المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌النوع الخامس والستون: في العلوم المستنبطة من القرآن - الإتقان في علوم القرآن - جـ ٤

[الجلال السيوطي]

فهرس الكتاب

- ‌المجلد الرابع

- ‌النَّوْعُ الرَّابِعُ وَالسِّتُّونَ: فِي إِعْجَازِ الْقُرْآنِ

- ‌النَّوْعُ الْخَامِسُ وَالسِّتُّونَ: فِي الْعُلُومِ الْمُسْتَنْبَطَةِ مِنَ الْقُرْآنِ

- ‌النَّوْعُ السَّادِسُ وَالسِّتُّونَ: فِي أَمْثَالِ الْقُرْآنِ

- ‌النَّوْعُ السَّابِعُ وَالسِّتُّونَ: فِي أَقْسَامِ الْقُرْآنِ

- ‌النَّوْعُ الثَّامِنُ وَالسِّتُّونَ: فِي جَدَلِ الْقُرْآنِ

- ‌النَّوْعُ التَّاسِعُ وَالسِّتُّونَ: فِيمَا وَقَعَ فِي الْقُرْآنِ مِنَ الْأَسْمَاءِ وَالْكُنَى وَالْأَلْقَابِ

- ‌النَّوْعُ السَّبْعُونَ: فِي الْمُبْهَمَاتِ

- ‌النَّوْعُ الْحَادِي وَالسَّبْعُونَ: فِي أَسْمَاءِ مَنْ نَزَلَ فِيهِمُ الْقُرْآنُ

- ‌النَّوْعُ الثَّانِي وَالسَّبْعُونَ: فِي فَضَائِلِ الْقُرْآنِ

- ‌النَّوْعُ الثَّالِثُ وَالسَّبْعُونَ: فِي أَفْضَلِ القرآن وفاضله

- ‌النَّوْعُ الرَّابِعُ وَالسَّبْعُونَ: فِي مُفْرَدَاتِ الْقُرْآنِ

- ‌النَّوْعُ الْخَامِسُ وَالسَّبْعُونَ: فِي خَوَاصِّ الْقُرْآنِ

- ‌النَّوْعُ السَّادِسُ وَالسَّبْعُونَ: فِي مَرْسُومِ الْخَطِّ وَآدَابِ كِتَابَتِهِ

- ‌النَّوْعُ السَّابِعُ وَالسَّبْعُونَ: فِي مَعْرِفَةِ تَفْسِيرِهِ وَتَأْوِيلِهِ وَبَيَانِ شَرَفِهِ وَالْحَاجَةِ إِلَيْهِ

- ‌النَّوْعُ الثَّامِنُ وَالسَّبْعُونَ: فِي مَعْرِفَةِ شُرُوطِ الْمُفَسِّرِ وآدابه

- ‌النَّوْعُ التَّاسِعُ وَالسَّبْعُونَ: فِي غَرَائِبِ التَّفْسِيرِ

- ‌النَّوْعُ الثَّمَانُونَ: فِي طَبَقَاتِ الْمُفَسِّرِينَ

الفصل: ‌النوع الخامس والستون: في العلوم المستنبطة من القرآن

‌النَّوْعُ الْخَامِسُ وَالسِّتُّونَ: فِي الْعُلُومِ الْمُسْتَنْبَطَةِ مِنَ الْقُرْآنِ

قَالَ تَعَالَى: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} وَقَالَ: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ}

وَقَالَ صلى الله عليه وسلم: "سَتَكُونُ فِتَنٌ" قِيلَ: وَمَا الْمَخْرَجُ مِنْهَا؟ قَالَ: "كِتَابُ اللَّهِ فِيهِ نبأ ما قبلكم وخبر ما بَعْدَكُمْ وَحُكْمُ مَا بَيْنَكُمْ" أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُ.

وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: "مَنْ أَرَادَ الْعِلْمَ فَعَلَيْهِ بِالْقُرْآنِ فَإِنَّ فِيهِ خَبَرَ الْأَوَّلِينَ وَالْآخَرِينَ" قَالَ: الْبَيْهَقِيُّ: يَعْنِي أُصُولَ الْعِلْمِ.

وَأَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ عَنِ الْحَسَنِ قَالَ: أَنْزَلَ اللَّهُ مِائَةً وَأَرْبَعَةَ كُتُبٍ أَوْدَعَ عُلُومَهَا أَرْبَعَةً مِنْهَا: التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَالزَّبُورَ وَالْفُرْقَانَ ثُمَّ أَوْدَعَ عُلُومَ الثَّلَاثَةِ الْفُرْقَانَ.

وَقَالَ الْإِمَامُ الشَّافِعِيُّ رضي الله عنه: جَمِيعُ مَا تَقُولُهُ الْأُمَّةُ شَرْحٌ لِلسُّنَّةِ وَجَمِيعُ السُّنَّةِ شَرْحٌ لِلْقُرْآنِ

وَقَالَ أَيْضًا: جَمِيعُ مَا حَكَمَ بِهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فهو مما فهمه من القرآن

قُلْتُ: وَيُؤَيِّدُ هَذَا قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم: "إِنِّي لَا أُحِلُّ إِلَّا مَا أَحَلَّ اللَّهُ وَلَا أُحَرِّمُ إِلَّا مَا حَرَّمَ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ" أَخْرَجَهُ بِهَذَا اللَّفْظِ الشَّافِعِيُّ فِي الْأُمِّ

ص: 28

وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: مَا بَلَغَنِي حَدِيثٌ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لى وَجْهِهِ إِلَّا وَجَدْتُ مِصْدَاقَهُ فِي كِتَابِ اللَّهِ.

وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: إِذَا حَدَّثْتُكُمْ بِحَدِيثٍ أَنْبَأَتْكُمْ بِتَصْدِيقِهِ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى أَخْرَجَهُمَا ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ أَيْضًا: لَيْسَتْ تَنْزِلُ بِأَحَدٍ فِي الدِّينِ نَازِلَةٌ إِلَّا فِي كِتَابِ اللَّهِ الدَّلِيلُ عَلَى سَبِيلِ الْهُدَى فِيهَا فَإِنْ قِيلَ: مِنَ الْأَحْكَامِ ما ثبت ابْتِدَاءً بِالسُّنَّةِ قُلْنَا: ذَلِكَ مَأْخُوذٌ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ فِي الْحَقِيقَةِ لِأَنَّ كِتَابَ اللَّهِ أَوْجَبَ عَلَيْنَا اتِّبَاعَ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم وَفَرَضَ عَلَيْنَا الْأَخْذَ بِقَوْلِهِ.

وَقَالَ الشَّافِعِيُّ مَرَّةً بِمَكَّةَ: سَلُونِي عَمَّا شِئْتُمْ أُخْبِرْكُمْ عَنْهُ فِي كِتَابِ اللَّهِ فَقِيلَ لَهُ: مَا تَقُولُ فِي الْمُحْرِمِ يَقْتُلُ الزُّنْبُورَ؟ فَقَالَ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ: {آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا}

وَحَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عُمَيْرٍ عَنْ رِبْعِيِّ بْنِ حِرَاشٍ عَنْ حُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: "اقْتَدُوا بِاللَّذَيْنِ مِنْ بعدي أبو بَكْرٍ وَعُمَرَ"

وَحَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ مِسْعَرِ بْنِ كِدَامٍ عَنْ قَيْسِ بْنِ مُسْلِمٍ عَنْ طَارِقِ بْنِ شِهَابٍ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَنَّهُ أَمَرَ بِقَتْلِ الْمُحْرِمِ الزَّنْبُورَ

وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ قَالَ: "لَعَنَ اللَّهُ الْوَاشِمَاتِ وَالْمُتَوَشِّمَاتِ وَالْمُتَنَمِّصَاتِ وَالْمُتَفَلِّجَاتِ لِلْحُسْنِ الْمُغَيِّرَاتِ خَلْقَ اللَّهِ تَعَالَى" فَبَلَغَ ذَلِكَ امْرَأَةً مِنْ بَنِي أَسَدٍ فَقَالَتْ لَهُ: إِنَّهُ بَلَغَنِي أَنَّكَ لَعَنْتَ كَيْتَ كيت! فَقَالَ: وَمَالِي

ص: 29

لَا أَلْعَنُ مَنْ لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى! فَقَالَتْ: لَقَدْ قَرَأْتُ مَا بَيْنَ اللَّوْحَيْنِ فَمَا وَجَدْتُ فِيهِ كَمَا تَقُولُ قَالَ: لَئِنْ كُنْتِ قَرَأْتِيهِ لَقَدْ وَجَدْتِيْهِ أَمَا قَرَأْتِ: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} قَالَتْ بَلَى قَالَ: فَإِنَّهُ قَدْ نَهَى عَنْهُ

وَحَكَى ابْنُ سُرَاقَةَ فِي كِتَابِ الْإِعْجَازِ عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ مُجَاهِدٍ أَنَّهُ قَالَ يَوْمًا: ما شَيْءٍ فِي الْعَالَمِ إِلَّا وَهُوَ فِي كِتَابِ اللَّهِ فَقِيلَ لَهُ فَأَيْنَ ذِكْرُ الْخَانَاتِ فِيهِ؟ فَقَالَ فِي قَوْلِهِ: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيهَا مَتَاعٌ لَكُمْ} فَهِيَ الْخَانَاتِ.

وَقَالَ ابْنُ بُرْجَانَ: مَا قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ في القرآن به أَوْ فِيهِ أَصْلُهُ قَرُبَ أَوْ بَعُدَ فَهِمَهُ مَنْ فَهِمَهُ وَعَمِهَ عَنْهُ مَنْ عَمِهَ وَكَذَا كُلُّ مَا حَكَمَ بِهِ أَوْ قَضَى وَإِنَّمَا يُدْرِكُ الطَّالِبُ مِنْ ذَلِكَ بِقَدْرِ اجْتِهَادِهِ وَبَذْلِ وُسْعِهِ وَمِقْدَارِ فَهْمِهِ.

وَقَالَ غَيْرُهُ: مَا مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُمْكِنُ اسْتِخْرَاجُهُ مِنَ الْقُرْآنِ لِمَنْ فَهَّمَهُ اللَّهُ حَتَّى إِنَّ بَعْضَهُمُ اسْتَنْبَطَ عُمْرَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ثَلَاثًا وَسِتِّينَ سَنَةً مِنْ قَوْلِهِ فِي سُورَةِ الْمُنَافِقِينَ: {وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْساً إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا} فَإِنَّهَا رَأْسُ ثَلَاثٍ وَسِتِّينَ سُورَةً وَعَقَّبَهَا بِالتَّغَابُنِ لِيَظْهَرَ التَّغَابُنُ فِي فقده.

وقال ابن الْفَضْلِ الْمُرْسِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ: جَمَعَ الْقُرْآنُ عُلُومَ الْأَوَّلِينَ وَالْآخَرِينَ بِحَيْثُ لَمْ يُحِطْ بِهَا عِلْمًا حَقِيقَةً إِلَّا الْمُتَكَلِّمُ بِهَا ثُمَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم خَلَا مَا اسْتَأْثَرَ بِهِ سبحانه وتعالى ثم ورث ذلك عنه معظم سَادَاتُ الصَّحَابَةِ وَأَعْلَامُهُمْ مِثْلُ الْخُلَفَاءِ الْأَرْبَعَةِ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ حَتَّى قَالَ: لَوْ ضَاعَ

ص: 30

لِي عِقَالُ بَعِيرٍ لَوَجَدْتُهُ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى ثُمَّ وَرِثَ عَنْهُمُ التَّابِعُونَ بِإِحْسَانٍ ثُمَّ تَقَاصَرَتِ الْهِمَمُ وَفَتَرَتِ الْعَزَائِمُ وَتَضَاءَلَ أَهْلُ الْعِلْمِ وَضَعُفُوا عَنْ حَمْلِ مَا حَمَلَهُ الصَّحَابَةُ وَالتَّابِعُونَ مِنْ عُلُومِهِ وَسَائِرِ فُنُونِهِ فَنَوَّعُوا عُلُومَهُ وَقَامَتْ كُلُّ طَائِفَةٍ بِفَنٍّ مِنْ فُنُونِهِ فَاعْتَنَى قَوْمٌ بِضَبْطِ لُغَاتِهِ وَتَحْرِيرِ كَلِمَاتِهِ وَمَعْرِفَةِ مَخَارِجِ حُرُوفِهِ وَعَدَدِهَا وَعَدَدِ كَلِمَاتِهِ وَآيَاتِهِ وَسُوَرِهِ وَأَحْزَابِهِ وَأَنْصَافِهِ وَأَرْبَاعِهِ وَعَدَدِ سَجَدَاتِهِ وَالتَّعْلِيمِ عِنْدَ كُلِّ عَشْرِ آيَاتٍ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ حَصْرِ الْكَلِمَاتِ الْمُتَشَابِهَةِ وَالْآيَاتِ الْمُتَمَاثِلَةِ مِنْ غَيْرِ تَعَرُّضٍ لِمَعَانِيهِ وَلَا تَدَبُّرٍ لِمَا أُودِعُ فِيهِ فَسُمُّوا الْقُرَّاءَ

وَاعْتَنَى النُّحَاةُ بِالْمُعْرَبِ مِنْهُ وَالْمَبْنِيِّ مِنَ الْأَسْمَاءِ وَالْأَفْعَالِ وَالْحُرُوفِ الْعَامِلَةِ وَغَيْرِهَا وَأَوْسَعُوا الْكَلَامَ فِي الْأَسْمَاءِ وَتَوَابِعِهَا وَضُرُوبِ الْأَفْعَالِ وَاللَّازِمِ وَالْمُتَعَدِّي وَرُسُومِ خَطَّ الْكَلِمَاتِ وَجَمِيعِ مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ حَتَّى إِنَّ بَعْضَهُمْ أَعْرَبَ مُشْكِلَهُ وَبَعْضُهُمْ أَعْرَبَهُ كَلِمَةً كَلِمَةً

وَاعْتَنَى الْمُفَسِّرُونَ بِأَلْفَاظِهِ فَوَجَدُوا مِنْهُ لَفْظًا يَدُلُّ عَلَى مَعْنًى وَاحِدٍ وَلَفْظًا يَدُلُّ عَلَى مَعْنَيَيْنِ وَلَفْظًا يَدُلُّ عَلَى أَكْثَرِ فَأَجْرَوُا الْأَوَّلَ عَلَى حُكْمِهِ وَأَوْضَحُوا مَعْنَى الْخَفِيِّ مِنْهُ وَخَاضُوا فِي تَرْجِيحِ أَحَدِ مُحْتَمَلَاتِ ذِي الْمَعْنَيَيْنِ وَالْمَعَانِي وَأَعْمَلَ كُلٌّ مِنْهُمْ فِكْرَهُ وَقَالَ بِمَا اقْتَضَاهُ نَظَرُهُ

وَاعْتَنَى الْأُصُولِيُّونَ بِمَا فِيهِ مِنَ الْأَدِلَّةِ الْعَقْلِيَّةِ وَالشَّوَاهِدِ الْأَصْلِيَّةِ وَالنَّظَرِيَّةِ مِثْلَ قَوْلِهِ تَعَالَى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَاّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا} إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ الْكَثِيرَةِ فَاسْتَنْبَطُوا مِنْهُ أَدِلَّةً عَلَى وَحْدَانِيَّةِ اللَّهِ وَوُجُودِهِ وَبَقَائِهِ وَقِدَمِهِ وَقُدْرَتِهِ وَعِلْمِهِ وَتَنْزِيهِهِ عَمَّا لَا يَلِيقُ بِهِ وَسَمَّوْا هَذَا الْعِلْمَ بِأُصُولِ الدِّينِ.

وَتَأَمَّلَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَانِيَ خِطَابِهِ فَرَأَتْ مِنْهَا مَا يَقْتَضِي الْعُمُومَ وَمِنْهَا

ص: 31

مَا يَقْتَضِي الْخُصُوصَ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ فَاسْتَنْبَطُوا مِنْهُ أَحْكَامَ اللُّغَةِ مِنَ الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ وَتَكَلَّمُوا فِي التخصيص والإخبار والنص "الاجتهاد" وَالظَّاهِرِ وَالْمُجْمَلِ وَالْمُحْكَمِ وَالْمُتَشَابِهِ وَالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَالنَّسْخِ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَنْوَاعِ الْأَقْيِسَةِ وَاسْتِصْحَابِ الْحَالِ وَالِاسْتِقْرَاءِ وَسَمَّوْا هَذَا الْفَنَّ أُصُولَ الْفِقْهِ.

وَأَحْكَمَتْ طَائِفَةٌ صَحِيحَ النَّظَرِ وصادق الفكر فِيمَا فِيهِ مِنَ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ وَسَائِرِ الْأَحْكَامِ فَأَسَّسُوا أُصُولَهُ وَفَرَّعُوا فُرُوعَهُ وَبَسَطُوا الْقَوْلَ فِي ذَلِكَ بَسْطًا حَسَنًا وَسَمَّوْهُ بِعَلَمِ الْفُرُوعِ وَبِالْفِقْهِ أَيْضًا

وَتَلَمَّحَتْ طَائِفَةٌ مَا فِيهِ مِنْ قَصَصِ الْقُرُونِ السَّالِفَةِ وَالْأُمَمِ الْخَالِيَةِ وَنَقَلُوا أَخْبَارَهُمْ وَدَوَّنُوا آثَارَهُمْ وَوَقَائِعَهُمْ حَتَّى ذَكَرُوا بَدْءَ الدُّنْيَا وَأَوَّلَ الْأَشْيَاءِ وَسَمَّوْا ذَلِكَ بِالتَّارِيخِ وَالْقَصَصِ.

وَتَنَبَّهَ آخَرُونَ لِمَا فِيهِ مِنَ الْحِكَمِ وَالْأَمْثَالِ وَالْمَوَاعِظِ الَّتِي تُقَلْقِلُ قُلُوبَ الرِّجَالِ وَتَكَادُ تُدَكْدِكُ الْجِبَالَ فَاسْتَنْبَطُوا مِمَّا فِيهِ مِنَ الْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ وَالتَّحْذِيرِ وَالتَّبْشِيرِ وَذِكْرِ الْمَوْتِ وَالْمَعَادِ وَالنَّشْرِ وَالْحَشْرِ وَالْحِسَابِ وَالْعِقَابِ وَالْجَنَّةِ وَالنَّارِ فُصُولًا مِنَ الْمَوَاعِظِ وَأُصُولًا مِنَ الزَّوَاجِرِ فَسُمُّوا بِذَلِكَ الْخُطَبَاءَ وَالْوُعَّاظَ

وَاسْتَنْبَطَ قَوْمٌ مِمَّا فِيهِ مِنْ أُصُولِ التَّعْبِيرِ مِثْلَ مَا وَرَدَ فِي قِصَّةِ يُوسُفَ فِي الْبَقَرَاتِ السِّمَانِ وَفِي مَنَامَيْ صَاحِبَيِ السِّجْنِ وَفِي رُؤْيَاهُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ سَاجِدَةً وَسَمَّوْهُ تَعْبِيرَ الرُّؤْيَا وَاسْتَنْبَطُوا تَفْسِيرَ كُلِّ رُؤْيَا مِنَ الْكِتَابِ فَإِنْ عَزَّ عَلَيْهِمْ إِخْرَاجُهَا مِنْهُ فَمِنَ السُّنَّةِ الَّتِي هِيَ شَارِحَةٌ لِلْكِتَابِ فَإِنْ عَسِرَ فَمِنَ الْحِكَمِ وَالْأَمْثَالِ ثُمَّ نَظَرُوا إِلَى اصْطِلَاحِ الْعَوَامِ فِي مُخَاطِبَاتِهِمْ وعرف عاداتهم الَّذِي أَشَارَ إِلَيْهِ الْقُرْآنُ بِقَوْلِهِ" {وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ}

ص: 32

وَأَخَذَ قَوْمٌ مِمَّا فِي آيَةِ الْمَوَارِيثِ مِنْ ذِكْرِ السِّهَامِ وَأَرْبَابِهَا وَغَيْرِ ذَلِكَ عِلْمَ الْفَرَائِضِ وَاسْتَنْبَطُوا مِنْهَا مِنْ ذِكْرِ النِّصْفِ وَالثُّلُثِ وَالرُّبُعِ وَالسُّدُسِ وَالثُّمُنِ حِسَابَ الْفَرَائِضِ وَمَسَائِلَ الْعَوْلِ وَاسْتَخْرَجُوا مِنْهُ أَحْكَامَ الْوَصَايَا.

وَنَظَرَ قَوْمٌ إِلَى مَا فِيهِ مِنَ الْآيَاتِ الدَّالَّاتِ عَلَى الْحِكَمِ الْبَاهِرَةِ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالشَّمْسِ وَالْقَمَرِ وَمَنَازِلِهِ وَالنُّجُومِ وَالْبُرُوجِ وَغَيْرِ ذَلِكَ فَاسْتَخْرَجُوا مِنْهُ عِلْمَ الْمَوَاقِيتِ.

وَنَظَرَ الْكُتَّابُ وَالشُّعَرَاءُ إِلَى مَا فِيهِ مِنْ جَزَالَةِ اللَّفْظِ وَبَدِيعِ النَّظْمِ وَحُسْنِ السِّيَاقِ وَالْمَبَادِئِ وَالْمَقَاطِعِ وَالْمَخَالَصِ وَالتَّلْوِينِ فِي الْخِطَابِ وَالْإِطْنَابِ وَالْإِيجَازِ وغير ذلك فاستنبطوا مِنْهُ الْمَعَانِيَ وَالْبَيَانَ وَالْبَدِيعَ.

وَنَظَرَ فِيهِ أَرْبَابُ الْإِشَارَاتِ وَأَصْحَابُ الْحَقِيقَةِ فَلَاحَ لَهُمْ مِنْ أَلْفَاظِهِ مَعَانٍ وَدَقَائِقُ جَعَلُوا لَهَا أَعْلَامًا اصْطَلَحُوا عَلَيْهَا مِثْلَ الْفَنَاءِ وَالْبَقَاءِ وَالْحُضُورِ وَالْخَوْفِ وَالْهَيْبَةِ وَالْأُنْسِ وَالْوَحْشَةِ وَالْقَبْضِ وَالْبَسْطِ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ هَذِهِ الْفُنُونُ الَّتِي أَخَذَتْهَا الْمِلَّةُ الْإِسْلَامِيَّةُ مِنْهُ

وَقَدِ احْتَوَى عَلَى عُلُومٍ أُخْرَى مِنْ عُلُومِ الْأَوَائِلِ مِثْلَ الطِّبِّ وَالْجَدَلِ وَالْهَيْئَةِ وَالْهَنْدَسَةِ وَالْجَبْرِ وَالْمُقَابَلَةِ وَالنِّجَامَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ أَمَّا الطِّبُّ فَمَدَارُهُ عَلَى حِفْظِ نِظَامِ الصِّحَّةِ وَاسْتِحْكَامِ الْقُوَّةِ وَذَلِكَ إِنَّمَا بِاعْتِدَالِ الْمِزَاجِ بِتَفَاعُلِ الْكَيْفِيَّاتِ الْمُتَضَادَّةِ وَقَدْ جَمَعَ ذَلِكَ فِي آيَةٍ وَاحِدَةٍ وَهِيَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً} وعرفنا فيه بما يعيد نِظَامَ الصِّحَّةِ بَعْدَ اخْتِلَالِهِ وَحُدُوثِ الشِّفَاءِ لِلْبَدَنِ بَعْدَ اعْتِلَالِهِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ} ثُمَّ زَادَ عَلَى طِبِّ الْأَجْسَامِ بِطِبِّ الْقُلُوبِ وَشِفَاءِ الصُّدُورِ.

ص: 33

وَأَمَّا الْهَيْئَةُ فَفِي تَضَاعِيفِ سُوَرِهِ مِنَ الْآيَاتِ الَّتِي ذُكِرَ فِيهَا ملكوت السموات وَالْأَرْضِ وَمَا بُثَّ فِي الْعَالَمِ الْعُلْوِيِّ وَالسُّفْلِيِّ مِنَ الْمَخْلُوقَاتِ.

وَأَمَّا الْهَنْدَسَةُ فَفِي قَوْلِهِ: {انْطَلِقُوا إِلَى ظِلٍّ ذِي ثَلاثِ شُعَبٍ} الْآيَةَ.

وَأَمَّا الْجَدَلُ فَقَدْ حَوَتْ آيَاتُهُ مِنَ الْبَرَاهِينِ وَالْمُقَدِّمَاتِ وَالنَّتَائِجِ وَالْقَوْلِ بِالْمُوجَبِ وَالْمُعَارَضَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ شيئا كثيرا ومناظرة إبراهيم نمرود وَمُحَاجَّتُهُ قَوْمَهُ أَصْلٌ فِي ذَلِكَ عَظِيمٌ.

وَأَمَّا الْجَبْرُ وَالْمُقَابَلَةُ فَقَدْ قِيلَ إِنَّ أَوَائِلَ السُّوَرِ فِيهَا ذِكْرُ مُدَدٍ وَأَعْوَامٍ وَأَيَّامٍ لِتَوَارِيخِ أُمَمٍ سَالِفَةٍ وَإِنَّ فِيهَا تَارِيخَ بَقَاءِ هَذِهِ الْأُمَّةِ وَتَارِيخَ مُدَّةِ أَيَّامِ الدُّنْيَا وَمَا مَضَى وَمَا بَقِيَ مَضْرُوبٌ بَعْضُهَا فِي بَعْضٍ

وَأَمَّا النِّجَامَةُ فَفِي قَوْلِهِ: {أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ} فَقَدْ فَسَّرَهُ بِذَلِكَ ابْنُ عَبَّاسٍ.

وَفِيهِ أُصُولُ الصَّنَائِعِ وَأَسْمَاءُ الْآلَاتِ الَّتِي تَدْعُو الضَّرُورَةُ إِلَيْهَا كَالْخَيَّاطَةِ في قوله: {وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ} والحدادة {آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ} ؛ {وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ} الْآيَةَ

وَالْبِنَاءِ فِي آيَاتٍ

وَالنِّجَارَةِ {وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا}

ص: 34

والغزل {نَقَضَتْ غَزْلَهَا}

وَالنَّسْجِ {كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً}

والفلاحة {أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ} الْآيَاتِ

وَالصَّيْدِ فِي آيَاتٍ

وَالْغَوْصِ {كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ} {وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً}

وَالصِّيَاغَةِ {وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلاً جَسَداً}

وَالزِّجَاجَةِ {صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوَارِيرَ} {الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ}

والفخارة {فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ}

والملاحة {أَمَّا السَّفِينَةُ} الآية

والكتابة {عَلَّمَ بِالْقَلَمِ}

وَالْخَبْزِ {أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزاً}

والطبخ {بِعِجْلٍ حَنِيذٍ}

والغسل والقصارة {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} قال الحواريون: وهم القصار ون

والجزارة {لَّا مَا ذَكَّيْتُمْ}

ص: 35

وَالْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ فِي آيَاتٍ

وَالصَّبْغِ {صِبْغَةَ اللَّهِ} ؛ {جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ}

وَالْحِجَارَةِ {وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتاً} وَالْكِيَالَةِ وَالْوَزْنِ فِي آيَاتٍ

وَالرَّمْيِ {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ} ، {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ}

وَفِيهِ مِنْ أَسْمَاءِ الْآلَاتِ وَضُرُوبِ الْمَأْكُولَاتِ وَالْمَشْرُوبَاتِ وَالْمَنْكُوحَاتِ وَجَمِيعِ مَا وَقَعَ وَيَقَعُ فِي الْكَائِنَاتِ مَا يُحَقِّقُ مَعْنَى قَوْلِهِ: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} انْتَهَى كَلَامُ الْمُرْسِيِّ مُلَخَّصًا.

وَقَالَ ابْنُ سُرَاقَةَ: مِنْ بَعْضِ وُجُوهِ إِعْجَازِ الْقُرْآنِ مَا ذَكَرَ اللَّهُ فِيهِ مِنْ أَعْدَادِ الْحِسَابِ وَالْجَمْعِ وَالْقِسْمَةِ وَالضَّرْبِ وَالْمُوَافَقَةِ وَالتَّأْلِيفِ وَالْمُنَاسَبَةِ وَالتَّنْصِيفِ وَالْمُضَاعَفَةِ لِيَعْلَمَ بِذَلِكَ أَهْلُ الْعِلْمِ بِالْحِسَابِ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم صَادِقٌ فِي قَوْلِهِ وَأَنَّ الْقُرْآنَ لَيْسَ مِنْ عِنْدِهِ إِذْ لَمْ يَكُنْ مِمَّنْ خَالَطَ الْفَلَاسِفَةَ وَلَا تَلَقَّى الْحُسَّابَ وَأَهْلَ الْهَنْدَسَةِ.

وَقَالَ الرَّاغِبُ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى كَمَا جَعَلَ نُبُوَّةَ النَّبِيِّينَ نبينا مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم مُخْتَتَمَةً وَشَرَائِعَهُمْ بِشَرِيعَتِهِ مِنْ وَجْهٍ مُنْتَسَخَةً وَمِنْ وَجْهٍ مُكَمِّلَةً مُتَمِّمَةً جَعَلَ كِتَابَهُ الْمُنَزَّلَ عَلَيْهِ مُتَضَمِّنًا لِثَمَرَةِ كتبه التي أولادها أُولَئِكَ كَمَا نَبَّهَ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ: {يَتْلُو صُحُفاً مُطَهَّرَةً فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ} وَجَعَلَ مِنْ مُعْجِزَةِ هَذَا الْكِتَابِ أَنَّهُ مَعَ قِلَّةِ الْحَجْمِ مُتَضَمِّنٌ لِلْمَعْنَى الْجَمِّ بِحَيْثُ تَقْصُرُ الْأَلْبَابُ الْبَشَرِيَّةُ عَنْ إِحْصَائِهِ وَالْآلَاتُ الدُّنْيَوِيَّةُ عَنِ اسْتِيفَائِهِ كَمَا نَبَّهَ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ: {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ

ص: 36

مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ} فَهُوَ وَإِنْ كَانَ لَا يَخْلُو لِلنَّاظِرِ فِيهِ مِنْ نُورِ مَا يُرِيهِ وَنَفْعِ مَا يُولِيهِ:

كَالْبَدْرِ مِنْ حَيْثُ الْتَفَتَّ رَأَيْتَهُ

يَهْدِي إِلَى عَيْنَيْكَ نُورًا ثَاقِبَا

كَالشَّمْسِ فِي كَبِدِ السَّمَاءِ وضوءها

يَغْشَى الْبِلَادَ مَشَارِقًا وَمَغَارِبَا

وَأَخْرَجَ أَبُو نُعَيْمٍ وَغَيْرُهُ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ زِيَادِ بْنِ أَنْعَمَ قَالَ قِيلَ لِمُوسَى عليه السلام: يَا مُوسَى إِنَّمَا مَثَلُ كِتَابِ أَحْمَدَ فِي الْكُتُبِ بِمَنْزِلَةِ وِعَاءٍ فِيهِ لَبَنٌ كُلَّمَا مَخَّضْتَهُ أَخْرَجْتَ زُبْدَتَهُ.

وَقَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرِ بْنُ الْعَرَبِيِّ فِي قَانُونِ التَّأْوِيلِ: عُلُومُ الْقُرْآنِ خَمْسُونَ عِلْمًا وَأَرْبَعُمِائَةِ عِلْمٍ وَسَبْعَةُ آلَافِ عِلْمٍ وَسَبْعُونَ أَلْفِ عِلْمٍ عَلَى عَدَدِ كَلِمِ الْقُرْآنِ مَضْرُوبَةً فِي أَرْبَعَةٍ إِذْ لِكُلِّ كَلِمَةٍ ظَهْرٌ وَبَطْنٌ وَحَدٌّ وَمَطْلَعٌ وَهَذَا مُطْلَقٌ دُونَ اعْتِبَارِ تَرْكِيبٍ وَمَا بَيَّنَهَا مِنْ رَوَابِطَ وَهَذَا مَا لَا يُحْصَى وَلَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللَّهُ قَالَ وَأَمَّا عُلُومُ القرآن فثلاثة تَوْحِيدٌ وَتَذْكِيرٌ وَأَحْكَامٌ فَالتَّوْحِيدُ يَدْخُلُ فِيهِ مَعْرِفَةُ الْمَخْلُوقَاتِ وَمَعْرِفَةُ الْخَالِقِ بِأَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ وَأَفْعَالِهِ وَالتَّذْكِيرُ مِنْهُ الْوَعْدُ وَالْوَعِيدُ وَالْجَنَّةُ وَالنَّارُ وَتَصْفِيَةُ الظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ وَالْأَحْكَامُ مِنْهَا التَّكَالِيفُ كُلُّهَا وَتَبْيِينُ الْمَنَافِعِ وَالْمَضَارِّ وَالْأَمْرُ وَالنَّهْيُ وَالنَّدْبُ وَلِذَلِكَ كَانَتِ الْفَاتِحَةُ أُمَّ الْقُرْآنِ لِأَنَّ فِيهَا الْأَقْسَامَ الثَّلَاثَةَ وَسُورَةُ الْإِخْلَاصِ ثُلُثَهُ لِاشْتِمَالِهَا عَلَى أَحَدِ الْأَقْسَامِ الثَّلَاثَةِ وَهُوَ التَّوْحِيدُ.

وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: الْقُرْآنُ يَشْتَمِلُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ التَّوْحِيدُ وَالْأَخْبَارُ وَالدِّيَانَاتُ وَلِهَذَا كَانَتْ سُورَةُ الْإِخْلَاصِ ثُلُثَهُ لِأَنَّهَا تَشْمَلُ التَّوْحِيدَ كُلَّهُ.

وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ عِيسَى الْقُرْآنُ يَشْتَمِلُ عَلَى ثَلَاثِينَ شَيْئًا: الْإِعْلَامُ وَالتَّشْبِيهُ

ص: 37

وَالْأَمْرُ وَالنَّهْيُ وَالْوَعْدُ وَالْوَعِيدُ وَوَصْفُ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ وتعلم الْإِقْرَاءِ بِسْمِ اللَّهِ وَبِصِفَاتِهِ وَأَفْعَالِهِ وَتَعْلِيمُ الِاعْتِرَافِ بِإِنْعَامِهِ وَالِاحْتِجَاجِ عَلَى الْمُخَالِفِينَ وَالرَّدِّ عَلَى الْمُلْحِدِينَ وَالْبَيَانِ عَنْ الرَّغْبَةِ وَالرَّهْبَةِ وَالْخَيْرِ وَالشَّرِّ وَالْحَسَنِ والقبيح ونعت الحكمة وفصل الْمَعْرِفَةِ وَمَدْحِ الْأَبْرَارِ وَذَمِّ الْفُجَّارِ وَالتَّسْلِيمِ وَالتَّحْسِينِ وَالتَّوْكِيدِ وَالتَّقْرِيعِ وَالْبَيَانِ عَنْ ذَمِّ الْأَخْلَاقِ وَشَرَفِ الْآدَابِ.

وَقَالَ شَيْذَلَةُ: وَعَلَى التَّحْقِيقِ أَنَّ تِلْكَ الثلاثة الَّتِي قَالَهَا ابْنُ جَرِيرٍ تَشْمَلُ هَذِهِ كُلَّهَا بَلْ أَضْعَافَهَا فَإِنَّ الْقُرْآنَ لَا يُسْتَدْرَكُ وَلَا تُحْصَى عَجَائِبُهُ

وَأَنَا أَقُولُ قَدِ اشْتَمَلَ كِتَابُ اللَّهِ الْعَزِيزُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ أَمَّا أَنْوَاعُ الْعُلُومِ فَلَيْسَ مِنْهَا بَابٌ وَلَا مَسْأَلَةٌ هِيَ أَصْلٌ إِلَّا وَفِي الْقُرْآنِ مَا يَدُلُّ عَلَيْهَا وَفِيهِ عَجَائِبُ الْمَخْلُوقَاتِ وملكوت السموات وَالْأَرْضِ وَمَا فِي الْأُفُقِ الْأَعْلَى وَتَحْتَ الثَّرَى وَبَدْءُ الْخَلْقِ وَأَسْمَاءُ مَشَاهِيرِ الرُّسُلِ وَالْمَلَائِكَةِ وَعُيُونُ أَخْبَارِ الْأُمَمِ السَّالِفَةِ كَقِصَّةِ آدَمَ مَعَ إِبْلِيسَ فِي إِخْرَاجِهِ مِنَ الْجَنَّةِ وَفِي الْوَلَدِ الَّذِي سَمَّاهُ عَبْدَ الْحَارِثِ وَرَفْعِ إِدْرِيسَ وَغَرَقِ قَوْمِ نُوحٍ وَقِصَّةِ عَادٍ الْأُولَى وَالثَّانِيَةِ وَثَمُودَ وَالنَّاقَةِ وَقَوْمِ يُونُسَ وَقَوْمِ شعيب الأولين وَالْآخَرِينَ وَقَوْمِ لُوطٍ وَقَوْمِ تُبَّعٍ وَأَصْحَابِ الرَّسِّ وَقِصَّةِ إِبْرَاهِيمَ فِي مجادلة قَوْمَهُ وَمُنَاظَرَتِهِ نُمْرُوذَ وَوَضْعِهِ إِسْمَاعِيلَ مَعَ أُمِّهِ بِمَكَّةَ وَبِنَائِهِ الْبَيْتَ وَقِصَّةِ الذَّبِيحِ وَقِصَّةِ يُوسُفَ وَمَا أَبْسَطَهَا وَقِصَّةِ مُوسَى فِي وِلَادَتِهِ وَإِلْقَائِهِ فِي الْيَمِّ وَقَتْلِ الْقِبْطِيِّ وَمَسِيرِهِ إِلَى مَدْيَنَ وَتَزَوُّجِهِ بِنْتَ شُعَيْبٍ وَكَلَامِهِ تَعَالَى بِجَانِبِ الطُّورِ وَمَجِيئِهِ إِلَى فِرْعَوْنَ وَخُرُوجِهِ وَإِغْرَاقِ عَدُوِّهِ وَقِصَّةِ الْعِجْلِ وَالْقَوْمِ الَّذِينَ خرج بهم وأخذتهم الصَّعْقَةُ وَقِصَّةِ الْقَتِيلِ وَذَبْحِ الْبَقَرَةِ وَقَصَّتِهِ مَعَ الْخَضِرِ وَقِصَّتِهِ فِي قِتَالِ الْجَبَّارِينَ وَقِصَّةِ الْقَوْمِ الَّذِينَ ساروا في سرب من الْأَرْضِ إِلَى الصِّينِ وَقِصَّةِ طَالُوتَ وَدَاوُدَ مَعَ جَالُوتَ وَفِتْنَتِهِ وَقِصَّةِ سُلَيْمَانَ وَخَبَرِهِ مَعَ مَلِكَةِ سَبَأٍ وَفَتَنْتِهِ

ص: 38

وَقِصَّةِ الْقَوْمِ الَّذِينَ خَرَجُوا فِرَارًا مِنَ الطَّاعُونِ فَأَمَاتَهُمُ اللَّهُ ثُمَّ أَحْيَاهُمْ وَقِصَّةِ ذِي الْقَرْنَيْنِ وَمَسِيرِهِ إِلَى مَغْرِبِ الشَّمْسِ وَمَطْلَعِهَا وَبِنَائِهِ السَّدَّ وَقِصَّةِ أَيُّوبَ وَذِي الْكِفْلِ وَإِلْيَاسَ وَقِصَّةِ مَرْيَمَ وَوِلَادَتِهَا وَعِيسَى وَإِرْسَالِهِ وَرَفْعِهِ وَقِصَّةِ زَكَرِيَّا وَابْنِهِ يَحْيَى وَقِصَّةِ أَصْحَابِ الْكَهْفِ وَقِصَّةِ أَصْحَابِ الرَّقِيمِ وقصة بخت نصر وَقِصَّةِ الرَّجُلَيْنِ اللَّذَيْنِ لِأَحَدِهِمَا الْجَنَّةُ وَقِصَّةِ أَصْحَابِ الْجَنَّةِ وَقِصَّةِ مُؤْمِنِ آلِ يس وَقِصَّةِ أَصْحَابِ الْفِيلِ

وَفِيهِ مِنْ شَأْنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم دَعْوَةُ إِبْرَاهِيمَ بِهِ وَبِشَارَةُ عِيسَى وَبَعْثُهُ وَهِجْرَتُهُ وَمِنْ غَزَوَاتِهِ سَرِيَّةُ ابْنِ الْحَضْرِمِيِّ فِي الْبَقَرَةِ وَغَزْوَةُ بَدْرٍ فِي سُورَةِ الْأَنْفَالِ وَأُحُدٍ فِي آلِ عِمْرَانَ وَبَدْرٍ الصُّغْرَى فِيهَا وَالْخَنْدَقِ فِي الْأَحْزَابِ وَالْحُدَيْبِيَةِ فِي الْفَتْحِ وَالنَّضِيرِ فِي الْحَشْرِ وَحُنَيْنٍ وَتَبُوكَ فِي بَرَاءَةٌ وَحَجَّةُ الْوَدَاعِ فِي الْمَائِدَةِ وَنِكَاحُهُ زَيْنَبَ بِنْتَ جَحْشٍ وَتَحْرِيمُ سُرِّيَّتِهِ وَتَظَاهُرُ أَزْوَاجِهِ عَلَيْهِ وَقِصَّةُ الْإِفْكِ وَقِصَّةُ الْإِسْرَاءِ وَانْشِقَاقُ الْقَمَرِ وَسِحْرُ الْيَهُودِ إِيَّاهُ

وَفِيهِ بَدْءُ خَلْقِ الْإِنْسَانِ إِلَى مَوْتِهِ وَكَيْفِيَّةُ الْمَوْتِ وَقَبْضُ الرُّوحِ وَمَا يُفْعَلُ بِهَا بَعْدُ وَصُعُودُهَا إِلَى السَّمَاءِ وَفَتْحُ الْبَابِ لِلْمُؤْمِنَةِ وَإِلْقَاءُ الْكَافِرَةِ وَعَذَابُ الْقَبْرِ وَالسُّؤَالُ فِيهِ وَمَقَرُّ الْأَرْوَاحِ وَأَشْرَاطُ السَّاعَةِ الْكُبْرَى وَهِيَ نُزُولُ عِيسَى وَخُرُوجُ الدَّجَّالِ وَيَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَالدَّابَّةُ وَالدُّخَانُ وَرَفْعُ الْقُرْآنِ وَالْخَسْفُ وَطُلُوعُ الشَّمْسِ مِنْ مَغْرِبِهَا وَغَلْقُ بَابِ التَّوْبَةِ وَأَحْوَالُ الْبَعْثِ مِنَ النَّفَخَاتِ الثَّلَاثِ نَفْخَةِ الْفَزَعِ وَنَفْخَةِ الصَّعْقِ وَنَفْخَةِ الْقِيَامِ وَالْحَشْرُ وَالنَّشْرُ وَأَهْوَالُ الْمَوْقِفِ وَشِدَّةُ حَرِّ الشَّمْسِ وَظِلُّ الْعَرْشِ وَالْمِيزَانُ وَالْحَوْضُ وَالصِّرَاطُ وَالْحِسَابُ لِقَوْمٍ وَنَجَاةُ آخَرِينَ منه وشهادة الأعضاء وإتيان الْكُتُبِ بِالْأَيْمَانِ وَالشَّمَائِلِ وَخَلْفَ الظَّهْرِ وَالشَّفَاعَةُ وَالْمَقَامُ الْمَحْمُودُ؛

ص: 39

وَالْجَنَّةُ وَأَبْوَابُهَا وَمَا فِيهَا مِنَ الْأَنْهَارِ وَالْأَشْجَارِ وَالثِّمَارِ وَالْحُلِيِّ وَالْأَوَانِي وَالدَّرَجَاتُ وَرُؤْيَتُهُ تَعَالَى وَالنَّارُ وَأَبْوَابُهَا وَمَا فِيهَا مِنَ الْأَوْدِيَةِ وَأَنْوَاعِ الْعِقَابِ وَأَلْوَانِ الْعَذَابِ وَالزَّقُّومِ وَالْحَمِيمِ

وَفِيهِ جَمِيعُ أَسْمَائِهِ تَعَالَى الْحُسْنَى كَمَا وَرَدَ فِي حَدِيثٍ وَمِنْ أَسْمَائِهِ مُطْلَقًا أَلْفُ اسْمٍ وَمِنْ أَسْمَاءِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم جملة

وفي شُعَبُ الْإِيمَانِ الْبِضْعُ وَالسَّبْعُونَ وَشَرَائِعُ الْإِسْلَامِ الثَّلَاثُمِائَةٍ وَخَمْسَةَ عَشَرَ وَفِيهِ أَنْوَاعُ الْكَبَائِرِ وَكَثِيرٌ مِنَ الصَّغَائِرِ وَفِيهِ تَصْدِيقُ كُلِّ حَدِيثٍ وَرَدَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يَحْتَاجُ شَرْحُهُ إِلَى مُجَلَّدَاتٍ وَقَدْ أَفْرَدَ النَّاسُ كُتُبًا فِيمَا تَضَمَّنَهُ الْقُرْآنُ مِنَ الْأَحْكَامِ كَالْقَاضِي إِسْمَاعِيلَ وبكر بْنِ الْعَلَاءِ وَأَبِي بَكْرٍ الرَّازِيِّ وَالْكَيَا الْهَرَّاسِيِّ وَأَبِي بَكْرِ بْنِ الْعَرَبِيِّ وَعَبْدِ الْمُنْعِمِ بْنِ الْفَرَسِ وَابْنِ خُوَيْزِ مِنْدَادُ وَأَفْرَدَ آخَرُونَ كُتُبًا فِيمَا تَضْمَنَهُ مِنْ عِلْمِ الْبَاطِنِ وَأَفْرَدَ ابْنُ بُرْجَانَ كِتَابًا فِيمَا تَضَمَّنَهُ مِنْ مُعَاضَدَةِ الْأَحَادِيثِ وَقَدْ أَلَّفْتُ كِتَابًا سَمَّيْتُهُ الْإِكْلِيلَ فِي اسْتِنْبَاطِ التَّنْزِيلِ ذَكَرْتُ فِيهِ كُلَّ مَا اسْتُنْبِطَ مِنْهُ مِنْ مَسْأَلَةٍ فِقْهِيَّةٍ أَوْ أَصْلِيَّةٍ أَوْ اعتقا دية وَبَعْضًا مِمَّا سِوَى ذَلِكَ كَثِيرَ الْفَائِدَةِ جَمَّ الْعَائِدَةِ يَجْرِي مَجْرَى الشَّرْحِ لِمَا أَجْمَلْتُهُ فِي هَذَا النَّوْعِ فَلْيُرَاجِعْهُ مَنْ أَرَادَ الْوُقُوفَ عَلَيْهِ.

فَصْلٌ

قَالَ الْغَزَالِيُّ وَغَيْرُهُ: آيَاتُ الْأَحْكَامِ خَمْسُمِائَةِ آيَةٍ وَقَالَ بَعْضُهُمْ مِائَةٌ وَخَمْسُونَ قِيلَ وَلَعَلَّ مُرَادَهُمُ الْمُصَرَّحُ بِهِ فَإِنَّ آيَاتِ الْقَصَصِ وَالْأَمْثَالِ وَغَيْرِهَا يُسْتَنْبَطُ مِنْهَا كَثِيرٌ مِنَ الْأَحْكَامِ.

قَالَ الشَّيْخُ عِزُّ الدِّينِ بْنُ عَبْدِ السَّلَامِ فِي كِتَابِ الْإِمَامُ فِي أَدِلَّةِ الْأَحْكَامِ:

ص: 40

معظم آي القرآن لا يخلوا عَنْ أَحْكَامٍ مُشْتَمِلَةٍ عَلَى آدَابٍ حَسَنَةٍ وَأَخْلَاقٍ جَمِيلَةٍ ثُمَّ مِنَ الْآيَاتِ مَا صُرِّحَ فِيهِ بِالْأَحْكَامِ فمنها مَا يُؤْخَذُ بِطَرِيقِ الِاسْتِنْبَاطِ إِمَّا بِلَا ضَمٍّ إِلَى آيَةٍ أُخْرَى كَاسْتِنْبَاطِ صِحَّةِ أَنْكِحَةِ الْكُفَّارِ مِنْ قوله: {وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ} وَصِحَّةِ صَوْمِ الْجُنُبِ مِنْ قَوْلِهِ: {فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ} إِلَى قَوْلِهِ: {حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ} الْآيَةَ وَإِمَّا بِهِ كَاسْتِنْبَاطِ أَنَّ أَقَلَّ الْحَمْلِ سِتَّةُ أَشْهُرٍ مِنْ قَوْلِهِ: {وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ} ، قَالَ: وَيُسْتَدَلُّ عَلَى الْأَحْكَامِ تَارَةً بِالصِّيغَةِ وَهُوَ ظَاهِرٌ وَتَارَةً بِالْإِخْبَارِ مثل {أُحِلَّ لَكُمْ} {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} ، {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} وَتَارَةً بِمَا رُتِّبَ عَلَيْهَا فِي الْعَاجِلِ أَوِ الْآجِلِ مِنْ خَيْرٍ أَوْ شَرٍّ أَوْ نَفْعٍ أَوْ ضر وقد نوع الشارع ذلك أنواعا كثيرة ترغيبا لعباده وَتَرْهِيبًا وَتَقْرِيبًا إِلَى أَفْهَامِهِمْ فَكُلُّ فِعْلٍ عَظَّمَهُ الشرع أو مدحه أَوْ مَدَحَ فَاعِلَهُ لِأَجْلِهِ أَوْ أَحَبَّهُ أَوْ أَحَبَّ فَاعِلَهُ أَوْ رَضِيَ بِهِ أَوْ رَضِيَ عَنْ فَاعِلِهِ أَوْ وَصَفَهُ بِالِاسْتِقَامَةِ أَوِ الْبَرَكَةِ أَوِ الطَّيِّبِ أَوْ أَقْسَمَ بِهِ أَوْ بِفَاعِلِهِ كَالْإِقْسَامِ بِالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ وَبِخَيْلِ الْمُجَاهِدِينَ وَبِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ أَوْ نَصَبَهُ سَبَبًا لِذِكْرِهِ لِعَبْدِهِ أَوْ لِمَحَبَّتِهِ أَوْ لِثَوَابٍ عَاجِلٍ أَوْ آجِلٍ أَوْ لِشُكْرِهِ لَهُ أَوْ لِهِدَايَتِهِ إِيَّاهُ أَوْ لِإِرْضَاءِ فَاعِلِهِ أَوْ لِمَغْفِرَةِ ذَنْبِهِ وَتَكْفِيرِ سيآته أَوْ لِقَبُولِهِ أَوْ لِنُصْرَةِ فَاعِلِهِ أَوْ بِشَارَتِهِ أَوْ وَصَفَ فَاعِلَهُ بِالطَّيِّبِ أَوْ وَصَفَ الْفِعْلَ بِكَوْنِهِ مَعْرُوفًا أَوْ نَفَى الْحُزْنَ وَالْخَوْفَ عَنْ فَاعِلِهِ أَوْ وَعَدَهُ بِالْأَمْنِ أَوْ نَصَبَ سَبَبًا لِوِلَايَتِهِ أَوْ أَخْبَرَ عَنْ دُعَاءِ الرَّسُولِ بِحُصُولِهِ أَوْ وَصْفِهِ بِكَوْنِهِ قُرْبَةً أَوْ بِصِفَةِ مَدْحٍ كَالْحَيَاةِ وَالنُّورِ وَالشِّفَاءِ فَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى مَشْرُوعِيَّتِهِ الْمُشْتَرَكَةِ بَيْنَ الْوُجُوبِ وَالنَّدْبِ وَكُلُّ فِعْلٍ طَلَبَ الشَّارِعُ تَرْكَهُ أَوْ ذَمَّهُ أَوْ ذَمَّ فَاعِلَهُ أَوْ عَتَبَ عَلَيْهِ

ص: 41

أَوْ مَقَتَ فَاعِلَهُ أَوْ لَعَنَهُ أَوْ نَفَى مَحَبَّتَهُ أَوْ مَحَبَّةَ فاعله أو الرضا بِهِ أَوْ عَنْ فَاعِلِهِ أَوْ شَبَّهَ فَاعِلَهُ بِالْبَهَائِمِ أَوْ بِالشَّيَاطِينِ أَوْ جَعَلَهُ مَانِعًا مِنَ الْهُدَى أو من المقبول أَوْ وَصَفَهُ بِسُوءٍ أَوْ كَرَاهَةٍ أَوِ اسْتَعَاذَ الْأَنْبِيَاءُ مِنْهُ أَوْ أَبْغَضُوهُ أَوْ جُعِلَ سَبَبًا لِنَفْيِ الْفَلَاحِ أَوْ لِعَذَابٍ عَاجِلٍ أَوْ آجِلٍ أَوْ لِذَمٍّ أَوْ لَوْمٍ أَوْ ضَلَالَةٍ أَوْ مَعْصِيَةٍ أَوْ وُصِفَ بِخُبْثٍ أَوْ رِجْسٍ أَوْ نَجَسٍ أَوْ بِكَوْنِهِ فِسْقًا أَوْ إِثْمًا أَوْ سَبَبًا لِإِثْمٍ أَوْ رِجْسٍ أَوْ لَعْنٍ أَوْ غَضَبٍ أَوْ زَوَالِ نِعْمَةٍ أَوْ حُلُولِ نِقْمَةٍ أَوْ حَدٍّ مِنَ الْحُدُودِ أَوْ قَسْوَةٍ أَوْ خِزْيٍ أَوِ ارْتِهَانِ نَفْسٍ أَوْ لِعَدَاوَةِ اللَّهِ وَمُحَارَبَتِهِ أَوْ لِاسْتِهْزَائِهِ أَوْ سُخْرِيَّتِهِ أَوْ جَعَلَهُ اللَّهُ سَبَبًا لِنِسْيَانِهِ فَاعِلَهُ أَوْ وَصَفَهُ نَفْسَهُ بِالصَّبْرِ عَلَيْهِ أَوْ بِالْحِلْمِ أَوْ بِالصَّفْحِ عَنْهُ أَوْ دَعَا إِلَى التَّوْبَةِ مِنْهُ أَوْ وَصَفَ فَاعِلَهُ بِخُبْثٍ أَوِ احْتِقَارٍ أَوْ نَسَبَهُ إِلَى عَمَلِ الشَّيْطَانِ أَوْ تَزْيِينِهِ أَوْ تَوَلِّي الشَّيْطَانِ لِفَاعِلِهِ أَوْ وَصَفَهُ بِصِفَةِ ذَمٍّ كَكَوْنِهِ ظُلْمًا أَوْ بَغْيًا أَوْ عُدْوَانًا أَوْ إِثْمًا أَوْ مَرَضًا أَوْ تَبَرَّأَ الْأَنْبِيَاءُ مِنْهُ أَوْ مِنْ فَاعِلِهِ أَوْ شَكَوْا إِلَى اللَّهِ مِنْ فَاعِلِهِ أَوْ جَاهَرُوا فَاعِلَهُ بِالْعَدَاوَةِ أَوْ نُهُوا عَنِ الْأَسَى وَالْحُزْنِ عَلَيْهِ أَوْ نُصِبَ سَبَبًا لِخَيْبَةِ فَاعِلِهِ عَاجِلًا أَوْ آجِلًا أَوْ رُتِّبَ عَلَيْهِ حِرْمَانُ الْجَنَّةِ وَمَا فِيهَا أَوْ وُصِفَ فَاعِلُهُ بِأَنَّهُ عَدُوُّ لله أَوْ بِأَنَّ اللَّهَ عَدُوُّهُ أَوْ أُعْلِمَ فَاعِلُهُ بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ أَوْ حَمَّلَ فَاعِلَهُ إِثْمَ غَيْرِهِ أَوْ قِيلَ فِيهِ: لَا يَنْبَغِي هَذَا أَوْ لَا يَكُونُ أو أمر بِالتَّقْوَى عِنْدَ السُّؤَالِ عَنْهُ أَوْ أَمَرَ بِفِعْلِ مُضَادِّهِ أَوْ بِهَجْرِ فَاعِلِهِ أَوْ تَلَاعَنَ فَاعِلُوهُ فِي الْآخِرَةِ أَوْ تَبَرَّأَ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ أَوْ دَعَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ أَوْ وُصِفَ فَاعِلُهُ بِالضَّلَالَةِ وَأَنَّهُ لَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ أَوْ لَيْسَ مِنَ الرَّسُولِ وَأَصْحَابِهِ أَوْ جُعِلَ اجْتِنَابُهُ سَبَبًا لِلْفَلَاحِ أَوْ جَعَلَهُ سَبَبًا لِإِيقَاعِ الْعَدَاوَةِ وَالْبَغْضَاءِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ أَوْ قِيلَ هَلْ أَنْتَ مُنْتَهٍ أَوْ نَهَى الْأَنْبِيَاءَ عَنِ الدُّعَاءِ لِفَاعِلِهِ أَوْ رَتَّبَ عَلَيْهِ إِبْعَادًا أَوْ طَرْدًا أَوْ لَفْظَةُ "قُتِلَ مَنْ فَعَلَهُ" أَوْ "قَاتَلَهُ

ص: 42

اللَّهُ"؛ أَوْ أَخْبَرَ أَنَّ فَاعِلَهُ لَا يُكَلِّمُهُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِ وَلَا يُزَكِّيهِ وَلَا يُصْلِحُ عَمَلَهُ وَلَا يَهْدِي كَيْدَهُ أَوْ لَا يُفْلِحُ أَوْ قَيَّضَ لَهُ الشَّيْطَانَ أَوْ جُعِلَ سَبَبًا لِإِزَاغَةِ قَلْبِ فَاعِلِهِ أَوْ صَرْفِهُ عَنْ آيَاتِ اللَّهِ وَسُؤَالِهِ عَنْ عِلَّةِ الْفِعْلِ فَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى الْمَنْعِ مِنَ الْفِعْلِ وَدَلَالَتُهُ عَلَى التَّحْرِيمِ أَظْهَرُ مِنْ دَلَالَتِهِ عَلَى مُجَرَّدِ الْكَرَاهَةِ وَتُسْتَفَادُ الْإِبَاحَةُ مِنْ لَفْظِ الْإِحْلَالِ وَنَفْيِ الْجُنَاحِ وَالْحَرَجِ وَالْإِثْمِ وَالْمُؤَاخَذَةِ وَمِنَ الْإِذْنِ فِيهِ وَالْعَفْوِ عَنْهُ وَمِنَ الِامْتِنَانِ بِمَا فِي الْأَعْيَانِ مِنَ الْمَنَافِعِ وَمِنَ السُّكُوتِ عَنِ التَّحْرِيمِ وَمِنَ الْإِنْكَارِ عَلَى مَنْ حَرَّمَ الشَّيْءَ مِنَ الْإِخْبَارِ بِأَنَّهُ خُلِقَ أَوْ جُعِلَ لَنَا وَالْإِخْبَارِ عَنْ فِعْلِ مَنْ قَبِلَنَا مِنْ غَيْرِ ذَمٍّ لَهُمْ عَلَيْهِ فَإِنِ اقْتَرَنَ بِإِخْبَارِهِ مَدْحٌ دَلَّ عَلَى مَشْرُوعِيَّتِهِ وُجُوبًا أَوِ اسْتِحْبَابًا انْتَهَى كَلَامُ الشَّيْخِ عِزِّ الدِّينِ.

وَقَالَ غَيْرُهُ قَدْ يُسْتَنْبَطُ مِنَ السُّكُوتِ وَقَدِ اسْتَدَلَّ جَمَاعَةٌ عَلَى أَنَّ الْقُرْآنَ غَيْرُ مَخْلُوقٍ بِأَنَّ اللَّهَ ذَكَرَ الْإِنْسَانَ فِي ثَمَانِيَةَ عَشَرَ مَوْضِعًا وَقَالَ إِنَّهُ مَخْلُوقٌ وَذَكَرَ الْقُرْآنَ فِي أَرْبَعَةٍ وَخَمْسِينَ مَوْضِعًا وَلَمْ يَقُلْ إِنَّهُ مَخْلُوقٌ وَلَمَّا جَمَعَ بَيْنَهُمَا غَايَرَ فَقَالَ: {الرَّحْمَنِ عَلَّمَ الْقُرْآنَ خَلَقَ الأِنْسَانَ} .

ص: 43