الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المجلد الثاني
خبر الوصول إلى وادي السند
…
بسم الله الرحمن الرحيم
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم
قال الشيخ أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن محمد بن إبراهيم اللواتي الطنجي المعروف بابن بطوطة رحمه الله تعالى:
ولما كان تاريخ الغرة من شهر المحرم مفتتح عام أربعة وثلاثين وسبعمائة وصلنا إلى وادي السند المعروف ببنج آب، ومعنى ذلك المياه الخمسة. وهذا الوادي من أعظم أودية الدنيا وهو يفيض في أوان الحر فيزرع أهل تلك البلاد على فيضه كما يفعل أهل الديار المصرية في فيض النيل وهذا الوادي هو أول عمالة السلطان المعظم محمد شاه ملك الهند والسند. ولما وصلنا إلى هذا النهر جاء إلينا أصحاب الأخبار الموكلون بذلك وكتبوا بخبرنا إلى قطب الملك أمير مدينة ملتان، وكان أمير أمراء السند على هذا العهد مملوك للسلطان يسمى سَرتيز، وهو من عُرض المماليك وبين يديه تعرض عساكر السلطان ومعنى اسمه الحاد الرأس لأن سَرْ "بفتح السين المهملة وسكون الراء" هو الرأس. وتيز "بتاء معلوة وياء مد وزاي" معناه الحاد. وكان في حين قدومنا بمدينة سيوستان من السند وبينها وبين ملتان مسيرة عشرة أيام وبين بلاد السند وحضرة السلطان مدينة دهلي مسيرة خمسين يوماً وإذا كتب المخبرون إلى السلطان من بلاد السند يصل الكتاب إليه في خمسة أيام بسبب البريد.
والبريد ببلاد الهند صنفان فأما بريد الخيل فيسمونه "الوُلاق""بضم الواو وآخره قاف"، وهو خيل تكون للسلطان، في كل مسافة أربعة أميال، وأما بريد الرجالة، فيكون في مسافة الميل الواحد منه ثلاث رتب ويسمونها الداوة "بالدال المهمل والواو"، والداوة هي ثلث ميل، والميل عندهم يسمى الكُرُوة "بضم الكاف والراء"، وترتيب ذلك أن يكون في كل ثلث ميل قرية معمورة ويكون بخارجها ثلاث قباب يقعد فيها الرجال مستعدين للحركة قد شدوا أوساطهم وعند كل واحد منهم مقرعة مقدار ذراعين بأعلاها جلاجل نحاس فإذا خرج البريد من المدينة أخذ الكتاب بأعلى يده والمقرعة ذات الجلاجل باليد الأخرى وخرج يشتد بمنتهى جهده.
فإذا سمع الرجال الذين بالقباب صوت الجلاجل تأهبوا له فإذا وصلهم
أخذ أحدهم الكتاب من يده ومر بأقصى جهده وهو يحرك المقرعة حتى يصل إلى الداوة الأخرى ولا يزالون كذلك حتى يصل الكتاب إلى حيث يراد منه.
وهذا البريد أسرع من بريد الخيل وربما حملوا على هذا البريد الفواكه المستطرفة بالهند من فواكه خراسان يجعلونها في الأطباق ويشتدون بها حتى تصل إلى السلطان وكذلك يحملون الكبار من ذوي الجنايات يجعلون الرجل على سرير ويرفعونه فوق رؤوسهم ويسيرون به شدّاً وكذلك يحملون الماء لشرب السلطان إذا كان بدولة أباد يحملونه من نهر الكنك الذي تحج الهنود إليه وهو على مسيرة أربعين يوماً منها.
وإذا كتب المخبرون إلى السلطان بخبر من يصل إلى بلاده استوعبوا الكتاب وأمعنوا في ذلك وعرفوه أنه ورد رجل صورته كذا ولباسه كذا وكتبوا عدد أصحابه وغلمانه وخدامه ودوابه وترتيب حاله في حركته وسكونه وجميع تصرفاته لا يغادرون من ذلك كلّه شيئاً فإذا وصل الوارد مدينة ملتان، وهي قاعدة بلاد السند أقام بها حتى ينفذ أمر السلطان بقدومه وما يجري له من الضيافة وإنما يكرم الإنسان هنالك بقدر ما يظهر من أفعاله وتصرفاته وهمته إذ لا يعرف هنالك ما حسبه ولا آباؤه.
ومن عادة ملك الهند السلطان أبي المجاهد محمد شاه إكرام الغرباء ومحبتهم وتخصيصهم بالولايات والمراتب الرفيعة ومعظم خواصه وحجابه ووزارئه وقضاته وأصهاره غرباء ونفذ أمره بأن يسمي الغرباء في بلده بالأعزة فصار لهم ذلك اسماً وعلماً ولا بد لكل قادم على هذا الملك من هدية يهديها إليه ويقدمها وسيلة بين يديه فيكافئه السلطان عليها بأضعاف مضاعفة وسيمر من ذكر هدايا الغرباء إليه كثير. ولما تعود الناس ذلك منه صار التجار الذين ببلاد السند والهند يعطون لكل قادم على السلطان الآلاف من الدنانير ديناً ويجهزونه بما يريد أن يهديه إليه أو يتصرف فيه لنفسه من الدواب للركوب والجمال والأمتعة ويخدمونهم بأموالهم وأنفسهم ويقفون بين يديه كالحشم فإذا وصل إلى السلطان أعطاه العطاء الجزيل فقضى ديونهم ووفاهم حقوقهم فنفقت تجارتهم وكثرت أرباحهم وصار لهم ذلك عادة مستمرة. ولما وصلت إلى بلاد السند، سلكتُ ذلك المنهج، واشتريت من التجار الخيل والجمال
والمماليك وغير ذلك. ولقد اشتريت من تاجر عراقي من أهل تكريت يعرف بمحمد الدوري بمدينة غزنة نحو ثلاثين فرساً وجملاً عليه حمل من النشاب فإنه مما يهدى إلى السلطان وذهب التاجر المذكور إلى خراسان ثم عاد إلى الهند وهنالك تقاضى مني مائة، واستفاد بسببي فائدة عظيمة وعاد من كبار التجار. ولقيته بمدينة حلب بعد سنين كثيرة وقد سلبني الكفار ما كان بيدي فلم ألق منه خيراً.
ولما أَجَزْنا نهر السند المعروف ببنج آب دخلنا غيضة قصب لسلوك الطريق لأنه في وسطها فخرج علينا الكركدن وصورته أنه حيوان أسود اللون عظيم الجرم رأسه كبير متفاوت الضخامة ولذلك يضرب به المثل، فيقال: الكركدن رأس بلا بدن وهو دون الفيل ورأسه أكبر من رأس الفيل بأضعاف وله قرن واحد بين عينيه طوله نحو ثلاثة أذرع وعرضه نحو شبر ولما خرج علينا عارضه بعض الفرسان في طريقه فضرب الفرس الذي كان تحته بقرنه فأنفذ فخذه وصرعه وعاد إلى الغيضة فلم نقدر عليه. وقد رأيت الكركدن مرة ثانية في هذا الطريق بعد صلاة العصر وهو يرعى نبات الأرض فلما قصدناه هرب منا. ورأيته مرة أخرى ونحن مع ملك الهند دخلنا غيضة قصب وركب السلطان على الفيل وركبنا معه الفيلة ودخلت الرجالة والفرسان فأثاروه وقتلوه واستاقوا رأسه إلى المحلة.
وسرنا من نهر السند يومين ووصلنا إلى مدينة جَنَاني "وضبط اسمها بفتح الجيم والنون الأولى وكسر الثانية" مدينة كبيرة حسنة على نهر السند لها أسواق مليحة وسكانها طائفة يقال لهم السامرة استوطنوها قديماً واستقر بها أسلافهم حين فتحها على أيام الحجاج بن يوسف حسبما أثبت المؤرخون في فتح السند. وأخبرني الشيخ الإمام العالم العامل الزاهد العابد ركن الدين بن الشيخ الفقيه الصالح شمس الدين بن الشيخ الإمام العابد الزاهد بهاء الدين زكريا القرشي وهو أحد الثلاثة الذين أخبرني الشيخ الولي الصالح برهان الدين الأعرج بمدينة الاسكندرية أني سألقاهم في رحلتي فلقيتهم والحمد لله، أن جده الأعلى كان يسمى بمحمد بن قاسم القرشي وشهد فتح السند في العسكر الذي بعثه لذلك الحجاج بن يوسف أيام إمارته على العراق وأقام بها وتكاثرت ذريته. وهؤلاء الطائفة المعروفون بالسامرة لا يأكلون مع أحد ولا ينظر إليهم أحد حين
يأكلون، ولا يصاهرون أحداً من غيرهم ولا يصاهر إليهم أحد. وكان لهم في هذا العهد أمير يسمى وُنَار "بضم الواو وفتح النون" وسنذكر خبره. ثم سافرنا من مدينة جناني إلى أن وصلنا إلى مدينة سِيُوسِتان "وضبط اسمها بكسر السين الأول المهمل وياء مد وواو مفتوح وسين مكسور وتاء معلوة وآخره نون" وهي مدينة كبيرة وخارجها صحراء ورمال لا شجر بها إلا شجر أم غيلان. ولا يزرع على نهرها شيء ما عدا البطيخ. وطعامهم الذرة والجلبان ويسمونه المُشنْك "بميم وشين معجم مضمومين ونون مسكن"، ومنه يصنعون الخبز وهي كثيرة السمك والألبان الجاموسية. وأهلها يأكلون السقنقور، وهي دويبة شبيهة بأم حُبين التي يسميها المغاربة حنيشة الجنة إلا أنها لا ذنب لها ورأيتهم يحتفرون الرمل ويستخرجونها منه ويشقون بطنها ويرمون بما فيه ويحشونه بالكركم وهم يسمونه زردشوبه ومعناه العود الأصفر وهو عندهم عوض الزعفران ولما رأيت تلك الدويبة وهم يأكلونها استقذرتها فلم آكلها. ودخلنا هذه المدينة في احتدام القيظ وحرها شديد فكان أصحابي يقعدون عريانين يجعل أحدهم فوطة على وسطه وفوطة على كتفيه مبلولة بالماء فما يمضي اليسير من الزمان حتى تيبس تلك الفوطة فيبلها مرة أخرى وهكذا أبداً. ولقيت بهذه المدينة خطيبها المعروف بالشيباني وأراني كتاب أمير المؤمنين الخليفة عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه لجده الأعلى بخطابة هذه المدينة وهم يتوارثونها من ذلك العهد حتى الآن.
ونص الكتاب هذا ما أمر به عبد الله أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز لفلان وتاريخه سنة تسع وتسعين وعليه مكتوب بخط أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز الحمد لله وحده على ما أخبرني الخطيب المذكور. ولقيت بها أيضا الشيخ المعمر محمد البغدادي وهو بالزاوية التي على قبر الشيخ الصالح عثمان المرندي وذكر أن عمره يزيد على مائة وأربعين سنة وأنه حضر لقتل المستعصم بالله آخر خلفاء بني العباس رضي الله عنهم لما قتله الكافر هلاون بن تنكيز التتري1. وهذا الشيخ على كبر سنه قوي الجثة يتصرف على قدميه.
وكان يسكن بهذه المدينة الأمير ونار السامري الذي تقدم ذكره، والأمير
1 يظهر - والله أعلم - أنه يقصد: هولاكو، لأنه الذي خرب بغداد، وقتل المستعصم.
قيصر الرومي وهما في خدمة السلطان ومعهما نحو ألف وثمانمائة فارس، وكان يسكن بها كافر من الهنود اسمه رَتَن "بفتح الراء وبفتح التاء المعلوة والنون" وهو من الحذاق بالحساب والكتابة، فوفد على ملك الهند مع بعض الأمراء فاستحسنه السلطان وسماه عظيم السند وولاه بتلك البلاد وأقطعه سيوستان وأعمالها وأعطاه المراتب وهي الأطبال والعلامات كما يعطي كبار الأمراء، فلما وصل إلى تلك البلاد عظم على وُنَار وقيصر وغيرهم تقديم الكافر عليهم فأجمعوا على قتله، فلما كان بعد أيام من قدومه أشاروا عليه بالخروج إلى أحواز المدينة ليطّلع على أمورها فخرج معهم فلما جن الليل أقاموا ضجة بالمحلة وزعموا أن السبع ضرب عليها وقصدوا مضرب الكافر فقتلوه. وعادوا إلى المدينة فأخذوا ما كان بها من مال السلطان وذلك اثنا عشر لكاً، واللّك مائة ألف دينار، وصرف اللّك عشرة آلاف دينار من ذهب الهند، وصرف الدينار الهندي ديناران ونصف دينار من ذهب المغرب وقدموا على أنفسهم وُنار المذكور وسموه ملك فيروز وقسم الأموال على العسكر ثم خاف على نفسه لبعده عن قبيلته فخرج فيمن معه من أقاربه وقصد قبيلته وقدم الباقون من العسكر على أنفسهم قيصر الرومي واتصل خبرهم بعماد الملك سِرتيز مملوك السلطان وهو يومئذ أمير أمراء السند وسكناه بملتان، فجمع العساكر وتجهز في البر وفي نهر السند. وبين ملتان وسيوستان عشرة أيام وخرج إليه قيصر فوقع اللقاء وانهزم قيصر ومن معه أشنع هزيمة وتحصنوا بالمدينة فحاصرهم ونصب المجانيق عليهم واشتد عليهم الحصار فطلبوا الأمان بعد أربعين يوماً من نزوله عليهم فأعطاهم الأمان فلما نزلوا إليه غدرهم وأخذ أموالهم وأمر بقتلهم. فكان كلّ يوم يضرب أعناق بعضهم ويوسط البعض ويسلخ آخرين منهم ويملاء جلودهم تبناً ويعلقها على السور فكان تلك الجلود مصلوبة ترعب من ينظر إليها. وجمع رؤوسهم في وسط المدينة فكانت مثل التل هنالك. ونزلت بتلك المدينة أثر هذه الواقعة بمدرسة فيها كبيرة، وكنت أنام على سطحها فإذا استيقظت من الليل أرى تلك الجلود المصلوبة فتشمئز النفس منها ولم تطب نفسي بالسكنى بالمدرسة فانتقلت عنها. وكان الفقيه الفاضل العادل علاء الملك الخراساني المعروف بفصيح الدين قاضي هراة في متقدم التاريخ قد وفد على ملك الهند فولاه مدينة لاهري وأعمالها من بلاد السند وحضر هذه الحركة مع عماد الملك سرتيز بمن معه من العساكر. فعزمت على السفر معه إلى مدينة لاهري. وكان له
خمسة عشر مركباً قدم بها في نهر السند تحمل أثقاله فسافرت.
وكان للفقيه علاء الملك في جملة سفنه سفينة تعرف بالأَهَوْرَة "بفتح الهمزة والهاء وسكون الواو وفتح الراء"، وهي نوع من الطريدة عندنا إلا أنها أوسع منها وأقصر وعلى نصفها مرعش من خشب يصعد له على درج وفوقه مجلس مهيأ لجلوس الأمير ويجلس أصحابه بين يديه ويقف المماليك يمنة ويسرة والرجال يقذفون وهم نحو أربعين ويكون مع هذه الأهورة أربعة من السفن عن يمينها ويسارها اثنان منها فيهما مراتب الأمير وهي العلامات والطبول والأبواق والأنفار والصرنايات وهي الغيطات والآخران فيهما أهل الطرب فتضرب الطبول والأبواق نوبة ويغني المغنون نوبة ولا يزالون كذلك من أول النهار إلى وقت الغداء فإذا كان وقت الغداء انضمت المراكب واتصل بعضهنا ببعض ووضعت بينهما الإصقالات وأتى أهل الطرب إلى أهورة الأمير فيغنون إلى أن يفرغ من أكله ثم يأكلون وإذا انقضى الأكل عادوا إلى مراكبهم وشرعوا في المسير على ترتيبهم إلى الليل فإذا كان الليل ضربت المحلة على شاطئ النهر ونزل الأمير إلى خيامه ومد السماط وحضر الطعام معظم العسكر فإذا صلوا العشاء الآخرة سمر السمار بالليل نوباً فإذا أتم أهل النوبة منهم نوبتهم نادى مناد منهم بصوت عال يا خوند ملك قد مضى من الليل كذا من الساعات، ثم يسمر أهل النوبة الأخرى فإذا أتموا نادى مناديهم أيضاً معلماً بما مر من الساعات فإذا كان الصبح ضربت الأبواق والطبول وصلّيت صلاة الصبح. وأتي بالطعام فإذا فرغ الأكل أخذوا في المسير فإن أراد الأمير ركوب النهر ركب على ما ذكرناه من الترتيب وإن أراد المسير في البر ضربت الأطبال والأبواق وتقدم حجابه ثم تلاهم المشاؤون بين يديه ويكون بين أيدي الحجاب ستة من الفرسان عند ثلاثة منهم أطبال قد تقلدوها وعند ثلاثة صرنايات فإذا أقبلوا على قرية أو ما هو من الأرض مرتفع ضربوا تلك الأطبال والصرنايات ثم تدق أطبال العسكر وأبواقه ويكون عن يمين الحجاب ويسارهم المغنون يغنون نوباً فإذا كان وقت الغداء نزلوا.
وسافرت مع علاء الملك خمسة أيام، ووصلنا إلى موضع ولايته، وهو مدينة لَاهَرِي "وضبط اسمها بفتح الهاء وكسر الراء" مدينة حسنة على ساحل البحر الكبير، وبها يصب نهر السند في البحر، فيلتقي بها بحران، ولها مرسى
عظيم، يأتي إليه أهل اليمن وأهل فارس وغيره. وبذلك عظمت جبايتها وكثرت أموالها. أخبرني الأمير علاء الملك المذكور أن مجبى هذه المدينة ستون لكّاً في السنة وقد ذكرنا مقدار اللك، وللأمير من ذلك نم "نيم" ده يك، ومعناه نصف العشر. وعلى ذلك يعطي السلطان البلاد لعماله يأخذون منها لأنفسهم نصف العشر.
وركبت يوماً مع علاء الملك فانتهينا إلى بسيط من الأرض على مسافة سبعة أميال منها يعرف بتارنا، فرأيت هنالك ما لا يحصره العد من الحجارة على مثل صور الآدميين والبهائم وقد تغير كثير منها ودثرت أشكاله فيبقى منه صورة رأس أو رجل أو سواهما. ومن الحجارة أيضاً على صورة الحبوب من البر والحمص والفول والعدسـ وهنالك آثار سور وجدران دور، ثم رأينا رسم دار فيها بيت من حجارة منحوتة وفي وسطه دكانة حجارة منحوتة كأنها حجر واحد عليها صورة آدمي إلا أن رأسه طويل وفمه في جانب من وجهه ويداه خلف ظهره كالمكتوف وهنالك مياه شديدة النتن وكتابة على بعض الجدران بالهندي وأخبرني علاء الملك أن أهل التاريخ يزعمون أن هذا الموضع كانت فيه مدينة أكثر أهلها الفساد فمسخوا حجارة وأن ملكهم هو الذي على الدكانة في الدار التي ذكرناه وهي الآن تسمى دار الملك وإن الكتابة التي على بعض الحيطان هنالك بالهندي هي تاريخ هلاك أهل تلك المدينة وكان ذلك منذ ألف سنة أو نحوها وأقمت بهذه المدينة مع علاء الملك خمسة أيام ثم أحسن في الزاد، وانصرفت عنه إلى مدينة بَكَار "بفتح الباء الموحدة" وهي مدينة حسنة يشقها خليج من نهر السند وفي وسط ذلك الخليج زاوية حسنة فيها الطعام للوارد والصادر عمّرها كشلوخان أيام ولايته على بلاد السند وسيقع ذكره. ولقيت بهذه المدينة الفقيه الإمام صدر الدين الحنفي، ولقيت بها قاضيها المسمى بأبي حنيفة، ولقيت بها الشيخ العابد الزاهد شمس الدين محمد الشيرازي وهو من المعمرين ذكر لي أن سنه يزيد على مائة وعشرين عاماً. ثم سافرت من مدينة بكَار فوصلت إلى مدينة أُوجَه "وضبط اسمها بضم الهمزة وفتح الجيم" وهي مدينة كبيرة على نهر السند لها أسواق حسنة وعمارة جيدة. وكان الأمير بها إذ ذاك الملك الفاضل الشريف جلال الدين الكيجي أحد الشجعان الكرماء. وبهذه المدينة توفي بعد سقطة سقطها عن فرسه.
ونشأت بيني وبين هذا الملك الشريف جلال الدين مودة وتأكدت بيننا الصحبة والمحبة واجتمعنا بحضرة دهلي فلما سافر السلطان إلى دولة أباد كما سنذكره وأمرني بالإقامة بالحضرة قال لي جلال الدين: إنك تحتاج إلى نفقة كبيرة والسلطان تطول غيبته فخذ قريتي واستغلها حتى يعود ففعلت ذلك، واستغللت منها نحو خمسة آلاف دينار جزاه الله أحسن الجزاء.
ولقيت بمدينة أُوجَه الشيخ العابد الزاهد الشريف قطب الدين حيدر العلوي وألبسني الخرقة وهو من كبار الصالحين ولم يزل الثوب الذي ألبسنيه معي إلى أن سلبني كفار الهنود في البحر. ثم سافرت من أوجه إلى مدينة مُلتان "وضبط اسمها بضم الميم وتاء معلوة" وهي قاعدة بلاد السند ومسكن أمير أمرائه. وفي الطريق إليها على مسافة عشرة أميال الوادي المعروف بخسرو أباد من الأودية الكبار لا يجاز إلا بالمراكب. وبه يبحث عن أمتعة المجتازين أشد البحث وتفتش رحالهم. وكانت عادتهم حين وصولنا إليها أن يأخذوا الربع من كل ما يجلبه التجار ويأخذوا على كل فرس سبعة دنانير مغرماً.
ثم بعد وصولنا للهند بسنتين رفع السلطان تلك المغارم وأمر أن لا يؤخد من الناس إلا الزكاة والعشر، لما بايع الخليفة أبي العباس العباسي. ولما أخذنا في إجازة هذا الوادي وفتشت الرحال عظم علي تفتيش رحلي لأنه لم يكن فيه طائل وكان يظهر في أعين الناس كبيراً فكنت أكره أن يطّلع عليه، ومن لطف الله تعالى أن وصل أحد كبار الأجناد من جهة قطب الملك صاحب ملتان، فأمر أن لا يعرض لي ببحث ولا تفتيش فكان كذلك فحمدت الله على ما هيأه لي من لطائفه. وبِتنا تلك الليلة على شاطئ الوادي وقدم علينا في صبيحتها ملك البريد واسمه دهقان وهو سمرقندي الأصل وهو الذي يكتب للسلطان بأخبار تلك المدينة وعمالتها وما يحدث بها ومن يصل إليها فتعرفت به ودخلت بصحبته إلى أمير ملتان.
وهُو قطب الملك من كبار الأمراء وفضلائهم، لما دخلت قام إلي وصافحني وأجلسني إلى جانبه وأهديت له مملوكاً وفرساً وشيئاً من الزبيب واللوز وهو من أعظم ما يهدى إليهم لأنه ليس ببلادهم وإنما يجلب من
خراسان وكان جلوس هذا الأمير على دكانة كبيرة عليها البسط وعلى مقربة منه القاضي ويسمى سالارو، والخطيب ولا أذكر اسمه، وعن يمينه ويساره أمراء الأجناد، وأهل السلاح وقوف على رأسه والعساكر تعرض بين يديه وهناك قسي كثيرة فإذا أتى من يريد أن يثبت في العسكر رامياً أعطي قوساً من تلك القسي ينزع1 فيها وهي متفاوتة في الشدة فعلى قدر نزعه يكون مرتبه ومن أراد أن يثبت فارساً فهناك طبلة منصوبة فيجري فرسه ويرميها برمحه وهناك أيضا خاتم معلق من حائط صغير فيجري فرسه حتى يحاذيه فإن رفعه برمحه فهو الجيد عندهم ومن أراد أن يثبت رامياً فارساً فهنالك كرة موضوعة على الأرض فيجري فرسه ويرميها وعلى قدر ما يظهر الإنسان في ذلك من الإصابة يكون مرتبه. ولما دخلنا على هذا الأمير وسلمنا عليه كما ذكرناه أمر بإنزالنا في دار خارج المدينة، هي لأصحاب الشيخ العابد ركن الدين الذي تقدم ذكره وعادتهم ألا يضيفوا أحداً حتى يأمر السلطان.
وممن اجتمعت به في هذه المدينة من الغرباء الوافدين على حضرة ملك الهند خداوند زاده قوام الدين قاضي ترمذ قدم بأهله وولده ثم ورد عليه بها إخوته عماد الدين وضياء الدين وبرهان الدين، ومنهم مبارك شاه أحد كبار سمرقند، ومنهم أرن بغا أحد كبار بخاري، ومنهم ملك زاده ابن أخت خداوند ومنهم بدر الدين الفصال وكل واحد من هؤلاء معه أصحابه وخدامه وأتباعه. ولما مضى من وصولنا إلى ملتان شهران وصل أحد حجاب السلطان وهو شمس الدين البوشنجي والملك محمد الهروي الكتوال بعثهما السلطان لاستقبال خداوند زاده وقدم معهم ثلاثة من الفتيان بعثتهم المخدومة جهان أم السلطان لاستقبال زوجة خداوند زاده المذكور وأتوا بالخلع لهما ولأولادهما ولتجهيز من قدم من الوفود وأتوا جميعاً إلي وسألوني لماذا قدمت فأخبرتهم أني قدمت للإقامة في خدمة خوند عالم وهو السلطان وبهذا يدعى في بلاده، وكان أمر أن لا يترك أحد ممن يأتي من خراسان يدخل بلاد الهند إلا أن كان يرسم الإقامة فلما أعلمتهم أني قدمت للإقامة استدعوا القاضي والعدول وكتبوا عقداً علي وعلى من أراد الإقامة من أصحابي وأبى بعضهم من ذلك.
1 أي: يرمي بها.
وتجهزنا للسفر إلى الحضرة.
وبين ملتان وبينهما مسيرة أربعين يوماً في عمارة متصلة. وأخرج الحاجب وصاحبه الذي بعث معه ما يحتاج إليه في ضيافة قوام الدين واستصحبوا من ملتان نحو عشرين طباخاً وكان الحاجب يتقدم ليلاً إلى كل منزل فيجهز الطعام وسواه فما يصل خداوند زاده حتى يكون الطعام متيسراً وينزل كل واحد ممن ذكرناهم من الوفود على حدة بمضاربه وأصحابه وربما حضروا الطعام الذي يصنع لخداوند زاده ولم أحضره أنا إلا مرة واحدة وترتيب ذلك الطعام أنهم يجعلون الخبز وخبزهم الرقاق وهو شبه الجراديق ويقطعون اللحم المشوي قطعاً كبيرة بحيث تكون الشاة أربع قطع أو ستّاً ويجعلون أمام كل رجل قطعة ويجعلون أقراصاً مصنوعة بالسمن تشبه الخبز المشترك ببلادنا ويجعلون في وسطها الحلواء الصابونية ويغطون كل قرص منها برغيف حلواء يسمونه الخشتى ومعناه الأجري مصنوع من الدقيق والسكر والسمن ثم يجعلون اللحم المطبوخ بالسمن والبصل والزنجبيل الأخضر في صحاف صينية ثم يجعلون شيئاً يسمونه سموسك وهو لحم مهروس مطبوخ باللوز والجوز والفستق والبصل والأبازير موضوع في جوف رقاقة مقلوة بالسمن، يضعون أمام كل إنسان خمس قطع من ذلك أو أربعة ثم يجعلون الأرز المطبوخ بالسمن وعليه الدجاج ثم يجعلون لقيمات القاضي ويسمونها الهاشمي ثم يجعلون القاهرية. ويقف الحاجب على السماط قبل الأكل ويخدم إلى الجهة التي فيها السلطان ويخدم جميع من حضر لخدمته والخدمة عندهم حط الرأس نحو الركوع فإذا فعلوا ذلك جلسوا للأكل ويؤتى بأقداح الذهب والفضة والزجاج مملوءة بماء النبات وهو الجلاب محلولاً في الماء ويسمون ذلك الشربة ويشربونه قبل الطعام، ثم يقول الحاجب بسم الله فعند ذلك يشرعون في الأكل فإذا أكلوا أتوا بأكواز الفقاع فإذا شربوه أتو بالتنبول والفوفل وقد تقدم ذكرهما. فإذا أخذوا التنبول والفوفل، قال الحاجب. بسم الله فيقومون ويخدمون مثل خدمتهم أولاً، وينصرفون.
ثم سافرنا من مدينة ملتان، وهم يجرون هذا الترتيب على حسب ما سطرناه، إلى أن وصلنا إلى بلاد الهند وكان أول بلد دخلناه مدينة أبو هَر "بفتح الهاء" وهي أول تلك البلاد الهندية صغيرة حسنة كثيرة العمارة ذات أنهار وأشجار. وليس