المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ حجية الإجماع - الإجماع في الشريعة الإسلامية

[رشدي عليان]

الفصل: ‌ حجية الإجماع

القائلين بأن الإجماع قطعي فلا يكون إلا عن قطعي بأن قطعية الإجماع لم تثبت من جهة السند، وإلا لكان الإجماع لغوا لأن المثبت للحكم حينئذ هو الدليل القطعي وليس الإجماع.

قال الغزالي: "يجوز انعقاد الإجماع عن اجتهاد وقياس"1.

وقال ابن قدامة المقدسي: "يجوز أن ينعقد الإجماع عن اجتهاد وقياس ويكون حجة"2.

والذي أراه أنّ الاتفاق إن وجد من علماء العصر فهو دليل وحجة سواء أكان هذا الاتفاق عن دليل قطعي أو ظني، لأن الحجة تنتقل من ذلك الدليل إلى الإجماع، فإن كان في الأصل قطعيا فالإجماع يفيد التأكيد والتعضيد لأنه يكون من قبيل تضافر الأدلة على الحكم الواحد.

ومما يدعم هذا الرأي قول جعفر الصادق _ رحمه الله _: "فإن المجمع عليه لا ريب فيه"3 فقد نفى الريب عن الرأي المجمع عليه مطلقا ولم يقيده بما إذا كان مجمعا عليه بموجب سند قطعي أو ظني خاص أو عام.

1 المستصفى ج1 ص123.

2 روضة الناظر ص77.

3 الصدر/الإجماع في التشريع الإسلامي ص36.

ص: 69

3_

‌ حجية الإجماع

.

ذهب المتكلمون بأجمعهم والفقهاء بأسرهم على اختلاف مذاهبهم إلى أن الإجماع حجة، وحكى عن النظام وجعفر بن حرب وجعفر بن مبشر أنهم قالوا: الإجماع ليس بحجة. واختلف من قال إنه حجة، فمنهم من قال من جهة العقل وهم الشواذ، وذهب الجمهور الأعظم والسواد الأكثر إلى أن طريق كونه حجة السمع دون العقل4 وسأعرض أهم أدلة جمهور العلماء على حجيته ثم أذكر وجهة نظر القائلين بعدم حجيته.

أ_ أدلتهم من الكتاب الكريم.

استدل أئمة المذاهب وجمهور العلماء بآيات عدة من الكتاب الكريم، منها بل أهمها قوله تعالى:{وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً} 5.

وجه الاستدلال بهذه الآية:_

4 الطوسي/ عدة الأصول ج2 ص64 والشوكاني، إرشاد الفحول ص73.

5 النساء/114.

ص: 69

"إن الله _ سبحانه _ جمع بين مشاقة الرسول واتباع غير سبيل المؤمنين في الوعيد، فلو كان اتباع غير سبيل المؤمنين مباحا لما جمع بينه وبين المحظور فثبت أن متابعة غير سبيل المؤمنين عبارة عن متابعة قول أو فتوى يخالف قولهم أو فتواهم، وإذا كانت تلك محظورة وجب أن تكون متابعة قولهم وفتواهم واجبة1 بدون شرط اتفاق الجميع فمن باب أولى تكون متابعة ما اتفقوا عليه واجبة فثبت أن الإجماع حجة. وتعتبر هذه الآية أوضح الآيات وأقواها دلالة على حجية الإجماع، فقد روي أن الإمام الشافعي رحمه الله _ عندما سئل عن آية في كتاب الله تدل على أن الإجماع حجة لزم داره ثلاثة أيام مفكرا وقرأ القرآن عدة مرات حتى وجد هذه الآية، ومع ذلك فقد قرر كثير من الأعلام أن الآية ليست نصا في الدلالة على حجية الإجماع2. ومنها قوله تعالى:{كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَر} 3.

الاستدلال بالآية: _

1_

أن الله _ تعالى _ قد وصف هذه الأمة بالخيرية، وهذا الوصف يقتضي أن ما اتفقوا عليه يكون حقا واجب الإتباع، لأنه إذا لم يكن حقا كان ضلالا {فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلا الضَّلالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ} 4.

قال الشوكاني في وجه الاستدلال بهذه الآية: "هذه الخيرية توجب الحقيقة لما اجمعوا عليه، وإلا كان ضلالا"5.

2_

إن الله _ تعالى _ وصفهم بأنهم يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، وهذا الوصف يقتضي أنهم إذا ما اتفقوا على الأمر بشيء كان معروفا يجب العمل به، وإذا ما نهوا عن شيء كان منكرا يجب الامتناع عنه، وهذا يقتضي أن يكون إجماعهم حجة6.

ومنها قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاس} 7.

ومعنى جعلناكم أمة وسطا: أي صيرناكم عدولا، لأن الوسط هو العدل في اللغة. قال الشاعر:

1 الشوكاني/ إرشاد الفحول ص77.

2 الغزالي/ المستصفى ج1 ص11.

3 آل عمران /110.

4 يونس/32.

5 الشوكاني/ إرشاد الفحول ص77.

6 الشيخ فايد/ محاضرات في الإجماع ص12.

7 البقرة/142.

ص: 70

هم وسط يرضى الأنام بحمكهم

إذ نزلت إحدى الليالي بمعظم

أي عدول. وجاء بهذا المعنى في الكتاب الكريم: {قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُم} 1 أي أعدلهم.

وجه الاستدلال بهذه الآية: _

إن الله _ تعالى _ وصف هذه الأمة بالعدالة، وجعلهم حجة على الناس في قبول أقوالهم، وهذه الصفة تنافي الكذب والميل إلى جانب الباطل وهذا يقتضي أن يكون ما اتفقوا عليه عدلا وحقا يجب اتباعه والعمل به فيكون إجماعهم حجة.

ومنها قوله تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا} 2.

وجه الاستدلال:_

"إن الله _ تعالى _ نهى عن التفرق، ومخالفة الإجماع تفرق، فكان منهيا عنه، ولا معنى لكون الإجماع حجة سوى النهي عن مخالفته"3.

ثانيا _ أدلة الجمهور من السنة الكريمة: _

استدل جمهور العلماء وأئمة المذاهب بجملة أحاديث مروية عن عدد من كبار الصحابة _ رضوان الله عليهم _ منها:

1_

"لا تجتمع أمتي على الخطأ".

2_

"لا تجتمع أمتي على الضلالة".

3_

"ولم يكن الله ليجمع أمتي على الضلالة".

4_

"لم يكن الله ليجمع أمتي على الخطأ".

5_

"سألت الله أن لا يجمع أمتي على الضلالة، فأعطانيه"4.

6_

"من سره أن يسكن بحبوحة الجنة فليلزم الجماعة".

7_

"يد الله مع الجماعة، ولا يبالي الله بشذوذ من شذ".

8_

"من خرج عن الجماعة أو فارق الجماعة قيد شبر فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه".

9_

"من فارق الجماعة ومات فميتة الجاهلية"5.

1 القلم/28.

2 آل عمران/ 103.

3 الآمدي/ الإحكام ج1 ص111.

4 الأخبار عن رسول الله عليه السلام _ بأن هذه الأمة لا تجتمع على الخطأ والضلالة كثيرة وقد رويت بألفاظ مختلفة وصيغ وأسانيد متعددة انظر: مسند أحمد 5/145 وباب الفتن من سنن الترمذي وابن ماجه والدارقطني وباب التحريم من سنن النسائي.

5 الأحاديث التي تحث على لزوم الجماعة وتذم الخروج عليها كثيرة وقد رويت بألفاظ مختلفة وصيغ متعددة انظر: باب الفتن والتحريم من سن الترمذي والنسائي والبخاري ومسند أحمد والدارمي وأبي داود.

ص: 71

وقد بين الغزالي وجه الاستدلال بهذه الأحاديث على أن الإجماع حجة قاطعة بعد أن فرغ من تقرير الدليل من آي الكتاب الحكيم.

فقال: "المسلك الثاني: وهو الأقوى التمسك بقوله _ صلى الله عليه وسلم _ "لا تجتمع أمتي على الخطأ" وهذا من حيث اللفظ أقوى وأدل على المقصود ولكن ليس بالمتواتر كالكتاب. والكتاب متواتر وليس بنص، فتقرير الدليل أن نقول: تظافرت الرواية عن رسول الله _ صلى الله عليه وسلم _ بألفاظ مختلفة مع اتفاق المعنى في عصمة هذه الأمة من الخطأ واشتهر على لسان المرموقين والثقاة من الصحابة كعمر، وابن مسعود وأبي سعيد الخدري، وأنس بن ملك، وابن عمر، وأبي هريرة، وحذيفة بن اليمان، وغيرهم ممن يطول ذكرهم" وبعد أن ذكر تلكم الأحاديث قال: "وهذه الأخبار لم تزل ظاهرة في الصحابة والتابعين إلى زماننا هذا لم يدفعها أحد من أهل النقل من سلف الأمة وخلفها، بل هي مقبولة من موافقي الأمة ومخالفيها، ولم تزل الأمة تحتج بها في أصول الدين وفروعه"1. وقرر الشيخ الآمدي في كتابه الإحكام2 أن أقرب الطرق لإثبات كون الإجماع حجة قاطعة هو تلك المرويات عن كبار الصحابة بألفاظ مختلفة مع اتفاق المعنى في عصمة هذه الأمة عن الخطأ والضلالة. وقال ابن قدامة بعد ذكره لتلكم الأحاديث: "هذه الأخبار لم تزل ظاهرة مشهورة في الصحابة والتابعين لم يدفعها أحد من السلف والخلف، وهي وإن لم تتواتر آحادها حصل لنا بمجموعها العلم الضروري أن النبي _ صلى الله عليه وسلم _ عظم شأن هذه الأمة وبين عصمتها عن الخطأ"3.

وقد ختم الشيخ الخضري بحثه في حجية الإجماع بعد أن فرغ من تقرير الدليل من الكتاب الكريم، فالسنة النبوية المشرفة بقوله:

"إن الأمة الإسلامية في عصور مختلفة قررت أن الإجماع حجة قاطعة حتى كان فقهاء كل عصر ينكرون أشد الإنكار على من خالف رأي مجتهدي السلف، والعادة تقضي أن مثل هذا الاتفاق لا يكون عن مجرد الظنون.

1 المستصفى ج1 ص111.

2 ج1 ص112.

3 روضة الناظر ص68.

ص: 72

بل لابد أن يكون عندهم دليل مقطوعا به، وهذا يدل على أن الأخبار النبوية التي سقناها كانت عندهم مقطوعا بها حتى لم تكن في نظرهم مجالا للظن والاختلاف"1.

ب_ وجهة نظر القائلين بعدم حجية الإجماع.

عرفنا أن النظّّام وآخرين ذهبوا إلى أن الإجماع ليس حجة شرعية، وأدلتهم تتلخص في الآتي: _

1_

أن تحقق الإجماع وثبوته يتوقف على معرفة كل واحد من أهل الإجماع ثم على وصول الواقعة إليهم، ومعرفة رأي كل منهم، وهذا أمر غير ممكن عادة نظرا لانتشارهم في البلدان الإسلامية وبعد المسافة بينهم2.

ورُدّ ذلك: بأن معرفة أهل الإجماع والتحقق من شخصياتهم ممكن وذلك بأن يحصي كل حاكم إقليم ما لديه منهم، ويكتب بذلك إلى الحاكم العام سيما وأن من يبلغ درجة الاجتهاد يكون معروفا جدا في كل إقليم بل قد يطير صيته وآراؤه إلى سائر أقاليم الدولة والدول الإسلامية كافة، ثم إن انتشارهم وتفرقهم وبعد المسافة بينهم لا يمنع من وصول الواقعة إليهم، والإطلاع على آرائهم جميعا، وذلك بأن يجمعهم الحاكم في بلدة واحدة كلما دعا الأمر ويسألهم عما يريد أو يكتب إليهم فيستطلع رأي كل منهم.

2_

أن معاذا _ رضي الله عنه _ لم يذكر الإجماع من المصادر التي يصح الاعتماد عليها في تشريع الأحكام، بل اقتصر على الكتاب والسنة والاجتهاد، وذلك عندما وجهه رسول الله _ صلى الله عليه وسلم _ قاضيا إلى اليمن وسأله بماذا تقضي..3 وأن النبي _ صلى الله عليه وسلم _ أقره على ذلك ودعا له، وحمد الله على توفيقه. فلو كان الإجماع من مصادر الأحكام لذكره معاذ ولما ساغ له تركه مع حاجته إليه، ولما أقره النبي _ عليه السلام _ على تركه ورُدّ ذلك: بأن معاذا _ رضي الله عنه _ إنما ذكر المصادر التي يمكن الاعتماد عليها في تشريع الأحكام في زمن النبي _ عليه السلام _ ومعروف أن الإجماع ليس حجة في حياته. وأن تقرير النبي _ عليه الصلاة والسلام _ مطابق للواقع في حياته وليس فيه دلالة على عدم حجية الإجماع بعد وفاته _ صلى الله عليه وسلم _4.

1 أصول الفقه ص316.

2 الآمدي/ الإحكام ج1ص102.

3 رواه الترمذي 1/249، وأبو داود 3/303، والدارمي 1/60 وانظر مسند أحمد 5/230.

4 الآمدي/ الإحكام ج1ص107.

ص: 73