرُّسُل كاذبين فِيمَا أخبروا بِهِ فكذبوهم وَهَذَا يَقُول جعلك كَاذِبًا بِالدّينِ فَجعل كذبه أَنه أشرك وَأَنه أنكر الْمعَاد وَهَذَا ضد الَّذِي يُنكر

ذَاك جعله مكذباا بِالدّينِ وَهَذَا جعله كَاذِبًا بِالدّينِ وَالْأول فَاسد من جِهَة الْعَرَبيَّة وَالثَّانِي فَاسد من جِهَة الْمَعْنى فان الدّين هُوَ الْجَزَاء الَّذِي كذب بِهِ الْكَافِر وَالْكَافِر كذب بِهِ لم يكذب هُوَ بِهِ

وَأَيْضًا فَلَا يعرف فِي الْخَبَر أَن يُقَال كذبت بِهِ بل يُقَال كَذبته

وَأَيْضًا فالمعروف فِي كذبه أَي نسبه إِلَى الْكَذِب لَا أَنه جعل الْكَذِب فِيهِ فَهَذَا كُله تكلّف لَا يعرف فِي اللُّغَة بل الْمَعْرُوف خِلَافه وَهُوَ لم يقل فَمَا يكذبك وَلَا قَالَ فَمَا كَذبك

وَلِهَذَا كَانَ عُلَمَاء الْعَرَبيَّة على القَوْل الثَّانِي قَالَ ابْن عَطِيَّة وَاخْتلف فِي الْمُخَاطب بقوله {فَمَا يكذبك} فَقَالَ قَتَادَة وَالْفراء والأخفش هُوَ مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم قَالَ الله لَهُ فَمَا

ص: 158

الَّذِي يكذبك فِيمَا تخبربه من الْجَزَاء والبعث وَهُوَ الدّين بعد هَذِه الْعبْرَة الَّتِي يُوجب النّظر فِيهَا صِحَة مَا قلت

قَالَ وَيحْتَمل أَن يكون على هَذَا التَّأْوِيل جَمِيع شَرعه وَدينه

(قلت) وعَلى أَن الْمُخَاطب مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم فِي الْمَعْنى قَولَانِ أَحدهمَا قَول قَتَادَة قَالَ {فَمَا يكذبك بعد بِالدّينِ} أَي استيقن فقد جَاءَك الْبَيَان من الله وَهَكَذَا رَوَاهُ عَنهُ ابْن أبي حَاتِم باسناد ثَابت

وَكَذَلِكَ ذكره الْمَهْدَوِيّ {فَمَا يكذبك بعد بِالدّينِ} أَي استيقن مَعَ مَا جَاءَك من الله أَنه أحكم الْحَاكِمين فالخطاب للنَّبِي صلى الله عليه وسلم وَقَالَ مَعْنَاهُ عَن قَتَادَة قَالَ وَقيل الْمَعْنى فَمَا يكذبك أَيهَا الشاك يَعْنِي الْكفَّار فِي قدرَة الله أَي شَيْء يحملك على ذَلِك بعد مَا تبين لَك من قدرته قَالَ وَقَالَ الْفراء فَمن يكذبك بالثواب وَالْعِقَاب وَهُوَ اخْتِيَار الطَّبَرِيّ

(قلت) هَذَا القَوْل الْمَنْقُول عَن قَتَادَة هُوَ الَّذِي أوجب نفور مُجَاهِد عَن أَن يكون الْخطاب للنَّبِي صلى الله عليه وسلم كَمَا روى النَّاس وَمِنْهُم ابْن أبي حَاتِم عَن الثَّوْريّ عَن مَنْصُور قَالَ قلت لمجاهد {فَمَا يكذبك بعد بِالدّينِ} عَنى بِهِ النَّبِي صلى الله عليه وسلم قَالَ معَاذ الله عني بِهِ الانسان

وَقد أحسن مُجَاهِد فِي تَنْزِيه النَّبِي صلى الله عليه وسلم أَن يُقَال لَهُ {فَمَا يكذبك} أَي استيقن وَلَا تكذب فَإِنَّهُ لَو قيل لَهُ لَا تكذب لَكَانَ هَذَا من جنس أمره بالايمان وَالتَّقوى وَنَهْيه عَمَّا نهى الله عَنهُ وَأما إِذا قيل {فَمَا يكذبك بعد بِالدّينِ} فَهُوَ لم يكذب بِالدّينِ بل هُوَ الَّذِي أخبر بِالدّينِ وَصدق بِهِ لَهو {وَالَّذِي جَاءَ بِالصّدقِ وَصدق بِهِ} الزمر 39 33 فَكيف يُقَال لَهُ {فَمَا يكذبك بعد بِالدّينِ} فَهَذَا القَوْل فَاسد لفظا وَمعنى

وَاللَّفْظ الَّذِي رَأَيْته مقولا بالاسناد عَن قَتَادَة لَيْسَ صَرِيحًا فِيهِ بل يحْتَمل أَن يكون أَرَادَ بِهِ خطاب الانسان فَإِنَّهُ قَالَ {فَمَا يكذبك بعد بِالدّينِ} قَالَ استيقن فقد جَاءَك الْبَيَان وكل انسان مُخَاطب بِهَذَا فَإِن كَانَ قَتَادَة أَرَادَ هَذَا فَالْمَعْنى صَحِيح

لَكِن هم حكوا عَنهُ أَن هَذَا خطاب للرسول صلى الله عليه وسلم وعَلى هَذَا فَهَذَا الْمَعْنى بَاطِل فَلَا يُقَال للرسول فَأَي شَيْء يجعلك مُكَذبا بِالدّينِ وان ارتأت بِهِ النَّفس لِأَن هَذَا فِيهِ دَلَائِل تدل على فَسَاده وَلِهَذَا استعاذ مِنْهُ مُجَاهِد

وَالصَّوَاب مَا قَالَه الْفراء والأخفش وَغَيرهمَا وَهُوَ الَّذِي اخْتَارَهُ أَبُو جَعْفَر مُحَمَّد ابْن جرير الطَّبَرِيّ وَغَيره من الْعلمَاء كَمَا تقدم

ص: 159

وَكَذَلِكَ ذكره أَبُو الْفرج بن الْجَوْزِيّ عَن الْفراء فَقَالَ انه خطاب للنَّبِي صلى الله عليه وسلم وَالْمعْنَى فَمن يقدر على تكذيبك بالثواب وَالْعِقَاب بعد مَا تبين لَهُ أَنا خلقنَا الانسان على مَا وَصفنَا قَالَه الْفراء

قَالَ وَأما الدّين فَهُوَ الْجَزَاء (قلت) وَكَذَلِكَ قل غير وَاحِد كَمَا روى ابْن أبي حَاتِم عَن النَّضر بن عَرَبِيّ {فَمَا يكذبك بعد بِالدّينِ} أَي بِالْحِسَابِ

وَمن تَفْسِير الْعَوْفِيّ عَن ابْن عَبَّاس أَي بِحكم الله قلت قَالَ بِحكم الله لقَوْله {أَلَيْسَ الله بِأَحْكَم الْحَاكِمين} وَهُوَ سُبْحَانَهُ يحكم بَين الْمُصدق بِالدّينِ والمكذب بِهِ

وعَلى هَذَا قَوْله {فَمَا} وصف للأشخاص وَلم يقل فَمن لِأَن مَا يُرَاد بِهِ الصِّفَات دون الْأَعْيَان وَهُوَ الْمَقْصُود كَقَوْلِه {فانكحوا مَا طَابَ لكم من النِّسَاء} وَقَوله {لَا أعبد مَا تَعْبدُونَ} وَقَوله {وَنَفس وَمَا سواهَا} كَأَنَّهُ قيل فَمَا المكذب بِالدّينِ بعد هَذَا أَي من هَذِه صفته ونعته هُوَ جَاهِل ظَالِم لنَفسِهِ وَالله يحكم بَين عباده فِيمَا يَخْتَلِفُونَ فِيهِ من هَذَا النبأ الْعَظِيم

وَقَوله {بعد} قد قيل انه (بعد مَا ذكر من دَلَائِل الدّين)

وَقد يُقَال لم يذكر الا الاخبار بِهِ وَأَن النَّاس نَوْعَانِ فِي أَسْفَل سافلين وَنَوع لَهُم أجر غير ممنون فقد ذكر الْبشَارَة والنذارة وَالرسل بعثوا مبشرين ومنذرين

فَمن كَذبك بعد هَذَا فحكمة إِلَى الله أحكم الْحَاكِمين وَأَنت قد بلغت مَا وَجب عَلَيْك تبليغه

وَقَوله {فَمَا يكذبك} لَيْسَ نفيا للتكذيب فقد وَقع بل قد يُقَال انه تعجب مِنْهُ كَمَا قَالَ {وَإِن تعجب فَعجب قَوْلهم أئذا كُنَّا تُرَابا أئنا لفي خلق جَدِيد} الرَّعْد 13 5

وَقد يُقَال ان هَذَا تحقير لشأنه وتصغير لقدره لجهله وظلمه كَمَا يُقَال من فلَان وَمن يَقُول هَذَا الا جَاهِل لكنه ذكر بِصِيغَة مَا فَإِنَّهَا تدل على صفته وَهِي الْمَقْصُودَة اذ لَا غَرَض فِي عينه كَأَنَّهُ قيل فأبي صنف وَأي جَاهِل يكذبك بعد بِالدّينِ فَإِنَّهُ من الَّذين يردون إِلَى أَسْفَل سافلين

وَقَوله {أَلَيْسَ الله بِأَحْكَم الْحَاكِمين} يدل على أَنه الْحَاكِم بَين المكذب بِالدّينِ وَالْمُؤمن بِهِ وَالْأَمر فِي ذَلِك لَهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى

ص: 160

وَالْقُرْآن لَا تَنْقَضِي عجائبه وَالله سُبْحَانَهُ بَين مُرَاده بَيَانا أحكمه لَكِن الِاشْتِبَاه يَقع على من لم يرسخ فِي علم الدَّلَائِل الدَّالَّة فان هَذِه السُّورَة وَغَيرهَا فِيهَا عجائب لَا تَنْقَضِي

وَمِنْهَا أَن قَوْله {فَمَا يكذبك بعد بِالدّينِ} ذكر فِيهِ الرَّسُول المكذب وَالدّين المكذب بِهِ جَمِيعًا فَإِن السُّورَة تَضَمَّنت الْأَمريْنِ تَضَمَّنت الاقسام بأماكن الرُّسُل المبينة لعظمتهم وَمَا أَتَوا بِهِ من الْآيَات الدَّالَّة على دقهم الْمُوجبَة للايمان وهم قد أخبروا بالمعاد الْمَذْكُور فِي هَذِه السُّورَة

وَقد أقسم الله عَلَيْهِ كَمَا يقسم عَلَيْهِ فِي غير مَوضِع وكما أَمر نبيه أَن يقسم عَلَيْهِ فِي مثل قَوْله {زعم الَّذين كفرُوا أَن لن يبعثوا قل بلَى وربي لتبعثن} التغابن 64 7 وَقَوله {وَقَالَ الَّذين كفرُوا لَا تَأْتِينَا السَّاعَة قل بلَى وربي لتأتينكم} سبأ 34 3

فَلَمَّا تَضَمَّنت هَذَا وَهَذَا ذكر نَوْعي التَّكْذِيب فَقَالَ {فَمَا يكذبك بعد بِالدّينِ} وَالله سُبْحَانَهُ أعلم

وَأَيْضًا فَإِنَّهُ لَا ذَنْب لَهُ فِي ذَلِك وَالْقُرْآن مُرَاده أَن يبين أَن هَذَا الرَّد جَزَاء على ذنُوبه وَلِهَذَا قَالَ {إِلَّا الَّذين آمنُوا وَعمِلُوا الصَّالِحَات} كَمَا قَالَ {إِن الْإِنْسَان لفي خسر إِلَّا الَّذين آمنُوا وَعمِلُوا الصَّالِحَات وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصبرِ} الْعَصْر 103 2 و 3

لَكِن هُنَا ذكر الخسر فَقَط فوصف المستثنين بِأَنَّهُ تواصوا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصبرِ مَعَ الايمان وَالصَّلَاح وَهُنَاكَ ذكر أَسْفَل سافلين وَهُوَ الْعَذَاب وَالْمُؤمن المصلح لَا يعذب وان كَانَ قد ضيع أمورا خسرها لَو حفظهَا لَكَانَ رابحا غير خاسر وَبسط لَهُ مَوضِع آخر

ص: 161

وَالْمَقْصُود هُنَا أَنه سُبْحَانَهُ يذكر خلق الانسان مُجملا ومفصلا

وَتارَة يذكر احياءه كَقَوْلِه تَعَالَى {كَيفَ تكفرون بِاللَّه وكنتم أَمْوَاتًا فأحياكم ثمَّ يميتكم ثمَّ يُحْيِيكُمْ ثمَّ إِلَيْهِ ترجعون} الْبَقَرَة 2 28 وَهُوَ كَقَوْل الْخَلِيل عليه السلام {رَبِّي الَّذِي يحيي وَيُمِيت} الْبَقَرَة 2 258

فان خلق الحيوة ولوازمها وملزوماتها أعظم وأدل على الْقُدْرَة وَالنعْمَة وَالْحكمَة (آخر كَلَام الشَّيْخ على سُورَة والتين)

ص: 162