الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
هنالك من أشجار بلادنا شيء ما عدا النبق، لكنه عندهم عظيم الجرم تكون الحبة منه بمقدار حبة العفص شديد الحلاوة. ولهم أشجار كثيرة ليس يوجد منها شيء ببلادنا ولا بسواها.
أشجار بلاد الهند وفواكهها:
منها العَنْبَة "بفتح العين وسكون النون وفتح الباء الموحدة" وهي شجرة تشبه أشجار النارنج إلا أنها أعظم أجراماً1 وأكثر أوراقاً وظلها أكثر الظلال غير أنه ثقيل فمن نام تحته وعك وثمرها على قدر الإجاص الكبير فإذا كان أخضر قبل تمام نضجه أخذوا ما سقط منه وجعلوا عليه الملح2 وصيروه كما يصير الليم والليمون ببلادنا وكذلك يصيرون أيضا الزنجبيل الأخضر وعناقيد الفلفل ويأكلون ذلك مع الطعام يأخذون بأثر كل لقمة يسيراً من هذه المملوحات فإذا نضجت العنبة في أوان الخريف اصفرت حباتها فأكلوها كالتفاح فبعضهم يقطعها بالسكين وبعضهم يمصها مصا وهي حلوة يمازج حلاوتها يسير حموضة ولها نواة كبيرة يزرعونها فتنبت منها الأشجار كما تزرع نوى النارنج وغيرها. ومنها الشَّكي والبَرْكي "بفتح الشين المعجم وكسر الكاف، وفتح الباء الموحدة وكسر الكاف" وهي أشجار عادية أوراقها كأوراق الجوز وثمرها يخرج من أصل الشجر فما اتصل منه بالأرض فهو البركي وحلاوته أشد وطعمه أطيب وما كان فوق ذلك فهو الشكي وثمره يشبه القرع الكبار وجلوده تشبه جلود البقر فإذا اصفر في أوان الخريف قطعوه وشقوه فيكون في داخل كل حبة المائة والمائتان فما بين ذلك من حبات تشبه الخيار بين كل حبة وحبة صفاق أصفر اللون وبكل حبة نواة تشبه الفول الكبير وإذا شويت تلك النواة أو طبخت يكون طعمها كطعم الفول إذ ليس يوجد هنالك ويدخرون هذه النوى في التراب الأحمر فتبقى إلى سنة أخرى وهذا الشكي والبركي هو خير فاكهة ببلاد الهند. والتَنْدو "بفتح التاء المثناة وسكون النون وضم الدال" وهو ثمر شجر الأبنوس، وحباته في قدر حبات المشمش، ولونها،
1 جمع جرم، ومعناه: الجسم، فالمراد أعظم حجماً من شجرة النارنج. والله أعلم.
2 أي: حفظوه مكبوساً بالملح، أو: خلّلوه بتعبير آخر ليكون من المشهيات مع الطعام.
وهو شديد الحلاوة، والجُوز "بضم الجيم المعقودة" وأشجار عادية ويشبه ثمره الزيتون وهو أسود اللون ونواه واحدة كالزيتون. والنارنج الحلو، وهو عندهم كثير. وأما النارنج الحامض فعزيز الوجود ومنه صنف ثالث يكون بين الحلو والحامض وثمره على قدر الليم وهو طيب جدّاً وكنت يعجبني أكله. ومنها المَهْوا "بفتح الميم والواو" وأشجاره عادية وأوراقه كأوراق الجوز إلا أن فيها حمرة وصفرة وثمره مثل الإجاص الصغير شديد الحلاوة وفي أعلى كل حبة منه حبة صغيرة بمقدار حبة العنب مجوفة وطعمها كالعنب.
إلا أن الإكثار من أكلها يحدث في الرأس صداعاً، ومن العجب أن هذه الحبوب إذا يبست في الشمس كان طعمها كطعم التين وكنت آكلها عوضاً عن التين إذ لا يوجد ببلاد لهند وهم يسمون هذه الحبة الأنكور "بفتح الهمزة وسكون النون وضم الكاف المعقودة والواو والراء"، وتفسيره بلسانهم العنب. والعنب بأرض الهند عزيز جدّاً، ولا يكون بها إلا في مواضع بحضرة دهلي وببلاد أخرى ويثمر مرتين في السنة ونوى هذا الثمر يصنعون منه الزيت ويستصبحون1 به. ومن فواكههم فاكهة يسمونها كَسِيرا "بفتح الكاف وكسر السين وياء مد وراء" يحفرون عليها الأرض وهي شديدة الحلاوة يشبه القسطل. وببلاد الهند من فواكه بلادنا الرمان ويثمر مرتين في السنة ورأيته ببلاد جزائر ذيبة المهل لا ينقطع له ثمر، وهم يسمونه أنَار "بفتح الهمزة والنون" وأظن ذلك هو الأصل في تسمية الجلنار، فإن جُل بالفارسية الزهر ونار الرمان.
أما عن الحبوب التي يزرعها أهل الهند ويقتاتون بها. فأهل الهند يزرعون مرتين في السنة فإذا نزل المطر عندهم في أوان القيظ زرعوا الزرع الخريفي وحصدوه بعد ستين يوماً من زراعته ومن هذه الحبوب الخريفية عندهم الكُذُرو "بضم الكاف وسكون الذال المعجم وضم الراء وبعدها واو" وهو نوع من الدخن وهذا الكذرو هو أكثر الحبوب عندهم. ومنها القال "بالقاف" وهو شبه أنلى. ومنها الشّاماخ "بالشين والخاء المعجمتين"، وهو أصغر حبا من القال. وربما نبت هذا الشاماخ من غير زراعة وهو طعام الصالحين وأهل الورع والفقراء
1 أي: يتخذونه وقوداً للمصابيح.
والمساكين، يخرجون لجمع ما نبت منه من غير زراعة فيمسك أحدهم قفة كبيرة بيساره وتكون بيمناه مقرعة يضرب بها الزرع فيسقط في القفة فيجمعون منه ما يقتاتون به جميع السنة وحب هذا الشاماخ صغير جدّاً، وإذا جمع جعل في الشمس ثم يدق في مهارس الخشب فيطير قشره ويبقى لبه أبيض ويصنعون منه عصيدة يطبخونها بحليب الجواميس وهي أطيب من خبزه، وكنت آكلها كثيراً ببلاد الهند وتعجبني. ومنها الماش وهو نوع من الجلبان ومنها المنج "بميم مضموم ونون وجيم"، وهو نوع من الماش إلا أن حبوبه مستطيلة ولونه صافي الخضرة ويطبخون المنج مع الأرز ويأكلونه بالسمن ويسمونه كُشْري "بالكاف والشين المعجم والراء"، وعليه يفطرون في كل يوم وهو عندهم كالحريرة ببلاد المغرب، ومنها اللوبيا وهي نوع من الفول. ومنها الموث "بضم الميم" وهو مثل الكذرو إلا أن حبوبه أصغر، وهو علف الدواب عندهم وتسمن الدواب بأكله. والشعير عندهم لا قوة له وإنما علف الدواب من هذا الموث أو الحمص يجرشونه ويبلونه بالماء ويطعمونه الدواب ويطعمونها عوضاً من القصيل أوراق الماش بعد أن تسقى الدابة السمن عشرة أيام في كل يوم مقدار ثلاثة أرطال أو أربعة ولا تركب في تلك الأيام. وبعد ذلك يطعمونها أوراق الماش كما ذكرنا شهراً أو نحوه وهذه الحبوب التي ذكرناها هي الخريفية وإذا حصدوها بعد ستين يوماً من زراعتها ازدرعوا الحبوب الربيعية وهي القمح والشعير والحمص والعدس وتكون زراعتها في الأرض التي كانت الحبوب الخريفية مزروعة فيها وبلادهم كريمة طيبة التربة. وأما الأرز فإنهم يزرعونه ثلاث مرات في السنة وهو من أكبر الحبوب عندهم. ويزدرعون السمسم وقصب السكر مع الحبوب الخريفية التي تقدم ذكرها. "ولنعد إلى ما كنا بسبيله فأقول" سافرنا من مدينة أبو هر، في صحراء مسيرة يوم في أطرافها جبال منيعة يسكنها كفار الهنود، وربما قطعوا الطريق. وأهل بلاد الهند أكثرهم كفار فمنهم رعية تحت ذمة المسلمين يسكنون القرى ويكون عليهم حاكم من المسلمين يقدمه العامل أو الخديم الذي تكون القرية في إقطاعه ومنهم عصاة محاربون يمتنعون بالجبال ويقطعون الطريق.
ولما أردنا السفر من مدينة أبو هَر خرج الناس منها أول النهار وأقمت بها إلى نصف النهار في لمة من أصحابي ثم خرجنا ونحن اثنان وعشرون
فارساً منهم عرب ومنهم أعاجم، فخرج علينا في تلك الصحراء ثمانون رجلاً من الكفار وفارسان، وكان أصحابي ذوي نجدة وعتّي، فقاتلناهم أشد القتال، فقتلنا أحد الفارسين منهم وغنمنا فرسه وقتلنا من رجالهم نحو اثنى عشر رجلاً وأصابتني نشابة وأصابت فرسي نشابة ثانية ومنّ الله بالسلامة منها، لأن نشابهم لا قوة لها وجرح لأحد أصحابنا فرس عوضناه له بفرس الكافر، وذبحنا فرسه المجروح فأكله الترك من أصحابنا وأوصلنا تلك الرؤوس إلى حصن أبي بَكْهَر فعلقناها على سوره. وكان وصولنا في نصف الليل إلى حصن أبي بَكْهر المذكور "وضبط اسمها بفتح الباء الموحدة وسكون الكاف وفتح الهاء وآخره راء". وسافرنا منه فوصلنا بعد يومين إلى مدينة أَجُودَهَن "وضبط اسمها بفتح الهمزة وضم الجيم وفتح الدال المهمل والهاء وآخره نون" مدينة صغيرة هي للشيخ الصالح فريد الدين البذاوني الذي أخبرني الشيخ الصالح الولي برهان الدين الأعرج بالإسكندرية أني سألقاه فلقيته والحمد لله، وهو شيخ ملك الهند وأنعم عليه بهذه المدينة وهذا الشيخ مبتلي بالوسواس والعياذ بالله فلا يصافح أحداً ولا يدنو منه وإذا ألصق ثوبه بثوب أحد غسل ثوبه. دخلت زاويته ولقيته وأبلغته سلام الشيخ برهان الدين فعجب وقال أنا دون ذلك ولقيت ولديه الفاضلين معز الدين وهو أكبرهما ولما مات أبوه تولى الشياخة بعده وعلم الدين. وزرت قبر جده القطب الصالح فريد الدين البذاوني منسوبة إلى مدينة "بذاوُن" بلد السنبل. "وهي بفتح الباء الموحدة والذال المعجم وضم الواو وآخرها نون" ولما أردت الانصراف عن هذه المدينة، قال لي علم الدين: لا بد لك من رؤية والدي فرأيته وهو في أعلى سطح له وعليه ثياب بيض وعمامة كبيرة لها ذوابة وهي مائلة إلى جانب ودعا لي وبعث إلى بسكر ونبات.
ولما انصرفت عن هذا الشيخ رأيت الناس يهرعون من عسكرنا ومعهم بعض أصحابنا فسألتهم ما الخبر؟ فأخبروني أن كافراً من الهنود مات، وأججت النار لحرقه، وامرأته تحرق نفسها معه. ولما احترقا جاء أصحابي وأخبروا أنها عانقت الميت حتى احترقت معه. وبعد ذلك كنت في تلك البلاد أرى المرأة من كفار الهنود متزينة راكبة والناس يتبعونها من مسلم وكافر والأطبال والأبواق بين يديها ومعها البراهمة وهم كبراء الهنود. وإذا كان ذلك ببلاد السلطان استأذنوا السلطان في إحراقها فيؤذن لهم فيحرقونها. ثم اتفق بعد مدة أني كنت
بمدينة أكثر سكانها الكفار تعرف بأبحري1 وأمير ها مسلم من سامرة السند وعلى مقربة منها الكفار العصاة فقطعوا الطريق يوماً وخرج الأمير المسلم لقتالهم وخرجت معه رعية من المسلمين والكفار ووقع بينهم قتال شديد مات فيه من رعية الكفار سبعة نفر - وكان لثلاثة منهم ثلاث زوجات فاتفقن على إحراق أنفسهن. وإحراق المرأة بعد زوجها عندهم أمر مندوب إليه غير واجب لكن من أحرقت نفسها بعد زوجها أحرز أهل بيتها شرفاً بذلك ونسبوا إلى الوفاء ومن لم تحرق نفسها لبست خشن الثياب وأقامت عند أهلها بائسة ممتهنة لعدم وفائها ولكنها لا تكره على إحراق نفسها. ولما تعاهدت النسوة الثلاث اللائي ذكرناهن على إحراق أنفسهم أقمن قبل ذلك ثلاثة أيام في غناء وطرب وأكل وشرب كأنهم يودعن الدنيا ويأتي إليهن النساء من كل جهة وفي صبيحة اليوم الرابع أتيت كل واحدة منهن بفرس فركبته وهي متزينة متعطرة وفي يمناها جوزة نارجيل تلعب بها وفي يسراها مرآة تنظر فيها وجهها والبراهمة يحفون بها وأقاربها معها وبين يديها الأطبال والأبواق والأنفار وكل إنسان من الكفار يقول لها أبلغي السلام إلى أبي أو أخي أو أمي أو صاحبي وهي تقول نعم وتضحك إليهم وركبت مع أصحابي لأرى كيفية صنعهن في الاحتراق فسرنا معهن نحو ثلاثة أميال وانتهينا إلى موضع مظلم كثير المياه والأشجار متكاثف الظلال وبين أشجاره أربع قباب في كل قبة صنم من الحجارة وبين القباب صهريج ماء قد تكاثفت عليه الظلال وتزاحمت الأشجار فلا تتخللها الشمس فكأن ذلك الموضع بقعة من بقع جهنم أعاذنا الله منها ولما وصلن إلى تلك القباب نزلن إلى الصهريج وانغمسن فيه وجردن ما عليهم من ثياب وحلي فتصدقن به وأتيت كل واحدة منهم بثوب قطن خشن غير مخيط فربط بعضه على وسطها وبعضه على رأسها وكتفيها والنيران قد أضرمت على قرب من ذلك الصهريج في موضع منخفض وصب عليها روغن كنجت "كنجد" وهو زيت الجُلْجُلان2 فزاد في اشتعالها. وهنالك نحو خمسة عشر رجلاً بأيديهم حزم من الحطب الرقيق ومعهم نحو عشرة
1 في بعض طبعات الكتاب: بأحجري.
2 الجلجلان: ثمرة الكزبرة، أو حبّ السمسم.
بأيديهم خشب كبار، وأهل الأطبال والأبواق وقوف ينتظرون مجيء المرأة وقد حجبت النار بملحفه يمسكها الرجال بأيديهم لئلا يدهشها النظر إليها فرأيت إحداهن لما وصلت إلى تلك الملحفة نزعتها من أيدي الرجال بعنف وقالت لهم: مار ميترساني ازاطش "آنش" من ميدانم أواطش است رهاكني مارا، وهي تضحك. ومعنى هذا الكلام أبالنار تخوفونني؟ أنا أعلم أنها نار محرقة ثم جمعت يديها على رأسها خدمة للنار ورمت بنفسها فيها، وعند ذلك ضربت الأطبال والأنفار والأبواق ورمى الرجال ما بأيديهم من الحطب عليها وجعل الآخرون تلك الخشب من فوقها لئلا تتحرك وارتفعت الأصوات وكثر الضجيج ولما رأيت ذلك كدت أسقط عن فرسي لولا أن أصحابي تداركوني بالماء فغسلوا وجهي وانصرفت وكذلك يفعل أهل الهند أيضاً في الغرق يغرق كثير منهم أنفسهم في نهر الكنك وهو الذي إليه يحجون وفيه يرمى برماد هؤلاء المحرقين وهم يقولون أنه من الجنة وإذا أتى أحدهم ليغرق نفسه يقول لمن حضره لا تظنوا أني أغرق نفسي لأجل شيء من أمور الدنيا أو لقلة مال إنما قصدي التقرب إلى كُساى. وكُساى "بضم الكاف والسين المهمل" اسم الله عز وجل بلسانهم ثم يغرق نفسه. فإذا مات أخرجوه وأحرقوه ورمو برماده في البحر المذكور.
ولنعد إلى كلامنا الأول، فنقول: سافرنا من مدينة أجودهن فوصلنا بعد مسيرة أربعة ايام منها إلى مدينة سَرْسَتي "وضبط اسمها بسينين مفتوحين بينهما راء ساكنة ثم تاء مثناة مكسورة وياء" مدينة كبيرة كثيرة الأرز وأرزها طيب ومنها يحمل إلى حضرة دهلي ولها مجبى كثير جداً أخبرني الحاجب شمس الدين البوشنجي بمقداره وأنسيته. ثم سافرنا منها إلى مدينة حَانْسي "وضبط اسمها بفتح الحاء المهملة وألف ونون ساكن وسين مهمل مكسور وياء"، وهي من أحسن المدن وأتقنها وأكثرها عمارة. ولها سور عظيم ذكروا أن بانيه رجل من كبار سلاطين الكفار يسمى توره وله عندهم حكايات وأخبار. ومن هذه المدينة كمال الدين صدر الجهان قاضي قضاة الهند وأخوه قطلوخان معلم السلطان وأخواهما نظام الدين وشمس الدين الذي انقطع إلى الله وجاور بمكة حتى مات. ثم سافرنا من حانسي فوصلنا بعد يومين إلى مسعود أباد وهي على عشرة أميال من حضرة دهلي وأقمنا بها ثلاثة أيام. وحانسي
ومسعود أباد هما للملك المعظم هُوشنج "بضم الهاء وفتح الشين المعجم وسكون النون وبعدها جيم" ابن الملك كمال كُرك، وكرك "بكافين معقودين أولاهما مضمومة" ومعناه الذئب وسيأتي ذكره. وكان سلطان الهند الذي قصدنا حضرته غائباً عنها بناحية مدينة قتوج وبينها وبين حضرة دهلي عشرة أيام وكانت بالحضرة والدته وتدعى المخدومة جهان وجهان اسم الدنيا. وكان بها أيضا وزيره خواجه جهان المسمى بأحمد بن أياس الرومي الأصل فبعث الوزير إلينا أصحابه ليتلقونا وعين للقاء كل واحد منا من كان من صنفه فكان من الذين عينهم للقائي الشيخ البسطامي والشريف المازنداراني وهو حاجب الغرباء والفقيه علاء الدين الملتاني المعروف بقَنّرة "بضم القاف وفتح النون وتشديدها" وكتب إلى السلطان بخبرنا. وبعث الكتاب مع الدواة وهي بريد الرجالة حسبما ذكرناه فوصل إلى السلطان وأتاه الجواب في تلك الأيام الثلاثة التي أقمناها بمسعود أباد وبعد تلك الأيام خرج إلى لقائنا القضاة والفقهاء والمشايخ وبعض الأمراء وهم يسمون الأمراء ملوكاً فحيث يقول أهل ديار مصر وغيرها الأمير يقولون هم الملك وخرج إلى لقائنا الشيخ ظهير الدين الزنجاني وهو كبير المنزلة عند السلطان، ثم رحلنا من مسعود أباد فنزلنا بمقربة من قرية تسمى بالَم "بفتح الباء المعقودة وفتح اللام" وهي للسيد الشريف ناصر الدين مطهر الأوهري أحد ندماء السلطان وممن له عنده الحظوة التامة. وفي غد ذلك اليوم وصلنا إلى حضرة دِهْلي قاعدة بلاد الهند "وضبط اسمها بكسر الدال المهمل وسكون الهاء وكسر اللام"، وهي المدينة العظيمة الشأن الضخمة الجامعة بين الحسن والحصانة، وعليها السور الذي لا يعلم له في بلاد الدنيا نظير وهي أعظم مدن الهند بل مدن الإسلام كلها بالمشرق.
ومدينة دهلي كبيرة المساحة كثيرة العمارة، وهي الآن أربع مدن متجاورات متصلات إحداهما المسماة بهذا الاسم دهلي وهي القديمة من بناء الكفار وكان افتتاحها سنة أربع وثمانين وخمسمائة والثانية تسمى سيري "بكسر السين المهمل والراء بينهما ياء مد" وتسمى أيضا دار الخلافة وهي التي أعطاها السلطان لغياث الدين حفيد الخليفة المستنصر العباسي لما قدم عليه، وبها كان سكنى السلطان علاء الدين وابنه قطب الدين وسنذكرهما، والثالثة تسمى أباد باسم بانيها السلطان تغلق والد سلطان الهند الذي قدمنا عليه. وكان سبب بنائه
لها أنه وقف يوماً بين يدي السلطان قطب الدين فقال له يا خوند عالم كان ينبغي أن تبني هنا مدينة فقال له السلطان متهكماً إذا أصبحت سلطاناً فابنها فكان من قدر الله أن كان سلطاناً فبناها وسماها باسمه، والرابعة تسمى جهان بناه، وهي مختصة بسكنى السلطان محمد شاه ملك الهند الآن الذي قدمنا عليه وهو الذي بناها وكان أراد أن يضم هذه المدن الأربع تحت سور واحد فبنى منه بعضا وترك بناء باقيه لعظم ما يلزم في بنائه.
والسور المحيط بمدينة دهلي لا يوجد له نظير عرض حائطه أحد عشر ذراعاً وفيه بيوت يسكنها السمار وحفاظ الأبواب وفيها مخازن للطعام ويسمونها الأنبارات ومخازن للعدد ومخازن للمجانيق والرعادات ويبقى الزرع بها مدة طائلة لا يتغير ولا تطرقه آفة ولقد شاهدت الأرز يخرج من بعض تلك المخازن ولونه قد اسود لكن طعمه طيب، ورأيت أيضا الكذرو يخرج منها وكل ذلك من اختزان السلطان بَلَبَن منذ تسعين سنة ويمشي داخل السور الفرسان والرجالة من أول المدينة إلى آخرها وفيه طيقان مفتحة إلى جهة المدينة يدخل منها الضوء وأسفل السور مبني بالحجارة وأعلاه بالآجر وأبراجه كثيرة متقاربة ولهذه المدينة ثمانية وعشرون باباً وهم يسمون الباب دروازة فمنها دروازة بذاون وهي الكبرى ودروازة المندوي وبها رحبة الزرع ودروازة جُل "بضم الجيم" وهي موضع البساتين ودروازة شاه اسم رجل ودروازة بالم اسم قرية ذكرناها ودروازة نجيب اسم رجل ودروازة كمال كذلك ودروازة غزنة نسبة إلى مدينة غزنة التي بطرف خراسان وبخارجها مصلى العيد وبعض المقابر ودروازة البَجَالصة "بفتح الباء والجيم والصاد المهمل"، وبخارج هذه الدروازة مقابر دهلي وهي مقبرة حسنة يبنون بها القباب ولا بد عند كل قبر من محراب وإن كان لا قبة له ويزرعون بها الأشجار المزهرة مثل قُل1 "كل شنبو" وريبول "راي بيل" والنسرين وسواها. والأزاهير هنالك لا تنقطع في فصل من الفصول.
وجامع دهلي كبير الساحة حيطانه وسقفه وفرشه كل ذلك من الحجارة البيض المنحوتة أبدع نحت ملصقة بالرصاص أتقن إلصاقة، لا حشبة
1 في بعض طبعات الكتاب: مثل: قل شَنْبَة.
به أصلاً. وفيه ثلاث عشرة قبة من حجارة ومنبره أيضا من الحجر وله أربعة صحون وفي وسط الجامع العمود الهائل الذي لا يدري من أي المعادن هو. ذكر لي بعض حكامهم أنه يسمى هَفْت جُوش ومعنى ذلك سبعة معادن وأنه مؤلف منها وقد جلي من هذا العمود مقدار السبابة ولذلك المجلو منه بريق عظيم ولا يؤثر فيه الحديد وطوله ثلاثون ذراعاً وأدرنا به عمامة فكان الذي أحاط بدائرته منها ثمانية أذرع وعند الباب الشرقي من أبواب المسجد صنمان كبيران جداً من النحاس مطروحان بالأرض قد ألصقا بالحجارة ويطأ عليها كل داخل إلى المسجد أو خارج منه وكان موضع هذا المسجد بدخانة وهو بيت الأصنام فلما افتتحت جعل مسجداً وفي الصحن الشمالي من المسجد الصومعة التي لا نظير لها في بلاد الإسلام وهي مبنية بالحجارة الحمر خلافاً لحجارة سائر المسجد فإنها بيض وحجارة الصومعة منقوشة وهي سامية الارتفاع وفحلها من الرخام الأبيض الناصع وتفافيحها من الذهب الخالص وسعة ممرها بحيث تصعد فيه الفيلة حدثني من أثق به أنه رأى الفيل حين بنيت يصعد بالحجارة إلى أعلاها وهي من بناء السلطان معز الدين بن ناصر الدين بن السلطان غياث الدين بَلَبََن. وأراد السلطان قطب الدين أن يبني بالصحن الغربي صومعة أعظم منها فبنى مقدار الثلث منها واخترم دون تمامها وأراد السلطان محمد إمامها ثم ترك ذلك تشاؤماً. وهذه الصومعة من عجائب الدنيا في صخامتها وسعة ممرها بحيث تصعده ثلاثة من الفيلة متقارنة وهذا الثلث المبني منها مساو لارتفاع جميع الصومعة التي ذكرنا أنها بالصحن الشمالي وصعدتها مرة فرأيت معظم دور المدينة وعاينت الأسوار على ارتفاعها وسموها منحطة وظهر لي الناس في أسفلها كأنهم الصبيان الصغار ويظهر لناظرها من أسفلها أن أرتفاعها ليس بذلك لعظم جرمها وسعتها. وكان السلطان قطب الدين أراد أن يبني أيضا مسجداً جامعاً بسيري المسماة دار الخلافة فلم يتم منه غير الحائط القبلي والمحراب وبناؤه بالحجارة البيض والسود والحمر والخضر ولو كمل لم يكن له مثل في البلاد وأراد السلطان محمد إتمامه وبعث عرفاء البناء ليقدروا النفقة فيه فزعموا أنه ينفق في إتمامه خمسة وثلاثون لكًّا فترك ذلك استكثاراً له وأخبرني بعض خواصه أنه لم يتركه استكثاراً لكنه تشام به لما كان السلطان قطب الدين قتل قبل تمامه.
ويقع بخارج دهلي الحوض العظيم المنسوب إلى السلطان شمس الدين لَلْمِش ومنه يشرب أهل المدينة وهو بالقرب من مصلاها وماؤها يجتمع من ماء المطر وطوله نحو ميلين وعرضه على النصف من طوله والجهة الغربية منه من ناحية المصلى مبنية بالحجارة مصنوعة أمثال الدكاكين بعضها أعلى من بعض وتحت كل دكان درج ينزل عليها إلى الماء، وبجانب كل دكان قبة حجارة فيها مجالس للمتنزهين والمتفرجين وفي وسط الحوض قبة عظيمه من الحجارة المنقوشه مجعولة طبقتين فإذا كثر الماء في الحوض لم يكن سبيل إليها إلا في القوارب فإذا قل الماء دخل إليها الناس وداخلها مسجد وفي أكثر الأوقات يقيم بها الفقراء المنقطعون إلى الله المتوكلون عليه وإذا جف الماء في جوانب هذا الحوض زرع فيها قصب السكر والخيار والقثاء والبطيخ الأخضر والأصفر وهو شديد الحلاوة صغير الجرم. وفيما بين دهلي ودار الخلافة حوض الخاص وهو أكبر من حوض السلطان شمس الدين وعلى جوانبه نحو أربعين قبة ويسكن حوله أهل الطرب وموضعهم يسمى طرب آباد ولهم سوق هنالك من أعظم الأسواق ومسجد جامع ومساجد سواه كثيرة وأخبرت أن النساء المغنيات الساكنات هنالك يصلين التراويح في شهر رمضان بتلك المساجد مجتمعات ويؤم بهن الأئمة وعددهن كبير، وكذلك الرجال المغنون. ولقد شاهدت الرجال أهل الطرب في عرس الأمير سيف الدين غدا بن مهنا لكل واحد منهم مصلّى تحت ركبته فإذا سمع الأذان قام فتوضأ وصلى.
وفيها قبر الشيخ الصالح قطب الدين بختيار الكعكي وهو ظاهر البركة كثير التعظيم. وسبب تسمية هذا الشيخ بالكعكي أنه كان إذا أتاه الذين عليهم الديون شاكين من الفقر أو القلة أو الذين لهم البنات ولم يجدوا ما يجهزون به إلى أزواجهن يعطي من أتاه منهم كعكة من الذهب أو من الفضة حتى عرف من أجل ذلك بالكعكي رحمه الله. ومنها قبر الفقيه الفاضل نور الدين الكُرْلاني "بضم الكاف وسكون الراء والنون" ومنها قبر الفقيه علاء الدين الكرماني نسبة إلى كرمان وهو ظاهر البركة ساطع النور ومكانه يظهر قبلة المصلى وبذلك الموضع قبور رجال صالحين كثير نفع الله تعالى بهم.
ومن أشهر علمائها الشيخ الصالح العالم محمود الكبا "بالباء الموحدة"، وهو من كبار الصالحين والناس يزعمون أنه ينفق من الكون لأنه لا مال له
ظاهر وهو يطعم الوارد والصادر ويعطي الذهب والدراهم والأثواب، وظهرت له كرامات كثيرة واشتهر بها. رأيته مرات كثيرة وحصلت لي بركته، ومنهم الشيخ الصالح العالم علاء الدين النيلي كأنه منسوب إلى نيل مصر والله أعلم، كان من أصحاب الشيخ العالم الصالح نظام الدين البذواني وهو يعظ الناس في كل يوم جمعة فيتوب كثير منهم بين يديه ويحلقون رؤوسهم ويتواجدون ويغشى على بعضهم.
وشاهدته في بعض الأيام وهو يعظ فقرأ القارئ بين يديه: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ أن زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ ،يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ} 1. ثم كررها الفقيه علاء الدين فصاح أحد الفقراء من ناحية المسجد صيحة عظيمة، فأعاد الشيخ الآية فصاح الفقير ثانية ووقع ميتاً، وكنت فيمن صلى عليه وحضر جنازته. ومنهم الشيخ الصالح العابد صدر الدين الكُهْراني "بضم الكاف وسكون الهاء وراء ونون" وكان يصوم الدهر ويقوم الليل وتجرد عن الدنيا جميعاً ونبذها ولباسه عباءة، ويزوره السلطان وأهل الدولة وربما احتجب عنهم فرغب السلطان منه أن يقطعه قرى يطعم منها الفقراء والواردين فأبى ذلك وزاره يوماً وأتى إليه بعشرة آلاف دينار فلم يقبلها وذكروا أنه لا يفطر إلا بعد ثلاث، وأنه قيل له في ذلك، فقال: لا أفطر حتى اضطر فتحل لي الميتة، ومنهم الإمام الصالح العالم العابد الورع الخاشع فريد دهره ووحيد عصره كمال الدين عبد الله الغاري "بالغين المعجم والراء" نسبة إلى غار كان يسكنه خارج دهلي بمقربة من زاوية الشيخ نظام الدين البذواني زرته بهذا الغار ثلاث مرات.
وكان لي غلام فأبق مني وألفيته بيد رجل من الترك فذهبت إلى انتزاعه من يده فقال لي الشيخ أن هذا الغلام لا يصلح لك فلا تأخذه وكان التركي راغباً في المصالحة فصالحته بمائة دينار أخذتها منه وتركته له فلمّا كان بعد ستة أشهر قتل سيده وأتي به إلى السلطان فأمر بتسليمه لأولاد سيده فقتلوه، ولما شاهدت لهذا الشيخ هذه الكرامة انقطعت إليه ولازمته وتركت الدنيا ووهبت
1 الحجّ: الآية، 1، 2.
جميع ما كان عندي للفقراء والمساكين وأقمت عنده مدة فكنت أراه يواصل عشرة أيام وعشرين يوماً ويقوم أكثر الليل ولم أزل معه حتى بعث عني السلطان ونشبت في الدنيا ثانية. والله تعالى يختم بالخير وسأذكر ذلك فيما بعد أن شاء الله تعالى وكيفية رجوعي إلى الدنيا.
وحدثني الفقيه الإمام العلامة قاضي القضاة بالهند كمال الدين محمد بن البرهان الغزنوي الملقب بصدر الجهان أن مدينة دهلي افتتحت من أيدي الكفار في سنة أربع وثمانين وخمسمائة وقد قرأت أنا ذلك مكتوباً على محراب الجامع الأعظم بها، وأخبرني أيضاً أنها افتتحت على يد الأمير قطب الدين أيبك "واسمه بفتح الهمزة وسكون الياء آخر الحروف وفتح الباء الموحدة" وكان يلقب سياه "سالار"، ومعناه مقدم الجيوش. وهو أحد مماليك السلطان المعظم شهاب الدين محمد بن سام الغوري ملك غزنة وخراسان المتغلب على ملك إبراهيم بن السلطان الغازي محمود بن سبكتكين الذي ابتدأ فتح الهند. وكان السلطان شهاب الدين المذكور بعث الأمير قطب الدين بعسكر عظيم ففتح الله عليه مدينة لاهور وسكنها وعظم شأنه وسعي به إلى السلطان وألقى إليه جلساؤه أنه يريد الانفراد بملك الهند وأنه قد عصى وخالف وبلغ هذا الخبر إلى قطب الدين فبادر بنفسه وقدم على غزنة ليلاً ودخل على السلطان ولا علم عند الذين وشوا به إليه فلما كان بالغد قعد السلطان على سريره وأقعد أيبك تحت السرير بحيث لا يظهر وجاء الندماء والخواص الذين سعوا به فلما استقر بهم الجلوس سألهم السلطان عن شأن أيبك فذكروا له أنه عصى وخالف وقالوا قد صح عندنا أنه ادعى الملك لنفسه فضرب السلطان سريره برجله وصفق بيديه وقال يا أيبك قال لبيك وخرج عليهم فسقط في أيديهم وفزعوا إلى تقبيل الأرض، فقال لهم السلطان قد غفرت لكم هذه الزلة وإياكم والعودة إلى الكلام في أيبك وأمره أن يعود إلى بلاد الهند، فعاد إليها وفتح مدينة دهلي وسواها واستقر بها الإسلام إلى هذا العهد وأقام قطب الدين بها إلى أن توفي.
وكان السلطان شمس الدين لَلْمِش "وضبط اسمه بفتح اللام الأولى وسكون الثانية وكسر الميم وشين معجم"، أول من ولي الملك بمدينة دهلي مستقلاً به وكان قبل تملكه مملوكاً للأمير قطب الدين أيبك وصاحب عسكره ونائباً عنه، فلما
مات قطب الدين استبد بالملك وأخذ الناس بالبيعة فأتاه الفقهاء يقدمهم قاضي القضاة إذ ذاك وجيه الدين الكاساني فدخلوا عليه وقعدوا بين يديه وقعد القاضي إلى جانبه على العادة وفهم السلطان عنهم ما أرادوا أن يكلموه به فرفع طرف البساط الذي هو قاعد عليه وأخرج لهم عقداً يتضمن عتقه فقرأ القاضي والفقهاء وبايعوه جميعاً واستقل بالملك وكانت مدته عشرين سنة وكان عادلاً صالحاً فاضلاً ومن مآثره أنه اشتد في رد المظالم وإنصاف المظلومين، وأمر أن يلبس كل مظلومٍ ثوباً مصبوغاً، وأهل الهند جميعاً يلبسون البياض فكان متى قعد للناس أو ركب فرأى أحداً عليه ثوب مصبوغ نظر في قضيته وأنصفه ممن ظلمه ثم أنه أعيا في ذلك1 فقال أن بعض الناس تجري عليهم المظالم بالليل وأريد تعجيل إنصافهم فجعل على باب قصره أسدين مصورين من الرخام موضوعين على برجين هنالك وفي أعناقهما سلسلتان من الحديد فيهما جرس كبير فكان المظلوم يأتي ليلاً فيحرك الجرس فيسمعه السلطان وينظر في أمره للحين وينصفه. ولما توفي السلطان شمس الدين خلف من الأولاد الذكور ثلاثة وهم ركن الدين الوالي بعده ومعز الدين وناصر الدين وبِنتاً تسمى رضية هي شقيقة معز الدين منهم فتولى بعده ركن الدين كما ذكرناه.
ولما بويع ركن الدين بعد موت أبيه افتتح أمره بالتعدي على أخيه معز الذين فقتله وكانت رضية شقيقته فأنكرت ذلك عليه فأراد قتلها فلما كان في بعض أيام الجمع خرج ركن الدين إلى الصلاة فصعدت رضية على سطح القصر القديم المجاور للجامع الأعظم وهو يسمى دولة خانة ولبست عليها ثياب المظلومين وتعرضت للناس وكلّمتهم من أعلى السطح، وقالت لهم: أن أخي قتل أخاه وهو يريد قتلي معه، وذكرتهم أيام أبيها وفعله الخير وإحسانه إليهم فثاروا عند ذلك إلى السلطان ركن الدين وهو في المسجد فقبضوا عليه وأتوا به إليها فقالت لهم القاتل يقتل فقتلُوه قصاصاً بأخيه وكان أخوهما ناصر الدين صغيراً فاتفق الناس على تولية رضية.
ولما قتل ركن الدين اجتمعت العساكر على تولية أخته رضية الملك فولوها واستقلت بالملك أربع سنين وكانت تركب بالقوس والتركش والقربان
1 أي: أعجز غيره من الحكام أن يلحقوا به ويصنعوا صنيعه من العدل.
كما يركب الرجال ولا تستر وجهها، ثم إنها اتهمت بعبدٍ لها من الحبشة فاتفق الناس على خلعها وتزويجها، فخلعت وزوجت من بعض أقاربها وولي الملك أخوها ناصر الدين.
ولماخلعت رضية ولي ناصر الدين أخوها الأصغر واستقل بالملك مدة ثم أن رضية وزوجها خالفا عليه وركبا في مماليكهما ومن تبعهما من أهل الفساد وتهيأ لقتاله وخرج ناصر الدين ومعه مملوكه النائب عنه غياث الدين بلبن متولي الملك بعده فوقع اللقاء وانهزم عسكر رضية وفرت بنفسها فأدركها الجوع وأجهدها الإعياء فقصدت حَرّاثاً رأته يحرث الأرض، فطلبت منه ما تأكله فأعطاها كسرة خبز فأكلتها وغلب عليها النوم وكانت في زي الرجال فلما نامت نظر إليها الحرّاث وهي نائمة فرأى تحت ثيابها قباء مرصعاً فعلم أنها امرأة فقتلها وسلبها وطرد فرسها ودفنها في فدانه وأخذ بعض ثيابها فذهب إلى السوق يبيعها فأنكر أهل السوق شأنه وأتوا به الشحنة وهو الحاكم فضربه فأقر بقتلها ودلهم على مدفنها فاستخرجوها وغسلوها وكفنوها ودفنت هنالك وبني عليها قبة وقبرها الآن يزار ويتبرك به1، وهو على شاطئ النهر الكبير المعروف بنهر الجون على مسافة فرسخ واحد من المدينة واستقل ناصر الدين بالملك بعدها واستقام له الأمر عشرين سنة. وكان ملكاً صالحاً ينسخ نسخاً من الكتاب العزيز ويبيعها فيقتات بثمنها. وقد وقفني القاضي كمال الدين على مصحف بخطة متقن محكم الكتابة ثم أن نائبه غياث الدين بَلَبَن قتله وملك بعده ولِبلبن هذا خبر ظريف نذكره.
ولما قتل غياث الدين بَلَبَن "وضبط اسمه بباءين موحدتين بينهما لام والجميع مفتوحات وآخرها نون"، مولاه السلطان ناصر الدين استقل بالملك بعده عشرين سنة وقد كان قبلها نائباً له عشرين سنة أخرى، وكان من خيار السلاطين عادلاً حليماً فاضلاً. ومن مكارمه أنه بنى داراً وسماها دار الأمن فمن دخلها من أهل الديون قضى دَينه ومن دخلها خائفاً أمن ومن دخلها وقد قتل أحداً
1 يدل ذلك على أن عوام الناس لا يميّزون بين الصالحين الذين يتبرّك بهم – أن جاز ذلك – وبين غيرهم، فليس كلّ من القبور أهل للتبرّك بهم، فالقبور بها الصالح ومستور الحال.
أرضى عنه أولياء المقتول ومن دخلها من ذوي الجنايات أرضى أيضاً من يطلبه، وبتلك الدار دفن لما مات وقد زرت قبره.
ويذكر أن أحد الفقراء بِبُخارى رأى بها بَلَبَن هذا وكان قصيراً حقيراً ذميماً، فقال له: يا تُركك وهي لفظة تعبر عن الاحتقار، فقال له: لبيك يا خوند، فأعجبه كلامه، فقال له: اشتر لي من هذا الرمان وأشار إلى رمان يباع بالسوق، فقال: نعم، وأخرج فليسات لم يكن عنده سواها واشترى له من ذلك الرمان فلما أخذها الفقير، قال له: وهبناك ملك الهند، فقبّل بَلَبَن يد نفسه وقال قبلتُ ورضيت واستقر ذلك في ضميره واتفق أن بعث السلطان شمس الدين لَلِمش تاجراً يشتري له المماليك بسمرقند وبخارى وترمذ، فاشترى مائة مملوك كان من جملتهم بلبن فلما دخل بالمماليك على السلطان أعجبه جميعهم إلا بلبن لما ذكرناه من دمامته، فقال: لا أقبل هذا، فقال له بلبن يا خوند عالم لمن اشتريت هؤلاء المماليك؟ فضحك منه، وقال: اشتريتهم لنفسي فقال اشترني أنا لله عز وجل، فقال نعم وقبله وجعله في جملة المماليك فاحتقر شأنه وجعل في السقائين وكان أهل المعرفة بعلم النجوم يقولون للسلطان شمس الدين أن أحد مماليكك يأخذ الملك من يد ابنك ويستولي عليه ولا يزالون يلقون له ذلك وهو لا يلتفت إلى أقوالهم لصلاحه وعدله إلى أن ذكروا ذلك للخاتون الكبرى أم أولاده فذكرت له ذلك وأثر في نفسه وبعث على المنجمين فقال أتعرفون المملوك الذي يأخذ ملك ابني إذا رأيتموه؟ فقالوا له نعم عندنا علامة نعرفه بها فأمر السلطان بعرض مماليكه وجلس لذلك فعرضوا بين يديه طبقة طبقة والمنجمون ينظرون إليهم ويقولون لم نره بعد وحان وقت الزوال فقال السقاؤون بعضهم لبعض إنا قد جعنا فلنجمع شيئاً من الدراهم ونبعث أحدنا إلى السوق ليشتري لنا ما نأكله فجمعوا الدراهم وبعثوا بها بلبن إذ لم يكن فيهم أحقر منه فلم يجد بالسوق ما أرادوه فتوجه إلى سوق أخرى وأبطأ وجاءت نوبة السقائين في العرض وهو لم يأت بعد فأخذوا زقه وماعونه وجعلوه على كاهل صبي وعرضوه على أنه بلبن فلما نودي اسمه جاز الصبي بين أيديهم وانقضى العرض ولم ير المنجمون الصورة التي تطلبوها، وجاء بلبن بعد تمام العرض لما أراد الله من إنفاذ قضائه ثم أنه ظهرت نجابته فجعل أمير السقائين ثم صار من جملة الأجناد، ثم من الأمراء ثم تزوج
السلطان ناصر الدين بنته قبل أن يلي الملك، ولما ولي الملك جعله نائباً عنه مدة عشرين سنة، ثم قتله بلبن واستولى على ملكه عشرين سنة أخرى كما تقدم ذكر ذلك وكان للسلطان بلبن ولدان أحدهما الخان الشهيد ولي عهده وكان والياً لأبيه ببلاد السند ساكناً بمدينة ملتان، وقتل في حرب له مع التتر وترك ولدين: كي قباد وكي خسرو، وولد السلطان بلبن الثاني يسمى ناصر الدين وكان والياً لأبيه ببلاد اللكنوتي وبنجالة فلما استشهد الخان الشهيد جعل السلطان بلبن العهد إلى ولده كي خسرو وعدل به عن ابن نفسه ناصر الدين وكان لناصر الدين أيضاً ولد ساكن بحضرة دهلي مع جده يسمى معز الدين وهو الذي تولى الملك بعد جده في خبر عجيب نذكره وأبوه إذ ذاك حي كما ذكرناه.
ولما توفي السلطان غياث الدين ليلاً، وابنه ناصر الدين غائب ببلاد اللكنوتي وجعل العهد لابن ابنه الشهيد كي خسرو حسبما قصصناه كان ملك الأمراء نائب السلطان غياث الدين عدواً لكي خسرو فأدار عليه حيلة تمت له وهي أنه كتب بيعة دلّس فيها على خطوط الأمراء الكبار بأنهم بايعوا السلطان معز الدين حفيد السلطان بلبن ودخل على كي خسرو كالمتنصح له فقال له أن الأمراء قد بايعوا ابن عمك وأخاف عليك منهم فقال كي خسرو فما الحيلة قال انج بنفسك هارباً إلى بلاد السند، فقال: وكيف الخروج والأبواب مسدودة، فقال له: أن المفاتيح بيدي وأنا أفتح لك فشكره على ذلك وقبل يده، فقال له: اركب الآن فركب في خاصته ومماليكه وفتح له الباب وأخرجه وسد في أثره واستأذن على معز الدين فبايع فقال كيف لي بذلك وولاية العهد لابن عمي فأعلمه بما أدار عليه من الحيلة وبإخراجه فشكره على ذلك ومضى به إلى دار الملك وبعث عن الأمراء والخواص فبايعوه ليلاً فلما أصبح بايعه سائر الناس واستقام له الملك وكان أبوه حيًّا ببلاد بنجالة واللكنوتي فاتصل به الخبر فقال أنا وارث الملك وكيف يلي ابني الملك ويستقل به وأنا بقيد الحياة فتجهز في جيوشه قاصداً حضرة دهلي وتجهّز ولده في جيوشه كذلك قاصداً لمدافعته عنها فتوافيا معا بمدينة كرا وهي على ساحل نهر الكنك الذي تحج الهنود إليه فنزل ناصر الدين على شاطئه مما يلي كرا ونزل ولده السلطان معز الدين مما يلي الجهة الأخرى والنهر بينهما وعزما على القتال ثم أن الله تعالى أراد حقن دماء المسلمين فألقى في قلب ناصر الدين الرحمة لابنه قال: إذا
ملك ولدي فذلك شرف لي وأنا أحق أن أرغب في ذلك وألقى في قلب السطان معز الدين الضراعة لأبيه فركب كل واحد منهما في مركب منفرداً عن جيوشه والتقيا في وسط النهر فقبّل السلطان رجل أبيه واعتذر له فقال له أبوه قد وهبتك ملكي ووليتك وبايعه وأراد الرجوع لبلاده فقال له ابنه لا بد لك من الوصول إلى بلادي فمضى معه إلى دهلي ودخل القصر وأقعده أبوه على سرير الملك ووقف بين يديه وسمي ذلك اللقاء الذي كان بينهما بالنهر: لقاء السعدين؛ لما كان فيه من حقن الدماء وتواهب الملك والتجافي عن المنازعة وأكثرت الشعراء في ذلك وعاد ناصر الدين إلى بلاده فمات بها بعد سنين وترك بها ذرية منهم غياث الدين بهادور الذي أسره السلطان تغلق وأطلقه ابنه محمد بعد وفاته واستقام الملك لمعز الدين أربعة أعوام بعد ذلك وكانت كالأعياد رأيت بعض من أدركها يصف خيراتها ورخص أسعارها وجود معز الدين وكرمه وهو الذي بنى الصومعة بالصحن الشمالي من جامع دهلي ولا نظير لها بالبلاد. وحكى لي بعض أهل الهند أن معز الدين كان يكثر من النكاح والشرب فاعترته علة أعجز الأطباء دواؤها ويبس أحد شقيه فقام عليه نائبه جلال الدين فيروزشاه الخَلَجي "بفتح الخاء المعجم واللام والجيم".
ولما اعترى السلطان معز الدين ما ذكرناه من يبس أحد شقيه خالف عليه نائبه جلال الدين وخرج إلى ظاهر المدينة فوقف على تل هنالك بجانب قبة تعرف بقبة الجيشاني. فبعث معز الدين الأمراء لقتاله فكان كل من يبعثه منهم يبايع جلال الدين ويدخل في جملته ثم دخل المدينة وحصره في القصر ثلاثة أيام. وحدثني من شاهد ذلك أن السلطان معز الدين أصابه الجوع في تلك الأيام فلم يجد ما يأكله فبعث إليه أحد الشرفاء من جيرانه ما أقام أوده، ودخل عليه القصر فقتل، وولي بعده جلال الدين وكان حليماً فاضلاً وحلمه أداه إلى القتل كما سنذكره. واستقام له الملك سنين وبنى القصر المعروف باسمه وهو الذي أعطاه السلطان محمود لصهره الأمير غدا بن مهنا لما زوّجه بأخته وسيذكر ذلك. فكان للسلطان جلال الدين ولد اسمه ركن الدين وابن أخ اسمه علاء الدين زوجه بابنته وولاه مدينه كرا ومانكبور ونواحيها، وهي من أخصب بلاد الهند كثيرة القمح والأرز والسكر وتصنع بها الثياب الرفيعه ومنها تجلب إلى دلهي وبينهما مسيره ثمانيه عشر يوماً وكانت زوجة علاء الدين
تؤذيه فلا زال يشكوها إلى عمه السلطان جلال الدين حتى وقعت الوحشة بينهما بسببها وكان علاء الدين شهماً شجاعاً مظفراً منصوراً، وحب الملك ثابت في نفسه، إلا أنه لم يكن له مال إلا ما يستفيده بسيفه من غنائم الكفار، فاتفق أنه ذهب مرة إلى الغزو ببلاد الدويقير، وتسمى بلاد الكّتكه أيضاً وسنذكرها. وهي كرسي بلاد المالوه والمرهتة، وكان سلطانها أكبر سلاطين الكفار، فعثرت بعلاء الدين في تلك الغزوة دابة له عند حجر، فسمع له طيناً فأمر بالحفر هنالك فوجد تحته كنزاً عظيماً ففرّقه في أصحابه، ووصل إلي الدويقر فأذعن له سلطانها بالطاعة ومكنه من المدينة من غير حرب وأهدى له هدايا عظيمة فرجع إلي مدينة كرا ولم يبعث إلى عمه شيئا من الغنائم فأغرى الناس عمه به فبعث عنه فامتنع من الوصول إليه فقال جلال الدين أنا أذهب إليه وآتي به فإنه محل ولدي فتجهز في عساكره وطوى المراحل حتى حلّ بساحل مدينه كرا حيث نزل السلطان معز الدين لما خرج إلى لقاء أبيه ناصر الدين وركب النهر برسم الوصول إلى ابن أخيه وركب ابن أخيه أيضاً في مركب ثان عازماً على الفتك به، وقال لأصحابه أذا أنا عانقته فاقتلوه، فلما التقيا وسط النهر عانقه ابن أخيه وقتله أصحابه كما وعدهم واحتوى على ملكه وعساكره.
ولما قتل علاء الدين عمه استقل بالملك وفرّ إليه أكثر عساكر عمه وعاد بعضهم إلى دهلي واجتمعوا على ركن الدين وخرج إلى دفاعه فهربوا جميعاً إلى علاء الدين محمد شاه الجلخي، وفرّ ركن الدين إلى السند ودخل علاء الدين دار الملك واستقام له الأمر عشرين سنة، وكان من خيار السلاطين، وأهل الهند يثنون عليه كثيراً وكان يتفقد أمور الرعية بنفسه ويسأل عن أسعارهم ويحضر المحتسب وهم يسمونه الرئيس في كل يوم برسم ذلك ويذكر أنه سأله يوماً عن سبب غلاء اللحم فأخبره أن ذلك لكثرة المغرم على البقر في الرتب فأمر برفع ذلك وأمر بإحضار التجار وأعطاهم الأموال وقال لهم اشتروا بها البقر والغنم وبيعوها ويرتفع ثمنها لبيت المال ولكم أجرة على بيعها ففعلوا ذلك وفعل مثل هذا في الأثواب التي يؤتى بها من دولة أباد وكان إذا غلا ثمن الزرع فتح المخازن وباع الزرع حتى يرخص السعر ويذكر أن السعر ارتفع ذات مرة فأمر ببيع الزرع بثمن عينه فامتنع الناس من بيعه بذلك الثمن فأمر ألا يبيع أحد زرعاً غير زرع المخزن وباع للناس ستة أشهر فخاف المحتكرون فساد زرعهم
بالسوس فرغبوا أن يؤذن لهم في البيع فأذن لهم على أن يبيعوه بأقل من القيمة الأولى التي امتنعوا عن بيعه بها. وكان لا يركب لجمعة ولا لعيد ولا سواهما، وسبب ذلك أنه كان له ابن أخ يسمى سليمان شاه وكان يحبه ويعظمه فركب يوماً إلى الصيد وهو معه وأضمر في نفسه أن يفعل به ما فعل هو بعمه السلطان جلال الدين من الفتك فلما نزل للغداء رماه بنشابه فصرعه وغطاه بعض عبيده بترس وأتى ابن أخيه ليجهز عليه فقال له العبيد إنه قد مات فصدّقهم وركب فدخل القصر على الحرم وأفاق السلطان علاء الدين من غشيته وركب واجتمعت العساكر عليه وفر ابن أخيه. فأدرك وأتي به إليه فقتله وكان بعد ذلك لا يركب وكان له من الأولاد خضر خان وشادي خان وأبو بكر خان ومبارك خان وهو قطب الدين الذي ولي الملك وشهاب الدين. وكان قطب الدين مهتضماً عنده ناقص الحظ قليل الحظوة وأعطى جميع إخوته المراتب وهي الأعلام والأطبال ولم يعطه شيئاً، وقال له يوماً: لا بد أن أعطيك مثل ما أعطيت إخوتك فقال له: الله هو الذي يعطيني فهال أباه هذا الكلام وفزع منه، ثم أن السلطان اشتد عليه المرض، وكانت زوجته أم ولده خضر خان وتسمى ماه حق والماه القمر بلسانهم لها أخ يسمى سنجر فعاهدت أخاها على تمليك ولدها خضر خان وعلم بذلك ملك نائب أكبر أمراء السلطان وكان يسمى الألفي لأن السلطان اشتراه بألف تنكة وهي ألفان وخمسمائة من دنانير المغرب فوشى إلى السلطان بما اتفقوا عليه فقال لخواصه إذا دخل علي سنجر فإني معطيه ثوباً فإذا لبسه فأمسكوا بأكمامه واضربوا به الأرض واذبحوه فلما دخل عليه فعلوا ذلك وقتلوه. وكان خضر خان غائباً بموضع يقال له سندبت على مسيرة يوم من دهلي توجه لزيارة شهداء مدفونين به لنذر كان عليه أن يمشي تلك المسافة راجلاً ويدعو لوالده بالراحة. فلما بلغه أن أباه قتل خاله حزن عليه حزناً شديداً ومزق جيبه وتلك عادة لأهل الهند يفعلونها إذا مات لهم من يعز عليهم، فبلغ والده ما فعله فكره ذلك. فلما دخل عليه عنفه ولامه وأمر به فقيدت يداه ورجلاه وسلمه لملك نائب المذكور وأمره أن يذهب به إلى حصن كالبُور وضبطه "بفتح الكاف المعقودة وكسر اللام وضم الياء آخر الحروف وآخره راء" ويقال له أيضا كيالير بزيادة ياء ثانية، وهو حصن منقطع بين كفار الهنود منيع على مسيرة عشر من دهلي وقد سكنته أنا مدة فلما أوصله إلى هذا الحصن سلمه للكتوال وهو أمير الحصن وللمفردين وهم الزماميون، وقال لهم لا تقولوا هذا ابن السلطان
فتكرموه، إنما هو أعدى عدو له، فاحفظوه كما يحفظ العدو، ثم أن المرض اشتد بالسلطان فقال لملك نائب ابعث من يأتي بابني خضر خان لأوليه العهد، فقال له: نعم، وماطله بذلك فمتى سأله عنه قال هو ذا يصل إلى أن توفى السلطان رحمه الله.
ولما توفي السلطان علاء الدين أقعد ملك نائب ابنه الأصغر شهاب الدين على سرير الملك وبايعه الناس وتغلب ملك نائب عليه وسمل أعين أبي بكر خان وشادي خان وبعث بهما إلى كالبور وأمر بسمل عيني أخيهما خضر خان المسجون هنالك وسجنوا وسجن قطب الدين لكنه لم تسمل عيينه، وكان للسلطان علاء الدين مملوكان من خواصه يسمى أحدهما ببشير والآخر بمبشر فبعثت إليهما الخاتون الكبرى زوجة علاء الدين وهي بنت السلطان معز الدين فذكرتهما بنعمة مولاهما وقالت أن هذا الفتى نائب ملك قد فعل في أولادي ما تعلمانه وأنه يريد أن يقتل قطب الدين فقالا لها: سترين ما نفعل. وكانت عادتهما أن يبيتا عند نائب ملك ويدخلَا عليه بالسلاح فدخلَا عليه تلك الليلة وهو في بيت من الخشب مكسو بالملف يسمونه الخرمقة ينام فيه أيام المطر فوق سطح القصر فاتفق أنه أخذ السيف من يد أحدهما فقلبه ورده إليه فضربه به المملوك وثنى عليه صاحبه واحتزا رأسه وأتيا به إلى محبس قطب الدين فرمياه بين يديه وأخرجاه فدخل على أخيه شهاب الدين وأقام بين يديه أياماً كأنه نائب له ثم عزم على خلعه فخلعه.
وخلع قطب الدين أخاه شهاب الدين وقطع إصبعه وبعث به إلى كالبور فحبس مع إخوته واستقام الملك لقطب الدين ثم أنه بعد ذلك خرج من حضرة دهلي إلى دولة أباد وهي على مسيرة أربعين يوماً. منها والطريق بينهما تكنفه الأشجار من الصفصاف وسواه فكأنّ الماشي به في بستان وفي كل ميل منه ثلاث داوات وهي البريد وقد ذكرنا ترتيبه وفي كل داوة جميع ما يحتاج المسافر إليه فكأنه يمشي في سوق مسيرة الأربعين يوماً وكذلك يتصل الطريق إلى بلاد التلنك. والمعبر مسيرة ستة أشهر. وفي كل منزلة قصر للسلطان وزاوية للوارد والصادر فلا يفتقر الفقير إلى حمل زاد في ذلك الطريق ولما خرج السلطان قطب الدين في هذه الحركة اتفق بعض الأمراء على الخلاف عليه وتولية ولد أخيه خضر خان المسجون وسنه نحو عشرة أعوام، وكان مع السلطان. فبلغ
السلطان ذلك فأخذ ابن أخيه المذكور وأمسك برجليه وضرب برأسه إلى الحجارة حتى نثر دماغه وبعث أحد الأمراء ويسمى ملك شاه إلى كالبور حيث أبو هذا الولد وأعمامه وأمره بقتلهم جميعاً. فحدثني القاضي زين الدين مبارك قاضي هذا الحصن قال قدم علينا ملك شاه ضحوة يوم وكنت عند خضر خان بمحبسه فلما سمع بقدومه خاف وتغير لونه ودخل عليه الأمير فقال له فيما جئت؟ قال في حاجة خوند عالم فقال له: نفسي سالمة. فقال: نعم. وخرج عنه واستحضر الكتوال وهو صاحب الحصن والمفردين وهم الزماميون وكانوا ثلاثمائة رجل وبعث عني وعن العدول واستظهر بأمر السلطان فقرؤه وأتوا إلى شهاب الدين المخلوع فضربوا عنقه وهو متثبت غير جزع، ثم ضربوا عنق أبي بكر خان وشادي خان، ولما أتوا ليضربوا عنق خضر خان فزع وذهل وكانت أمه معه فسدوا الباب دونها وقتلوه وسحبوهم جميعاً في حفرة بدون تكفين ولا غسل وأخرجوا بعد سنين فدفنوا بمقابر آبائهم وعاشت أم خضر خان مدة ورأيتها بمكة سنة ثمان وعشرين. وحصن كالبور هذا في رأس شاهق كأنه منحوت من الصخر لا يحاذيه جبل وبداخله جباب الماء ونحو عشرين بئراً عليها الأسوار مضافة إلى الحصن منصوباً عليها المجانيق والرعادات ويصعد إلى الحصن في طريق متسعة يصعدها الفيل والفرس وعند باب الحصن صورة فيل منحوت من الحجر وعليه صورة فيال وإذا رآه الإنسان على البعد لم يشك أنه فيل حقيقة. وأسفل الحصن مدينة حسنة مبنية كلها بالحجارة البيض المنحوتة مساجدها ودورها ولا خشب فيها ما عدا الأبواب وكذلك دار الملك بها والقباب والمجالس وأكثر سوقتها1 كفار وفيها ستمائة فارس من جيش السلطان لا يزالون في جهاد لأنها بين الكفار ولما قتل قطب الدين إخوته واستقل بالملك فلم يبق من ينازعه ولا من يخالف عليه بعث الله تعالى عليه من خاصته الحظيّ لديه أكبرَ أمرائه وأعظم منزلة عنده ناصر الدين خسروخان ففتك به وقتله، واستقل بملكه إلا أن مدته لم تطل في الملك فبعث الله عليه أيضاً من قتله بعد خلعه وهو السلطان تغلق حسبما نشرح ذلك كله مستوفي أن شاء الله تعالى أثر هذا ونسطره.
1 عوامها.
وكان خسرو خان من أكبر أمراء قطب الدين وهو شجاع حسن الصورة وكان فتح بلاد جنديري وبلاد المعبر وهي من أخصب بلاد الهند وبينهما وبين دهلي مسيرة ستة أشهر وكان قطب الدين يحبه حبّاً شديداً ويؤثره فجر ذلك حتفه على يديه، وكان لقطب الدين معلم يسمى قاضي خان صدر الجهان وهو أكبر أمرائه وكليت "كليد" دار وهو صاحب مفاتيح القصر وعادته أن يبيت كل ليلة على باب السلطان ومعه أهل النوبة وهم ألف رجل يبيتون مناوبة بين أربع ليال ويكونون صفين فيما بين أبواب القصر وسلاح كل واحد منهم بين يديه فلا يدخل أحد إلا فيما بين سماطيهم وإذا تم الليل أتى أهل النوبة بالنهار ولأهل النوبة أمراء وكتاب يتطوفون عليهم ويكتبون من غاب منهم أو حضر. وكان معلم السلطان قاضي خان يكره أفعال خسرو خان ويسوءه ما يراه من إيثاره لكفار الهنود وميله إليهم وأصله منهم. ولا يزال يلقي ذلك إلى السلطان فلا يسمع منه ويقول له دعه وما يريد لما أراد الله من قتله على يده فلما كان في بعض الأيام قال خسرو خان للسلطان أن جماعة من الهنود يريدون أن يسلموا. ومن عادتهم بتلك البلاد أن الهندي إذا أراد الإسلام أدخل إلى السلطان فيكسوه كسوة حسنة ويعطيه قلادة وأساور من ذهب على قدره. فقال له السلطان: ائتني بهم. فقال: إنهم يستحيون أن يدخلوا إليك نهاراً لأجل أقربائهم وأهل ملتهم فقال له: ائتني بهم ليلاً، فجمع خسرو خان جماعة من شجعان الهنود وكبرائهم فيهم أخوه خان خانان وذلك أوان الحر والسلطان ينام فوق سطح القصر ولا يكون عنده في ذلك الوقت إلا بعض الفتيان فلما دخلوا الأبواب الأربعة وهم شاكو في السلاح ووصلوا إلى الباب الخامس وعليه قاضي خان أنكر شأنهم وأحس بالشر فمنعهم من الدخول وقال لا بد أن أسمع من خوند عالم بنفسي الإذن في دخولهم وحينئذ يدخلون فلما منعهم من الدخول عليه هجموا عليه فقتلوه. وعلت الضجة بالباب، فقال السلطان: ما هذا؟ فقال خسرو خان: هم الهنود الذين أتوا ليسلموا، فمنعهم قاضي خان من الدخول. وزاد الضجيج فخاف السلطان وقام يريد الدخول إلى القصر وكان بابه مسدوداً والفتيان عنده فقرع الباب واحتضنه خسرو خان من خلفه وكان السلطان أقوى منه فصرعه. ودخل الهنود فقال لهم خسرو خان: هو ذا فوقي فاقتلوه، فقتلوه. وقطعوا رأسه ورموا به من سطح القصر إلى صحنه. وبعث خسروخان من حينه
إلى الأمراء والملوك وهم لا يعلمون بما اتفق فكلما دخلت طائفة وجدوه على سرير الملك فبايعوه ولما أصبح أعلن بأمره وكتب المراسم وهي الأوامر إلى جميع البلاد وبعث لكل أمير خلعة فطاعوا له جميعاً، وأذعنوا إلا تغلق شاه والد السلطان محمد شاه، وكان إذ ذاك أمير اً بدبال بور من بلاد السند فلما وصلته خلعة خسرو خان طرحها بالأرض وجلس فوقها. وبعث إليه أخاه خان خانان فهزمه، ثم آل أمره إلى أن قتله كما سنشرحه في أخبار تغلق. ولما ملك خسرو خان آثر الهنود وأظهر أموراً منكرة منها النهي عن ذبح البقر على قاعدة كفار الهنود فإنهم لا يجيزون ذبحها وجزاء من ذبحها عندهم أن يخاط في جلدها ويحرق. وهم يعظمون البقر ويشريون أبوالها للبركة وللاستشفاء إذا مرضُوا ويلطخون بيوتهم وحيطانهم بأرواثها وكان ذلك مما بغض خسرو خان إلى المسلمين وأمالهم عنه إلى تغلق فلم تطل مدة ولايته ولا امتدت أيام ملكه كما سنذكره.
أمّا السلطان غياث الدين تُغْلُق شاه "وضبط اسمه بضم التاء المعلوة وسكون الغين المعجم وضم اللام وآخره قاف" فقد حدثني الشيخ الإمام الصالح العالم العامل العابد ركن الدين بن الشيخ الصالح شمس الدين أبي عبد الله بن الولي الإمام العالم العابد بهاء الدين زكريا القرشي الملتاني بزاويته منها أن السلطان تغلق كان من الأتراك المعروفين بالقَرْوَنة "بفتح القاف والراء وسكون الواو وفتح النون"، وهم قاطنون بالجبال التي بين بلاد السند والترك. وكان ضعيف الحال فقدم بلاد السند في خدمة بعض التجار وكان كُلوانياً له، والكُلواني "بضم الكاف المعقود" هو راعي الخيل وذلك على أيام السلطان علاء الدين وأمير السند إذ ذاك أخوه أوُلُوخان "بضم الهمزة واللام" فخدمه تُغلُق وتعلق بجانبه فرتبه في البِيَاة "بكسر الباء الموحدة وفتح الياء آخر الحروف" وهم الرجالة ثم ظهرت نجابته فأثبت في الفرسان، ثم كان من الأمراء الصغار وجعله أُولُوخان أمير خيله، ثم كان بعد ذلك من الأمراء الكبار وسمي بالملك الغازي ورأيت مكتوباً على مقصورة الجامع بملتان وهو الذي أمر بعملها إني قاتلت التتر تسعاً وعشرين مرة فهزمتهم. فحينئذ سميت بالملك الغازي. ولما ولى قطب الدين ولاّه مدينة دبال بور وعمالتها "وهي بكسر الدال المهمل وفتح الباء الموحدة" وجعل ولده الذي هو الآن سلطان الهند أمير خيله وكان يسمى
جَونَه "بفتح الجيم والنون" ولما ملك تسمى بمحمد شاه. ثم لما قتل قطب الدين وولى خسروخان أبقاه على إمارة الخيل. فلما أراد تُغْلُق الخلاف كان له ثلاثمائة من أصحابه الذين يعتمد عليهم في القتال وكتب إلى كشلوخان وهو يومئذ بملتان وبينهما وبين دبال بور ثلاثة أيام يطلب منه القيام بنصرته ويذكره نعمة قطب الدين ويحرضه على طلب ثأره وكان ولد كشلوخان بدهلي فكتب إلى تُغْلُق أنه لو كان ولدي عندي لأعنتك على ما تريد فكتب تُغْلُق إلى ولده محمد شاه يعلمه بما عزم عليه ويأمره أن يفر إليه ويستصحب معه ولد كشلوخان فأدار ولده الحيلة على خسرو خان وتمت له كما أراد فقال له أن الخيل قد سمنت وتبدنت وهي تحتاج اليراق وهو التضمير فأذن له في تضميرها فكان يركب كل يوم في أصحابه فيسير بها الساعة والساعتين والثلاث واستمر إلى أربع ساعات إلى أن غاب يوماً إلى وقت الزوال وذلك وقت طعامهم فأمر السلطان بالركوب في طلبه فلم يوجد له خبر ولحق بأبيه واستصحب معه ولد كشلوخان وحينئذ أظهر تُغْلُق الخلاف وجمع العساكر وخرج معه كشلوخان في أصحابه وبعث السلطان أخاه خان خانان لقتالهما فهزماه شر هزيمة وفرّ عسكره إليهما ورجع خان خانان إلى أخيه وقتل أصحابه وأخذت خزائنه وأمواله وقصد تغلق حضرة دهلي.
وخرج إليه خسرو خان في عساكره ونزل بخارج دهلي بموضع يعرف بآصيا أباد "آسياباد" ومعنى ذلك رحى الريح، وأمر بالخزائن ففتحت وأعطى الأموال بالبدر لا بوزن ولا عد. ووقع اللقاء بينه وبين تُغْلُق وقاتلت الهنود أشد قتال وانهزمت عساكر تغلق ونهبت محلته وانفرد في أصحابه الأقدمين الثلاثمائة، فقال لهم: إلى أين الفرار حيثما أدركنا قتلنا واشتغلت عساكر خسرو خان بالنهب وتفرّقوا عنه ولم يبق معه إلا قليل فقصد تُغْلُق وأصحابه موقفه والسلطان هنالك يعرف بالشطر "جتر" الذي يرفع فوق رأسه وهو الذي يسمى بديار مصر القبة والطير ويرفع بها في الأعياد وأما بالهند والصين فلا يفارق السلطان في سفر ولا حضر فلما قصده تُغْلُق وأصحابه حمي القتال بينهم وبين الهنود وانهزم أصحاب السلطان ولم يبق معه أحد وهرب فنزل عن فرسه ورمى بثيابه وسلاحه وبقي في قميص واحد وأرسل شعره بين كتفيه كما يفعل
فقراء الهند ودخل بستاناً هنالك واجتمع الناس على تُغْلُق وقصد المدينة فأتاه الكتوال بالمفاتيح ودخل القصر ونزل بناحية منه، وقال لكشلوخان: أنت تكون السلطان، فقال كشلو خان: بل أنت تكون السلطان وتنازعاَ، فقال له كشلوخان: فإن أبيت أن تكون سلطانا فيتولى ولدك، فكره هذا، وقبل حينئذ، وقعد على سرير الملك وبايعه الخاص والعام، ولما كان بعد ثلاث اشتد الجوع بخسرو خان وهو مختف بالبستان فخرج وطاف به فوجد القيم فسأله طعاماً فلم يكن عنده فأعطاه خاتمه وقال: اذهب فارهنه في طعام فلما ذهب بالخاتم إلى السوق أنكر الناس أمره ورفعوه إلى الشحنة وهو الحاكم فأدخله على السلطان تُغْلُق فأعلمه بمن دفع إليه الخاتم فبعث ولده محمداً ليأتي به فقبض عليه وأتاه به راكباً على تتوه وهو البرذون فلما مثل بين يديه قال له إني جائع فأتني بطعام فأمر له بالشربة ثم بالطعام ثم بالفقاع ثم بالتنبول فلما أكل قام قائماً وقال: يا تُغْلُق افعل معي فعل الملوك ولا تفضحني، فقال له لك ذلك وأمر به فضربت رقبته وذلك في الموضع الذي قتل هو به قطب الدين ورمي برأسه وجسده من أعلى السطح كما فعل هو برأس قطب الدين وبعد ذلك أمر بغسله وتكفينه ودفن في مقبرته. واستقام الملك لِتغلق أربعة أعوام وكان عادلاً فاضلاً.
ولما استقر تغلق بدار الملك بعث ولده محمداً ليفتح بلاد التَّلِنْك "وضبطها بكسر التاء المعلوة واللام وسكون النون وكاف معقودة" وهي على مسيرة ثلاثة أشهر من مدينة دهلي وبعث معه عسكراً عظيماً فيه كبار الأمراء مثل الملك تمور "بفتح التاء المعلوة وضم الميم وآخره راء" ومثل الملك تِكين "بكسر التاء المعلوة والكاف وآخره نون" ومثل ملك كافور المُهردار "بضم الميم" ومثل ملك بَبْرم "بالباء الموحدة مفتوحة والياء آخر الحروف والراء مفتوحة" وسواهم. فلما بلغ إلى أرض التلنك أراد المخالفة وكان له نديم من الفقهاء الشعراء يعرف بعبيد فأمره أن يلقى إلى الناس أن السلطان تُغلق توفي وظنه أن الناس يبايعونه مسرعين إذا سمعوا ذلك فلما ألقى ذلك إلى الناس أنكره الأمراء وضرب كل واحد منهم طبلة وخالف، فلم يبق معه أحد وأرادوا قتله فمنعهم منه ملك تمور وقام دونه، ففر إلى أبيه في عشرة من الفرسان سماهم ياران موافق ومعناه الأصحاب الموافقون فأعطاه أبوه الأموال والعساكر وأمره بالعود
إلى تلنك فعاد إليها. وعلم أبوه بما كان أراد. فقتل الفقيه عبيداً، وأمر بملك كافور المهردار فدق له عمود في الأرض محدود الطرف وركز في عنقه حتى خرج من جنبه طرفه ورأسه إلى أسفل. وترك على تلك الحال. وفر من بقي من الأمراء إلى السلطان شمس الدين بن السلطان ناصر الدين بن السلطان غياث الدين بلبن واستقروا عنده.
وأقام الأمراء الهاربون عند السلطان شمس الدين ثم أن شمس الدين توفي وعهد لولده شهاب الدين فجلس مجلس أبيه ثم غلب عليه أخوه الأصغر غياث الدين بهادر بورة ومعناه بالهندية الأسود واستولى على الملك وقتل أخاه قطلو خان وسائر إخوته وفر شهاب الدين وناصر الدين منهم إلى تُغلُق فتجهّز معهما بنفسه لقتال أخيهما وخلف ولده محمداً نائباً عنه في ملكه وجد السير إلى بلاد اللكنوتي فتغلّب عليها وأسر سلطانها غياث الدين بهادور وقدم به أسيرا إلى حاضرة ملكه. وكان بمدينة دهلي الولي نظام الدين البذواني ولا يزال محمد شاه ابن السلطان يتردد إليه ويعظم خدامه ويسأله الدعاء وكان يأخذ الشسخ حال تغلب عليه فقال ابن السلطان لخدامه إذا كان الشيخ في حاله التي تغلب عليه فأعلموني بذلك. فلما أخذته الحال أعلموه فدخل عليه فلما رآه الشيخ قال وهبنا له الملك. ثم توفي الشيخ في أيام غيبة السلطان فحمل ابنه محمد نعشه على كاهله فبلغ ذلك أباه فأنكره وتوعده وكان قد رابته منه أمور ونقم عليه استكثاره من شراء المماليك وإجزاله العطايا واستجلابه قلوب الناس فزاد حنقه عليه، وبلغه أن المنجمين زعموا أنه لا يدخل مدينة دهلي بعد سفره ذلك فتوعده. ولما عاد من سفره وقرب من الحضرة أمر ولده أن يبني له قصراً وهم يسمونه الكُشك "بضم الكاف وشين معجم مسكن" على واد هنالك يسمى أفغان بور، فبناه في ثلاثة أيام وجعل أكثر بنائه بالخشب مرتفعاً على الأرض قائماً على سواري خشب وأحكمه بهندسة تولى النظر فيها الملك زاده المعروف بعد ذلك بخواجة جهان واسمه أحمد بن إياس كبير وزراء السلطان محمد وكان إذ ذاك شحنة العمارة وكانت الحكمة التي اخترعوها فيه أنه متى وطئت الفيلة جهة منه وقع ذلك القصر وسقط. ونزل السلطان بالقصر وأطعم الناس وتفرقوا واستأذنه ولده في أن يعرض الفيلة بين يديه وهي مزينة فأذن له، وحدثني الشيخ ركن الدين أنه كان يومئذ مع السلطان
ومعهما ولد السلطان المؤثر لديه محمود فجاء محمد بن السلطان فقال للشيخ: يا خوند هذا وقت العصر، انزل فصل قال لي الشيخ فنزلت وأتي بالأفيال من جهة واحدة حسبما دبروه فلما وطئتها سقط الكشك على السلطان وولده محمود قال الشيخ فسمعت الضجة فعدت ولم أصل فوجدت الكُشْك قد سقط فأمر ابنه أن يؤتى بالفئوس والمساحي للحفر عنه وأشار بالإبطاء فلم يؤت بهما إلا وقد غربت الشمس فحفروا ووجدوا السلطان قد حنا ظهره على ولده ليقيه الموت فزعم بعضهم أنه أخرج ميتاً، وزعم بعضهم أنه أخرج حياً أجهز عليه وحمل ليلاً إلى مقبرته التي يناها بخارج البلدة المسماة باسمه تغلق أباد فدفن بها. وقد ذكرنا السبب في بنائه لهذه المدينة وبها كانت خزائن تغلق وقصوره وبها القصر الأعظم الذي جعل قراميده مذهبة فإذا طلعت الشمس كان لها نور عظيم وبصيص يمنع البصر من إدامة النظر إليها واختزن بها الأموال الكثيرة ويذكر أنه بنى صهريجاً وأفرغ فيه الذهب إفراغاً فكان قطعة واحدة فصرف جميع ذلك ولده محمد شاه لما ولي وبسبب ما ذكرناه من هندسة الوزير خواجة جهان في بناء الكشك الذي سقط على تغلق كانت حظوته عند ولده محمد شاه وإيثاره لديه فلم يكن أحد يدانيه في المنزلة لديه ولا يبلغ مرتبته عنده من الوزراء ولا غيرهم.
ولما مات السلطان تغلق استولى ابنه محمد على الملك من غير منازع له ولا مخالف عليه. وقد قدمنا أنه كان اسمه جونه. فلما ملك تسمى بمحمد واكتنى بأبي المجاهد وكل ما ذكرت من شأن سلاطين الهند فهو مما أخبرت به وتلقيته أو معظمه من الشيخ كمال الدين بن البرهان الغزنوي قاضي القضاة. وأما اخبار هذا الملك فمعظمها مما شاهدته أيام كوني ببلاده.
وكان هذا الملك أحب الناس في إسداء العطايا وإراقة الدماء. فلا يخلو بابه عن فقير يغنى أو حي يقتل. وقد شُهرت في الناس حكاياته في الكرم والشجاعة وحكاياته في الفتك والبطش بذوي الجنايات وهو أشد الناس مع ذلك تواضعاً وأكثرهم إظهارا للعدل والحق وشعائر الدين عنده محفوظة وله اشتداد في أمر الصلاة والعقوبة على تركها وهو من الملوك الذين اطردت سعادتهم وخرق المعتاد يمن نقيبتهم. ولكن الأغلب عليه الكرم. وسنذكر من أخباره فيه عجائب لم يسمع بمثلها عمن تقدمه. وأنا أشهد بالله وملائكته
ورسله أن جميع ما أنقله عنه من الكرم الخارق للعادة حق يقين وكفى بالله شهيداً، وأعلم أن بعض مآثره من ذلك لا يسع في عقل كثير من الناس ويعدونه من قبيل المستحيل عادة ولكن شيئاً عاينته وعرفت صحته وأخذت بحظ وافر منه لا يسعني إلا قول الحق فيه وأكثر ذلك ثابت بالتواتر في بلاد المشرق.
ودار السلطان بدهلي تسمى دار سَرَى "بفتح السين المهمل والراء"، ولها أبواب كثيرة. أما الباب الأول فعليه جملة من الرجال موكلون به ويقعد به أهل الأنفار والأبواق والصرنايات فإذا جاء أمير أو كبير ضربوها ويقولون في ضربهم جاء فلان جاء فلان وكذلك أيضا في البابين الثاني والثالث وبخارج الباب الأول دكاكين يقعد عليها الجلاّدون وهم الذي يقتلون الناس فإنّ العادة عندهم أنه متى أمر السلطان بقتل أحد قتل على باب المشور ويبقى هناك ثلاثاً. وبين البابين الأول والثاني دهليز كبير فيه دكاكين مبنية من جهتيه يقعد عليها أهل النوبة من حفاظ الأبواب. وأما الباب الثاني فيقعد عليه البوابون الموكلين به. وبينه وبين الباب الثالث دكانة كبيرة يقعد عليها نقيب النقباء وبين يديه عمود ذهب يمسكه بيده وعلى رأسه كلاه من الذهب مجوهرة في أعلاها ريش الطواويس والنقباء بين يديه وعلى رأس كل واحد منهم شاشية مذهبة وفي وسطه منطقة وبيده سوط نصابه من ذهب أو فضة ويفضي هذا الباب الثاني إلى مشرو كبير متسع يقعد به الناس. وأما الباب الثالث فعليه دكاكين يقعد فيها كتاب الباب. ومن عوائدهم أن لا يدخل على هذا الباب أحد إلاّ من عينه السلطان لذلك ويعيّن لكل إنسان عداداً من أصحابه. وناسه يدخلون معه وكل من يأتي إلى هذا الباب يكتب الكتاب أن فلاناً جاء في الساعة الأولى أو الثانية أو ما بعدها من الساعات إلى آخر النهار، ويطالع السلطان بذلك بعد العشاء الآخرة ويكتبون أيضاً بكل ما يحدث بالباب من الأمور، وقد عين من أبناء الملوك من يوصل كل ما يكتبونه إلى السطان. ومن عوائدهم أيضاً أنه من غاب عن دار السلطان ثلاثة أيام فصاعداً لعذر أو لغير عذر فلا يدخل هذا الباب بعدها إلا بإذن من السلطان فإن كان له عذر من مرض أو غيره قدم بين يديه هدية مما يناسبه إهداءها إلى السلطان وكذلك أيضا القادمون من الأسفار فالفقيه يهدي المصحف والكتاب وشبه الفقير يهدي المصلى والسبحة والمسواك ونحوها. والأمراء ومن أشبههم يهدون الخيل والجمال والسلاح وهذا الباب الثالث يفضي إلى المشور
الهائل الفسيح الساحة المسمى هَزَار أسطون "بفتح الهاء والزاي وألف وراء" ومعنى ذلك ألف سارية، وهي سواري من خشب مدهونة عليها سقف خشب منقوشة أبدع نقش يجلس الناس تحتها. وبهذا المشور يجلس السطان الجلوس العام.
وكان أكثر جلوسه بعد العصر، وربما جلس أول النهار وجلوسه على مصطبة مفروشة بالبياض فوقها مرتبة ويجعل خلف ظهره مخدة كبيرة وعن يمينه متكأ وعن يساه مثل ذلك وقعوده كجلوس الإنسان للتشهد في الصلاة وهو جلوس أهل الهند كلهم. فإذا جلس وقف أمامه الوزير ووقف الكتاب خلف الوزير وخلفهم الحجاب، وكبير الحجاب هو فيروز ملك ابن عم السلطان ونائبه، وهو أدنى الحجاب من السلطان ثم يتلوه نائب خاص حاجب ووكيل الدار ونائبه وشرف الحجاب وسيد الحجاب وجماعة تحت أيديهم، ثم يتلو الحجاب النقباء وهم نحو مائة. وعند جلوس السطان ينادي الحجاب والنقباء بأعلى أصواتهم: بسم الله. ثم يقف على رأس السلطان الملك الكبير قبولة وبيده المذبة يشرد بها الذباب، ويقف مائة من السلحدارية عن يمين السلطان ومثلهم عن يساره بأيديهم الدرق والسيوف والقسي ويقف في الميمنة والميسرة بطول المشور قاضي القضاة ويليه خطيب الخطباء ثم سائر القضاة ثم كبار الفقهاء ثم كبار الشرفاء ثم المشايخ ثم إخوة السلطان وأصهاره ثم الأمراء الكبار ثم الكبار الأعزة وهم الغرباء ثم القواد ثم يؤتى بستين فرساً مسرجة ملجمة بجهازات سلطانية فمنها ما هو بشعار الخلافة وهي التي لجمها ودوائرها من الحرير الأسود المذهب، ومنها ما يكون ذلك من الحرير الأبيض المذهب ولا يركب بذلك غير السلطان فيوقف النصف من هذه الخيل عن اليمين والنصف عن الشمال بحيث يراها السلطان ثم يؤتى بخمسين فيلاً مزيّنة بثياب الحرير والذهب مكسوة أنيابها بالحديد إعداداً لقتل أهل الجرائم وعلى عنق كل فيل فياله وبيده شبه الطبرزين من الحديد يؤدبه به ويقومه لما يراد منه وعلى ظهر كل فيل شبه الصندوق العظيم يسع عشرين من المقاتلة وأكثر من ذلك ودونه على حسب ضخامة الفيل وعظم جرمه ويكون في أركان ذلك الصندوق أربعة أعلام مركوزة وتلك الفيلة معلّمة أن تخدم السلطان وتحط رؤوسها، فإذا خدمت قال الحجاب: بسم الله بأصوات عالية. ويوقف أيضا نصفها عن اليمين ونصفها عن الشمال خلف الرجال الواقفين، وكل من يأتي من الناس المعينين
للوقوف في الميمنة أو الميسرة يخدم عند موقف الحجاب، ويقول الحجاب: بسم الله. ويكون ارتفاع أصواتهم بقدر ارتفاع صوت الذي يخدم فإذا خدم انصرف إلى موقفه من الميمنة أو الميسرة لا يتعداه أبداً. ومن كان من كفار الهنود يخدم ويقول له الحجاب والنقباء: هداك الله. ويقف عبيد السلطان من وراء الناس كلهم بأيديهم الترسة والسيوف، فلا يمكن الدخول بينهم إلا بين يدي الحجاب القائمين بين يدي السلطان.
وإن كان بالباب أحد ممن قدم على السلطان بهدية دخل الحجاب إلى السلطان على ترتيبهم يقدمهم أمير حاجب ونائبه خلفه ثم خاص حاجب ونائبه خلفه ثم وكيل الدار ونائبه خلفه ثم سيد الحجاب وشرف الحجاب ويخدمون في ثلاثة مواضع ويعلمون السلطان بمن في الباب فإذا أمرهم أن يأتوا به جعلوا الهدية التي ساقها بأيدي الرجال يقومون بها أمام الناس بحيث يراها السلطان ويستدعي صاحبها فيخدم قبل الوصول إليه ثلاث مرات ثم يخدم عند موقف الحجاب فإن كان رجلاً كبيراً وقف في صف أمير حاجب وإلا وقف خلفه ويخاطبه السلطان بنفسه ألطف خطاب ويرحب به، وإن كان ممن يستحق التعظيم فإنه يصافحه أو يعانقه ويطلب بعض هديته فتحضر بين يديه فإن كانت من السلاح أو الثياب قلبها بيده، وأظهر استحسانها جبراً لخاطر مهديها وإيناساً له ورفقا به وخلع عليه وأمر له بماء لغسل رأسه، على عادتهم في ذلك بمقدار ما يستحقه المهدي.
وإذا أتى العمال بالهدايا والأموال المجتمعة من مجابي البلاد صنعوا الأواني من الذهب والفضة مثل الطسوت والأباريق وسواها وصنعوا من الذهب والفضة قطعاً شبه الآجر يسمونها الخِشْت "بكسر الخاء المعجمة وسكون الشين المعجم وتاء معلوة"، ويقف الفراشون وهم عبيد السلطان صفاً والهدية بأيديهم كل واحد منهم ممسك قطعة ثم يقدم الفيلة أن كان في الهدية شيء منها ثم الخيل المسرجة الملجمة ثم البغال ثم الجمال عليها الأموال ولقد رأيت الوزير خواجه جهان قدم هديته ذات يوم حين قدم السلطان من دولة أباد ولقيه بها في ظاهر مدينة بيانة فأدخلت الهدية إليه على هذا الترتيب، ورأيت في جملتها صينية مملوءة بأحجار الياقوت وصينية مملوءة بأحجار الزمرد وصينية مملوءة باللؤلؤ الفاخر. وكان حاجي كاون ابن عم السلطان أبي سيعد ملك العراق حاضراً عنده حين
ذلك فأعطاه حظاً منها. وسنذكر ذلك فيما بعد أن شاء الله تعالى.
وإذا كانت ليلة العيد بعث السلطان إلى الملوك والخواص وأرباب الدولة والأعزة والكتاب والحجاب والنقباء والقواد والعبيد وأهل الاخبار الخلع التي تعمهم جميعاً. فإذا كانت صبيحة العيد زينت الفيلة كلها بالحرير والذهب والجواهر، ويكون منها ستة عشر فيلاً لا يركبها أحد، إنما هي مختصة بركوب السلطان ويرفع عليها ستة عشر شطراً "جترا" من الحرير مرصعة بالجوهر قائمة كل شطر منها ذهب خالص وعلى كل فيل مرتبة حرير مرصعة بالجواهر ويركب السلطان فيلاً منها وترفع أمامه الغاشية وهي ستارة سرجة وتكون مرصعة بأنفس الجواهر ويمشي بين يديه عبيده ومماليكه وكل واحد منهم تكون على رأسه شاشية ذهب وعلى وسطه منطقة ذهب وبعضهم يرصعها بالجوهر ويمشي بين يديه أيضا النقباء وهم نحو ثلاثمائة وعلى رأس كل واحد منهم أقروف ذهب وعلى وسطه منطقة ذهب وفي يده مقرعة نصابها ذهب ويركب قاضي القضاة صدر الجهان كمال الدين الغزنوي وقاضي القضاة صدر الجهان ناصر الدين الخوارزمي وسائر القضاة وكبار الأعزة من الخراسانيين والعراقيين والشاميين والمصريين والمغاربة كل واحد منهم على فيلٍ وجميع الغرباء عندهم يسمون الخراسانيين، ويركب المؤذنون على الفيلة وهم يكبرون ويخرج السلطان من باب القصر على هذا الترتيب والعساكر تنتظره كل أمير بفوجه على حدة معه طبوله وأعلامه فيقدم السلطان وأمامه من ذكرناه من المشاة وأمامهم القضاة والمؤذنون يذكرون الله تعالى وخلف السلطان مراتبه وهي الأعلام والطبول والأبواق والأنفار والصرنايات وخلفهم جميع أهل دخلته، ثم يتلوهم أخو السلطان مبارك خان بمراتبه وعساكره، ثم يليه ابن أخ السلطان بهرام خان بمراتبه وعساكره، ثم يليه ابن عمه ملك فيروز بمراتبه وعساكره، ثم يليه الوزير بمراتبه وعساكره ثم يليه الملك مجير بن ذي الرجا بمراتبه وعساكره، ثم يليه الملك الكبير قُبُولة بمراتبه وعساكره، وهذا الملك كبير القدر عنده عظيم الجاه كثير المال. أخبرني صاحب ديوانه ثقة الملك علاء الدين على المصري المعروف بابن الشرابشي أن نفقته ونفقه عبيده ومرتباتهم ستة وثلاثون لكّاً في السنة، ثم يليه الملك نكبية بمراتبه وعساكره، ثم يليه الملك بغرة بمراتبه وعساكره، ثم يليه الملك مخلص بمراتبه وعساكره، وهؤلاء هم الأمراء الكبار
الذين لا يفارقون السلطان وهم الذين يركبون معه يوم العيد بالمراتب ويركب غيرهم من الأمراء دون مراتبه وجميع من يركب في ذلك اليوم يكون مدرّعاً هو وفرسه، وأكثرهم مماليك السلطان، فإذا وصل السطان إلى باب المصلى وقف على بابه وأمر بدخول القضاة وكبار الأمراء وكبار الأعزة ن ثم ينزل السلطان ويصلي الإمام ويخطب. فإن كان عيد الأضحى أتى السلطان بجمل فنحره برمح يسمونه النيزة "بكسر النون وفتح الزاي" بعد أن يجعل على ثيابه فوطة توقياً من الدم، ثم يركب الفيل ويعود إلى قصره.
ويفرش القصر يوم العيد، ويزيّن بأبدع الزينة وتضرب الباركة على المشور كله وهي شبه خيمة عظيمة تقوم على أعمدة ضخام كثيرة وتحفها القباب من كل ناحية ويصنع أشجار من حرير ملوّن فيها شبه الأزهار ويجعل منها ثلاثة صفوف بالمشور ويجعل بين كل شجرتين كرسي ذهب عليه مرتبة مغطاة وينصب السرير الأعظم في صدر المشور وهو من الذهب الخالص كله مرصع القوائم بالجواهر وطوله ثلاثة وعشرون شبراً وعرضه نحو النصف من ذلك وهو منفصل وتجمع قطعة فتتصل وكل قطعة منه يحملها جملة رجال لثقل الذهب وتجعل فوقه المرتبة ويرفع الشطر المرصع بالجواهر على رأس السلطان. وعندما يصعد على السرير ينادي الحجاب والنقباء بأصوات عالية: بسم الله، ثم يتقدم الناس للسلام فأولهم القضاة والخطباء والعلماء والشرفاء والمشايخ وإخوة السلطان وأقاربه وأصهاره ثم الأعزة ثم الوزير ثم أمراء العساكر ثم شيوخ المماليك ثم كبار الأجناد يسلم واحداً إثر واحدٌ من غير تزاحم ولا تدافع ومن عوائدهم في يوم العيد أن كلّ من بيده قربة منعم بها عليه يأتي بدنانير ذهب مصرورة في خرقة مكتوب عليها اسمه فيلقيها في طست ذهب هنالك فيجتمع منها مال عظيم يعطيه السلطان لمن شاء.
فإذا فرغ الناس من السلام، وضع لهم الطعام على حسب مراتبهم، وينصب في ذلك اليوم المبخرة العظمى وهي شبه برج من خالص الذهب منفصلة فإذا أرادوا اتصالها وصلوها وتحمل القطعة الواحدة منها جملة من الرجال. وفي داخلها ثلاثة بيوت يدخل فيها المبخرون يوقدون العود القماري والقاقلي والعنبر والأشهب والجاوي، حتى يعم دخانها المشور كله ويكون بأيدي الفتيان براميل الذهب والفضة مملوءة بماء الورد وماء الزهر يصبونه على الناس
صبّاً. وهذا السرير وهذه المبخرة لا يخرجان إلا في العيدين خاصة ويجلس السلطان في بقية أيام العيد على سرير ذهب دون ذلك وتنصب باركة بيده لها ثلاثة أبواب يجلس السلطان في داخلها ويقف على الباب الأول منها عماد الملك سرتيز، وعلى الباب الثاني الملك نكبية، وعلى الباب الثالث يوسف بغرة، ويقف عن اليمين أمراء المماليك السلحدارية، وعن اليسار كذلك. ويقف الناس على مراتبهم وشحنة الباركة ملك طغى بيده عصا ذهب وبيد نائبه عصا فضة يرتبان الناس ويسويان الصفوف، ويقف الوزير والكتاب خلفه ويقف الحجاب والنقباء ثم يأتي أهل الطرب، فأولهم بنات الملوك الكفار من الهنود المسبيات في تلك السنة فيغنين ويرقصن ويهبهن السلطان للأمراء والأعزة، ثم يأتي بعدهن سائر بنات الكفار فيغنين ويهبهن لإخوته وأقاربه وأصهاره وأبناء الملوك، ويكون جلوس السلطان لذلك بعد العصر. ثم يجلس في اليوم الذي بعده بعد العصر أيضاً على ذلك الترتيب، ويؤتى بالمغنيات فيغنين ويرقصن ويهبهن لأمراء المماليك. وفي اليوم الثالث يزوج أقاربه وينعم عليهم. وفي اليوم الرابع يعتق العبيد. وفي اليوم الخامس يعتق الجواري. وفي اليوم السادس يزوج العبيد بالجواري، وفي اليوم السابع يعطي الصدقات ويكثر منها.
وإذا قدم السلطان من أسفاره، زينت الفيلة، ورفعت على ستة عشر فيلاً منها ستة عشر شطراً، منها مزركش ومنها مرصع وحلت أمامه الغاشية وهي الستارة المرصعة بالجوهر النفيس وتصنع قباب من الخشب مقسومة على طبقات وتكسى بثياب الحرير، ويكون في كل طبقة الجواري المغنيات عليهن أجمل لباس وأحسن حلية ومنهن رواقص ويحصل في وسط كل قبة حوض كبير مصنوع من الجلود مملوء بماء الجلاب محلولاً بالماء يشرب منه جميع الناس من وارد وصادر وبلدي أو غريب، وكل من يشرب منه يعطى التنبول والفوفل، ويكون ما بين القباب مفروشاً بثياب الحرير يطأ عليها مركب السلطان وتزين حيطان الشارع الذي يمر به من باب المدينة إلى باب القصر بثياب الحرير ويمشي أمامه المشاة من عبيده وهم آلاف وتكون الأفواج والعساكر خلفه ورأيت في بعض قدماته على الحضرة وقد نصبت ثلاث أو أربع من الرعادات الصغار على الفيلة ترمي بالدنانير والدراهم على الناس فيلتقطونها من حين دخوله إلى المدينة حتى وصل إلى قصره.
والطعام بدار السلطان على صنفين: طعام الخاص وطعام العام. فأما الخاص فهو طعام السلطان الذي يأكل منه وعادته أن يأكل في مجلسه مع الحاضرين ويحضر لذلك الأمراء الخواص وأمير حاجب ابن عم السلطان وعماد الملك سرتيز وأمير مجلس ومن شاء السلطان تشريفه أو تكريمه من الأعزة أو كبار الأمراء دعاه فأكل معهم، وربما أراد أيضا تشريف أحد من الحاضرين فأخذ إحدى الصحاف بيده وجعل عليها خبزه ويعطيه إياها فيأخذها المعطى ويجعلها على كفه اليسرى ويخدم بيده اليمنى إلى الأرض وربما بعث من ذلك الطعام إلى من هو غائب عن المجلس فيخدم كما يصنع الحاضرين ويأكله مع من حضره وقد حضرت مرات لهذا الطعام الخاص فرأيت جملة الذين يحضرون له نحو عشرين رجلاً.
وأما الطعام العام فيؤتى به من المطبخ وأمامه النقباء يصيحون: بسم الله. ونقيب النقباء أمامهم بيده عمود ذهب ونائبه معه بيده عمود فضة فإذا دخلوا من الباب الرابع وسمع من بالمشور أصواتهم قاموا قياماً أجمعين ولا يبقى أحد قاعداً إلا السلطان وحده، فإذا وضع الطعام بالأرض اصطف النقباء صفا ووقف أمير هم أمامهم وتكلم بكلام يمدح فيه السلطان ويثني عليه ثم يخدم ويخدم النقباء لخدمته ويخدم جميع من بالمشور من كبير وصغير. وعادتهم أنه من سمع كلام نقيب النقباء حين ذلك وقف أن كان ماشياً ولزم موقفه أن كان واقفاً ولا يتحرك أحدٌ ولا يتزحزح عن مقامه حتى يفرغ ذلك الكلام ثم يتكلم أيضا نائبه كلاماً نحو ذلك ويخدم ويخدم النقباء وجميع الناس مرة ثانية. وحينئذ يجلسون ويكتب كتاب الباب معرفين بحضور الطعام وإن كان السلطان قد علم بحضوره ويعطى المكتوب لصبي من أبناء الملوك موكّل بذلك فيأتي به إلى السلطان فإذا قرأه عيّن من شاء من كبار الأمراء لترتيب الناس وإطعامهم. وطعامهم الرقاق والشواء والأقراص ذات الجوانب المملوءة بالحلواء والأرز والدجاج والسموسك وقد ذكرنا ذلك وفسرنا ترتيبه. وعادتهم أن يكون في صدر سماط الطعام القضاة والخطباء والقضاة والشرفاء والمشايخ ثم أقارب السلطان ثم الأمراء الكبار ثم سائر الناس ولا يقعد أحد إلا في موضع معين له فلا يكون بينهم تزاحم البتة. فإذا جلسوا أتى الشربدارية وهم السقاة وبأيديهم أواني الذهب والفضة والنحاس والزجاج مملوءة بالنبات المحلول بالماء، فيشربون
ذلك قبل الطعام. فإذا شربوا، قال الحجاب: بسم الله، ثم يشرعون في الأكل ويجعل أمام كل إنسان من جميع ما يحتوي عليه السماط يأكل منه وحده ولا يأكل أحد مع أحد في صفحة واحدة فإذا فرغوا من الأكل أتوا بالفقاع في أكواز القصدير فإذا أخذوه قال الحجاب: بسم الله. ثم يؤتى بأطباق التنبول والفوفل فيعطى كل إنسان غرفة من الفوفل المهشوم وخمس عشرة ورقة من التنبول مجموعة مربوطة بخيط حرير أحمر فإذا أخذ الناس التنبول قال الحجاب: بسم الله فيقومون جميعاً ويخدم الأمير المعين للإطعام ويخدمون لخدمته ثم ينصرفون وطعامهم مرتان في اليوم الواحد أحداهما قبل الظهر، والأخرى بعد العصر.
وأذكر من أخباره أهم ما حضرته وشاهدته وعاينته، ويعلم الله تعالى صدق ما أقول، وكفى به شهيداً. مع أن الذي أحكيه مستفيض متواتر والبلاد التي تقرب من أرض الهند كاليمن وخراسان وفارس مملوءة بأخباره يعلمونها حقيقةً ولاسيما جوده على الغرباء فإنه يفضلهم على أهل الهند ويؤثرهم ويجزل لهم الاحسان ويسبغ عليهم الإنعام ويوليهم الخطط الرفيعة ويوليهم المواهب العظيمة ومن إحسانه إليهم أن سماهم الأعزة ومنع أن يدعوا الغرباء. وقال أن الإنسان إذا دعي غريباً انكسر خاطره وتغير حاله. وسأذكر بعضاً مما لا يحصى من عطاياه الجزيلة ومواهبه أن شاء الله تعالى.
وكان شهاب الدين صديقاً لملك التجار الكازروني الملقب ببرويز. وكان السلطان قد أقطع ملك التجار مدينة كنباية ووعده أن يوليه الوزارة فبعث إلى صديقه شهاب الدين ليقدم عليه فأتاه وأعد هدية للسلطان وهي سراجة من الملف المقطوع المزين بورقة الذهب وصيوان مما يناسبها وخباء وتابع وخباء راحة كل ذلك من الملف المزين وبغال كثيرة فلما قدم شهاب الدين بهذه الهدية على صاحبه ملك التجار وجده آخذاً في القدوم على الحضرة بما اجتمع عنده من مجابي بلاده وبهدية للسلطان.
وعلم الوزير خواجة جهان بما وعده به السلطان من ولاية الوزارة، فغار من ذلك وقلق بسببه. وكانت بلاد كنباية والجزرات قبل تلك المدة في ولاية الوزير ولأهلها تعلق بجانبه وانقطاع إليه وتخدم له وأكثرهم كفار وبعضهم عصاة يمتنعون بالجبال. فدس الوزير إليهم أن يضربوا على ملك التجار إذا خرج
إلى الحضرة.
فلما خرج بالخزائن والأموال ومعه شهاب الدين بهديته نزلوا يوماً عند الضحى على عادتهم وتفرقت العساكر ونام أكثرهم، فضرب عليهم الكفار في جمع عظيم فقلتوا ملك التجار وسلبوا الأموال والخزائن وهدية شهاب الدين ونجا هو بنفسه، وكتب المخبرون إلى السلطان بذلك، فأمر أن يعطى شهاب الدين من مجبى بلاد نهروالة ثلاثين ألف دينار ويعود إلى بلاده. فعرض عليه ذلك فأبى من قبوله وقال: ما قصدي إلا رؤية السلطان وتقبيل الأرض بين يديه، فكتبوا إلى السلطان بذلك فأعجبه قوله وأمر بوصوله إلى الحضرة مكرماً وصادف يوم دخوله على السلطان يوم دخولنا نحن عليه فخلع علينا جميعاً وأمر بإنزالنا وأعطى شهاب الدين عطاءً جزلاً. فلما كان بعد ذلك أمر لي السلطان بستة آلاف تنكة كما سنذكر. وسأل في ذلك اليوم عن شهاب الدين أين هو؟ فقال له بهاء الدين بن الفلكي يا خوند عالم نميدا ثم، معناه ما ندري، ثم قال شنيدم زحمت دارد "دار" معناه سمعت أن به مرضاً. فقال له السلطان بروهمين زمان در خزانه يدل لك تنكه زربكزي أوبير تادل أوخش "خوض" شود، معناه اِمش الساعة إلى الخزانة وخذ منها مائة ألف تنكة من الذهب وأحملها إليه حتى يبقى خاطره طيباً ففعل ذلك، فأعطاه إياها وأمر السلطان أن يشتري بها ما أحب من السلع الهندية ولا يشتري أحدٌ من الناس شيئاً حتى يتجهز هو وأمر له بثلاثة مراكب مجهزة من آلاتها ومن مرتب البحرية وزادهم ليسافر فيها. فسافر ونزل بجزيرة هرمز وبنى بها داراً عظيمة رأيتها بعد ذلك ورأيت أيضاً شهاب الدين وقد فنى جميع ما كان عنده وهو بشيراز يستجدي سلطانها أبا اسحاق، وهكذا مال هذه البلاد الهندية قلما يخرج أحد به منها إلاّ النادر، وإذا خرج به ووصل إلى غيرها من البلاد بعث الله عليه آفة تفني ما بيده كمثل ما اتفق لشهاب الدين هذا فإنه أخذ له في الفتنة التي كانت بين ملك هرمز وابني أخيه جميع ما عنده وخرج سليبا من ماله.
وكان السلطان قد بعث هدية إلى الخليفة بديار مصر أبي العباس وطلب له أن يبعث له أمر التقدمة على بلاد الهند والسند اعتقاداً منه في الخلافة فبعث إليه الخليفة أبو العباس ما طلبه مع شيخ الشيوخ بديار مصر ركن الدين فلما قدم عليه بالغ في إكرامه وأعطاه عطاء جزلاً. وكان يقوم له متى دخل عليه
ويعظمه، ثم صرفه وأعطاه أموالاً طائلة، وفي جملة ما أعطاه جملة من صفائح الخيل ومسأمير ها كل ذلك من الذهب الخالص، وقال له: إذا نزلت من البحر فأنعل أفراسك بها. فتوجه إلى كنباية ليركب البحر منها إلى بلاد اليمن. فوقعت قضية خروج القاضي جلال الدين وأخذه مال ابن الكولمي فأخذ أيضاً ما كان لشخ الشيوخ وفر بنفسه مع ابن الكولمي إلى السلطان وفلما رآه قال له ممازحاً: أمدي كزر "كه زر" بري بادكري "دلر باي" صنم خرى زر نيري وسر نهى، معناه جئت لتحمل الذهب تأكله مع الصور الحسان. فلا تحمل ذهباً ورأسك تخليه ها هنا. قال له ذلك على معنى الانبساط ثم قال له اجمع خاطرك فها أنا سائر إلى المخالفين وأعطيك أضعاف ما أخذوه لك. وبلغني بعد انفاصلي عن بلاد الهند أنه وفى بما وعده وأخلف له جميع ما ضاع منه وأنه وصل بذلك إلى ديار مصر.
ولما قدم الفقيه الواعظ الترمذي ناصر الدين على السلطان، وأقام تحت إحسانه مدة عام ثم أحب الرجوع إلى وطنه فأذن له في ذلك ولم يكن سمع كلامه ووعظه. ولما خرج السلطان يقصد بلاد المعبر أحب سماعه قبل انصرافه فأمر أن يهيأ له منبر من الصندل الأبيض المقاصري وجعلت مسأمير هـ وصفائحه من الذهب وألصق باعلاه حجر ياقوت عظيم وخلع على ناصر الدين خلة عباسية سوداء مذهبة ومرصعة بالجوهر وعمامة مثلها ونصب لها المنبر بداخل السراجة وهي أفراج وقعد السلطان على سريره والخواص عن يمينه ويساره وأخذ القضاة والفقهاء والأمراء مجالسهم فخطب خطبة بليغة ووعظ وذكر ولم يكن فيما فعله طائل لكن سعادته ساعدته لما نزل عن المنبر قام السلطان إليه وعانقه واركبه على فيل وأمر جميع من حضر أن يشموا بين يديه وكنت في جملتهم إلى سراجة ضربت له مقابلة سراجة السلطان جميعها من الحرير الملون وصيوانها من الحرير وخباؤها أيضاً كذلك فجلس وجلسنا معه وكان بجانب من السراجة أواني الذهب التي أعطاه إياه السلطان وذلك تنور كبير بحيث يسع في جوفه الرجل القاعد وقدران اثنان وصحاف لا أذكر عددها وجملة أكواز وركوة وتميسندة ومائدة لها أربع أرجل ومحمل للكتب، كل ذلك من ذهب.
ورفع عماد الدين السمناني وتدين من أوتاد السراجة أحدهما نحاس والآخر مقصدر يوهم بذلك أنهما من ذهب وفضة ولم يكونا إلا كما ذكرنا وقد كان أعطاه حين قدومه مائة ألف دينار دراهم ومئتين من العبيد سرح بعضهم وحمل بعضهم الآخر.
كما روي عن عطائه لعبد العزيز الاردويلي أن هذا الفقيه المحدث قرأ بدمشق على تقي الدين بن تيمية، وبرهان الدين بن البركح، وجمال الدين المزي، وشمس الدين الذهبي وغيرهم. ثم قدم على السلطان فأحسن إليه وأكرمه واتفق يوماً أنه سرد عليه أحاديث في كرم العباس وابنه رضي الله عنهما وشيئاً من مآثر الخلفاء أولادهما فأعجب ذلك السلطان لحبه في بني العباس وقبل قدمي الفقيه وأمر أن يؤتى بصينية ذهب فيها ألفا تنكة، فصبها عليه بيده، وقال: هي لك مع الصينية. وقد ذكرنا هذه الحكاية فيما تقدم.
وكان الفقيه شمس الدين الأندكاني حكيماً شاعراً مطبوعاً، فمدح السلطان بقصيدة باللسان الفارسي، وكان عدد أبياتها سبعة وعشرين بيتاً، فاعطاه لكل بيت منها ألف دينار دراهم. وهذا أعظم مما يحكى عن المتقدمين الذين كانوا يعطون على بيت شعر ألف درهم وهو عشر عطاء السلطان.
وكان عضد الدين فقيهاً إماماً كبير القدر عظيم الصيت شهير الذكر ببلاده. فبلغت السلطان أخباره وسمع بمآثره فبعث إليه إلى بلده شونكارة عشرة آلاف دينار دراهم ولم يره قط ولا وفد عليه.
ولما بلغه خبر القاضي العالم الصالح ذي الكرامة الشهيرة مجد الدين قاضي شيراز الذي سطرنا اخباره في السفر الأول، وسيمر بعض خبره. بعد هذا بعث إليه إلى مدينة شيراز، صحبة الشيخ زاده الدمشقي عشرة آلاف دينار دراهم.
وكان برهان الدين الصاغرجي أحد الوعاظ الأئمة، كثير الإيثار، باذلاً لما يملكه. حتى إنه كثيراً ما يأخذ الديون ويؤثر على الناس. فبلغ خبره إلى السلطان فبعث إليه أربعين ألف دينار وطلب منه أن يصل إلى حضرته فقبل الدنانير وقضى دينه منها وتوجه إلى بلاد الخطا وأبى أن يصل إليه وقال: لا أمضي إلى سلطان يقف العلماء بين يديه.
وكان حاجي كاون ابن عم السلطان أبي سعيد ملك العراق، وكان أخوه
موسى ملكاً ببعض بلاد العراق فوفد حاجي كاون على السلطان فأكرم مثواه وأعطاه العطاء الجزل ورأيته يوماً وقد أتى الوزير خواجه جهان بهديته وكان منها ثلاث صينيات واحداها مملوءة يواقيت والأخرى مملوءة زمرداً والأخرى مملوءة جوهراً وكان حاجي كاون حاضراً فأعطاه من ذلك حظاً جزيلاً ثم إنه أعطاه أيضاً مالاً عريضاً ومضى يريد العراق فوجد أخاه قد توفي وولي مكانه سليمان خان فطلب إرث أخيه وادعى الملك وبايعته العساكر وقصد بلاد فارس ونزل بمدينة شونكارة التي بها الإمام عضد الدين الذي تقدم ذكره آنفاً، فلما نزل بخارجها تأخر شيوخها عن الخروج إليه ساعة ثم خرجوا، فقال لهم: ما منعكم عن تعجيل الخروج إلى مبايعتنا؟ فاعتذوا له فلم يقبل منهم وقال لأهل سلاحه: قلج تجار "جقار" معناه جردوا السيوف فجردوها وضربوا أعناقهم وكانوا جماعة كبيرة. فسمع من يجاور هذه المدينة من الأمراء بما فعله فغضبوا لذلك وكتبوا إلى شمس الدين السمناني وهو من الأمراء الفقهاء الكبار فأعلموه بما جرى على أهل شونكارة وطلبوا منه الإعانة على قتاله فتجرد في عساكره واجتمع أهل البلاد طالبين بثأر من قتله حاجي كاون من المشايخ وضربوا على عسكره ليلاً فهزموه وكان هو بقصر المدينة فأحاطوا به فاختفى في بيت الطهارة فعثروا عليه وقطعوا رأسه وبعثوا به إلى سليمان خان وفرقوا أعضاءه على البلاد تشفياً منه.
وكان الأمير غياث الدين محمد بن عبد القاهر بن يوسف بن عبد العزيز بن الخليفة المستنصر بالله العباسي البغدادي قد وفد على السلطان علاء الدين طرمشيرين ملك ما وراء النهر فأكرمه وأعطاه الزاوية التي على قبر قثم بن العباس رضي الله عنهما واستطوطن بها أعواماً ثم لما سمع بمحبة السلطان في بني العباس وقيامه بدعوتهم أحب القدوم عليه وبعث له برسولين أحدهما صاحبه القديم محمد بن أبي الشرقي الحرباوي والثاني محمد الهمذاني الصوفي فقدما على السلطان وكان ناصر الدين الترمذي الذي تقدم ذكره ن قد لقي غياث الدين ببغداد وشهد لديه البغداديون بصحة نسبه فشهد هو عند السلطان بذلك فلما وصل رسولاه إلى السلطان أعطاهما خمسة آلاف دينار وبعث معهما ثلاثين ألف دينار إلى غياث الدين ليتزود بها إليه وكتب له كتاباً بخط يده يعظمه فيه ويسأل منه القدوم عليه. فلما وصله الكتاب رحل إليه،
فلما وصل إلى بلاد السند وكتب المخبرون بقدومه بعث السلطان من يستقبله على العادة ثم لما وصل إلى سرستي بعث أيضا لاستقباله صدر الجهان قاضي القضاة كمال الدين الغزنوي وجماعة من الفقهاء ثم بعث الأمراء لاستقباله فلما نزل بمسعود أباد خارج الحضرة خرج السلطان بنفسه لاستقباله فلما التقيا ترجل غياث الدين فترجل له السلطان وخدم فخدم له السلطان وكان قد استصحب هدية في جملتها ثياب فأخذ السلطان أحد الأثواب وجعله على كتفه وخدم كما يفعل الناس معه ثم قدمت الخيل فأخذ السلطان أحدها بيده وقدمه له وحلف أن يركب وأمسك بركابه حتى ركب ثم ركب السلطان وسايره والشجر يظلهما معاً وأخذ التنبول بيده وأعطاه إياه وهذا أعظم ما أكرمه به فإنه لا يفعله مع أحد. وقال له: لولا أني بايعت الخليفة أبا العباس لبايعتك فقال له غياث الدين وأنا أيضاً على تلك البيعة، وقال له غياث الدين قال رسول الله صلى الله عليه وسلم تسليما:"من أحيا أرضاً مواتاً فهي له" وأنت أحييتنا، فجاوبه السلطان بألطف جواب وأبره، ولما وصلا إلى السراجة المعدة لنزول السلطان أنزله فيها وضرب للسلطان غيرها وباتا تلك الليلة بخارج الحضرة. فلما كان بالغد دخلا إلى دار الملك وأنزله بالمدينة المعروفة بسيري وبدار الخلافة أيضا في القصر الذي بناه علاء الدين الخلنجي وابنه قطب الدين وأمر السلطان جميع الأمراء أن يمضوا معه إليه وأعد له فيه جميع ما يحتاج إليه من أواني الذهب والفضة حتى كان من جملتها مغتسل يغتسل فيه من ذهب وبعث له أربعمائة ألف دينار لغسل رأسه على العادة وبعث له جملة من الفتيان والخدم والجواري وعيّن له عن نفقته في كل يوم ثلاثمائة دينار وبعث له زيادة إليها عدداً من الموائد بالطعام الخاص وأعطاه جميع مدينة سيري إقطاعاً وجميع ما احتوت عليه من الدور وما يتصل بها من بساتين المخزن وأرضه وأعطاه مائة قرية وأعطاه حكم البلاد الشرقية المضافة لدهلي وأعطاه ثلاثين بغلة بالسروج المذهبة ويكون علفها من المخزن وأمره أن لا ينزل عن دابته إذا أتى دار السلطان موضع خاص لا يدخله أحد راكباً سوى السلطان وأمر الناس جميعاً من كبير وصغير أن يخدموا له كما يخدمون السلطان وإذا دخل على السلطان ينزل له عن سريره وإن كان على الكرسي قام قائماً وخدم كل واحد منهما لصاحبه ويجلس مع السلطان على بساط واحد، وإذا قام قام السلطان لقيامه، وخدم كل واحد منهما لصاحبه، وإذا انصرف إلى
خارج المجلس، جعل له بساط يقعد عليه ما شاء، ثم ينصرف، يفعل هذا مرتين في اليوم.
وفي أثناء مقامه بدهلي قدم الوزير من بلاد بنجالة، فأمر السلطان كبار الأمراء أن يخرجوا إلى استقباله ثم خرج بنفسه إلى استقباله وعظمه تعظيماً كثيراً وصنعت القباب بالمدينة كما تصنع للسلطان إذا قدم وخرج ابن الخليفة للقائه أيضاً والفقهاء والقضاة والأعيان فلما عاد السلطان إلى لقصره قال للوزير أمض إلى دار المخدوم زاده وبذلك يدعوه ومعنى ذلك ابن المخدوم فسار الوزير إليه وأهدى له ألفي تنكة من الذهب وأثواباً كثيرة وحضر الأمير قبولة وغيره من كبار الأمراء وحضرت أنا كذلك.
ولما وفد على السلطان ملك غزنة المسمى ببهرام وكان بينه وبين ابن الخليفة عداوة قديمة فأمر السلطان بإنزاله ببعض دور مدينة سيري التي لابن الخليفة وأمر أن يُبنى له بها دار فبلغ ذلك ابن الخليفة فغضب منه ومضى إلى دار السلطان فجلس على البساط الذي عادته الجلوس عليه وبعث إلى الوزير فقال له سلم على خوند عالم وقل له أن جميع ما أعطانيه هو بمنزلي لم أتصرف في شيء منه بل زاد عندي ونما وأنا لا أقيم معكم وقام وانصرف فسأل الوزير بعض أصحابه عن سبب هذا فأعلمه أن سببه أمر السلطان ببناء الدار لملك غزنة في مدينة سيري فدخل الوزير على السلطان فأعلمه بذلك فركب من حينه في عشرة من ناسه وأتى منزل ابن الخليفة فاستأذن عليه ونزل عن فرسه خارج القصر حيث ينزل الناس فتلقاه واعتذر له فقبل عذره وقال له السلطان والله ما أعلم أنك راض عني حتى تضع قدمك على عنقي فقال له هذا ما لا أفعله ولو قتلت فقال له السلطان وحق رأسي لا بد لك من ذلك ثم وضع رأسه في الأرض وأخذ الملك الكبير قبوة رجل ابن الخليفة بيده فوضعها على عنق السلطان. ثم قام وقال الآن علمت أنك راض عني وطاب قلبي وهذه حكاية غريبة لم يسمع بمثلها عن ملك ولقد حضرته يوم عيد وقد جاءه الملك الكبير بثلاث خلع من عند السلطان مفرجة قد جعل مكان عقد الحرير التي تغلق بها حبات جوهر في قدر البندق الكبير وأقام الملك الكبير ببابه حتى نزل من قصره فكساه إياها والذي أعطاه هو ما لا يحصره العد ولا يحيط به الحد. وابن الخليفة مع ذلك كله أبخل خلق الله تعالى وله في البخل أخبار عجيبة، يعجب منها
سامعها وكأنه كان من البخل بمنزلة السلطان من الكرم.
وكانت بيني وبينه مودة، وكنت كثير التردد إلى منزله وعنده تركت ولداً لي سميته أحمد لما سافرت ولا أدري ما فعل الله بهما فقلت له يوماً: لم تأكل وحدك ولا تجمع أصحابك على الطعام؟ فقال لي: لا أستطيع أن أنظر إليهم على كثرتهم وهم يأكلون طعامي فكان يأكل وحده ويعطي صاحبه محمد بن أبي الشرفي من الطعام لمن أحب ويتصرف في باقيه وكنت أتردّد إليه فأرى دهليز قصره الذي يسكن به مظلماً لا سراج به ورأيته مراراً يجمع الأعواد الصغار من الحطب بداخل بستانه وقد ملأ منها مخازن فكلمته في ذلك فقال لي يحتاج إليها وكان يخدم أصحابه ومماليكه وفتيانه في خدمة البستان وبنائه ويقول لا أرضى أن يأكلوا طعامي وهم لا يخدمون وكان علي مرة دين طلبت به فقال لي في بعض الأيام والله لقد هممت أن أؤدي عنك دينك فلم تسمح نفسي بذلك ولا ساعدتني عليه.
وحدّثني مرة قال: خرجت عن بغداد، وأنا رابع أربعة أحدهم محمد بن أبي الشرفي صاحبي ونحن على أقدامنا، ولا زاد عندنا فنزلنا على عين ماء ببعض القرى فوجد أحدنا في العين درهما فقلنا وما نصنع بدرهم فاتفقنا على أن نشتري به خبزاً فبعثنا أحدنا لشرائه فأبى الخبار بتلك القرية أن يبيع الخبز وحده وإنما يبيع خبزاً بقيراط وتبنا بقيراط فاشترى منه الخبز والتبن فطرحنا التبن إذ لا دابة لنا تأكل وقسمنا الخبز لقمة لقمة وقد انتهى حالي اليوم إلى ما تراه فقلت له ينبغي لك أن تحمد الله على ما أولاك وتؤثر على الفقراء والمساكين وتتصدق، فقال: لا استطيع ذلك ولم أره قط يجود بشيء ولا يفعل معروفا ونعوذ بالله من الشح.
كنت يوماً ببغداد بعد عودتي من بلاد الهند وأنا قاعد على باب المدرسة المستنصرية التي بناها جده أمير المؤمنين المستنصر رضي الله عنه فرأيت شاباً ضعيف الحال يشتد خلف رجل خارج عن المدرسة فقال لي بعض الطلبة هذا الشاب الذي تراه هو ابن الأمير محمد حفيد الخيفة المستنصر الذي ببلاد الهند فدعوته فقلت له إني قدمت من بلاد الهند وإني أعرفك بخبر أبيك فقال قد جاءني خبره في هذه الأيام ومضى يشتد خلف الرجل فسألت عن الرجل فقيل لي: هو الناظر في الحبس وهذا الشاب هو إمام ببعض المساجد، وله على
ذلك أجرة درهم واحد في اليوم، وهو يطلب أجرته من الرجل فطال عجبي منه. والله لو بعث إليه جوهرة من الجواهر التي في الخلع الواصلة إليه من السلطان لأغناه بها. ونعوذ بالله من مثل هذه الحال.
ولما قدم الأمير سيف الدين غدا بن هبة الله بن مهنا أمير عرب الشام على السلطان أكرم مثواه وأنزله بقصر السلطان جلال الدين داخل مدينة دهلي ويعرف بكشك، لعل معناه القصر الأحمر وهو قصر عظيم فيه مشور كبير جداً ودهليز هائل على بابه قبة تشرف على هذا المشور وعلى المشور الثاني الذي يدخل منه إلى القصر وكان السلطان جلال الدين يقعد بها وتعلب الكرة بين يديه في هذا المشور وقد دخلت هذا القصر عند نزوله به فرأيته مملوءا أثاثاً وفرشاً وبسطاً وغيرها وذلك كله متمزق لا منتفع فيه فإن عادتهم بالهند أن يتركوا قصر السلطان إذا مات بجميع ما فيه لا يتعرضون له ويبنى المتولي بعده قصراً لنفسه ولما دخلته طفت به وصعدت إلى أعلاه فكانت لي فيه عبرة، نشأت عنها عبرة وكان معي الفقيه الطبيب الأديب جمال الدين المغربي الغرناطي الأصل البجائي المولد مستوطن بلاد الهند قدمها مع أبيه وله بها أولاد فأنشدني عندما عايناه:
وسلاطينهم سَلِ الطين عنهم
…
فالرؤوس العظام صارت عظاماً
وبهذا القصر كانت وليمة عرسه كما نذكره، وكان السلطان شديد المحبة في العرب مؤثراً لهم معترفاً بفضائلهم فلما وصله هذا الأمير أجزل له العطاء وأحسن إليه إحساناً عظيماً وأعطاه مرة وقد قدمت عليه هدية أعظم ملك اليايزيدي من بلاد مانكبور أحد عشر فرساً من عتاق الخيل وأعطاه مرة أخرى عشرة من الخيل مسرجة بالسروج المذهبة عليها اللجم المذهبة، ثم وزوجه بعد ذلك بأخته فيروز خوندة.
ولما أمر السلطان بتزويج أخته للأمير غدا عيّن للقيام بشأن الوليمة ونفقاتها الملك فتح الله المعروف بشَوْنويس "بشين معجم مفتوح وواوين أولهما مسكن" والآخر معه في تلك الأيام فأتى الملك فتح الله بالصيوانات فظلل بها المشورين بالقصر الأحمر المذكور، وضرب في كلّ واحد منهما قبة ضخمة جداً وفرش ذلك بالفرش الحسان وأتي شمس الدين التبريزي أمير المطربين ومعه الرجال المغنون والنساء المغنيات والرواقص، وكلهن مماليك السلطان، وأحضر الطباخين والخبازين والشوائين والحلوانيين والشربدارية
والتنبول داران، وَذبحت الأنغام والطيور. وأقاموا يطعمون الناس خمسة عشر يوماً ويحضر الأمراء الكبار والأعزة ليلاً ونهاراً فلمّا كان قبل ليلة الزفاف بليلتين جاء الخواتين من دار السلطان ليلاً إلى هذا القصر فزينّه وفرشنه بأحسن الفرش واستحضرن الأمير سيف الدين وكان عربياً غريباً لا قرابة له فحففن به وأجلسنه على مرتبة معينة له وكان السلطان قد أمر أن تكون ربيبته أم أخيه مبارك خان مقام أم الأمير غدا وأن تكون امرأة أخرى من الخواتين مقام أخته وأخرى مقام عمته وأخرى مقام خالته حتى يكون كأنه بين أهله ولما أجلسنه على المرتبة جعلن له الحناء في يديه ورجليه وقام باقيهن على رأسه يغنين ويرقصن وانصرفن إلى قصر الزفاف وأقام هو مع خواص أصحابه وعيّن السلطان جماعة من الأمراء يكونون من جهته وجماعة يكونون من جهة الزوجة وعادتهم أن تقف الجماعة التي من جهة الزوجة على باب الموضع الذي تكون به جلوتها على زوجها ويأتي الزوج بجماعته فلا يدخلون إلا إن غلبوا أصحاب الزوجة أو يعطونهم الآلاف من الدنانير إن لم يقدروا عليهم ولما كان بعد المغرب أتى إليه بخلعة حرير زرقاء مزركشة مرصعة قد غلبت الجواهر عليها، فلا يظهر لونها مما عليها من الجوهر وبشاشية مثل ذلك ولم أر قط خلعة أجمل من هذه الخلعة وقد رأيت ما خلعه السلطان على سائر أصهاره مثل ابن ملك الملوك عماد الدين السمناني وابن ملك العلماء وابن شيخ الإسلام وابن صدر جهان البخاري فلم يكن فيها مثل هذه.
ثم ركب الأمير سيف الدين في أصحابه وعبيده وفي يد كل واحد منهم عصى قد أعدها وصنعوا شبه إكليل من الياسمين والنسرين وريبول وله رفرف يغطي وجه المتكلل به وصدره وأتوا به الأمير ليجعله على رأسه فأبى من ذلك وكان من عرب البادية لا عهد له بأمور الملك والحضر فحاولته وحلفت عليه حتى جعله على رأسه وأتى باب الصرف ويسمونه باب الحرم وعليه وجماعة الزوجة فحمل عليهم بأصحابه حملة عربية وصرعوا كل من عارضهم فغلبوا عليهم ولم يكن لجماعة الزوجة من ثبات وبلغ ذلك السلطان فأعجبه فعله ودخل إلى المشور وقد جعلت العروس فوق منبر عال مزين بالديباج مرصع بالجوهر والمشور ملآن بالنساء والمطربات قد أحضرن أنواع الآلات المطربة وكلهن وقوف على قدم إجلالاً له وتعظيماً، فدخل بفرسه حتى قرب من المنبر،
فنزل وخدم عند أول درجة منه وقامت العروس قائمة حتى صعد فأعطته التنبول بيدها فأخذه وجلس تحت الدرجة التي وقفت بها ونثرت دنانير الذهب على رؤوس الحاضرين من أصحابه ولقطتها النساء والمغنيات يغنين حينئذ والأطبال والأبواق والأنفار تضرب خارج الباب ثم قام الأمير وأخذ بيد زوجته ونزل وهي تتبعه فركب فرسه يطأ به الفرش والبسط ونثرت الدنانير عليه وعلى أصحابه وجعلت العروس في محفة وحملها العبيد على أعناقهم إلى قصره والخواتين بين يديها راكبات وغيرهن من النساء ماشيات وإذا مرّوا بدار أمير أو كبير خرج إليهم ونثر عليهم الدنانير والدراهم على قدر همته حتى أوصلوها إلى قصره. ولما كان بالغد بعثت العروس إلى جميع أصحاب زوجها الثياب والدنانير والدراهم وأعطى السلطان لكل واحد منهم فرساً مسرجاً ملجماً وبدرة دراهم من ألف دينار إلى مائتي دينار وأعطى الملك فتح الله للخواتين ثياب الحرير المنوعة والبدر وكذلك لأهل الطرب وعادتهم ببلاد الهند أن لا يعطي أحد شيئا لأهل الطرب إنما يعطيهم صاحب العرس وأطعم الناس جميعاً ذلك اليوم.
وانقضى العرس، وأمر السلطان أن يعطي للأمير غدا بلاد المالوة والجزرات وكبناية ونهروالة، وجعل فتح الله المذكور نائباً عنه عليها وعظمه تعظيماً شديداً وكان عربياً جافياً، فلم يقدر قدر ذلك، وغلب عليه جفاء البادية، فأداه ذلك إلى النكبة بعد عشرين ليلة من زفافه.
ولما كان بعد عشرين يوماً من زفافه اتفق أنه وصل إلى دار السلطان فأراد الدخول فمنعه أمير البرد "البرده" دارية، وهم الخواص من البوابين فلم يسمع منه وأراد التقحم، فأمسك البواب بدبوقته وهي الضفيرة ورده، فضربه الأمير بعصا كانت هناك حتى أدماه وكان هذا المضروب من كبار الأمراء يعرف أبوه بقاضي غزنة وهو من ذرية السلطان محمود بن سبكتكين والسلطان يخاطبه بالأب ويخاطب ابنه هذا بالأخ فدخل على السلطان والدم على ثيابه فأخبره بما صنع الأمير غدا ففكر السلطان هنيهة، ثم قال: القاضي يفصل بينكما وتلك جريمة لا يغفرها السلطان لأحد من ناسه، ولا بد من الموت عليها وإنما احتمله لغربته وكان القاضي كمال الدين بالمشور، فأمر السلطان الملك تتر أن يقف معهما عند القاضي. وكان تتر حاجاً مجاوراً يحسن العربية، فحضر معهما،
وقال للأمير: أنت ضربته أو قل: لا، قصد أن يعلمه الحجة، وكان سيف الدين جاهلاً مغتراً، فقال: نعم أنا ضربته، وأتى والد المضروب فرام الإصلاح بينهما فلم يقبل سيف الدين فأمر القاضي بسجنه تلك الليلة فوالله ما بعثت له زوجته فراشاً ينام عليه ولا سألت عنه خوفاً من السلطان وخاف أصحابه فودعوا أموالهم.
وأردت زيارته بالسجن فلقيني بعض الأمراء وفهم عنى أني أريد زيارته، فقال لي: أو نسيت؟ وذكرني بقضية اتفقت لي في زيارة الشيخ شهاب الدين بن شيخ الجام وكيف أراد السلطان قتلي على ذلك حسبما يقع ذكره. فرجعت ولم أزره وتخلص الأمير غدا عند الظهر من سجنه فأظهر السلطان إهماله وأضرب عما كان أمر له بولايته وأراد نفيه وكان للسطان صهر يسمى بمغيث بن ملك الملوك وكانت أخت السلطان تشكوه لأخيها إلى أن ماتت فذكر جواريها أنها ماتت بسبب قهره لها وكان في نسبه مغمز فكتب السلطان بخطه يجلى اللقيط يعينه ثم كتب ويجلى موش خوار معنا آكل الفئران، يعني بذلك الأمير غدا لأن عرب البادية يأكلون اليربوع وهو شبه الفأر وأمر بإخراجهما فجاءه النقباء ليخرجوه فأراد دخول داره ووداع أهله فترادف النقباء في طلبه فخرج باكياً وتوجهت حين ذلك إلى دار السلطان فبت بها فسأني عن مبيتي بعض الأمراء فقلت له جئت لأتكلم في الأمير سيف الدين حتى يرد ولا ينفى. فقال: لا يكون ذلك. فقلت له: والله لا يتبين بدار السلطان ولو بلغ مبيتي مائة ليلة حتى يرد فبلغ ذلك السلطان فأمر برده وأمره أن يكون في خدمة الأمير ملك قبولة اللاهوري فأقام أربعة أعوام في خدمته يركب لركوبه ويسافر لسفره حتى تأدب وتهذّب ثم أعاده السلطان إلى ما كان عليه أولاً وأقطعه البلاد وقدمه على العساكر ورفع قدره.
ولما قدم خذاوند زاده أعطاه السلطان عطاء جزلاً، وأحسن إليه إحساناً عظيماً وبالغ في إكرامه ثم زوج ولديه من بنتي الوزير خواجة جهان وكان الوزير إذ ذاك غائبا فأتى السلطان إلى داره ليلاً وحضر عقد النكاح كأنه نائب عن الوزير ووقف حتى قرأ قاضي القضاة الصداق1 والقضاة والأمراء
1 الصداق: ما تصادق عليه المتعاقدان من عقد النكاح ومهره.
والمشايخ قعود وأخذ السلطان بيده الأثواب والبدر فجعلها بين يدي القاضي وولدي خداوند زاده وقام الأمراء وأبوا أن يجعل السلطان ذلك بين أيديهم بنفسه فأمرهم بالجلوس وأمر بعض كبار الأمراء أن يقوم مقامه وانصرف.
وحين ادعى على السلطان رجل من كبار الهنود أنه قتل أخاه من غير موجب ودعاه إلى القاضي فمضى على قدميه ولا سلاح معه إلى مجلس القاضي فسلم وخدم وكان قد أمر القاضي قبل ذلك أنه إذا جاءه إلى مجلسه فلا يقوم له ولا يتحرك فصعد إلى المجلس ووقف بين يدي القاضي فحكم عليه أن يرضي خصمه عن دم أخيه فأرضاه.
وادعى على السلطان مرة رجلٌ من المسلمين أن له قبله حقا ماليا فتخاصما في ذلك عند القاضي فتوجه الحكم على السلطان بإعطاء المال فاعطاه.
وادعى عليه صبي من أبناء الملوك أنه ضربه من غير موجب ورفعه إلى القاضي فتوجه الحكم عليه بأن يرضيه بالمال إن قبل ذلك وإلا أمكنه من القصاص فشاهدته يومئذ وقد عاد لمجلسه واستحضر الصبي وأعطاه عصا وقال له وحق رأسي تضربني كما ضربتك وأخذ الصبي العصا وضربه بها إحدى وعشرين ضربة حتى رأيت الكلا "الكلاه" قد طارت عن رأسه.
وكان السلطان شديداً في إقامته الصلاة، آمراً بملازمتها في الجماعات يعاقب على تركها أشد العقاب، ولقد قتل في يوم واحد تسعة نفر على تركها كان أحدهم مغنياً، وكان يبعث الرجال الموكلين بذلك إلى الأسواق فمن وجد بها عند إقامة الصلاة عوقب حتى انتهى إلى عقاب الستائريين الذين يمسكون دواب الخدام على باب المشور إذا ضيعوا الصلاة وأمر أن يطلب الناس بعلم فرائض الوضوء والصلاة وشروط الإسلام فكانوا يسألون عن ذلك فمن لم يحسنه عوقب وصار الناس يتدارسون ذلك بالمشور والأسواق ويكتبونها.
وكان شديداً في إقامة الشرع ومما فعل في ذلك أن أمر أخاه مبارك خان أن يكون قعوده بالمشور مع قاضي القضاة كمال الدين في قبة مرتفعة هنالك مفروشة بالبسط وللقاضي بها مرتبة تحف بها المخاد كمرتبة السلطان ويقعد أخو السلطان عن يمينه فمن كان عليه حق من كبار الأمراء وامتنع من
أدائه لصاحبه يحضره رجال أخي السلطان عند القاضي لينصف منه.
ولما كان في سنة إحدى وأربعين أمر السلطان برفع المكوس عن بلاده وأن لا يؤخذ من الناس إلا الزكاة والعشر خاصة وصار يجلس بنفسه للنظر في المظالم في كل يوم اثنين وخميس برحبة إمام المشور ولا يقف بين يديه في ذلك اليوم إلا أمير حاجب وخاص حاجب وسيد الحجاب وشرف الحجاب لا غير ولا يمنع أحد ممن أراد الشكوى من الوقوف بين يديه وعين أربعة من كبار الأمراء يجلسون في الأبواب الأربعة من المشور لأخذ القصص من المشتكين والرابع منهم هو ابن عمه ملك فيروز فإن أخذ صاحب الباب الأول الرقع من الشاكي فحسن وإلا أخذه الثاني أو الثالث أو الرابع وإن لم يأخذوه منه مضى به إلى صدر الجهان قاضي المماليك فإن أخذه منه وإلا شكى إلى السلطان فإن صح عنده أنه مضى به إلى أحد منهم فلم يأخذه منه أدبه وكل ما يجتمع من القصص في سائر الأيام يطالع به السلطان بعد العشاء الآخرة.
ولما استولى القحط على بلاد الهند والسند واشتد الغلاء حتى بلغ مَنُّ1 القمح إلى ستة دنانير، أمر السلطان أن يعطى لجميع أهل دهلي نفقة ستة أشهر من المخزن بحساب رطل ونصف من أرطال المغرب لكل إنسان في اليوم صغيراً أو كبيراً حراً أو عبداً وخرج الفقهاء والقضاة يكتبون الأزمّة بأهل الحارات ويحضرون الناس ويعطى لكل واحد عولة ستة أشهر يقتات بها.
وكان على ما قدمنا من تواضعه وإنصافه ورفقه بالمساكين وكرمه الخارق للعادة، كثير التجاسر على إراقة الدماء، لا يخلو بابه عن مقتول إلا في النادر، وكنت كثيراً ما أرى الناس يقتلون على بابه ويطرحون هنالك ولقد جئت يوماً فنفر بي الفرس ونظرت إلى قطعة بيضاء في الأرض فقلت ما هذه؟ فقال بعض أصحابي هي صدر رجل قطع ثلاث قطع وكان يعاقب على الصغيرة والكبيرة، ولا يحترم أحداً من أهل العلم والصلاح والشرف وفي كل يوم يرد على المشور من المسلسلين والمغلولين والمقيدين مئين فمن كان للقتل قتل أو للعذاب عذب أو للضرب ضرب. وعادته أن يؤتى كل يوم بجميع من في سجنه من
1 المن: جمعه أمنان، كيل أو ميزان، وهو شرعاً 180 مثقالاً، وعرفاً 28 مثقالاً. عن المنجد في اللغة.
الناس إلى المشور ما عدا يوم الجمعة فإنهم لا يخرجون فيه وهو يوم راحتهم يتنظفون فيه ويستريحون أعاذنا الله من البلاء.
وكان له أخ اسمه مسعود خان وأمه بنت السلطان علاء الدين وكان من أجمل صوة رأيتها في الدنيا فاتهمه بالقيام عليه وسأله عن ذلك فأقر خوفاً من العذاب فإنه من أنكر ما يدعيه عليه السلطان من مثل ذلك يعذب فيرى الناس أن القتل أهون عليهم من العذاب فأمر به فضربت عنقه في وسط السوق وبقي مطروحاً هنالك ثلاثة أيام على عادتهم وكانت أم هذا المقتول قد رجمت في ذلك الموضع قبل ذلك بسنتين لاعترافها بالزنا فرجمها القاضي كمال الدين.
وكان مرة عين حصة من العسكر تتوجه مع الملك يوسف بغرة إلى قتال الكفار ببعض الجبال المتصلة بحوز دهلي فخرج يوسف وخرج معه معظم العسكر وتخلف قوم منهم فكتب يوسف إلى السلطان يعلمه بذلك فأمر أن يطاف بالمدينة ويقبض على من وجد من أولئك المتخلفين ففعل ذلك وقبض على ثلاثمائة وخمسين منهم فأمر بقتلهم أجمعين فقتلوا.
وكان الشيخ شهاب الدين بن شيخ الجام الخراساني الذي تنسب مدينة الجام بخراسان إلى جده حسبما قصصنا ذلك ن من كبار المشايخ الصلحاء الفضلاء وكان يواصل أربعة عشر يوماً وكان السلطانان قطب الدين وتغلق يعظمانه ويزورانه ويتبركان به، فلما ولي السلطان محمد أراد أن يخدم الشيخ في بعض خدمته فإن عادته أن يخدم الفقهاء والمشايخ والصلحاء محتجاً أن الصدر الأول رضي الله عنهم لم يكونوا يستعملون إلا أهل العلم والصلاح فامتنع الشيخ شهاب الدين من الخدمة وشافهه السلطان بذلك في مجلسه العام فأظهر الاباية والامتناع فغضب السلطان من ذلك وأمر الشيخ الفقيه المعظم ضياء الدين السمناني أن ينتف لحيته فأبى ضياء الدين من ذلك وقال: لا أفعل هذا. فأمر السلطان بنتف لحية كل واحد منهما فنتفت، ونفي ضياء الدين إلى بلاد التِّلنك، ثم ولاه بعد مدة قضاء ورنكل، فمات بها، ونفي شهاب الدين إلى دولة آباد، فأقام بها سبعة أعوام ثم بعث عنه فأكرمه وعظمه، وجعله على ديوان المستخرج وهو ديوان بقايا العمال يستخرجها منهم بالضرب والتنكيل، ثم زاد في تعظيمه وأمر الأمراء أن يأتوا للسلام عليه ويمتثلوا أقواله ولم يكن أحد في دار السلطان فوقه ولما انتقل السلطان إلى السكنى على نهر الكنك، وبنى هنالك
القصر المعروف بسرك دوار، معناه شبه الجنة، وأمر الناس بالبناء هنالك طلب منه الشيخ شهاب الدين أن يأذن له في الإقامة بالحضرة فأذن له إلى أرض موات على مسافة ستة أميال من دهلي فحفر بها كهفاً كبيراً صنع في جوفه البيوت والمخازن والغرف والحمام وجلب الماء من نهر جون، وعمر تلك الأرض وجمع مالاً كثيراً من مستغلها لأنها كانت السنون قاحطة، وأقام هنالك عامين ونصف عام مدة مغيب السلطان وكان عبيده يخدمون تلك الأرض نهاراً ويدخلون الغار ليلاً ويسدونه على أنفسهم وأنعامهم خوف سراق الكفار لأنهم في جبل منيع هنالك، ولما عاد السلطان إلى حضرته استقبله الشيخ ولقيه على سبعة أميال منها فعظمه السلطان وعانقه عند لقائه وعاد إلى غاره، ثم بعث عنه بعد أيام فامتنع من إتيانه فبعث إليه مخلص الملك النذرباري، وكان من كبراء الملوك فتلطف له في القول وحذره بطش السلطان، فقال له: لا أخدم ظالماً أبداً، فعاد مخلص الملك إلى السلطان فأخبره بذلك فأمر أن يأتي به فأتي به، فقال له: أنت القائل إني ظالم، فقال: نعم أنت ظالم، ومن ظلمك كذا وكذا، وعدّد أموراً، منها: تخريبه لمدينة دهلي وإخراجه أهلها فأخذ السلطان سيفه ودفعه لصدر الجهان وقال: يثبت هذا أني ظالم، واقطع عنقي بهذا السيف، فقال له شهاب الدين: ومن يريد أن يشهد بذلك فيقتل، ولكن أنت تعرف ظلم نفسك وأمر بتسليمه لملك نكبيه، رأس الدويدارية، فقيده بأربعة قيود وغل يديه وأقام كذلك أربعة عشر يوماً مواصلاً لا يأكل ولا يشرب، وفي كل يوم منها يؤتى به إلى المشور ويجمع الفقهاء والمشايخ ويقولون له ارجع عن قولك، فيقول: لا أرجع عنه وأريد أن أكون في زمرة الشهداء. فلما كان اليوم الرابع عشر بعث إليه السلطان بطعام مع مخلص الملك، فأبى أن يأكل، وقال: قد رفع رزقي من الأرض ارجع بطعامك إليه، فلما أخبر بذلك السلطان أمر عند ذلك أن يطعم الشيخ خمسة أستار "أساتير" من العذرة وهي رطلان ونصف من أرطال المغرب فأخذ ذلك الموكلون بمثل هذه الأمور وهم طائفة من كفار الهنود فمدوه على ظهره وفتحوا فمه بالكلبتين وحلوا العذرة بالماء وسقوه ذلك. وفي اليوم الذي بعده أتي به إلى دار القاضي صدر الجهان وجمع الفقهاء والمشايخ ووجوه الأعزة فوعظوه، وطلبوا منه أن يرجع عن قوله، فأبى ذلك. فضربت عنقه رحمه الله تعالى.
وكان السلطان في سني القحط قد أمر بحفر آبار خارج دار الملك وأن يزرع هنالك زرع وأعطى الناس البذر وما يلزم على الزراعة من النفقة وكلفهم زرع ذلك للمخزن فبلغ ذلك الفقيه عفيف الدين الكاساني فقال هذا الزرع لا يحصل المراد منه فوشي به السلطان فسجنه وقال له لأي شيء تدخل نفسك في أمور الملك ثم أنه سرحه بعد مدة فذهب إلى داره ولقيه في طريقه إليها صاحبان له من الفقهاء فقالا له: الحمد لله على خلاصك، فقال الفقيه: الحمد لله الذي نجانا من القوم الظالمين. وتفرقوا فلم يصلوا إلى دورهم حتى بلغ ذلك السلطان، فأمر بهم فأحضر ثلاثتهم بين يديه فقال: اذهبوا بهذا يعني عفيف الدين فاضربوا عنقه حمائل، وهو أن يقطع الرأس مع الذراع وبعض الصدر، واضربوا أعناق الآخرين. فقالا له: أما هو فيستحق العقاب بقوله وأما نحن فبأي جريمة تقتلنا. فقال لهما: إنكما سمعتما كلامه فلم تنكراه فكأنكما وافقتما عليه فقتلوا جميعاً رحمهم الله تعالى.
وكان قد أمر فقيهين سنديين كانا في خدمته أن يمضيا مع أمير عينه إلى بعض البلاد، وقال لهما: إنما سلمت أحوال البلاد والرعية لكما ويكون هذا الأمير معكما يتصرف بما تأمرانه به، فقالا له: إنما نكون كالشاهدين عليه، ونبين له وجه الحق ليتبعه، فقال لهما: إنما قصدكما أن تأكلا أموالي وتضيعاها وتنسبا ذلك إلى هذا التركي الذي لا معرفة له، فقالا له: حاشا لله يا خوند عالم ما قصدنا هذا، فقال لهما: لم تقصدا غير هذا اذهبوا بهما إلى الشيخ زاده النهاوندي، وهو الموكل بالعذاب، فذهب بهما إليه، فقال لهما: السلطان يريد قتلكما، فأقرا بما قوّلكما إياه ولا تعذبا أنفسكما. فقالا: والله ما قصدنا إلا ما ذكرنا، فقال لزبانيته ذوقوهما بعض شيء يعني من العذاب فبطحا على أقفائهما وجعل على صدر كل واحد منهما صفيحة حديد محماة ثم قلعت بعد هنيهة فذهبت بلحم صدورهما ثم أخذ البول والرماد فجعل على تلك الجراحات، فأقرا على أنفسهما أنهما لم يقصدا إلا ما قاله السلطان وأنهما مجرمان مستحقان للقتل فلا حق لهما ولا دعوى في دمائهما دنيا ولا أخرى وكتبا خطهما بذلك واعترفا به عند القاضي فسجل على العقد وكتب فيه أن اعترافهما كان من غير إكراه ولا إجبار، ولو قالا أكرهنا لعذبا أشد العذاب ورأيا أن تعجيل ضرب العنق خير لهما من الموت بالعذاب الأليم فقتلَا رحمهما
الله تعالى.
وكان الشيخ زاده المسمى بهود حفيد الشيخ الصالح الولي ركن الدين بن بهاء الدين بن أبي زكريا الملتاني وجده الشيخ ركن الدين معظماً عند السلطان وكذلك أخوه عماد الدين الذي كان شبيهاً بالسلطان وقتل يوم وقيعة كشلوخان وسنذكره، ولما قتل عماد الدين أعطى السلطان لأخيه ركن الدين مائة قرية ليأكل منها ويطعم الصادر والوارد بزاويته، فتوفي الشيخ ركن الدين وأوصى بمكانه من الزاوية لحفيده الشيخ هود، ونازعه في ذلك ابن أخي الشيخ ركن الدين وقال أنا أحق بميراث عمي. فقدما على السلطان وهو بدولة أباد وبينهما وبين ملتان ثمانون يوماً، فأعطى السلطان المشيخة لهود حسبما أوصى له الشيخ وكان كهلاً وكان ابن أخي الشيخ فتى وأكرمه السلطان وأمر بتضييفه في كل منزل يحلّه وأن يخرج إلى لقائه أهل كل بلد يمر به إلى ملتان وتصنع له فيه دعوة، فلما وصل الأمر للحضرة خرج الفقهاء والقضاة والمشايخ والأعيان للقائه وكنت فيمن خرج إليه فلقيناه وهو راكب في دولة يحملها الرجال وخيله مجنوبة فسلمنا عليه وأنكرت أنا ما كان من فعله في ركوبه الدولة وقلت إنما كان ينبغي له أن يركب الفرس ويساير من خرج للقائه من القضاة والمشايخ فبلغه كلامي فركب الفرس واعتذر بأنّ فعله أولاً كان بسبب ألم منعه من ركوب الفرس ودخل الحضرة وصنعت له بها دعوة أنفق فيها من مال السلطان عدد كثير وحضر القضاة والمشايخ والفقهاء والأعزة ومد السماط وأتوا بالطعام على العادة ثم أعطيت الدراهم لكل من حضر على قدر استحقاقه فأعطى القضاة خمسمائة دينار وأعطيت أنا مائتين وخمسين ديناراً وهذه عادة لهم في الدعوى السلطانية. ثم انصرف الشيخ هود إلى بلده ومعه الشيخ نور الدين الشيرازي بعثه السلطان ليجلسه على سجادة جده بزاويته ويصنع له الدعوة من مال السلطان هنالك واستقر بزاويته وأقام بها أعواماً ثم أن عماد الملك أمير بلاد السند كتب إلى السلطان يذكر أن الشيخ وقرابته يشتغلون بجمع الأموال وإنفاقها في الشهوات ولا يطعمون أحداً بالزاوية فنفذ الأمر بمطالبتهم بالأموال، فطلبهم عماد الملك بها وسجن بعضهم وضرب بعضاً. وصار يأخذ منهم كل يوم عشرين ألف دينار مدة أيام حتى استخلص ما كان عندهم ووجد لهم كثير من الأموال والذخائر من جملتها نعلان مرصعان
بالجوهر والياقوت بيعا بسبعة آلاف دينار، قيل إنهما كانا لبنت الشيخ هود، وقيل لسرية له. فلما اشتدت الحال على الشيخ هرب يريد بلاد الأتراك فقبض عليه، وكتب عماد الملك بذلك إلى السلطان فأمره أن يبعثه ويبعث الذي قبض عليه كلاهما في حكم الثقاف فلما وصلا إليه سرح الذي قبض عليه وقال للشيخ هود أين أردت أن تفر فاعتذر بعذره. فقال له السلطان: إنما أردت أن تذهب إلى الأتراك فتقول أنا ابن الشيخ بهاء الدين زكريا وقد فعل السلطان معي كذا وتأتي بهم لقتالنا، اضربوا عنقه. فضربت عنقه رحمه الله تعالى.
وكان الشيخ الصالح شمس الدين بن تاج العارفين ساكناً بمدينة كول منقطعاً للعبادة كبير القدر ودخل السلطان إلى مدينة كول فبعث عنه فلم يأته فذهب السلطان إليه ثم لما قارب منزله انصرف ولم يره واتفق بعد ذلك أن أميراً من الأمراء خالف على السلطان ببعض الجهات وبايعه الناس فنقل للسلطان أنه وقع ذكر هذا الأمير بمجلس الشيخ شمس الدين فأثنى عليه، وقال إنه يصلح للملك. فبعث السلطان بعض الأمراء إلى الشيخ فقيده وقيد أولاد وقيد قاضي كول ومحتسبها، لأنه ذكر أنهما كانا حضرين للمجلس الذي وقع فيه ثناء الشيخ على الأمير المخالف وأمر بهم فسجنوا جميعاً بعد أن سمل عيني القاضي وعيني المحتسب، ومات الشيخ بالسجن وكان القاضي والمحتسب يخرجان مع بعض السجانين فيسألان الناس ثم يردان إلى السجن. وكان قد بلغ السلطان أن أولاد الشيخ كانوا يخالطون كفار الهنود وعصاتهم ويصحبونهم فلما مات أبوهم أخرجهم من السجن وقال لهم لا تعودوا إلى ما كنتم تفعلون. فقالوا له: وما فعلنا؟ فاغتاظ من ذلك وأمر بقتلهم جميعاً، فقتلوا. ثم استحضر القاضي المذكور فقال أخبرني بمن كان يرى رأي هؤلاء الذين قتلوا ويفعل مثل أفعالهم فأملى أسماء رجال كثيرين من كبار البلد فلما عرض ما أملاه على السلطان قال هذا يحب أن يخرب البلد اضربوا عنقه. فضرب عنقه رحمه الله تعالى.
وكان الشيخ علي الحيدري ساكناً بمدينة كنباية من ساحل الهند وهو عظيم القدر شهير الذكر بعيد الصيت، ينذر له التجار بالبحر النذور الكثيرة
1 في حكم الثقاف: أي في حكم المتخاصمين.
وإذا قدموا بدأوا بالسلام عليه وكان يكاشف بأحوالهم وربما نذر أحدهم النذر وندم عليه فإذا أتى الشيخ للسلام عليه أعلمه بما نذر له وأمره بالوفاء به واتفق له ذلك مرات واشتهر به. فلما خالف القاضي جلال الأفغاني وقبيلته بتلك الجهات بلغ السلطان أن الشيخ الحيدري دعا للقاضي جلال وأعطاه شاشيته من رأسه، وذكر أيضاً أنه بايعه. فلما خرج السلطان إليهم بنفسه وانهزم القاضي جلال خلف السلطان شرف الملك أمير بحت أحد الوافدين معنا عليه بكنباية وأمره بالبحث عن أهل الخلاف وجعل معه الفقهاء يحكم بقولهم فأحضر الشيخ علي الحيدري بين يديه وثبت أنه أعطى للقائم شاشيته ودعا له فحكموا بقتله. فلما ضربه السياف لم يفعل شيئاً وعجب الناس لذلك وظنوا أنه يعفى عنه بسبب ذلك فأمر سيافاً آخر بضرب عنقه، فضربها رحمه الله تعالى.
وكان طوغان الفرغاني وأخوه من كبار أهل مدينة فرغاني فوفدا على السلطان فأحسن إليهما وأعطاهما عطاء جزيلاً وأقاما عنده مدة فلما طال مقامهما أرادا الرجوع إلا بلادهما وحاولا الفرار فوشى بهما أحد أصحابهما إلى السلطان فأمر بتوسيطهما فوسطا وأعطى للذي وشى بهما جميع مالهما. وكذلك عادتهم بتلك البلاد إذا وشى أحد بأحد وثبت ما وشى به فقتل أعطي ماله.
وكان ابن ملك التجار شاباً صغيراً لا نبات بعارضيه، فلما وقع خلاف عين الملك وقيامه وقتاله للسلطان كما سنذكره، غلب على ابن ملك التجار هذا، فكان في جملته مقهوراً فلما هزم عين الملك وقبض عليه وعلى أصحابه كان من جملتهم ابن ملك التجار وصهره ابن قطب الملك فأمر بهما فعلقا من أيدهما في خشب وأمر أبناء الملوك فرموهما بالنشاب حتى ماتا. ولما ماتا قال الحاجب خواجة أمير علي التبريزي لقاضي القضاة كمال الدين ذلك الشاب لم يجب عليه القتل. فبلغ ذلك السلطان فقال: هلا قلت هذا قبل موته؟ وأمر به فضرب مائتي مقرعة أو نحوها وسجن وأعطي جميع ماله لأمير السيافين. فرأيته في ثاني ذلك اليوم قد لبس ثيابه وجعل قلنسوته على رأسه وركب فرسه فظننت أنه هو. وأقام بالسجن شهوراً ثم سرحه ورده إلى ما كان عليه ثم غضب عليه ثانية ونفاه إلى خراسان فاستقر بهراة وكتب إليه يستعطفه فوقع له على ظهر كتابه أكرباز آمدي باز "آي" معناه إن كنت تبت فارجع فرجع إليه.
وكان قد ولي خطيب الخطباء بدهلي النظر في خزانة الجواهر في السفر فاتفق أن جاء سراق الكفار ليلاً فضربوا على تلك الخزانة وذهبوا بشيء منها. فأمر السلطان بضرب الخطيب حتى مات رحمه الله تعالى.
ومن أعظم ما كان ينقم على السلطان إجلاؤه لأهل دهلي عنها، وسبب ذلك أنهم كانوا يكتبون بطائق فيها شتمه وسبه ويختمون عليها ويكتبون عليها وحق رأس خوند عالم ما يقرؤها غيره ويرمونها بالمشور ليلاً فإذا فضها وجد فيها شتمه وسبه فعزم على تخريب دهلي واشترى من أهها جميعاً دورهم ومنازلهم ودفع لهم ثمنها وأمرهم بالانتقال عنها إلى دولة أباد فأبوا ذلك فنادى مناديه أن لا يبقى بها أحد بعد ثلاث فانتقل معظمهم واختفى بعضهم في الدور. فأمر بالبحث عمن بقي بها فوجد عبيده بأزقتها رجلين أحدهما مقعد والآخر أعمى فأتوا بهما فأمر بالمقعد فرمى به في المنجنيق وأمر أن يجر الأعمى من دهلي إلى دولة أباد مسيرة أربعين يوماً فتمزق في الطريق ووصل منه رجله. ولما فعل ذلك خرج أهلها جميعاً وتركوا أثقالهم وأمتعتهم وبقيت المدينة خاوية على عروشها. فحدثني من أثق به قال: صعد السلطان ليلة إلى سطح قصره فنظر إلى دهلي وليس بها نار ولا دخان ولا سراج فقال الآن طاب قلبي وتهدن خاطري ثم كتب إلى أهل البلاد أن ينتقلوا إلى دهلي ليعمروها. فخربت بلادهم ولم تعمر دهلي لاتساعها وصخامتها وهي من أعظم مدن الدنيا وكذلك وجدناها لما دخلنا إليها خالية ليس بها إلا قليل عمارة وقد ذكرنا كثيراً، من مآثر هذا السلطان ومما نقم عليه أيضاً، فلنذكر جملاً من الوقائع والحوادث الكائنة في أيامه.
ولما ولي السلطان الملك بعد أبيه وبايعه الناس أحضر السلطان غياث الدين بهادور بوره الذي كان أسره السلطان تغلق فمنّ عليه وفك قيوده وأجزل له العطاء من الأموال والخيل والفيلة وصرفه إلى مملكته وبعث معه ابن أخيه إبراهيم خان وعاهده على أن تكون المملكة مشاطرة بينهما وتكتب أسماؤهم معاً في السكة ويخطب لهما وعلى أن يصرف غياث الدين ابنه محمدا المعروف برباط يكون رهينة عند السلطان فانصرف غياث الدين إلى مملكته، والتزم ما شرط عليه إلا أنه لم يبعث ابنه وادعى أنه امتنع وأساء الأدب في كلامه فبعث السلطان العساكر إلى ابن أخيه إبراهيم خان وأمير هم دلجي التتري.
فقاتلوا غياث الدين فقتلوه وسلخوا جلده وحشي بالتبن وطيف به على البلاد.
وكان للسلطان تغلق ابن أخت يسمى بهاء الدين كُشْت اسبْ "بضم الكاف وسكون الشين المعجم وتاء معلوة" واسب "بالسين المهمل والباء الموحدة مسكنين"، فجعله أميراً ببعض النواحي فلما مات خاله امتنع من بيعة ابنه وكان شجاعاً بطلاً فبعث السلطان إليه العساكر فيهم الأمراء الكبار مثل الملك مجير والوزير خواجه جهان أمير على الجميع فالتقى الفرسان واشتد القتال وصبر كلا العسكريين ثم كانت الكرة لعسكر السلطان ففر بهاء الدين إلى ملك من ملوك الكفار يعرف بالرآي كنْبيلَة والرأي عندهم كمثل ما هو بلسان الروم عبارة عن السلطان وكنبيلة اسم الإقليم الذي هو به، وهو "بفتح الكاف وسكون النون وكسر الباء الموحدة وياء ولام مفتوحة" وهذا الراي له بلاد في جبال منيعة وهو من أكابر سلاطين الكفار. فلما هرب إليه بهاء الدين اتبعته عساكر السلطان وحصروا تلك البلاد واشتد الأمر على الكافر ونفد ما عنده من الزرع وخاف أن يؤخذ باليد فقال لبهاء الدين أن الحال قد بلغت لما تراه وأنا عازم على هلاك نفسي وعيالي ومن تبعني فاذهب أنت إلى السلطان فلان فابعث لسلطان من الكفار سمّاه له فأقم عنده فإنه سيمنعك وبعث معه من أوصله إليه وأمر راي كنبيلة بنار عظيمة فأججت وأحرق فيها أمتعته وقال لنسائه وبناته إني أريد قتل نفسي فمن أرادت مرافقتي فلتفعل فكانت المرأة منهن تغتسل وتدهن بالصندل والمقاصري وتقبل الأرض بين يديه وترمي بنفسها في النار حتى هلكن جميعاً وفعل مثل ذلك نساء أمرائه ووزرائه وأرباب دولته ومن أراد من سائر النساء ثم اغتسل الراي وادهن بالصندل ولبس السلاح ما عدا الدرع وفعل كفعله من أراد الموت معه من ناسه وخرجوا إلى عسكر السلطان فقاتلوا حتى قتلوا جميعاً ودخل المدينة فأسر أهلها وأسر من أولاد راي كنبيلة أحد عشر ولداً فأتي بهم السلطان فأسلموا جميعاً، وجعلهم السلطان أمراء وأعظمهم لأصالتهم ولفعل أبيهم. فرأيت عنده منهم نصراً وبختيار والمهردار وهو صاحب الخاتم الذي يختم به على الماء الذي يشرب السلطان منه وكنيته أبو مسلم وكانت بيني وبينه صحبة ومودة. ولما قتل راي كنبيلة توجهت عساكر السلطان إلى بلد الكافر الذي لجأ إليه بهاء الدين وأحاطوا به فقال ذلك السلطان أنا لا أقدر على أن أفعل ما فعله راي كنبيلة فقبض على بهاء الدين وأسلمه إلى عسكر السلطان فقيدوه وغلوه وأتوا
به إليه فلما أتي به إليه أمر بإدخاله إلى قرابته من النساء فشتمنه وبصقن في وجهه وأمر بسلخه وهو بقيد الحياة فسلخ وطبخ لحمه مع الأرز وبعث لأولاده وأهله وجعل باقيه على صحفة وطرح للفيلة لتأكله فأبت أكله وأمر بجلده فحشي بالتبن وقرن بجلد بهادور بوره وطيف بهما على البلاد فلما وصلا إلى بلاد السند وأمير أمرائها يومئذ كشلوخان صاحب السلطان تغلق ومعينه على أخذ الملك وكان السلطان يعظمه ويخاطبه بالعم ويخرج لاستقباله إذا وفد من بلاده أمر كشلو خان بدفن الجلدين فبلغ ذلك السلطان فشق عليه فعله وأراد الفتك به.
ولما اتصل بالسلطان ما كان من فعله في دفن الجلدين بعث عنه وعلم كشلوخان أنه يريد عقابه فامتنع وخالف وأعطى الأموال وجمع العساكر وبعث إلى الترك والأفغان وأهل خراسان فأتاه منهم العدد الجم حتى كافأ عسكره عسكر السلطان أو أربى عليه كثرة. وخرج السلطان بنفسه لقتاله فكان اللقاء على مسيرة يومين من ملتان بصحراء أبو هر وأخذ السلطان بالحزم عند لقائه فجعل تحت الشطر عوضاً منه الشيخ عماد الدين شقيق الشيخ ركن الدين الملتاني وهو حدثني هذا وكان شبيهاً به. فلما حمي القتال انفرد السلطان في أربعة آلاف من عسكره، وقصد عسكر كشلوخان الشطر معتقدين أن السلطان تحته، فقتلوا عماد الدين، وشاع في العسكر أنّ السلطان قتل. فاشتغل عساكر كشلو خان بالنهب وتفرقوا عنه ولم يبق معه إلا القليل فقصده السلطان بمن معه فقتله وجز رأسه وعلم بذلك جيشه ففروا. ودخل السلطان مدينة ملتان وقبض على قاضيها كريم الدين وأمر بسلخه فسلخ. وأمر برأس كشلوخان فعلق على بابه وقد رأيته معلقاً لما وصلت إلى ملتان. وأعطى السلطان للشيخ ركن الدين أخي عماد الدين ولابنه صدر الدين مائة قرية إنعاماً عليهم ليأكلوا منها وينعموا بزاويتهم المنسوبة لجدهم بهاء الدين زكريا وأمر السلطان وزيره خواجه جهان أن يذهب إلى مدينة كمال بور وهي مدينة كبيرة على ساحل البحر وكان أهلها قد خالفوا فأخبرني بعض الفقهاء أنه حضر دخول الوزير إياها قال وأحضر بين يديه القاضي بهاء والخطيب فأمر بسلخ جلودهما. فقالا له اقتلنا بغير ذلك، فقال لهما بما استوجبتما القتل فقالا: بمخالفتنا أمر السلطان. فقال لهما فكيف أخالف أنا أمره وقد أمرني أن أقتلكما بهذه القتلة. وقال للمتولين لسلخهما احفروا لهما حفرا تحت وجهيهما يتنفسان فيها. فإنهم إذا سلخوا