الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وَابْن عَطِيَّة ذكر أَن هَذَا معنى الْآيَة فِي تَفْسِير الْآيَة الْأُخْرَى مستشهدا بِهِ مَعَ أَنه لم يذكرهُ فِي تَفْسِيرهَا فَهُوَ بفطرته عرف أَن هَذَا معنى الْآيَة وَلكنه لما فَسرهَا ذكر ذَلِك القَوْل كَأَنَّهُ هُوَ الَّذِي اتّفق أَن رأى غَيره قد قَالَه هُنَاكَ فَقَالَ رحمه الله
فصل (فِي معنى السَّبِيل)
وَقَوله {وعَلى الله قصد السَّبِيل وَمِنْهَا جَائِر} وَهَذِه أَيْضا من أجل نعم الله تَعَالَى أَي على الله تَقْوِيم طَرِيق الْهدى وتبيينه وَذَلِكَ نصب الْأَدِلَّة وَبعث الرُّسُل وَإِلَى هَذَا ذهب المتأولون
قَالَ وَيحْتَمل أَن يكون الْمَعْنى أَن من سلك السَّبِيل القاصد فعلى الله طَرِيقه وَإِلَى ذَلِك مصيره فَيكون هَذَا مثل قَوْله {هَذَا صِرَاط عَليّ مُسْتَقِيم} وضد قَول النَّبِي صلى الله عليه وسلم وَالشَّر لَيْسَ إِلَيْك أَي لَا يُفْضِي إِلَى رحمتك وَطَرِيق قَاصد مَعْنَاهُ بَين مُسْتَقِيم قريب وَمِنْه قَول الراجز
قصد عَن نهج الطَّرِيق القاصد
قَالَ وَالْألف وَاللَّام فِي السَّبِيل للْعهد وَهِي سَبِيل الشَّرْع وَلَيْسَت للْجِنْس وَلَو كَانَت للْجِنْس لم يكن مِنْهَا جَائِر وَقَوله {وَمِنْهَا جَائِر} يُرِيد طَرِيق الْيَهُود وَالنَّصَارَى وَغَيرهم كعباد الاصنام وَالضَّمِير فِي مِنْهَا يعود على السَّبِيل الَّتِي يتضمنها معنى الْآيَة كَأَنَّهُ قَالَ وَمن السَّبِيل جَائِر فَأَعَادَ عَلَيْهَا وان كَانَ لم يجر لَهَا ذكر لتضمن لَفْظَة السَّبِيل بِالْمَعْنَى لَهَا
قَالَ وَيحْتَمل أَن يكون الضَّمِير فِي مِنْهَا على سَبِيل الشَّرْع الْمَذْكُورَة وَيكون من للتَّبْعِيض وَيكون المُرَاد فرق الضَّلَالَة من أمة مُحَمَّد كَأَنَّهُ قَالَ وَمن بَيِّنَات الطّرق من هَذِه السَّبِيل وَمن شعبها جَائِر
(قلت) سَبِيل أهل الْبدع جائرة خَارِجَة عَن الصِّرَاط الْمُسْتَقيم فِيمَا ابتدعوا فِيهِ وَلَا يُقَال ان ذَلِك من السَّبِيل الْمَشْرُوعَة
وَأما قَوْله إِن قَوْله {قصد السَّبِيل} هِيَ سَبِيل الشَّرْع وَهِي سَبِيل الْهدى والصراط الْمُسْتَقيم وَأَنَّهَا لَو كَانَت للْجِنْس لم يكن مِنْهَا جَائِر فَهَذَا أحد الْوَجْهَيْنِ فِي دلَالَة الْآيَة وَهُوَ مَرْجُوح وَالصَّحِيح الْوَجْه الآخر أَن السَّبِيل اسْم جنس وَلَكِن الَّذِي على
الله هُوَ الْقَصْد مِنْهَا وَهِي سَبِيل وَاحِد ولماكان جِنْسا قَالَ {وَمِنْهَا جَائِر} وَالضَّمِير يعود على مَا ذكر بِلَا تكلّف
وَقَوله لَو كَانَ للْجِنْس لم يكن مِنْهَا جَائِر لَيْسَ كَذَلِك فَإِنَّهَا لَيست كلهَا عَلَيْهِ بل إِنَّمَا عَلَيْهِ الْقَصْد مِنْهَا وَهِي سَبِيل الْهدى والجائر لَيْسَ من الْقَصْد وَكَأَنَّهُ ظن أَنه إِذا كَانَت للْجِنْس يكون عَلَيْهِ قصد كل سَبِيل وَلَيْسَ كَذَلِك بل إِنَّمَا عَلَيْهِ سَبِيل وَاحِدَة وَهِي الصِّرَاط الْمُسْتَقيم وَهِي الَّتِي تدل عَلَيْهِ وسائرها سَبِيل الشَّيْطَان كَمَا قَالَ {وَأَن هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبعُوهُ وَلَا تتبعوا السبل فَتفرق بكم عَن سَبيله}
وَقد أحسن رحمه الله فِي هَذَا الِاحْتِمَال وَفِي تمثيله ذَلِك بقوله {هَذَا صِرَاط عَليّ مُسْتَقِيم}
وَأما آيَة اللَّيْل قَوْله {إِن علينا للهدى} فَابْن عَطِيَّة مثلهَا بِهَذِهِ الْآيَة لكنه فَسرهَا بِالْوَجْهِ الأول فَقَالَ
ثمَّ أخبر تَعَالَى أَن عَلَيْهِ هدى النَّاس جَمِيعًا أَي تعريفهم بالسبل كلهَا ومنحهم الْإِدْرَاك كَمَا قَالَ {وعَلى الله قصد السَّبِيل} ثمَّ كل أحد يتكسب مَا قدر لَهُ وَلَيْسَت هَذِه الْهِدَايَة بالارشاد إِلَى الْإِيمَان وَلَو كَانَ كَذَلِك لم يُوجد كَافِر
(قلت) وَهَذَا هُوَ الَّذِي ذكره ابْن الْجَوْزِيّ وَذكره عَن الزّجاج قَالَ الزّجاج ان علينا أَن نبين طَرِيق الْهدى من طَرِيق الضلال
وَهَذَا التَّفْسِير ثَابت عَن قَتَادَة رَوَاهُ عبد بن حميد قَالَ حَدثنَا يُونُس عَن شَيبَان عَن قَتَادَة {إِن علينا للهدى} علينا بَيَان حَلَاله وَحَرَامه وطاعته ومعصيته وَكَذَلِكَ رَوَاهُ ابْن أبي حَاتِم فِي تَفْسِير سعيد عَن قَتَادَة فِي قَوْله {إِن علينا للهدى} يَقُول على الله الْبَيَان بَيَان حَلَاله وَحَرَامه وطاعته ومعصيته
لَكِن قَتَادَة ذكر أَنه الْبَيَان الَّذِي أرسل الله بِهِ رسله وَأنزل بِهِ كتبه فَتبين بِهِ حَلَاله وَحَرَامه وطاعته ومعصيته
وَأما الثَّعْلَبِيّ والواحدي وَالْبَغوِيّ وَغَيرهم فَذكرُوا الْقَوْلَيْنِ وَزَادُوا أقوالا آخر فَقَالُوا وَاللَّفْظ لِلْبَغوِيِّ
{إِن علينا للهدى} يَعْنِي الْبَيَان قَالَ الزّجاج علينا أَن نبين طَرِيق الْهدى من طَرِيق الضَّلَالَة وَهُوَ قَول قَتَادَة قَالَ على الله بَيَان حَلَاله وَحَرَامه
وَقَالَ الْقُرَّاء يَعْنِي من سلك الْهدى فعلى الله سَبيله كَقَوْلِه تَعَالَى {وعَلى الله قصد السَّبِيل} يَقُول من أَرَادَ الله فَهُوَ على السَّبِيل القاصد
قَالَ وَقيل مَعْنَاهُ إِن علينا للهدى والاضلال كَقَوْلِه بِيَدِك الْخَيْر
(قلت) هَذَا القَوْل هُوَ من الْأَقْوَال المحدثة الَّتِي لم تعرف عَن السّلف وَكَذَلِكَ مَا اشبهه فَإِنَّهُم قَالُوا مَعْنَاهُ بِيَدِك الْخَيْر وَالشَّر وَالنَّبِيّ صلى الله عليه وسلم فِي الحَدِيث الصَّحِيح يَقُول وَالْخَيْر بيديك وَالشَّر لَيْسَ اليك
وَالله تَعَالَى خَالق كل شَيْء لَا يكون فِي ملكه إِلَّا مَا يَشَاء وَالْقدر حق لَكِن فهم الْقُرْآن وَوضع كل شَيْء مَوْضِعه وَبَيَان حِكْمَة الرب وعدله مَعَ الايمان بِالْقدرِ هُوَ طَرِيق الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ لَهُم بِإِحْسَان
(ذكر الْمَهْدَوِيّ ثَلَاثَة أَقْوَال)
وَقد ذكر الْمَهْدَوِيّ الْأَقْوَال الثَّلَاثَة فَقَالَ إِن علينا للهدى والضلال فَحذف قَتَادَة الْمَعْنى إِن علينا بَيَان الْحَلَال وَالْحرَام
وَقيل الْمَعْنى إِن علينا أَن نهدي من سلك سَبِيل الْهدى
(قلت) هَذَا هُوَ قَول الْقُرَّاء لَكِن عبارَة الْقُرَّاء أبين فِي معرفَة هَذَا القَوْل
فقد تبين أَن جُمْهُور الْمُتَقَدِّمين فسروا الْآيَات الثَّلَاث بِأَن الطَّرِيق الْمُسْتَقيم لَا يدل إِلَّا على الله وَمِنْهُم من فَسرهَا بِأَن عَلَيْهِ بَيَان الطَّرِيق الْمُسْتَقيم وَالْمعْنَى الأول مُتَّفق عَلَيْهِ بَين الْمُسلمين
وَأما الثَّانِي فقد يَقُول طَائِفَة لَيْسَ على الله شَيْء لَا بَيَان هَذَا وَلَا هَذَا فَإِنَّهُم متنازعون هَل أوجب على نَفسه كَمَا قَالَ {كتب ربكُم على نَفسه الرَّحْمَة} الْأَنْعَام 6 54 وَقَوله {وَكَانَ حَقًا علينا نصر الْمُؤمنِينَ} الرّوم 20 47 وَقَوله {وَمَا من دَابَّة فِي الأَرْض إِلَّا على الله رزقها} هود 11 6
وَإِذا كَانَ عَلَيْهِ بَيَان الْهدى من الضلال وَبَيَان حَلَاله وَحَرَامه وطاعته ومعصيته فَهَذَا يُوَافق قَول من يَقُول إِن عَلَيْهِ ارسال الرُّسُل وَإِن ذَلِك وَاجِب عَلَيْهِ فَإِن الْبَيَان لَا يحصل إِلَّا بِهَذَا
وَهَذَا يتَعَلَّق بِأَصْل آخر وَهُوَ أَن كل مَا فعله فَهُوَ وَاجِب مِنْهُ أوجبته مَشِيئَته وحكمته وَأَنه مَا شَاءَ كَانَ وَمَا لم يَشَأْ لم يكن فَمَا شاءه رَجَب وجوده وَمَا لم يشأه امْتنع وجوده وَبسط هَذَا لَهُ مَوضِع آخر
وَدلَالَة الْآيَات على هَذَا فِيهَا نظر
وَأما الْمَعْنى الْمُتَّفق عَلَيْهِ فَهُوَ مُرَاد من الْآيَات الثَّلَاث قطعا وَأَنه أرشد بهَا إِلَى الطَّرِيق الْمُسْتَقيم وَهِي الطَّرِيق الْقَصْد وَهِي الْهدى إِنَّمَا تدل عَلَيْهِ وَهُوَ الْحق طَرِيقه على الله لَا يعرج عَنهُ
لَكِن نشأت الشُّبْهَة من كَونه قَالَ علينا بِحرف الاستعلاء وَلم يقل الينا وَالْمَعْرُوف أَن يُقَال لمن يشار إِلَيْهِ أَن يُقَال هَذِه الطَّرِيق إِلَى فلَان وَطن يمر بِهِ ويجتاز عَلَيْهِ أَن يَقُول طريقنا على فلَان
وَذكر هَذَا الْمَعْنى بِحرف الاستعلاء وَهُوَ من محَاسِن الْقُرْآن الَّذِي لَا تَنْقَضِي عجائبه وَلَا يشْبع مِنْهُ الْعلمَاء
فَإِن الْخلق كلهم مصيرهم ومرجعهم إِلَى الله على أَي طَرِيق سلكوا كَمَا قَالَ تَعَالَى {يَا أَيهَا الْإِنْسَان إِنَّك كَادِح إِلَى رَبك كدحا فملاقيه} الانشقاق 84 6 وَقَالَ {وَإِلَى الله الْمصير} آل عمرَان 3 28 النُّور 24 42 فاطر 35 18 {إِن إِلَيْنَا إيابهم} الغاشية 88 25 أَي الينا مرجعهم وَقَالَ {وَهُوَ الَّذِي يتوفاكم بِاللَّيْلِ وَيعلم مَا جرحتم بِالنَّهَارِ ثمَّ يبعثكم فِيهِ ليقضى أجل مُسَمّى ثمَّ إِلَيْهِ مرجعكم ثمَّ ينبئكم بِمَا كُنْتُم تَعْمَلُونَ وَهُوَ القاهر فَوق عباده وَيُرْسل عَلَيْكُم حفظَة حَتَّى إِذا جَاءَ أحدكُم الْمَوْت توفته رسلنَا وهم لَا يفرطون ثمَّ ردوا إِلَى الله مَوْلَاهُم الْحق} الانعام 6 60 62 وَقَالَ {أم لم ينبأ بِمَا فِي صحف مُوسَى وَإِبْرَاهِيم الَّذِي وفى أَلا تزر وَازِرَة وزر أُخْرَى وَأَن لَيْسَ للْإنْسَان إِلَّا مَا سعى وَأَن سَعْيه سَوف يرى ثمَّ يجزاه الْجَزَاء الأوفى وَأَن إِلَى رَبك الْمُنْتَهى} النَّجْم 53 36 42 وَقَالَ {وَإِمَّا نرينك بعض الَّذِي نعدهم أَو نتوفينك فإلينا مرجعهم ثمَّ الله شَهِيد على مَا يَفْعَلُونَ} يُونُس 10 46 فَأَي سَبِيل سلكها العَبْد فالى الله مرجعه ومنتهاه لَا بُد لَهُ من لِقَاء الله {ليجزي الَّذين أساؤوا بِمَا عمِلُوا وَيجْزِي الَّذين أَحْسنُوا بِالْحُسْنَى} النَّجْم 53 31
وَتلك الْآيَات قصد بهَا أَن سَبِيل الْحق وَالْهدى وَهُوَ الصِّرَاط الْمُسْتَقيم هُوَ الَّذِي يسْعد أَصْحَابه وينالون بِهِ ولَايَة الله وَرَحمته وكرامته فَيكون الله وليهم دون الشَّيْطَان وَهَذِه سَبِيل من عبد الله وَحده وأطاع رسله فَلهَذَا قَالَ {إِن علينا للهدى} {وعَلى الله قصد السَّبِيل} {قَالَ هَذَا صِرَاط عَليّ مُسْتَقِيم} فالهدى وَقصد السَّبِيل والصراط الْمُسْتَقيم إِنَّمَا يدل على عِبَادَته وطاعته يدل على مَعْصِيَته وَطَاعَة الشَّيْطَان
فَالْكَلَام تضمن معنى الدّلَالَة إِذْ لَيْسَ المُرَاد ذكر الْجَزَاء فِي الْآخِرَة فَإِن الْجَزَاء يعم الْخلق كلهم بل الْمَقْصُود بَيَان مَا أَمر الله بِهِ من عِبَادَته وطاعته وَطَاعَة رسله مَا الَّذِي يدل على ذَلِك فَكَأَنَّهُ قيل الصِّرَاط الْمُسْتَقيم يدل على الله على عِبَادَته وطاعته
وَذَلِكَ يبين أَن من لُغَة الْعَرَب أَنهم يَقُولُونَ هَذِه الطَّرِيق على فلَان إِذا كَانَت تدل
عَلَيْهِ وَكَانَ هُوَ الْغَايَة الْمَقْصُودَة بهَا وَهَذَا غير كَونهَا عَلَيْهِ بِمَعْنى أَن صَاحبهَا يمر عَلَيْهِ وَقد قيل
…
هن المنايا أَي وَاد سلكته
…
عَلَيْهَا طريقي أَو على طريقها
…
وَهُوَ كَمَا قَالَ الْفراء من سلك الْهدى فعلى الله سَبيله
فالمقصود بالسبيل هُوَ الَّذِي يدل ويوقع عَلَيْهِ كَمَا يُقَال ان سلكت هَذِه السَّبِيل وَقعت على الْمَقْصُود وَنَحْو ذَلِك وكما يُقَال على الْخَبِير سَقَطت فَإِن الْغَايَة المطلوبه إِذا كَانَت عَظِيمَة فالسالك يَقع عَلَيْهَا وَيَرْمِي نَفسه عَلَيْهَا
وَأَيْضًا فسالك طَرِيق الله متوكل عَلَيْهِ فَلَا بُد لَهُ من عِبَادَته وَمن التَّوَكُّل عَلَيْهِ
فَإِذا قيل عَلَيْهِ الطَّرِيق الْمُسْتَقيم تضمن أَن سالكه عَلَيْهِ يتوكل وَعَلِيهِ تدله الطَّرِيق وعَلى عِبَادَته وطاعته يَقع وَيسْقط لَا يعدل عَن ذَلِك إِلَى نَحْو ذَلِك من الْمعَانِي الَّتِي يدل عَلَيْهَا حرف الاستعلاء دون حرف الْغَايَة
وَهُوَ سُبْحَانَهُ قد أخبر أَنه على صِرَاط مُسْتَقِيم فَعَلَيهِ الصِّرَاط الْمُسْتَقيم وَهُوَ على صِرَاط مُسْتَقِيم سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُول الظَّالِمُونَ علوا كَبِيرا وَالله أعلم آخر كَلَام شيخ الاسلام ابْن تَيْمِية (فِيمَا يتَعَلَّق بِهَذِهِ السُّورَة)