المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌خبر ثورة هلاجون: - رحلة ابن بطوطة ط دار الشرق العربي - جـ ٢

[ابن بطوطة]

الفصل: ‌خبر ثورة هلاجون:

مطروحاً فسلخ وكذلك فعل بهؤلاء. وخرجت من دار السلطان بعد المغرب فرأيت الكلاب تأكل لحومهم وقد ملئت جلودهم بالتبن والعياذ بالله. ولما تجهز السلطان لهذه الحركة أمرني بالإقامة بالحضرة كما سنذكره. ومضى في سفره إلى أن بلغ دولة آباد فثار الأمير هلاجون ببلاده، وخرج ذلك. وكان الوزير خوجه جهان قد بقي أيضا بالحضرة لحشد الحشود وجمع العساكر.

ص: 378

‌خبر ثورة هلاجون:

ولما بلغ السلطان إلى دولة آباد، وبعد عن بلاده، ثار الأمير هلاجون بمدينة لاهور، وادعى الملك وساعده الأمير قلجند على ذلك، وصيّره وزيراً له واتصل ذلك بالوزير خواجه جهان وهو بدلهي فحشد الناس وجمع العساكر وجمع الخراسانيين، وكل من كان مقيماً من الخدام بدهلي أخذ أصحابه، وأخذ في الجملة أصحابي لأني كنت بها مقيماً وأعانه السلطان بأميرين كبيرين أحدهما قيران ملك صفدار ومعناه مرتب العساكر، والثاني الملك تمور الشربدار وهو الساقي. وخرج هلاجون بعساكره فكان اللقاء على ضفة أحد الأودية الكبار فانهزم هلاجون وهرب وغرق كثير من عسكره في النهر. ودخل الوزير المدينة فسلخ بعض أهلها وقتل آخرين بغير ذلك من أنواع القتل. وكان الذي تولى قتلهم محمد بن النجيب نائب الوزير وهو المعروف بأجدر ملك ويسمى أيضاً صك "سك" السلطان والصك عندهم الكلب. وكان ظالماً قاسي القلب ويسميه السلطان أسد الأسواق. وكان ربما عض أرباب الجنايات بأسنانه شرهاً وعدواناً. وبعث الوزير من نساء المخالفين نحو ثلاثمائة إلى حصن كاليور فسجن به. ورأيت بعضهن هنالك وكان أحد الفقهاء له فيهن زوجة فكان يدخل إليها حتى ولدت منه في السجن.

ولما وصل السلطان إلى بلاد التلنك، وهو قاصد إلى قتال الشريف ببلاد المعبر، نزل مدينة بَدْرَكُوت "وضبط اسمها بفتح الباء الموحدة وسكون الدال وفتح الراء وضم الكاف وواو وتاء معلوة" وهي قاعدة بلاد التِلِنْك "وضبطها بكسر التاء المعلوة واللام وسكون النون وكاف معقودة" وبينها وبين بلاد المعبر مسيرة ثلاثة أشهر. ووقع الوباء إذ ذاك في عسكره فهلك معظمهم ومات العبيد والمماليك وكبار الأمراء مثل ملك دولة شاه الذي كان السلطان يخاطبه بالعم،

ص: 378

ومثل أمير عبد الله الهروي وقد تقدمت حكايته في السفر الأول وهو الذي أمره السلطان أن يرفع من الخزانة ما استطاع من المال فربط ثلاث عشرة خريطة بأعضاده ورفعها. ولما رأى السلطان ما حل بالعسكر عاد إلى دولة آباد وخالفت البلاد وانتقضت الأطراف وكاد الملك يخرج عن يده لولا ما سبق به القدر من استحكام سعادته.

ولما عدا السلطان إلى دولة آباد مرض في طريقه، فأرجف الناس بموته وشاع ذلك، فنشأت عنه فتن عريضة وكان الملك هنوشنج بن الملك كمال الدين كرك بدولة آباد وكان بينه وبين السلطان عهد أن لا يبايع غيره أبداً لا في حياته ولا بعد موته فلما أرجف بموت السلطان هرب إلى سلطان كافر يسمى بُربَرة يسكن بجبال مانعة بين دولة آباد وكوكن تانه، فعلم السلطان بفراره وخاف وقوع الفتنة فجد السير إلى دولة آباد واقتفى أثر هوشنج وحصره بالخيل وراسل للكافر أن يسلمه إليه فأبى وقال لا أسلم دخيلي ولو آل بين الأمر لما آل براي كنبيلة وخاف هوشنج على نفسه فراسل السلطان وعاهده على أن يرحل السلطان إلى دولة آباد ويبقى هنالك قطلوخان معلم السلطان ليستوثق منه هوشنج وينزل إليه على الأمان فرحل السلطان ونزل هوشنج إلى قطلوخان وعاهده أن لا يقتله السلطان ولا يحط منزلته وخرج بماله وعياله وأصحابه وقدم على السلطان فسر بقدومه وأرضاه وخلع عليه. وكان قطلوخان صاحب عهد يستنيم الناس إليه ويقولون في الوفاء عليه. ومنزلته عند السلطان عليّة، وتعظيمه له شديدٌ ومتى دخل عليه قام له إجلالاً. فكان بسبب ذلك لا يدخل عليه حتى يكون هو الذي يدعوه لئلا يتعبه بالقيام له وهو محب في الصدقات كثير الإيثار، مولع بالإحسان للفقراء والمساكين.

وكان الشريف إبراهيم المعروف بالخريطة دار وهو صاحب الكاغد والأقلام بدار السلطان والياً على بلاد حانسي وسرستي. لما تحرك السلطان إلى بلاد المعبر وأبوه هو القائم ببلاد المعبر الشريف أحسن شاه فلما أرجف بموت السلطان طمع إبراهيم في السلطنة، وكان شجاعاً كريماً حسن الصورة. وكنت متزوجاً بأخته حور نسب، وكانت صالحة تتهجد بالليل ولها أوراد من ذكر الله عز وجل، وولدت مني بنتاً، ولا أدري ما فعل الله فيهما. وكانت تقرأ لكنها لا تكتب. فلما همّ إبراهيم بالثورة اجتاز به أمير من أمراء السند معه الأموال

ص: 379

يحملها إلى دهلي. فقال له إبراهيم: إن الطريق مخوف وفيه القطع فأقم عندي حتى يصلح الطريق وأوصلك إلى المأمن وكان قصده أن يتحقق موت السلطان فيستولي على تلك الأموال فلما تحقق حياته سرح ذلك الأمير وكان يسمى ضياء الملك بن شمس الملك. ولما وصل السلطان إلى الحضرة بعد غيبته سنتين ونصف وصل الشريف إبراهيم إليه فوشى به بعض غلمانه وأعلم السلطان بما كان هم به فأراد السلطان أن يعجل بقتله ثم تأنى لمحبته فيه فاتفق أن أتي يوماً إلى السلطان بغزال مذبوح فنظر إلى ذبحته، فقال: ليس بجيد الذكاة اطرحوه فرآه إبراهيم فقال أن ذكاته جيدة وأنا آكله فأخبر السلطان بقوله فأنكر ذلك وجعله ذريعة إلى أخذه فأمر به فقيد وغل ثم قرّره على ما رمى به من أنه أخذ الأموال التي مر بها ضياء الملك وعلم إبراهيم أنه إنما يريد قتله بسبب أبيه وأنه لا تنفعه معذرة وخاف أن يعذب فرأى الموت خيراً له فأقر بذلك. فأمر به فوسط وترك هنالك. وعادتهم أنه متى قتل السلطان أحداً أقام مطروحاً بموضع قتله ثلاثاً فإذا كان بعد الثلاث أخذه طائفة من الكفار موكلون بذلك فحملوه إلى خندق خارج المدينة يطرحونه به وهم يسكنون حول الخندق لئلا يأتي أهل المقتول فيرفعونه وربما أعطى بعضهم لهؤلاء الكفار مالاً فتجافوا له عن قتيله حتى يدفنه وكذلك فعل بالشريف إبراهيم رحمه الله تعالى.

ولما عاد السلطان من التِلِنْك وشاع خبر موته، وكان ترك تاج الملك نصرة خان نائباً عنه ببلاد التلنك وهو من قدماء خواصه بلغه ذلك فعمل عزاء السلطان ودعا لنفسه وبايعه الناس بحضرة بدَرْكُوت فبلغ خبره إلى السطان فبعث معلمه قطلوخان في عساكر عظيمة فحصره بعد قتال شديد هلك فيه أمم من الناس واشتد الحصار على أهل بَدَرْكوت وهي منيعة وأخذ قطلوخان في نقبها فخرج إليه نصرة خان على الأمان في نفسه فأمنه وبعث به إلى السلطان وأمن أهل المدينة والعسكر.

ولما استولى القحط على البلاد انتقل السلطان بعساكره إلى نهر الكنك الذي تحج إليه الهنود على مسيرة عشرة من دهلي أمر الناس بالبناء وكانوا قبل ذلك صنعوا خياماً من حشيش الأرض فكانت النار كثيراً ما تقع فيها وتؤذي الناس حتى كانوا يصنعون كهوفاً تحت الأرض فإذا وقعت النار رموا أمتعتهم

ص: 380

بها وسدوا عليها التراب. ووصلت أنا في تلك الأيام لمحلة السلطان وكانت البلاد التي بغربي النهر حيث السلطان شديدة القحط والبلاد التي بشرقيه خصبة وأميرها عين الملك بن ماهر. ومنها مدينة عوض ومدينة ظفر أباد ومدينة اللكنو وغيرها. وكان الأمير عين الملك كل يوم يحضر خمسين ألف منّ، منها قمح وأرز وحمص لعلف الدواب. فأمر السلطان أن تحمل الفيلة ومعظم الخيل والبغال إلى الجهة الشرقية المخصبة لترعى هنالك وأوصى عين الملك بحفظها. وكان لعين الملك أربعة إخوة وهم شهر الله ونصر الله وفضل الله ولا أذكر اسم الآخر فاتفقوا مع أخيهم عين الملك على أن يأخذوا فيلة السلطان ودوابه ويبايعوا عين الملك ويقوموا على السلطان وهرب إليهم عين الملك بالليل وكاد الأمر يتم لهم. ومن عادة ملك الهند أنه يجعل مع كل أمير كبير أو صغير مملوكاً له يكون عيناً عليه ويعرفه بجميع حاله ويجعل أيضاً جواري في الدور يكن عيوناً له على أمرائه ونسوة يسميهن الكناسات يدخلن الدور بلا استئذان يخبرهن الجواري بما عندهن فيخبر الكناسات بذلك لملك المخبرين فيخبر بذلك السلطان. ويذكرون أن بعض الأمراء كان في فراشه مع زوجته فأراد مماستها فحلفته برأس السلطان أن لا يفعل فلم يسمع منها فبعث عنه السلطان صباحاً وأخبره بذلك وكان سبب هلاكه. وكان للسلطان مملوك يعرف بابن ملك شاه هو عين على عين الملك المذكور فأخبر السطان بفراره وجوازه النهر فسقط في يده وظن أنها القاضية عليه لأن الخيل والفيلة والزرع كل ذلك عند عين الملك وعساكر السلطان مفترقة فأراد أن يقصد حضرته ويجمع العساكر وحينئذ يأتي لقتاله وشاور أرباب الدولة في ذلك وكان أمراء خراسان والغرباء أشد الناس خوفاً من هذا القائم لأنه هندي وأهل الهند مبغضون في الغرباء لإظهار السلطان لهم فكرهوا ما ظهر له. وقالوا: يا خوند عالم إن فعلت ذلك بلغه الخبر فاشتد أمره ورتب العساكر وانثال عليه طلاب الشر ودعاة الفتن والأولى معاجلته قبل استحكام قوته. وكان أول من تكلم بهذا ناصر الدين مطهر الأوهري ووافقه جميعهم فعمل السلطان بإشارتهم وكتب تلك الليلة إلى من قرب منه من الأمراء والعساكر فأتوا من حينهم وأدار في ذلك حيلة حسنة فكان إذا قدم على محلته مثلاً مائة فارس بعث الآلاف من عنده للقائهم ليلاً ودخلوا معهم إلى المحلة كأن جميعهم مدد له. وتحرّك السلطان مع ساحل النهر ليجعل مدينة قنوج وراء ظهره ويتحصن بها لمنعتها وحصانتها وبينها

ص: 381

وبين الموضع الذي كان فيه ثلاثة أيام فرحل أول مرحلة وقد عبأ جيشه للحرب وجعلهم صفا واحداً عند نزولهم كل واحد منهم بين يديه سلاحه وفرسه إلى جانبه ومعه خباء صغير يأكل به ويتوضأ ويعود إلى مجلسه والمحلة الكبرى على بعد منهم ولم يدخل السلطان في تلك الأيام الثلاثة خباء ولا استظل بظل. وكنت في يوم منها بخبائي فصاح بي فتى من فتياني اسمه سنبل واستعجلني وكان معي الجواري فخرجن إليه فقال إن السلطان أمر الساعة أن يقتل كل من معه امرأته أو جاريته فشفع عنده الأمراء فأمر أن لا تبقى الساعة بالمحلة امرأة وأن يحملن إلى حصن هنالك على ثلاثة أميال يقال له كنبيل. فلم تبق امرأة بالمحلة ولا مع السلطان. وبتنا تلك الليلة على تعبئة فلما كان اليوم الثاني رتب السلطان عسكره أفواجاً وجعل مع كل فوج الفيلة المدرعة عليها الأبراج فوقها المقاتلة وتدرع العسكر وتهيئوا للحرب وباتوا تلك الليلة على أهبة ولما كان اليوم الثالث بلغ الخبر بأنّ عين الملك الثائر أجاز النهر فخاف السلطان من ذلك وتوقع أنه لم يفعله إلا بعد مراسلة الأمراء الباقين مع السلطان فأمر في الحين بقسم الخيل العتاق على خواصه وبعث إلي حظاً منها وكان لي صاحب يسمى أمير أميران الكرماني من الشجعان فأعطيته فرساً منها أشهب اللون فلما حرّكه جمح به فلم يستطع إمساكه ورماه عن ظهره فمات رحمه الله تعالى. وجد السلطان ذلك اليوم في مسيره فوصل بعد العصر إلى مدينة قنوج وكان يخاف أن يسبقه القائم إليها وبات ليلته تلك يرتّب الناس بنفسه. ووقف علينا ونحن في المقدمة مع ابن عمه ملك فيروز ومعنا الأمير غدا بن مهنا والسيد ناصر الدين مطهر وأمراء خراسان فأضافنا إلى خواصه. وقال: أنتم أعزة عليّ ما ينبغي أن تفارقوني وكان في عاقبة ذلك الخير فإن القائم ضرب في آخر الليل على المقدمة وفيها الوزير خواجة جهان فقامت ضجة في الناس كبيرة فحينئذ أمر السلطان أن لا يبرح أحد عن مكانه ولا يقاتل الناس إلا بالسيوف فاستل العسكر سيوفهم ونهضوا إلى أصحابهم وحمي القتال وأمر الناس أن يكون شعار جيشه دهلي وغزنة فإذا لقي أحدهم فارساً قال له دهلي فإن أجابه بغزنة علم أنه من أصحابه وإلا قاتله. وكان القائم إنما قصد أن يضرب على موضع السلطان فاخطأ به الدليل فقصد موضع الوزير فضرب عنق الدليل. وكان في عسكر الوزير الأعاجم والترك والخراسانيون، وهم أعداء الهنود فصدقوا القتال. وكان جيش القائم

ص: 382

نحو الخمسين ألفاً، فانهزموا عند طلوع الفجر. وكان الملك إبراهيم المعروف بالبَنْجي "بفتح الباء الموحدة وسكون النون وجيم" التتري قد أقطعه السلطان بلاد سنديلة وهي قرية من بلاد عين الملك فاتفق معه على الخلاف وجعله نائبه وكان داود بن قطب الملك وابن ملك التجار على فيلة السلطان وخيله فوافقاه أيضاً وجعل داود حاجبه وكان داود هذا لما ضربوا على محلة الوزير يجهر بسب السلطان ويشتمه أقبح شتم والسلطان يسمع ذلك ويعرف كلامه. فلما وقعت الهزيمة قال عين الملك لنائبه إبراهيم التتري: ماذا ترى يا ملك إبراهيم قد فر أكثر العسكر وذو النجدة منهم فهل لك أن ننجوا بأنفسنا فقال إبراهيم لأصحابه بلسانهم إذا أراد عين الملك أن يفر فإني سأقبض على دبوقته فإذا فعلت ذلك فاضربوا أنتم فرسه ليسقط إلى الأرض فنقبض عليه ونأتي به السلطان ليكون ذلك كفارة لذنبي في الخلاف معه وسبباً لخلاصي. فلما أراد عين الملك الفرار قال له إبراهيم إلى أين يا سلطان علاء الدين؟ وكان يسمى بذلك وأمسك بدبوقته وضرب أصحابه فرسه فسقط على الأرض ورمى إبراهيم بنفسه عليه فقبضه وجاء أصحاب الوزير ليأخذوه فمنعهم وقال لا أتركه حتى أوصله للوزير أو أموت دون ذلك فتركوه فأوصله إلى الوزير وكنت أنظر عند الصبح إلى الفيلة والأعلام يؤتى بها إلى السلطان ثم جاءني بعض العراقيين فقال قد قبض على عين الملك وأتي به الوزير فلم أصدقه فلم يمر إلا يسير وجاءني الملك تمور الشربدار فأخذ بيدي وقال ابشر فقد قبض على عين الملك وهو عند الوزير. فتحرك السلطان عند ذلك ونحن معه إلى محلة عين الملك على نهر الكنك فنهبت العساكر ما فيها واقتحم كثير من عسكر عين الملك النهر فغرقوا وأخذ داود بن قطب الملك وابن ملك التجار وخلق كثير معهم ونهبت الأموال والخيل والأمتعة. ونزل السلطان على المجاز وجاء الوزير بعين الملك وقد أركب على ثور وهو عريان مستور العورة بخرقة مربوطة بحبل وباقية في عنقه، فوقف على باب السراجة ودخل الوزير إلى السطان فأعطاه الشربة عناية به. وجاء أبناء الملوك إلى عين الملك فجعلوا يسبونه ويبصقون في وجهه ويصفعون أصحابه وبعث إليه السلطان الملك الكبير فقال له ما هذا الذي فعلت فلم يجد جواباً فأمر به السلطان أن يكسى ثوباً من ثياب الزمالة وقيد بأربعة كبول وغلت يداه إلى عنقه وسلم للوزير ليحفظه وجاز إخوته النهر هاربين، ووصلوا مدينة عوض فأخذوا أهلهم وأولادهم وما قدروا عليه

ص: 383

من المال، وقالوا لزوجة أخيهم عين الملك: اخلصي بنفسك، وبنوك معنا. فقالت: أفلا أكون كنساء الكفار اللائي يحرقن أنفسهن مع أزواجهن فأنا أيضا أموت لموت زوجي وأعيش لعيشه فتركوها. وبلغ ذلك السلطان فكان سبب خيرها وأدركته لها رقة. وأدرك الفتى سهيل نصر الله من أولئك الإخوة فقتله وأتى السلطان برأسه وأتي بأم عين الملك وأخته وامرأته فسلمن إلى الوزير وجعلن في خباء بقرب خباء عين الملك فكان يدخل إليهن ويجلس معهن ويعود إلى محبسه. ولما كان بعد العصر من يوم الهزيمة أمر السلطان بسرح لفيف من الناس الذين مع عين الملك من الزمالة والسوقة والعبيد ومن لا يعبأ به. وأتي بملك إبراهيم البنجي الذي ذكرناه. فقال ملك العسكر الملك نوا: يا خوند عالم أقتل هذا فإنه من المخالفين. فقال الوزير: إنه قد فدى نفسه بالقائم. فعفى عنه السلطان وسرحه إلى بلاده.

ولما كان بعد المغرب جلس السلطان ببرج الخشب وأتي باثنين وستين رجلاً من كبار أصحاب القائم وأتي بالفيلة فطرحوا بين أيديها فجعلت تقطعهم بالحدائد الموضوعة على أنيابها وترمي ببعضهم إلى الهواء وتتلقفه والأبواق والأنفار والطبول تضرب عند ذلك وعين الملك واقف يعاين مقتلهم ويطرح منهم عليه، ثم أعيد إلى محبسه.

وأقام السلطان على جواز النهر أيام لكثرة الناس وقلة القوارب وأجاز أمتعته وخزائنه على الفيلة وفرق الفيلة على خواصه ليجيزوا أمتعتهم. وبعث إلي بفيل منها أجزت عليه رحلي وقصد السلطان ونحن معه إلى مدينة بهرايج وهي مدينة حسنة في عدوة نهر السرو وهو واد كبير شديد الانحدار وأجازه السلطان برسم زيارة قبر الشيخ الصالح البطل سالار عود الذي فتح أكثر تلك البلاد وله أخبار عجيبة وغزوات شهيرة وتكاثر الناس للجواز وتزاحموا حتى غرق مركب كبير كان فيه نحو ثلاثمائة نفس لم ينج منهم إلا عربي من أصحاب الأمير غدا وكنا ركبنا نحن مركباً صغيراً فسلمنا الله تعالى. وكان العربي الذي سلم من الغرق يسمى بسالم وذلك اتفاق عجيب.

وكان أراد أن يصعد معنا في مركبنا، فوجدنا قد ركبنا النهر، فركب في المركب الذي غرق. فلما خرج ظن الناس أنه كان معنا. فقامت ضجة في

ص: 384

أصحابنا وفي سائر الناس وتوهموا أنا غرقنا ثم لما رأونا بعد استبشروا بسلامتنا. وزرنا قبر الصالح المذكور وهو في قبة لم نجد سبيلاً إلى دخولها لكثرة الزحام. وفي تلك الوجهة دخلنا غيضة قصب فخرج علينا منها الكركدن فقُتل وأتى الناس برأسه وهو دون الفيل ورأسه أكبر من رأس الفيل بأضعاف وقد ذكرناه.

ولما ظفر السلطان بعين الملك كما ذكرنا عاد إلى حضرته بعد مغيب عامين ونصف. وعفا عن عين الملك وعفا أيضاً عن نصرة خان القائم ببلاد التِلِنك وجعلهما معاً على عمل واحدٍ وهو النظر على بساتين السلطان وكساهما وأركبهما وعيّن لهما نفقة من الدقيق واللحم في كل يوم وبلغ الخبر بعد ذلك أنّ أحد أصحاب قطلوخان وهو علي شاه كر، ومعنى كر: الأطرش خالف على السلطان. وكان شجاعاً حسن الصورة والسيرة. فغلب على بدركوت وجعلها مدينة ملكه وخرجت العساكر إليه وأمر السلطان معلمه أن يخرج إلى قتاله فخرج في عساكر عظيمة وحصره ببدركوت ونقبت أبراجها واشتدت به الحال فطلب الأمان فأمنه قطلوخان وبعث به إلى السلطان مقيداً فعفا عنه ونفاه إلى مدينة غزنة من طرف خراسان فأقام بها مدة ثم اشتاق إلى وطنه فأراد العودة إليه لما قضاه الله من حينه فقبض عليه ببلاد السند وأتي به السلطان فقال له: إنما جئت لتثير الفساد ثانية وأمر به فضربت عنقه.

وكان السلطان قد وجد على أمير بخت الملقب بشرف الملك أحد اللذين وفدوا معنا على السلطان فحط مرتبه من أربعين ألفاً إلى ألف واحد، وبعثه في خدمة الوزير إلى دهلي. واتفق أن مات أمير عبد الله الهروي في الوباء في التلنك وكان ماله عند أصحابه بدهلي فاتفقوا مع أمير بخت على الهروب فلما خرج الوزير من دهلي إلى لقاء السلطان هربوا مع أمير بخت وأصحابه ووصلوا إلى أرض السند في سبعة أيام وهي مسيرة أربعين يوماً وكانت معهم الخيل مجنوبة وعزموا على أن يقطعوا نهر السند عوماً ويركب أمير بخت وولده ومن لا يحسن العوم في معدية قصب يصنعونها وكانوا قد أعدوا حبالاً من الحرير برسم ذلك فلما وصلوا إلى النهر خافوا من عبوره بالعوم فبعثوا رجلين منهم إلى جلال الدين صاحب مدينة أوجة فقالا له: أن ها هنا تجاراً أرادوا أن يعبروا النهر وقد بعثوا إليك بهذا السرج لتبيح لهم الجواز، فأنكر

ص: 385

الأمير أن يعطي التجار مثل ذلك السرج وأمر بالقبض على الرجلين ففر أحدها ولحق بشرف الملك وأصحابه وهم نيام لما لحقهم من الإعياء ومواصلة السهر. فأخبرهم الخبر فركبوا مذعورين وفروا. وأمر جلال الدين بضرب الرجل الذي قبض عليه فاعترف بقضية شرف الملك فأمر جلال الدين نائبه فركب في العسكر وقصدوا نحوهم فوجدوهم قد ركبوا فاقتفوا أثرهم فأدركوهم فرموا العسكر بالنشاب ورمى طاهر بن شرف الملك نائب الأمير جلال الدين بسهم فأثبته في ذراعه وغلب عليهم فأتي بهم إلى جلال الدين فقيدهم وغلّ أيديهم وكتب إلى الوزير في شأنهم فأمره الوزير أن يبعثهم إلى الحضرة فبعثهم إليها وسجنوا بها. فمات طاهر في السجن. وأمر السلطان أن يضرب شرف الملك مائة مقرعة في كل يوم فبقي على ذلك مدة ثم عفا عنه وبعثه مع الأمير نظام الدين أمير نجلة إلى بلاد جنديري فانتهت حاله إلى أن كان يركب البقر ولم يكن له فرس يركبه وأقام على ذلك مدة ثم وفد ذلك الأمير على السلطان وهو معه فجعله السلطان شاشنكير "جاشنكير" وهو الذي يقطع اللحم بين يدي السلطان ويمشي مع الطعام ثم إنه بعد ذلك نوه به ورفع مقداره وانتهت حاله إلى أن مرض فزاره السلطان وأمر بوزنه بالذهب وأعطاه ذلك وقد قدمنا هذه الحكاية في السفر الأول وبعد ذلك زوّجه بأخته وأعطاه بلاد جنديري التي كان يركب بها البقر في خدمة الأمير نظام الدين. فسبحان مقلب القلوب ومحول الأحوال.

كان شاه أفغان خالف على السلطان بأرض ملتان من بلاد السند وقتل الأمير بها، وكان يسمى بِهْ زَاد، وادعى السلطنة لنفسه. وتجهز السلطان لقتاله فعلم أنه لا يقاومه فهرب ولحق بقومه الأفغان وهم ساكنون بجبال منيعة لا يقدر عليها. فاغتاظ السلطان مما فعله وكتب إلى عماله أن يقبضوا على من وجدوه من الأفغان ببلاده فكان ذلك سببا لخلاف القاضي جلال.

وكان القاضي جلال وجماعة من الأفغانيين قاطنين بمقربة من مدينة كنباية ومدينة بلوذرة، فلما كتب السلطان إلى عماله بالقبض على الأفغانيين كتب إلى ملك مقبل نائب الوزير ببلاد الجزرات ونهر واله أن يحتال في القبض على القاضي جلال ومن معه وكانت بلوذرة إقطاعاً لملك الحكماء وكان ملك الحكماء متزوجاً بربيبة السلطان زوجة أبيه تغلق ولها بنت من تغلق هي التي

ص: 386

تزوجها الأمير غدا. وملك الحكماء إذ ذاك في صحبة مقبل لأن بلاده تحت نظره فلما وصلوا إلى بلاد الجزرات أمر مقبل ملك الحكماء أن يأتي بالقاضي جلال وأصحابه فلما وصل ملك الحكماء إلى بلاده حذرهم في خفية لأنهم كانوا من أهل بلاده. وقال أن مقبلاً طلبكم ليقبض عليكم فلا تدخلوا عليه إلا بالسلاح فركبوا في نحو ثلاثمائة مدرع وأتوه، وقالوا: لا ندخل إلا جملة فظهر له أنه لا يمكن القبض عليهم وهم مجتمعون وخاف منهم فأمرهم بالرجوع وأظهر تأمينهم فخالفوا عليه ودخلوا مدينة كنباية ونهبوا خزانة السلطان بها وأموال الناس ونهبوا مال ابن الكومي التاجر وهو الذي عمر المدرسة الحسنة بإسنكدرية وسنذكره إثر هذا. وجاء ملك مقبل لقتالهم فهزموه هزيمة شنيعة وجاء الملك عزيز الخمار والملك جهان بنبل لقتالهم في سبعة آلاف من الفرسان فهزموهم أيضاً وتسامع بهم أهل الفساد والجرائم فانثالوا عليهم وادعى القاضي جلال السلطنة وبايعه أصحابه وبعث السلطان إليه العساكر فهزمها وكان بدولة أباد جماعة من الأفغان فخالفوا أيضاً.

وكان ابن الملك مل ساكنا بدولة آباد في جماعة من الأفغان فكتب السلطان إلى نائبه بها وهو نظام الدين أخو معلمه قطلوخان أن يقبض عليهم وبعث إليه بأحمال كثيرة من القيود والسلاسل وبعث بخلع الشتاء. وعادة ملك الهند أن يبعث لكل أمير على مدينة لوجوه عسكره خلعتين في السنة خلعة الشتاء وخلعة الصي. وإذا جاءت الخلع يخرج الأمير والعساكر للقائها فإذا وصلوا إلى الآتي بها نزلوا عن دوابهم وأخذ كل واحد خلعته وحملها على كتفه وخدم لجهة السلطان وكتب السلطان لنظام الدين إذا خرج الأفغان ونزلوا عن دوابهم لأخذ الخلع فاقبض عليهم عند ذلك. وأتى أحد الفرسان الذي أوصلوا الخلع إلى الأفغان فأخبرهم بما يراد بهم فكان نظام الدين ممن احتال فانعكست عليه فركب وركب الأفغان معه حتى إذا لقوا الخلع ونزل نظام الدين عن فرسه حملوا عليه وعلى أصحابه فقبضوا عليه وقتلوا كثيراً من أصحابه ودخلوا المدينة فأخذوا الخزائن وقدموا على أنفسهم ناصر الدين بن ملك مل وانثال عليهم المفسدون فقويت شوكتهم.

ولما بلغ السلطان ما فعله الأفغان بكنباية ودولة آباد خرج بنفسه وعزم على أن يبدأ بكنباية ثم يعود إلى دولة آباد وبعث أعظم ملك البايزيدي صهره في أربعة

ص: 387

آلاف مقدمة فاستقبلته عساكر القاضي جلال فهزموه وحصروه ببلوذرة وقاتلوه بها. وكان في عسكر القاضي جلال شيخ يسمى جلول وهو أحد الشجعان فلا يزال يفتك في العساكر ويقتل ويطلب المبارزة فلا يتجاسر أحد على مبارزته واتفق يوماً أنه دفع فرسه فكبا به في حفرة فسقط عنه وقتل. ووجدوا عليه درعين فبعثوا برأسه إلى السلطان وصلبوا جسده بسور بلوذرة وبعثوا يديه ورجليه إلى البلاد ثم وصل السلطان بعساكره فلم يكن للقاضي جلال من ثبات ففر في أصحابه وتركوا أموالهم وأولادهم فنهب ذلك كله ودخلت المدينة وأقام بها السلطان أياماً ثم رحل عنها وترك بها صهره شرف الملك أمير بخت الذي قدمنا ذكره وقضية فراره وأخذه بالسند وسجنه وما جرى عليه من الذل ثم من العز وأمره بالبحث عمن كان في طاعة جلال الدين وترك معه الفقهاء ليحكم بأقوالهم فأدى ذلك إلى قتل الشيخ على الحيدري حسبما قدمناه. ولما هرب القاضي جلال لحق بناصر الدين بن ملك مل بدولة آباد ودخل في جملته فأتى السلطان بنفسه إليهم واجتمعوا في نحو أربعين ألفاً من الأفغان والترك والهنود والعبيد وتحالفوا على أن لا يفروا وأن يقاتلوا السلطان وأتى السلطان لقتالهم ولم يرفع الشطر الذي هو علامة عليه فلما استحرّ القتال رفع الشطر ولما عاينوه دهشوا وانهزموا أقبح هزيمة ولجأ ابن ملك مل والقاضي جلال في نحو أربعمائة من خواصهما إلى قلعة الدويقير وسنذكرها. وهي من أمنع القلاع في الدنيا واستقر السلطان بمدينة دولة آباد والدويقير هي قلعتها. وبعث لهم أن ينزلوا على حكمه فأبوا أن ينزلوا إلا على الأمان فأبى السلطان أن يؤمنهم وبعث لهم الأطعمة تهاوناً بهم وأقام هنالك وعلى ذلك آخر عهدي بهم.

كان تاج الدين بن الكولمي من كبار التجار فوفد على السلطان من أرض الترك بهدايا جليلة منها المماليك والجمال والمتاع والسلاح والثياب فأعجب السلطان فعله وأعطاه اثني عشر لكاً. ويذكر أنه لم تكن قيمة هديته إلاّ لكاً واحداً وولاه مدينة كنباية وكانت لنظر الملك المقبل نائب الوزير فوصل إليها وبعث المراكب إلى بلاد المليبار وجزيرة سيلان وغيرها وجاءته التحف والهدايا في المراكب وفخمت حاله. ولما لم يبعث أموال تلك الجهات إلى الحضرة بعث الملك مقبل إلى ابن الكولمي أن يبعث ما عنده من الهدايا والأموال مع هدايا تلك الجهات على العادة امتنع ابن الكولمي من ذلك وقال: أنا أحملها بنفسي أو أبعثها مع خدامي ولا حكم لنائب الوزير علي ولا

ص: 388

للوزير، واغتر بما أولاه السلطان من الكرامة والعطية فكتب مقبل إلى الوزير بذلك فوقع له الوزير على ظهر كتابه إن كنت عاجزاً عن بلادنا فاتركها وارجع إلينا.

ولما وصله الجواب تجهز في عسكره ومماليكه والتقيا بظاهر كنباية فانهزم ابن الكولمي وقتل جماعة من الفريقين واستخفى ابن الكولمي في دار الناخوذة "الناخذا" إلياس أحد كبراء التجار.

ودخل مقبل فضرب رقاب أمراء عسكر ابن الكولمي، وبعث له الأمان نظير أن يأخذ ماله المختص به ويترك مال السلطان وهديته مجبى البلد، وبعث مقبل بذلك كله مع خدامه إلى السلطان وكتب شاكياً من ابن الكولمي وكتب ابن الكولمي شاكياً منه. فبعث السلطان ملك الحكماء لينصف بينهما وبإثر ذلك كان خروج القاضي جلال الدين فنهب مال ابن الكولمي وفر ابن الكولمي في بعض مماليكه ولحق بالسلطان.

وفي مدة مغيب السلطان عن حضرته إذ خرج بقصد بلاد المعبر وقع الغلاء واشتد الأمر وانتهى المنّ إلى ستين درهماً ثم زاد على ذلك وضاقت الأحوال وعظم الخطب. ولقد خرجت مرة إلى لقاء الوزير فرأيت ثلاث نسوة يقطعن قطعاً من جلد فرس مات منذ أشهر ويأكلنه. وكانت الجلود تطبخ وتباع في الأسواق وكان الناس إذا ذبحت البقر أخذوا دماءها فأكلوها. وحدثني بعض طلبة خراسان أنهم دخلوا بلدة تسمى أكروهة، بين حانسي وسرستي فوجودوها خالية فقصدوا بعض المنازل ليبيتوا به فوجدوا في بعض بيوته رجلاً قد أضرم ناراً وبيده رجل آدمي وهو يشويها في النار ويأكل منها والعياذ بالله. ولما اشتدت الحال أمر السلطان أن يعطى لجميع أهل دهلي نفقة ستة أشهر فكانت القضاة والكتاب والأمراء يطوفون بالأزقة والحارات ويكتبون الناس ويعطون لكل أحد نفقة ستة أشهر بحساب رطل ونصف من أرطال المغرب في اليوم لكل واحد. وكنت في تلك المدة أطعم الناس من الطعام الذي أصنعه بمقبرة السطان قطب الدين حسبما يذكر فكان الناس ينتعشون بذلك والله تعالى ينفع بالقصد فيه. وإذ قد ذكرنا من أخبار السلطان وما كان في أيامه من الحوادث ما فيه الكفاية فلنعد إلى ما يخصنا من ذلك، ونذكر كيفية وصولنا أولاً إلى حضرته وتنقل الحال إلى خروجنا عن الخدمة، ثم خروجنا عن

ص: 389

السلطان في الرسالة إلى الصين، وعودنا منها إلى بلادنا إن شاء الله تعالى.

ولما دخلنا حضرة دهلي قصدنا باب السلطان ودخلنا الباب الأول ثم الثاني والثالث ووجدنا عليه النقباء وقد تقدم ذكرهم. فلما وصلنا إليهم تقدم بنا نقيبهم إلى مشور عظيم متسع فوجدنا به الوزير خواجة جهان ينتظرنا فتقدم ضياء الدين خداوند زاده ثم تلاه أخوه قوام الدين ثم أخوهما عماد الدين ثم تلوتهم ثم تلاني أخوهم برهان الدين ثم الأمير مبارك السمرقندي ثم أرون بغا التركي، ثم ملك زاده ابن أخت خداوند زادة ثم بدر الدين الفصال.

ولما دخلنا من الباب الثالث ظهر لنا المشور الكبير المسمى هزار اسطون "استون" ومعنى ذلك ألف سارية، وبه يجلس السلطان الجلوس العام، فخدم الوزير عند ذلك حتى قرب رأسه من الأرض وخدمنا نحن بالركوع وأوصلنا أصابعنا إلى الاض وخدمتنا لناحية سرير السلطان وخدم جميع من معنا فلما فرغنا من الخدمة صاح النقباء بأصوات عالية: بسم الله وخرجنا.

وكانت أم السلطان تدعى المخدومة جهان وهي من أفضل النساء كثيرة الصدقات عمرت زوايا كثيرة وجعلت فيها الطعام للوارد والصادر وهي مكفوفة البصر. وسبب ذلك أنه لما ملك ابنها جاء إليها جميع الخواتين وبنات الملوك والأمراء في أحسن زي وهي على سرير الذهب المرصع بالجوهر فخدمن بين يديها جميعاً فذهب بصرها للحين وعولجت بأنواع العلاج فلم ينفع وولدها أشد الناس برّاً بها، ومن برّه أنها سافرت معه مرة فقدم السلطان قبلها بمدة فلما قدمت خرج لاستقبالها وترجل عن فرسه وقبل رجلها وهي في المحفة بمرأى من الناس أجمعين.

ولنعد لما قصدناه فنقول ولما انصرفنا عن دار السلطان خرج الوزير ونحن معه إلى باب الصرف وهم يسمونه باب الحرم وهنالك سكنى المخدومة جهان فلما وصلنا بابها نزلنا عن الدواب وكل واحد منا قد أتى بهدية على قدر حاله.

ودخل معنا قاضي قضاة المماليك كمال الدين بن البرهان فخدم الوزير والقاضي عند بابها وخدمنا كخدمتهم وكتب كاتب بابها هدايانا. ثم رجعوا

ص: 390

إلى الوزير ثم عادوا إلى القصر ونحن وقوف. ثم أمرنا بالجلوس في سقيف هنالك ثم أتوا بالطعام وأتوا بقلال من الذهب يسمونها السُيُن "بضم السين والياء آخر الحروف" وهي مثل القدور ولها مرافع من الذهب تجلس عليها يسمونها السُبُك "بضم السين وضم الباء الموحدة" وأتوا بأقداح وطسوت وأباريق كلها ذهب وجعلوا الطعام سماطين وعلى كل سماط صفان ويكون في رأس الصف كبير القوم الواردين.

ولما تقدمنا للطعام خدم الحجاب والنقباء وخدمنا لخدمتهم، ثم أتوا بالشربة فشربنا وقال الحجاب: بسم الله. ثم أكلنا وأتوا بالفقاع ثم بالتنبول. ثم قال الحجاب: بسم الله. فخدمنا جميعاً. ثم دعينا إلى موضع هنالك فخلع علينا خلع الحرير المذهبة. وأتوا بنا إلى باب القصر تحت ثياب غير مخيطة من حرير وكتان وقطن، فأعطي كل واحد منا نصيبه منها، ثم أتوا بطيفور ذهب فيه الفاكهة اليابسة وبطيفور مثله في الجلاب وطيفور ثالث فيه التنبول. ومن عادتهم أن الذي يخرج له ذلك يأخذ الطيفور بيده ويجعله على كاهله ثم يخدم بيده الأخرى إلى الأرض. فأخذ الوزير الطيفور بيده قصد أن يعلمني كيف أفعل إيناساً منه وتواضعاً ومبرة. جزاه الله خيراً. ففعلت كفعله ثم انصرفنا إلى الدار المعدة لنزولنا بمدينة دهلي وبمقربة من دروازة بالم منها، وبعثت لنا الضيافة.

ولما وصلت إلى الدار التي أعدت لنزولي وجدت فيها ما يحتاج إليه من فرش وبسط وحصر وأوان وسرير الرقاد وأسرتهم بالهند خفيفة الحمل يحمل السرير منها الرجل الواحد ولا بد لكل أحد أن يستصحب السرير في السفر يحمله غلامه على رأسه وهو أربع قوائم مخروطة يعرض عليها أربعة أعواد وتنسج عليها ضفائر من الحرير أو القطن فإذا نام الإنسان عليه لم يحتج إلى ما يرطبه به لأنه يعطي الرطوبة من ذاته وجاءوا مع السرير بمضربتين ومخدتين ولحاف كل ذلك من الحرير وعادتهم أن يجعلوا للمضربات واللحوف "اللحف" وجوهاً تغشيها من كتان أو قطن بيضاً، فمتى توسخت غسلوا الوجوه المذكورة وبقي ما في داخلها مصوناً. وأتوا تلك الليلة برجلين أحدهما الطاحوني ويسمونه الخواص والثاني الجزار ويسمونه القصاب فقالوا لنا: خذوا من هذا كذا وكذا من الدقيق ومن هذا كذا وكذا من اللحم لأوزان لا أذكرها الآن. وعادتهم أن يكون اللحم الذي يعطون بقدر وزن الدقيق وهذا الذي ذكرناه ضيافة أم السلطان وبعدها وصلتنا ضيافة السلطان وسنذكرها. ولما كان من غد ذلك اليوم ركبنا إلى دار

ص: 391

السلطان وسلمنا على الوزير فأعطاني بدرتين كل بدرة من ألف دينار دراهم، وقال لي: هذه سر ششتى "شستي" ومعنا لغسل رأسك، وأعطاني خلعة من المرعز. وكتب جميع أصحابي وخدامي وغلماني، فجعلوا أربعة أصناف: فالصنف الأول منها أعطي كل واحد منهم مائتي دينار. والصنف الثاني أعطي كل واحد منهم مائة وخمسين ديناراً. والصنف الثالث أعطي كل واحد مائة دينار.

والصنف الرابع أعطي كل واحد خمسة وسبعين ديناراً. وكانوا نحو أربعين. وكان جملة ما أعطوه أربعة آلاف دينار ونيفاً. وبعد ذلك عينت ضيافة السلطان وهي ألف رطل هندية من الدقيق ثلثها من الميرا وهو الدرمك وثلثاها من الخشكار وهو المدهون وألف رطل من اللحم ومن السكر والسمن والسليف والفوفل أرطال كثيرة لا أذكر عددها والألف من ورق التنبول والرطل الهندي عشرون رطلاً من أرطال المغرب وخمسة وعشرون من أرطال مصر. وكانت ضيافة خداوند زاده أربعة آلاف رطل من الدقيق ومثلها من اللحم مع ما يناسبها مما ذكرنا.

ولما كان بعد شهر ونصف من مقدمنا توفيت بنت لي سنها دون السنة. فاتصل خبر وفاتها بالوزير فأمر أن تدفن في زاوية بناها خارج دروازة بالم بقرب مقبرة هنالك لشيخنا إبراهيم القونوي فدفناها بها وكتب بخبرها إلى السلطان فأتاه الجواب في عشي اليوم الثاني وكان بين متصيد السلطان وبين الحضرة مسيرة عشرة أيام. وعادتهم أن يخرجوا إلى قبر الميت صبيحة الثالث من دفنه ويفرشون جوانب القبر بالبسط وثياب الحرير ويجعلون على القبر الأزاهير وهي لا تنقطع هنالك في فصل من الفصول كالياسمين وقل شبه "كل شبو" وهي زهر أصفر، وريبول وهو أبيض، والنسرين وهو على صنفين أبيض وأصفر، ويجعلون أغصان النارنج والليمون بثمارها وإن لم يكن فيها ثمار علقوا منها حبات بالخيوط ويصبون على القبر الفواكه اليابسة وجوز النارجيل ويجتمع الناس ويؤتى بالمصاحف فيقرؤون القرآن فإذا ختموه أتوا بماء الجلاب فسقوه للناس ثم يصب عليهم ماء الورد صبا ويعطون التنبول وينصرفون.

ولما كان صبيحة الثالث من دفن هذه البنت خرجت عند الصبح على العادة وأعددت ما تيسر من ذلك كله فوجدت الوزير قد أمر بترتيب ذلك وأمر

ص: 392

بسراجة فضربت على القبر وجاء الحاجب شمس الدين الفوشنجي الذي تلقانا بالسند والقاضي نظام الدين الكرواني وجملة من كبار أهل المدينة ولم آت إلا والقوم المذكورون قد أخذوا مجالسهم والحاجب بين أيديهم وهم يقرؤون القرآن فقعدت مع أصحابي بمقربة من القبر فلما فرغوا من القراءة فرأ القراء بأصوات حسان ثم قام القاضي فقرأ رثاء في البنت المتوفاة وثناء إلى السلطان وعند ذكر اسمه قام الناس جميعاً قياماً فخدموا ثم جلسوا ودعا القاضي دعاءً حسناً ثم أخذ الحاجب وأصحابه براميل ماء الورد وصبوا على الناس ثم داروا عليهم بأقداح شربة النبات ثم فرقوا عليهم التنبول ثم أتي بأحدى عشرة خلعة لي ولأصحابي ثم ركب الحاجب وركبنا معه إلى دار السلطان فخدمنا للسرير على العادة وانصرفت إلى منزلي. فما وصلت إلا وقد جاء الطعام من دار المخدومة جهان ما ملأ الدار ودور أصحابي وأكلوا جميعاً وأكل المساكين وفضلت الأقراص والحلواء والنبات فأقامت بقاياها أياماً وكان فعل ذلك كله بأمر السلطان وبعد أيام جاء الفتيان من دار المخدومة جهان بالدولة وهي المحفة التي يحمل فيها النساء ويركبها الرجال وهي شبه السرير سطحها من ضفائر الحرير أو القطن وعليها عود شبه الذي على البوجات عندنا معوج من القصب الهندي المغلوق ويحملها ثمانية رجال في نوبتين: يستريح أربعة ويحمل أربعة وهذه الدول بالهند كالحمير بديار مصر عليها يتصرف أكثر الناس فمن كان له عبيد حملوه ومن لم يكن له عبيد اكترى رجالاً يحملونه وبالبلد منهم جماعة يسيرة يقفون في الأسواق وعند أبواب الناس للكري وتكون دول النساء مغشاة بغشاء حرير وكذلك كانت هذه الدولة التي أتى الفتيان بها من دار أم السلطان فحملوا فيها جاريتي التي هي أم البنت المتوفاة وبعثت أنا معها عن هدية جارية تركية فأقامت الجارية أم البنت عندهم ليلة. وجاءت في اليوم الثاني وقد أعطوها ألف دينار دراهم وأساور ذهب مرصعة وتهليلاً من الذهب مرصعاً أيضا وقميص كتان مزركشا بالذهب وخلعة حرير مذهبة وتختا بأثواب ولما جاءت بذلك كله أعطيته لأصحابي وللتجار الذين لهم علي الدين محافظة على نفسي وصوناً لعرضي لأن المخبرين يكتبون إلى السلطان بجميع أحوالي.

وفي أثناء إقامتي أمر السلطان أن يعين لي من القرى ما يكون فائدة خمسة

ص: 393

آلاف دينار في السنة، فعينها لي الوزير وأهل الديوان وخرجت إليها فمنها قرية تسمى بَدَلي "بفتح الباء الموحدة وفتح الدال المهملة وكسر اللام" وقرية بَسَهَى "بفتح الباء الموحدة والسين المهمل وكسر الهاء" ونصف قرية تسمى بَلَرة "بفتح الباء الموحدة واللام والراء" وهذه القرى على مسافة ستة عشر كروهاً، وهو الميل، بصدي يعرف بصدى هندبت، والصدى عندهم مجموع مائة قرية من قرى بلاد الهند، وأحواز المدينة مقسومة أصداء، وكل صدى له جوطري، وهو شيخ من كفار تلك البلاد ومتصرف، وهو الذي يضم مجابيها وكان قد وصل في ذلك الوقت سبي من الكفار فبعث الوزير إلي عشر جوار منه فأعطيت الذي جاء بهنّ واحدة منهن فما رضي بذلك وأخذ أصحابي ثلاثاً صغاراً منهن وباقيهن لا أعرف ما اتفق لهن. والسبي هنالك رخيص الثمن لأنهن قذرات لا يعرفن مصالح الحضر، والمعلمات رخيصات الأثمان، فلا يفتقر أحدٌ إلى شراء السبي. والكفار ببلاد الهند في بر متصل وبلاد متصلة مع المسلمين والمسلمون غالبون عليهم وإنما يمتنع الكفار بالجبال والأوعار ولهم غيضات من القصب، وقصبهم غير مجوف ويعظم ويلتف بعضه على بعض، ولا تؤثر فيه النار وله قوة عظيمة فيسكنون تلك الغياض وهي لهم مثل السور وبداخلها تكون مواشيهم وزروعهم ولهم فيها المياه مما يجتمع من ماء المطر فلا يقدر عليهم إلا بالعساكر القوية من الرجال الذين يدخلون تلك الغياض ويقطعون تلك القصب بآلات معدة لذلك.

وأطلّ عيد الفطر، والسلطان لم يعد بعد إلى الحضرة فلما كان يوم العيد ركب الخطيب على الفيل وقد مهد له على ظهره شبه السرير وركزت أربعة أعلام في أركانه الأربعة ولبس الخطيب ثياب السواد وركب المؤذنون على الفيلة يكبرون أمامه وركب فقهاء المدينة وقضاتها وكل واحد منهم يستصحب صدقة يتصدق بها حين الخروج إلى المصلى ونصب على المصلّى صيوان قطن وفرش ببسط واجتمع الناس ذاكرين الله تعالى ثم صلى بهم الخطيب وخطب وانصرف الناس إلى منازلهم انصرفنا إلى دار السلطان وجعل الطعام فحضره الملوك والأمراء والأعزة وهم الغرباء وأكلوا وانصرفوا.

ولما كان في رابع شوال نزل السلطان بقصر يسمى تِلْبَت "بكسر التاء المعلوة الأولى وسكون اللام وفتح الباء الموحدة ثم تاء كالأولى"، وهي على

ص: 394

مسافة سبعة أميال من الحضرة فأمرنا الوزير بالخروج إليه فخرجنا ومع كل إنسان هديته من الخيل والجمال والفواكه الخراسانية والسيوف المصرية والمماليك والغنم المجلوبة من بلاد الأتراك فوصلنا إلى باب القصر وقد اجتمع جميع القادمين فكانوا جميعاً يدخلون إلى السلطان على قدر مراتبهم ويخلع عليهم ثياب الكتان المزركشة بالذهب ولما وصلت إلى النوبة التي دخلت فوجدت السلطان قاعدا على كرسي فظننته أحد الحجاب حتى رأيت معه ملك الندماء ناصر الدين الكافي الهروي وكنت عرفته أيام غيبة السلطان فخدم الحاجب فخدمت واستقبلني أمير حاجب وهو ابن عم السلطان المسمى بفيروز وخدمت ثانية لخدمته ثم قال لي ملك الندماء: بسم الله مولانا بدر الدين وكانوا يدعونني بأرض الهند بدر الدين وكل من كان من أهل الطلب إنما يقال له مولانا فقربت من السلطان حتى أخذ بيدي وصافحني وأمسك يدي وجعل يخاطبني بأحسن خطاب ويقول لي بالفارسي حلت البركة قدومك مبارك اجمع خاطرك اعمل معك من المراحم وأعطيك الأنعام ما يسمع به أهل بلادك فيأتون إليك ثم سألني عن بلادي فقلت له بلاد المغرب فقال لي بلاد عبد المؤمن. فقلت له: نعم وكان كلما قال لي كلاماً جيداً قبلت يده، حتى قبلتها سبع مرات وخلع على وانصرفت. واجتمع الواردون فمد لهم سماط ووقف على رؤوسهم قاضي القضاة صدر الجهان ناصر الدين الخوارزمي وكان من كبار الفقهاء وقاضي قضاة المماليك صدر الجهان كمال الدين الغزنوي وعماد الملك عرض المماليك والملك جلال الدين الكيجي وجماعة من الحجاب والأمراء وحضر لذلك خداوند زاده غياث الدين ابن عم خداوند زاده قوام الدين قاضي ترمذ الذي قدم معنا وكان السلطان يعظمه ويخاطبه بالأخ وتردد إليه مراراً من بلاده والواردون الذين خلع عليهم في ذلك هم خداوند زاده قوام الدين وإخوته ضياء الدين وعماد الدين وبرهان الدين وابن اخته أمير بخت بن السيد تاج الدين وكان جده وجيه الدين وزير خراسان وكان خاله علاء الدين أمير هند ووزيرا ايضا والأمير هبة الله بن الفلكي التبريزي وكان أبوه نائب الوزير بالعراق وهو بنى المدرسة الفلكية بتبريز وملك كراي من أولاد بهرام جور "جوبين" صاحب كسرى وهو من أهل جبل بذخشان الذي منه يجلب الياقوت البلخش واللازورد والأمير مبارك شاه السمرقندي، وأرون بغا البخاري وملك زادة الترمذي وشهاب الدين الكازروني التاجر الذي قدم

ص: 395

تبريز بالهدية إلى السلطان فسلب في طريقه.

وفي الغد من يوم خروجنا إلى السلطان أعطي كل واحد منا فرسا من مراكب السلطان عليه سرج ولجام محليان وركب السلطان لدخول حضرته وركبنا في مقدمته مع صدر الجهان وزينت الفيلة أمام السلطان وجعلت عليها الأعلام ورفعت عليها ستة عشر شطراً منها مزركشة ومنها مرصعة ورفع على رأس السلطان شطر منها وحملت أمامه الغاشية وهي ستارة مرصعة وجعل على بعض الفيلة رعادات صغار فلما وصل السلطان إلى قرب المدينة قذف في تلك الرعادات بالدنانير والدراهم مختلطة والمشاة بين يدي السلطان وسواهم ممن حضر يلتقطون ذلك ولم يزالوا ينثرون إلى أن وصلوا القصر وكان بين يديه آلاف من المشاة على الأقدام وصنعت قباب الخشب المكسوة بثياب الحرير، وفيها المغنيات حسبما ذكرنا ذلك.

ولما كان يوم الجمعة ثاني يوم دخول السلطان أتينا باب المشور فجلسنا في سقائف الباب الثالث ولم يكن الإذن حصل لنا بالدخول وخرج الحاجب شمس الدين الفوشنجي فأمر الكتاب أن يكتبوا أسماءنا وأذن لهم في دخولنا ودخول بعض أصحابنا وعين للدخول معي ثمانية فدخلنا ودخلوا معنا ثم جاؤوا بالبدر والقبان وهو الميزان وقعد قاضي القضاة والكتاب ودعوا من الباب من الأعزة هم الغرباء فعينوا لكل إنسان نصيبه من تلك البدر فحصل لي منها خمسة آلاف دينار وكان مبلغ المال مائة ألف دينار تصدقت به أم السلطان لما قدم ابنها وانصرفنا ذلك اليوم وكان السلطان بعد ذلك يستدعينا للطعام بين يديه ويسأل عن أحوالنا ويخاطبنا بأجمل كلام ولقد قال لنا في بعض الأيام أنتم شرفتمونا بقدومكم فما نقدر على مكافاتكم فالكبير منكم مقام والدي والكهل مقام أخي والصغير مقام ولدي وما في ملكي أعظم من مدينتي هذه أعطيكم إياها فشكرناه ودعونا له.

ثم بعد ذلك أمر لنا بالمرتبات فعين لي اثني عشر ألف دينار في السنة وزادني قريتين على الثلاث التي أمر لي بها قبل أحداها قرية جوزة والثانية قرية ملك بور وفي بعض الأيام بعث لنا خداوند زاده غياث الدين وقطب الملك صاحب السند فقالا لنا أن خوند عالم يقول لكم من كان منكم يصلح للوزارة أو الكتابة أو الإمارة أو القضاء أو التدريس أو المشيخة، أعطيته ذلك

ص: 396

فسكت الجميع لأنهم كانوا يريدون تحصيل الأموال والانصراف إلى بلادهم وتكلم أمير بخت بن السيد تاج الدين الذي تقدم ذكره فقال: أما الوزارة فميراثي، وأما الكتابة فشغلي وغير ذلك لا أعرفه.

وتكلم هبة الله بن الفلكي فقال مثل ذلك، وقال لي خدواند زاده بالعربي: ما تقول أنت يا سيدي؟ وأهل تلك البلاد ما يدعون العربي إلا بالتسويد1 وبذلك يخاطبه السلطان تعظيماً للعرب فقلت له أما الوزارة والكتابة فليست شغلي وأما القضاء والمشيخة فشغلي وشغل آبائي وأما الإمارة فتعلمون أن الأعاجم ما أسلمت إلا بأسياف العرب. فلما بلغ ذلك إلى السلطان أعجبه كلامي وكان بهزار أسطون يأكل الطعام فبعث عنا فأكلنا بين يديه وهو يأكل ثم انصرفنا إلى خارج هزار أسطون فقعد أصحابي وانصرفت بسبب دمل كان يمنعني الجلوس فاستدعانا السلطان ثانية فحضر أصحابي واعتذروا له عني وجئت بعد صلاة العصر فصليت بالمشور المغرب والعشاء الآخرة ثم خرج الحاجب فاستدعانا، فدخل خذواند زاده ضياء الدين وهو أكبر الإخوة المذكورين فجعله السلطان أمير داد وهو من الأمراء الكبار فجلس بمجلس القاضي فمن كان له حق على أمير أو كبير أحضره بين يديه وجعل مرتبه على هذه الخطة خمسين ألف دينار في السنة عين له مجاشر قائدها ذلك المقدار فأمر له بخمسين ألفا عن يد وخلع عليه خلعة حرير مزركشة تسمى صورة الشير ومعناه صورة السبع لأنه يكون في صدرها وظهرها صورة سبع وقد خيط في باطن الخلعة بطاقة بمقدار ما زركش فيها من الذهب وأمر له بفرس من الجنس الأول والخيل عندهم أربعة أجناس وسروجهم كسروج أهل مصر ويكسون أعظمها بالفضة المذهبة ثم دخل أمير بخت فأمره أن يجلس مع الوزير في مسنده ويقف على محاسبات الدواوين وعيّن له مرتبا أربعين ألف دينار في السنة أعطي مجاشر قائدها بمقدار ذلك وأعطي أربعين ألفا عن يد وأعطي فرساً مجهزاً وخلع عليه كخلعة الذي قبله ولقب شرف الملك.

ثم دخل هبة الله بن الفلكي فجعله رسول دار ومعناه حاجب الإرسال، وعين له مرتبا أربعين ألف دينار في السنة أعطي مجاشر يكون قائدها بمقدار ذلك

1 أي ما ينادونه إلاّ ملقّباً بالسيد.

ص: 397

وأعطي أربعة وعشرين ألفا عن يد وأعطي فرساً مجهزاً وخلعة وجعل لقبه بهاء الملك. ثم دخلت فوجدت السلطان على سطح القصر مستندا إلى السرير والوزير خواجة جهان بين يديه والملك الكبير قبولة واقف بين يديه فلما سلمت عليه قال لي الملك الكبير اخدم فقد جعلك خوند عالم قاضي دار الملك دهلي وجعل مرتبك اثني عشر ألف دينار في السنة وعين لك مجاشر بمقدارها وأمر لك باثني عشر ألفا نقداً تأخذها من الخزانة غداً إن شاء الله، وأعطاك فرساً بسرجه ولجامه وأمر لك بخلعة محاربي وهي التي يكون في صدرها وظهرها شكل محراب فخدمت وأخذ بيدي فتقدم بي إلى السلطان فقال لي السلطان لا تحسب قضاء دلهي من أصغر الأشغال هو أكبر الأشغال عندنا وكنت أفهم قوله ولا أحسن الجواب عنه وكان السلطان يفهم العربي ولا يحسن الجواب عنه فقلت له يا مولانا أنا على مذهب مالك وهؤلاء حنفية وأنا لا أعرف اللسان فقال لي قد عينت بهاء الدين الملتاني وكمال الدين البجنوري ينوبان عنك ويشاورانك وتكون أنت تسجل على العقود وأنت عندنا بمقام الوالد. فقلت له بل عبدكم وخديمكم فقال لي باللسان العربي بل أنت سيدنا ومخدومنا تواضعاً منه وفضلاً وإيناساً. ثم قال لشرف الملك أمير بخت إن كان الذي رتبت له لا يكفيه لأنه كثير الإنفاق فأنا أعطيه زاوية أن قدر على إقامة حال الفقراء وقال قل له هذا بالعربي وكان يظن أنه يحسن العربي ولم يكن كذلك وفهم السلطان ذلك فقال له بروويكجا بخصبي وآن حكاية براوبكوي وتفهيم كنى تافردا إن شاء الله بيش من بيابي جواب او بكرى معناه امسوا الليلة فارقدوا في موضع واحد وفهمه هذه الحكاية فإذا كان بالغد إن شاء الله تجيء الي وتعلمني بكلامه، فانصرفنا وذلك في ثلث الليل وقد ضربت النوبة والعادة عندهم إذا ضربت لا يخرج أحد فانتظرنا الوزير حتى خرج وخرجنا معه ووجدنا أبواب دهلي مسدودوة فبتنا عند السيد أبي الحسن العبادي العراقي بزقاق يعرف بسرابورخان وكان هذا الشيخ يتجر بمال السلطان ويشتري له الأسلحة والأمتعة بالعراق وخراسان ولما كان بالغد بعث عنا فقبضنا الأموال والخيل والخلع وأخذ كل واحد منا البدرة بالمال فجعلها على كاهلة ودخلنا كذلك على السلطان فخدمنا وأتينا بالأفراس فقبلنا حوافرها بعد أن جعلت عليها الخرق وقدناها بأنفسنا إلى باب دار السلطان فركبناها وذلك كله عادة عندهم ثم انصرفنا وأمر السلطان لأصحابي بألفي دينار وعشر خلع ولم يعط لأصحاب

ص: 398

أحد سواي شيئاً وكان أصحابي لهم رواء ومنظر فأعجبوا السلطان وخدموا بين يديه وشكرهم.

وكنت يوماً بالمشور بعد أيام من توليتي القضاء والإحسان إلي، وأنا قاعد تحت شجرة هنالك وإلى جانبي مولانا ناصر الدين الترمذي العالم الواعظ فأتى بعض الحاجب فدعا مولانا ناصر الدين فدخل إلى السلطان فخلع عليه وأعطاه مصحفاً مكللاً بالجوهر ثم أتاني بعض الحجاب فقال أعطني شيئاً وآخذ لك خط خرد باثني عشر ألفا أمر لك بها خوند عالم فلم أصدقه وظننته يريد الحيلة علي وهو مجد في كلامه فقال بعض الأصحاب أنا أعطيه فأعطاه دينارين أو ثلاثة جاء بخط خرد ومعناه الخط الأصغر مكتوباً بتعريف الحاجب ومعناه أمر خوند عالم أن يعطى من الخرانة الموفورة كذا لفلان بتبليغ فلان أي بتعريفه ويكتب المبلغ اسمه ثم يكتب على تلك البراءة ثلاثة من الأمراء وهم الخان الأعظم قطلوخان معلم السلطان والخريطة دار وهو صاحب خريطة الكاغد والأقلام والأمير نكبية الداودار صاحب الدوات فإذا كتب كل واحد منهم خطه يذهب بالبراءة إلى ديوان الوزارة فينسخها كتاب الديوان عندهم ثم تثبت في ديوان الأشراف ثم تثبت في ديوان النظر ثم تكتب البروانة وهي الحكم من الوزير للخازن بالعطاء ثم يثبتها الخازن في ديوانه ويكتب تلخيصا في كل يوم بمبلغ ما أمر به السلطان ذلك اليوم من المال ويعرضه عليه فمن أراد التعجيل بعطائه أمر بتعجيله ومن أراد التوقيف وقف له ولكن لا بد من عطاء ذلك ولو طالت المدة فقد توقفت هذه الاثنا عشر ألفا ستة أشهر ثم أخذتها مع غيرها حسبما يأتي. وعادتهم إذا أمر السلطان بإحسان لأحد يحط منه العشر فمن أمر له مثلا بمائة ألف أعطي تسعين ألفا أو بعشرة آلاف أعطي تسعة آلاف.

وكنت حسبما ذكرته قد استدنت من التجار مالاً أنفقته في طريقي وما صنعت به الهدية للسلطان، وما أنفقته في إقامتي فلما أرادوا السفر إلى بلادهم ألحوا عليّ في طلب ديونهم فمدحت السلطان بقصيدة طويلة أولها:

إليك أميرَ المؤمنين المبجَّلا.

أتينا نجدُّ السيرَ نحوك في الفلا

فجئت محلاً من علائِك زائراً

ومغْناك كهفٌ للزيارة أُهِلا

فلو أن فوق الشمس للمجد رتبةً

لكنتَ لأعْلاها إماماً مؤهلا

ص: 399

فأنت الإمام الماجد الأوحد الذي

سجاياه حتماً أن يقولَ ويفعلا

ولي حاجة من فيض جودك أرتجي

قضاها وقصدي عند مجدك سهلا

أأذكرها أم قد كفاني حياؤكم

فإن حَيَاكم ذِكرهُ كان أجملا

فعجّلْ لمن وافى محلك زائراً

قضَا دينه أن الغريمَ تعجّلا

فقدمتها بين يديه وهو قاعد على كرسي فجعلها على ركبته وأمسك طرفها بيده وطرفها الثاني بيدي. وكنت إذا أكملت بيتاً ومنها أقول لقاضي القضاة كمال الدين الغزنوي بين معناه لخوند عالم، فيبينه ويعجب السلطان وهم يحبون الشعر العربي فلما بلغت إلى قولي: فعجل لمن وافى، البيت، قال: مرحمة ومعناه: ترحمت عليك فأخذ الحجاب حينئذ بيدي ليذهبوا بي إلى موقفهم، وأخدم على العادة فقال السلطان اتركوه حتى يكملها فأكملتها وخدمت وهنأني الناس بذلك وأقمت مدة وكتبت رفعا وهم يسمونه عرض داشت فدفعته إلى قطب الملك صاحب السند فدفعه للسلطان فقال له امض إلى خواجه جهان فقل له يعطي دينه فمضى إليه واعلمه فقال نعم وابطأ ذلك أياما وأمره السلطان في خلاها بالسفر إلى دولة آباد وفي اثناء ذلك خرج السلطان إلى الصيد وسافر الوزير فلم آخذ شيئا منها إلا بعد مدة والسبب الذي توقف به عطاؤها أذكره مستوفى وهو أنه لما عزم الذين كان لهم علي الدين إلى السفر قلت لهم إذا أنا أتيت دار السلطان فدرهوني1 على العادة في تلك البلاد لعلمي أن السلطان متى يعلم بذلك خلصهم، وعادتهم أنه متى كان لأحد دين على رجل من ذوي العناية وأعوزه خلاصة وقف له بباب دار السلطان فإذا أراد الدخول قال له دروهي السلطان وحتى رأس السلطان ما تدخل حتى تخلصني فلا يمكنه أن يبرح من مكانه حتى يخلصه او يرغب إليه في تأخيره فاتفق يوماً أن خرج السلطان إلى زيارة قبر أبيه ونزل بقصر هنالك فقلت لهم هذا وقتكم فلما أردت الدخول وقفوا لي بباب القصر فقالوا لي دروهي السلطان ما تدخل حتى تخلصنا وكتب كتاب الباب بذلك إلى السلطان فخرج حاجب قصة شمس الدين وكان من كبار الفقهاء فسألهم لاي شيء درهتموه؟ فقالوا: لنا عليه الدين فرجع إلى السلطان فاعلمه بذلك، فقال له: أسألهم كم مبلغ الدين؟ فسألهم فقالوا له خمسة

1 أي: فتعلقوا بي على باب دار السلطان مطالبين بديونكم.

ص: 400

وخمسون ألف دينار فعاد إليه فأعلمه فأمره أن يعود إليهم ويقول لهم أن خوند عالم يقول لكم المال عندي وأنا أنصفكم منه فلا تطلبوه به وأمر عماد الدين السمناني وخداوند زاده غياث الدين أن يقعدوا بهزار أسطون ويأتي أهل الدين بعقودهم وينظروا إليها ويتحققوها ففعلا ذلك وأتى الغرماء بعقودهم فدخلا إلى السلطان وأعلما بثبوت العقود فضحك وقال ممازحاً أنا أعلم أنه قاض جهز شغله فيها ثم أمر خذواند زاده أن يعطيني ذلك من الخزانة فطمع في الرشوة على ذلك وامتنع أن يكتب خط خرد فبعثت إليه مائتي تنكة فردها ولم يأخذها وقال لي عنه بعض خدامه أنه طلب خمسمائة تنكة فامتنعت من ذلك وأعلمت عميد الملك بن عماد الدين السمناني بذلك فأعلم به أباه وعمله الوزير وكانت بينه وبين خذاوند زاده عداوة فأعلم السلطان بذلك وذكر له كثيراً من أفعال خذاوند زاده فغير خاطر السلطان عليه فأمر بحبسه في المدينة وقال لأي شيء أعطاه فلان ما أعطاه ووقفوا ذلك حتى يعلم هل يعطي خذاوند زاده شيئاً إذا منعته أو يمنعه إذا أعطيته فبهذا السبب توقف عطاء ديني.

ولما خرج السلطان إلى الصيد خرجت معه من غير تربص وكنت قد أعددت ما يحتاج إليه وعملت ترتيب أهل الهند فاشتريت سراجة وهي أفراج وضربها هناك مباح ولا بد منها لكبار الناس وتمتاز سراجة السلطان بكونها حمراء وسواها بيضاء منقوشة بالأزرق واشتريت الصيوان وهو الذي يظلل به داخل السراجة ويرفع على عمودين كبيرين ويحمل ذلك الرجال على أاعناقهم ويقال لهم اليكوانية1 والعادة هنالك أن يكتري المسافر اليكوانية وقد ذكرناهم ويكتري من يسوق له العشب لعلق الدواب لأنهم لا يطعمونها التبن ويكتري الكهارين وهم الذين يحملون أواني المطبخ ويكتري من يحمله في الدولة وقد ذكرناها ويحملها فارغة ويكتري الفراشين وهم الذين يضربون السراجة ويفرشونها ويرفعون الأحمال على الجمال ويكترى الدوادوية وهو الذين يمشون بين يديه ويحملون المشاعل بالليل فاكتريت أنا جميع من احتجت له منهم وأظهرت القوة والهمة وخرجت يوم خروج السلطان وغيري أقام بعده اليومين والثلاثة فلما كان بعد العصر من يوم خروجه

1 في بعض طبعات الكتاب: الكيوانية، والله أعلم بالصواب.

ص: 401

ركب الفيل، وقصده أن يتطلع على أحوال الناس، ويعرف من تسارع إلى الخروج ومن أبطا وجلس خارج السراجة على كرسي فجئت وسلمت ووقفت في مواقفي بالميمنة فبعث إلى الملك الكبير قبولة سر جامدار وهو الذي يشرد الذباب عنه فأمرني بالجلوس عناية بي ولم يجلس في ذلك اليوم سوائي ثم أتي بالفيل وألصق به سلم فركب عليه ورفع شطر فوق رأسه وركب معه الخواص وجال ساعة ثم عاد إلى السراجة. وعادته إذا ركب أن يركب الأمراء أفواجاً كل يمر بفوجه وعلامته وطبوله وأنفاره وصرناياته ويسمون ذلك المراتب ولا يركب إمام السلطان إلا الحجاب وأهل الطرب والطبالة الذين يتقلدون الأطبال الصغار والذين يضربون الصرنايات ويكون عن يمين السلطان نحو خمسة عشر رجلاً وعن يساره مثل ذلك منهم قضاة القضاة والوزير وبعض الأمراء الكبار وبعض الأعزة وكنت أنا من أهل ميمنته ويكون بين يديه المشاءون والإدلاء ويكون خلفه علاماته وهي من الحرير المذهب والأطبال على الجمال وخلف ذلك مماليكه وأهل دخلته وخلفهم الأمراء وجميع الناس ولا يعلم أحد أين يكون النزول فإذا مر السلطان بمكان يعجبه النزول به أمر بالنزول ولا تضرب سراجة أحد حتى تضرب سراجته ثم يأتي الموكلون بالنزول فينزلون كل أحد في منزله وفي خلال ذلك ينزل السلطان على نهر أو بين أشجاره وتقدم بين يديه لحوم الأغنام والدجاج المسمنة والكراكي وغيرها من أنواع الصيد ويحضر أبناء الملوك وفي يد كل واحد منهم سفود ويوقودن النار ويشتوون ذلك ويؤتى بسراجة صغيرة فتضرب للسلطان ويجلس من معه من الخواص خارجها ويؤتى بالطعام ويستدعي من شاء فيأكل معه. وكان في بعض تلك الأيام وهو بداخل السراجة يسأل عمن بخارجها فقال له السيد ناصر الدين مطهر الأوهري أحد ندمائه ثم فلان المغربي وهو متغير فقال لماذا فقال بسبب الدين الذي عليه وغرماؤه يلحون في الطلب وكان خوند عالم قد أمر الوزير بإعطائه فسافر قبل ذلك. فإن أمر مولانا أن يصبر أهل الدين حتى يقدم الوزير أو أمر بإنصافهم وحضر لهذا الملك دولة شاه وكان السلطان يخاطبه بالعم فقال يا خوند عالم كل يوم هو يكلمني بالعربي ولا أدري ما يقول يا سيدي ناصر الدين ماذا وقصد أن يكرر ذلك الكلام فقال يتكلم لأجل الدين الذي عليه فقال السلطان إذا دخلنا دار الملك فامض انت يا أومار ومعناه: يا عم إلى الخزانة، فأعطه ذلك المال وكان خداوندزاده حاضراً فقال يا خوند عالم

ص: 402

إنه كثير الإنفاق وقد رأيته ببلادنا عند السلطان طرمشيرين وبعد هذا الكلام استحضرني السلطان للطعام ولا علم عندي بما جرى فلما خرجت قال لي السيد ناصر الدين اشكر للملك دولة شاه وقال لي الملك دولة شاه اشكر لخداوند زاده وفي بعض تلك الأيام ونحن مع السلطان في الصيد ركب في المحلة وكان طريقه على منزلي وأنا معه في الميمنة وأصحابي في الساقة وكان لي خباء عند السراجة فوقف أصحابي عندها وسلموا على السلطان فبعث عماد الملك وملك دولة شاه ليسألا لمن تلك الأخبية والسراجة فقيل لهما لفلان فأخبراه بذلك فتبسم فلما كان بالغد نفذ الأمر أن أعود أنا وناصر الدين مطهر الأوهري وابن قاضي مصر وملك صبيح إلى البلد فخلع علينا وعدنا إلى الحضرة.

وكان السلطان في تلك الأيام سالني عن الملك الناصر هل يركب الجمل فقلت نعم يركب المهاري في أيام الحج فيسير إلى مكة من مصر في عشرة أيام ولكن تلك الجمال ليست كجمال هذه البلاد. وأخبرته أن عندي جملاً منها فلما عدت إلى الحضرة بعثت عن بعض عرب مصر فصور لي صورة الكور الذي تركب المهاري به من القير وأريتها بعض النجارين فعمل الكور وأتقنه وكسوته بالملف وصنعت له ركباً وجعلت على الجمل عباءة حسنة وجعلت له خطام حرير كان عندي رجل من أهل اليمن يحسن عمل الحلواء فصنع منها ما يشبه التمر وغيره وبعثت الجمل والحلواء إلى السلطان وأمرت الذي حملها أن يدفعها على يد ملك دولة شاه وبعثت له بفرس وجملين فلما وصله ذلك دخل على السلطان وقال يا خوند عالم رأيت العجب قال وما ذلك قال فلان بعث جملا عليه سرج فقال ائتوا به فأدخل الجمل داخل السراجة وأعجب به السلطان وقال لراجلي اركبه فركبه ومشاه بين يديه وأمر له بمائتي دينار دراهم وخلعة وعاد الرجل إلى فأعلمني فسرني ذلك وأهديت له جملين بعد عودته إلى الحضرة.

ولما عاد إلى راجلي الذي بعثته بالجمل، فأخبرني بما كان من شأنه صنعت كورين اثنين، وجعلت مقدم كل واحد ومؤخرة مكسواً بصفائح الفضة المذهبة وكسوتهما بالملف وصنعت رسناً مصفحاً بصفائح الفضة وجعلت لهما جلين من زرد خانة مبطنين بالكمخا وجعلت للجملين الخلاخيل من

ص: 403

الفضة المذهبة، وصنعت أحد عشر طيفوراً، وملأتها بالحلواء، وغطيت كل طيفور بمنديل حرير فلما قدم السلطان من الصيد وقعد ثاني يوم قدومه بموضع جلوسه العام غدوت عليه بالجمال فأمر بها فحركت بين يديه وهرولت فطار خلخال أحدها فقال لبهاء الدين ابن الفلكي: بايل ورداري، معنى ذلك: ارفع الخلخال، فرفعه ثم نظر إلى الطيافير فقال: جداري "جه داري": درآن طبقها حلوا است معنى ذلك ما معك في تلك الأطباق حلواء هي؟ فقلت له: نعم. فقال للفقيه ناظر الدين الترمذي الواعظ ما أكلت قط ولا رأيت مثل الحلواء التي بعث إلينا ونحن بالمعسكر ثم أمر بتلك الطيافير أن ترفع لموضع جلوسه فرفعت وقام إلى مجلسه واستدعاني وأمر بالطعام فأكلت ثم سألني عن نوع من الحلواء الذي بعثت له قبل فقلت له يا خوند عالم تلك الحلواء أنواعها كثيرة ولا أدري عن أي نوع تسألون منها فقال إيتوا بتلك الأطباق وهم يسمون الطيفور طبقا فأتوا بها وقدموها بين يديه وكشفوا عنها فقال عن هذا سألتك وأخذ الصحن الذي هي فيه فقلت له هذه يقال لها المقرصة ثم أخذ نوعاً آخر فقال وما اسم هذه؟ فقلت له هي لقيمات القاضي. وكان بين يديه تاجر من شيوخ بغداد يعرف بالسامري وينتسب إلى آل العباس رضي الله عنه وهو كثير المال ويقول له السلطان يا والدي فحسدني وأراد أن يخجلني فقال ليست هذه لقيمات القاضي بل هي هذه. وأخذ قطعة من التي تسمى جلد الفرس وكان بإزائه ملك الندماء ناصر الدين الكافي الهروي وكان كثيراً ما يمازح هذا الشيخ بين يدي السلطان فقال يا خواجة أنت تكذب والقاضي يقول الحق فقال له السلطان وكيف ذلك؟ فقال: يا خوند عالم هو القاضي وهي لقيماته. فإنه أتى بها. فضحك السلطان وقال صدقت. فلما فرغنا من الطعام أكل الحلواء ثم شرب الفقاع بعد ذلك وخذنا التنبول وانصرفنا. فلم يكن غير هنيهة وأتاني الخازن فقال ابعث أصحابك يقبضون المال فبعثتهم وعدت إلى داري بعد المغرب فوجدت المال بها وهو ثلاث بدر فيها ستة آلاف ومائتان وثلاث وثلاثون تنكة وذلك صرف الخمسة والخمسين ألفاً التي هي دين علي وصرف الاثني عشر ألفاً التي أمر لي بها فيما تقدم بعد حط العشر على عادتهم، وصرف التنكة ديناران ونصف دينار من ذهب المغرب.

وفي تاسع جمادى الاولى خرج السلطان برسم قصد بلاد المعبر، وقتال

ص: 404

القائم بها وكنت قد خلصت أصحاب الدين وعزمت على السفر وأعطيت مرتب تسعة أشهر للكهارين والفراشين والكيوانية والدوادوية وقد تقدم ذكرهم فخرج الأمر بإقامتي في جملة ناس وأخذ الحاجب خطوطنا بذلك لتكون حجة له وتلك عادتهم خوفا من أن ينكر المبلغ وأمر لي بستة آلاف دينار دراهم وأمر لابن قاضي مصر بعشرة آلاف وكذلك كل من أقام من الأعزة وأما البلديون فلم يعطو شيئاً، وأمرني السلطان أن أتولى النظر في مقبرة السلطان قطب الدين تقدم ذكره. وكان السلطان يعظم تربته تعظيماً شديداً لأنه كان خديماً له. ولقد رأيته إذا أتى قبره يأخذ نعله فيقلبه ويجعله فوق رأسه وعادتهم أن يجعلوا نعل الميت عند قبره فوق متكأة وكان إذا وصل القبر خدم له كما كان يخدم أيام حياته وكان يعظم زوجته ويدعوها بالأخت وجعلها مع حرمه. وزوجها بعد ذلك لابن قاضي مصر واعتنى به من أجلها وكان يمضي لزيارتها في كل جمعة. ولما خرج السلطان بعث عنا للوداع فقام ابن قاضي مصر فقال أنا لا أودع ولا أفارق خوند عالم فكان له في ذلك الخير فقال له السلطان امض فتجهز للسفر وقدمت بعدها للوداع وكنت أحب الإقامة ولم تكن عاقبتها محمودة فقال مالك من حاجة فأخرجت بطاقة فيها ست مسائل فقال لي تكلم بلسانك فقلت له أن خوند عالم أمر لي بالقضاء وما قعدت لذلك بعد وليس مرادي من القضاء إلا حرمته فأمرني بالقعود للقضاء وقعود النائبين معي ثم قال لي إيه فقلت وروضة السلطان قطب الدين ماذا أفعل فيها فإني رتبت فيها أربعمائة وستين شخصاً ومحصول أوقافها لا يفي بمرتباتهم وطعامهم فقال للوزير بنجاه هزار ومعناه خمسين ألفاً ثم قال لا بد لك من غلة بديه يعني أعطه مائة ألف من المغلة وهي القمح والأرز ينفقها في هذه السنة حتى تأتي غلة الروضة والمنّ عشرون رطلا مغربية، ثم قال لي: وماذا أيضا؟ فقلت أن أصحابي سجنوا بسبب القرى التي أعطيتموني فإني عوضتها بغيرها فطلب أهل الديوان ما وصلني منها أو الاستظهار بأمر خوند عالم أن يرفع عني ذلك فقال كم وصلك منها فقلت خمسة آلاف دينار فقال هي أنعام عليك فقلت له وداري التي أمرتم لي بها مفتقرة إلى البناء فقال للوزير عمارة كنيد، أي: معناه عمروها ثم قال لي ديكر نماند؟ معناه هل بقي لك كلام. فقلت: لا ثم قال لي وصية ديكر هست معناه أوصيك أن لا تأخذ الدين لئلا تطلب فلا تجد من يبلغ خبرك إلي أنفق على قدر ما أعطيتك. قال الله تعالى: {وَلا تَجْعَلْ

ص: 405

يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ} 1. {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا} 2. {وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً} 3. فأردت أن أقبل قدمه فمنعني وأمسك رأسي بيده فقبلتها وانصرفت. وعدت إلى الحضرة فاشتغلت بعمارة داري وأنفقت فيها أربعة آلاف دينار، أعطيت منها من الديوان ستمائة دينار وزدت عليها الباقي وبنيت بإزائها مسجداً، واشتغلت بترتيب مقبرة السلطان قطب الدين وكان قد أمر أن تبني عليه قبة يكون ارتفاعها في الهواء مائة ذراع بزيادة عشرين ذراعاً على ارتفاع القبة المبنية على قازان ملك العراق وأمر أن تشترى ثلاثون قرية تكون وقفاً عليها وجعلها بيدي على أن يكون لي العشر من فائدتها على العادة.

وعادة أهل الهند أن يرتبوا لأمواتهم ترتيباً كترتيبهم بقيد الحياة ويؤتى بالفيلة والخيل فتربط عند باب التربة وهي مزينة فرتبت أنا في هذه التربة بحسب ذلك ورتبت من قراء القرآن مائة وخمسين وهم يسمونهم الختميين ورتبت من الطلبة ثمانين ومن المعيدين ويسمونهم المكررين ثمانية ورتبت لها مدرسا ورتبت من الصوفية ثمانين ورتبت الإمام والمؤذنين والقراء بالأصوات الحسان والمداحين وكتاب الغيبة والمعرفين وجميع هؤلاء يعرفون عندهم بالأرباب ورتبت صنفاً آخر يعرفون بالحاشية وهم الفراشون والطباخون والدوادرية والأبدارية وهم السقاؤون والشربدارية الذين يسقون الشربة والتنبول دارية الذين يعطون التنبول والسلحدارية والنيزدارية والشطر دارية والطشت دارية والحجاب والنقباء فكان جميعهم أربعمائة وستين. وكان السلطان أمر أن يكون الطعام بها كل يوم اثنى عشر منّاً من الدقيق ومثلها من اللحم فرأيت أن ذلك قليل والزرع الذي أمر به كثير فكنت أنفق كل يوم خمسة وثلاثين منًّا من الدقيق ومثلها من اللحم مع ما يتبع ذلك من السكر والنبات والسمن والتنبول وكنت أطعم المرتبين وغيرهم من صادر ووارد وكان الغلاء شديداً فارتفق الناس بهذا الطعام وشاع خبره وسافر الملك صبيح إلى السلطان بدولة آباد فسأله عن

1 الإسراء، الآية:29.

2 الأعراف، الآية:31.

3 الفرقان، الآية:67.

ص: 406

حال الناس فقال له لو كان بدهلي اثنان مثل فلان لما شكا الجهد أحد فأعجب ذلك السلطان وبعث إلي بخلعة من ثيابه وكنت أصنع في المواسم وهي العيدان والمولد الكريم ويوم عاشوراء وليلة النصف من شعبان ويوم وفاة السلطان قطب الدين مائة من الدقيق ومثلها لحماً فيأكل منها الفقراء والمساكين، وأما أهل الوظيفة فيجعل أمام كل إنسان منهم ما يخصه ولنذكر عادتهم في ذلك.

وعادتهم ببلاد الهند وببلاد السرا أنه إذا فرغ من أكل الطعام في الوليمة جعل أمام كل إنسان من الشرفاء والفقهاء والمشايخ والقضاة وعاء شبه المهد له أربع قوائم منسوج سطحه من الخوص وجعل عليه الرقاق ورأس غنم مشوي وأربعة أقراص معجونة بالسمن مملوءة بالحلواء الصابونية مغطاة بأربع قطع من الحلواء كأنها الآجر وطبقا صغيراً مصنوعاً من الجلد فيه الحلواء والسموسك ويغطي ذلك الوعاء بثوب قطن جديد ومن كان دون من ذكرناه جعل أمامه نصف رأس غنم ويسمونه الزلة ومقدار النصف مما ذكرناه ومن كان دون هؤلاء أيضا جعل أمامه مثل الربع من ذلك ويرفع رجال كل أحد ما جعل أمامه وأول ما رأيتهم يصنعون هذا بمدينة السرا حضرة السلطان أوزبك فامتنعت أن يرفع رجالي ذلك إذ لم يكن لي به عهد وكذلك يبعثون أيضا لدار كبراء الناس من طعام الولائم.

وكان الوزير قد أعطاني من الغلة المأمور بها للزاوية عشرة آلاف منّ ونفذ لي الباقي في هزار أمروها. وكان والي الخراج بها عزيز الخمار وأميرها شمس الدين البذخشاني. فبعثت رجالي فأخذوا بعض الإحالة وتشكوا من تعسف عزيز الخمار فخرجت بنفسي لاستخلاص ذلك وبين دهلي وهذه العمالة ثلاثة أيام وكان ذلك في أوان نزول المطر فخرجت في نحو ثلاثين من أصحابي واستصحبت معي أخوين من المغنيين المحسنين يغنيان لي في الطريق، فوصلنا إلى بلدة بِجْنَوَر، وضبط اسمها "بكسر الباء الموحدة وسكون الجيم وفتح النون وآخره راء" فوجدت بها أيضاً ثلاثة إخوة من المغنين فاستصحبتهم فكانوا يغنون لي نوبة والآخران نوبة.

ثم وصلنا إلى أمروها وهي بلدة صغيرة حسنة فخرج عمالها للقائي وجاء قاضيها الشريف أمير علي وشيخ زاويتها وأضافاني معا ضيافة حسنة وكان عزيز الخمار بموضع يقال له: أفغان بور على نهر السرو. وبيننا وبينه

ص: 407

النهر ولا معدية فيه. فأخذنا الأثقال في معدية صنعناها من الخشب والنبات وجزنا في اليوم الثاني وجاء نجيب أخو عزيز في جماعة من أصحابه وضرب لنا سراجه ثم جاء أخوه إلى الوالي وكان معروفاً بالظلم وكانت القرى التي في عمالته ألفا وخمسمائة قرية ومجباها ستون لكاً في السنة له فيها نصف العشر. ومن عجائب النهر الذي نزلنا عليه أنه لا يشرب منه أحد في أيام نزول المطر ولا تسقى منه دابة ولقد أقمنا عليه ثلاثاً فما غرف منه أحد غرفة ولا كدنا نقرب منه لأنه ينزل من جبل قراجيل التي بها معادن الذهب ويمر على الحشائش المسمومة فمن شرب منه مات وهذا الجبل متصل مسيرة ثلاثة أشهر وينزل منه إلى بلاد تبت حيث غزلان المسك. وقد ذكرنا ما اتفق على جيش المسلمين بهذا الجبل وبهذا الموضع جاء إلي جماعة من الفقراء الحيدرية وعملوا السماع وأوقدوا النيران فدخلوها ولم تضرهم وقد ذكرنا ذلك. وكانت قد نشأت بين أمير هذه البلاد شمس الدين البذخشاني وبين واليها عزيز الخمار منازعة وجاء شمس الدين لقتاله فامتنع منه بداره وبلغت شكاية أحدهما الوزير بدهلي فبعث إلى الوزير وإلى الملك شاه أمير المماليك بأمروها وهم أربعة آلاف مملوك للسلطان وإلى شهاب الدين الرومي أن ننظر في قضيتهما فمن كان على الباطل بعثاه مثقفاً إلى الحضرة فاجتمعوا جميعاً بمنزلي وادعى عزيز على شمس الدين دعاوي منها: أن خديما له يعرف بالرضى الملتاني نزل بدار خازن عزيز المذكور فشرب بها الخمر وسرق خمسة آلاف دينار من المال الذي عند الخازن. فاستفهمت الرضى عن ذلك. فقال لي ما شربت الخمر منذ خروجي من ملتان وذلك ثمانية أعوام. فقلت له: أو شربتها بملتان؟ قال نعم. فأمرت بجلده ثمانين وسجنته، بسبب الدعوى للوث ظهر عليه، وانصرفت عن أمروها. فكانت غيبتي نحو شهرين وكنت في كل يوم أذبح لأصحابي بقرة وتركت أصحابي ليأتوا بالزرع المنفذ على عزيز وحمله عليه فوزع على أهل القرى التي لنظره ثلاثين ألف من يحملونها على ثلاثة آلاف بقرة وأهل الهند لا يحملون إلا على البقر وعليه يرفعون أثقالهم في الأسفار وركوب الحمير عندهم عيب كبير وحميرهم صغار الأجرام،

ص: 408

ويسمونها اللاشة وإذا أرادوا إشهار أحد بعد ضربه أركبوه الحمار.

وكان السيد ناصر الدين الأوهري قد ترك عندي لما سافر ألفاً وستين تنكة فتصرفت فيها فلما عدت إلى دهلي وجدته قد أحال في ذلك المال خذواندزاده قوام الدين وكان قدم نائباً على الوزير فاستقبحت أن أقول له تصرفت في المال فأعطيته نحو ثلثه وأقمت بداري أياما وشاع في أني مرضت فأتى ناصر الدين الخوارزمي صدر الجهان لزيارتي فلما رآني قال ما أرى بك مرض. فقلت له: إني مريض القلب. فقال لي عرفني بذلك فقلت له ابعث إلي نائبك شيخ الإسلام أعرفه به فبعثه إلي فأعلمته فعاد إليه فأعلمه فبعث إلي بألف دينار دراهم. وكان له عندي قبل ذلك ألفا ثانية ثم طلب مني بقية المال فقلت في نفسي ما يخلصني منه إلا صدر الجهان المذكور لأنه كثير المال فبعثت إليه بفرس مسرج قيمته وقيمة سرجه ألف وستمائة دينار وبفرس ثان قيمته وقيمة سرجه ثمانمائة دينار وببغلتين قيمتهما ألف ومائتا دينار وبتركش فضة وبسيفين غمداهما مغشيان بالفضة وقلت له انظر قيمة الجميع وابعث إلي ذلك. فأخذ ذلك وعمل لجميعه قيمة ثلاثة آلاف دينار فبعث إلي ألفاً واقتطع الألفين فتغير خاطري ومرضت بالحمى. وقلت في نفسي إن شكوت به إلى الوزير افتضحت فأخذت خمسة أفراس وجاريتين ومملوكين وبعثت الجميع للملك مغيث الدين محمد بن ملك الملوك عماد الدين السمناني وهو فتى مسن فرد على ذلك وبعث إلي مائتي تنكة وأغزر وخلصت من ذلك المال فشتان بين محمد ومحمد.

وكان السلطان لما توجه إلى بلاد المعبر وصل إلى التلنك ووقع الوباء بعسكره فعاد إلى دولة آباد ثم وصل إلى نهر الكنك فنزل عليه وأمر الناس بالبناء وخرجت في تلك الأيام إلى محلته واتفق ما سردناه من مخالفة عين الملك ولازمت السلطان في تلك الأيام وأعطاني من عتاق الخيل لما قسمها على خواصه وجعلني فيهم وحضرت معه الوقيعة على عين الملك والقبض عليه وجزت معه نهر الكنك ونهر السرو لزيارة قبر الصالح البطل سالا رعود وقد استوفيت ذلك كله وعدت معه إلى حضرة دهلي لما عاد إليها.

وقد هم السلطان بمعاقبتي ولكن الله سبحانه وتعالى تداركني بلطفه ونجاني. وكان سبب ذلك أنّي ذهبت يوماً لزيارة الشيخ شهاب الدين ابن الشيخ

ص: 409

الجام، بالغار الذي احتفره خارج دهلي، وكان قصدي رؤية ذلك الغار فلما أخذه السلطان سأل أولاده عمن كان يزوره فذكروا أناساً أنا من جملتهم فأمر السلطان أربعة من عبيده بملازمتي بالمشور. وعادته أنه متى فعل ذلك مع أحد قلما يتخلص. فكان أول يوم من ملازمتهم لي يوم الجمعة فألهمني الله تعالى إلى تلاوة قوله {حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} 1. فقرأتها ذلك اليوم ثلاثة وثلاثين ألف مرة وبت بالمشور وواصلت إلى خسمة أيام في كل يومٍ منها أختم القرآن وأفطر على الماء خاصة ثم أفطرت بعد خمس وواصلت أربعاً وتخلصت بعد قتل الشيخ، والحمد لله تعالى.

ولما كان بعد مدة انقبضت عن الخدمة ولازمت الشيخ الإمام العالم العابد الزاهد الخاشع الورع فريد الدهر ووحيد العصر كمال الدين عبد الله الغاري وكان من الأولياء وله كرامات كثيرة قد ذكرت منها ما شاهدته عند ذكر اسمه وانقطعت إلى خدمة هذا الشيخ ووهبت ما عندي للفقراء والمساكين وكان الشيخ يواصل عشرة أيام وربما واصل عشرين فكنت أحب أن أواصل فكان ينهاني ويأمرني بالرفق على نفسي في العبادة ويقول لي أن المنبت لا أرضا قطع ولا ظهرا أبقى وظهر لي من نفسي تكاسل بسبب شيء بقي معي فخرجت عن جميع ما عندي من قليل وكثير وأعطيت ثياب ظهري لفقير ولبست ثيابه ولزمت هذا الشيخ خمسة أشهر والسلطان إذ ذاك غائب ببلاد السند.

ولما بلغ السلطان خبر خروجي عن الدنيا استدعاني وهو يومئذ بسيوستان، فدخلت عليه في زي الفقراء فكلمني أحسن كلام وألطفه وأراد مني الرجوع إلى الخدمة فأبيت وطلبت منه الإذن في السفر إلى الحجاز فأذن لي فيه وانصرفت عنه ونزلت بزاوية تعرف بالنسبة إلى الملك بشير وذلك في أواخر جمادى الثانية سنة ثنتين وأربعين فاعتكفت بها شهر رجب وعشرة من شعبان وانتهيت إلى مواصلة خمسة أيام وأفطرت بعدها على قليل أرز دون إدام. وكنت أقرأ القرآن كل يوم وأتهجد بما شاء الله وكنت إذا أكلت الطعام آذاني فإذا طرحته وجدت الراحة وأقمت كذلك أربعين يوماً ثم بعث عني ثانية

1 آل عمران، الآية:173.

ص: 410

ولما كملت لي أربعون يوماً بعث إلي السلطان خيلاً مسرجة وجواري وغلماناً وثياباً ونفقة، فلبست ثيابه وقصدته. وكانت لي جبة قطن زرقاء مبطنة لبستها أيام اعتكافي فلما جردتها ولبست ثياب السلطان أنكرت نفسي وكنت متى نظرت إلى تلك الجبة أجد نوراً في باطني ولم تزل عندي إلى أن سلبني الكفار في البحر. ولما وصلت إلى السلطان زاد في إكرامي على ما كنت أعهده. وقال لي إنما بعثت إليك لتتوجه عني رسولا إلى ملك الصين فإني أعلم حبك في الأسفار والجولان فجهزني بما أحتاج له وعين للسفر معي من يذكر بعد.

وكان ملك الصين قد بعث إلى السلطان مائة مملوك وجارية وخمسمائة ثوب من الكمخا منها مائة من التي تصنع بمدينة الزيتون ومائة من التي تصنع بمدينة الخنسا وخمسة أمنان من المسك وخمسة أثواب مرصعة بالجوهر وخمسة من التراكش مزركشة ومثلها سيوف. وطلب من السلطان أن يأذن له في بناء بيت الأصنام بناحية جبل قراجيل المتقدم ذكره. ويعرف الموضع الذي هو به بِسَمْهَل "بفتتح السين المهمل وسكون الميم وفتح الهاء" وإليه يحج أهل الصين وتغلب عليه جيش الإسلام بالهند فخربوه وسلبوه. ولما وصلت هذه الهدية إلى السلطان كتب إليه أن هذا المطلب لا يجوز في ملة الإسلام إسعافه ولا يباح بناء كنيسة بأرض المسلمين إلا لمن يعطي الجزية فإن رضيت بإعطائها أبحنا لك بناءه والسلام على من اتبع الهدى. وكافأه عن هديته بخير منها وذلك مائة فرس من الجياد مسرجة ملجمة ومائة مملوك ومائة جارية من كفار الهند مغنيات ورواقص ومائة ثوب بيرمية وهي من القطن ولا نظير لها في الحسن قيمة الثوب منها مائة دينار ومائة شقة من ثياب الحرير المعروفة بالجز وهي التي يكون حرير إحداها مصبوغا بخمسة ألوان وأربعة ومائة ثوب من الثياب المعروفة بالصلاحية ومائة ثوب من الشيرين باف ومائة ثوب من الشان باف وخمسمائة ثوب من المرعز مائة منها سود ومائة بيض ومائة حمر ومائة خضر ومائة زرق ومائة شقة من الكتان الرومي ومائة فضلة من الملف وسراجة وست من القباب وأربع حسك من ذهب وست حسك من فضة منيلة وأربع طسوت من الذهب ذات أباريق كمثلها وست طسوت من الفضة وعشر خلع من ثياب السلطان مزركشة وعشر شواش من لباسه إحداهما مرصعة بالجوهر وعشرة تراكش مزركشة وأحدها مرصع بالجواهر وعشرة

ص: 411

من السيوف أحدها مرصع الغمد بالجوهر ودشت بان "دستبان" وهو قفاز مرصع بالجوهر وخمسة عشر من الفتيان. وعين السلطان للسفر معي بهذه الهدية الأمير ظهير الدين الزنجاني وهو من فضلاء أهل العلم والفتى كافور الشربدار وإليه سلمت الهدية وبعث معنا الأمير محمد الهروي في ألف فارس ليوصلنا إلى الموضع الذي نركب منه البحر وتوجه صحبتنا أرسال ملك الصين وهم خمسة عشر رجلاً يسمى كبيرهم ترسي وخدامهم نحو مائة رجل وانفصلنا في جمع كبير ومحلة عظيمة وأمر لنا السلطان بالضيافة مدة سفرنا ببلاده.

وكان سفرنا في السابع عشر لشهر صفر سنة ثلاث وأربعين، وهو اليوم الذي اختاروه للسفر لأنهم يختارون للسفر من أيام الشهر ثانيه أو سابعة أو الثاني عشر أو السابع عشر أو الثاني والعشرين أو السابع والعشرين فكان نزولنا في أول مرحلة بمنزل تلبت على مسافة فرسخين وثلث من حضرة دهلي.

ورحلنا منه إلى منزل هيلوور1، ورحلنا منه إلى مدينة بَيَانة "وضبط اسمها بفتح الباء الموحدة وفتح الياء آخر الحروف مع تخفيفها وفتح النون" وهي مدينة كبيرة حسنة البناء مليحة الأسواق ومسجدها الجامع من أبدع المساجد وحيطانه وسقفه حجارة. والأمير بها مظفر بن الداية وأمه هي داية السلطان وكان بها قبله الملك مجير بن أبي الرجاء أحد كبراء الملوك وقد تقدم ذكره وهو ينتسب في قريش وفيه تجبر وله ظلم كثير قتل من أهل هذه المدينة جملة ومثّل بكثير منهم.

ولقد رأيت من أهلها رجلاً حسن الهيئة قاعداً في أسطوان منزله وهو مقطوع اليدين والرجلين. وقدم السلطان مرة على هذه المدينة فتشكى الناس من الملك مجير المذكور فأمر السلطان بالقبض عليه وجعلت في عنقه الجامعة وكان يقعد بالديوان بين يدي الوزير وأهل البلد يكتبون عليه المظالم فأمر السلطان بإرضائهم فأرضاهم بالأموال ثم قتله بعد ذلك. ومن كبار أهل هذه المدينة الإمام العالم عز الدين الزبيري من ذرية الزبير بن العوام رضي الله عنه

1 في بعض طبعات الكتاب، ورحلنا منه إلى منزل هيلو.

ص: 412

أحد كبار الفقهاء الصلحاء لقيته بكاليور عند الملك عز الدين البنتاني المعروف بأعظم ملك. ثم رحلنا من بيانة فوصلنا إلى مدينة كُول "وضبط اسمها بضم الكاف" مدينة حسنة ذات بساتين وأكثر أشجارها العنبا. ونزلنا بخارجها في بسيط أفيح ولقينا بها الشيخ الصالح العابد شمس الدين المعروف بابن تاج العارفين وهو مكفوف البصر معمر وبعد ذلك سجنه السلطان ومات في سجنه. وقد ذكرنا حديثه.

ولما بلغنا إلى مدينة كول، بلغنا أن بعض كفار الهنود حاصروا بلدة الجلالي وأحاطوا بها وهي على مسافة سبعة أميال من كول، فقصدنا الجلالي والكفار يقاتلون أهلها وقد أشرفوا على التلف ولم يعلم الكفار بنا حتى صدقنا الحملة عليهم وهم في نحو ألف فارس وثلاثة آلاف راجل فقتلناهم عن آخرهم واحتوينا على خيلهم وأسلحتهم واستشهد من أصحابنا ثلاثة وعشرون فارساً وخمسة وخمسون راجلاً، واستشهد الفتى كافور الساقي الذي كانت الهدية مسلمة بيده فكتبنا إلى السلطان بخبره وأقمنا في انتظار الجواب وكان الكفار في أثناء ذلك ينزلون من جبل هنالك منيع فيغيرون على نواحي بلدة الجلالي وكان أصحابنا يركبون كل يوم مع أمير تلك الناحية ليعينوه على مدافعتهم.

وفي أحد الأيام ركبت في جماعة من أصحابي ودخلنا بستاناً نقيل فيه وذلك فصل القيظ فسمعنا الصياح فركبنا ولحقنا كفاراً أغاروا على قرية من قرى الجلالي فاتبعناهم فتفرقوا وتفرّق أصحابنا في طلبهم وانفردت في خمسة من أصحابنا فخرج علينا جملة من الفرسان والرجال من غيضة هنالك ففررنا منهم لكثرتهم واتبعني نحو عشرة منهم ثم انقطعوا عني إلا ثلاثة منهم ولا طريق بين يدي وتلك الأرض كثيرة الحجارة فنشبت يدا فرسي بين الحجارة فنزلت عنه واقتلعت يده وعدت إلى ركوبه. والعادة بالهند أن يكون مع الإنسان سيفان أحدهما معلق بالسرج ويسمى الركابي والآخر في التركش فسقط سيفي الركابي من غمده وكانت حليته ذهبا فنزلت فأخذته وتقلدته وركبت وهم في أثري ثم وصلت إلى خندق عظيم فنزلت ودخلت في جوفه فكان آخر عهدي بهم.

ثم خرجت إلى واد في وسط شجراء ملتفة في وسطها طريق فمشيت عليه ولا أعرف منتهاها فبينما أنا في ذلك خرج علي نحو أربعين رجلاً

ص: 413

من الكفار بأيديهم القسي فأحدقوا بي وخفت أن يرموني رمية رجل إن فررت منهم وكنت غير متدرع فألقيت بنفسي إلى الأرض واستأسرت. وهم لا يقتلون من فعل ذلك فأخذوني وسلبوني جميع ما علي غير جبة وقميص وسروال ودخلوا بي إلى تلك الغابة فانتهوا بي إلى موضع جلوسهم منها على حوض ماء بين تلك الأشجار وأتوني بخبز ماش وهو الجلبان فأكلت منه وشربت من الماء وكان معهم مسلمان كلماني بالفارسية وسألاني عن شأني فأخبرتهما ببعضه وكتمتهما أني من جهة السلطان. فقالا لي: لا بد أن يقتلك هؤلاء أو غيرهم ولكن هذا مقدمهم وأشارا إلى رجل منهم فكلمته بترجمة المسلمين وتلطفت له فوكل بي ثلاثة منهم أحدهم شيخ ومعه ابنه والآخر أسود خبيث وكلمني أولئك الثلاثة ففهمت منهم أنهم أمروا بقتلي فاحتملوني عشي النهار إلى كهف وسلط الله على الأسود منهم حمى مرعدة فوضع رجليه علي ونام الشيخ وابنه فلما أصبح تكلموا فيما بينهم وأشاروا إلي بالنزول معهم إلى الحوض وفهمت أنهم يريدون قتلي فكلمت الشيخ وتلطفت إليه فرقّ لي وقطعت كمي قميصي وأعطيته إياهما لكي لا يأخذه أصحابه في إن فررت.

ولما كان عند الظهر سمعنا كلاماً عند الحوض فظنوا أنهم أصحابهم فأشاروا إلي بالنزول معهم فنزلنا ووجدنا قوماً آخرين فأشاروا عليهم أن يذهبوا في صحبتهم فأبوا وجلس ثلاثتهم أمامي وأنا مواجه لهم ووضعوا حبل قنب كان معهم بالأرض وأنا أنظر إليهم وأقول في نفسي بهذا الحبل يربطونني عند القتل وأقمت كذلك ساعة ثم جاء ثلاثة من أصحابهم الذين أخذوني فتكلموا معهم وفهمت أنهم قالوا لهم لأي شيء ما قتلتموه؟ فأشار الشيخ إلى الأسود كأنه اعتذر بمرضه وكان أحد هؤلاء الثلاثة شاباً حسن الوجه فقال لي: أتريد أن أسرحك؟ فقلت: نعم. فقال: اذهب. فأخذت الجبة التي كانت عليّ فأعطيته إياها وأعطاني منيرة بالية عنده وأراني الطريق فذهبت وخفت أن يبدو لهم فيدركونني فدخلت غيضة قصب واختفيت فيها إلى أن غابت الشمس.

ثم خرجت وسلكت الطريق التي أرانيها الشاب فأفضت بي إلى ماء فشربت منه وسرت إلى ثلث الليل فوصلت إلى جبل فنمت تحته فلما أصبحت سلكت الطريق فوصلت ضحى إلى جبل من الصخر عال فيه شجر أم

ص: 414

غيلان والسدر، فكنت أجني النبق فآكله حتى أثر الشوك في ذراعي آثاراً هي باقية به حتى الآن.

ثم نزلت من ذلك الجبل إلى أرض مزدرعة قطناً وبها أشجار الخروع، وهنالك باين والباين عندهم بئر متسعة جدّاً مطوية بالحجارة لها درج ينزل عليها إلى ورد الماء وبعضها يكون في وسطه وجوانبه القباب من الحجر والسقائف والمجالس ويتفاخر ملوك البلاد وأمراؤها بعمارتها في الطرقات التي لا ماء بها وسنذكر بعض ما رأينا منها فيما بعد. ولما وصلت إلى الباين شربت منه ووجدت عليه شيئاً من عساليج الخردل قد سقطت لمن غسلها فأكلت منها وادخرت باقيها ونمت تحت شجرة خروع. فبينما أنا كذلك إذ ورد الباين نحو أربعين فارساً مدّرعين فدخل بعضهم إلى المزرعة ثم ذهبوا وطمس الله أبصارهم دوني. ثم جاء بعدهم نحو خمسين في السلاح ونزلوا الباين وأتى أحدهم إلى شجرة إزاء الشجرة التي كنت تحتها فلم يشعر بي. ودخلت إذ ذاك في مزرعة القطن وأقمت بها بقية نهاري وأقاموا على الباين يغسلون ثيابهم ويلعبون فلما كان الليل هدأت أصواتهم. فعلمت أنهم قد مروا أو ناموا، فخرجت حينئذ واتبعت أثر الخيل والليل مقمر وسرت حتى انتهيت إلى باين آخر عليه قبة فنزلت إليه وشربت من مائه وأكلت من عساليج الخردل التي كانت عندي ودخلت القبة فوجدتها مملوءة بالعشب مما يجمعه الطير فنمت بها. وكنت أحس حركة حيوان في ذلك العشب أظنه حية فلا أبالي بها لما بي من الجهد. فلما أصبحت سلكت طريقاً واسعة تفضي إلى قرية خربة وسلكت سواها فكانت كمثلها وأقمت كذلك أياماً وفي بعضها وصلت إلى أشجار ملتفة بينها حوض ماء وداخلها شبه بيت وعلى جوانب الحوض نبات الأرض كالنجيل وغيره. فأردت أن أقعد هنالك حتى يبعث الله من يوصلني إلى العمارة ثم إني وجدت يسير قوة فنهضت على طريق وجدت بها أثر البقر ووجدت ثوراً عليه بردعة ومنجل فإذا تلك الطريق تفضي إلى قرى الكفار. فاتبعت طريقاً أخرى فأفضت بي إلى قرية خربة ورأيت بها أسودين عريانين فخفتهما وأقمت تحت أشجار هنالك فلما كان الليل دخلت القرية ووجدت داراً في بيت من بيوتها شبه خابية كبيرة يصنعونها لاختزان الزرع وفي أسفلها نقب يسع منه الرجل فدخلتها ووجدت داخلها مفروشاً بالتبن وفيه حجر جعلت رأسي

ص: 415

عليه ونمت وكان فوقها طائر يرفرف بجناحيه أكثر الليل وأظنه كان يخاف فاجتمعنا خائفين. وأقمت على تلك الحال سبعة أيام من يوم أسرت وهو يوم السبت وفي السابع منها وصلت إلى قرية للكفار عامرة وفيها حوض ماء ومنابت خضر فسألتهم الطعام فأبوا أن يعطوني فوجدت حول بئرها أوراق فجل فأكلته. وجئت القرية فوجدت جماعة كفار لهم طليعة فدعاني طليعتهم فلم أجبه وقعدت إلى الأرض فأتى أحدهم بسيف مسلول ورفعه ليضربني به فلم ألتفت إليه لعظيم ما بي من الجهد ففتشني فلم يجد عندي شيئاً فأخذ القميص الذي كنت أعطيت كميه للشيخ الموكل بي.

ولما كان اليوم الثامن اشتد بي العطش وعدمت الماء ووصلت إلى قرية خراب، فلم أجد بها حوضاً. وعادتهم بتلك القرى أن يصنعوا أحواضاً يجتمع بها ماء المطر فيشربون منه جميع السنة فاتبعت طريقاً فأفضت بي إلى بئر غير مطوية عليها حبل مصنوع من نبات الأرض وليس فيه آنية يستقى بها فربطت خرقة كانت على رأسي في الحبل وامتصصت ما تعلق بها في الماء فلم يروني فربطت خفي واستقيت به فلم يروني فاستقيت به ثانياً فانقطع الحبل ووقع الخف في البئر فربطت الخف الآخر وشربت حتى رويت ثم قطعته فربطت أعلاه على رجلي بحبل البئر وبخرق وجدتها هنالك. فبينا أنا أربطها وأفكر في حالي إذ لاح لي شخص فنظرت إليه فإذا رجل أسود اللون بيده إبريق وعكاز وعلى كاهله جراب، فقال لي: سلام عليكم. فقلت له: عليكم السلام ورحمة الله وبركاته: فقال لي بالفارسية: جيكس "جه كسيى" معناه من أنت؟ فقلت له: أنا تائه. فقال لي: وأنا كذلك. ثم ربط إبريقه بحبل كان معه واستقى ماء فأردت أن أشرب فقال لي اصبر ثم فتح جرابة فأخرج منه غرفة حمص أسود مقلو مع قليل أرز فأكلت منه وشربت. وتوضأ وصلى ركعتين. وسألني عن اسمي فقلت له: محمد. وسألته عن اسمه، فقال لي: القلب الفارح. فتفاءلت بذلك وسررت به. ثم قال لي بسم الله ترافقني؟ فقلت: نعم. فمشيت معه قليلاً ثم وجدت فتوراً في أعضائي ولم أستطع النهوض فقعدت. فقال: ما شأنك؟ فقلت له: كنت قادراً على المشي قبل أن ألقاك فلما لقيتك عجزت. فقال: سبحان الله اركب فوق عنقي. فقلت له: إنك ضعيف ولا تستطع ذلك. فقال: يقويني الله لا بد لك

ص: 416

فركبت على عنقه. وقال لي أكثر من قراءة: حسبنا الله ونعم الوكيل، فأكثرت من ذلك.

وغلبتني عيني فلم أفق إلا لسقوطي على الأرض فاستيقظت ولم أر للرجل أثراً وإذا أنا في قرية عامرة فدخلتها فوجدتها لرعية الهنود وحاكمها من المسلمين، فأعلموه بي فجاء إلي. فقلت له: ما اسم هذه القرية؟ فقال لي: تاج بوره وبينها وبين مدينة كُول حيث أصحابنا فرسخان. وحملني ذلك الحاكم إلى بيته فأطعمني طعاماً سخناً واغتسلت. وقال لي: عندي ثوب وعمامة أودعهما عندي رجل عربي مصري من أهل المحلة التي بِكُول فقلت له: هاتهما ألبسهما إلى أن أصل إلى المحلة. فأتي بهما فوجدتهما من ثيابي كنت قد وهبتهما لذلك العربي لما قدمنا كُول فطال تعجبي من ذلك.

وفكّرت في الرجل الذي حملني على عنقه، فتذكرت ما أخبرني به ولي الله تعالى أبو عبد الله المرشدي حسبما ذكرناه في السفر الأول إذ قال لي ستدخل أرض الهند وتلقي بها أخي دلشاد ويخلصك من شدة تقع فيها وتذكرت قوله لما سألته عن اسمه فقال القلب الفارح وتفسيره بالفارسية دلشاد فعلمت أنه هو الذي أخبرني بلقائه وأنه من الأولياء ولم يحصل لي من صحبته إلا المقدار الذي ذكرت. وكتبت تلك الليلة إلى أصحابي بِكُول معلماً لهم بسلامتي فجاؤا إلي بفرس وثياب واستبشروا بي ووجدت جواب السلطان قد وصلهم وبعث بفتى يسمى بسنبل الجامدار عوضا من كافور المستشهد وأمرنا أن نتمادى على سفرنا ووجدتهم أيضا قد كتبوا للسلطان بما كان من أمري وتشاءموا بهذه السفرة لما جرى فيها علي وعلى كافور وهم يريدون أن يرجعوا فلما رأيت تأكيد السلطان في السفر أكدت عليهم وقوي عزمي، فقالوا: ألا ترى ما اتفق في بداية هذه السفرة والسلطان يعذرك فلنرجع إليه أو نقيم حتى يصل جوابه. فقلت لهم: لا يمكن المقام وحيث ما كنا أدركنا الجواب من كُول إلى دولة آباد. فرحلنا من كُول ونزلنا برج بوره، وبه زاوية حسنة فيها شيخ حسن الصورة والسيرة يسمى بمحمد العريان لأنه لا يلبس عليه إلا ثوباً من سرته إلى أسفل وباقي جسده مكشوف. وهو تلميذ الصالح الولي محمد العريان القاطن بقرافة مصر نفع الله به، وكان من أولياء الله تعالى قائماً على قدم التجرد يلبس تنورة وهو ثوب يستر من سرته إلى أسفل ويذكر أنه كان إذا صلى العشاء الآخرة أخرج كل ما بقي بالزاوية من طعام وأدام وماء وفرق ذلك على المسلمين ورمى بفتيلة السراج وأصبح على غير

ص: 417

معلوم. وكانت عادته أن يطعم أصحابه عند الصباح خبزاً وفولاً فكان الخبازون والفوالون يستبقون إلى زاويته فيأخذ منهم مقدار ما يكفي الفقراء ويقول لمن أخذ منه ذلك: اقعد حتى يأخذ أول ما يفتح به عليه في ذلك اليوم قليلاً أو كثيراً. ومن حكاياته أنه لما وصل قازان ملك التتر إلى الشام بعساكره وملك دمشق ما عدا قلعتها وخرج الملك الناصر إلى مدافعته ووقع اللقاء على مسيرة يومين من دمشق بموضع يقال له قشحب والملك الناصر إذ ذاك حديث السن لم يعهد الوقائع وكان الشيخ العريان في صحبته فنزل وأخذ قيداً فقيد به فرس الملك الناصر لئلا يتزحزح عند اللقاء لحداثة سنه فيكون ذلك سبب هزيمة المسلمين فثبت الملك الناصر وهزم التتر هزيمة شنعاء قتل منهم فيها كثير وغرق كثير بما أرسل عليهم من المياه ولم يعد التتر إلى قصد بلاد الإسلام بعدها. وأخبرني الشيخ محمد العريان المذكور تلميذ هذا الشيخ أنه حضر هذه الوقيعة وهو حديث السن. ورحلنا من برج بوره ونزلنا على الماء المعروف بآب سياه، ثم رحلنا إلى مدينة قِنَوْج "وضبط اسمها بكسر القاف وفتح النون وواو ساكن وجيم" مدينة كبيرة حسنة العمارة حصينة رخيصة الأسعار كثيرة السكر ومنها يحمل إلى دهلي وعليها سور عظيم وقد تقدم ذكرها. وكان بها الشيخ معين الدين الباخرزي أضافنا بها، وأميرها فيروز البدخشاني من ذرية بهرام جور صاحب كسرى ويسكن بها جماعة من الصلحاء الفضلاء المعروفين بمكارم الأخلاق يعرفون بأولاد شرف جهان، وكان جدهم قاضي القضاة بدولة آباد، وهو من المحسنين المتصدقين، وانتهت الرئاسة ببلاد الهند إليه.

وقد عزل مرة عن القضاء وكان له أعداء فادعى أحدهم عند القاضي الذي ولي بعده أن له عشرة آلاف دينار قبله، ولم تكن له بينة وكان قصده أن يحلفه، فبعث القاضي له، فقال لرسوله: بم ادعى علي؟ فقال: بعشرة آلاف دينار. فبعث إلى مجلس القاضي عشرة آلاف وسلمت للمدعي. وبلغ خبره السلطان علاء الدين وصحّ عنده بطلان تلك الدعوى فأعاده إلى القضاء وأعطاه عشرة آلاف. وأقمنا بهذه المدينة ثلاثاً ووصلنا فيها جواب السلطان في شأني بأنه إن لم يظهر لفلان أثر فيتوجه وجيه الملك قاضي دولة آباد عوضاً منه. ثم رحلنا من هذه المدينة فنزلنا بمنزل هنول، ثم بمنزل وزير بور، ثم بمنزل البجالصة، ثم وصلنا إلى مدينة مَوْري

ص: 418

"وضبط اسمها فتح الميم وواو وراء" وهي صغيرة، ولها أسواق حسنة. ولقيت بها الشيخ الصالح المعمر قطب الدين المسمى بحيدر الفرغاني، وكان بحال مرض فدعا لي وزودني رغيف شعير. وأخبرني أن عمره ينيف على مائة وخمسين. وذكر لي أصحابه أنه يصوم الدهر ويواصل كثيراً ويكثر الاعتكاف وربما أقام في خلوته أربعين يوماً يقتات فيها بأربعين تمرة في كل يوم واحدة. وقد رأيت بدهلي الشيخ المسمى برجب البرقعي دخل الخلوة بأربعين تمرة فأقام بها أربعين يوماً ثم خرج وفضل معه منها ثلاث عشرة تمرة. ثم رحلنا ووصلنا إلى مدينة مَرْه وضبط اسمها "بفتح وسكون الراء وهاء"، وهي مدينة كبيرة أكثر سكانها كفار تحت الذمة وهي حصينة وبها القمح الطيب الذي ليس له مثل بسواها ومنها يحمل إلى دهلي وحبوبه طوال شديدة الصفرة ضخمة ولم أر قمحاً مثله إلا بأرض الصين وتنسب هذه المدينة إلى المالوة وهي قبيلة من قبائل الهنود ضخام الأجسام عظام الخلق حسان الصور لنسائهم الجمال الفائق وهن مشهورات بطيب الخلوة ووفور الحظ من اللذة، وكذلك نساء المرهتة ونساء جزيرة ذيبة المهل. ثم سافرنا إلى مدينة عَلَابُور "وضبط اسمها فتح العين ولام وألف وباء موحدة مضمومة وواو وراء" مدينة صغيرة أكثر سكانها الكفار تحت الذمة وعلى مسيرة يوم منها سلطان كافر اسمه قَتَم "بفتح القاف والتاء المعلوة" وهو سلطان جَنْبيل "بفتح الجيم وسكون النون وكسر الباء الموحدة وياء مد ولام" الذي حاصر مدينة كيالير وقتل بعد ذلك.

وكان هذا السلطان الكافر قد حاصر مدينة رابري، وهي على نهر اللجون كثيرة القرى والمزارع وكان أميرها خطاب الأفغاني وهو أحد الشجعان. واستعان السلطان الكافر بسلطان كافر مثله يسمى رَجُو "بفتح الراء وضم الجيم" وبلده يسمى سلطان بور، وحاصر مدينة رابري فبعث خطاباً إلى السلطان يطلب منه الإغاثة فأبطأ عليه المدد وهو على مسيرة أربعين من الحضرة فخاف أن يتغلب الكفار عليه فجمع من قبيلة الأفغان نحو ثلاثمائة ومثلهم من المماليك ونحو أربعمائة من سائر الناس وجعلوا العمائم في أعناق خيلهم وهي عادة أهل الهند إذا أرادوا الموت وباعوا نفوسهم من الله تعالى وتقدم خطاب وقبيلته واتبعهم سائر الناس وفتحوا الباب عند الصبح وحملوا على الكفار حملة واحدة وكانوا نحو خمسة عشر ألفاً فهزموهم بإذن الله وقتلوا سلطانيهم:

ص: 419

قَتَم ورَجُو وبعثوا برأسهما إلى السلطان. ولم ينج من الكفار إلى الشريد.

وكان أمير علابور بدر الحبشي من عبيد السلطان، وهو من الأبطال الذين تضرب بهم الأمثال، وكان لا يزال يغير على الكفار منفرداً بنفسه، فيقتل ويسبي، حتى شاع خبره واشتهر أمره وهابه الكفار.

وكان طويلاً ضخماً يأكل الشاة عن آخرها في أكلة وأخبرت أنه كان يشرب نحو رطل ونصف من السمن بعد غذائه على عادة الحبشة ببلادهم، وكان له ابن يدانيه في الشجاعة. فاتفق أنه أغار مرة في جماعة من عبيده على قرية للكفار فوقع به الفرس في مطمورة، واجتمع عليه أهل القرية فضربه أحدهم بقُتَارة والقُتَارة "بقاف معقود وتاء معلوة" حديدة شبه سكة الحرث، يدخل الرجل يده فيها فتكسو ذراعه ويفضل منها مقدار ذراعين وضربتها لاتبقي، فقتله بتلك الضربة، وقاتل عبيده أشد القتال فتغلبوا على القرية وقتلوا رجالها وسبوا نساءها وما فيها. وأخرجوا الفرس من المطمورة سالماً فأتوا به ولده فكان من الاتفاق الغريب أنه ركب الفرس وتوجه إلى دهلي فخرج عليه الكفار فقاتلهم حتى قتل وعاد الفرس إلى أصحابه فدفعوه إلى أهله فركبه صهر له فقتله الكفار عليه أيضاً. ثم سافرنا إلى مدينة كالِيُور "وضبط اسمها بفتح الكاف المعقود وكسر اللام وضم الياء آخر الحروف وواو وراء" ويقال فيه أيضاً: كيالير، وهي مدينة كبيرة لها حصن منيع منقطع في رأس شاهق على بابه صورة فيل وفيال من الحجارة وقد مر ذكره في اسم السلطان قطب الدين وأمير هذه المدينة أحمد بن سيرخان فاضل كان يكرمني أيام إقامتي عنده قبل هذه السفرة. ودخلت عليه يوماً وهو يريد توسيط رجل من الكفار فقلت له: بالله لا تفعل ذلك فإني ما رأيت أحداً قط يقتل بمحضري فأمر بسجنه وكان ذلك سبب خلاصه. ثم رحلنا من مدينة كاليور إلى مدينة بَرْوَن "وضبط اسمها بفتح الباء المعقودة وسكون الراء وفتح الواو وآخره نون" مدينة صغيرة للمسلمين بين بلاد الكفار، أميرها محمد بن بيرم التركي الأصل. والسباع بها كثيرة، وذكر لي بعض أهلها أن السبع كان يدخل إليها ليلاً وأبوابها مغلقة فيفترس الناس حتى قتل من أهلها كثيراً وكانوا يعجبون في شأن دخوله.

وأخبرني محمد التوفيري من أهلها وكان جاراً لي بها أنه دخل داره ليلاً وافترس صبياً من فوق السرير. وأخبرني غيره أنه كان مع جماعة في دار عرس

ص: 420

فخرج أحدهم لحاجة فافترسه. فخرج أصحابه في طلبه فوجدوه مطرحاً بالسوق وقد شرب دمه ولم يأكل لحمه. وذكروا أنه كذلك فعله بالناس. ومن العجب أن بعض الناس أخبرني أن الذي يفعل ذلك ليس بسبع وإنما هو آدمي من السحرة المعروفين بالجوكية، يتصور في صورة سبع. ولما أخبرت بذلك أنكرته، وأخبرني به جماعة ولنذكر بعضا من أخبار هؤلاء السحرة.

فهؤلاء الطائفة تظهر منهم عجائب. منها: أن أحدهم يقيم الأشهر لا يأكل ولا يشرب وكثير منهم تحفر لهم حفر تحت الأرض وتبنى عليه فلا يترك له إلا موضع يدخل منه الهواء ويقيم به الشهور وسمعت أن بعضهم يقيم كذلك سنة. ورأيت بمدينة منجرور رجلاً من المسلمين ممن يتعلم منهم قد رفعت له طبلة وأقام بأعلاها لا يأكل ولا يشرب مدة خمسة وعشرين يوماً وتركته كذلك فلا أدري كم أقام بعدي. والناس يذكرون أنهم يركبون حبوباً يأكلون الحبة منها لأيام معلومة أو شهر فلا يحتاج في تلك المدة إلى طعام ولا شراب ويخبرون بأمور مغيبة، والسلطان يعظمهم ويجالسهم. ومنهم من يقتصر في أكله على البقل. ومنهم من لا يأكل اللحم وهم الأكثرون والظاهر من حالهم أنهم عودوا أنفسهم الرياضة ولا حاجة لهم في الدنيا وزينتها. ومنهم من ينظر إلى الإنسان فيقع ميتاً من نظرته وتقول العامة أنه إذا قتل بالنظر وشق عن صدر الميت وجد دون قلب ويقولون أكل قلبه وأكثر ما يكون هذا في النساء والمرأة التي تفعل ذلك تسمى كفتار.

ولما وقعت المجاعة العظمى ببلاد الهند بسبب القحط والسلطان ببلاد التلنك نفذ أمره أن يعطى لأهل دهلي ما يقوتهم بحساب رطل ونصف للواحد في اليوم فجمعهم الوزير ووزع المساكين منهم على الأمراء والقضاة ليتولوا إطعامهم فكان عندي منهم خمسمائة نفس فعمرت لهم سقائف في واد1 وأسكنتهم بها وكنت أعطيهم نفقة في خمسة أيام فلما كان في بعض الأيام أتوني بامرأة منهم وقالوا إنها كفتار وقد أكلت قلب صبي كان إلى جانبها وأتوا بالصبي ميتاً فأمرتهم أن يذهبوا إلى نائب السلطان فأمر باختبارها. وذلك بأن ملأوا أربع جرات بالماء وربطوها بيديها ورجليها وطرحوها في نهر

1 في بعض طبعات الكتاب: في دارين.

ص: 421

الجون فلم تغرق. فعلم أنها كفتار ولو لم تطف على الماء لم تكن بكفتار. فأمر بإحراقها بالنار. وأتى أهل البلد رجالاً ونساءً فأخذوا رمادها. وزعموا أنه من تبخّر به أمن في تلك السنة من سحر كفتار.

وقد بعث إلي السلطان يوماً وأنا عنده بالحضرة فدخلت عليه وهو في خلوة وعنده بعض خواصه ورجلان من هؤلاء الجوكية وهم يلتحفون بالملاحف ويغطون رؤوسهم لأنهم ينتفونها بالرماد كما ينتف الناس أباطهم فأمرني بالجلوس فجلست. فقال لهما: إن هذا العزيز من بلاد بعيدة فأرياه ما لم يره. فقالا: نعم. فتربع أحدهما ثم ارتفع عن الأرض حتى صار في الهواء فوقنا متربعاً. فعجبت منه وأدركني الوهم فوقعت إلى الأرض فأمر السلطان أن أسقى دواءا عنده فأفقت وقعدت وهو على حاله متربع فأخذ صاحبه نعلاً له من شكارة كانت معه فضرب بها الأرض كالمغتاظ فصعدت إلى أن علت فوق عنق المتربع وجعلت تضرب في عنقه وهو ينزل قليلاً قليلاً حتى جلس معنا. فقال السلطان: إن المتربع هو تلميذ صاحب النعل. ثم قال: لولا أني أخاف على عقلك لأمرتهم أن يأتوا بأعظم مما رأيت فانصرفت عنه وأصابني الخفقان ومرضت حتى أمر لي بشربة اذهبت ذلك عني.

ولنعد لما كنا بسبيله فنقول: سافرنا من مدينة برون إلى منزل أمواري. ثم منزل كجرا، وبه حوض عظيم طوله نحو ميل وعليه الكنائس فيها الأصنام قد مثل بها المسلمون وفي وسطه ثلاث قباب من الحجارة الحمر على ثلاث طباق وعلى أركانه الأبعة أربع قباب ويسكن هنالك جماعة من الجوكية وقد لبدوا شعورهم وطالت حتى صارت في طولهم وغلبت عليهم صفرة الألوان من الرياضة وكثير من المسلمين يتبعونهم ليتعلموا منهم ويذكرون أن من كانت به عاهة من برص أو جذام يأوي إليه مدة طويلة فيبرأ بإذن الله تعالى. وأول ما رأيت هذه الطائفة بمحلة السلطان طرمشيرين ملك تركستان وكانوا نحو خمسين فحفر لهم غار تحت الأرض وكانوا مقيمين به لا يخرجون إلا لقضاء حاجة ولهم شبه القرن1 يضربونه أول النهار وآخره وبعد العتمة وشأنهم كله عجب. ومنهم الرجل الذي صنع للسلطان غياث الدين الدامغاني

1 القرن: البوق.

ص: 422

سلطان بلاد المعبر حبوباً يأكلها تقويه على الجماع، وكان من أخلاطها برادة الحديد، فأعجبه فعلها فأكل منها أزيد من مقدار الحاجة فمات. وولي ابن أخيه ناصر الدين فأكرم هذا لجوكي ورفع قدره.

ثم سافرنا إلى مدينة جَنْديِري "وضبط اسمها بفتح الجيم المعقود وسكون النون وكسر الدال المهمل وياء مد وراء" مدينة عظيمة لها أسواق حافلة يسكنها أمير أمراء تلك البلاد عز الدين البنتاني وهو المدعو بأعظم ملك وكان خيراً فاضلاً يجالس أهل العلم. وممن كان يجالسه الفقيه عز الدين الزبيري والفقيه العالم وجيه الدين البياني نسبة إلى مدينة بيانة، التي تقدم ذكرها، والفقيه القاضي المعروف بقاضي خاصة وإمامهم شمس الدين وكان النائب عنه على أمور المخزن يسمى قمر الدين ونائبه على أمور العسكر سعادة التلنكي من كبار الشجعان وبين يديه تعرض العساكر. وأعظم ملك لا يظهر إلا في يوم الجمعة أو في غيرها نادراً. ثم سرنا من جنديري إلى مدينة ظهار "وضبط اسمها بكسر الظاء المعجم" وهي مدينة المالوة أكبر عمالة تلك البلاد وزرعها كثير خصوصاً القمح. ومن هذه المدينة تحمل أوراق التنبول إلى دهلي وبينهما أربعة وعشرون يوماً وعلى الطريق بينهما أعمدة منقوش عليها عدد الأميال فيما بين كل عمودين فاذا أراد المسافر أن يعلم عدد ما سار في يومه وما بقي له إلى المنزل أو إلى المدينة التي يقصدها قرأ النقش الذي في الأعمدة فعرفه. ومدينة ظهار إقطاع للشيخ إبراهيم الذي من أهل ذيبة المهل.

وكان الشيخ إبراهيم قدم على هذه المدينة ونزل بخارجها فأحيا أرضاً مواتاً هنالك وصار يزرعها بطيخاً فتأتي في الغاية من الحلاوة ليس بتلك الأرض مثلها ويزرع الناس بطيخاً فيما يجاوره فلا يكون مثله وكان يطعم الفقراء والمساكين فلما قصد السلطان إلى بلاد المعبر أهدى إليه هذا الشيخ بطيخاً فقبله واستطابه وأقطعه مدينة ظهار وأمره أن يعمر زاوية بربوة يشرف عليها فعمرها أحسن عمارة وكان يعطم بها الوارد والصادر وأقام على ذلك أعواماً. ثم قدم على السلطان وحمل إليه ثلاثة عشر لكاً فقال هذا فضل مما كنت أطعمه الناس وبيت المال أحق به فقبضه منه ولم يعجب السلطان فعله لكونه جمع المال ولم ينفق جميعه في إطعام الطعام. وبهذه المدينة أراد ابن اخت الوزير خواجة جهان أن يفتك بخاله ويستولي على أمواله ويسير إلى القائم

ص: 423

ببلاد المعبر فنمى خبره إلى خاله فقبض عليه وعلى جماعة من الأمراء وبعثهم إلى السلطان فقتل الأمراء ورد ابن أخته إليه فقتله الوزير.

ولما رد ابن أخت الوزير إليه أمر به أن يقتل كما قتل أصحابه وكانت له جارية يحبها فاستحضرها وأطعمها التنبول وأطعمته وعانقها مودعاً، ثم طرح للفيلة وسلخ جلده ومليء تبناً. فلما كان من الليل خرجت الجارية من الدار فرمت بنفسها في بئر هنالك تقرب من الموضع الذي قتل فيه فوجدت ميتة من الغد فأخرجت ودفن لحمه معها في قبر واحد وسمى ذلك قبور "كور" عاشقان. وتفسير ذلك بلسانهم قبر العاشقين. ثم سافرنا من مدينة ظهار إلى مدينة أُجَين "وضبط اسمها بضم الهمزة وفتح الجيم وياء ونون" مدينة حسنة كثيرة العمارة وكان يسكنها الملك ناصر الدين بن عين الملك من الفضلاء الكرماء العلماء استشهد بجزيرة سندابور حين افتتاحها وقد زرت قبره هنالك وسنذكره. وبهذه المدينة كان سكنى الفقيه الطبيب جمال الدين المغربي الغرناطي الأصل. ثم سافرنا من مدينة أُجين إلى مدينة دولة آباد وهي المدينة الضخمة العظيمة الشأن الموازية لحضرة دهلي في رفعة قدرها واتساع خطتها وهي منقسمة ثلاثة أقسام: أحدها دولة آباد وهو مختص بسكنى السلطان وعساكره. والقسم الثاني اسمه الكَتكَة "بفتح الكافين والتاء المعلوة التي بينهما". والقسم الثالث: قلعتها التي لا مثل لها ولا نظير في الحصانة وتسمى الدويقير "بضم الدال المهمل وفتح الواو وسكون الياء وقاف معقود مكسور وياء مد وراء". وبهذه المدينة سكنى الخان الأعظم قطلوخان معلم السلطان وهو أميرها والنائب عن السلطان بها وببلاد صاغر وبلاد التلنك وما أضيف إلى ذلك. وعمالتها مسيرة ثلاثة أشهر عامرة كلها لحكمه ونوابه فيها. وقلعة الدويقير التي ذكرناها في قطعة حجر في بسيط من الأرض قد نحتت وبني بأعلاها قلعة يصعد إليها بسلم مصنوع من جلود ويرفع ليلاً ويسكن بها المفردون وهم الزماميون بأولادهم وفيها سجن أهل الجرائم العظيمة في جبوب بها. وبها فيران ضخام أعظم من القطوط والقطوط1 تهرب منها ولا تطيق مدافعتها لأنها تغلبها ولا تصاد إلا بحبل تدار عليها. وقد رأيتها هناك فعجبت منها.

1 يريد: القطط.

ص: 424

وأخبرني الملك خطاب الأفغاني أنه سجن مرة في جب بهذه القلعة يسمى جب الفيران قال فكانت تجتمع عليّ ليلاً لتأكلني فأقاتلها وألقي من ذلك جهداً، ثم إني رأيت في النوم قائلاً يقول لي اقرأ سورة الاخلاص مائة ألف مرة ويفرج الله عنك. قال: فقرأتها فلما أتممتها أخرجت. وكان سبب خروجي أن ملك مل كان مسجوناً في جب يجاورني فمرض وأكلت الفيران أصابعه وعينيه فمات فبلغ ذلك السلطان فقال: اخرجوا خطاب لئلاّ يتفق له مثل ذلك. وإلى هذه القلعة لجأ ناصر الدين بن ملك مل المذكور والقاضي جلال حين هزمهما السلطان. وأهل بلاد دولة آباد هم قبيل المرهتة الذين خص الله نساءهم بالحسن وخصوصاً في الأنوف والحواجب. ولهن من طيب الخلوة والمعرفة بحركات الجماع ما ليس لغيرهن. وكفار هذه المدينة أصحاب تجارات وأكثر تجاراتهم في الجوهر وأموالهم طائلة وهم يسمون الساهة واحدهم ساه. وهم مثل الأكارم بديار مصر. وبدولة آباد العنب والرمان ويثمران مرتين في السنة وهي من أعظم البلاد مجبى وأكبرها خراجاً لكثرة عمارتها واتساع عمالتها. وأخبرت أن بعض الهنود التزم مغارمها وعمالتها جميعاً، وهي كما ذكرناه مسيرة ثلاثة أشهر بسبعة عشر كرورا والكرور مائة لكاً، والكّ مائة ألف دينار، ولكنه لم يف بذلك فبقي عليه بقية وأخذ ماله وسلخ جلده.

وبمدينة دولة آباد سوق للمغنين والمغنيات تسمى سوق طرب آباد من أجمل الأسواق وأكبرها، فيه الدكاكين الكثيرة كل دكان له باب يفضي إلى دار صاحبه وللدار باب سوى ذلك والحانوت مزيّن بالفرش وفي وسطه شكل مهد كبير تجلس فيه المغنية أو ترقد وهي متزينة بأنواع الحلي وجواريها يحرّكن مهدها وفي وسط السوق قبة عظيمة مفروشة مزخرفة يجلس فيها أمير المطربين بعد صلاة العصر من يوم كل خميس وبين يديه خدامه وممالكيه وتأتي المغنيات طائفة بعد أخرى فيغنين بين يديه ويرقصن إلى وقت المغرب ثم ينصرف. وفي تلك السوق المساجد للصلاة ويصلي الأئمة فيها التراويح في شهر رمضان وكان بعض سلاطين الكفار بالهند إذا مر بهذه السوق ينزل بقبتها ويغني المغنيات بين يديه وقد فعل ذلك بعض سلاطين المسلمين أيضاً. ثم سافرنا إلى مدينة نَذَرْبار "وضبط اسمها بنون وبذال معجم مفتوحين وراء مسكن وباء موحدة مفتوحة وألف وراء" مدينة صغيرة يسكنها المرهتة، وهم أهل الإتقان

ص: 425

في الصنائع والأطباء والمنجمون. وشرفاء المرهتة هم البراهمة، وهم الكتريون أيضاً وأكلهم الأرز والخضر ودهن السمسم ولا يرون بتعذيب الحيوان ولا ذبحه. ويغتسلون للأكل كغسل الجنابة ولا ينكحون في أقاربهم إلا فيمن كان بينهم وبينه سبعة أجداد ولا يشربون الخمر وهي عندهم أعظم المعائب، وكذلك هي ببلاد الهند عند المسلمين، ومن شربها من مسلم حد ثمانين جلدة وسجن في مطمورة ثلاثة أشهر لا تفتح عليه إلا حين طعامه.

ثم سافرنا من هذه المدينة إلى مدينة صَاغَر "وضبط اسمها بفتح الصاد المهمل وفتح الغين المعجم وآخره راء" وهي مدينة كبيرة على نهر كبير يسمى أيضاً صاغر كاسمها. وعليه النواعير والبساتين فيها العنب والموز وقصب السكر. وأهل هذه المدينة أهل صلاح ودين وأمانة وأحواله كلها مرضية. ولهم بساتين فيها الزوايا للوارد والصادر وكل من يبني زاوية يحبس البستان عليها ويجعل النظر فيه لأولاده فإن انقرضوا عاد النظر للقضاة. والعمارة بها كثيرة والناس يقصدونها للتبرك بأهلها ولكونها محررة من المغارم والوظائف.

ثم سافرنا من صاغر المذكورة إلى مدينة كِنْبَاية "وضبط اسمها بكسر الكاف وسكون النون وفتح الباء الموحدة وألف وياء آخر الحروف مفتوحة" وهي على خور من البحر وهو شبه الوادي تدخله المراكب وبه المد والجزر. وعاينت المراكب به مرساة في الوحل حين الجزر فإذا كان المد عامت في الماء. وهذه المدينة من أحسن المدني في إتقان البناء وعمارة المساجد. وسبب ذلك أن أكثر سكانها التجار الغرباء فهم أبداً يبنون بها الديار الحسنة والمساجد العجيبة ويتنافسون في ذلك. ومن الديار العظيمة بها دار الشريف السامري الذي اتفقت لي معه قضية الحلواء وكذّبه ملك الندماء. ولم أر قط أضخم من الخشب الذي رأيته بهذه الدار وبابها كأنه باب مدينة وإلى جانبها مسجد عظيم يعرف باسمه. ومنها دار ملك التجار الكازروني وإلى جانبها مسجده. ومنها دارشمس الدين كلاه وز1 ومعناه خياط الشواشي.

ولما وقع ما قدمناه من مخالفة القاضي جلال الأفغاني أراد شمس الدين

1 في بعض طبعات الكتاب: كلاه نور، وكلاه دوز.

ص: 426

المذكور والناخوذة إلياس، وكان من كفار أهل هذه المدينة وملك الحكماء الذي تقدم ذكره، على أن يمتنعوا منه بهذه المدينة. وشرعوا في حفر خندق عليها إذ لا سور لها فتغلب عليهم ودخلها. واختفى الثلاثة المذكورون في دار واحدة وخافوا أن يتطلع عليهم فاتفقوا على أن يقتلوا أنفسهم فضرب كل واحد منهم صاحبه بقتارة، وقد ذكرنا صفتها. فمات اثنان منهم ولم يمت ملك الحكماء. وكان من كبار التجار أيضاً بها نجم الدين الجيلاني، وكان حسن الصورة كثير المال، وبنى بها داراً عظيمة ومسجداً. ثم بعث السلطان عنه وأمره عليها وأعطاه المراتب فكان ذلك سبب تلف نفسه وماله. وكان أمير كنباية حين وصلنا إليها مقبل التلنكي وهو كبير المنزلة عند السلطان وكان صحبته الشيخ زاده الأصبهاني نائباً عنه في جميع أمره وهذا الشيخ له أموال عظيمة وعنده معرفة بأمور السلطنة ولا يزال يبعث الأموال إلى بلاده ويتحيل في الفرار وبلغ خبره إلى السلطان وذكر عنه أنه يروم الهروب فكتب إلى مقبل أن يبعثه على البريد وأحضر بين يدي السلطان ووكل به. والعادة عنده أنه متى وكل بأحد فقلما ينجو فاتفق هذا الشيخ مع الموكل به على مال يعطيه إياه، وهربا جميعاً. وذكر لي أحد الثقات أنه رآه في ركن مسجد بمدينة قلهات وأنه وصل بعد ذلك إلى بلاده فحصل على أمواله وأمن مما كان يخافه.

وأضافنا الملك مقبل يوماً بداره فكان من النادر أن جلس قاضي المدينة وهو أعور العين اليمنى وفي مقابلته شريف بغداد شديد الشبه به في صورته وعوره إلا أنه أعور اليسرى. فجعل الشريف ينظر إلى القاضي ويضحك فزجره القاضي فقال له لا تزجرني، فإني أحسن منك. قال: كيف ذلك؟ قال: لأنك أعور اليمنى وأنا أعور اليسرى فضحك الأمير والحاضرون وخجل القاضي ولم يستطع أن يرد عليه، لأن الشرفاء ببلاد الهند معظمون أشد التعظيم. وكان بهذه المدينة من الصالحين الحاج ناصر من أهل ديار بكر وسكناه بقبة من قباب الجامع. دخلنا إليه وأكلنا من طعامه واتفق له لما دخل القاضي جلال مدينة كنباية حين خلافه أنه أتاه وذكر للسلطان أنه دعا له فهرب لئلا يقتل كما قتل الحيدري. وكان بها أيضاً من الصالحين التاجر خواجة إسحاق وله زاوية يطعم فيها الوارد والصادر وينفق على الفقراء والمساكين وماله على هذا ينمى ويزيد كثرة. وسافرنا من هذه المدينة إلى بلد كاوي، وهي

ص: 427

على خور فيه المد والجزر وهي بلاد الري جالنسي الكافر وسنذكره.

وسافرنا منها إلى مدينة قَنْدَهار "وضبط اسمها بفتح القاف وسكون النون وفتح الدال المهمل وهاء وألف وراء"، وهي مدينة كبيرة للكفار على خور من البحر.

وسلطان لقندهار سلطان كافر اسمه جَالَنْسي "بفتح الجيم واللام وسكون النون وكسر السين المهمل"، وهو تحت حكم الإسلام، ويعطي لملك الهند هدية كل عام. ولما وصلنا إلى قندهار خرج إلى استقبالنا وعظمنا أشد التعظيم وخرج عن قصره فأنزلنا به وجاء إلينا من عنده كبار المسلمين كأولاد خواجة بهرة ومنهم الناخوذة إبراهيم له ستة من المراكب مختصة له. ومن هذه المدينة ركبنا البحر وركبنا في مركب لإبراهيم المذكور يسمى الجاكر "بفتح الجيم والكاف المعقودة". وجعلنا فيه من خيل الهدية سبعين فرساً وجعلنا باقيها مع خيل أصحابنا في مركب لأخي إبراهيم المذكور يسمى مَنُورت "بفتح الميم ونون وواو مد وراء مسكن وتاء معلوة" وأعطانا جالنسي مركباً جعلنا فيه ظهير الدين وسنبل وأصحابهما وجهزه لنا بالماء والزاد والعلف. وبعث معنا ولده في مركب يسمى العُكَيْري "بضم العين المهمل وفتح الكاف وسكون الياء وراء"، وهو شبه الغراب إلا أنه أوسع منه، وفيه ستون مجذفاً ويسقف حين القتال حتى لا ينال الجذافين شيء من السهم ولا الحجارة. وكان ركوبي أنا في الجاكر وكان فيه خمسون رامياً وخمسون من المقاتلة الحبشة وهم زعماء هذا البحر وإذا كان بالمركب أحد منهم تحاماه لصوص الهنود وكفارهم. ووصلنا بعد يومين إلى جزيرة بَيْرم "وضبط اسمها بفتح الباء الموحدة وسكون الياء وفتح الراء"، وهي خالية. وبينها وبين البر أربعة أميال فنزلنا بها واتقينا الماء من حوض بها. وسبب خرابها أن المسلمين دخلوها على الكفار فلم تعمر بعد. وكان ملك التجار الذي تقدم ذكره أراد عمارتها وبنى سورها وجعل بها المجانيق وأسكن بها بعض المسلمين. ثم سافرنا منها ووصلنا في اليوم الثاني إلى مدينة قُوقَة وهي "ضم القاف الأولى وفتح الثانية"، وهي مدينة كبيرة عظيمة الأسواق. فرسينا1 على أربعة أميال منها بسبب الجزر. ونزلت في عشاري مع بعض أصحابي حين الجزر

1 الأصح أن يقال: فرَسَوْنا.

ص: 428

لأدخل إليها فوحل العشاري في الطين وبقي بيننا وبين البلد نحو ميل فكنت لما نزلنا في الوحل أتوكأ على رجلين من أصحابي وخوفني الناس من وصول المد قبل وصولي إليها وأنا لا أحسن السباحة ثم وصلت إليها وطفت بأسواقها ورأيت بها مسجداً ينسب للخضر وإلياس عليهما السلام صليت به المغرب ووجدت به جماعة من الفقراء الحيدرية مع شيخ لهم ثم عدت إلى المركب.

وكان لقوقة سلطان يسمى دُنْكُول "بضم الدال المهمل وسكون النون وضم الكاف وواو ولام" وكان يظهر الطاعة لملك الهند وهو في الحقيقة عاص. وبما أقعلنا عن هذه المدينة وصلنا بعد ثلاثة أيام إلى جزيرة سَنْدَابُور "وضبط اسمها بفتح السين المهمل وسكون النون وفتح الدال المهمل وألف وباء موحدة وواو مد وراء"وهي جزيرة في وسطها ست وثلاثون قرية، ويدور بها خور، واذا كان الجزر فماؤها عذب طيب وإذا كان المد فهو ملح أجاج. وفي وسطها مدينتان: إحداهما قديمة من بناء الكفار، والثانية بناها المسلمون عند استفتاحهم لهذه الجزيرة الفتح الأول، وفيها مسجد جامع عظيم يشبه مساجد بغداد عمره الناخوذة حسن والد السلطان جمال الدين محمد الهنوري وسيأتي ذكره. وذكر عند حضوري معه لفتح الجزيرة الفتح الثاني - إن شاء الله. وتجاوزنا هذه الجزيرة لما مررنا بها ورسينا على جزيرة صغيرة قريبة من البر فيها كنيسة وبستان وحوض ماء ووجدنا فيها أحد الجوكية.

ولما نزلنا بهذه الجزيرة الصغرى وجدنا بها جوكيا مستنداً إلى حائط بدخانة وهي بيت الأصنام وهو فيها بين صنمين منها وعليه أثر المجاهدة فكلمناه فلم يتكلم ونظرنا هل معه طعام فلم نر معه طعاماً، وفي حين نظرنا صاح صيحة عظيمة فسقطت عند صياحه جوزة من جوز النارجيل بين يديه ودفعها لنا فعجبنا من ذلك ودفعنا له دنانير ودراهم فلم يقبلها وأتيناه بزاد فرده وكانت بين يديه عباءة من صوف الجمال مطروحة فقبلتها بيدي فدفعها لي وكانت بيدي سبحة زيلع فقبلها في يدي فأعطيته إياها ففركها بيده وشمها وقبلها وأشار إلى السماء ثم إلى سمت القبلة فلم يفهم أصحابي إشارته وفهمت أنا عنه أنه أشار أنه مسلم يخفي إسلامه من أهل تلك الجزيرة ويتعيش من تلك الجوز. ولما وادعناه قبلت يده فأنكر أصحابي ذلك ففهم إنكارهم فأخذ يدي

ص: 429

وقبلها وتبسم وأشار لنا بالانصراف فانصرفنا.

وكنت آخر أصحابي خروجاً فجذب ثوبي فرددت رأسي إليه فأعطاني عشرة دنانير. فلما خرجنا عنه قال لي أصحابي لم جذبك فقلت لهم أعطاني هذه الدنانير. وأعطيت لظهير الدين ثلاثة منها، ولسنبل ثلاثة، وقلت لهما: الرجل مسلم ألا ترون كيف أشار إلى السماء يشير إلى أنه يعرف الله تعالى وأشار إلى القبلة يشير إلى معرفة الرسول عليه السلام وأخذه السبحة يصدق ذلك فرجعا لما قلت لهما ذلك إليه فلم يجداه. وسافرنا تلك الساعة. وبالغد وصلنا إلى مدينة هنور "وضبط اسمها بكسر الهاء وفتح النون وسكون الواو وراء" وهي على خور كبير تدخله المراكب الكبار والمدينة على نصف ميل من البحر. وفي أيام البشكال وهو المطر يشتد هيجان هذا البحر وطغيانه فيبقى مدة أربعة اشهر لا يستطيع أحد ركوبه إلا للتصيد فيه. وفي يوم وصلنا إليها جاءني أحد الجوكية من الهنود في خلو وأعطاني ستة دنانير فأخذتها منه وأعطيته ديناراً منها فلم يقبله وانصرف. وأخبرت أصحابي بالقضية وقلت لهما إن شئتما فخذا نصيبكما منها فأبيا وجعلا يعجبان من شأنه، وقالا لي: إن الدنانير الستة التي أعطيتنا إياها جعلنا معها مثلها وتركناها بين الصنمين حيث وجدناه فطال عجبي من أمره واحتفظت بتلك الدنانير التي أعطانيها. وأهل مدينة هنور شافعية المذهب لهم صلاح ودين وجهاد في البحر وقوة وبذلك عرفوا حتى أذلهم الزمان بعد فتحهم لسندابور وسنذكر ذلك. ولقيت من المتعبدين بهذه المدينة الشيخ محمد الناقوري، أضافني بزاويته. وكان يطبخ الطعام بيده استقذاراً للجارية والغلام. ولقيت بها الفقيه إسماعيل معلم كتاب الله تعالى وهو ورع حسن الخلق كريم النفس، والقاضي لها نور الدين علي، والخطيب ولا أذكر اسمه. ونساء هذه المدينة وجميع هذه البلاد الساحلية لا يلبسن المخيط وإنما يلبسن ثياباً غير مخيطة تحتزم إحداهن بأحد طرفي الثوب وتجعل باقيه على رأسها وصدرها، ولهن جمال وعفاف، وتجعل إحداهن خرص ذهب في أنفها، ومن خصائصهن أنهن جميعا يحفظن القرآن الكريم. ورأيت بالمدينة ثلاثة عشر مكتباً لتعليم البنات وثلاثة وعشرين لتعليم الأولاد ولم أر ذلك في سواها. ومعاش أهلها من التجارة في البحر ولا زرع لهم. وأهل بلاد

ص: 430

المليبار يعطون للسلطان جمال الدين في كل عام شيئاً معلوماً خوفا منه لقوته في البحر، وعسكره نحو ستة آلاف بين فرسان ورجاله. وسلطان هنور هو السلطان جمال الدين محمد بن حسن من خيار السلاطين وكبارهم وهو تحت حكم سلطان كافر يسمى هريب سنذكره. والسلطان جمال الدين مواظب للصلاة في الجماعة وعادته أن يأتي إلى المسجد قبل الصبح فيتلو في المصحف حتى يطلع الفجر فيصلي أول الوقت، ثم يركب إلى خارج المدينة. ويأتي عند الضحى فيبدأ بالمسجد فيركع فيه ثم يدخل إلى قصره وهو يصوم الأيام البيض1. وكان أيام إقامتي عنده يدعوني للإفطار معه، فأحضر لذلك ويحضر الفقيه علي والفقيه إسماعيل فتوضع أربع كراسي صغار على الأرض، فيقعد على إحداها ويقعد كل واحد منا على كرسي.

وترتيبه أن يؤتى بمائدة نحاس يسمونها خونجة، ويجعل عليها طبق نحاس يسمونه الطالم "بفتح الطاء المهمل وفتح اللام"، وتأتي جارية حسنة ملتحفة بثوب حرير فتقدم قدور الطعام بين يديه ومعها مغرفة نحاس كبيرة فتغرف بها من الأرز مغرفة واحد وتجعلها في الطالم وتصب فوقها السمن وتجعل مع ذلك عناقيد الفلفل المملوح والزنجبيل الأخضر والليمون المملوح والعنبا2، فيأكل الإنسان لقمة ويتبعها بشيء من تلك الموالح، فإذا تمت الغرفة التي جعلتها في الطالم غرفت غرفة أخرى من الأرز وأفرغت دجاجة مطبوخة في سكرجة فيؤكل بها الأرز أيضاً، فاذا تمت المغرفة الثانية غرفت وأفرغت لوناً آخر من الدجاج تؤكل به، فإذا تمت ألوان الدجاج، أتوا بألوان من السمك فيأكلون بها الأرز أيضاً، فإذا فرغت ألوان السمك أتوا بالخضر مطبوخة بالسمن والألبان فيأكلون بها الأرز، فإذا فرغ ذلك كله أتوا بالكوشان وهو اللبن الرائب وبهذا يختمون طعامهم، فإذا وضع علم أنه لم يبق شيء يؤكل بعده، ثم يشربون على ذلك الماء الساخن، لأن الماء البارد يضر بهم في فصل نزول المطر. ولقد أقمت عند هذا السلطان في كرة أخرى أحد عشر شهراً، لم

1 الأيام البيض من كل شهر هي: الثالث عشر، والرابع عشر، والخامس عشر، من كل شهرٍ هجري، وهي التي تبيض لياليها بالقمر، وقد كره مالك رضي الله عنه تخصيصها بالصيام خشية اعتقاد تحديدها، فإنّ السنة صيام ثلاثة أيّام من كلّ شهرٍ بدون تحديد.

2 العنبا: ثمر المانغا.

ص: 431

آكل خبزاً، إنما طعامهم الأرز وبقيت أيضاً بجزائر المهل وسيلان وبلاد المعبر والمليبار ثلاث سنين لا آكل فيها الأرز حتى كنت لا أستسيغه إلا بالماء. ولباس هذا السلطان ملاحف الحرير والكتان الرقاق يشد في وسط فوطة ويلتحف ملحفتين: إحداهما فوق الأخرى، ويقص شعره ويلف عليه عمامة صغيرة. وإذا ركب لبس قباء، والتحف بلمحفتين فوقه. وتضرب بين يديه طبول وأبواق يحملها الرجال. وكانت إقامتنا عنده في هذه المرة ثلاثة أيام. وزودنا وسافرنا عنه.

وبعد ثلاثة أيام وصلنا إلى بلاد المُلَيْبَار "بضم الميم وفتح اللام وسكون الياء آخر الحروف وفتح الباء الموحدة وألف وراء". وهي بلاد الفلفل. وطولها مسيرة شهرين على ساحل البحر من سندابور إلى كولم، والطريق في جميعها بين ظلال الأشجار. وفي كل نصف ميل بيت من الخشب فيه دكاكين يقعد عليها كل وارد وصادر من مسلم وكافر. وعند كل بيت منها بئر يشرب منها، ورجل كافر موكل بها، فمن كان كافراً سقاه في الأواني، ومن كان مسلماً سقاه في يديه، ولا يزال يصب له حتى يشير له أن يكف. وعادة الكفار ببلاد المليبار أن لا يدخل المسلم دورهم ولا يطعم في آنيتهم، فإن طعم فيها كسروها أو أعطوها للمسلمين. وإذا دخل المسلم موضعاً منها لا يكون فيه دار للمسلمين طبخوا له الطعام وصبوه له على أوراق الموز وصبوا عليه الأدام وما فضل عنه تأكله الكلاب والطير. وفي جميع المنازل بهذا الطريق ديار المسلمين ينزل عندهم المسلمون فيبيعون منهم جميع ما يحتاجون إليه ويطبخون لهم الطعام، ولولاهم لما سافر فيه مسلم، وهذا الطريق الذي ذكرنا أنه مسيرة شهرين، ليس فيه موضع شبر فما فوقه دون عمارة وكل إنسان له بستانه على حدة وداره في وسطه وعلى الجميع حائط خشب، والطريق يمر في البساتين فإذا انتهى إلى حائط بستان كان هنالك درج خشب يصعد عليها ودرج آخر ينزل عليها إلى البستان الآخر هكذا مسيرة الشهرين.

ولا يسافر أحد في تلك البلاد بدابة، ولا تكون الخيل إلا عند السلطان. وأكثر ركوب أهلها في دولة على رقاب العبيد أو المستأجرين. ومن لم يستطع أن يركب في

ص: 432

دولة1 مشي على قدميه كائنا من كان. ومن كان له رحل أو متاع من تجارة وسواها اكترى رجالاً يحملونه على ظهورهم، فترى هنالك التاجر ومعه المائة فما دونها أو فوقها يحملون أمتعته، وبيد كل واحد منهم عود غليظ له زج حديد، وفي أعلاه مخطاف حديد. فإذا أعيا ولم يجد دكانة يستريح عليها ركز عوده بالأرض وعلق حمله منه، فإذا استراح أخذ حمله من غير معين ومضى به. ولم أر طريقاً آمن من هذا الطريق. وهم يقتلون السارق على الجوزة الواحدة، فإذا سقط شيء من الثمار لم يلتقطه أحد حتى يأخذه صاحبه. وأخبرت أن بعض الهنود مروا على الطريق فالتقط أحدهم جوزة، وبلغ خبره إلى الحاكم فأمر بعود فركز في الأرض وبرى طرفه الأعلى وأدخل في لوح خشب حتى برز منه ومد الرجل على اللوح وركز في العود وهو على بطنه حتى خرج من ظهره وترك عبرة للناظرين. ومن هذه العيدان على هذه الصورة بتلك الطرق كثيراً ليراها الناس فيتعظوا. ولقد كنا نلقي الكفار بالليل في هذه الطريق فإذا رأونا تنحوا عن الطرق حتى نجوز. والمسلمون أعز الناس بها غير أنهم كما ذكرناه لا يؤاكلونهم ولا يدخلونهم دورهم. وفي بلاد المليبار اثنا عشر سلطانا من الكفار، منهم القوي الذي يبلغ عسكره خمسين ألفاً، ومنهم الضعيف الذي عسكره ثلاثة آلاف، ولا فتنة بينهم البتة ولا يطمع القوي منهم في انتزاع ما بيد الضعيف. وبين بلاد أحدهم وصاحبه باب خشب منقوش فيه اسم الذي هو مبدأ عمالته ويسمونه باب أمان فلان وإذا فر مسلم أو كافر بسبب جناية من بلاد أحدهم ووصل باب أمان الآخر أمن على نفسه ولم يستطع الذي هرب عنه أخذه وإن كان القوي صاحب العدد والجيوش. وسلاطين تلك البلاد يورثون ابن الأخت ملكهم دون أولادهم. ولم أر من يفعل ذلك إلا مسوفة أهل الثلم "اللثام" وسنذكرهم فيما بعد. فإذا أراد السلطان من أهل بلاد المليبار منع الناس من البيع والشراء أمر بعض غلمانه فعلّق على الحواتيت بعض أغصان الأشجار بأوراقها فلا يبيع أحد ولا يشتري ما دامت عليها تلك الأغصان.

وشجرات الفلفل شبيهة بدوالي العنب وهم يغرسونها إزاء النارجيل فتصعد فيها كصعود الدوالي إلا أنها ليس لها عسلوج، وهو الغزل كما للدوالي

1 محمل يشبه المحفة.

ص: 433

وأوراق شجرة تشبه آذان الخيل. وبعضها يشبه أوراق العليق ويثمر عناقيد صغاراً حبها كحب أبي قنينة، اذا كانت خضراء. وإذا كان أوان الخريف قطفوه وفرشوه على الحصر في الشمس كما يصنع بالعنب عند تزبيبه، ولا يزالون يقلبونه حتى يستحكم يبسه ويسود ثم يبيعونه من التجار. والعامة ببلادنا يزعمون أنهم يغلونه بالنار وبسبب ذلك يحدث فيه التكريش وليس كذلك، وإنما يحدث ذلك فيه بالشمس. ولقد رأيته بمدينة قالقوط يصب للكيل كالذرة ببلادنا. وأول مدينة دخلناها من بلاد المليبار مدينة أبي سَرور "بفتح السين" وهي صغيرة على خور كبير كثيرة أشجار النارجيل. وكبير المسلمين بها الشيخ جمعة المعروف بأبي ستة، أحد الكرماء، أنفق أمواله على الفقراء والمساكين. وبعد يومين منها وصلنا إلى مدينة فاكَنَور "وضبط اسمها فتح الفاء والكاف والنون آخر الحروف" مدينة كبيرة على خور بها قصب السكر الكثير الطيب الذي لا مثل له بتلك البلاد. وبها جماعة من المسلمين يسمى كبيرهم بحسين السلاط، وبها قاض وخطيب وعمر بها حسين المذكور مسجداً لإقامة الجمعة.

وكان سلطان فاكنور كافر اسمه بَاسَدُو "بفتح الباء الموحد والسين المهمل والدال المهمل وسكون الواو" وله نحو ثلاثين مركباً حربية قائدها مسلم يسمى لولا، وكان من المفسدين يقطع بالبحر ويسلب التجار. ولما أرسينا على فاكنور بعث سلطانها إلينا ولده فأقام بالمركب كالرهينة، ونزلنا إليه فأضافنا ثلاثاً بأحسن ضيافة تعظيماً لسلطان الهند وقياماً بحقه ورغبة فيما يستفيده في التجارة مع أهل مراكبنا. ومن عادتهم هنالك أن كل مركب يمر ببلد فلا بد من إرسائه بها وإعطائه هدية لصاحب البلد يسمونها حق البندر. ومن لم يفعل ذلك خرجوا في اتباعه بمراكبهم وأدخلوه المرسى قهراً وضاعفوا عليه المغرم، ومنعوه عن السفر ما شاؤوا. وسافرنا منها فوصلنا بعد ثلاثة أيام مدينة مَنْجَرُور "وضبط اسمها بفتح الميم وسكون النون وفتح الجيم وضم الراء وواو واء ثانية". مدينة كبيرة على خور يسمى خور الدنب "بضم الدال المهمل وسكون النون وباء موحدة" وهو أكبر خور ببلاد المليبار. وبهذه المدينة ينزل معظم تجار فارس واليمن، والفلفل والزنجبيل بها كثير جداً. وسلطانها هو أكبر سلاطين تلك البلاد واسمه رَامْ دَوْ "بفتح الراء والميم والدال المهمل وسكون الواو" وبها نحو أربعة آلاف من المسلمين يسكنون ربضاً بناحية المدينة. ربما وقعت

ص: 434

الحرب بينهم وبين أهل المدينة فيصلح السلطان بينهم لحاجته إلى التجار. وبها قاض من الفضلاء الكرماء شافعي المذهب يسمى بدر الدين المعبري، وهو يقرئ العلم. صعد إلينا إلى المركب ورغب منا في النزول إلى بلده. فقلنا حتى يبعث السلطان ولده يقيم بالمركب، فقال: إنما فعل ذلك سلطان فاكنور لأنه لا قوة للمسلمين في بلده. وأما نحن فالسلطان يخافنا. فأبينا عليه إلا أن بعث السلطان ولده. فبعث ولده كما فعل الآخر. ونزلنا إليهم وأكرمونا إكراماً عظيماً، وأقمنا عنده ثلاثة ايام. ثم سافرنا إلى مدينة هِيلِي، فوصلناها بعد يومين "وضبط اسمها بهاء مكسورة وياء مد ولام مكسور". وهي كبيرة حسنة العمارة على خور عظيم تدخله المراكب الكبار. وإلى هذه المدينة تنتهي مراكب الصين ولا تدخل إلا مرساها ومرسى كولم قالقوط. ومدينة هيلي معظمة عند المسلمين والكفار بسبب مسجدها الجامع فإنه عظيم البركة مشرق النور وركاب البحر ينذرون له النذور الكثيرة، وله خزانة مال عظيمة تحت نظر الخطيب حسين وحسن الوزان كبير المسلمين. وبهذا المسجد جماعة من الطلبة يتعلمون العلم ولهم مرتبات من مال المسجد. وله مطبخة فيها الطعام للوارد والصادر ولإطعام الفقراء من المسلمين بها. ولقيت بهذا المسجد فقيهاً صالحاً من أهل مقدشو يسمى سعيداً حسن اللقاء والخلق يسرد الصوم. ويذكر لي أنه جاور بمكة أربع عشرة سنة، ومثلها بالمدينة. وأدرك الأمير بمكة أبا نمي والأمير بالمدينة منصور بن جماز. وسافر في بلاد الهند والصين. ثم سافرنا من هيلي إلى مدينة جُرْفَتَّن "وضبط اسمها بضم الجيم وسكون الراء وفتح الفاء وفتح التاء المعلوة وتشديدها وآخره نون" وبينه وبين هيلي ثلاثة فراسخ. ولقيت بها فقيهاً من أهل بغداد كبير القدر يعرف بالصرصري نسبه إلى بلدة على مسافة عشرة أميال من بغداد في طريق الكوفة، واسمها كاسم صرصر التي عندنا بالمغرب، وكان له أخ بهذه المدينة كثير المال له أولاد صغار أوصى إليه بهم. وتركته آخذاً في حملهم إلى بغداد. وعادة أهل الهند كعادة السودان لا يتعرضون لمال الميت ولو ترك الآلاف إنما يبقى ماله بيد كبير المسلمين حتى يأخذه مستحقه شرعًا. وسلطانها يسمى بِكُوَيل "بضم الكاف على لفظ التصغير" وهو من أكبر سلاطين المليبار. وله مراكب كثيرة تسافر إلى عمان وفارس واليمن ومن بلاده فتن وبدفتن وسنذكهما. وسرنا من جرفتن إلى مدينة دَهْ فَتّن "بفتح الدال المهمل وسكون الهاء"، وقد ذكرنا ضبط فتن. وهي مدينة كبيرة على خور، كثيرة البساتين. وبها النارجيل والفلفل

ص: 435

والفوفل والتنبول، وبها القلقاس الكثير، ويطبخون به اللحم. وأما الموز فلم أر في البلاد أكثر منه بها ولا أرخص ثمن، وفيها الباين الأعظم، طوله خمسمائة وعرضه ثلاثمائة خطوة وهو مطوي بالحجارة الحمر المنحوتة وعلى جوانبة ثمان وعشرون قبة من الحجر في كل قبة أربع مجالس من الحجر. وكل قبة يصعد إليها على درج حجارة وفي وسطه قبة كبيرة من ثلاث طبقات في كل طبقة أربع مجالس. وذكر لي أن والد هذا السلطان كويل هو الذي عمر هذا الباين وبإزائه مسجد للمسلمين، وله أدراج ينزل منها إليه فيتوضأ منه الناس ويغتسلون. وحدثني الفقيه حسين أن الذي عمر المسجد والباين أيضاً هو أحد أجداد كويل وأنه كان مسلماً، ولإسلامه خبر عجيب نذكره.

ورأيت بإزاء الجامع شجرة خضراء ناعمة تشبه أوراقها أوراق التين، إلا أنها لينة وعليها حائط يطيف بها وعندها محراب صليت فيه ركعتين. واسم هذه الشجرة عندهم درخت الشهادة ودَرَخْت "بفتح الدال المهمل والراء وسكون الخاء المعجم وتاء معلوة " وأخبرت هنالك أنه اذا كان زمان الخريف من كل سنة تسقط من هذه الشجرة ورقة واحدة بعد أن يستحيل لونها إلى الصفرة ثم إلى الحمرة ويكون فيها مكتوباً بقلم القدرة لا إله الا الله محمد رسول الله. وأخبرني الفقيه حسين وجماعة من الثقات أنهم عاينوا هذه الورقة وقرؤا المكتوب الذي فيها. وأخبرني أنه إذا كانت أيام سقوطها قعد تحتها الثقات من المسلمين والكفار فإذا سقطت أخذ المسلمون نصفها وجعل نصفها في خزانة السلطان الكافر وهم يستشفون بها للمرضى. وهذه الشجرة كانت سبب إسلام جد كويل الذي عمر المسجد والباين، فإنه كان يقرأ الخط العربي فلما قرأها وفهم ما فيها أسلم وحسن إسلامه. وحكايته عندهم متواترة. وحدثني الفقيه حسين أن أحد أولاده كفر بعد أبيه وطغى وأمر باقتلاع الشجرة من أصلها فاقتلعت ولم يترك لها أثر، ثم إنها نبتت بعد ذلك وعادت كأحسن ما كانت عليه وهلك الكافر سريعاً. ثم سافرنا إلى مدينة بدفتن وهي مدينة كبيرة على خور كبير وبخارجها مسجد بمقربة من البحر يأوي إليه غرباء المسلمين لأنه لا مسلم بهذه المدينة. ومرساها من أحسن المراسي وماؤها عذب والفوفل بها كثير ومنها يحمل للهند والصين وأكثر أهلها براهمة وهم معظمون عند الكفار مبغضون في المسلمين ولذلك ليس بينهم مسلم.

ص: 436

وقد أخبرت أن سبب تركهم هذا المسجد غير مهدوم أن أحد البراهمة خرب سقفه ليصنع منه سقفاً لبيته فاشتعلت النار في بيته فاحترق هو وأولاده ومتاعه فاحترموا هذا المسجد ولم يتعرضوا له بسوء بعدها وخدموه وجعلوا بخارجه الماء يشرب منه الصادر والوارد وجعلوا على بابه شبكة لئلا يدخله الطير. ثم سافرنا من مدينة بدفتن إلى مدينة فَنْدَرينا "وضبط اسمها بفاء مفتوحة ونون ساكن ودال مهمل وراء مفتوحة وياء آخر الحروف". مدينة كبيرة ذات بساتين وأسواق وبها للمسلمين ثلاث محلات وفي كل محلة مسجد والجامع بها على الساحل وهو عجيب له مناظر ومجالس على البحر وقاضيها وخطيبها رجل من أهل عمان وله أخ فاضل. وبهذا البلدة تشتو مراكب الصين. ثم سافرنا منها إلى مدينة قالقوط "وضبط اسمها بقافين وكسر اللام وضم القاف الثاني وآخره طاء مهمل" وهي إحدى البنادر العظام ببلاد المليبار يقصدها أهل الصين والجاوة وسيلان والمهل وأهل اليمن وفارس، ويجتمع بها تجار الآفاق. ومرساها من أعظم مراسي الدنيا وسلطانها كافر يعرف بالسامري شيخ مسن يحلق لحيته كما يفعل طائفة من الروم رأيته بها وسنذكره إن شاء الله. وأمير التجار بها إبراهيم شاه بندر من أهل البحرين فاضل ذو مكارم يجتمع إليه التجار ويأكلون في سماطه وقاضيها فخر الدين عثمان فاضل كريم وصاحب الزاوية بها الشيخ شهاب الدين الكازروني وله تعطى النذور التي ينذر بها أهل الهند والصين للشيخ أبي إسحاق الكازوني نفع الله به. وبهذه المدينة الناخوذة مثقال الشهير الاسم صاحب الأموال الطائلة والمراكب الكثيرة لتجارته بالهند والصين واليمن وفارس. ولما وصلنا إلى هذه المدينة خرج إلينا إبراهيم شاه بندر والقاضي والشيخ شهاب الدين وكبار التجار ونائب السلطان الكافر المسمى بقلاج "بضم القاف وآخره جيم" ومعهم الأطبال والأنفار والأبواق والأعلام في مراكبهم. ودخلنا المرسى في بروز عظيم ما رأيت مثله بتلك البلاد فكانت فرحة تتبعها ترحة. وأقمنا بمرساها وبه يومئذ ثلاثة من مراكب الصين. ونزلنا بالمدينة وجعل كل واحد منا في دار وأقمنا ننتظر زمان السفر إلى الصين ثلاثة أشهر ونحن في ضيافة الكافر، وبحر الصين لا يسافر فيه إلا بمراكب الصين ولنذكر ترتيبها.

ومراكب الصين ثلاثة أصناف: الكبار منها تسمى الجنوك، واحدها جُنْك

ص: 437

"بجيم معقود مضموم ونون ساكن" والمتوسطة تسمى الزَوَ "بفتح الزاي وواو" والصغار اسم أحدها الكَكَم "بكافين مفتوحتين" ويكون في المركب الكبير منها اثنا عشر قلعاً فما دونها إلى ثلاثة وقلعها من قضبان الخيزران منسوجة كالحصر لا تحط أبداً ويديرونها بحسن دوران الريح وإذا أرسوا تركوها واقفة في مهب. الريح ويخدم في المركب منها ألف رجل منهم البحرية ستمائة ومنهم أربعمائة من المقاتلة تكون فيهم الرماة وأصحاب الدرق والجرخية وهم الذين يرمون بالنفط ويتبع كل مركب كبير منها ثلاثة: النصفي والثلثي والربعي ولا تصنع هذه المراكب إلا بمدينة الزيتون من الصين، أو بصين كَلَان وهي صين الصين. وكيفية إنشائها أنهم يصنعون حائطين من الخشب يصلون ما بينهما بخشب ضخام جدّاً موصولة بالعرض والطول بمسامير ضخام طول المسمار منها ثلاثة أذرع، فإذا التأم الحائطان بهذه الخشب صنعوا على أعلاهما فرش المركب الأسفل ودفعوهما في البحر وأتموا عمله وتبقى تلك الخشب والحائطان موالية للماء ينزلون إليها فيغتسلون ويقضون حاجتهم وعلى جوانب تلك الخشب تكون مجاذيفهم وهي كبار كالصواري يجتمع على أحدها العشرة والخمسة عشر رجلاً ويجذفون وقوفاً على أقدامهم ويجعلون للمركب أربعة ظهور ويكون فيه البيوت والمصاري والغرف للتجارة والمصرية منها يكون فيها البيوت والسنداس وعليها المفتاح يسدها صاحبها ويحمل معه الجواري والنساء وربما كان الرجل في مصريته فلا يعرف به غيره ممن يكون بالمركب حتى يتلاقيا إذا وصلا بعض البلاد والبحرية يسكنون فيها أولادهم ويزرعون الخضر والبقول والزنجبيل في أحواض خشب. ووكيل المركب كأنه أمير كبير. وإذا نزل إلى البر مشت الرماة والحبشة بالحراب والسيوف والأطبال والأبواق والأنفار أمامه. وإذا وصل إلى المنزل الذي يقيم به ركزوا رماحهم عن جانبي بابه ولا يزالون كذلك مدة إقامته. ومن أهل الصين من تكون له المراكب الكثيرة بعث بها وكلاءه إلى البلاد وليس في الدنيا أكثر أموالاً من أهل الصين.

ولما حان وقت السفر إلى الصين جهز لنا السلطان السامري جنكاً من الجنوك الثلاث عشرة التي بمرسى قالقوط. وكان وكيل الجنك يسمى بسليمان الصفدي الشامي وبيني وبينه معرفة. فقلت له: أريد مصرية لا يشاركني فيها أحد لأجل الجواري. ومن عادتي أن لا أسافر إلا بهن. فقال: إن تجار الصين قد اكتروا المصاري ذاهبين وراجعين. ولصهري مصرية أعطيكها لكنها لاسنداس فيها. وعسى أن تمكن معاوضتها. فأمرت أصحابي فأوسقوا ما عندي

ص: 438

من المتاع، وصعد العبيد والجواري إلى الجنك وذلك في يوم الخميس وأقمت لأصلي الجمعة وألحق بهم. وصعد الملك سنبل وظهير الدين مع الهدية. ثم إن فتى لي يسمى بهلال أتاني غدوة الجمعة فقال: إن المصرية التي أخذنا بالجنك ضيقة لا تصلح. فذكرت ذلك للناخودة، فقال: ليست في ذلك حيلة فإن أحببت أن تكون في الكَكَم ففيه المصاري على اختيارك. فقلت: نعم. وأمرت أصحابي فنقلوا الجواري والمتاع إلى الكَكَم واستقروا به قبل صلاة الجمعة. وعادة هذا البحر أن يشتد هيجانه كل يوم بعد العصر فلا يستطيع أحد ركوبه وكانت الجنوك قد سافرت ولم يبق منها إلا الذي فيه الهدية وجنك عزم أصحابه على أن يشتوا بفندرينا والكَكَم المذكور. فبتنا ليلة السبت على الساحل لا نستطيع الصعود إلى الكَكَم ولا يستطيع من فيه النزول إلينا ولم يكن بقي معي إلا بساط افترشه وأصبح الجنك والككم يوم السبت على بعد من المرسى ورمى البحر بالجنك الذي كان أهله يريدون فندرينا فتكسر ومات بعض أهله وسلم بعضهم. وكانت فيه جارية لبعض التجار عزيزة عليه فرغب في إعطاء عشرة دنانير ذهباً لمن يخرجها وكانت قد التزمت خشبة في مؤخرة الجنك فانتدب لذلك بعض البحرية الهرمزيين فأخرجها وأبى أن يأخذ الدنانير، وقال: إنما فعلت ذلك لله تعالى. ولما كان الليل رمى البحر بالجنك الذي كانت فيه الهدية فمات جميع من فيه. ونظرنا عند الصباح إلى مصارعهم ورأيت ظهير الدين قد انشق رأسه وتناثر دماغه. والملك سنبل قد ضرب مسمار في أحد صدغيه ونفذ من الآخر. وصلينا عليهما ودفناهما. ورأيت الكافر سلطان قالقوط وفي وسطه شقة بيضاء كبيرة قد لفها من سرته إلى ركبته وفي رأسه عمامة صغيرة وهو حافي القدمين والشطر بيد غلام فوق رأسه والنار توقد بين يديه في الساحل وزبانيته يضربون الناس لئلا ينتهبوا ما يرمي البحر. وعادة بلاد المليبار أنّ كل ما انكسر من مركب يرجع ما يخرج منه للمخزن إلا في هذا البلد خاصة فإن ذلك يأخذه أربابه. ولذلك عمرت وكثر تردد الناس إليها. ولما رأى أهل الكَكَم ما حدث على الجنك رفعوا قلعهم وذهبوا ومعهم جميع متاعي وغلماني وجواري وبقيت منفرداً على الساحل ليس معي إلا فتى كنت أعتقته. فلما رأى ما حل بي ذهب عني ولم يبق عندي إلا العشرة الدنانير التي أعطانيها الجوكي والبساط الذي كنت افترشه وأخبرني الناس أن ذلك الكَكَم لا بد له أن يدخل مرسى كولم فعزمت على السفر إليها وبينهما مسيرة عشر

ص: 439

في البر أو في النهر أيضاً لمن أراد ذلك، فسافرت في النهر واكتريت رجلاً من المسلمين يحمل لي البساط. وعادتهم إذا سافروا في ذلك النهر أن ينزلوا بالعشي فيبيتوا بالقرى التي على حافتيه ثم يعودوا إلى المركب بالغدو فكنا نفعل ذلك ولم يكن بالمركب مسلم إلا الذي اكتريته وكان يشرب الخمر عند الكفار إذا نزلنا ويعربد علي فيزيد تغير خاطري. ووصلنا في اليوم الخامس من سفرنا إلى كُنْجي كَري "وضبط اسمها بكاف مضموم ونون ساكن وجيم وياء مد وكاف مفتوح وراء مكسور وياء"، وهي بأعلى جبل هنالك. يسكنها اليهود، ولهم أمير منهم، ويؤدون الجزية لسلطان كولم.

وجميع الأشجار التي على هذا النهر أشجار القرفة والبقم وهي حطبهم هنالك. ومنها كنا نقد النار لطبخ طعامنا في ذلك الطريق. وفي اليوم العاشر وصلنا إلى مدينة كَوْلَم "وضبط اسمها بفتح الكاف واللام وبينهما واو"، وهي أحسن بلاد المليبار وأسواقها حسان وتجارها يعرفون بالصوليين لهم أموال عريضة يشتري أحدهم المركب بما فيه ويوسقه من داره بالسلع. وبها من التجار المسلمين جماعة كبيرهم علاء الدين الآوجي من أهل آوة من بلاد العراق، وهو رافضي ومعه أصحاب له على مذهبه وهم يظهرون ذلك. وقاضيها فاضل من أهل قزوين. وكبير المسلمين بها محمد شاه بندر وله أخ فاضل كريم اسمه تقي الدين. والمسجد الجامع بها عجيب عمره التاجر خواجة مهذب. وهذه المدينة أول ما يوالي الصين من بلاد المليبار وإليه يسافر أكثرهم. والمسلمون بها أعزة محترمون. وكان سلطان كولم كافراً يعرف بالتِيرَوَرِي "بكسر التاء المعلوة وياء مد وراء وواو مفتوحين وراء مكسورة وياء" وهو معظم المسلمين. وله أحكام شديدة على السراق والدعار.

ومما شاهدت بِكََولم أن بعض الرماة العراقيين قتل آخر منهم وفر إلى دار الآوجي وكان له مال كثير، وأراد المسلمون دفن المقتول، فمنعهم نواب السلطان من ذلك. وقالوا لا يدفن حتى تدفعوا لنا قاتله فيقتل به وتركوه في تابوته على باب الآوجي حتى أنتن وتغير. فمكنهم الآوجي من القاتل ورغب منهم أن يعطيهم أمواله ويتركوه حيا فأبوا ذلك وقتلوه. وحينئذ دفن المقتول.

أخبرت أن سلطان كولم ركب يوماً إلى خارجها وكان طريقة فيما بين البساتين ومعه صهره زوج بنته وهو من أبناء الملوك، فأخذ حبة واحدة من

ص: 440

العنبة سقطت من بعض البساتين. وكان السلطان ينظر إليه فأمر به عند ذلك فوسط وقسم نصفين وصلب نصفه عن يمين الطريق ونصفه الآخر عن يساره وقسمت حبة العنبة نصفين فوضع على كل نصف منها وترك عبرة للناظرين. ومما اتفق نحو ذلك بقالقوط أن ابن أخ للنائب عن سلطانها غصب سيفاً لبعض تجار المسلمين، فشكا بذلك إلى ابن عمه فوعده بالنظر في أمره وقعد على باب داره فإذا بابن أخيه متقلد ذلك السيف. فدعاه فقال: هذا سيف المسلم. قال: نعم. قال: اشتريته منه. قال لا فقال لأعوانه: أمسكوه ثم أمر به فضربت عنقه بذلك السيف. وأقمت بكولم مدة بزاوية الشيخ فخر الدين بن الشيخ شهاب الدين الكازورني شيخ قالقوط، فلم أتعرف للككم خبراً.

وفي أثناء مقامي بها دخل إليها أرسال ملك الصين الذين كانوا معنا وكانوا ركبوا في أحد تلك الجنوك فانكسر أيضا فكساهم تجار الصين وعادوا إلى بلادهم ولقيتهم بها بعد وأردت أن أعود من كولم إلى السلطان لأعلمه بما اتفق على الهدية. ثم خفت أن يتعقب فعلي ويقول: لم فارقت الهدية؟ فعزمت على العودة إلى السلطان جمال الدين الهنوري وأقيم عنده حتى أتعرف خبر الكَكَم. فعدت إلى قالقوط ووجدت بها بعض مراكب السلطان فبعث فيها أميراً من العرب يعرف السيد أبي الحسن وهو من البرددارية وهم خواص البوابين بعثه السلطان بأموال يستجلب بها من قدر عليه من العرب من أرض هرمز والقطيف لمحبته في العرب فتوجهت إلى هذا الأمير ورأيته عازماً على أن يشتو بقالقوط وحينئذ يسافر إلى بلاد العرب فشاورته في العودة إلى السلطان فلم يوافق على ذلك. فسافرت بالبحر من قالقوط وذلك آخر فصل السفر فيه فكنا نسير نصف النهار الأول ثم نرسو إلى الغد ولقينا في طريقنا أربعة أجفان غزوية فخفنا منها ثم لم يعرضوا لنا بشر. ووصلنا إلى مدينة هنور فنزلت إلى السلطان وسلمت عليه فأنزلني بدار ولم يكن لي خديم وطلب مني أن أصلي معه الصلوات فكان أكثر جلوسي في مسجده. وكنت أختم القرآن كل يوم ثم كنت أختم مرتين في اليوم أبتدئ القراءة بعد صلاة الصبح فأختم عند الزوال. وأجدد الوضوء وأبتدئ القراءة فأختم الختمة الثانية عند الغروب. ولم أزل كذلك مدة ثلاثة أشهر واعتكفت فيها أربعين يوماً.

ص: 441

وكان السلطان جمال الدين قد جهز اثنين وخمسين مركباً وسفرته برسم غزو سندابور وكان وقع بين سلطانها وولده خلاف فكتب ولده إلى السلطان جمال الدين أن يتوجه لفتح سندابور ويسلم الولد المذكور ويزوجه السلطان أخته. فلما تجهزت المراكب ظهر لي أن أتوجه فيها إلى الجهاد ففتحت المصحف أنظر فيه فكان في أول الصفح يذكر فيها اسم الله كثيراً: {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} 1. فاستبشرت بذلك وأتى السلطان إلى صلاة العصر. فقلت له إني أريد السفر، فقال: فأنت إذا تكون أميرهم فأخبرته بما خرج لي في أول الصفح فأعجبه ذلك وعزم على السفر بنفسه ولم يكن ظهر له ذلك قبل فركب مركباً منها وأنا معه وذلك في يوم السبت، فوصلنا عشي الاثنين إلى سندابور ودخلنا خورها فوجدنا أهلها مستعدين للحرب وقد نصبوا المجانيق، فبِتْنا عليها تلك الليلة، فلما أصبح ضربت الطبول والأنفار والأبواق وزحفت المراكب ورموا عليها بالمجانيق فلقد رأيت حجراً أصاب بعض الواقفين بمقربة من السلطان، ورمى أهل المراكب أنفسهم في الماء وبأيديهم الترسة والسيوف ونزل السلطان إلى العكيري وهو شبه الشلير ورميت بنفسي في الماء في جملة الناس. وكان عندنا طريدتان مفتوحتي المواخر فيها الخيل وهي بحيث يركب الفارس فرسه في جوفها ويتدرع ويخرج ففعلوا ذلك وأذن الله في فتحها وأنزل النصر على المسلمين فدخلنا بالسيف ودخل معظم الكفار في قصر سلطانهم فرَمينا النار فيه فخرجوا وقبضنا عليهم، ثم أن السلطان أمنهم ورد لهم نساءهم وأولادهم وكانوا نحو عشرة آلاف وأسكنهم بربض المدينة وسكن السلطان القصر وأعطى الديار بمقربة منه لأهل دولته وأعطاني جارية منهن تسمى بلكي فسميتها مباركة، وأراد زوجها فداءها فأبيت. وكساني فرجية مصرية وجدت في خزائن الكافر. وأقمت عنده بسندابور من يوم فتحها وهو الثالث عشر لجمادى الأولى إلى منتصف شعبان، وطلبت منه الإذن في السفر فأخذ علي العهد في العودة إليه. وسافرت في البحر إلى هنور ثم إلى فاكنور ثم إلى منجرور ثم إلى هيلي ثم إلى جرفتن وده فتن وبدفتن وفندرينا وقالقوط، وقد تقدم ذكر جميعها، ثم إلى مدينة الشاليات

1 الحج: 40.

ص: 442

"وهي بالشين المعجم وألف ولام وياء آخر الحروف وألف وتاء معلوة"، مدينة من حسان المدن، تصنع بها الثياب المنسوبة لها. وأقمت بها فطال مقامي فعدت إلى قالقوط. ووصل إليها غلامان كانا لي بالككم فأخبراني أن الجارية التي كانت حاملاً، وبسببها كان تغير خاطري توفيت. وأخذ صاحب الجاوة سائر الجواري، واستولت الأيدي على المتاع وتفرق أصحابي إلى الصين والجاوة وبنجالة. فعدت لما تعرفت هذا إلى هنور ثم إلى سندابور، فوصلتها في آخر المحرم وأقمت بها إلى الثاني من شهر ربيع الآخر، وقدم سلطانهم الكافر الذي دخلنا عليه برسم أخذها وهرب إليه الكفار كلهم، وكانت عساكر السلطان متفرقة في القرى فانقطعوا عنا، وحصرنا الكفار وضيقوا علينا ولما اشتد الحال خرجت عنها وتركتها محصورة وعدت إلى قالقوط وعزمت على السفر إلى ذيبة المهل وكنت أسمع بأخبارها. فبعد عشرة أيام من ركوبنا البحر بقالقوط وصلنا جزائر ذيبة المَهَل، وذيبة على لفظ مؤنث الذيب، والمَهَل "بفتح الميم والهاء". وهذه الجزائر إحدى عجائب الدنيا وهي نحو ألفي جزيرة ويكون منها مائة فما دونها مجتمعات مستديرة كالحلقة لها مدخل كالباب لا تدخل المراكب إلا منه وإذا وصل المركب إلى إحداها فلا بد له من دليل من أهلها يسير به إلى سائر الجزائر وهي من التقارب بحيث تظهر رؤوس النخل التي بإحداها عند الخروج من الأخرى فإن أخطأ المركب سمتها لم يمكنه دخولها وحملته الريح إلى المعبر أو سيلان. وهذه الجزائر أهلها كلهم مسلمون ذوو ديانة وصلاح وهي منقسمة إلى أقاليم على كل إقليم وال يسمونه الكردوي. ومن أقاليمها إقليم بالبور "وهو ببائين معقودتين وكسر اللام وآخره راء"، ومنها كنَّلُوس "بفتح الكاف والنون مع تشديدها وضم اللام وواو وسين مهمل"، ومنها إقليم المهل وبه تعرف الجزائر كلها وبها يسكن سلاطينها، ومنها إقليم تَلَاديب "بفتح التاء المعلوة واللام وألف ودال مهمل وباء مد وباء موحدة"، ومنها إقليم كرايدوا "بفتح الكاف وسكون الياء المسفولة وضم الدال المهمل"، ومنها إقليم التيم "بفتح التاء المعلوة وسكون الياء المسفولة"، ومنها إقليم تَلْدُمَّتِي "بفتح التاء المعلوة الأول واللام وضم الدال المهمل وفتح الميم وتشديدها وكسر التاء الأخرى وياء"، ومنها إقليم هَلْدُمَّتي، وهو مثل اللفظ الذي قبله إلاّ أنّ الهاء أوله، ومنها إقليم بَرَوَيْدو "بفتح الباء الموحدة والراء وسكون الياء وضم الدال المهمل وواو"، ومنها إقليم كَندْكَل "بفتح الكافين والدال

ص: 443

المهمل ولام"، ومنها إقليم مُلوك "بضم الميم"، ومنها إقليم السويد "بالسين المهمل"، وهو أقصاها. وهذه الجزائر كلها لا زرع بها إلا أن في إقليم السويد منها زرعا يشبه أتلي ويجلب منه إلى المهل، وإنما أكل أهلها سمك يشبه الليرون، ويسمونه قُلب الماس "بضم القاف"، ولحمه أحمر ولا زفر له، إنما ريحه كريح لحم الأنعام، وإذا اصطادوه قطعوا السمكة منه أربع قطع وطبخوها يسيراً ثم جعلوه في مكاتيل من سعف النخل وعلقوه للدخان فإذا استحكم يبسه أكلوه، ويحمل منها إلى الهند والصين واليمن.

ومعظم أشجار هذه الجزائر النارجيل وهو من أقواتهم مع السمك وقد تقدم ذكره، وأشجار النارجيل شأنها عجيب وتثمر النخل منها اثنى عشر عذقا في السنة يخرج في كل شهر عذق فيكون بعضها صغيراً وبعضها كبيراً وبعضها يابسا وبعضها أخضر هكذا أبداً، ويصنعون منه الحليب والزيت والعسل حسبما ذكرنا ذلك في السفر الأول، ويصنعون من عسله الحلواء فيأكلونها مع الجوز اليابس منه. ولذلك كله وللسمك الذي يتغذون به قوة عجيبة في الباءة لا نظير لها. ولأهل هذه الجزائر عجب في ذلك. ولقد كان لي بها أربع نسوة وجوار سواهن فكنت أطوف على جميعهن كل يوم وأبيت عند من تكون ليلتها. وأقمت بها سنة ونصف أخرى على ذلك. ومن أشجارها الجموح1 والأترج والليمون والقلقاص، وهم يصنعون من أصوله دقيقاً يعملون منه شبه الأطرية ويطبخونها بحليب النارجيل وهي من أطيب الطعام كنت أستحسنها كثيراً وآكلها.

وأهل هذه الجزائر أهل صلاح وديانة وإيمان صحيح ونية صادقة أكلهم حلال ودعاؤهم مجاب. وإذا رأى الإنسان أحدهم قال له: الله ربي ومحمد نبيي وأنا أمي مسكين، وأبدانهم ضعيفة ولا عهد لهم بالقتال والمحاربة وسلاحهم الدعاء. ولقد أمرت مرة بقطع يد سارق بها فغشى علي جماعة منهم كانوا بالمجلس، ولا تطرقهم لصوص الهند ولا تذعرهم لأنهم جربوا أن من أخذ لهم شيئا أصابته مصيبة عاجلة. وإذا أتت أجفان العدو إلى ناحيتهم أخذوا من وجدوا من غيرهم ولم يعرضوا لأحد منهم بسوء. وإن أخذ أحد الكفار،

1 في إحدى طبعات الكتاب: الجمون.

ص: 444

ولو ليمونة عاقبه أمير الكفار وضربه الضرب المبرح خوفاً من عاقبة ذلك. ولولا هذا لكانوا أهون الناس على قاصدهم بالقتال لضعف بنيتهم. وفي كل جزيرة من جزائرهم المساجد الحسنة وأكثر عمارتهم الخشب. وهم أهل نظافة وتنزه عن الأقذار وأكثرهم يغتسلون مرتين في اليوم تنظفا لشدة الحر بها وكثرة العرق ويكثرون من الأدهان العطرية كالصندلية وغيرها ويتلطخون بالغالية المجلوبة من مقدشو. ومن عادتهم أنهم إذا صلوا الصبح أتت كل امرأة إلى زوجها أو ابنها بالمكحلة وبماء الورد ودهن الغالية فيكحل عينيه ويدهن بماء الورد ودهن الغالية فتصقل بشرته وتزيل الشحوب عن وجهه. ولباسهم فوط يشدون الفوطة منها على أوساطهم عوض السراويل ويجعلون على ظهورهم ثياب الوليان "بكسر الواو وسكون اللام وياء" وهي شبه الأحاريم وبعضهم يجعل عمامة وبعضهم منديلاً صغيراً عوضا منها. وإذا لقي أحدهم القاضي أو الخطيب وضع ثوبه عن كتفيه وكشف ظهره ومضى معه كذلك حتى يصل إلى منزله. ومن عوائدهم أنه إذا تزوج الرجل منهم ومضى إلى دار زوجته بسطت له ثياب القطن من باب دارها إلى باب البيت وجعل عليها غرفات من الودع عن يمين طريقه إلى البيت وشماله وتكون المرأة واقفة عند باب البيت تنتظره فإذا وصل إليها رمت على رجليه ثوباً يأخذه خدامه. وإن كانت المرأة هي التي تأتي إلى منزل الرجل بسطت داره وجعل فيها الودع ورمت المرأة عند الوصول إليه الثوب على رجليه. وكذلك عادتهم في السلام على السلطان عندهم لا بد من ثوب يرمى عند ذلك وسنذكره.

وبنيانهم بالخشب ويجعلون سطوح البيوت مرتفعة عن الأرض توقياً من الرطوبات لأن أرضهم ندية. وكيفية ذلك أن ينحتوا حجارة يكون طول الحجر منها ذراعين أو ثلاثة ويجعلونها صفوفا ويعرضون عليها خشب النارجيل ثم يضعون الحيطان من الخشب ولهم صناعة عجيبة في ذلك. ويبنون في أسطوان الدار بيتاً يسمونه المالَم "بفتح اللام" يجلس الرجل به مع أصحابه ويكون له بابان أحدهما إلى جهة الأسطوان يدخل منه الناس والآخر إلى جهة الدار يدخل منه صاحبها. ويكون عند هذا البيت خابية مملوءة ماء ولها مستقى يسمونه الوالنج "بفتح الواو واللام وسكون النون وجيم" هو من قشر جوز النارجيل، وله نصاب طوله ذراعان. وبه يسقون الماء من الآبار لقربها. وجميعهم حفاة الأقدام من رفيع ووضيع، وأزقتهم مكنوسة نقية، تظللها

ص: 445

الأشجار. فالماشي بها كأنه في بستان ومع ذلك لا بد لكل داخل إلى الدار أن يغسل رجليه بالماء الذي في الخابية بالمالم، ويمسحها بحصير غليظ من الليف يكون هنالك، ثم يدخل بيته وكذلك يفعل كل داخل إلى المسجد.

ومن عوائدهم إذا قدم عليهم مركب أن تخرج إليه الكنادر وهي القوارب الصغار وإحداها كُنْدُرة "بضم الكاف والدال". وفيها أهل الجزيرة معهم التنبول أو الكرنبة وهي جوز النارجيل الأخضر، فيعطي الإنسان منهم ذلك لمن شاء من أهل المركب ويكون نزيله ويحمل أمتعته إلى داره كأنه بعض أقربائه. ومن أراد التزوج من القادمين عليهم تزوج فإذا حان سفره طلق المرأة لأنهن لا يخرجن عن بلادهن. ومن لم يتزوج فالمرأة التي ينزل بدارها تطبخ له وتخدمه وتزوّده إذا سافر وترضى منه في مقابلة بأيسر شيء من الإحسان. وفائدة المخزن ويسمونه البندر أن يشتري من كل سلعة بالمركب حظاً بسوم معلوم سواء كانت السلعة تساوي ذلك أو أكثر منه ويسمونه شرع البندر ويكون للبندر بيت في كل جزيرة من الخشب يسمونه البَجَنْصار "بفتح الباء الموحدة والجيم وسكون النون وفتح الصاد المهمل وآخره راء"، يجمع به الوالي وهو الكردوري جميع سلعه ويبيع بها ويشتري. وهم يشترون الفخار إذا جلب إليهم بالدجاج فتباع عندهم القدر بخمس دجاجات وست، وتحمل المراكب من هذه الجزائر السمك الذي ذكرناه وجوز النارجيل والفوط والوليان والعمائم وهي من القطن ويحملون منها أواني النحاس. فإنها عندهم كثيرة ويحملون الودع ويحملون القنبر وهو ليف جوز النارجيل وهم يدبغونه في حفر على الساحل ثم يضربونه بالمرازب ثم تغزله النساء وتصنع منه الحبال لخياطة المراكب وتحمل إلى الصين والهند واليمن وهو خير من القنب. وبهذه الحبال تخاط مراكب الهند واليمن لأن ذلك البحر كثير الحجارة، فإن كان المركب مسمراً بمسامير الحديد صدم الحجارة فانكسر وإذا كان مخيطاً بالحبال أعطى الرطوبة فلم ينكسر. وصرف أهل هذه الجزائر الودع وهو حيوان يلتقطونه في البحر ويضعونه في حفر هنالك فيذهب لحمه ويبقى عظمه أبيض ويسمون المائة منه سياه "بسين مهمل وياء آخر الحروف" ويسمونه السبعمائة منه الفال "بالفاء"، ويسمونه الاثنى عشر ألفاً منه الكتيّ "بضم الكاف وتشديد التاء

ص: 446

المعلوة"، ويسمون المائة ألف منه بُستُو "بضم الباء الموحدة والتاء المعلوة وبينهما سين مهمل"، ويباع بها بقيمة أربعة بساتي بدينار من الذهب وربما رخص حتى يباع عشر بساتي منه بدينار. ويبيعونه من أهل اليمن فيجعلونه عوض الرمل في مراكبهم. وهذا الودع أيضاً هو صرف السودان في بلادهم، رأيته يباع بمالي وجوجو بحساب ألف وخمسين للدينار الذهبي.

ونساؤها لا يغطين رؤسهن، ولا سلطانتهم تغطي رأسها. ويمشطن شعورهن ويجمعنها إلى جهة واحدة. ولا يلبس أكثرهن إلا فوطه واحدة تسترها من السرة إلى أسفل، وسائر أجسادهن مكشوفة، وكذلك يمشين في الأسواق وغيرها. ولقد جهدت لما وليت القضاء بها أن أقطع تلك العادة وآمرهن باللباس فلم أستطع ذلك. وكانت لا تدخل إلي منهن امرأة في خصومة إلا مستترة الجسد، وما عدا ذلك لم تكن لي عليهن قدرة. ولباس بعضهن قمص زائدة على الفوطة وقمصهن قصار الأكمام عراضها. وكان لي جوار كسوتهن لباس أهل دهلي تغطين رؤسهن فعابهن ذلك أكثر مما زانهن إذ لم يتعودونه. وحليهن الأساور وتجعل المرأه منها جملة في ذراعيها بحيث تملأ ما بين الكوع والمرفق وهي من الفضة. ولا تحمل أساور الذهب إلا نساء السلطان وأقاربه ولهن الخلاخيل ويسمونها البَايِل "بباء موحدة وألف وياء آخر الحروف مكسورة" وقلائد ذهب يجعلنها على صدورهن ويسمونها البَسْدرد "بالباء الموحدة وسكون السين المهمل وفتح الدال المهمل والراء". ومن عجيب أفعالهن أنهن يستأجرن أنفسهن للخدمة بالديار على عدد معلوم من خمسة دنانير فما دونها وعلى مستأجرهن نفقتهن ولا يرين ذلك عيباً، ويفعله أكثر بناتهم فتجد في دار الإنسان الغني منهم العشرة والعشرين. وكل ما تكسره من الأواني يحسب عليها قيمته. وإذا أرادت الخروج من دار إلى دار أعطاها أهل الدار التي تخرج إليها العدد الذي هي مرتهنة فيه فتدفعه لأهل الدار التي خرجت منها ويبقى عليها للآخرين. وأكثر شغل هؤلاء المستأجرات غزل القنبر. والتزوج بهذه الجزائر سهل لنزارة الصداق وحسن معاشرة النساء. وأكثر الناس لا يسمي صداقاً، إنما تقع الشهادة ويعطى صداق مثلها. وإذا قدمت المراكب تزوج أهلها النساء، فإذا أرادوا السفر طلقوهن، وذلك نوع من نكاح المتعة. وهن لا يخرجن

ص: 447

عن بلادهن أبداً. ولم أر في الدنيا أحسن معاشرة منهن. ولا تكل المرأة عندهم خدمة زوجها إلى سواها، بل هي تأتيه بالطعام وترفعه من بين يديه وتغسل يده وتأتيه بالماء للوضوء وتغم رجليه عند النوم. ومن عوائدهن أن لا تأكل المرأة مع زوجها ولا يعلم الرجل ما تأكله المرأة، ولقد تزوجت بها نسوة فأكل معي بعضهن بعد محاولة، وبعضهن لم تأكل معي ولا أستطعت أن أراها تأكل ولا نفعتني حيلة في ذلك.

وحدثني الثقات من أهلها كالفقية عيسى اليمني، والفقيه المعلم علي، والقاضي عبد الله، وجماعة سواهم، أن هذه الجزائر كانوا كفاراً وكان يظهر لهم في كل شهر عفريت من الجن يأتي ناحية البحر كأنه مركب مملوء بالقناديل. وكانت عادتهم إذا رأوه أخذوا جارية بكراً فزينوها وأدخلوها إلى بدخانة وهي بيت الأصنام وكان مبنياً على ضفة البحر وله طاق ينظر إليه، ويتركونها هنالك ليلة ثم يأتون عند الصباح فيجدونها مفتضة ميتة. ولا يزالون في كل شهر يقترعون بينهم فمن أصابته القرعة أعطى بنته، ثم أنه قدم عليهم مغربي يسمى بأبي البركات البربري وكان حافظاً للقرآن العظيم فنزل بدار عجوز منهم يجزيرة المهل فدخل عليها يوماً وقد جمعت أهلها وهن يبكين كأنهن في مأتم فساتفهمهن عن شأنهن فلم يفهمنه فأتى ترجمان فأخبره أن العجوز كانت القرعة عليها وليس لها إلا بنت واحدة يقتلها العفريب. فقال لها أبو البركات: أنا أتوجه عوضاً من بنتك بالليل. وكان سُناطاً لا لحية له، فاحتملوه تلك الليلة وأدخلوه إلى بدخانة، وهو متوضئ، وأقام يتلو القرآن ثم ظهر له العفريت من الطاق فداوم التلاوة فلما كان بحيث يسمع القراءة غاص في البحر وأصبح المغربي وهو يتلو على حاله فجاءت العجوز وأهلها وأهل الجزيرة ليستخرجوا البنت على عادتهم فيحرقوها فوجدوا المغرب يتلوا فمضو إلى ملكهم وكان يسمى شَنُورازة "بفتح الشين المعجم وضم النون وواو وراء وألف وزاي وهاء"، واعلموه بخبره فعجب منه وعرض المغربي عليه الإسلام ورغبه فيه، فقال له: أقم عندنا إلى الشهر الآخر فإن فعلت كفعلك ونجوت من العفريت أسلمت. فأقام عندهم وشرح الله صدر الملك للإسلام فأسلم قبل تمام الشهر وأسلم أهله وأولاده وأهل دولته، ثم حمل المغربي لما دخل الشهر إلى بدخانة ولم يأت العفريت فجعل يتلو حتى الصباح. وجاء

ص: 448

السلطان والناس معه فوجدوه على حاله من التلاوة فكسروا الأصنام وهدموا البدخانة وأسلم أهل الجزيرة وبعثوا إلى سائر الجزائر فأسلم أهلها. وأقام المغربي عندهم معظماً وتمذهبوا بمذهبه مذهب الإمام مالك رضي الله عنه وهم إلى هذا العهد يعظمون المغاربة بسببه. وبنى مسجد هو معروف باسمه، وقرأت على مقصورة الجامع منقوشاً في الخشب أسلم السلطان أحمد شنورازة على يد أبي البركات البربري المغربي. وجعل ذلك السلطان ثلث مجابي الجزائر صدقة على أبناء السبيل إذ كان إسلامه بسببهم، فسمي على ذلك حتى الآن، وبسبب هذا العفريت خرب من هذه الجزائر كثير قبل الإسلام.

ولما دخلناها لم يكن لي علم بشأنه فبينا أنا ليلة في بعض شأني سمعت الناس يجهرون بالتهليل والتكبير ورأيت الأولاد وعلى رؤوسهم المصاحف والنساء يضربون في الطسوت وأواني النحاس فعجبت من فعلهم وقلت ما شأنكم؟ فقالوا: ألا تنظر إلى البحر فنظرت فإذا مثل المركب الكبير وكأنه مملوءٌ سرجاً ومشاعل، فقالوا ذلك العفريت وعادته أن يظهر مرة في الشهر فإذا فعلنا ما رأيت انصرف عنا ولم يضرنا.

ومن عجائبها أن سلطانتها امرأة وهي خديجة بنت السلطان جلال الدين عمر بن السلطان صلاح الدين صالح البنجالي. وكان الملك لجدها ثم لأبيها، فلما مات أبوها ولي أخوها شهاب الدين وهو صغير السن فتزوج الوزير عبد الله بن محمد الحضرمي أمه وغلب عليه وهو الذي تزوج أيضا هذه السلطانة خديجة بعد وفاة زوجها الوزير جمال الدين كما سنذكره. فلما بلغ شهاب الدين مبلغ الرجال أخرج ربيبة الوزير عبد الله ونفاه إلى جزائر السويد واستقل بالملك واستوزر أحد مواليه ويسمى علي كلكي ثم عزله بعد ثلاثة أعوام ونفاه إلى السويد. وكان يذكر عن السلطان شهاب الدين المذكور أنه يختلف إلى حرم أهل دولته وخواصه بالليل، فخلعوه لذلك ونفوه إلى إقليم هلدتني وبعثوا من قتله بها. ولم يكن بقي من بيت الملك إلا أخواته خديجة الكبرى ومريم وفاطمة، فقدموا خديجة سلطانة وكانت متزوجة لخطيبهم جمال الدين فصار وزيراً وغالباً على الأمر وقدم ولده محمدا للخطابة عوضا عنه. ولكن الأوامر إنما تنفذ باسم خديجة. وهم يكتبون الأوامر في سعف النخل بحديدة معوجة شبه السكين. ولا يكتبون في الكاغد إلا المصاحف وكتب العلم،

ص: 449

ويذكرها الخطيب يوم الجمعة وغيرها، فيقول: اللهم انصر أمتك التي اخترتها على علم على العالمين، وجعلتها رحمة لكافة المسلمين، ألا وهي السلطانة خديجة بنت السلطان جلال الدين بن السلطان صلاح الدين. ومن عادتهم إذا قدم الغريب عليهم ومضى إلى المشور وهم يسمونه الدار فلا بد له أن يستصحب ثوبين فيخدم لجهة هذه السلطانة ويرمي بأحدهما ثم يخدم لوزيرها وهو زوجها جمال الدين ويرمي بالثاني. وجندها نحو ألف نفرٍ من الغرباء وبعضهم بلديون. ويأتون كل يوم إلى الدار، فيخدمون وينصرفون. ومرتبهم الأرز يعطاهم من البندر في كل شهر، فإذا تم الشهر أتوا الدار وخدموا، وقالوا للوزير: بلغ عنا الخدمة، واعلم بأنا أتينا نطلب مرتبنا. فيؤمر لهم بها عند ذلك. ويأتي أيضا إلى الدار كل يوم القاضي وأرباب الخطط وهم الوزراء عندهم فيخدمون ويبلغ خدمتهم الفتيان وينصرفون.

وهم يسمون الوزير الأكبر النائب عن السلطانة كَلَكي "بفتح الكاف الأولى واللام" ويسمون القاضي فَنْدْيَار قَالُوَا "وضبط ذلك بفاء مفتوح ونون مسكن ودال مهمل مفتوح وياء آخر الحروف وألف وراء وقاف وألف ولام مضمومٌ) ، وأحكامهم كلها راجعة إلى القاضي، وهو أعظم عندهم من الناس أجمعين، وأمره كأمر السلطان وأشد ويجلس على بساط في الدار. وله ثلاثة جزائر يأخذ مجباها لنفسه عادة قديمة أجراها السطان أحمد شنورازة ويسمون الخطيب هَنْدِيجَرِي "بفتح الهاء وسكون النون وكسر الدال وياء مد وجيم ومفتوح وراء وياء". ويسمون صاحب الديوان الفَاملداري "بفتح الفاء والدال المهمل"، واسم صاحب الأشغال مَافَاكَلُو "بفتح الميم والكاف وضم اللام" واسم الحاكم فِتْنَايَك "بكسر الفاء وسكون التاء المعلوة وفتح النون وألف وياء آخر الحروف" واسم قائد البحر مَانَايَاك "بفتح الميم والنون والياء". وكل من هؤلاء يسمى وزيراً. ولا سجن عندهم بتلك الجزائر، إنما يحبس أرباب الجرائم في بيوت خشب هي معدة لأمتعة التجار ويجعل أحدهم في خشبة كما يفعل عندنا بأساري الروم.

ولما وصلت إليها نزلت منها بجزيرة كنلوس، وهي جزيرة حسنة فيها المساجد الكثيرة ونزلت بدار رجل من صلحائها وأضافني بها الفقيه علي وكان فاضلاً له أولاد من طلبة العلم. ولقيت بها رجلا اسمه محمد من أهل ظفار

ص: 450

الحموض، فأضافني وقال لي: إن دخلت جزيرة المهل أمسكك الوزير بها. فإنهم لا قاضي عندهم. وكان غرضي أن أسافر منها إلى المعبر وسرنديت وبنجالة ثم إلى الصين وكان قدومي عليها في مركب الناخوذة عمر الهنوري وهو من الحجاج الفضلاء.

ولما وصلنا كنلوس أقام بها عشراً ثم اكترى كندرة يسافر فيها إلى المهل بهدية للسلطانة وزوجها، فأردت السفر معه، فقال: لا تسعك الكندرة أنت وأصحابك فإن شئت السفر منفرداً عنهم فدونك فأبيت ذلك، وسافر فلعبت به الريح وعاد إلينا بعد أربعة أيام وقد لقي شدائد فاعتذر لي وعزم علي في السفر معه بأصحابي فكنا نرحل غدوة فننزل في وسط النهار لبعض الجزائر ونرحل فنبيت بأخرى.

ووصلنا بعد أربعة أيام إلى إقليم التيم. وكان الكردوي يسمى بها هلالاً، فسلم علي وأضافني وجاء إلي ومعه أربعة رجال وقد جعل اثنان منهم عوداً على أكتافهما وعلقا منه أربع دجاجات وجعل الآخران عوداً مثله وعلقا منه نحو عشر من جوز النارجيل فعجبت من تعظيمهم لهذا الشيء الحقير، فأخبرت أنهم صنعوه على جهة الكرامة والإجلال. ورحلنا عنهم فنزلنا في اليوم السادس بجزيرة عثمان وهو رجل فاضل من خيار الناس فأكرمنا وأضافنا. وفي اليوم الثامن نزلنا بجزيرة لوزير يقال له التلمذي. وفي اليوم العاشر وصلنا إلى جزيرة المهل حيث السلطانة وزوجها وأرسينا بمرساها. وعادتهم أن لا ينزل أحد من المرسى إلا بإذنهم فأذنوا لنا في النزول وأردت التوجه إلى بعض المساجد فمنعني الخدام الذين بالساحل وقالوا لا بد من الدخول إلى الوزير.

وكنت أوصيت الناخوذة أن يقول إذا سئل عني: لا أعرفه خوفاً من إمساكهم إياي. ولم أعلم أن بعض أهل الفضول قد كتب إليهم معرفاً بخبري، وأني كنت قاضياً بدهلي، فلما وصلنا إلى الدار وهو المشور نزلنا في سقائف على الباب الثالث منه وجاء القاضي عيسى اليمني فسلم علي وسلمت على الوزير وجاء الناخوذة إبراهيم بعشرة أثواب فخدم لجهة السلطانة ورمى بثوب منها ثم خدم للوزير ورمى بثوب آخر ورمى بجميعها. وسئل عني فقال: لا أعرفه. ثم أخرجوا إلينا التنبول وماء الورد وذلك هو الكرامة عندهم وأنزلنا بدار وبعث إلينا الطعام وهو قصعة كبيرة فيها الأرز،

ص: 451

وتدور بها صحاف فيها اللحم الخليع والدجاج والسمن والسمك. ولما كان بالغد مضيت مع الناخوذة والقاضي عيسى اليمني لزيارة زاوية في طرف الجزيرة عمرها الشيخ الصالح نجيب وعدنا ليلاً. وبعث الوزير إلي صبيحة تلك الليلة كسوة وضيافة فيها الأرز والسمن والخليع وجوز النارجيل والعسل المصنوع منها وهم يسمونه القُرْبَاني "بضم القاف وسكون الراء وفتح الباء الموحدة، وألف ونون وياء"، ومعنى ذلك ماء السكر. وأتوا بمائة ودعة للنفقة. وبعد عشرة أيام قدم مركب من سيلان فيه فقراء من العرب والعجم يعرفونني فعرفوا خدام الوزير بأمري فزاد اغتباطاً بي، وبعث عني عند استهلال رمضان فوجدت الأمراء والوزراء. وأحضر الطعام في موائد يجتمع على المائدة طائفة فأجلسني الوزير إلى جانبه ومعه القاضي عيسى والوزير الفاملداري والوزير عمر دهرد ومعناه مقدم العسكر. وطعامهم الأرز والدجاج والسمن والسمك والخليع والموز المطبوخ، ويشربون بعده عسل النارجيل مخلوطاً بالأفاويه، وهو يهضم الطعام. وفي التاسع من شهر رمضان مات صهر الوزير زوج بنته وكانت قبله عند السلطان شهاب الدين ولم يدخل بها أحد منهما لصغرها، فردها أبوها لداره وأعطاني دارها وهي من أجمل الدور. واستأذنته في ضيافة الفقراء القادمين من زيارة القدم1 فأذن لي في ذلك وبعث إلي خمساً من الغنم وهي عزيزة عندهم لأنها مجلوبة من المعبر والمليبار ومقدشو، وبعث الأرز والدجاج والسمن والأبازير، فبعثت ذلك كله إلى دار الوزير سليمان مانايك فطبخ لي بها فأحسن في طبخه وزاد فيه وبعث الفرش وأواني النحاس وأفطرنا على العادة بدار السلطانة مع الوزير. واستأذنته في حضور بعض الوزراء بتلك الضيافة فقال لي وأنا أحضر أيضاً فشكرته وانصرفت إلى داري، فإذا به قد جاء ومعه الوزراء وأرباب الدولة فجلس في قبة خشب مرتفعة وكان كل من يأتي من الأمراء والوزراء يسلم على الوزير ويرمي بثوب غير مخيط حتى اجتمع مائة ثوب أو نحوها، فأخذها الفقراء وقدم الطعام فأكلوا ثم قرأ القراء بالأصوات الحسان ثم أخذوا في السماع والرقص وأعددت النار فكان الفقراء يدخلونها ويطؤونها بالأقدام ومنهم من يأكلها كما تؤكل الحلواء إلى أن خمدت.

1 أي: قدم آدم عليه السلام في جزيرة سيلان، وسيأتي الحديث عنها.

ص: 452

ولما تمت الليلة انصرف الوزير ومضيت معه، فمررنا ببستان للمخزن، فقال لي الوزير: هذا البستان لك وسأعمر لك فيه داراً لسكناك، فشكرت فعله ودعوت له. ثم بعث لي من الغد بجارية وقال لي خديمه: يقول لك الوزير: إن أعجبتك هذه فهي لك، وإلا بعثت لك جارية مرهتية، وكانت الجواري المرهتيات تعجبني، فقلت له: إنما أريد المرهتية، فبعثها لي، وكان اسمها قل استان، ومعناه زهر البستان، وكانت تعرف اللسان الفارسي فأعجبتني. وأهل تلك الجزائر لهم لسان لم أكن أعرفه ثم بعث إلي في غد ذلك بجارية معبرية تسمى عنبري. ولما كانت الليلة بعدها جاء الوزير إلي بعد العشاء الأخيرة في نفر من أصحابه فدخل الدار ومعه غلامان صغيران فسلمت عليه وسألني عن حالي فدعوت له وشكرته فألقى أحد الغلامين بين يديه لقشة "بقشة"1 وهي شبه السبنية وأخرج منها ثياب حرير وحُقّاً فيه جوهر وحلي فأعطاني ذلك، وقال لي: لو بعثته لك مع الجارية لقالت هو مالي جئت به من دار مولاي والآن هو مالك فأعطه إياه فدعوت له وشكرته وكان أهلاً للشكر رحمه الله.

وكان الوزير سليمان مانايك قد بعث إلي أن أتزوج بنته فبعثت إلى الوزير جمال الدين مستأذناً في ذلك. فعاد إلي الرسول وقال: لم يعجبه ذلك وهو يحب أن يزوجك بنته إذا انقضت عدتها. فأبيت أنا ذلك وخفت من شؤمها لأنه مات تحتها زوجان قبل الدخول وأصابتني أثناء ذلك حمى مرضت بها. ولا بد لكل من يدخل تلك الجزيرة أن يحم فقوي عزمي على الرحلة عنها. فبعت بعض الحلي بالودع واكتريت مركباً أسافر فيه لنجالة. فلما ذهبت لوداع الوزير خرج إلي القاضي فقال: الوزير يقول لك إن شئت السفر فأعطنا ما أعطيناك وسافر، فقلت له: إن بعض الحلي اشتريت به الودع فشأنكم وأياه، فعاد إلي فقال: يقول إنما أعطيناك الذهب ولم نعطك الودع، فقلت له: أنا أبيعه وآتيكم بالذهب. فبعثت إلى التجار ليشتروه مني فأمرهم الوزير أن لا يفعلوا وقصده بذلك كله أن لا أسافر عنه. ثم بعث إلي أحد خواصه وقال: الوزير يقول لك أقم عندنا ولك كل ما أحببت، فقلت في نفسي: أنا تحت حكمهم وإن لم أقم مختاراً أقمت مضطراً فالإقامة باختياري أولى. وقلت

1 هي التي تعرف باسم: البقجة، وهي منديل توضع فيه الأشياء، ويصر عليها.

ص: 453

لرسوله: نعم أنا أقيم معه. فعاد إليه ففرح بذلك واستدعاني فلما دخلت إليه قام إلي وعانقني، وقال: نحن نريد قربك وأنت تريد البعد عنا، فاعتذرت له فقبل عذري، وقلت له: إن أردتم مقامي فأنا أشترط عليكم شروطاً، فقال: نقبلها فاشترط. فقلت له: أنا لا أستطيع المشي على قدمي. ومن عادتهم أن لا يركب أحد هنالك إلا الوزير ولقد كنت لما أعطوني الفرس فركبته يتبعني الناس رجالاً وصبياناً يعجبون مني، حتى شكوت له فضربت الدنقرة وبرح1 في الناس أن لا يتبعني أحد والدُنْقُرة "بضم الدال المهمل وسكون النون وضم القاف وفتح الراء" شبه الطست من النحاس تضرب بحديدة فيسمع لها صوت على البعد. فإذا ضربوها حينئذ يبرح في الناس بما يراد، فقال لي الوزير: إن أردت أن تركب الدولة وإلا فعندنا حصان ورمكة2 فاختر أيهما شئت، فاخترت الرمكة فأتوني بها في تلك الساعة وأتوني بكسوة، فقلت له: وكيف أصنع بالودع الذي اشتريته، فقال: ابعث أحد أصحابك ليبيعه لك ببنجالة، فقلت له: على أن تبعث أنت من يعينه على ذلك، فقال نعم. فبعثت حيئذ رفيقي أبا محمد بن فرحان وبعثوا معه رجلاً يسمى الحاج علياً، فاتفق أن هال3 البحر فرموا بكل ما عندهم حتى الزاد والماء والصاري والقربة. وأقاموا ست عشرة ليلة لا قلع لهم ولا سكان ولا غيره. ثم خرجوا إلى جزيرة سيلان بعد جوع وعطش وشدائد وقدم عليّ صاحبي أبو محمد بعد سنة وقد زار القدم وزارها مرة ثانية مع.

ولما تم شهر رمضان بعث الوزير إليّ بكسوة وخرجنا إلى المصلى وقد زينت الطريق التي يمر الوزير عليها من داره إلى المصلى وفرشت الثياب فيها وجعلت كتاتي الودع يمنة ويسرة. وكل من له على طريقة دار من الأمراء والكبار قد غرس عندها النخل الصغار من النارجيل وأشجار الفوفل والموز، ومد من شجرة إلى أخرى شرائط، وعلّق منها الجوز الأخضر. ويقف صاحب الدار عند بابها، فإذا مرّ الوزير رمى على رجليه ثوباً من الحرير أو القطن،

1 أي: أعلن.

2 الرمكة: الفرس.

3 هال البحر: أي: هاج.

ص: 454

فيأخذها عبيده مع الودع الذي يجعل على طريقه أيضاً، والوزير ماش على قدميه، وعليه فرجية مصرية من المرعز وعمامة كبيرة وهو متقلد فوطة حرير وفوق رأسه أربعة شطور وفي رجليه النعل وجميع الناس سواه حفاة. والأبواق والأنفار والأطبال بين يديه والعساكر أمامه وخلفه، وجميعهم يكبرون، حتى أتوا المصلى فخطب ولده بعد الصلاة. ثم أتى بمحفة فركب فيها الوزير وخدم الأمراء والوزراء ورموا بالثياب على العادة ولم يكن ركب في المحفة قبل ذلك لأن ذلك لا يفعله إلا الملوك، ثم رفعه الرجال وركبت فرسي ودخلنا القصر، فجلس بموضع مرتفع وعنده الوزراء والأمراء ووقف العبيد بالترسة والسيوف والعصي. ثم أتي بالطعام ثم بالفوفل والتنبول ثم أتى بصحيفة صغيرة فيها الصندل المقاصري فإذا أكلت جماعة من الناس تلطخوا بالصندل. ورأيت على بعض طعامهم يومئذ حوتاً من السردين مملوحاً غير مطبوخ، أهدي لهم من كولم وهو ببلاد المليبار كثير، فأخذ الوزير سردينة وجعل يأكلها، وقال لي: كل منه، فإنه ليس ببلادنا، فقلت: كيف آكله وهو غير مطبوخ، فقال: إنه مطبوخ، فقلت: أنا أعرف به فإنه ببلادي كثير.

وفي الثاني من شوال اتفقت مع الوزير سليمان ماناياك على تزوج بنته. فبعث إلى الوزير جمال الدين أن يكون عقد النكاح بين يديه بالقصر فأجاب إلى ذلك وأحضر التنبول على العادة والصندل وحضر الناس وأبطأ الوزير سليمان فاستدعي فلم يأت ثم استدعي ثانية فاعتذر بمرض البنت. فقال لي الوزير سراً: إن بنته امتنعت وهي مالكة أمر نفسها والناس قد اجتمعوا فهل لك أن تتزوج بربيبة السلطانة زوجة أبيها وهي التي ولده متزوج بنتها، فقلت له: نعم. فاستدعى القاضي والشهود ووقعت الشهادة ودفع الوزير الصداق. ورفعت إلي بعد أيام فكانت من خيار النساء وبلغ حسن معاشرتها أنها كانت إذا تزوجت عليها تطيبني وتبخر أثوابي وهي ضاحكة لا يظهر عليها تغير. ولما تزوجتها أكرهني الوزير على القضاء. وسبب ذلك اعتراضي على القاضي ولكونه كان يأخذ العشر من التركات إذا قسمها على أربابها، فقلت له: إنما لك أجرة تتفق بها مع الورثة ولم يكن يحسن شيئاً فلما وليت اجتهدت جهدي في إقامة رسوم الشرع وليست هنالك خصومات كما هي ببلادنا. فأول ما غيرت من عوائد السوء مكث المطلقات في ديار المطلقين. وكانت إحداهنّ لا

ص: 455

تزال في دار المطلق حتى تتزوج غيره. فحسمت علة ذلك وأتي إليّ بنحو خمسة وعشرين رجلاً ممن فعل ذلك فضربتهم وشهرتهم الأسواق وأخرجت النساء عنهم. ثم اشتددت في إقامة الصلوات وأمرت الرجال بالمبادرة إلى الأزقة والأسواق إثر صلاة الجمعة فمن وجدوه لم يصل ضربته وشهرته. وألزمت الأئمة والمؤذنين أصحاب المرتبات المواظبة على ما هم بسبيله وكتبت إلى جميع الجزائر بنحو ذلك. وجهدت أن أكسو النساء فلم أقدر على ذلك.

وكنت قد تزوجت ربيبة بنت زوجة الوزير عبد الله بن محمد الحضرمي وأحببتها حبا شديداً. ولما بعث الوزير عنه ورده إلى جزيرة المهل بعثت له التحف وتلقيته ومضيت معه إلى القصر فسلم على الوزير وأنزله في دار جيدة فكنت أزوره بها، واتفق أن اعتكفت في رمضان فزارني جميع الناس إلا هو، وزارني الوزير جمال الدين فدخل هو معه بحكم الموافقة فوقعت بيننا الوحشة. فلما خرجت من الاعتكاف شكا إلي أخوال زوجتي ربيبة أولاد الوزير جمال الدين السنجري فإن أباهم أوصى عليهم الوزير عبد الله وأنّ مالهم باق بيده وقد خرجوا عن حجره بحكم الشرع وطلبوا إحضاره بمجلس الحكم. وكانت عادتي إذا بعثت عن خصم من الخصوم أبعث له قطعة كاغد مكتوبة أو غير مكتوبة فعندما يقف عليها يبادر إلى مجلس الحكم الشرعي وإلا عاقبته، فبعثت إليه على العادة فأغضبه ذلك وحقدها لي وأضمر عداوتي ووكل من يتكلم عنه وبلغني عنه كلام قبيح. وكانت عادة الناس من صغير وكبير أن يخدموا له كما يخدمون للوزير جمال الدين، وخدمتهم أن يوصلوا السبابة إلى الأرض ثم يقبلونها ويضعونها على رؤوسهم. فأمرت المنادي فنادى بدار السلطان على رؤوس الأشهاد أنه من خدم للوزير عبد الله كما يخدم للوزير الكبير لزمه العقاب الشديد. وأخذت عليه أن لا يترك الناس لذلك فزادت عداوته، وتزوجت أيضاً زوجة أخرى بنت وزير معظم عندهم كان جده السلطان داود حفيد السلطان أحمد شنورازة، ثم تزوجت زوجة كانت تحت السلطان شهاب الدين. وعمرت ثلاث ديار بالبستان الذي أعطانيه الوزير. وكانت الرابعة هي ربيبه الوزير عبد الله تسكن في دارها وهي أحبهن إلي. فلما صاهرت من ذكرته هابني الوزير وأهل الجزيرة وتخوفوا مني لأجل ضعفهم، وسعوا بيني وبين الوزير بالنمائم، وتولى الوزير عبد الله كبر ذلك حتى تمكنت الوحشة.

ص: 456

واتفق في بعض الأيام أنّ عبداً من عبيد السلطان جلال الدين شكته زوجته إلى الوزير وأعلمته أنه عند سرية من سراري السلطان يزني بها، فبعث الوزير الشهود ودخلوا دار السرية فوجدوا الغلام نائماً معها في فراش واحد وحبسوهما، فلما أصبحت وعلمت بالخبر توجهت إلى المشور وجلست في موضع جلوسي ولم أتكلم في شيء من أمرها، فخرج إلي بعض الخواص فقال: يقول لك الوزير ألك حاجة؟ فقلت: لا. وكان قصده أن أتكلم في شأن السرية والغلام إذ كانت عادتي أن لا تقع قضية إلا حكمت فيها فلما وقع التغير والوحشة قصرت في ذلك فانصرفت إلى داري بعد ذلك. وجلست بموضع الأحكام، فإذا ببعض الوزراء فقال لي: الوزير يقول لك أنه وقع البارحة كيت وكيت لقضية السرية والغلام فاحكم فيهما بالشرع. فقلت له: هذه قضية لا ينبغي الحكم أن يكون فيها إلا بدار السلطان. فعدت إليها واجتمع الناس وأحضرت السرية والغلام فأمرت بضربهما للخلوة وأطلقت سراح المرأة وحبست الغلام وانصرفت إلى داري. فبعث الوزير إلي جماعة من كبراء ناسه في شأن تسريح الغلام، فقلت لهم: أتشفع في غلام زنجي يهتك حرمة مولاه؟ وأنتم بالأمس خلعتم السلطان شهاب الدين وقتلتموه بسبب دخوله لدار غلام له. وأمرت بالغلام عند ذلك فضرب بقضبان الخيزران وهي أشد وقعاً من السياط وشهرته بالجزيرة وفي عنقه حبل. فذهبوا إلى الوزير فأعلموه، فقام وقعد واستشاط غضباً، وجمع الوزراء ووجوه العسكر وبعث عني فجئته. وكانت عادتي أن أخدم فلم أخدم، وقلت: سلام عليكم. ثم قلت للحاضرين: اشهدوا علي أني قد عزلت نفسي عن القضاء لعجزي عنه. فكلمني الوزير فصعدت وقعدت بموضع أقابله فيه وجاوبته أغلظ جواب. وأذن مؤذن المغرب فدخل إلى داره وهو يقول: ويقولون أني سلطان. وهأناذا طلبته لأغضب عليه، فغضب علي، وإنما كان اعتزازي عليهم بسبب سلطان الهند لأنهم تحققوا مكانتي عنده وإن كانوا على بعد منه فخوفه في قلوبهم متمكّن. فلما دخل إلى داره بعث إليّ القاضي المعزول، وكان جريء اللسان فقال لي: إن مولانا يقول لك كيف هتكت حرمته على رؤوس الأشهاد ولم تخدم له؟ فقلت له: إنما كنت أخدم له حين كان قلبي له طيباً، فلما وقع التغير تركت ذلك وتحية المسلمين إنما هي السلام وقد سلمت. فبعثه إلي ثانية فقال: إنما

ص: 457

غرضك الرحيل عنا فأعط صدقات النساء وديون الناس وانصرف إذا شئت. فخدمت له على هذا القول وذهبت إلى داري فخلصت مما علي من الدين. وكان قد أعطاني في تلك الأيام فرش دار وجهازها من أواني نحاس وسواها وكان يعطيني كل ما أطلبه ويحبني ويكرمني ولكنه غير خاطره وخوف مني. فلما عرف أني قد خلصت الدين وعزمت على السفر ندم على ما قاله وتلكأ في الإذن لي في السفر فحلفت بالإيمان المغلظة أن لا بد من سفري ونقلت ما عندي إلى مسجد على البحر وطلقت إحدى الزوجات وكانت إحداهن حاملاً فجعلت لها أجلاً تسعة أشهر إن عدت فَبِها، وإلا فأمرها بيدها. وحملت معي زوجتي التي كانت امرأة السلطان شهاب الدين لأسلمها لأبيها بجزيرة ملوك وزوجتي الأولى التي بنتها أخت السلطان. وتوافقت مع الوزير عمر دهرد والوزير حسن قائد البحر على أن أمضي إلى بلاد المعبر وكان ملكها سلفي فأبى مدها بالعساكر لترجع الجزائر إلى حكمه، وأنوب أنا عنه فيها. وجعلت بيني وبينهم علامة رفع أعلام بيض في المراكب فإذا رأوها ثاروا في البر ولم أكن حدثت نفسي بهذا قط حتى وقع ما وقع من التغير. وكان الوزير خائفاً مني يقول للناس: لا بد لهذا أن يأخذ الوزارة: إما في حياتي أو بعد موتي. ويكثر السؤال عن حالي، ويقول: سمعت أن ملك الهند بعث إليه الأموال ليثور بها علي وكان يخاف من سفري لئلا آتي بالجيوش من بلاد المعبر فبعث إلي أن أقيم حتى يجهز لي مركبا فأبيت. وشكت أخت السلطانة إليها بسفر أمها معي فأرادت منعها فلم تقدر على ذلك فلما رأت عزمها على السفر قالت لها أن جميع ما عندك من الحلي هو من مال البندر فإن كان لك شهود بأن جلال الدين وهبه لك وإلا فرده. وكان حليا له خطر فردته إليهم. وأتاني الوزراء والوجوه وأنا بالمسجد وطلبوا مني الرجوع، فقلت لهم: لولا أني حلفت لعدت. فقالوا: تذهب إلى بعض علماء الجزائر ليبر قسمك وتعود. فقلت لهم: نعم إرضاء لهم. فلما كانت الليلة التي سافرت فيها أتيت لوداع الوزير فعانقني وبكى حتى قطرت دموعه على قدمي. وبات تلك الليلة يحترس الجزيرة بنفسه خوفاً أن يثور عليه أصهاري وأصحابي. ثم سافرت ووصلت إلى جزيرة الوزير علي فأصابت زوجتي أوجاع عظيمة وأحبت الرجوع فطلقتها وتركتها هنالك. وكتبت للوزير بذلك لأنها أم زوجة ولده وطلقت التي كنت ضربت لها الأجل وبعثت عن جارية كنت أحبها وسرنا في تلك الجزائر من

ص: 458

إقليم إلى إقليم.

وفي بعض تلك الجزائر رأيت امرأة لها ثدي واحد في صدرها ولها بنتان إحداهما كمثلها ذات ثدي واحد والأخرى ذات ثديين إلا أن أحدهما كبير فيه اللبن والآخر صغير لا لبن فيه فعجبت من شأنهن. ووصلنا إلى جزيرة من تلك الجزائر صغيرة ليس لها إلا دار واحدة فيها رجل حائك له زوجه وأولاد ونخيلات نارجيل وقارب صغير يصطاد فيه السمك ويسير به إلى حيث أراد من الجزائر وفي جزيرته أيضا شجيرات موز، ولم نر فيها من طيور البر غير غرابين خرجا إلينا لما وصلنا الجزيرة وطافا بمركبنا. فغبطت والله ذلك الرجل ووددت أن لو كانت تلك الجزيرة لي فانقطعت فيها إلى أن يأتيني اليقين. ثم وصلت إلى جزيرة ملوك حيث المركب الذي للناخوذة إبراهيم وهو الذي عزمت على السفر فيه إلى المعبر فجاء إلي ومعه أصحابه وأضافوني ضيافة حسنة وكان الوزير قد كتب لي أن أعطى بهذه الجزيرة مائة وعشرين بستوا من الكودة وهي الودع وعشرين قدحاً من الأطوان وهو عسل النارجيل وعدداً معلوماً من التنبول والفوفل والسمك في كل يوم. وأقمت بهذه الجزيرة سبعين يوماً، وتزوجت بها امرأتين وهي من أحسن الجزائر خضرة ونضرة. رأيت من عجائبها أن الغصن يقتطع من شجرها ويركز في الأرض أو الحائط فيورق ويصير شجرة ورأيت الرمان بها لا ينقطع له ثمر بطول السنة. وخاف أهل هذه الجزيرة من الناخوذة إبراهيم أن ينهبهم عند سفره فأرادوا إمساك ما في مركبه من السلاح حتى يوم سفره فوقعت المشاجرة بسبب ذلك. وعدنا إلى المَهَل ولم ندخلها وكتبت إلى الوزير معلماً بذلك فكتب أن لا سبيل لأخذ السلاح. وعدنا إلى ملوك. وسافرنا منها في نصف ربيع الثاني عام خمسة وأربعين. وفي شعبان من هذه السنة توفي الوزير جمال الدين رحمه الله وكانت السلطانة حاملاً منه فولدت أثر وفاته، وتزوجها الوزير عبد الله. وسافرنا ولم يكن معنا رئيس1 عارف ومسافة ما بين الجزائر والمعبر ثلاثة أيام فسرنا نحن تسعة أيام وفي التاسع منها خرجنا إلى جزيرة سيلان ورأينا جبل سرنديب فيها ذاهباً في السماء كأنه عمود دخان. ولما وصلناها قال

1 وفي إحدى طبعات الكتاب: رائس، والمقصود: ربان السفينة.

ص: 459

البحرية أن هذا المرسى ليس في بلاد السلطان الذي يدخل التجار إلى بلاده آمنين إنما هذا مرسى في بلاد السلطان أَيْري شكروتي، وهو من العتاة المفسدين وله مراكب تقطع في البحر فخفنا أن ننزل بمرساه، ثم اشتدت الريح فخفنا الغرق. فقلت للناخوذة: نزلني إلى الساحل وأنا آخذ لك الأمان من هذا السلطان، ففعل ذلك. وأنزلني بالساحل. فأتانا الكفار، فقالوا: ما أنتم؟ فأخبرتهم أني سلف سلطان المعبر وصاحبه جئت لزيارته وأن الذي في المركب هدية له فذهبوا إلى سلطانهم فأعلموه بذلك فاستدعاني فذهبت له إلى مدينة بطالة وهي حضرته مدينة صغيرة حسنة عليها سور خشب وأبراج خشب وجميع سواحلها مملوءة بأعواد القرفة تأتي بها السيول فتجتمع بالساحل كأنها الروابي ويحملها أهل المعبر والمليبار دون ثمن إلا أنهم يهدون للسلطان في مقابلة ذلك الثوب ونحوه. وبين بلاد المعبر وهذه الجزيرة مسيرة يوم وليلة. وبها أيضاً من خشب البقم كثير ومن العود الهندي المعروف بالكلخي إلا أنه ليس كالقمارى والقاقُلّي1 وسنذكره.

واسم سلطان سيلان أيري شكروتي "بفتح الهمزة وسكون الياء وكسر الراء ثم ياء وشين معجم مفتوح وكاف مثله وراء مسكنة وواو ممفتوح وتاء معلوة مكسورة وياء"، وهو سلطان قوي في البحر. رأيت مرة وأنا بالمعبر مائة مركب من مراكبه بين صغار وكبار. وصلت إلى هنالك وكانت بالمرسى ثمانية مراكب للسلطان برسم السفر إلى اليمن فأمر السلطان بالاستعداد وحشد الناس لحماية أجفانه فلما يئسوا من انتهاز الفرصة فيها قالو: إنما جئنا في حماية مراكب لنا تسير أيضاً إلى اليمن. ولما دخلت على هذا السلطان الكافر قام إلي وأجلسني في جانبه وكلمني بأحسن كلام. وقال ينزل أصحابك على الأمان ويكونون في ضيافتي إلى أن يسافروا، فإن سلطان المعبر بيني وبينه الصحبة. ثم أمر بإنزالي فأقمت عنده ثلاثة أيام في إكرام عظيم متزايد في كل يوم. وكان يفهم اللسان الفارسي ويعجبه ما أحدثه به عن الملوك والبلاد. ودخلت عليه يوماً وعنده جواهر كثيرة أتي بها من مغاص الجوهر الذي ببلاده وأصحابه يميزون

1 القاقُلّي: نبات هندي عطري الرائحة يعرف ب "الهال".

ص: 460

النفيس منها من غيره، فقال لي هل رأيت مغاص الجوهر في البلاد التي جئت منها؟ فقلت له: نعم رأيته بجزيرة قيس وجزيرة كش التي لابن السواملي. فقال: سمعت بها. ثم أخذ حبات منه فقال: أيكون في تلك الجزيرة مثل هذه؟ فقلت له: رأيت ما هو دونها. فأعجبه ذلك، وقال هي لك. وقال لي: لا تستحي واطلب مني ما شئت. فقلت له: ليس مرادي منذ وصلت هذه الجزيرة إلا زيارة القدم الكريمة قدم آدم عليه السلام وهم يسمونه "بابا" ويسمون حواء "ماما". فقال: هذا هين نبعث معك من يوصلك. فقلت: ذلك أريد. ثم قلت له: وهذا المركب الذي جئت فيه يسافر آمناً إلى المعبر. وإذا عدت أنا بعثتني في مراكبك. فقال: نعم. فلما ذكرت ذلك لصاحب المركب قال لي لا أسافر حتى تعود ولو أقمت سنة بسببك فأخبرت السلطان بذلك. فقال: يقيم في ضيافتي حتى تعود. فأعطاني دولة يحملها عبيده على أعناقهم وبعث معي أربعة من الجوكية الذين عادتهم السفر كل عام إلى زيارة القدم وثلاثة من البراهمة وعشرة من سائر أصحابه وخمسة عشر رجلاً يحملون الزاد. وأما الماء فهو بتلك الطريق كثير. ونزلنا ذلك اليوم على واد جزناه في معدية مصنوعة من قصب الخيزران. ثم رحلنا من هنالك إلى مَنَارمَنْدلي "وضبط ذلك بفتح الميم والنون وألف وراء مسكنة وميم مفتوحة ونون مسكن ودال مهمل مفتوح ولام مكسور وياء"، مدينة حسنة هي آخر عمالة السلطان. أضافنا أهلها ضيافة حسنة وضيافتهم عجول الجواميس يصطادونها بغابة هنالك ويأتون بها أحياء ويأتون بالأرز والسمن والحوت والدجاج واللبن. وليس بالمدينة مسلمٌ غير رجل خراساني انقطع بسبب مرضه فسافر معنا. ورحلنها إلى بَنْدَرْسَلَاوَات "وضبطه بفتح الباء الموحدة وسكون النون وفتح الدال المهمل وسكون الراء وفتح السين المهمل واللام وألف وتاء معلوة"، بلدة صغيرة. وسافرنا في أوعار كثيرة المياه بها الفيلة الكثيرة إلا أنها لا تؤذي الزوار والغرباء، وذلك ببركة الشيخ أبي عبد الله بن خفيف رحمه الله، وهو أول من فتح هذا الطريق إلى زيارة القدم. وكان هؤلاء الكفار يمنعون المسلمين من ذلك ويؤذونهم ولا يؤاكلونهم ولا يبايعونهم. فلما اتفق للشيخ أبي عبد الله ما ذكرناه في السفر الأول من قتل الفيلة لأصحابه وسلامته من بينهم وحمل الفيل له على ظهره صار الكفار من ذلك العهد يعظّمون المسلمين ويدخلونهم دورهم ويطعمون معهم ويطمئنون لهم بأهلهم وأولادهم وهم إلى الآن يعظمون الشيخ المذكور أشد

ص: 461

تعظيم ويسمونه الشيخ الكبير. ثم وصلنا بعد ذلك إلى مدينة كُنكار "وضبط اسمها بضم الكاف الأول وفتح النون والكاف الثانية وآخره راء"، وهي حضرة السلطان الكبير بتلك البلاد وبناؤها في خندق بين جبلين على خور كبير يسمى خور الياقوت، لأن الياقوت يوجد به. وبخارج هذه المدينة مسجد الشيخ عثمان الشيرازي المعروف بِشاوُش "بشينين معجمين بينهما واو مضموم" وسلطان هذه المدينة وأهلها يزورونه ويعظمونه، وهو كان الدليل إلى القدم. فلما قطعت يده ورجله صار الأدلاء أولاده وغلمانه. وسبب قطعه أنه ذبح بقرة وحكم كفار الهنود أنه من ذبح بقرة ذبح كمثلها أو جعل في جلدها وحرق. وكان الشيخ عثمان معظماً عندهم فقطعوا يده ورجله وأعطوه مجبى بعض الأسواق.

وكان سلطان كنكنار يعرف بالكُنار "بضم الكاف وفتح النون وألف وراء"، وعنده الفيل الأبيض. ولم أر في الدنيا فيلا أبيض سواه، يركبه في الأعياد ويجعل على جبهته أحجار الياقوت العظيمة. واتفق له أن قام عليه أهل دولته وكحلوا عينيه وولوا ولده وهو هنالك أعمى.

والياقوت العجيب البهرمان إنما يكون بهذه البلدة. فمنه ما يخرج من الخور وهو عزيز عندهم ومنه ما يحفر عنه. وفي جزيرة سيلان يوجد الياقوت في جميع مواضعها وهي متملكة فيشتري الإنسان القطعة منها ويحفر عن الياقوت فيجد أحجاراً مشعبة وهي التي يتكون الياقوت في أجوافها فيعطيها الحكاكين فيحكونها حتى تنفلق عن أحجار الياقوت. فمنه الأحمر ومنه الأصفر ومنه الأزرق ويسمونه النَيْلم "بفتح النون واللام وسكون الياء آخر الحروف". وعادتهم أن ما بلغ ثمنه من أحجار الياقوت إلى مائة فنَم "بفتح الفاء والنون" فهو للسلطان يعطي ثمنه ويأخذه وما نقص عن تلك القيمة فهو لأصحابه. وصرف مائة فنم ستة دنانير من الذهب. وجميع النساء بجزيرة سيلان لهن القلائد من الياقوت الملون ويجعلنه في أيديهن وأرجلهن عوضاً من الأسورة والخلاخيل. وجواري السلطان يصنعن منه شبكة يجعلنا على رؤوسهن. ولقد رأيت على جبهة الفيل الأبيض سبعة أحجار منه كل حجر أعظم من بيضة الدجاج. ورأيت عند السلطان إيري شكروتي سكرجة على مقدار الكف من الياقوت، فيها دهن العود. فجعلت أعجب منها فقال أن عندنا ما هو أضخم من ذلك. ثم سافرنا من كنكار فنزلنا بمغارة تعرف باسم أسطا محمود

ص: 462

اللُوري "بضم اللام"، وكان من الصالحين واحتفر تلك المغارة في سفح جبل، عند خور صغير هنالك. ثم رحلنا عنها ونزلنا بالخور المعروف بخور بُوزنة "بالباء الموحدة وواو وزاي ونون وهاء"، وبوزنة هي القرود.

والقرود بتلك الجبال كثيرة جداً وهي سود الألوان لها أذناب طوال ولذكورها لحى كما هي للآدميين. وأخبرني الشيخ عثمان وولده وسواهما أن هذه القرود لها مقدم تتبعه كأنه سلطان يشد على رأسه عصابة من أوراق أشجار ويتوكأ على عصا ويكون عن يمينه ويساره أربعة من القرود لها عصي بأيديها. وأنه إذا جلس القرد المقدم تقف القرود الأربعة على رأسه وتأتي أنثاه وأولاده فتقعد بين يديه كل يوم وتأتي القرود فتقعد على بعد منه ثم يكلمها أحد القرود الأربعة فتنصرف القرود كلها. ثم يأتي كل قرد منها بموزة أو ليمونه أو شبه ذلك فيأكل القرد المقدم وأولاده والقرود الأربعة. وأخبرني بعض الجوكية أنه رأى القرود الأربعة بين يدي مقدمها وهي تضرب بعض القرود بالعصي ثم نتفت وبره بعد ضربه. وذكر لي الثقات أنه إذا ظفر قرد من هذه القرود بصبية لا تستطيع الدفاع عن نفسها جامعها. وأخبرني بعض أهل هذه الجزيرة أنه كان بداره قرد منها فدخلت بنت له بعض البيوت فدخل عليها فصاحت به فغلبها قال ودخلنا عليها وهو بين رجليها فقتلناه. ثم كان رحيلنا إلى خور الخيزران. ومن هذا الخور أخرج أبو عبد الله بن خفيف الياقوتتين اللتين أعطاهما لسلطان هذه الجزيرة حسبما ذكرناه في السفر الأول. ثم رحلنا إلى موضع يعرف ببيت العجوز وهو آخر العمارة. ثم رحلنا إلى مغارة بابا طاهر وكان من الصالحين. ثم رحلنا إلى مغارة السبيك "بفتح السين المهمل وكسر الباء الموحدة وياء مد وكاف"، وكان السبيك من سلاطين الكفار، وانقطع للعبادة هنالك.

وبهذا الموضع رأينا العلق الطيار ويسمونه الزُّلّو "بضم الزاي واللام"، ويكون بالأشجار والحشائش التي تقرب من الماء. فإذا قرب الإنسان منه وثب عليه. فحيثما وقع من جسده خرج منه الدم الكثير. والناس يعدون له الليمون، يعصرونه عليه، فيسقط عنهم ويحردون الموضع الذي يقع عليه بسكين خشب معدّ لذلك. ويذكر أن بعض الزوار مر بذلك الموضع فتعلقت به العلق فأظهر الجلد ولم يعصر عليها الليمون فنزف دمه ومات وكان اسمه بابا خوزي

ص: 463

"بالخاء المعجم المضموم والزاي"، وهنالك مغارة تنسب إليه. ثم رحلنا إلى السبع مغارات ثم إلى عقبة اسكندر، ثم مغارة الاصفهاني، وعين ماء، وقلعة غير عامرة تحتها خور يعرف بغوطة كاه عارفان وهنالك مغارة النارنج، ومغارة السلطان وعندها دروازة الجبل أي بابه وهو من أعلى جبال الدنيا رأيناه من البحر وبيننا وبينه مسيرة تسع. ولما صعدناه كنا نرى السحاب أسفل منا قد حال بيننا وبين رؤية أسفله، وفيه كثير من الأشجار التي لا يسقط لها ورق، والأزاهير الملونة والورد الأحمر على قدر الكف ويزعمون أن في ذلك الورد كتابة يقرأ منها اسم الله تعالى واسم رسوله عليه الصلاة والسلام. وفي الجبل طريقان إلى القدم أحدهما يعرف بطريق "بابا" والآخر بطريق "ماما" يعنون آدم وحواء عليهما السلام. فأما طريق ماما فطريق سهل عليه يرجع الزوار إذا رجعوا ومن مضى عليه فهو عندهم كمن لم يزر. وأما طريق بابا فصعب وعر المرتقى. وفي أسفل الجبل حيث دروازته مغارة تنسب أيضا للاسكندر. وعين ماء ونحت الأولون في الجبل شبه درج يصعد عليها وغرزوا فيها أوتاد الحديد وعلقوا منها السلاسل ليتمسك بها من يصعده وهي عشر سلاسل ثنتان في أسفل الجبل إلى حيث الدروازة وسبع متوالية بعدها والعاشرة هي سلسلة الشهادة لأن الإنسان إذا وصل إليها ونظر إلى أسفل الجبل أدركه الوهم فيتشهد خوف السقوط ثم إذا جاوزت هذه السلسلة وجدت طريقاً مهملاً. ومن السلسلة العاشرة إلى مغارة الخضر سبعة أميال. وهي في موضع فسيح عندها عين ماء تنسب إليه أيضا ملأى بالحوت ولا يصطاده أحد. وبالقرب منها حوضان منحوتان في الحجارة عن جنبتي الطريق. وبمغارة الخضر يترك الزوار ما عندهم ويصعدون منها ميلين إلى أعلى الجبل حيث القدم.

وأثر القدم الكريمة قدم أبينا آدم صلى الله عليه وسلم في صخرة سوداء مرتفعة بموضع فسيح. وقد غاصت القدم الكريمة في الصخرة حتى عاد موضعاً منخفضاً وطولها أحد عشر شبراً وأتى إليها أهل الصين قديماً فقطعوا من الصخرة موضع الإبهام وما يليه وجعلوه في كنيسة بمدينة الزيتون يقصدونها من أقصى البلاد. وفي الصخرة حيث القدم تسع حفر منحوتة يجعل الزوار من الكفار فيها الذهب واليواقيت والجواهر. فترى الفقراء إذا وصلوا مغارة الخضر يتسابقون منها لأخذ ما بالحفر، ولم نجد نحن بها إلا يسير

ص: 464

حجيرات وذهب أعطيناها الدليل. والعادة أن يقيم الزوار بمغارة الخضر ثلاثة أيام يأتون فيها إلى القدم غدوةً وعشياً وكذلك فعلنا.

ولما تمت الأيام الثلاثة، عدنا على طريق ماما. فنزلنا بمغارة شيم وهو شيث بن آدم عليهما السلام، ثم إلى خور السمك، ثم إلى قرية كُرْمُله "بضم الكاف وسكون الراء وضم الميم" ثم إلى قرية جَبَرْكَاوان "بفتح الجيم والباء الموحدة وسكون الراء وفتح الكاف والواو وآخره نون" ثم إلى قرية دل دينوة "بدالين مهملين مكسورين بينهما لام مسكن وياء مد ونون مفتوح وواو مفتوح وتاء تأنيث"، ثم إلى قرية آت قلنجة "بهمزة مفتوحة وتاء مثناة مسكنة وقاف ولام مفتوحين ونون مسكن وجيم مفتوح"، وهنالك "كان" يشتو الشيخ أبو عبد الله بن خفيف. وكل هذه القرى والمنازل هي بالجبل. وعند أصل الجبل في هذا الطريق دَرَخْت رَوان وروان "بفتح الراء والواو وألف نون"، وهي شجرة عادية لايسقط لها ورق. ولم أر من رأى ورقها1 ويعرفونها أيضاً بالماشية لأن الناظر إليها من أعلى الجبل يراها بعيدة منه قريبة من أسفل الجبل والناظر إليها من أسفل الجبل يراها بعكس ذلك. ورأيت هنالك جملة من الجوكيين ملازمين أسفل الجبل ينتظرون سقوط ورقها وهي بحيث لا يمكن التوصل إليها البتة. ولهم أكاذيب في شأنها من جملتها أنّ من أكل من أوراقها عاد له الشباب إن كان شيخاً. وذلك باطل. وتحت هذا الجبل الخور العظيم الذي يخرج منه الياقوت، وماؤه يظهر في رأي العين شديد الزرقة.

ورحلنا من هنالك يومين إلى مدينة دِينَوَر "وضبط اسمها بدال مهمل مكسور وياء مد ونون وواو مفتوحين وراء"، مدينة عظيمة على البحر، يسكنها التجار. وبها الصنم المعروف بدينور، في كنيسة عظيمة فيها نحو الألف من البراهمة والجوكية ونحو خمسمائة من النساء بنات الهنود ويغنين كل ليلة عند الصنم ويرقصن. والمدينة ومجابيها وقف على الصنم. وكل من بالكنيسة ومن يرد عليها يأكلون من ذلك. والصنم من ذهب على قدر الآدمي وفي موضع العينين منه ياقوتتان عظيمتان أخبرت أنهما تضيئان بالليل كالقنديل. ثم رحلنا إلى مدينة

1 أي: من رأى ورقها بعيداً عنها، لعدم سقوطه. والله أعلم.

ص: 465

قَالِِي "بالقاف وكسر اللام"، وهي صغيرة على ستة فراسخ من دينور، وبها رجل من المسلمين يعرف بالناخوذة إبراهيم أضافنا بموضعه. ورحلنا إلى مدينة كَلَنْبُو "بفتح الكاف واللام وسكون النون وضم الباء الموحدة وواو"، وهي من أحسن بلاد سرنديب وأكبرها، وبها يسكن الوزير حاكم البحر، جالسني، ومعه نحو خمسمائة من الحبشة. ثم رحلنا فوصلنا بعد ثلاثة أيام إلى بطالة وقد تقدم ذكرها ودخلنا إلى سلطانها الذي تقدم ذكره ووجدت الناخوذة إبراهيم في انتظاري، فسافرنا بقصد بلاد المعبر. وقويت الريح وكاد الماء يدخل في المركب ولم يكن لنا رائس عارف ثم وصلنا إلى حجارة كاد المركب ينكسر فيها. ثم دخلنا بحراً قصيراً فتجلّى المركب ورأينا الموت عياناً ورمى الناس بما معهم وتوادعوا. وقطعنا صاري المركب فرمينا به وصنع البحرية معدية من الخشب. وكان بيننا وبين البر فرسخان فأردت أن أنزل في المعدية وكان لي جاريتان وصاحبان من أصحابي، فقالا: أتنزل وتتركنا فآثرتهما على نفسي وقلت: انزلا أنتما والجارية التي أحبها. فقالت الجارية: إني أحسن السباحة فأتعلق بحبل المعدية وأعوم معهم. فنزل رفيقاي وأحدهما محمد بن فرحان التوزري والآخر رجل مصري والجارية معهم والأخرى تسبح وربط البحرية في المعدية حبالاً وسبحوا بها. وجعلت معهم ما عز علي من المتاع والجواهر والعنبر فوصلوا إلى البر سالمين، لأن الريح كانت تساعدهم. وأقمت بالمركب ونزل صاحبه إلى البر على الدفة وشرع البحرية في عمل أربع من المعادي فجاء الليل قبل تمامها ودخل معنا الماء فصعدت إلى المؤخر وأقمت به حتى الصباح. وحينئذ جاء إلينا نفر من الكفار في قارب لهم ونزلنا معهم إلى الساحل ببلاد المعبر فأعلمناهم أنا من أصحاب سلطانهم وهم تحت ذمته. فكتبوا إليه بذلك وهو على مسيرة يومين في الغزو. وكتبت أنا إليه أعلمه بما اتفق علي. وأدخلنا أولئك الكفار إلى غيضة عظيمة فأتوا بفاكهة تشبه البطيخ يثمرها شجرة المقل. وفي داخلها شبه قطن فيه عسلية يستخرجونها ويصنعون منها حلواء يسمونها التل، وهي تشبه السكر. وأتو بسمك طيب. وأقمنا ثلاثة أيام ثم وصل من جهة السلطان أمير يعرف بقمر الدين معه جماعة فرسان ورجال وجاؤا بالدولة وبعشرة خيول فركبت وركب أصحابي وصاحب المركب وإحدى الجاريتين، وحملت الأخرى في الدولة. ووصلنا إلى حصن هَرْكَاتُو "وضبط اسمه بفتح الهاء وسكون الراء وفتح الكاف وألف وتاء معلوة

ص: 466

مضمومة وواو" وبِتْنا به وتركت فيه الجواري وبعض الغلمان والأصحاب. ووصلنا في اليوم الثاني إلى محلة السلطان. وسلطان بلاد المعبر هو غياث الدين الدامغاني وكان أول أمره فارساً من فرسان الملك مجير بن أبي الرجا، أحد خدام السلطان محمد، ثم خدم الأمير حاجي بن السيد السلطان جلال الدين ثم ولي الملك. وكان يدعى سراج الدين قبله فلما ولي تسمى غياث الدين. وكانت بلاد المعبر تحت حكم السلطان محمد ملك دهلي، ثم ثار بها صهري الشريف جلال الدين أحسن شاه وملك بها خمسة أعوام ثم قتل. وولي أحد أمرائه وهو علاء الدين أُدَيْجِي "بضم الهمزة وفتح الدال المهمل وسكون الياء آخر الحروف وكسر الجيم" فملك سنة ثم خرج إلى غزو الكفار فأخذ لهم أموالاً كثيرة وغنائم واسعة وعاد إلى بلاده. وغزاهم في السنة الثانية فهزمهم وقتل منهم مقتلة عظيمة. واتفق يوم قتله لهم أن رفع المغفر عن رأسه ليشرب فأصابه سهم غرب، فمات من حينه. فولوا صهره قطب الدين. ثم لم يحمدوا سيرته فقتلوه بعد أربعين يوماً. وولي بعده السلطان غياث الدين وتزوج بنت السلطان الشريف جلال الدين التي كنت متزوجا أختها بدهلي.

ولما وصلنا إلى قرب من منزل السلطان غياث الدين بعث بعض الحجاب لتلقينا وكان قاعداً في برج خشب. وعادتهم بالهند كلها أن لا يدخل أحد على السلطان دون خف ولم يكن عندي خف فأعطاني بعض الكفار خفاً. وكان هنالك من المسلمين جماعة فعجبت من كون الكفار كان أتم مروءة منهم. ودخلت على السلطان فأمرني بالجلوس ودعا القاضي الحاج صدر الزمان بهاء الدين وأنزلني في جواره في ثلاثة من الأخبية وهم يسمونها الخيام وبعث بالفرش وبطعامهم وهو الأرز واللحم. وعادتهم هنالك أن يسقوا اللبن الرائب على الطعام كما يفعل ببلادنا. ثم اجتمعت به بعد ذلك وألقيت له أمر جزائر ذيبة المهل وأن يبعث الجيش إليها فأخذ في ذلك بالعزم وعين المراكب لذلك وعين الهدية لسلطانتها والخلع للوزراء والأمراء والعطايا لهم وفوض إلي في عقد نكاحه مع أخت السلطانة وأمر بوثق ثلاثة مراكب بالصدقة لفقراء الجزائر. وقال لي: يكون رجوعك بعد خمسة أيام. فقال له قائد البحر خواجة سرلك: لا يمكن السفر إلى الجزائر إلا بعد ثلاثة أشهر من الآن. فقال لي السلطان: أما إذا كان الأمر هكذا فامض إلى فتن حتى تقضي هذه الحركة وتعود إلى حضرتنا مترة،

ص: 467

ومنها تكون الحركة. فأقمت معه بخلال ما بعثت عن الجواري والأصحاب.

وكانت الأرض التي نسلكها غيضة واحدة من الأشجار والقصب بحيث لا يسلكها أحد فأمر السلطان أن يكون لكل واحد ممن في الجيش من كبير وصغير قَدوم لقطع ذلك. فإذا نزلت المحلة ركب إلى الغابة والناس معه فقطعوا تلك الأشجار من غدوة النهار إلى الزوال. ثم يؤتى بالطعام فيأكل جميع الناس طائفة بعد أخرى. ثم يعودون إلى قطع الأشجار إلى العشي وكل من وجدوه من الكفار في الغيضة أسروه وصنعوا خشبة محددة الطرفين فجعلوها على كتفيه يحملها ومعه امرأته وأولاده ويؤتى بهم إلى المحلة. وعادتهم أن يصنعوا على المحلة سوراً من خشب يكون له أربعة أبواب ويسمونه الكَتْكَر "بفتح الكافين وسكون التاء المعلوه وآخره راء"، ويصنعون على دار السلطان كَتْكراً ثانياً، ويصنعون خارج الكَتكَْر الأكبر مصاطب، ارتفاعها نحو نصف قامة، ويوقدون عليها النار بالليل ويبيت عندها العبيد والمشاؤن ومع كل واحد منهم حزمة من رقيق القصب. فإذا أتى أحد من الكفار ليضربوا على المحلة ليلاً أوقد كل واحد منهم الحزمة التي بيده فعاد الليل شبه النهار لكثرة الضياء وخرجت الفرسان في اتباع الكفار. فإذا كان عند الصباح قسم الكفار المأسورون بالأمس أربعة أقسام. وأتي إلى كل باب من أبواب الكَتْكَر بقسم منهم فركزت الخشب التي كانوا يحملونها بالأمس عنده ثم ركزوا فيها حتى تنفذهم ثم تذبح نساؤهم ويربطن بشعورهن إلى تلك الخشبات ويذبح الأولاد الصغار في حجورهن ويتركون هنالك. وتنزل المحلة ويشتغلون بقطع غيضة أخرى ويصنعون بمن أسروه كذلك. وذلك أمر شنيع، ما علمته لأحد من الملوك. وبسببه عجل الله حينه. ولقد رأيته يوماً والقاضي عن يمينه وأنا عن شماله وهو يأكل معنا وقد أتي بكافر معه امرأته وولده سنه سبع فأشار إلى السيافين بيده أن يقطعوا رأسه. ثم قال لهم: وزن أو بسر أو، معناه: وابنه وزوجته. فقطعت رقابهم وصرفت بصري عنهم. فلما قمت وجدت رؤسهم مطروحة بالأرض. وحضرت عنده يوماً وقد أتي برجل من الكفار فتكلم بما لم أفهمه فإذا بجماعة من الزبانية قد استلوا سكاكينهم. فبادرت القيام فقال لي: إلى أين؟ فقلت أصلي العصر. ففهم عني وضحك وأمر بقطع يديه ورجله فلما عدت وجدته متشحطاً في دمائه.

ص: 468

وكان فيما يجاور بلاده سلطان كافر يسمى بَلال دِيُو "بفتح الباء الموحدة ولام وألف ولام ثانية ودال مهمل مكسور وياء آخر الحروف مفتوحة واو مسكن" وهو من كبار سلاطين الكفار، يزيد عسكره على مائة ألف. ومعه نحو عشرين ألفاً من المسلمين أهل الدعارة وذوي الجنايات والعبيد الفارين، فطمع في الاستيلاء على بلاد المعبر، وكان عسكر المسلمين بها ستة آلاف، منهم النصف من الجياد والنصف الثاني لا خير فيهم ولا غناء عندهم. فلقوه بظاهر مدينة كُبّان فهزمهم ورجعوا إلى حضرة مترة ونزل الكافر على كُبان وهي من أكبر مدنهم وأحصنها وحاصرها عشرة أشهر ولم يبق لهم من الطعام إلا قوت أربعة عشر يوماً. فبعث لهم الكافر أن يخرجوا على الأمان ويتركوا له البلد. فقالوا له: لا بد من مطالعة سلطاننا بذلك فوعدهم إلى تمام أربعة عشر يوماً. وكتبوا إلى السلطان غياث الدين بأمرهم. فقرأ كتابهم على الناس يوم الجمعة فبكوا، وقالوا: نبيع أنفسنا من الله. فإنّ الكافر أن أخذ تلك المدينة انتقل إلى حصارنا فالموت تحت السيوف أولى بنا. فتعاهدوا على الموت وخرجوا من الغد، ونزعوا العمائم عن رؤوسهم وجعلوها في أعناق الخيل وهي علامة من يريد الموت. وجعلوا ذوي النجدة والأبطال منهم في المقدمة، وكانوا ثلاثمائة. وجعلوا على الميمنة سيف الدين بهادور وكان فقيهاً ورعاً شجاعاً، وعلى الميسرة الملك محمد السلحدار. وركب السلطان في القلب ومعه ثلاث آلاف. وجعل الثلاثة آلاف الباقين ساقة لهم وعليهم أسد الدين كيخسرو الفارسي. وقصدوا محلة الكافر عند القائلة وأهلها على غرة وخيلهم في المرعى فأغاروا عليها وظن الكفار أنهم سراق فخرجوا إليهم على غير تعبية وقاتلوهم فوصل السلطان غياث الدين فانهزم الكفار شر هزسمة وأراد سلطانهم أن يركب وكان ابن ثمانين فأدركه ناصر الدين بن أخي السلطان الذي ولي الملك بعده فأراد قتله ولم يعرفه. فقال له أحد غلمانه: هو السلطان فأسره وحمله إلى عمه، فأكرمه في الظاهر حتى جبى منه الأموال والفيلة والخيل، وكان يعده السراح. فلما استصفى ما عنده ذبحه وسلخه وملئ جلده بالتبن فعلق على سور مترة ورأيته بها معلقاً. ولنعد إلى كلامنا فنقول ورحلت عن المحلة فوصلت إلى مدينة فتَّن "بفتح الفاء والتاء والمثناة المشددة ونون" وهي كبيرة حسنة على الساحل، ومرساها عجيب قد صنعت فيه قبة

ص: 469

من الخشب كبيرة قائمة على الخشب الضخام يصعد إليها على طريق خشب مسقف، فإذا جاء العدو ضموا إليها الأجفان التي تكون بالمرسى وصعدها الرجال والرماة فلا يصيب العدو فرصة. وبهذه المدينة مسجد حسن مبني بالحجارة، وبها العنب الكثير والرمان الطيب. ولقيت الشيخ الصالح محمد النيسابوي أحد الفقراء المولهين الذين يسدلون شعورهم على أكتافهم، ومعه سبع ربّاه، يأكل مع الفقراء ويقعد معهم وكان معه نحو ثلاثين فقيراً لأحدهم غزالة تكون مع الأسد في موضع واحد فلا يعرض لها. وأقمت بمدينة فتن، وكان السلطان غياث الدين قد صنع له أحد الجوكية حبوباً للقوة على الجماع. وذكروا أن من جملة أخلاطها برادة الحديد فأكل منها فوق الحاجة فمرض ووصل إلى فتّن. فخرجت إلى لقائه وأهديت له هدية فلما استقر بها بعث عن قائد البحر خواجة سرور، فقال له: لا تشتغل بسوى المراكب المعينة للسفر إلى الجزائر. وأراد أن يعطيني قيمة الهدية فأبيت ثم ندمت لأنه مات فلم آخذ شيئاً. وأقام بفتن نصف شهر ثم رحل إلى حضرته. وأقمت أنا بعده نصف شهر ثم رحلت إلى حضرته وهي مدينة مُتْرة "بضم الميم وسكون التاء المعلوة وفتح الراء" مدينة كيرة متسعة الشوارع. وأول من اتخذها حضرة صهري السلطان الشريف جلال الدين أحسن شاه وجعلها شبيهة بدهلي وأحسن بناءها. ولما قدمتها ووجدت بها وباء يموت منه الناس موتاً سريعاً فمن مرض مات من ثاني يوم مرضه أو ثالثه، وإن أبطأ موته فإلى الرابع. فكنت إذا خرجت لا أرى إلا مريضاً أو ميتاً. واشتريت بها جارية على أنها صحيحة فماتت في يوم آخر. ولقد جاءت إلي في بعض الأيام امرأة كان زوجها من وزراء السلطان أحسن شاه ومعها ابن لها سنه ثمانية أعوام نبيل كيس فطن. فشكت ضعف حالها فأعطيتهما نفقة وهما صحيحان سويان. فلما كان من الغد جاءت تطلب لولدها المذكور كفناً وإذا به قد توفي من حينه. وكنت أرى بمشور السلطان حين مات المئين من الخدم اللاتي أتي بهم لدق الأرز المعمول منه الطعام لغير السلطان، وهن مريضات قد طرحن أنفسهن في الشمس. ولما دخل السلطان مُتْرَة وجد أمه وامرأته وولده مرضى. فأقام بالمدينة ثلاثة أيام ثم خرج إلى نهر على فرسخ منها كانت عليه كنيسة الكفار وخرجت إليه في يوم خميس فأمر بإنزالي إلى جانب القاضي فلما ضربت لي الأخبية رأيت الناس يسرعون ويموج بعضهم في بعض. فمن قائل: إن السلطان مات، ومن قائل: إن ولده هو الميت. ثم تحققنا ذلك فكان الولد

ص: 470

هو الميت ولم يكن له سواه. فكان موته مما زاد في مرضه. وفي الخميس بعده توفيت أم السلطان.

وفي الخميس الثالث توفي السلطان غياث الدين، وشعرت بذلك فبادرت الدخول إلى المدينة خوف الفتنة. ولقيت ناصر الدين ابن أخيه الوالي بعده خارجاً إلى المحلة قد وجه عنه إذ ليس للسلطان ولد. فطلبني بالرجوع معه فأبيت وأثر ذلك في قلبه وكان ناصر الدين هذا خديماً بدهلي قبل أن يملك عمه. فلما ملك عمه هرب في زي الفقراء إليه فكان من القدر ملكه بعده. ولما بويع مدحته الشعراء فأجزل لهم العطاء، وأول من قام منشداً القاضي صدر الزمان فأعطاه خمسمائة دينار وخلعة، ثم الوزير المسمى بالقاضي فأعطاه ألفي دينار دراهم، وأعطاني أنا ثلاثمائة دينار وخلعة، وبث الصدقات في الفقراء والمساكين. ولما خطب الخطيب أول خطبة خطبها باسمه نثرت عليه الدنانير والدراهم في أطباق الذهب والفضة. وعمل عزاء السلطان غياث الدين فكانوا يختمون القرآن على قبره كل يوم ثم يقرأ العشارون ثم يؤتى بالطعام فيأكل الناس ثم يعطون الدراهم كل إنسان على قدره وأقاموا على ذلك أربعين يوماً ثم يفعلون ذلك في مثل يوم وفاته من كل سنة. وأول ما بدأ به السلطان ناصر الدين أن عزل وزير عمه وطلبه بالأموال وولي الوزارة الملك بدر الدين الذي بعثه عمه إلي وأنا بفتن ليتلقاني فتوفي سريعاً، فولي الوزارة خواجه سرور قائد البحر وأمر أن يخاطب بخواجة جهان كما يخاطب الوزير بدهلي ومن خاطبه بغير ذلك غرم دنانير معلومة. ثم إن السلطان ناصر الدين قتل ابن عمته المتزوج بنت السلطان غياث الدين وتزوجها بعده. وبلغه أن الملك مسعوداً زاره في محبسه قبل موته فقتله أيضا، وقتل الملك بهادور وكان من الشجعان الكرماء الفضلاء، وأمر لي بجميع ما كان عينه عمه من المراكب برسم الجزائر. ثم أصابتني الحمى القاتلة هنالك فظننت أنها القاضية. وألهمني الله إلى التمر الهندي، وهو هنالك كثير فأخذت نحو رطل منه وجعلته في الماء ثم شربته فأسهلني ثلاثة أيام وعافاني الله من مرضي، فكرهت تلك المدينة وطلبت الإذن في السفر. فقال لي السلطان: كيف تسافر ولم يبق لأيام السفر إلى الجزائر غير شهر واحد؟ أقم حتى نعطيك جميع ما أمر لك به خوند عالم. فأبيت وكتب لي إلى فتن لأسافر في أي مركب أردت.

ص: 471

وعدت إلى فتن، فوجدت ثمانية من المراكب تسافر إلى اليمن، فسافرت في أحدها ولقينا أربعة أجفان فقاتلتنا يسيراً ثم انصرفت. ووصلنا إلى كولم وكان فيّ بقية مرض فأقمت ثلاثة أشهر. ثم ركبت في مركب بقصد السلطان جمال الدين الهنوري، فخرج علينا الكفار بين هنور وفاكنور.

ولما وصلنا إلى الجزيرة الصغرى بين هنور وفاكنور خرج علينا الكفار في اثنى عشر مركباً حربية وقاتلونا قتالاً شديداً وتغلبوا علينا، فأخذوا جميع ما عندي مما كنت أدخره للشدائد، وأخذوا الجواهر واليواقيت التي أعطانيها ملك سيلان، وأخذوا ثيابي والزوادات التي كانت عندي مما أعطانيه الصالحون والأولياء، ولم يتركوا لي ساتراً خلا السراويل، وأخذوا ما كان لجميع الناس وأنزلونا بالساحل. فرجعت إلى قالقوط فدخلت بعض المساجد فبعث إلي أحد الفقهاء بثوب، وبعث القاضي بعمامة، وبعث بعض التجار بثوب آخر. وتعرفت هنالك بتزوج الوزير عبد الله بالسلطانة خديجة بعد موت الوزير جمال الدين وبأن زوجتي التي تركتها حاملاً ولدت ولدا ذكراً، فخطر لي السفر إلى الجزائر. وتذكرت العداوة التي بيني وبين الوزير عبد الله ففتحت المصحف فخرج لي {تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا} 1. فاستخرت الله وسافرت. فوصلت بعد عشرة أيام إلى جزائر ذيبة المهل ونزلت منها بكنلوس فأكرمني واليها. عبد العزيز المقدشاوي وأضافني وجهز لي كندرة. ووصلت بعد ذلك إلى هللي، وهي الجزيرة التي تخرج السلطانة وخواتها إليها برسم التفرج والسياحة، ويسعون ذلك التتجر. ويلعبون في المراكب ويبعث لها الوزراء والأمراء بالهدايا والتحف متى كانت بها. ووجدت بها أخت السلطانة وزوجها الخطيب محمد بن الوزير جمال الدين وأمها التي كانت زوجتي. فجاء الخطيب إلي وأتوا بالطعام. ومر بعض أهل الجزيرة إلى الوزير عبد الله فأعلموه بقدومي. فسأل عن حالي، وعمن قدم معي. وأخبر أني جئت برسم حمل ولدي وكانت سنه نحو عامين وأتته أمه تشكو من ذلك. فقال لها: أنا لا أمنعه من حمل ولده. وصادرني في دخول الجزيرة وأنزلني بدار تقابل برج قصره ليتطلع على حالي. وبعث إلي بكسوة كاملة وبالتنبول وماء الورد على عادتهم. وجئت بثوبي

1 فصلت: 30.

ص: 472

حرير للرمي عند السلام فأخذوهما ولم يخرج الوزير إلي ذلك اليوم. وأتى إلي بولدي فظهر لي أن إقامته معهم خير له. فرددته إليهم، وأقمت خمسة أيام وظهر لي أن تعجيل السفر أولى. فطلبت الإذن في ذلك، فاستدعاني الوزير ودخلت عليه وأتوني بالثوبين اللذين أخذوهما مني فرميتهما عند السلام على العادة. وأجلسني إلى جانبه وسألني عن حالي وأكلت معه الطعام وغسلت يدي معه في الطست، وذلك شيء لا يفعله مع أحد. وأتوا بالتنبول وانصرفت، وبعث إلي بأثواب وبساتي من الودع وأحسن أفعاله وأجمل. وسافرت، فأقمنا على ظهر البحر ثلاثاً وأربعين ليلةً ثم وصلنا إلى بلاد بَنْجالة "وضبطها بفتح الباء الموحدة وسكون النون وجيم معقود، وألف ولام مفتوح"، وهي بلاد متسعة كثيرة الأرز. ولم أر في الدنيا أرخص أسعاراً منها لكنها مظلمة. وأهل خراسان يسمونها دوزخست "دوزخ" بور "بر" نعمة، معناه: جهنم ملأى بالنعم. رأيت الأرز يباع في أسواقها خمسة وعشرين رطلاً دهلية بدينار فضي والدينار الفضي هو ثمانية دراهم ودرهمهم كالدرهم النقرة سواء والرطل الدهلي عشرون رطلاً مغربية، وسمعتهم يقولون إن ذلك غلاء عندهم. وحدثني محمد المصمودي المغربي وكان من الصالحين وسكن هذا البلد قديماً ومات عندي بدهلي، أنه كانت له زوجة وخادم فكان يشتري قوت ثلاثتهم في السنة بثمانية دراهم وأنه كان يشتري الأرز في قشره بحساب ثمانين رطلا دهلية بثمانية دراهم فإذا دقه خرج منه خمسون رطلاً صافية وهي عشرة قناطير. ورأيت البقرة تباع بها للحلب بثلاثة دنانير فضة وبقرهم الجواميس، ورأيت الدجاج السمان تباع بحساب ثمان بدرهم واحد، وفراخ الحمام يباع خمسة عشر منها بدرهم، ورأيت الكبش السمين يباع بدرهمين. ورطل السكر بأربعة دراهم وهو رطل دهلي، ورطل الجلاب بثمانية دراهم، ورطل السمن بأربعة دراهم، ورطل السيرج بدرهمين، ورأيت ثوب القطن الرقيق الجيد الذي ذرعه ثلاثون ذراعاً يباع بدينارين، ورأيت الجارية المليحة للفراش تباع بدينار من الذهب واحد، وهو ديناران ونصف دينار من الذهب المغربي. واشتريت بنحو هذه القيمة جارية تسمى عاشورة وكان لها جمال بارع. واشترى بعض أصحابي غلاماً صغير السن حسناً اسمه لؤلؤ بدينارين من الذهب. وأول مدينة دخلناها من بلاد بنجالة مدينة سُدْكاوَان، وضبط اسمها "بضم السين وسكون الدال المهملين وفتح الكاف والواو وآخره نون"، وهي

ص: 473

مدينة عظيمة على ساحل البحر الأعظم، ويجتمع بها نهر الكنك الذي يحج إليه الهنود ونهر الجون ويصبان في البحر. ولهم في النهر مراكب كثيرة يقاتلون بها أهل بلاد للكنوتي.

وكان سلطان بنجالة هو السلطان فخر الدين الملقب بفَخْره "بالفاء والخاء المعجم والراء"، وهو سلطان فاضل محب في الغرباء وخصوصاً الفقراء والمتصوفة. وكانت مملكة هذه البلاد للسلطان ناصر الدين بن السلطان غياث الدين بلبن وهو الذي ولي ولده معز الدين الملك بدهلي فتوجه لقتاله والتقيا بالنهر وسمي لقاؤهما لقاء السعدين وقد ذكرنا ذلك وأنه ترك الملك لولده وعاد إلى بنجالة فأقام بها إلى أن توفي. وولي ابنه شمس الدين إلى أن توفي فولي ابنه شهاب الدين إلى أن غلب عليه أخوه غياث الدين بهادور بور فاستنصر شهاب الدين بالسلطان غياث الدين تغلق فنصره وأخذ بهادور بور أسيراً ثم أطلقه ابنه محمد لما ملك على أن يقاسمه ملكه فنكث عليه فقاتله حتى قتله. وولي على هذه البلاد صهراً له فقتله العسكر واستولى على ملكها علي شاه وهو إذ ذاك ببلاد اللكنوتي فلما رأى فخر الدين أن الملك قد خرج عن أولاد السلطان ناصر الدين وهو مولى لهم، خالف بسدكاوان وبلاد بنجالة، واستقل بالملك واشتدت الفتنة بينه وبين علي شاه فإذا كانت أيام الشتاء والوحل أغار فخر الدين على بلاد اللكنوتي في البحر لقوته فيه وإذا عادت الأيام التي لا مطر فيها أغار علي شاه على بنجالة في البر لقوته فيه.

وانتهى حب الفقراء بالسلطان فخر الدين إلى أن جعل أحدهم نائباً عنه في الملك بسدكاوان، وكان يسمى شَيْدا "بفتح الشين المعجم والدال المهمل بينهما ياء آخر الحروف"، وخرج إلى قتال عدو له. فخالف عليه شَيْدا وأراد الاستبدد بالملك وقتل ولداً للسلطان فخر الدين لم يكن له ولد غيره، فعلم بذلك فكّر عائداً إلى حضرته ففر شيدا ومن اتبعه إلى مدينة سُنُرْهكاوان، وهي منيعة. فبعث السلطان بالعساكر إلى حصاره فخاف أهلها على أنفسهم فقبضوا على شَيْدا وبعثوه إلى عسكر السلطان فكتبوا إليه بأمره فأمرهم أن يبعثوا له رأسه فبعثوه. وقتل بسببه جماعة كبيرة من الفقراء. ولما دخلت سدكاوان لم أر سلطانها ولا لقيته، وعلمت أنه مخالف على ملك الهند. فخفت عاقبة ذلك،

ص: 474

وسافرت من سدكاوان بقصد جبال كَامَرو، وهي "بفتح الكاف والميم وضم الراء" وبينها وبين سدكاوان مسيرة شهر. وهي جبال متسعة متصلة بالصين وتتصل أيضا ببلاد التبت حيث غزلان المسك. وأهل هذا الجبل يشبهون الترك ولهم قوة على الخدمة. والغلام منهم يساوي أضعاف ما يساويه الغلام من غيرهم وهم مشهورون بمعاناة السحر والاشتغال به. وكان قصدي بالمسير إلى هذه الجبال لقاء ولي من الأولياء بها وهو الشيخ جلال الدين التبريزي. وكان الشيخ من كبار الأولياء وأفراد الرجال له الكرامات الشهيرة والمآثر العظيمة وهو من المعمرين، أخبرني رحمه الله أنه أدرك الخليفة المستعصم بالله العباسي ببغداد وكان بها حين قتله، وأخبرني أصحابه بعد هذه المدة أنه مات وهو ابن مائة وخمسين، وأنه كان له نحو أربعين سنة يسرد الصوم ولا يفطر إلا بعد مواصلة عشر، وكانت له بقرة يفطر على حليبها ويقوم الليل كله وكان نحيف الجسم طوالاً خفيف العارضين. وعلى يديه أسلم أهل تلك الجبال، ولذلك أقام بينهم.

وقد أخبرني بعض أصحابه أنه استدعاهم قبل موته بيوم واحد وأوصاهم بتقوى الله وقال لهم إني أسافر عنكم غداً إن شاء الله وخليفتي عليكم الله الذي لا إله إلا هو، فلما صلى الظهر من الغد قبضه الله في آخر سجدة منها ووجدوا في جانب الغار الذي كان يسكنه قبراً محفوراً عليه الكفن والحنوط فغلسوه وكفنوه وصلوا عليه ودفنوه به رحمه الله تعالى.

ولما قصدت زيارة هذا الشيخ لقيني أربعة من أصحابه على مسيرة يومين من موضع سكناه، فأخبروني أن الشيخ قال للفقراء الذين معه: قد جاءكم سائح من المغرب فاستقبلوه، وأنهم أتوا لذلك بأمرالشيخ. ولم يكن عنده علم من أمري وإنما كوشف به وسرت معهم إلى الشيخ فوصلت زاويته خارج الغار ولا عمارة عندها. وأهل تلك البلاد من مسلم وكافر يقصدون زيارته ويأتون بالهدايا والتحف فيأكل منها الفقراء والواردون. وأما الشيخ فقد اقتصر على بقرة يفطر على حليبها بعد عشر كما قدمناه. ولما دخلت عليه قام إلي وعانقني وسألني عن بلادي وأسفاري، فأخبرته. فقال لي: أنت مسافر العرب. فقال له من حضر من أصحابه والعجم: يا سيدنا. فقال: والعجم، فأكرموه. فاحتملوني إلى الزاوية وأضافوني ثلاثة أيام.

ص: 475

ولما كان يوم دخولي إلى الشيخ رأيت عليه فرجية مرعز فأعجبني وقلت في نفسي ليت الشيخ أعطانيها، فلما دخلت عليه للوداع قام إلى جانب الغار وجرد الفرجية وألبسنيها مع طاقية من رأسه ولبس مرقعة فأخبرني الفقراء أن الشيخ لم تكن عادته أن يلبس تلك الفرجية وإنما لبسها عند قدومي وأنه قال لهم هذه الفرجية يطلبها المغربي ويأخذها منه سلطان كافر ويعطيها لأخينا برهان الدين الصاغرجي وهي له وبرسمه كانت. فلما أخبرني الفقراء بذلك قلت لهم: قد حصلت لي بركة الشيخ بأن كساني لباسه، وأنا لا أدخل بهذه الفرجية على سلطان كافر ولا مسلم وانصرفت عن الشيخ. فاتفق لي بعد مدة طويلة أني دخلت بلاد الصين وانتهيت إلى مدينة الخنسا فافترق مني أصحابي لكثرة الزحام وكانت الفرجية علي فبينما أنا في بعض الطرق إذا بالوزير في موكب عظيم فوقع بصره علي فاستدعاني وأخذ بيدي وسألني عن مقدمي ولم يفارقني حتى وصلت إلى دار السلطان معه فأردت الانفصال فمنعني، وأدخلني على السلطان فسألني عن سلاطين الإسلام فأجبته ونظر إلى الفرجية فاستحسنها. فقال لي الوزير: جردها. فلم يمكنني خلاف ذلك فأخذها وأمر لي بعشر خلع وفرس مجهز ونفقة. وتغير خاطري لذلك ثم تذكرت قول الشيخ أنه يأخذها سلطان كافر فطال عجبي من ذلك. ولما كان في السنة الأخرى دخلت دار ملك الصين بخان بالق، فقصدت زاوية الشيخ برهان الدين الصاغرجي فوجدته يقرأ والفرجية عليه بعينها فعجبت من ذلك وقلبتها بيدي، فقال لي: لم تقلبها وأنت تعرفها؟ فقلت له: نعم هي التي أخذها مني سلطان الخنسا. فقال لي: هذه الفرجية صنعها أخي جلال الدين برسمي وكتب إلي أن الفرجية تصلك على يد فلان ثم أخرج لي الكتاب فقرأته وعجبت من صدق يقين الشيخ وأعلمته بأول الحكاية: فقال لي: أخي جلال الدين أكبر من ذلك كله هو يتصرف في الكون، وقد انتقل إلى رحمة الله.

ثم قال: بلغني أنه كان يصلي الصبح كل يوم بمكة، وأنه يحج كل عام لأنه كان يغيب عن الناس يومي عرفة والعيد فلا يعرف أين ذهب. ولما ودعت الشيخ جلال الدين سافرت إلى مدينة حَنَنْق "ضبط اسمها بفتح الحاء المهملة والباء الموحدة. وسكون النون وقاف"، وهي من أكبر المدن وأحسنها. يشقها النهر الذي ينزل من جبال كامرو، ويسمى النهر الأزرق ويسافر فيه إلى بنجالة

ص: 476

وبلاد اللكنوتي وعليه النواعير والبساتين والقرى يمنة ويسرة كما هي على نيل مصر. وأهلها كفار تحت الذمة يؤخذ منهم نصف ما يزدرعون ووظائف سوى ذلك. وسافرنا في هذا النهر خمسة عشر يوماً بين القرى والبساتين، فكنا نمشي في سوق من الأسواق وفيه من المراكب مالا يحصى كثرة وفي كل مركب منها طبل فإذا التقى المركبان ضرب كل واحد طبله وسلم بعضهم على بعض وأمر السلطان فخر الدين المذكور أن لا يؤخذ بذلك النهر من الفقراء نول وأن يعطي الزاد لمن لا زاد له منهم. وإذا وصل الفقير إلى مدينة أعطي نصف دينار. وبعد خمسة عشر يوماً من سفرنا في النهر كما ذكرناه وصلنا إلى مدينة سُنْرُكاوان وسنر "بضم السين المهمل والنون وسكون الراء"، وهي المدينة التي قبض أهلها على الفقير شيدا عندما لجأ إليها ولما وصلناها وجدنا بها جنكا يريد السفر إلى بلاد الجاوة وبينهما أربعون يوماً من بنجالة إلى الجاوة. فركبنا فيه ووصلنا بعد خمسة عشر يوماً إلى بلاد البَرَهْنكَار الذين أفواههم كأفواه الكلاب "وضبطها بفتح الباء الموحدة والراء والنون والكاف وسكون الهاء"، وهذه الطائفة من الهمج لا يرجعون إلى دين الهنود ولا إلى غيره، وسكناهم في بيوت قصب مسقفة بحشيش الأرض على شاطئ البحر. وعندهم من أشجار الموز والفوفل والتنبول كثير. ورجالهم على مثل صورتنا إلا أن أفواههم كأفواه الكلاب. وأما نساؤهم فلسن كذلك، ولهن جمال بارع. ورجالهم عرايا لا يستترون. إلا أن الواحد منهم يجعل ذكره وأنثييه في جعبه من القصب منقوشة معلقة في بطنه، ويستتر نساؤهم بأوراق الشجر. ومعهم جماعة من المسلمين من أهل بنجالة والجاوة ساكنون في حارة على حدة. أخبرونا أنهم يتناكحون كالبهائم، لا يستترون بذلك. ويكون للرجل منهم ثلاثون امرأةً فما دون ذلك أو فوقه، وأنهم لا يزنون. وإذا زنا رجل منهم فحد الرجل أن يصلب حتى يموت أو يؤتي صاحبه أو عبده فيصلب عوضاً منه ويسرح هو. وحد المرأة أن يأمر السلطان جميع خدامه فينكحونها واحداً بعد واحد بحضرته حتى تموت، ويرمون بها في البحر. ولأجل ذلك لا يتركون أحداً من أهل المراكب ينزل إليهم إلا أن كان من المقيمين عندهم. وإنما يبايعون الناس ويشارونهم على الساحل ويسوقون إليهم الماء على الفيلة لأنه بعيد من الساحل. ولا يتركونهم لاستقائه خوفاً على نسائهم لأنهن يطمحن إلى الرجال الحسان. والفيلة كثيرة عندهم، ولا يسعها أحد غير سلطانهم. ثم يشتري منهم بالأثواب ولهم كلام غريب لا يفقهها إلا من ساكنهم وأكثر التردد إليهم.

ص: 477

ولما وصلنا إلى ساحلهم أتوا إلينا في قوارب صغار كل قارب من خشبة واحدة منحوتة وجاءوا بالموز والأرز والتنبول والفوفل والسمك.

وأتى إلينا سلطانهم راكباً على فيل عليه شبه بردعة من الجلود ولباس السلطان ثوب من جلود المعزى وقد جعل الوبر إلى خارج فوق رأسه ثلاث عصائب من الحرير ملونات وفي يده حربة من القصب ومعه نحو عشرين من أقاربه على الفيلة فبعثنا إليه هدية من الفلفل والزنجبيل والقرفة والحوت الذي يكون بجزائر ذيبه المهل وأثواباً من بنجالة وهم لا يلبسونها إنما يكسونها الفيلة في أيام عيدهم. ولهذا السلطان على كل مركب ينزل ببلاده جارية ومملوك وثياب لكسوة الفيل وحلي ذهب تجعله زوجته في محزمها وأصابع رجليها. ومن لم يعط هذه الوظيفة صنعوا له سحراً يهيج به البحر فيهلك أو يقارب الهلاك.

واتفق في ليلة من ليالي إقامتنا بمرماهم أن غلاماً لصاحب المركب ممن تردد إلى هؤلاء الطائفة نزل من المركب ليلاً وتواعد مع امرأة أحد كبرائهم إلى موضع شبه الغار على الساحل وعلم بذلك زوجها فجاء في جميع من أصحابه إلى الغار فوجدهما به. فحملا إلى سلطانهم فأمر بالغلام فقطعت أنثياه وصلب. وأمر بالمرأة فجامعها الناس حتى ماتت. ثم جاء السلطان إلى الساحل فاعتذر عما جرى، وقال: إنا لا نجد بداً من إمضاء أحكامنا ووهب لصاحب المركب غلاماً عوض الغلام المصلوب، ثم سافرنا عن هؤلاء. وبعد خمسة وعشرين يوماً وصلنا إلى جزيرة الجاوة "بالجيم" وهي التي ينسب إليها اللبان الجاوي. رأيناها على مسيرة نصف يوم وهي خضرة نضرة وأكثر أشجارها النارجيل والفوفل والقرنفل والعود الهندي والشكي والبركي والعنبة والجمون والنارنج الحلو وقصب الكافور. وبيع أهلها وشراؤهم بقطع قصدير وبالذهب الصيني التبر غير المسبوك. والكثير من أفاويه الطيب التي بها إنما هو ببلاد الكفار منها، وأما ببلاد المسلمين فهو أقل من ذلك. ولما وصلنا المرسى خرج إلينا أهلها في مراكب صغار ومعهم جوز النارجيل والموز والعنبة والسمك. وعادتهم أن يهدوا ذلك للتجار فيكافئهم كل إنسان على قدره، وصعد إلينا أيضا نائب صاحب البحر وشاهد من معنا من التجار وأذن لنا في النزول إلى البر. فنزلنا إلى البندر وهي قرية كبيرة على ساحل البحر، بها دور اسمها السَرْحَى

ص: 478

"بفتح السين المهمل وسكون الراء وفتح الحاء المهمل"، وبينها وبين البلد أربعة أميال. ثم كتب بهروز نائب صاحب البحر إلى السلطان فعرفه بقدومي، فأمر الأمير دولسة بلقائي والقاضي الشريف أمير سيد الشيرازي وتاج الدين الأصبهاني وسواهم من الفقهاء، فخرجوا لذلك وجاءوا بفرس من مراكب السلطان وأفراس سواه فركبت وركب أصحابي، ودخلنا إلى حضرة السلطان وهي مدينة سُمَطْرة "بضم السين المهمل والميم وسكون الطاء وفتح الراء" مدينة حسنة كبيرة عليها سور خشب وأبراج خشب.

وكان سلطان الجاوة الملك الظاهر من فضلاء الملوك وكرمائهم، شافعي المذهب محب في الفقهاء يحضرون مجلسه للقراءة والمذاكرة، وهو كثير الجهاد والغزو ومتواضع يأتي إلى صلاة الجمعة ماشياً على قدميه وأهل بلاده شافعيه محبون في الجهاد يخرجون معه تطوعاً وهم غالبون على من يليهم من الكفار والكفار يعطونهم الجزية على الصلح.

ولما قصدنا دار السلطان وجدنا بالقرب منه رماحاً مركوزة على جانبي الطريق هي علامة على نزول الناس فلا يتجاوزها من كان راكباً. فنزلنا عندها ودخلنا المشور، فوجدنا نائب السلطان وهو يسمى عمدة الملك فقام إلينا وسلم علينا وسلامهم بالمصافحة وقعدنا معه وكتب بطاقة إلى السلطان يعلمه بذلك وختمها ودفعها لبعض الفتيان فأتاه الجواب على ظهرها ثم جاء أحد ببُقْشة والبقشة "بضم الباء الموحدة وسكون القاف وفتح الشين المعجم"، هي السبنية، فأخذها النائب بيده وأخذ بيدي وأدخلني إلى دويرة يسمونها فردخانة على وزن زردخانة "إلاّ أن أولها فاء" وهي موضع راحته بالنهار فإن العادة أن يأتي نائب السلطان إلى المشور بعد الصبح ولا ينصرف إلا بعد العشاء الآخر. وكذلك الوزراء والأمراء الكبار. وأخرج من البقشة ثلاث فوط إحداهما من خالص الحرير والأخرى حرير وقطن والأخرى حرير وكتان. وأخرج ثلاثة أثواب يسمونها التحتانيات من جنس الفوط، وأخرج ثلاثة من الثياب مختلفة الأجناس تسمى الوسطانيات، وأخرج ثلاثة أثواب من الأرمك، أحدها أبيض. وأخرج ثلاث عمائم. فلبست فوطة منها عوض عن السراويل على عادتهم وثوباً من كل جنس. وأخذ أصحابي ما بقي منها.

ثم جاءوا بالطعام أكثره الأرز ثم أتوا بنوع من الفقاع ثم أتوا بالتنبول،

ص: 479

وهو علامة الانصراف، فأخذناه وقمنا، وقام النائب لقيامنا وخرجنا عن المشور، فركبنا وركب النائب معنا. وأتوا بنا إلى بستان عليه حائط خشب وفي وسطه دار بناؤها بالخشب مفروشة بقطائف قطن يسمونها المخملات "بالميم والخاء المعجم"، منها مصبوغ وغير مصبوغ.

وفي البيت أسرة من الخيزران فوقها مضربات من الحرير ولحف خفاف ومخاد يسمونها البوالشت. فجلسنا بالدار ومعنا النائب ثم جاء الأمير دولسة بجاريتين وخادمين، وقال لي: يقول لك السلطان هذه على قدرنا لا على قدر السلطان محمد. ثم خرج النائب وبقي الأمير دولسة عندي. وكانت بيني وبينه معرفة لأنه كان ورد رسولاً على السلطان بدهلي. فقلت له: متى تكون رؤية السلطان؟ فقال لي؛ أن العادة عندنا أن لا يسلم القادم على السلطان إلا بعد ثلاث، ليذهب عنه تعب السفر ويثوب إليه ذهنه. فأقمنا ثلاثة أيام يأتي إلينا الطعام ثلاث مرات في اليوم وتأتينا الفواكه والطرف مساءً وصباحاً. فلما كان اليوم الرابع وهو يوم الجمعة أتاني الأمير دولسة فقال لي: يكون سلامك على السلطان بمقصورة الجامع بعد الصلاة. فأتيت الجامع وصليت به الجمعة مع حاجبه قَيْران "بفتح القاف وسكون الياء آخر الحروف والراء" ثم دخلت إلى السلطان فوجدت القاضي أمير سيد والطلبة عن يمينه وشماله. فصافحني وسلمت عليه وأجلسني عن يساره، وسألني عن السلطان محمد وعن أسفاري فأجبته. وعاد إلى المذاكرة في الفقه على مذهب الإمام الشافعي ولم يزل كذلك إلى صلاة العصر، فلما صلاها دخل بيتاً هنالك فنزع الثياب التي كانت عليه وهي ثياب الفقهاء، وبها يأتي الجامع يوم الجمعة ماشياً، ثم لبس ثياب الملك وهي الأقبية من الحرير والقطن.

ولما خرج من الجامع وجد الفيلة والخيل على بابه. والعادة عندهم أنه إذا ركب السلطان الفيل ركب من معه الخيل. وإذا ركب الفرس ركبوا الفيلة. ويكون أهل العلم عن يمينه فركب ذلك اليوم على الفيل. وركبنا الخيل وسرنا معه إلى المشور فنزلنا حيث العادة ودخل السلطان راكباً وقد اصطف في المشور الوزراء والأمراء والكتاب وأرباب الدولة ووجوه العسكر صفوفاً، فأول الصفوف صف الوزراء والكتاب ووزراؤه أربعة فسلموا عليه وانصرفوا إلى موضع وقوفهم، ثم صف الأمراء فسلموا ومضوا إلى مواقفهم. وكذلك تفعل كل

ص: 480

طائفة ثم صف الشرفاء والفقهاء ثم صف الندماء والحكماء والشعراء ثم صف وجوه العسكر ثم صف الفتيان والمماليك ووقف السلطان على فيله إزاء قبة الجلوس ورفع فوق رأسه شطر مرصع

وجعل عن يمينه خمسون فيلاً مزينة وعن شماله مثلها وعن يمينه أيضا مائة فرس وعن شماله مثلها وهي خيل النوبة ووقف بين يديه خواص الحجاب. ثم أتى أهل الطرب من الرجال فغنوا بين يديه وأتي بخيل مجللة بالحرير لها خلاخيل ذهب وأرسان حرير مزركشة فرقصت الخيل بين يديه فعجبت من شأنها وكنت رأيت مثل ذلك عند ملك الهند. ولما كان عند الغروب دخل السلطان إلى داره. وانصرف الناس إلى منازلهم.

وكان له ابن أخ متزوج ببنته، فولاه بعض البلاد. وكان الفتى يتعشق بنتاً لبعض الأمراء ويريد تزوجها. والعادة هنالك أنه إذا كانت لرجل من الناس أمير أو سوقي أو سواه بنت قد بلغت مبلغ النكاح فلا بد أن يستأمر للسلطان في شأنها ويبعث السلطان من النساء من تنظر إليها فإن أعجبته صفتها تزوجها وإلا تركها يزوجها أولياؤها ممن يشاءوا. والناس هنالك يرغبون في تزوج السلطان بناتهم لما يحوزون به من الجاه والشرف. ولما استأمر والد البنت التي تعشقها ابن أخي السلطان بعث السلطان من نظر إليها وتزوجها. واشتد شغف الفتى بها ولم يجد سبيلاً إليها. ثم إن السلطان خرج إلى الغزو وبينه وبين الكفار مسيرة شهر، فخالفه ابن أخيه إلى سمطرة ودخلها إذ لم يكن عليها سور حينئذ وادعى الملك وبايعه بعض الناس وامتنع آخرون وعلم عمه بذلك فقفل عائداً إليها فأخذ ابن أخيه ما قدر عليه من الأموال والذخائر وأخذ الجارية التي تعشقها وقصد بلاد الكفار بِمُل جاوة. ولهذا بنى عمه السور على سمطرة. وكانت إقامتي عنده بسمطرة خمسة عشر يوماً، ثم طلبت منه السفر إذا كان أوانه إذ لا يتهيأ السفر إلى الصين في كل وقت فجهز لنا جنكاً، وزودنا وأحسن وأجمل جزاه الله خيراً. وبعث معنا من أصحابه من يأتي لنا بالضيافة إلى الجنك. وسافرنا بطول بلاده إحدى وعشرين ليلة. ثم وصلنا إلى مُل جاوة "بضم الميم" وهي بلاد الكفار وطولها مسيرة شهرين، وبها الأفاوية العطرة والعود الطيب القاقلي والقماري وقاقلة وقمارة من بعض بلادها، وليس ببلاد السلطان الظاهر بالجاوة إلا اللبان والكافور وشيء من الفرنفل وشيء من العود الهندي وإنما معظم ذلك بمل جاوة. ولنذكر ما شاهدناه منها، ووقفنا على أعيانه

ص: 481

وحققناه.

أما شجرة اللبان فصغيرة تكون بقدر قامة الإنسان إلى ما دون ذلك وأغصانها كأغصان الخرشف وأوراقها صغار رقاق، وربما سقطت فبقيت الشجرة منها دون ورقة. واللبان صمغية تكون في أغصانها. وهي في بلاد المسلمين أكثر منها في بلاد الكفار.

وأما شجر الكافور فهي قصب كقصب بلادنا، إلا أن الأنابيب منها أطول وأغلظ ويكون الكافور داخل الأنابيب فإذا كسرت القصبة وجد في داخل الأنبوب مثل شكله من الكافور. والسر العجيب فيه أنه لا يتكون في تلك القصب حتى يذبح عند أصولها شيء من الحيوان وإلا لم يتكون شيء منه. والطيب المتناهي في البرودة الذي يقتل منه وزن الدرهم بتجميد الروح وهو المسمى عندهم الحردالة هو الذي يذبح عند قصبة الآدمي ويقوم مقام الآدمي في ذلك الفيلة الصغار.

وأما العودة الهندي فشجره يشبه شجر البلوط إلا أن قشره رقيق وأوراقه كأوراق البلوط سواء ولا ثمر له وشجرته لا تعظم كل العظم وعروقه طويلة ممتدة وفيها الرائحة العطرة وأما عيدان شجرته وورقها فلا عطرية فيها وكل ما ببلاد الإسلام من شجره فهو متملك. وأما الذي في بلاد الكفار فأكثره غير متملك منه. والمتملك منه ما كان بقاقلة وهو أطيب العود. وكذلك القماري هو أطيب أنواع العود ويبيعونه لأهل الجاوة بالأثواب. ومن القماري صنف يطبع عليه كالشمع. وأما العطاس فإنه يقطع العرق منه ويدفن في التراب أشهراً فتبقى فيه قوته وهو من أعجب أنواعه.

وأما أشجار القرنفل فهي عادية ضخمة وهي ببلاد الكفار أكثر منها ببلاد الإسلام وليست بمتملكة لكثرتها والمجلوب إلى بلادنا منها هو العيدان والذي يسميه أهل بلادنا نوّار القرنفل هو الذي يسقط من زهره وهو شبيه بزهر النارنج وثمر القرنفل هو جوز بوا المعروفة في بلادنا بجوزة الطيب والزهر المتكون فيها هو البساسة رأيت ذلك كله وشاهدته. ووصلنا إلى مرسى قاقلة فوجدنا به جملة من الجنوك معد للسرقة ولمن يستعصي عليهم من الجنوك فإن لهم على كل جنك وظيفة. ثم نزلنا من الجنك إلى مدينة قَاقُلة "وهي بقافين

ص: 482

آخرها مضموم ولامها مفتوح"، وهي مدينة حسنة، عليها سور من حجارة منحوتة عرضه بحيث تسير فيه ثلاثة من الفيلة. وأول ما رأيت بخارجها الفيلة عليها الأحمال من العود الهندي يوقدونه في بيوتهم وهو بقيمة الحطب عندنا أو أرخص ثمناً هذا إذا ابتاعوا فيما بينهم. وأما التجار فيبيعونه الحمل منه بثوب من ثياب القطن وهي أغلى عندهم من ثياب الحرير. والفيلة بها كثيرة جداً عليها يركبون ويحملون وكل إنسان يربط فيلته على بابه، وكل صاحب حانوت يربط فيله عنده يركبه إلى داره ويحمل له. وكذلك جميع أهل الصين والخطا على مثل هذا الترتيب.

وكان سلطان مُل جاوة كافراً، رأيته خارج قصره جالساً على قبة ليس بينه وبين الأرض بساط، ومعه أرباب دولته. والعساكر يعرضون عليه مشاة ولا خيل هنالك إلا عند السلطان وإنما يركبون الفيلة وعليها يقاتلون. فعرف شأني فاستدعاني فجئت، وقلت: السلام على من ابتع الهدى، فلم يفقهوا إلا لفظ السلام. فرحب بي وأمر أن يفرش لي ثوب أقعد عليه، فقلت للترجمان: كيف أجلس على الثوب والسلطان قاعد على الأرض؟ فقال: هكذا عادته يقعد على الأرض تواضعاً، وأنت ضيف، وجئت من عند سلطان كبير فيجب إكرامك، فجلست وسألني عن السلطان فأوجز في سؤاله، وقال لي: تقيم عندنا في الضيافة ثلاثة أيام وحينئذ يكون انصرافك.

ورأيت في مجلس هذا السلطان رجلاً بيده سكين شبه سكين المسعر قد وضعه على رقبة نفسه وتكلم بكلام كثير لم أفهمه ثم أمسك السكين بيديه معاً وقطع عنف نفسه فوقع رأسه لحدة السكين وشدة إمساكه بالأرض فعجبت من شأنه وقال لي السلطان: أيفعل أحد هذا عندكم؟ فقلت له: ما رأيت هذا قط. فضحك، وقال: هؤلاء عبيدنا يقتلون أنفسهم في محبتنا. وأمر به فرفع وأحرق وخرج لإحراقة النواب وأرباب الدولة والعساكر والرعايا وأجرى الرزق الواسع على أولاده وأهله وإخوانه وعظموا لأجل فعله. وأخبرني من كان حاضراً في ذلك المجلس أن الكلام الذي تكلم به كان تقريراً لمحبته في السلطان وأنه يقتل نفسه في حبه كما قتل أبوه نفسه في حب أبيه وجده نفسه في حب جده ثم انصرفت عن المجلس وبعث إلي بضيافة ثلاثة أيام. وسافرنا في البحر فوصلنا بعد أربعة وثلاثين يوماً في البحر الكاهل، وهو الراكد وفيه حمرة زعموا

ص: 483

أنها من تربة أرض تجاوره. ولا ريح فيه ولا موج ولا حركة مع اتساعه. ولأجل هذا البحر تتبع كل جنك من جنوك الصين ثلاثة من مراكب، كما ذكرناه، تجذف به فتجره. ويكون في الجنك مع ذلك نحو عشرين مجذافاً كبار كالصواري، يجتمع على المجذاف منها ثلاثون رجلاً أو نحوها ويقومون قياماً صفين كل صف يقابل الآخر. وفي المجذاف حبلان عظيمان كالطوابيس. فتجذف إحدى الطائفتين الحبل ثم تتركه وتجذف الطائفة الأخرى. وهم يغنون عند ذلك بأصواتهم الحسان، وأكثر ما يقولون: لعلى لعلى. وأقمنا على ظهر هذا البحر سبعة وثلاثين يوماً وعجبت البحرية من التسهيل فيه فإنهم يقيمون فيه خمسين يوماً إلى أربعين وهي أنهى ما يكون التيسير عليهم. ثم وصلنا إلى بلاد طوالسي وهي "بفتح الطاء المهمل والواو وكسر السين المهمل" وملكها هو المسمى بطوالسي. وهي بلاد عريضة وملكها يضاهي ملك الصين. وله الجنوك الكثيرة يقاتل بها أهل الصين حتى يصالحوه على شيء. وأهل هذه البلاد عبدة أوثان حسان الصورة أشبه الناس بالترك في صورهم والغالب على ألوانهم الحمرة ولهم شجاعة ونجدة. ونساؤهم يركبن الخيل ويحسن الرماية ويقاتلن كالرجال سواء. وأرسينا من مراسيهم بمدينة كَيْلُوكِري "وضبطها بكاف مفتوح وياء آخر الحروف مسكنة ولام مضموم وراء مكسور"، وهي من أحسن مدنهم وأكبرها وكان يسكن بها ابن ملكهم. فلما أرسينا بالمرسى جاءت عساكرهم ونزل الناخوذة إليهم ومعه هدية لابن الملك فسألهم عنه فأخبروه أن أباه ولاه بلداً غيره وولى بنته بتلك المدينة واسمها أُرْدُجا "بضم الهمزة وسكون الراء وضم الدال المهمل وجيم".

ولما كان اليوم الثاني من حلولنا بمرسى كيلوكري، استدعت هذه الملكة الناخوذة صاحب المركب والكراني وهو الكاتب والتجار والرؤساء والتنديل وهو مقدم الرجال وسباه سالار وهو مقدم الرماة لضيافة صنعتها لهم على عادتها. ورغب الناخوذة مني أن أحضر معهم. فأبيت لأنهم كفار لا يجوز أكل طعامهم. فلما حضروا عندها قالت لهم: هل بقي أحد منكم لم يحضر؟ فقال لها الناخوذة: لم يبق إلى رجل واحد بَخْشِي، وهو القاضي بلسانهم، وبخشي "بفتح الباء الموحدة وسكون الحاء وكسر الشين المعجمة"، وهو لا يأكل طعامكم. فقالت: ادعوه. فجاء جنادرتها وأصحاب الناخوذة، فقالوا: أجب

ص: 484

الملكة. فأتيتها وهي بمجلسها الأعظم وبين يديها نسوة بأيديهن الأزمة يعرضن ذلك عليها. وحولها النساء القواعد وهن وزيراتها وقد جلسن تحت السرير على كراسي الصندل وبين يديها الرجال. ومجلسها مفروش بالحرير وعليه ستور حرير وخشبة من الصندل وعليه صفائح الذهب. وبالمجلس مساطب خشب منقوش عليها أواني ذهب كثيرة من كبار وصغار كالخوابي والقلال والبواقيل. أخبرني الناخوذة أنها مملوؤة بشراب مصنوع من السكر مخلوط بالأفاوية يشربونه بعد الطعام وإنه عطر الرائحة حلو المطعم يفرح ويطيب النكهة ويهضم ويعين على الباءة، فلما سلمت على الملكة قالت لي بالتركية: حسن مسن يخشى مسن "خوشميسن يخشميسن" معناه: كيف حالك؟ كيف أنت؟ وأجلستني على قرب منها وكانت تحسن الكتاب العربي، فقالت لبعض خدامها: دواة وبتك كاتور "كتور" معناه: الدواة والكاغد. فأتى بذلك فكتبت بسم الله الرحمن الرحيم. فقالت: ما هذا؟ فقلت لها: تنضري "تنكري" نام. وتَنْضَري "بفتح التاء المعلوة وسكون النون وفتح الضاد وراء وياء"، ونام "بنون وألف وميم" ومعنى ذلك اسم الله. فقالت: خشن "خوشن"، ومعناه جيد. ثم سألتني من أي البلاد قدمت. فقلت لها من بلاد الهند. فقالت: بلاد الفلفل. فقلت: نعم. فسألتني عن تلك البلاد وأخبارها فأجبتها.

فقالت: لا بد أن أغزوها وآخذها لنفسي فإني يعجبني أكثر ما لها وعساكرها. فقلت لها: افعلي. وأمرت لي بأثواب وحمل فيلين من الأرز وبجاموستين وعشر من الضأن وأربعة أرطال جلاب وأربعة مرطبانات وهي أوان ضخمة مملوءة بالزنجبيل والفلفل والليمون والعنبا. كل ذلك مملوح مما يستعد للبحر، وأخبرني الناخوذة أن هذه الملكة لها في عسكرها نسوة وخدم وجوار يقاتلن كالرجال وأنها تخرج في العساكر من رجال ونساء فتغير على عدوها وتشاهد القتال وتبارز الأبطال. وأخبرني أنها وقع بينها وبين بعض أعدائها قتال شديد وقتل كثير من عسكرها وكادوا ينهزمون فدفعت بنفسها وخرقت الجيوش حتى وصلت إلى الملك الذي كانت تقاتله فطعنته طعنة كان فيها حتفه فمات وانهزمت عساكره. وجاءت برأسه على رمح فافتداه أهله منها بمالٍ كثير. فلما عادت إلى أبيها ملكها تلك المدينة التي كانت بيد أخيها. وأخبرني أن أبناء الملوك يخطبونها فتقول: لا أتزوج إلا من يبارزني فيغلبني.

ص: 485

فيتحامون مبارزتها خوف المعرة إن غلبتهم. ثم سافرنا عن بلاد طوالسي فوصلنا بعد سبعة عشر يوماً والريح مساعدة لنا ونحن نسير بها أشد السير وأحسنه إلى بلاد الصين. وإقليم الصين متسع كثير الخيرات والفواكه والزرع والذهب والفضة لا يضاهيه في ذلك إقليم من أقاليم الأرض. ويخترقه النهر المعروف بآب حياة، معنى ذلك ماء الحياة ويسمى أيضا نهر السبر "السرو" كاسم النهر بالهند ومنبعه من جبال بقرب مدينة خان بالق تسمى كوه بوزنه، معناه: جبل القرود ويمر في وسط الصين مسيرة ستة أشهر إلى أن ينتهي إلى صين الصين. وتكتنفه القرى والمزارع والبساتين والأسواق كنيل مصر، إلا أن هذا أكثر عمارة وعليه النواعير الكثيرة.

وببلاد الصين السكر الكثير مما يضاهي المصري بل يفضله والأعناب والإجاص. وكنت أظن أن الإجاص العثماني الذي بدمشق لا نظير له حتى رأيت الإجاص الذي بالصين. وبها البطيخ العجيب يشبه بطيخ خوارزم وأصفهان. وكل ما ببلادنا من الفواكه فإن بها ما هو مثله وأحسن منه. والقمح بها كثير جداً ولم أر قمحاً أطيب منه، وكذلك العدس والحمص.

وأما الفخار الصيني فلا يصنع منه إلا بمدينة الزيتون وبصين كلان. وهو من تراب جبال هنالك تقد فيه النار كالفحم وسنذكر ذلك، ويضيفون إليه حجارة عندهم. ويوقدون النار عليها ثلاثة أيام ثم يصبون عليها الماء فيعود الجميع تراباً ثم يخمرونه، فالجيد منه ما خمر شهراً كاملاً ولا يزاد على ذلك. والدون ما خمر عشرة أيام. وهو هنالك بقيمة الفخار ببلادنا أو أرخص ثمناً ويحمل إلى الهند وسائر الأقاليم حتى يصل إلى بلاد بالمغرب وهو أبدع أنواع الفخار.

ودجاج الصين وديوكها ضخمة جداً أضخم من الأوز عندنا وبيض الدجاج عندهم أضخم من بيض الأوز عندنا، وأما الأوز عندهم فلا ضخامة لها. ولقد اشترينا دجاجة فأردنا طبخها فلم يسع لحمها في برمة واحدة فجعلناه في برمتين. ويكون الديك بها على قدر النعامة. وربما انتتف ريشه فيبقى بضعة حمراء. وأول ما رأيت الديك الصيني بمدينة كولم فظننته نعامة وعجبت منه، فقال لي صاحبه: إن ببلاد الصين ما هو أعظم منه. فلما وصلت إلى الصين رأيت مصداق ما أخبرني به من ذلك.

ص: 486

وأهل الصين كفار يعبدون الأصنام ويحرقون موتاهم كما تفعل الهنود. وملك الصين تتري من ذرية تنكيزخان. وفي كل مدينة من مدن الصين مدينة للمسلمين ينفردون بسكناهم. ولهم فيها المساجد لإقامة الجمعات وسواها. وهم معظمون محترمون. وكفار الصين يأكلون لحوم الخنازير والكلاب ويبيعونها في أسواقهم. وهم أهل رفاهية وسعة عيش إلا أنهم لا يحتفلون في مطعم ولا ملبس. وترى التاجر الكبير منهم الذي لا تحصى أمواله كثرة وعليه جبة قطن خشنة. وجميع أهل الصين إنما يحتفلون في أواني الذهب والفضة. ولكل واحد منهم عكاز يعتمد عليه في المشي ويقولون هو الرجل الثالثة. والحرير عندهم كثير جداً لأن الدود تتعلق بالثمار وتأكل منها فلا تحتاج إلى كثير مؤنة ولذلك كثر وهو لباس الفقراء والمساكين بها ولولا التجار لما كانت له قيمة. ويباع الثوب الواحد من القطن عندهم بالأثواب الكثيرة من الحرير. وعادتهم أن يسبك التاجر ما يكون عنده من الذهب والفضة قطعاً تكون القطعة منها من قنطار فما فوقه وما دونه ويجعل ذلك على باب داره. ومن كان له خمس قطع منها جعل في أصبعه خاتماً ومن كانت له عشر جعل خاتمين ومن كان له خمس عشرة سموه السّتي "بفتح السين المهمل وكسر التاء المعلوة" وهو بمعنى الكارمي بمصر. ويسمون القطعة الواحدة منها بَرْكالة "بفتح الباء الموحدة وسكون الراء وفتح الكاف واللام".

وأهل الصين لا يتبايعون بدينار ولا درهم. وجميع ما يتحصل ببلادهم من ذلك يسبكونه قطعا كما ذكرناه وإنما بيعهم وشراؤهم بقطع كاغد كل قطعة منها بقدر الكف مطبوعة بطابع السلطان وتسمى الخمس والعشرون قطعة منها بَالِشْت "بباء موحدة وألف ولام مكسور وسين معجم مسكن وتاء معلوة"، وهو بمعنى الدينار عندنا. وإذا تمزقت تلك الكواغد في يد إنسان حملها إلى دار كدار السكة عندنا فأخذ عوضها جدداً ودفع تلك ولا يعطى على ذلك أجرة ولا سواها لأن الذين يتولون عملها لهم الأرزاق الجارية من قبل السلطان، وقد وكل بتلك الدار أمير من كبار الأمراء وإذا مضى الإنسان إلى السوق بدرهم فضة أو دينار يريد شراء شيء لم يأخذ منه ولا يلتفت إليه حتى يصرفه بِالبَالِشت ويشتري به ما أراد.

وجميع أهل الصين والخطا، إنما فحمهم تراب عندهم منعقد كالطفل

ص: 487

عندنا، ولونه لون الطفل تأتي الفيلة بالأحمال منه فيقطعونه قطعاً على قدر قطع الفحم عندنا ويشعلون النار فيه فيقد كالفحم وهوأشد حرارة من نار الفحم، وإذا صار رماداً عجنوه بالماء ويبسوه وطبخوا به ثانية ولا يزالون يفعلون به كذلك إلى أن يتلاشى. ومن هذا التراب يصنعون أواني الفخار الصينني ويضيفون إليه حجارة سواه كما قلناه.

وأهل الصين أعظم الأمم إحكاما للصناعات، وأشدهم إتقانا فيها، وذلك مشهور من حالهم قد وصفه الناس في تصانيفهم فأطنبوا فيه، وأما التصوير فلا يجاريهم أحد في إحكامه من الروم ولا سواهم. فإن لهم فيه اقتداراً عظيماً. ومن عجيب ما شاهدت لهم من ذلك أني ما دخلت قط مدينة من مدنهم ثم عدت إليها إلاّ ورأيت صورتي وصورة أصحابي منقوشة في الحيطان والكواغد موضوعة في الأسواق.

ولقد دخلت إلى مدينة السلطان فممرت على سوق النقاشين ووصلت إلى قصر السلطان مع أصحابي ونحن على زي العراقيين فلما عدت من القصر عشياً مررت بالسوق المذكورة فرأيت صورتي وصور أصحابي منقوشة في كاغد قد ألصقوه بالحائط. فجعل الواحد منا ينظر إلى صورة صاحبه لا تخطئ شيئاً من شبهه.

وذكر لي أن السلطان أمرهم بذلك وأنهم أتوا إلى القصر ونحن به فجعلوا ينظرون إلينا ويصورون صورنا ونحن لم نشعر بذلك وتلك عادة لهم في تصوير كل من يمر بهم وتنتهي حالهم في ذلك إلى أن الغريب إذا فعل ما يوجب فراره عنهم بعثت صورته إلى البلاد وبحث عنه فحيثما وجد شبه تلك الصورة أخذ. قال ابن جزي: هذا مثل ما حكاه أهل التاريخ من قضية سابور ذي الأكتاف ملك الفرس حين دخل بلاد الروم متنكراً وحضر وليمة صنعها ملكهم وكانت صورته على بعض الأواني فنظر إليه بعض خدام قيصر فانطبعت على صورة سابور. فقال لملكه: إن هذه الصورة تخبرني أن كسرى معنا في هذا المجلس. فكان الأمر كما قاله، وجرى فيه ما هو مسطور في الكتب.

وعادة أهل الصين إذا أراد جنك من جنوكهم السفر، صعد إليه صاحب

ص: 488

البحر وكتابه، وكتبوا من يسافر فيه من الرماة والخدام والبحرية وحينئذ يباح لهم السفر. فإذا عاد الجنك إلى الصين صعدوا إليه أيضاً وقابلوا ما كتبوه بأشخاص الناس فإن فقدوا أحدا مما قيدوه طلبوا صاحب الجنك به. فإما أن يأتي ببرهان على موته أو فراره أو غير ذلك مما يحدث عليه وإلا أخذ فيه. فإذا فرغوا من ذلك أمروا صاحب المركب أن يملي عليهم تفصيلاً بجميع ما فيه من السلع قليلها وكثيرها ثم ينزل من فيه ويجلس حفاظ الديوان لمشاهدة ما عندهم. فإن عثروا على سلعة قد كتمت عنهم عاد الجنك بجميع ما فيه مالاً للمخزن وذلك نوع من الظلم ما رأيته ببلاد من بلاد الكفار ولا المسلمين إلا بالصين، اللهم إلا أنه كان بالهند ما يقرب منه.

وإذا قدم التاجر المسلم على بلد من بلاد الصين خيّر في النزول عند تاجر من المسلمين المتوطنين معين أو في الفندق، فإن أحب النزول عند التاجر حصر ماله وضمنه التاجر المستوطن وأنفق عليه منه بالمعروف. فإذا أراد السفر بحث عن ماله فإن وجد شيء منه قد ضاع أغرمه التاجر المستوطن الذي ضمنه، وإن أراد النزول بالفندق سلم ماله لصاحب الفندق وضمنه وهو يشتري له ما أحب ويحاسبه فإن أراد التسري اشترى له جارية وأسكنه بدار يكون بابها في الفندق وأنفق عليهما. والجواري رخيصات الأثمان؛ لأن أهل الصين أجمعين يبيعون أولادهم وبناتهم وليس ذلك عيباً عندهم غير أنهم لا يجبرون على السفر مع مشتريهم ولا يمنعون أيضاً منه إن اختاروه. وكذلك أن أراد التزوج تزوج. وأما إنفاق ماله في الفساد فشيء لا سبيل له إليه. ويقولون: لا نريد أن يسمع في بلاد المسلمين أنهم يخسرون أموالهم في بلادنا، فإنها أرض ضلال.

وبلاد الصين آمن البلاد وأحسنها حالاً للمسافرين. فإن الإنسان يسافر منفرداً مسيرة تسعة أشهر وتكون معه الأموال الطائلة فلا يخاف عليها. وترتيب ذلك أنّ لهم في كل منزل ببلادهم فندقاً عليه حاكم يسكن به في جماعة من الفرسان والرجال، فإذا كان بعد المغرب والعشاء جاء الحاكم إلى الفندق ومعه كاتبه فكتب أسماء جميع من يبيت به من المسافرين وختم عيها وأقفل باب الفندق عليهم. فإذا كان بعد الصبح جاء ومعه كاتبه فدعا كل

ص: 489

إنسان باسمه وكتب به تفصيلا وبعث معهم من يوصلهم إلى المنزل الثاني له ويأتيه ببراءة من حاكمه أن الجميع قد وصلوا إليه. وإن لم يفعل طلبه بهم. وهكذا العمل في كل منزل ببلادهم من صين الصين إلى خان بالق. وفي هذه الفنادق جميع ما يحتاج إلى المسافر من الأزواد وخصوصاً الدجاج والأوز. وأما الغنم فهي قليلة عندهم. ولنعد إلى ذكر سفرنا فنقول: لما قطعنا البحر كانت أول مدينة وصلنا إليها مدينة الزيتون. وهذه المدينة ليس بها زيتون ولا بجميع بلاد أهل الصين والهند ولكنه اسم وضع عليها وهي مدينة عظيمة كبيرة، تصنع بها ثياب الكمخا والأطلسـ وتعرف بالنسبة إليها وتفضل على الثياب الخنساوية والخنبالقية. ومرساها من أعظم مراسي الدنيا أو هو أعظمها رأيت به نحو مائة جنك كبار وأما الصغار فلا تحصى كثرة. وهو خور كبير من البحر يدخل في البر حتى يختلط بالنهر الأعظم. وهذه المدينة وجميع بلاد الصين يكون للإنسان بها البستان والأرض وداره في وسطها كمثل ما هي بلدة سجلماسة ببلادنا. وبهذا عظمت بلادهم. والمسلمون ساكنون بمدينة على حدة. وفي يوم وصولي إليها رأيت بها الأمير الذي توجه إلى الهند رسولاً بالهدية ومضى في صحبتنا وغرق به الجنك فسلم علي وعرف صاحب الديوان بي فأنزلني في منزل حسن. وجاء إلي قاضي المسلمين تاج الدين الأردويلي وهو من الأفاضل الكرماء وشيخ الإسلام كمال الدين عبد الله الأصفهاني وهو من الصلحاء وجاء إلي كبار التجار فيهم شرف الدين التبريزي أحد التجار الذي استدنت منهم حين قدومي على الهند وأحسنهم معاملة حافظ للقرآن مكثر للتلاوة. وهؤلاء التجار لسكناهم في بلاد الكفار إذا قدم عليهم المسلم فرحوا به أشد الفرح وقالوا جاء من أرض الإسلام وله يعطون زكوات أموالهم فيعود غنياً كواحد منهم. وكان بها من المشايخ الفضلاء برهان الدين الكازورني له زاوية خارج البلد وإليه يدفع التجار النذور التي ينذرونها للشيخ أبي إسحاق الكازروني. ولما عرف صاحب الديوان أخباري كتب إلى القان وهو ملكهم الأعظم يخبره بقدومي من جهة ملك الهند. فطلبت منه أن يبعث معي من يوصلني إلى بلاد الصين "صين الصين"، وهم يسمونها صين كلان لأشاهد تلك البلاد وهي في عمالته بخلال ما يعود جواب القان. فأجاب إلى ذلك وبعث معي من أصحابه من يوصلني. وركبت في النهر في مركب يشبه أجفان بلادنا الغزوية، إلا أن الجذافين يجذفون فيه قياماً، وحميعهم في وسط المركب،

ص: 490

والركاب في المقدم والمؤخر، ويظلون على المركب بثياب تصنع من نبات ببلادهم يشبه الكتان وليس به وهو أرق من القنب.

وسافرنا في هذا النهر سبعة وعشرين يوماً. وفي كل يوم نرسو عند الزوال بقرية نشترى بها ما تحتاج إليه ونصلي الظهر ثم ننزل بالعشي إلى أخرى وهكذا إلى أن وصلنا مدينة صين كلان "بفتح الكاف" وهي مدينة صين الصين. وبها يصنع الفخار، وبالزيتون أيضاً، وهنالك يصب نهر آب حياة في البحر ويسمونه مجمع البحرين وهي من أكبر المدن وأحسنها أسواقاً ومن أعظم أسواقها سوق الفخار ومنها يحمل إلى سائر بلاد الصين والهند واليمن. وفي وسط هذه المدينة كنيسة عظيمة لها تسعة أبواب داخل كل باب أسطوان ومصاطب يقعد عليها الساكنون بها. وبين البابين الثاني والثالث منها موضع فيه بيوت يسكنها العميان وأهل الزمانات. ولكل واحد منهم نفقته وكسوته من أوقاف الكنيسة. وكذلك فيما بين الأبواب كلها. وفي داخلها المارستان للمرضى، والمطبخة لطبخ الأغذية، وفيها الأطباء والخدام. وذكر لي أن الشيوخ الذين لا قدرة لهم على التكسب، لهم نفقتهم وكسوتهم بهذه الكنيسة، وكذلك الأيتام والأرامل ممن لا مال لهم. وعمر هذه الكنيسة بعض ملوكهم وجعل هذه المدينة وما إليها من القرى والبساتين وقفاً عليها. وصورة ذلك الملك مصورة بالكنيسة المذكورة وهم يعبدونها. وفي بعض جهات هذه المدينة بلدة المسلمين لهم بها المسجد الجامع والزاوية والسوق ولهم قاض وشيخ ولا بد في كل بلد من بلاد الصين من شيخ الإسلام تكون أمور المسلمين كلها راجعة إليه وقاض يقضي بينهم. وكان نزولي عند أوحد الدين السنجاري وهو أحد الفضلاء الأكابر ذوي الأموال الطائلة، وأقمت عنده أربعة عشر يوماً وتحف القاضي وسائر المسلمين تتوالى علي. وكل يوم يصنعون دعوة جديدة ويأتون إليها بالعشارين الحسان والمغنين وليس وراء هذه المدينة مدينة، لا للكفار ولا للمسلمين. وبينها وبين سد يأجوج ومأجوج ستون يوماً فيما ذكر لي، يسكنها كفار رحالة يأكلون بني آدم إذا ظفروا بهم. ولذلك لا تسلك بلادهم ولا يسافر إليها ولم أر بتلك البلاد من رأى السد المذكور ولا من رأى من رآه.

ولما كنت بصين كلان سمعت أن بها شيخاً كبيراً قد أناف على مائتي سنة وأنه لا يأكل ولا يشرب ولا يحدث ولا يباشر النساء مع قوته التامة، وأنه

ص: 491

ساكن في غار بخارجها يتعبد فيه فتوجهت إلى الغار فرأيته على بابه وهو نحيف شديد الحمرة عليه أثر العبادة ولا لحية له فسلمت عليه فأمسك يدي وشمها. وقال للترجمان: هذا من طرف الدنيا كما نحن من طرفها الآخر. ثم قال لي: لقد رأيت عجباً. أتذكر قدومك الجزيرة التي فيها الكنيسة والرجل الذي كان بين الأصنام وأعطاك عشرة دنانير من الذهب؟ فقلت: نعم. فقال أنا هو فقبلت يده. وفكر ساعة ثم دخل الغار فلم يخرج إلينا وكأنه ظهر منه الندم على ما تكلم به فتجهمنا ودخلنا عليه فلم نجده. ووجدنا بعض أصحابه ومعه جملة بوالشت من الكاغد فقال: هذه ضيافتكم فانصرفوا. فقلنا له: ننتظر الرجل. فقال لو أقمتم عشر سنين لم تروه فإن عادته إذا أطلع أحد على سر من أسراره لا يراه بعده ولا تحسب أنه غاب عنك بل هو حاضر معك فعجبت من ذلك وانصرفت. فاعلمت القاضي وشيخ الإسلام وأوحد الدين السنجاري بقضيته، فقالوا: كذلك عادته مع من يأتي إليه من الغرباء ولا يعلم أحد ما ينتحله من الأديان والذي ظننتموه أحد أصحابه هو. وأخبروني أنه غاب عن هذه البلاد نحو خمسين سنة ثم قدم عليها منذ سنة. وكان السلاطين والأمراء والكبراء يأتونه زائرين فيعطيهم التحف على أقدارهم. ويأتيه الفقراء كل يوم فيعطي لكل احد على قدره. وليس في الغار الذي هو به ما يقع عليه البصر وأنه يحدث عن السنين الماضية ويذكر النبي صلى الله عليه وسلم ويقول: لوكنت معه لنصرته ويذكر الخليفتين عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب بأحسن الذكر ويثني عليهما. ويلعن يزيد بن معاوية ويقع في معاوية. وحدثوني عنه بأمور كثيرة. وأخبرني أوحد الدين السنجاري قال: دخلت عليه الغار فأخذ بيدي فخيل لي أني في قصر عظيم وأنه قاعد فيه على سرير وفوق رأسه تاج وعن جانبيه الوصائف الحسان والفواكه تتساقط في أنهار هنالك وتخيلت أني أخذت تفاحة لآكلها فإذا أنا بالغار وبين يديه وهو يضحك مني وأصابني مرض شديد لازمني شهوراً فلم أعد إليه.

وأهل تلك البلاد يعتقدون أنه مسلم. لكن لم يره أحد يصلي وأما الصيام فهو صائم أبداً. وقال لي القاضي: ذكرت له الصلاة في بعض الأيام فقال لي أتدري أنت ما أصنع؟ أن صلاتي غير صلاتك. وأخباره جميعها غريبة. وفي

ص: 492

اليوم الثاني من لقائه سافرت راجعاً إلى مدينة الزيتون.

وبعد وصولي إليها بأيام جاء أمر القان بوصولي إلى حضرته على البر والكرامة. إن شئت في النهر وإلا ففي البر، فاخترت السفر في النهر فجهزوا لي مركباً حسنا من المراكب المعدة لركوب الأمراء، وبعث الأمير معنا أصحابه، ووجه لنا الأمير والقاضي والتجار المسلمون أزوادا كثيرة. وسرنا في الضيافة نتغدى بقرية ونتعشى بأخرى فوصلنا بعد سفر عشرة أيام إلى مدينة قَنْجَنْفُو "وضبط اسمها بفتح القاف وسكون النون وفتح الجيم وسكون النون الآخر وضم الفاء وواو" وهي مدينة كبيبرة حسنة في بسيط أفيح، والبساتين محدقة بها فكأنها غوطة دمشق. وعند وصولنا خرج إلينا القاضي وشيخ الإسلام والتجار ومعهم الأعلام والطبول والأبواق والأنفار وأهل الطرب. وأتونا بالخيل فركبنا ومشوا بين أيدنيا لم يركب معنا غير القاضي والشيخ. وخرج أمير البلد وخدامه. وضيف السلطان عندهم معظم أشد التعظيم. ودخلنا المدينة ولها أربعة أسوار يسكن ما بين السور الأول والثاني عبيد السلطان من حراس المدينة وسمارها، يسمون البَصْوانان "الباسوانان""بفتح الباء الموحدة وسكون الصاد المهمل وواو وألف ونون"، ويسكن ما بين السور الثاني والثالث الجنود لمركبون، والأمير الحاكم على البلد، ويسكن داخل السور الثالث المسلمون. وهنالك نزلنا عند شيخهم ظهير الدين القُرْلاني "بضم القاف وسكون الراء" ويسكن داخل السور الرابع الصينيون، وهوأعظم المدن الأربعة. ومقدار ما بين كل باب منها والذي يليه ثلاثة أميال وأربعة ولكل إنسان كما ذكرناه بستانه وداره وأرضه.

وبينا أنا يوماً في دار ظهير الدين القُرلاني إذا بمركب عظيم لبعض الفقهاء المعظمين عندهم فاستؤذن له علي، وقالوا: مولانا قوام الدين السبتي فعجبت من اسمه. ودخل إلي. فلما حصلت المؤانسة بعد التحية سنح لي أن أعرفه فأطلت النظر إليه، فقال: أراك تنظر إلي نظر من يعرفني. فقلت له: من أي البلاد أنت؟ فقال: من سبته. فقلت له: وأنا من طنجة. فجدد السلام علي وبكى حتى بكيت لبكائه. فقلت له: هل دخلت بلاد الهند؟ فقال لي: نعم دخلت حضرة دهلي. فلما قال لي ذلك تذكرت، وقلت له أأنت البشري؟ قال: نعم. وكان وصل إلى دهلي مع خاله أبي القاسم المرسي وهو يومئذ شاب لا نبات بعارضيه من حذاق الطلبة يحفظ الموطأ. وكنت أعلمت سلطان الهند

ص: 493

بأمره، فأعطاه ثلاثة آلاف دينار وطلب منه الإقامة عنده فأبى. وكان قصده في بلاد الصين فعظم شأنه بها، واكتسب الأموال الطائلة. أخبرني أن له نحو خمسين غلاماً ومثلهم من الجواري وأهدى إلي منهم غلامين وجاريتين وتحفاً كثيرة. ولقيت أخاه بعد ذلك ببلاد السودان فيا بعد ما بينهما. وكانت إقامتي بقنجنفو خمسة عشر يوماً.

وسافرت منها. وبلاد الصين على ما فيها من الحسن لم تكن تعجبني، بل كان خاطري شديد التغير بسبب غلبة الكفر عليها. فمتى خرجت عن منزلي رأيت المناكير الكثيرة فأقلقني ذلك حتى كنت ألازم المنزل فلا أخرج إلا للضرورة وكنت إذا رأيت المسلمين بها فكأني لقيت أهلي وأقاربي. ومن تمام فضيلة هذا الفقيه البشري أن سافر معي لما رحلت عن قنجنفو أربعة أيام حتى وصلت إلى مدينة بَيْوَمقُطْلو "وهي بباء موحدة مفتوحة وياء آخر الحروف ساكنة ووواو مفتوحة وميم وقاف مضمومة وطاء مسكنة وطاء مسكنة ولام مضموم وواو" مدينة صغيرة يسكنها الصينيون من جند وسوقة وليس بها للمسلمين إلا أربعة من الدور أهلها من جهة الفقيه المذكور. نزلنا بدار أحدهم وأقمنا عنده ثلاثة أيام ثم ودعت الفقيه وانصرفت. فركبت النهر على العادة نتغدى بقرية ونتعشى بأخرى إلى أن وصلنا بعد سبعة عشر يوماً منها إلى مدينة الخنساء واسمها على نحو اسم الخنساء الشاعرة، ولا أدري أعربي هو أم وافق العربي. وهذه المدينة أكبر مدينة رأيتها على وجه الأرض. طولها مسيرة ثلاثة أيام يرحل المسافر فيها وينزل.

وهي على ما ذكرناه من ترتيب عمارة الصين كل واحد له بستانه وداره وهي منقسمة إلى ست مدن سنذكرها. وعند وصولنا إليها خرج إلينا قاضيها فخر الدين وشيخ الإسلام بها وأولاد عثمان بن عفان المصري، وهم كبراء المسلمين بها، ومعهم علم أبيض والأطبال والأنفار والأبواق. وخرج أمير ها في موكبه ودخلنا المدينة. وهي ست مدن على كل مدينة سور ومحدق بالجميع سور واحد.

فأول مدينة منها يسكنها حراس المدينة وأميرهم. حدثني القاضي وسواه انهم اثنا عشر ألفا في زمام العسكرية. وبتنا ليلة دخولنا في دار أميرهم. وفي اليوم الثاني دخلنا المدينة الثانية على باب يعرف بباب اليهود ويسكن بها اليهود والنصارى والترك عبدة الشمس وهم كثير. وأمير هذه المدينة من أهل الصين. وبتنا عنده الليلة الثانية.

ص: 494

وفي اليوم الثالث دخلنا المدينة الثالثة ويسكنها المسلمون ومدينتهم حسنة وأسواقهم مرتبة كترتيبها في بلاد الإسلام وبها المساجد والمؤذنون سمعناهم يؤذنون بالظهر عند دخولنا ونزلنا منها بدار أولاد عثمان بن عفان المصري وكان أحد التجار الكبار استحسن هذه المدينة فاستوطنها وعرفت بالنسبة إليه وأورث عقبه بها الجاه والحرمة وهم على ما كان عليه أبوهم من الإيثار على الفقراء والإعانة للمحتاجي. ن ولهم زاوية تعرف بالعثمانية حسنة العمارة لها أوقاف كثيرة وبها طائفة من الصوفية وبني عثمان المذكور المسجد الجامع بهذه لمدينة ووقف عليه وعلى الزاوية أوقاف عظيمة وعدد المسلمين بهذه المدينة كثير. وكانت إقامتنا عندهم خمسة عشر يوماً فكنا كل يوم وليلة في دعوة جديدة ولا يزالون يختلفون في أطعمتهم ويركبون معنا كل يوم للنزهة في أقطار المدينة، وركبوا معي يوماً فدخلنا إلى المدينة الرابعة وهي دار الإمارة وبها سكنى الأمير الكبير قرطي ولما دخلنا من بابها ذهب عني أصحابي. ولقيني الوزير وذهب بي إلى دار الأمير الكبير قرطي فكان من أخذه الفرجية التي أعطانيها ولي الله جلال الدين الشيرازي ما قد ذكرته. وهذه المدينة منفردة لسكنى عبيد السلطان وخدامه وهي أحسن المدن الست. ويشقها أنهار ثلاثة أحدها خليج يخرج من النهر الأعظم وتأتي فيه القوارب الصغار إلى هذه المدينة بالمرافق من الطعام وأحجار الوقود وفيه السفن للنزهة. والمشور في وسط هذه المدينة وهو كبير جداً. ودار الإمارة في وسطه وهو يحف بها من جميع الجهات. وفيه سقائف فيها الصناع يصنعون الثياب النفيسة وآلات الحرب. أخبرني الأمير قرطي أن عددهم ألف وستمائة معلم. كل واحد منهم يتبعه الثلاثة والأربعة من المتعلمين وهم أجمعون عبيد القان وفي أرجلهم القيود ومساكنهم خارج القصر. ويباح لهم الخروج إلى أسواق المدينة دون الخروج على بابها. ويعرضون كل يوم على الأمير مائة مائة، فإن نقص أحدهم طلب به أميره. وعادتهم أنه إذا خدم أحدهم عشر سنين فك عنه قيده وكان يخير في النظرين إما أن يقيم في الخدمة غير مقيد وإما أن يسير حيث شاء من بلاد القان ولا يخرج عنها. وإذا بلغ سنة خمسين عاماً أعتق من الأشغال وأنفق عليه وكذلك ينفق على من بلغ هذه السن أو نحوها من سواهم. ومن بلغ ستين

ص: 495

سنة عدوه كالصبي فلم تجر عليه الأحكام. والشيوخ بالصين يعظمون تعظيماً كثيراص ويسمى أحدهم آطا، ومعناه الوالد.

وكان الأمير الكبير قُرْطيْ وضبط اسمه "بضم القاف وسكون والراء وفتح الطاء المهمل وسكون الياء" أمير أمراء الصين، أضافنا بداره وصنع الدعوة ويسمونها الطُّوى "بضم الطاء المهمل وفتح الواو" وحضرها كبار المدينة. وأتى بالطباخين المسلمين فذبحوا وطبخوا الطعام. وكان هذا الأمير على عظمته يناولنا الطعام بيده ويقطع اللحم بيده. وأقمنا في ضيافته ثلاثة أيام وبعث ولده معنا إلى الخليج. فركبنا في سفينة تشبه الحراقة، وركب ابن الأمير في أخرى، ومعه أهل الطرب وأهل الموسيقى وكانوا يغنون بالصيني وبالعربي وبالفارسي، وكان ابن الأمير معجباً بالغناء الفارسي، فغنوا شعرا منه. وأمرهم بتكريره مراراً حتى حفظته من أفواههم. وله تلحين عجيب وهو:

تادل بمحنت داديم

در بحر فكر افتاديم

جن "جون در نماز استاديم

قوي بمحراب اندرى "اندريم"1

واجتمعت بذلك الخليج من السفن طائفة كبيرة لهم القلاع الملونة ومظلات الحرير وسفنهم منقوشة أبدع نقش وجعلوا يتحاملون ويترامون بالنارنج والليمون. وعدنا بالعشي إلى دار الأمير فبتنا بها وحضر أهل الطرب فغنوا بأنواع من الغناء العجيب.

وفي تلك الليلة حضر أحد المشعوذة، وهو من عبيد القان، فقال له الأمير: أرنا من عجائبك فأخذ كرة خشب لها ثقب فيها سيور طوال فرمى بها إلى الهواء فارتفعت حتى غابت عن الأبصار ونحن في وسط المشور أيام الحر الشديد فلما لم يبق من السير في يده إلا يسير أمر متعلما له فتعلق به وصعد في الهواء إلى أن غاب عن أبصارنا فدعاه فلم يجبه ثلاثاً، فأخذ سكيناً بيده كالمغتاظ وتعلق بالسير إلى أن غاب أيضاً، ثم رمى بيد الصبي إلى الأرض ثم رمى برجله ثم بيده الأخرى ثم برجله الأخرى ثم بجسده ثم برأسه، ثم هبط وهو ينفخ وثيابه ملطخة بالدم. فقبل الأرض بين يدي الأمير، وكلمه

1 معنى هذا الشعر: إننا منذ أسلمنا أنفسنا للأحزان غرقنا في بحر التفكير، ولكنا عندما نقف بالمحراب لنصلي نكون أقوياء.

ص: 496

بالصيني وأمر له الأمير بشيء.

ثم أنه أخذ أعضاء الصبي فألصق بعضها ببعض وَرَكَلَهُ برجله فقام سوياً فعجبت منه. وأصابني خقفان القلب كمثل ما كان أصابني عند ملك الهند حين رأيت مثل ذلك فسقوني دواء أذهب عني ما وجدت. وكان القاضي فخر الدين إلى جانبي، فقال لي: والله ما كان من صعود ولا نزول ولا قطع عضو وإنما شعوذة. وفي غد تلك الليلة دخلنا من باب المدينة الخامسة وهي من أكبر المدن يسكنها عامة الناس وأسواقها حسان وبها الحذاق بالصنائع وبها تصنع الثياب الخنساوية. ومن عجيب ما يصنعون بها أطباقاً يسمونها الدست، وهي من القصب وقد ألصقت قطعة أبدع إلصاق ودهنت بصبغ أحمر مشرق وتكون هذه الأطباق عشرة واحداً في جوف آخر لرقتها تظهر لرائيها كأنها طبق واحد. ويصنعون غطاء يغطى جميعها ويصنعون من هذا القصب صحافاً. ومن عجائبها أن تقع من العلو فلا تنكسر ويجعل فيها الطعام السخن فلا يتغير صباغها ولا يحول. وتجلب من هنالك إلى الهند وخراسان وسواها.

ولما دخلنا هذه المدينة بتنا ليلة في ضيافة أميرها. وبالغد دخلنا من باب يسمى كشتي وانان إلى المدينة السادسة. ويسكنها البحرية والصيادون والجلافطة والنجارون، ويدعون دودكاران "درودكران" والأصباهية وهم الرماة، والبيادة وهم الرجالة، وجميعهم عبيد السلطان. ولا يسكن معهم سواهم وعددهم كثير. وهذه المدينة على ساحل النهر الأعظم بتنا بها ليلة في ضيافة أميرها وجهز لنا الأمير قُرْطَي مركبا بما يحتاج إليه من زان وسواه وبعث معنا أصحابه برسم التضييف.

وسافرنا من هذه المدينة وهي آخر أعمال الصين ودخلنا إلى بلاد الخطا "بكسر الخاء المعجم وطاء مهمل"، وهي أحسن بلاد الدنيا عمارة. ولايكون في جميعها موضع غير معمور فإنه أن بقي موضع غير معمور طلب أهله أو من يواليهم بخراجه. والبساتين والقرى والمزارع منتظمة بجانبي هذا النهر من مدينة الخنسا إلى مدينة خان بالق وذلك مسيرة أربعة وستين يوماً. وليس بها أحد من المسلمين إلا من كان خاطراً غير مقيم، لأنها ليست بدار مقام وليس بها مدينة مجتمعة إنما هي قرى وبسائط فيها الزرع والفواكه والسكر ولم أر في الدنيا

ص: 497

مثلها غير مسيرة أربعة أيام من الأنبار إلى عانة. وكنا كل ليلة ننزل بالقرى لأجل الضيافة حتى وصلنا إلى مدينة خان بالق "ضبط اسمها بخاء معجم وألف ونون مسكن وباء معقود وألف ولام مكسور وقاف"، وتسمى أيضاً خانِقو "بخاء معجم ونون مكسور وقاف وواو"، وهي حضرة القان، والقان هو سلطانهم الأعظم الذي مملكته بلاد الصين والخِطا. ولما وصلنا إليها أرسينا على عشرة أميال منها على العادة عندهم. وكتب إلى أمراء البحر بخبرنا فأذنوا لنا في دخول مرساها فدخلناه ثم نزلنا إلى المدينة، وهي من أعظم مدن الدنيا وليست على ترتيب بلاد الصين في كون البساتين داخلها. إنما هي كسائر البلاد والبساتين بخارجها، ومدينة السلطان في وسطها كالقصبة حسبما نذكره. ونزلت عند الشيخ برهان الدين الصاغرجي وهو الذي بعث إليه ملك الهند بأربعين ألف دينار واستدعاه فأخذ الدنانير وقضى بها دينه وأبى أن يسير إليه وقدم على بلاد الصين فقدمه القان على جميع المسلمين الذين ببلاده وخاطبه بصدر الجهان.

والقان عندهم سمة لكل من يلي الملك ملك الأقطار كمثل ما يسمى كل من ملك بلاد اللور بأتابك واسمه بَاشَاي "بفتح الباء المعقودة والشين المعجمة وسكون الياء". وليس للكفار على وجه الأرض مملكه أكبر من مملكته.

وقصره في وسط المدينة المختصة بسكناه وأكثر عمارته بالخشب المنقوش وله ترتيب عجيب. وعليه سبعة أبواب: فالباب الأول منها يجلس به الكتوال وهو أمير البوابين وله مصاطب مرتفعة عن يمين الباب ويساره فيها المماليك البرددارية وهم حفاظ باب القصر وعددهم خمسمائة رجل. وأخبرت أنهم كانوا فيما تقدم ألف رجل. والباب الثاني يجلس عليه الأصباهية وهم الرماة وعددهم خمسمائة. والباب الثالث يجلس عليه النزدارية "بالنون والزاي" وهم أصحاب الرماح وعددهم خمسمائة. والباب الرابع يجلس عليه التغدارية "بالتاء المثناة والغين المعجم"، وهم أصحاب السيوف والترسة. والباب الخامس فيه ديوان الوزارة، وبه سقائف كثيرة. فالسقيفة العظمى يقعد بها الوزير على مرتبة هائلة مرتفعة، ويسمون ذلك الموضع المسند. وبين يدي الوزير دواة عظيمة من الذهب. وتقابل هذه السقيفة سقيفة كاتب السر. وعن يمينها شقيفة كُتّاب الرسائل، وعن يمين سقيفة الوزير سقيفة كُتّاب الأشغال.

ص: 498

وتقابل هذه الساقئف سقائف أربع. إحداها تسمى ديوان الأشراف، يقعد بها المشرف، والثانية سقيفة ديوان المستخرج، وأميرها من كبار الأمراء، والمستخرج هو ما يبقى قبل العمال وقبل الأمراء من إقطاعاتهم، والثالثة ديوان الغوث، ويجلس فيها أحد الأمراء الكبار ومعه الفقهاء والكتاب. فمن لحقته مظلمة استغاث بهم. والرابعة ديوان البريد، يجلس فيها أمير الإخباريين. والباب السادس من أبواب القصر يجلس عليه الجندارية، وأميرهم الأعظم، والباب السابع يجلس عليه الفتيان ولهم ثلاثة سقائف: إحداهما سقيفة الحبشان منهم، والثانية سقيفة الهنود، والثالثة سقيفة الصينيين. لكل طائفة منهم أمير من الصينيين.

ولما وصلنا حضرة خان بالق وجدنا القان غائباً عنها إذ ذاك وخرج للقاء ابن عمه فيروز القائم عليه بناحية قراقرم وبش بالغ من بلاد الخطا. وبينها وبين الحضرة مسيرة ثلاثة أشهر عامرة. وأخبرني صدر الجهان برهان الدين الصاغرجي أن القان لما جمع الجيوش وحشد الحشود اجتمع عليه من الفرسان مائة فوج، كل فوج منها من عشرة آلاف فارس. وأميرهم يسمى أمير طومان وكان خواص السلطان وأهل دخلته خمسين ألفاً زائداً إلى ذلك. وكانت الرجالة خمسمائة ألف. ولما خرج خالف عليه أكثر الأمراء واتفقوا على خلعه. لأنه كان قد غير أحكام اليساق وهي الأحكام التي وضعها تنكيز خان جدهم الذي خرب بلاد الإسلام. فمضوا إلى ابن عمه القائم وكتبوا إلى القان أن يخلع نفسه وتكون مدينة الخنسا إقطاعاً له فأبى ذلك وقاتلهم فانهزم وقتل. وبعد أيام من وصولنا إلى حضرته ورد الخبر بذلك فزينت المدينة وضربت الطبول والأبواق والأنفار واستعمل اللعب والطرب مدة شهر.

ثم جيء بالقان المقتول، وبنحو مائة من المقتولين بني عمه وأقاربه وخواصه. فحفر للقان ناووس عظيم، وهو بيت تحت الأرض، وفرش بأحسن الفرش وجعل فيه القان بسلاحه وجعل معه ما كان في داره من أواني الذهب والفضة وجعل معه أربع من الجواري وستة من خواص المماليك معهم أواني الشراب وبني باب البيت وجعل فوقه التراب حتى صار كالتل العظيم.

ثم جاءوا بأربعة أفراس فأجروها عند قبره حتى وقفت، ونصبوا خشباً على القبر وعلقوها عليه. بعد أن دخلوا في دبر كل فرس خشبة حتى خرجت من

ص: 499

فمه، وجعل أقارب القان المذكورون في نواويس ومعهم سلاحهم وأواني دورهم وصلبوا على قبور كبارهم. وكانوا عشرة: ثلاثة من الخيل على كل قبر وعلى قبور الباقين فرساً فرساً. وكان هذا اليوم يوما مشهوداً لم يتخلف عنه أحد من الرجال ولا النساء والمسلمين والكفار وقد لبسوا أجمعون ثياب العزاء وهي الطيالسة البيض للكفار والثياب البيض للمسلمين. وأقام خواتين القان وخواصه في الأخبية على قبره أربعين يوماً وبعضهم يزيد على ذلك إلى سنة. وصنعت هنالك سوق يباع فيها ما يحتاجون إليه من طعام وسواه. وهذه الأفعال لا أذكر أن أمة تفعلها سواهم في هذا العصر. فأما الكفار من الهنود وأهل الصين فيحرقون موتاهم وسواهم من الأمم يدفنون الميت ولا يجعلون معه أحداً لكن أخبرني الثقات ببلاد السودان أن الكفار منهم إذا مات ملكهم صنعوا له ناووسا وأدخلوا معه بعض خواصه وخدامه وثلاثين من أبناء كبارهم وبناتهم بعد أن يكسروا أيديهم وأرجلهم ويجعلون معهم أواني الشراب. وأخبرني بعض كبار مسوفة ممن يسكن بلاد كوبر مع السودان واختصة سلطانهم أنه كان له ولد. فلما مات سلطانهم أرادوا أن يدخلوا ولده مع من أدخلوه من أولادهم، قال: فقلت لهم كيف تفعلون ذلك وليس على دينكم ولا من ولدكم؟ ثم فديته منهم بمال عريض. ولما قتل القان كما ذكرناه واستولى ابن عمه فيروز على الملك اختار أن تكون حضرته مدينة قَرَاقُرُم "وضبطها بفتح القاف الأول والراء وضم الثانية وضم الراء الثانية"، لقربها من بلاد بني عمه ملوك تركستان وما وراء النهر. ثم خالفت عليه الأمراء ممن لم يحضر لقتل القان وقطعوا الطرق وعظمت الفتن.

ولما وقع الخلاف وتسعرت الفتن أشار علي الشيخ برهان الدين وسواه أن أعود إلى الصين قبل تمكن الفتن، ووقفوا معي إلى نائب السلطان فيروز، فبعث معي ثلاثة من أصحابه وكتب لي بالضيافة. وسرنا منحدرين في النهر إلى الخنسا ثم إلى قنجفو ثم إلى الزيتون. فلما وصلتها وجدت الجنوك على السفر إلى الهند وفي جملتها جنك للملك الظاهر صاحب الجاوة وأهله مسلمون. وعرفني وكيله وسر بقدومي. وصادفنا الريح الطيبة عشرة أيام، فلما قاربنا بلاد طوالسي تغيرت الريح، وأظلم الجو وكثر المطر، وأقمنا عشرة أيام لا نرى الشمس. ثم دخلنا بحراً لا نعرفه وخاف أهل الجنك فأرادوا الرجوع

ص: 500

لى الصين فلم يتمكن ذلك. وأقمنا اثنين وأربعين يوماً نعرف في أي البحار نحن.

ولما كان في اليوم الثالث والأربعين، ظهر لنا بعد طلوع الفجر جبل في البحر، بيننا وبينه نحو عشرين ميلاً، والريح تحملنا إلى صوبه. فعجب البحرية وقالوا: لسنا بقرب من البر ولا يعهد في البحر جبل وإن اضطرتنا الريح إليه هلكنا فلجأ الناس إلى التضرع والإخلاص، وجددوا التوبة، وابتهلنا إلى الله بالدعاء وتوسلنا بنبيه صلى الله عليه وسلم ونذر التجار الصدقات الكثيرة وكتبتها لهم في زمام بخطي وسكنت الريح بعض سكون، ثم رأينا ذلك الجبل عند طلوع الشمس قد ارتفع في الهواء وظهر الضوء فيما بينه وبين البحر فعجبنا من ذلك. ورأيت البحرية يبكون ويودع بعضهم بعضاً، فقلت: ما شأنكم؟ فقالوا: إن الذي تخيلناه جبلاً هو الرخ. وإن رآنا أهلكنا. وبيننا وبينه إذ ذاك أقل من عشرة أميال. ثم إن الله تعالى منّ علينا بريح طيبة صرفتنا عن صوبه فلم نره ولا عرفنا حقيقة صورته. وبعد شهرين من ذلك اليوم وصلنا الجاوة ونزلنا إلى سمطرة فوجدنا سلطانها الملك الظاهر قد قدم من غزوة له وجاء بسبي كثير فبعث لي جاريتين وغلامين وأنزلني على العادة وحضرت إعراس ولده مع بنت أخيه.

وشاهدت يوم الجلوة فرأيتهم قد نصبوا في وسط المشور منبراً كبيراً وكسوه بثياب الحرير وجاءت العروس من داخل القصر على قدميها بادية الوجه ومعها نحو أربعين من الخواتين يرفعن أذيالها من نساء السلطان وأمرائه ووزارئه وكلهن باديات الوجوه ينظر إليهن كل من حضر من رفيع أو وضيع وليست تلك بعادة لهن إلا في الأعراس خاصة. وصعدت العروس المنبر وبين يديها أهل الطرب رجالاً ونساء يلعبون ويغنون. ثم جاء الزوج على فيل مزيّن على ظهره سرير وفوقه قبة شبيه البوجة، والتاج على رأس العروس المذكور، وعن يمينه ويساره نحو مائة من أبناء الملوك والأمراء قد لبسوا البياض وركبوا الخيل المزينة وعلى رؤوسهم الشواشي المرصعة وهم أتراب العروس ليس فيهم ذو لحية. ونثرت الدنانير والدراهم على النسا عند دخوله. وقعد السلطان بمنظرة له يشاهد ذلك. ونزل ابنه فقبل رجله وصعد المنبر إلى العروس فقامت إليه وقبلت يده وجلس إلى جانبها والخواتين يروحون عليها، وجاءوا بالفوفل والتنبول. فأخذه الزوج بيده وجعل منه في فمها. ثم أخذت

ص: 501

هي بيديها وجعلت في فمه. ثم أخذ الزوج بفمه ورقة تنبول وجعلها في فمها وذلك كله على أعين الناس ثم فعلت هي كفعله، ثم وضع عليها الستر، ورفع المنبر وهما فيه إلى داخل القصر. وأكل الناس وانصرفوا. ثم لما كان من الغد جمع الناس وأجرى له أبوه ولاية العهد وبايعه الناس وأعطاهم العطاء الجزل من الثياب والذهب. وأقمت بهذه الجزيرة شهرين ثم ركبت في بعض الجنوك.

وأعطاني السلطان كثيراً من العود والكافور والقرنفل والصندل وزودني. وسافرت عنه فوصلت بعد أربعين يوماً إلى كولم فنزلت بها في جوار القزويني قاضي المسلمين وذلك في رمضان. وحضرت بها صلاة العيد في مسجدها الجامع. وعادتهم أن يأتوا المسجد ليلاً فلا يزالون يذكرون الله إلى الصبح ثم يذكرون إلى حين صلاة العيد ثم يصلون ويخطب الخطيب وينصرفون. ثم سافرنا من كولم إلى قالقوط وأقمنا بها أياماً. وأردت العودة إلى دهلي ثم خفت من ذلك. فركبت البحر فوصلت بعد ثمان وعشرين ليلة إلى ظفار وذلك في محرم سنة ثمان وأربعين ونزلت بدار خطيبها عيسى بن طأطأ.

وكان سلطان ظفار في هذه الكرة الملك الناصر بن الملك المغيث، الذي كان ملكاً بها حين وصولي إليها فيما تقدم، ونائبه سيف الدين عمر أمير جندر، التركي الأصل. وأنزلني هذا السلطان، وأكرمني. ثم ركبت البحر، فوصلت إلى مَسْقط "بفتح الميم" وهي بلدة صغيرة بها السمك الكثير المعروف بقُلب الماس. ثم سافرنا إلى مرسى القُرَيات "وضبطها بضم القاف وفتح الراء والياء آخر الحروف وألف وتاء مثناة". ثم سافرنا إلى مرسى شَبَّه "وضبط اسمها بفتح الشين المعجم وفتح الباء الموحدة وتشديدها" ثم إلى مرسى كَلْبَة، ولفظها على لفظ مؤنث الكلب. ثم إلى قلهات، وقد تقدم ذكرها. وهذه البلاد كلها من عمالة هرمز وهي محسوبة من بلاد عمان. ثم سافرنا إلى هرمز وأقمنا بها ثلاثاً. وسافرنا في البر إلى كورستان ثم إلى اللار ثم إلى خنج بال، وقد تقدم ذكر جميعها. ثم سافرنا إلى كَارْزِي وأقمنا بها ثلاثاً.

ثم سافرنا إلى جَمَكَان "وضبط اسمها بفتح الجيم والميم والكاف وآخره نون"، ثم سافرنا منها إلى مَيْمَن "وضبط اسمها بفتح الميمين وبينهما ياء آخر

ص: 502

الحروف مسكنة وآخره نون"، ثم سافرنا إلى بَسّا "وضبط اسمها بفتح الباء الموحدة والسين المهمل مع تشديدها"، ثم إلى مدينة شيراز. فوجدنا سلطانها أبا إسحاق على ملكه إلا أنه كان غائباً عنها. ولقيت بها شيخنا الصالح العالم مجد الدين قاضي القضاة وهو قد كف بصره نفعه الله ونفع به. ثم سافرت إلى ماين، ثم إلى يزدخاص، ثم إلى كليل، ثم إلى كشك زر، ثم إلى أصبهان، ثم إلى تستر، ثم إلى الحويزا، ثم إلى البصرة، وقد تقدم ذكر جميعها. وزرت بالبصرة القبور الكريمة التي بها وهي قبر الزبير بن العوام وطلحة بن عبيد الله وحليمة السعدية وأبي بكرة وأنس بن ملك والحسن البصري وثابت البناني ومحمد بن سيرين ومالك بن دينار ومحمد بن واسع وحبيب العجمي وسهل بن عبد الله التستري رضي الله تعالى عنهم أجمعين. ثم سافر من البصرة، فوصلنا إلى مشهد علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وزرناه. ثم توجهنا إلى الكوفة فزرنا مسجدها المبارك، ثم إلى الحلة حيث مشهد صاحب الزمان، واتفق في بعض تلك الأيام أن وليها بعض الأمراء فمنع أهلها من التوجه على عادتهم إلى مسجد صاحب الزمان، وانتظاره هنالك. ومنع عنهم الدابة التي كانوا يأخذونها كل ليلة من الأمير، فأصابت ذلك الوالي علة مات منها سريعاً فزاد ذلك في فتنة الرافضة وقالوا إنما أصابه ذلك لأجل منعه الدابة فلم تمنع بعد. ثم سافرت إلى صرصر، ثم إلى مدينة بغداد. وصلتها في شوال سنة ثمان وأربعين، ولقيت بها بعض المغاربة فعرفني بكائنة طريف، واستيلاء الروم على الخضراء. جبر الله صدع الإسلام في ذلك.

وكان سلطان بغداد والعراق في عهد دخولي إليها في التاريخ المذكور الشيخ حسن بن عمة السلطان أبي سعيد رحمه الله. ولما مات أبو سعيد استولى على ملكه بالعراق وتزوج زوجته دلشاد بنت دمشق خواجة بن الأمير الجوبان حسبما كان فعله السلطان أبو سعيد من تزوج زوجة الشيخ حسن. وكان السلطان حسن غائباً عن بغداد في هذه المدة متوجها لقتال السلطان أتابك افراسياب صاحب بلاد اللور. ثم رحلت من بغداد فوصلت إلى مدينة الأنبار ثم إلى هيت ثم إلى الحديثة ثم إلى عانة. وهذه البلاد من أحسن البلاد وأخصبها. والطريق فيما بينها كثيرة العمارة كأن الماشي في سوق من الأسواق وقد ذكرنا أنا لم نر ما يشبه البلاد التي على نهر الصين إلا هذه البلاد. ثم

ص: 503

وصلت إلى مدينة الرحبة، وهي التي تنسب إلى مالك بن طوق. ومدينة الرحبة أحسن بلاد العراق، وأول بلاد الشام. ثم سافرنا إلى السخنة وهي بلدة حسنة، أكثر سكانها الكفار من النصارى. وإنما سميت السخنة لحرارة مائها وفيه بيوت للرجال وبيوت للنساء يستحمون فيها ويستقون الماء ليلاً ويجعلونه في السطوح ليبرد. ثم سافرنا إلى تدمر، مدينة نبي الله سليمان عليه السلام التي بنتها له الجن، كما قال النابغة:

يبنون تدمر بالصُّفَّاحِ والعَمَد

ثم سافرنا منها إلى مدينة دمشق الشام، وكانت مدة مغيبي عنها عشرين سنة كاملة. وكنت تركت بها زوجة لي حاملاً وتعرفت وأنا ببلاد الهند أنها ولدت ولداً ذكراً فبعثت حينئذ إلى جده للأم وكان من أهل مكناسة المغرب أربعين ديناراً ذهباً هندياً. فحين وصولي إلى دمشق في هذه الكرة لم يكن لي هم إلا السؤال عن ولدي. فدخلتُ المسجد فوفق لي نور الدين السخاوي إمام المالكية وكبيرهم فسلمت عليه فلم يعرفني فعرفته بنفسي، وسألته عن الولد فقال: مات منذ ثنتي عشر سنة. وأخبرني أنّ فقيهاً من أهل طنجة يسكن بالمدرسة الظاهرية، فسرت إليه لأسأله عن والدي وأهلي فوجدته شيخاً كبيراً فسلمت عليه وانتسبت له فأخبرني أنّ والدي توفي منذ خمس عشرة سنة، وأن الوالدة بقيد الحياة. وأقمت بدمشق الشام بقية العام والغلاء شديد والخبز قد انتهى إلى قيمة سبع أواقي بدرهم نقرة وأوقيتهم أربع أواقي مغربية. وكان قاضي قضاة المالكية إذ ذاك جمال الدين المسلاتي وكان من أصحاب الشيخ علاء الدين القونوي وقدم معه دمشق فعرف بها. ثم ولي القضاء وقاضي قضاة الشافعية تقي الدين بن السبكي، وأمير دمشق ملك الأمراء أرغون شاه.

ومات في تلك الأيام بعض كبراء دمشق، وأوصى بمال للمساكين. فكان المتولي لإنفاذ الوصية يشتري الخبز ويفرقه عليهم كل يوم بعد العصر. فاجتمعوا في بعض الليالي وتزاحموا واختطفوا الخبز الذي يفرق عليهم، ومدوا أيديهم إلى خبز الخبازين. وبلغ ذلك الأمير أرغون شاه فأخرج زبانيته فكانوا حيث ما لقوا أحدا من المساكين قالوا له: تعال نأخذ الخبز فاجتمع منهم عدد كثير. فحبسهم تلك الليلة وركب من الغد وأحضرهم تحت القلعة وأمر بقطع أيديهم وأرجلهم. وكان أكثرهم براء عن ذلك. وأخرج طائفة الحرافيش عن

ص: 504

دمشق فانتقلوا إلى حمص وحماة وحلب. وذكر لي أنه لم يعش بعد ذلك إلا قليلاً وقتل. ثم سافرت من دمشق إلى حمص ثم حماة ثم المعرة ثم سرمين ثم إلى حلب. وكان أمير حلب في هذا العهد الحاج رُغْطَي "بضم الراء وسكون الغين المعجم وفتح الطاء المهمل وياء آخر الحروف مسكنة".

واتفق في تلك الأيام أنّ فقيراً يعرف بشيخ المشايخ وهو ساكن في جبل خارج مدينة عينتاب والناس يقصدونه هم يتبركون به. وله تلميذ ملازم له وكان متجرداً عزباً لا زوجة له، قال في بعض كلامه: إن النبي صلى الله عليه وسلم كان لا يصبر عن النساء وأنا أصبر عنهن. فشهد عليه بذلك، وثبت عند القاضي ورفع أمره إلى ملك الأمراء وأتي به وبتلميذه الموافق له على قوله، فأفتى القضاة الأربعة وهم: شهاب الدين المالكي، وناصر الدين العديم الحنفي، وتقي الدين بن الصائغ الشافعي، وعز الدين الدمشقي الحنبلي، بقتلهما معا فقتلَا. وفي أوائل شهر ربيع الأول عام تسعة وأربعين بلغنا الخبر في حلب أن الوباء وقع بغزة وأنه انتهى عدد الموتى فيها إلى زائد على الألف في يوم واحد. فسافرت إلى حمص فوجدت الوباء قد وقع بها ومات يوم دخولي إليها نحو ثلثمائة إنسان. ثم سافرت إلى دمشق ووصلتها يوم الخميس وكان أهلها قد صاموا ثلاثة أيام وخرجوا يوم الجمعة إلى جامع الأقدام حسبما ذكرناه في السفر الأول. فخفف الله الوباء عنهم، فانتهى عدد الموتى عندهم إلى ألفين وأربعمائة في اليوم، ثم سافرت إلى عجلون ثم إلى بيت المقدس ووجدت الوباء قد ارتفع عنهم، ولقيت خطيبه عز الدين بن جماعة ابن عم عز الدين القضاة بمصر

وهو من الفضلاء الكرماء ومرتبه على الخطابة ألف درهم في الشهر.

وصنع الخطيب عز الدين يوماً دعوة ودعاني فيمن دعاه إليها فسألته عن سببها فأخبرني أنه نذر أيام الوباء أنه إن ارتفع ذلك، ومر عليه يوم لا يصلي فيه على ميت، صنع الدعوة. ثم قال لي: ولما كان بالأمس لم أصل على ميت فصنعت الدعوة التي نذرت. ووجدت من كنت أعهده من جميع الأشياخ بالقدس قد انتقلوا إلى جوار الله تعالى رحمهم الله. فلم يبق منهم إلا القليل مثل المحدث العالم الإمام صلاح الدين خليل بن كيكلدي العلائي، ومثل الصالح شرف الدين الخشي شيخ زاوية المسجد الأقصى، ولقيت الشيخ سليمان الشيرازي فأضافني. ولم ألق بالشام ومصر من وصل إلى قدم آدم عليه السلام

ص: 505

سواه.

ثم سافرت عن القدس ورافقني الواعظ المحدث شرف الدين سليمان المليانين وشيخ المغاربة بالقدس الصوفي الفاضل طلحة العبد الوادي. فوصلنا إلى مدينة الخليل عليه السلام وزرناه ومن معه من الأنبياء عليهم السلام. ثم سرنا إلى غزة فوجدنا معظمها خاليا من كثرة من مات بها في الوباء. وأخبرنا قاضيها أن العدول بها كانوا ثمانين، فبقي منهم الربع، وأن عدد الموتى بها انتهى إلى ألف ومائة في اليوم.

ثم سافرنا في البر فوصلت إلى دمياط ولقيت بها قطب الدين النفشواني وهو صائم الدهر، ورافقني منها إلى فارسكور وسمنود ثم إلى أبي صير "بكسر الصاد المهمل وياء وراء"، ونزلنا في زاوية لبعض المصريين بها.

وبينما نحن بتلك الزاوية إذ دخل علينا أحد الفقراء فسلم وعرضنا عليه الطعام فأبى وقال إنما قصدت زيارتكم ولم يزل ليلته تلك ساجداً وراكعاً، ثم صلينا الصبح واشتغلنا بالذكر والفقير بركن الزاوية فجاء الشيخ بالطعام ودعاه فلم يجبه. فمضى إليه فوجده ميتاً فصلينا عليه ودفناه رحمة الله عليه. ثم سافرت إلى المحلة الكبيرة ثم إلى نحرارية ثم إلى أبيار ثم إلى دمنهور ثم إلى الإسكندرية. فوجدت الوباء قد خف بها بعد أن بلغ عدد الموتى إلى ألف وثمانين في اليوم. ثم سافرنا إلى القاهرة وبلغني أن عدد الموتى أيام الوباء انتهى فيها إلى واحد وعشرين ألفاً في اليوم. ووجدت جميع من كان بها من المشايخ الذين أعرفهم قد ماتوا، رحمهم الله تعالى.

وكان ملك ديار مصر في هذا العهد الملك الناصر حسن بن الملك الناصر محمد بن الملك المنصور قلاوون وبعد ذلك خلع عن الملك وولي أخوه الملك الصالح. ولما وصلت القاهرة وجدت قاضي القضاة عز الدين بن قاضي القضاة بدر الدين بن جماعة قد توجه إلى مكة في ركب عظيم يسمونه الرجبي لسفرهم في شهر رجب، وأخبرت أن الوباء لم يزل معهم حتى وصلوا إلى عقبة أيلة فارتفع عنهم. ثم سافرت من القاهرة إلى بلاد الصعيد وقد تقدم ذكرها، إلى عيذاب. وركبت منها البحر فوصلت إلى جدة. ثم سافرت منها إلى مكة شرفها الله تعالى وكرمها فوصلتها في الثاني والعشرين لشعبان سنة تسع

ص: 506

وأربعين. ونزلت في جوار إمام المالكية الصالح الولي الفاضل أبي عبد الله محمد بن عبد الرحمن المدعو بخليل. فصمت شهر رمضان بمكة، وكنت أعتمر كل يوم على مذهب الشافعي. ولقيت ممن أعهده من أشياخها شهاب الدين الحنفي، وشهاب الدين الطبري، وأبا محمد اليافعي، ونجم الدين الأصفوني، والحرازي. وحججت في تلك السنة. ثم سافرت مع الركب الشامي إلى طيبة مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم. وزرت قبره المكرم، زاده الله طيباً وتشريفاً. وصليت في المسجد الكريم طهره الله وزاده تعظيماً، وزرت من بالبقيع من أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم ورضي عنهم. ولقيت من الأشياخ أبا محمد بن فرحون. ثم سافرنا من المدينة الشريفة إلى العلا وتبوك ثم إلى بيت المقدس ثم إلى مدينة الخليل صلى الله عليه وسلم ثم إلى غزة ثم إلى منازل الرمل وقد تقدم ذكر ذلك كله. ثم إلى القاهرة وهنالك تعرفنا أن مولانا أمير المؤمنين وناصر الدين المتوكل على رب العالمين أبا عنان أيده الله تعالى. قد ضم الله به نشر الدولة المرينية، وشفى ببركته بعد إشفائها البلاد المغربية، وأفاض الإحسان على الخاص والعام وغمر جميع الناس بسابغ الإنعام. فتشوقت النفوس إلى المثول ببابه وأملت لثم ركابه. فعند ذلك قصدت القدوم على حضرته العلية، مع ما شاقني من تذكر الأوطان، والحنين للأهل والخلان، والمحبة إلى بلادي التي لها الفضل عندي على البلدان.

بلاد بها نيطت علي تمائمي

وأول أرض مس جلدي تُرابَها

فركبت البحر في قرقورة لبعض التونسيين صغيرة، وذلك في صفر سنة خمسين. وسرت حتى نزلت بجربة. وسافرت المركب المذكور إلى تونس فاستولى العدو عليه. ثم سافرت في مركب صغير إلى قابس، فنزلت في ضيافة الأخوين الفاضلين أبي مروان وأبي العباس بني مكي أميري جربة وقابس. وحضرت عندهما مولد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم ركبت في مركب إلى سفاقس، ثم توجهت في البحر إلى بليانة، ومنها سرت في البر مع العرب، فوصلت بعد مشقات إلى مدينة تونس، والعرب محاصرون لها.

وكانت تونس في أيالة مولانا أمير المسلمين، وناصر الدين المجاهد في سبيل رب العالمين، علم الأعلام وأوحد الملوك الكرام، أسد الأساد وجواد الأجواد القانت الأواب، الخاشع العادل، أبي الحسن ابن مولانا أمير المسلمين المجاهد في سبيل رب العالمين، ناصر دين الإسلام، الذي سارت

ص: 507

الأمثال بجوده وشاع في الأقطار أثر كرمه وفضله، ذي المناقب والمفاخر والفضائل والمآثر، الملك العادل الفاضل أبي سعيد ابن مولانا أمير المسلمين وناصر الدين المجاهد في سبيل رب العالمين، قاهر الكفار ومبيدها، ومبدي آثار الجهاد ومعيدها، ناصر الإيمان، الشديد السطوة في ذات الرحمان، العابد الزاهد الراكع الساجد الخاشع الصالح، أبي يوسف بن عبد الحق رضي الله عنهم أجمعين، وأبقى الملك في عقبهم إلى يوم الدين. ولما وصلت تونس قصدت الحاج أبا الحسن الناميسي لما بيني وبينه من مودات القرابة البلدية. فأنزلني بداره، وتوجه معي إلى المشور فدخلت المشور الكريم وقبلت يد مولانا أبي الحسن رضي الله عنه وأمرني بالقعود فقعدت. وسألني عن الحجاز الشريف وسلطان مصر فأجبته وسألني عن ابن تيفراجين فأخبرته بما فعلت المغاربة معه. وإرداتهم قتله بالإسكندرية وما لقي من أذيتهم انتصاراً منهم لمولانا أبي الحسن رضي الله عنه، وكان في مجلسه من الفقهاء الإمام أبو عبد الله السطي والإمام أبو عبد الله محمد بن الصباغ ومن أهل تونس قاضيها أبو علي عمر بن عبد الرفيع وأبو عبد الله بن هارون. وانصرفت عن المجلس الكريم. فلما كان بعد العصر استدعاني مولانا أبو الحسن وهو ببرج يشرف على موضع القتال ومعه الشيوخ الأجلة أبو عمر عثمان بن عبد الواحد التنالفتي وأبو حسون زيان بن أمريون العلوي وأبو زكريا يحيى بن سليمان العسكري والحاج أبو الحسن الناميسي. فسألني عن ملك الهند فأجبته عما سأل.

ولم أزل أتردد إلى مجلسه الكريم أيام إقامتي بتونس وكانت ستة وثلاثين يوماً. ولقيت بتونس إذا ذاك الشيخ الإمام خاتمة العلماء وكبيرهم أبا عبد الله الأبلّي وكان في فراش المرض، وباحثني عن كثير من أمور رحلتي.

ثم سافرت من تونس في البحر مع القطلانيين، فوصلنا إلى جزيرة سردانية من جزر الروم، ولها مرسى عجيب عليه خشب كبار دائرة به. وله مدخل كأنه باب لا يفتح إلا بإذن منهم، وفيها حصون. دخلنا أحدها وبه أسواق كثيرة ونذرت لله تعالى إن خلصنا الله منها صوم شهرين متتابعين لأننا تعرفنا أن أهلها عازمون على اتباعنا إذا خرجنا عنها ليأسرونا.

ثم خرجنا عنها فوصلنا بعد عشر إلى مدينة تنس، ثم إلى مازونة، ثم إلى مستغانم، ثم إلى تلمسان. فقصدت العباد، وزرت الشيخ أبا مدين رضي الله عنه

ص: 508

ونفع به، ثم خرجت عنها على طريق مدرومة وسلكت طريق أخندقان. وبت بزاوية الشيخ إبراهيم. ثم سافرنا منها فبينما نحن بقرب أزغنغان، إذا خرج علينا خمسون راجلاً وفارسان. وكان معي الحاج ابن قريعات الطنجي وأخوه محمد المستشهد بعد ذلك في البحر. فعزمنا على قتالهم، ورفعنا علماً، ثم سالمونا وسالمناهم، والحمد لله، ووصلت إلى مدينة تازي، وبها تعرفت خبر موت والدتي بالوباء رحمها الله تعالى.

ثم سافرت عن تازي، فوصلت يوم الجمعة في أواخر شهر شعبان المكرم من عام خمسين وسبعمائة إلى حضرة فاس، فمثلت بين يدي مولانا الأعظم، الإمام الأكرم، أمير المؤمنين، المتوكل على رب العالمين، أبي عنان، وصل الله علوه، وكبت عدوه، فأنستني هيبته هيبة سلطان العراق، وحسنه حسن ملك الهند، وحسن أخلاقه حسن خلق ملك اليمن، وشجاعته شجاعة ملك الترك، وحلمه حلم ملك الروم، وديانته ديانة ملك تركستان، وعلمه علم ملك الجاوة. وكان بين يديه وزيره الفاضل ذو المكارم الشهيرة والمآثر الكثيرة أبو زيان بن ودرار، فسألني عن الديار المصرية إذ كان قد وصل إليها فأجبته عما سأل، وغمرني من إحسان مولانا أيده الله تعالى بما أعجزني شكره. والله ولي مكافأته. وألقيت عصى التسيار ببلاده الشريفة، بعد أن تحققت بفضل الإنصاف أنها أحسن البلدان. لأن الفواكه بها متيسرة، والمياه والأقوات غير متعذرة. وقلّ إقليم يجمع ذلك، ولقد أحسن من قال:

الغرب أحسن أرض

ولي دليل عليه

البدر يرقب منه

والشمس تسعى إليه

ودارهم الغرب صغيرة وفوائدها كثيرة، وإذا تأملت أسعاره مع أسعار ديار مصر والشام ظهر لك الحق في ذلك ولاح فضل بلاد المغرب. فأقول: إن لحوم الأغنام بديار مصر تباع بحساب ثمان عشرة أوقية بدرهم نقرة، والدرهم النقرة ستة دراهم من دراهم المغرب، وبالمغرب يباع اللحم إذا غلا سعره ثمانية عشر أوقية بدرهمين، وهما ثلث النقرة. وأما السمن فلا يوجد بمصر في أكثر الأوقات. والذي يستعمله أهل مصر من أنواع الإدام لا يلتفت إليه بالمغرب، ولأن أكثر ذلك العدس والحمص يطبخونه في قدور راسيات، ويجعلون عليه السيرج والبسلا، وهو صنف من الجلبان، يطبخونه ويجعلون عليه الزيت،

ص: 509

والقرع يطبخونه ويخلطونه باللبن، والبقلة الحمقاء يطبخونها كذلك، وأعين أغصان اللوز يطبخونها ويجعلون عليها اللبن، والقلقاس يطبخونه. وهذا كله متيسر بالمغرب، لكن أغنى الله عنه بكثرة اللحم والسمن والزبد والعسل وسوى ذلك. وأما الخضر فهي أقل الأشياء ببلاد مصر، وأما الفواكه فأكثرها مجلوبة من الشام، وأما العنب فإذا كان رخيصاً بيع عندهم ثلاثة أرطال من أرطالهم بدرهم نقرة، ورطلهم ثلاثة أرطال مغربية، وإذا رخص ثمنه بيع بحساب رطلين بدرهم نقرة، والإجاص يباع بحساب عشر أوراق بدرهم نقرة، وأما الرمان والسفرجل فتباع الحبة منه بثمانية فلوس وهي درهم من دارهم المغرب. وأما الخضر فيباع بالدرهم النقرة منها أقل مما يباع في بلادنا بالدرهم الصغير. وأما اللحم فيباع فيها الرطل منه من أرطالهم بدرهمين ونصف درهم نقرة. فإذا تأملت ذلك كله تبين لك أن بلاد المغرب أرخص البلاد أسعاراً، وأكثرها خيرات وأعظمها مرافق وفوائد. ولقد زاد الله بلاد المغرب شرفاً إلى شرفها وفضلاً إلى فضلها بإمامه مولانا أمير المؤمنين الذي مد ظلال الأمن في أقطارها وأطلع شمس العدل في أرجائها، وأفاض سحاب الإحسان في باديتها وحاضرتها، وطهرها من المفسدين وأقام بها رسوم الدنيا والدين. وأنا أذكر ما عاينته وتحققته من عدله وحلمه وشجاعته، واشتغاله بالعلم وتفقهه وصدقته الجارية ورفع المظالم.

أما عدله فأشهر من أن يسطر في كتاب. فمن ذلك جلوسه للمشتكين من رعيته وتخصيصه يوم الجمعة للمساكين منهم، وتقسيمه ذلك اليوم بين الرجال والنساء وتقديمه النساء لضعفهن. فتقرأ قصصهن بعد صلاة الجمعة إلى العصر ومن وصلت نوبتها نودي باسمها ووقفت بين يديه الكريمتين يكلمها دون واسطة. فإن كانت متظلمة عجل إنصافها أو طالبة إحسان وقع إسعافها. ثم إذا صليت صلاة العصر قرأت قصص الرجال، وفعل مثل ذلك فيها. ويحضر المجلس الفقهاء والقضاة فيرد إليهم ما تعلق بالأحكام الشرعية وهذا شيء لم أر في الملوك من يفعله على هذا التمام ويظهر فيه مثل هذا العدل. فإن ملك الهند عين بعض أمرائه لأخذ القصص من الناس وتخليصها ورفعها إليه دون حضور

ص: 510

أربابها بين يديه. وأما حمله فقد شاهدت منه العجائب. فإنه أيده الله عفا عن الكثير ممن تعرض لقتال عساكره والمخالفة عليه وعن أهل الجرائم الكبار التي لا يعفو عن جرائمهم إلا من وثق بربه. وعلم علم اليقين معنى قوله تعالى: {وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ} 1. قال ابن جزي: من أعجب ما شاهدته من حلم مولانا أيده الله أني منذ قدومي على بابه الكريم في آخر عام ثلاثة وخمسين إلى هذا العهد وهو أوائل عام سبعة وخمسين، لم أشاهد أحداً أمر بقتله إلا من قتلة الشرع في حد من حدود الله تعالى قصاص أو حرابة، وهذا على اتساع المملكة وانفساح البلاد واختلاف الطوائف.

ولم يسمع بمثل ذلك فيما تقدم من الأعصار، ولا فيما تباعد من الأقطار. وأما شجاعته فقد علم ما كان منه في المواطن الكريمة من الثبات والإقدام مثل يوم قتال بني عبد الوادي وغيرهم. ولقد سمعت خبر ذلك اليوم ببلاد السودان، وذكر ذلك عند سلطانهم فقال: هكذا وإلا فلا.

قال ابن جزي: لم يزل الملوك الأقدمون تتفاخر بقتل الآساد وهزائم الأعادي، ومولانا أيده الله كان قتل الأسد عليه أهون من قتل الشاة على الأسد، فإنه لما خرج الأسد على الجيش بوادي النجارين من المعمورة بحوز سلا، وتحامته الأبطال، وفرت أمامه الفرسان والرجال، برز إليه مولانا أيده الله غير محتفل به، ولا متهيب منه فطعنه بالرمح ما بين عينيه طعنة خر بها صريعاً لليدين وللفم. وأما هزائم الأعادي فإنما اتفقت للملوك بثبوت جيوشهم وإقدام فرسانهم، فيكون حظ الملوك الثبوت والتحريض على القتال. وأما مولانا أيده الله فإنه أقدم على عدوه منفرداً بنفسه الكريمة، بعد علمه بفرار الناس، وتحققه أنه لم يبق معه من يقاتل. فعند ذلك وقع الرعب في قلوب الأعداء، وانهزموا أمامه. فكان من العجائب فرار الأمم أمام واحد. وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والعاقبة للمتقين، وما هو إلا ثمرة ما يمتن به أعلى الله مقامه من التوكل على الله والتفويض إليه. وأما اشتغاله بالعلم فها هو أيده الله تعالى يعقد مجالس العلم في كل يوم بعد صلاة الصبح، ويحض لذلك أعلام الفقهاء ونجباء الطلبة بمسجد قصره الكريم، فيقرأ بين يديه تفسير القرآن العظيم، وحديث المصطفى صلى الله عليه وسلم،

1 آل عمران: 134.

ص: 511

وفروع مذهب مالك رضي الله عنه، وكتب المتصوفة. وفي كل علم منها له القدح المعلى ويجلو مشكلاته بنور فهمه ويلقى نكته الرائقة من حفظه. وهذا شأن الأئمة المهتدين والخلفاء الراشدين.

ولم أر من ملوك الدنيا من بلغت عنايته بالعلم إلى هذه النهاية. فقد رأيت ملك الهند يتذاكر بين يديه بعد صلاة الصبح في العلوم الصبح في العلوم المعقولات خاصة، ورأيت ملك الجاوة يتذاكر بين يديه بعد صلاة الجمعة في الفروع على مذهب الشافعي خاصة، وكنت أعجب من ملازمة ملك تركستان لصلاتي العشاء الآخرة والصبح في الجماعة، حتى رأيت ملازمة مولانا أيده الله في الصلوات كلها في الجماعة ولقيام رمضان:{وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ} 1.

قال ابن جزي: لو أن عالماً ليس له شغل إلا بالعلم ليلاً ونهاراً، لم يكن يصل إلى أدنى مراتب مولانا أيده الله في العلوم، مع اشتغاله بأمور الأمة، وتديبره لسياسة الأقاليم النائية، ومباشرته من حال ملكه ما لم يباشره أحد من الملوك، ونظره بنفسه في شكايات المظلومين. ومع ذلك كله فلا تقع بمجلسه الكريم مسألة علم في أي علم كان إلا جلا مشكلها، وباحث في دقائقها واستخرج غوامضها واستدرك على علماء مجلسه ما فاتهم من مغلقاتها. ثم سما أيده الله إلى العلم الشريف التصوفي، ففهم إشارات القوم وتخلق بأخلاقهم. وظهرت آثار ذلك في تواضعه مع رفعته وشفقته على رعيته ورفقه على أمره كله وأعطى الآداب حظاً جزيلاً من نفسه فاستعمل أحسنها منزعاً وأعظمها موقعاً وصارت عنه الرسالة الكريمة والقصيدة اللتان بعثهما إلى الروضة الشريفة المقدسة الطاهرة روضة سيد المرسلين وشفيع المذنبين رسول الله صلى الله عليه وسلم وكتبهما بخط يده الذي يخجل الروض حسناً.

وذلك شيء لم يتعاط أحد من ملوك الزمان إنشاءه ولا رام إدراكه. ومن تأمل التوقيعات الصادرة عنه أيده الله تعالى وأحاط علماً بمحصولها لاح له فضل ما وهب الله لمولانا من البلاغة التي فطره عليها وجمع له بين الطبيعي والمكتسب منها. وأما صدقاته الجارية وما أمر به من عمارة الزوايا بجميع بلاده لإطعام الطعام، للوارد والصادر، فذلك ما لم يفعله أحد من الملوك، غير

1 البقرة: 105

ص: 512

السلطان أتابك أحمد. وقد زاد عليه مولانا أيده الله بالتصدق على المساكين بالطعام كل يوم والتصدق بالزرع على المتسترين من أهل البيوت.

قال ابن جزي: اخترع مولانا أيده الله في الكرم والصدقات أموراً لم تخطر في الأوهام، ولا اهتدت إليها السلاطين. فمنها إجراء الصدقة على المساكين بكل بلد من بلاده على الدوام، ومنها تعيين الصدقة الوافرة للمسجونين في جميع البلاد أيضاً، ومنها كون تلك الصدقات خبزا مخبوزاً متيسراً للانتفاع به، ومنها كسوة المساكين والضعفاء والعجائز والمشائخ والملازمين للمساجد بجميع بلاده، ومنها تعيين الضحايا لهؤلاء الأصناف في عيد الأضحى، ومنها التصدق بما يجتمع في مجابي أبواب بلاده يوم سبعة وعشرين من رمضان إكراماً لذلك اليوم الكريم وقياماً بحقه، ومنها إطعام الناس في جميع البلاد ليلة المولد الكريم واجتماعهم لإقامة رسمه، ومنها إعذار اليتامى من الصبيان وكسوتهم يوم عاشوراء، ومنها صدقته على الزمني والضعفاء بأزواج الحرث، يقيمون بها أودهم ومنها صدقته على المساكين بحضرته بالطنافس الوثيرة والقطائف الجياد يفترشونها عند رقادهم.

وتلك مكرمة لا يعلم لها نظير. ومنها بناء المرستانات في كل بلد من بلاده، وتعيين الأوقاف الكثيرة لمؤن المرضى، وتعيين الأطباء لمعالجتهم والتصرف في طبهم، إلى غير ذلك مما أبدع من أنواع المكارم وضروب المآثر كافأ الله أياديه وشكر نعمه. وأما رفعه للمظالم عن الرعية فمنها الرتب التي كانت تؤخذ بالطرقات، أمر أيده الله بمحو رسمها وكان لها مجبى عظيم فلم يلتفت إليه وما عند الله خير وأبقى، وأما كفه أيدي الظلام فأمر مشهور وقد سمعته أيده الله يقول لعماله لا تظلموا الرعية ويؤكد تلك الوصية.

قال ابن جزي: ولم لم يكن من رفق مولانا أيده الله برعيته إلا رفعه التضييف الذي كانت عمال الزكاة وولاة البلاد تأخذه من الرعايا، لكفى ذلك أثرا في العدل ظاهرا ونورا في الرفق باهرا، فكيف وقد دفع من المظالم وبسط من المرافق ما لا يحيط به الحصر. وقد صدر في أيام تصنيف هذا من أمره الكريم في الرفق بالمسجونين ورفع الوظائف الثقيلة التي كانت تؤخذ منهم ما هو اللائق بإحسانه والمعهود من رأفته، وشمل الأمر بذلك جميع الأقطار، وكذلك صدر من التنكيل بمن ثبت جوره من القضاة والحكام ما فيه زاجر الظلمة وردع

ص: 513

المعتدين.

وأما فعله في معاونة أهل الأندلس على الجهاد ومحافظته على إمداد الثغور بالأموال والأقوات والسلاح وفته في عضد العدو بإعداد العدد وإظهار القوة فذلك أمر شهير، لم يغب علمه عن أهل المغرب والمشرق ولا سبق إليه أحد من الملوك.

قال ابن جزي: حسب المتشوف إلى علم ما عند مولانا أيده الله من سداد القطر إلى المسلمين ودفاع القوم الكافرين ما فعله في فداء مدينة طرابلس إفريقية. فإنها لما استولى العدو عليها ومد يد العدوان إليها، ورأى أيده الله أن بعث الجيوش إليها لا يتأتى لبعد الأقطار، كتب إلى خدامه ببلاد أفريقية أن يفدوها بالمال. ففديت بخمسين ألف دينار من الذهب العين. فلما بلغه خبر ذلك قال: الحمد لله الذي استرجعها من أيدي الكفار بهذا النذر اليسير. وأمر للعين ببعث ذلك العدد إلى إفريقية، وعادت المدينة إلى الإسلام على يده. ولم يخطر في الأوهام أن أحدا تكون عنده خمسة قناطير من الذهب نذراً يسيراً حتى جاء بها مولانا أيده الله مكرمة بعيدة ومآثرة فائقة، قل في الملوك أمثالها وعز عليهم مثالها. ومما شاع من أفعال مولانا أيده الله في الجهاد إنشاؤه الأجفان بجميع السواحل واستكثاره من عدد البحر وهذا في زمان الصلح والمهادنة إعداداً لأيام الغزاة. وأخذ بالعزم في قطع أطماع الكفار، وأكد ذلك بتوجهه أيده الله بنفسه إلى جبال جاناته في العام الفارط ليباشر قطع الخشب للإنشاء، ويظهر قدر ماله بذلك من الاعتناء، ويتولى بذاته أعمال الجهاد مترجياً ثواب الله تعالى، وموقنا بحسن الجزاء.

ومن أعظم حسناته أيده الله عمارة المسجد الجديد بالمدينة البيضاء دار ملكه العلي، وهو الذي امتاز بالحسن واتقان البناء وإشراق النور وبديع الترتيب، وعمارة المدرسة الكبرى بالموضع المعروف بالقصر، مما يجاور قصبة فاس، ولا نظير لها في المعمورة اتساعاً وحسناً وإبداعاً وكثرة ماء وحسن وضع. ولم أر في مدارس الشام ومصر والعراق وخراسان ما يشبهها. وعمارة الزاوية العظمى على غدير الحمص خارج المدينة البيضاء فلا مثل لها أيضاً في عجب وضعها وبديع صنعها. وأبدع زاوية رأيتها بالشرق زاوية سرياقص "سرياقس" التي بناها الملك الناصر. وهذه أبدع منها وأشد إحكاما وإتقاناً. والله سبحانه

ص: 514

ينفع مولانا أيده الله بمقاصده الشريفة، ويكافئ فضائله المنيفة، ويديم للإسلام والمسلمين أيامه وينصر ألويته المظفرة وأعلامه.

ولنعد إلى ذكر الرحلة فنقول: ولما حصلت لي مشاهدة هذا المقام الكريم، وعمني فضل إحسانه العميم قصدت زيارة قبر الوالدة. فوصلت إلى بلدة طنجة وزرتها، وتوجهت إلى مدينة سبته فأقمت بها أشهراً، وأصابني المرض ثلاثة أشهر، ثم عافاني الله فأردت أن يكون لي حظ من الجهاد والرباط، فركبت البحر من سبتة في شطي لأهل أصيلا، فوصلت إلى بلاد الأندلس حرسها الله تعالى، حيث الأجر موفور للساكن، والثواب مذخور للمقيم والظاعن. وكان ذلك إثر موت طاغية الروم ألفونس، وحصاره الجبل عشرة أشهر، وظنه أنه يستولي على ما بقي من بلاد الأندلس للمسلمين. فأخذه الله من حيث لم يحتسب، ومات بالوباء الذي كان أشد الناس خوفاً منه. وأول بلد شاهدته من البلاد الأندلسية جبل الفتح. فلقيت به خطيبه الفاضل أبا زكريا يحيى بن السراج الرندي، وقاضيه عيسى البربري، وعنده نزلت وتطوفت معه على الجبل، فرأيت عجائب ما بنى به مولانا أبا الحسن رضي الله عنه وأعد فيه من العدد وما زاد على ذلك مولانا أيده الله. ووددت أن لو كنت ممن رابط به إلى نهاية العمر.

قال ابن جزي: جبل الفتح هو معقل الإسلام المعترض شجىً في حلوق عبدة الأصنام، حسنه مولانا أبي الحسن رضي الله عنه المنسوبة إليه وقربته التي قدمها نوراً بين يديه، محل عدد الجهاد، ومقر آساد الأجناد، والثغر الذي افتر عن نصر الإيمان، وأذاق أهل الأندلس بعد مرارة الخوف حلاوة الأمان، ومنه كان مبدأ الفتح الأكبر وبه نزل طارق بن زياد مولى موسى بن نصير عند جوازه فنسب إليه، فيقال له: جبل طارق، وجبل الفتح، لأن مبدأه كان منه. وبقايا السور الذي بناه ومن معه باقية إلى الآن، تسمى بسور العرب. شاهدتها أيام إقامتي به عند حصار الجزيرة أعادها الله، ثم فتحه مولانا أبوالحسن رضوان الله عليه واسترجعه من أيدي الروم بعد تملكهم له عشرين سنة ونيفاً، وبعث إلى حصاره ولده الأمير الجليل أبا مالك، وأيده بالأموال الطائلة والعساكر الجرارة. وكان فتحه بعد حصار ستة أشهر، وذلك في عام ثلاثة وثلاثين وسبعمائة، ولم يكن حينئذ على ما هو الآن عليه. فبنى به مولانا أبوالحسن،

ص: 515

رحمة الله عليه، المأثرة العظمى بأعلى الحصن، وكانت قبل ذلك برجاً صغيراً، تهدم بأحجار المجانيق، فبناها مكانه، وبنى به دار الصناعة، ولم يكن به دار صنعة وبنى السور الأعظم المحيط بالتربة الحمراء الآخذ من دار الصنعة إلى القرمدة، ثم جدد مولانا أمير المؤمنين أبو عنان أيده الله عهد تحصينه وتحسينه، وزاد بناء السور بطرف الفتح وهو أعظم أسواره غناء وأعمها نفعاً وبعث إليه العدد الوافرة والأقوات والمرافق العامة وعامل الله تعالى فيه بحسن النية وصدق الإخلاص. ولما كان في الأشهر الأخيرة من عام ستة وخمسين وقع بجبل الفتح ما ظهر فيه أثر يقين مولانا أيده الله وثمرة توكله في أموره على الله وبان مصداق ما اطرد له من السعادة الكافية. وذلك أن عامل الجبل الخائن الذي ختم له بالشقاء عيسى بن أبي منديل نزع يده المغلولة عن الطاعة، وفارق عصمة الجماعة وأظهر النفاق وجمح في الغدر والشقاق وتعاطى ما ليس من رجاله وعمى عن مبدأ حاله السيء ومآله، وتوهم الناس أن ذلك مبدأ فتنة تنفق على إطفائها كرائم الأموال، ويستعد لاتقائها بالفرسان والرجال. فحكمت سعادة مولانا أيده الله ببطلان هذا التوهم وقضى صدق يقينه بانخراق العادة في هذه الفتنة فلم تكن إلا أيام يسيرة وراجع أهل الجبل بصائرهم وثاروا على الثائر وخالفوا الشقي المخالف وأقاموا بالواجب من الطاعة وقبضوا عليه وعلى ولده المساعد له في النفاق وأتي بها مصفدين إلى الحضرة العلية، فنفذ فيهما حكم الله في المحاربين وأراح الله من شرهما. ولما خمدت نار الفتنة أظهر مولانا أيده الله من العناية ببلاد الأندلس مالم يكن في حساب أهلها وبعث إلى جبل الفتح ولده الأسعد المبارك الأرشد أبا بكر المدعو من السمات السلطانية بالسعيد أسعده الله تعالى وبعث معه أنجاد الفرسان ووجوه القبائل وكفاة الرجال وأدر عليهم الأرزاق ووسع لهم الأقطاع وحرر بلادهم من الغرائم وبذل لهم جزيل الإحسان. وبلغ من اهتمامه بأمور الجبل أن أمر أيده الله بناء شكل يشبه شكل الجبل المذكور فمثل فيه أشكال أسواره وأبراجه وحصنه وأبوابه ودار صنعته ومساجده ومخازن عُدَده وأهربة زرعه وصورة الجبل وما اتصل به من التربة الحمراء. فصنع ذلك بالمشور السعيد فكان شكلاً عجيباً أتقنه الصناع اتقاناً يعرف قدره من شاهد الجبل وشاهد هذا المثال وما ذلك إلا لتشوقه أيده الله إلى استطلاع أحواله وتهممه بتحصينه وإعداده. والله تعالى يجعل نصر الإسلام بالجزيرة الغربية على

ص: 516

يديه، ويحقق ما يؤمله في الفتح بلاد الكفار، وشتّ شمل عباد الصليب. وتذكرت حين هذا التقييد قول الأديب البليغ المفلق أبي عيد الله محمد بن غالب الرصافي البلنسي، رحمه الله، في وصف هذا الجبل المبارك من قصيدته الشهيرة في مدح عبد المؤمن بن علي1 التي أولها:

لو جئت نار الهدى من جانب الطور

قبست ما شئت من علم ومن نور

وفيها يقول في وصف الجبل وهو من البديع الذي لم يسبق إليه بعد وصفه السفن وجوازها:

حتى رمت جبل الفتحين من2 جبل

معظم القدر في الأجيال مذكور3

من شامخ الأنف في سحنائه طلس4

له من الغيم جيب غير مزرور

تمسي النجوم على تكليل مفرقه

في الجو حائمة مثل الدنانير

فربما مسحته من ذوائبها

بكل فضل على فوديه مجرور

وادردٍ5 من ثناياه بما أخذت

منه معاجم أعواد الدهارير

محنك حلب الأيام أشطرها

وساقها سَوق حادي العير للعير

مقيد الخطو جوّال الخواطر في

عجيب أمر به من ماض ومنظور

قد واصل الصمت والإطراق مفتكراً

بادي السكينة مُغْبَرَّ الأسارير

1 عبد المؤمن بن علي، هو: أمير دولة الموحدين بعد مؤسسها محمد بن تومرت، وقامت هذه الدولة بالمغرب، واستولت على الأندلس، وطردت منه المرابطين، وكان حكمه من سنة 525هـ إلى سنة 558هـ. "1130 – 1163م".

2 سماه البلنسي: جبل الفتحين، لأنّه أضاف إلى فتح طارق بن زياد للجبل فتح عبد المؤمن بن علي له في ذي القعدة سنة 550هـ.

3 أورد لسان الدين بن الخطيب "ذو الوزارتين" في كتابه: أعمال الأعلام فيمن بويع قبل الاحتلام من ملوك الإسلام، والذي حقّق قسمه الثاني الذي يتعلّق بأخبار الجزيرة الأندلسية، وعلق عليه الأستاذ إ. ليفي بروفنسال أبيات القصيدة هكذا:

حتى رمت جبل الفتحين من كثب

بساطع من سناه غير مبهور

لله ما جبل الفتحين من جبل

معظم القدر في الأجيال مذكور.

4 السحناء: الهيئة واللون، والطَلَس: جمع طلسة، وهي: الغبرة في سواد، والسحابة الرقيقة.

5 الأدرُدْ، مؤنثة: درداء: من ذهبت أسنانه، وهو ممنوع من الصرف، لأنه وصف على وزن الفعل، وقد صرف هنا لضرورة الشعر.

ص: 517

كأنه مكمد مما تعبده

خوف الوعيدين1 من دك وتسيير

أخلق به وجبال الأرض راجفة

أن يطمئن غدا من كل محذور

ثم استمرّ في قصيدته على مدح عبد المؤمن بن علي.

قال ابن جزي: ولنعد إلى كلام الشيخ أبي عبد الله قال: ثم خرجت من جبل الفتح إلى مدينة رندة، وهي من أمنع معاقل المسلمين وأجملها وضعاً، وكان قائدها إذ ذاك الشيخ أبو الربيع سليمان بن داود العسكري، وقاضيها ابن عمي الفقيه أبو القاسم محمد بن يحيى بن بطوطة. ولقيت بها الفقيه القاضي الأديب أبا الحجاج يوسف بن موسى المنتشاقري، وأضافني بمنزله، ولقيت بها أيضاً خطيبها الصالح الحاج الفاضل أبا إسحاق إبراهيم المعروف بالشندرخ، المتوفى بعد ذلك بمدينة سلا من بلاد المغرب، ولقيت بها جماعة من الصالحين منهم عبد الله الصفّار وسواه. وأقمت بها خمسة أيام.

ثم سافرت منها إلى مدينة مربلة، والطريق فيما بينهما صعب شديد الوعورة، ومربلة حسنة خصبة. ووجدت بها جماعة من الفرسان متوجهين إلى مالقه، فأردت التوجه في صحبتهم. ثم أن الله تعالى عصمني بفضله فتوجهوا قبلي فأسروا في الطريق كما سنذكره. وخرجت في أثرهم، فلما جاورت حوز مربلة ودخلت في حوز سهيل مررت بفرس ميت في بعض الخنادق ثم مررت بقفة حوّات2 مطروحة بالأرض فرابني ذلك، وكان أمامي برج الناظور. فقلت في نفسي: لو ظهر ها هنا عدوّ لأنذر به صاحب البرج، ثم تقدمت إلى دار هنالك فوجدت عليه فرساً مقتولاً. فبينما أنا هنالك، سمعت الصياح من خلفي وكنت قد تقدمت أصحابي فعدت إليهم فوجدت معهم قائد حصن سهيل فأعلمني أن أربعة أجفان للعدو ظهرت هنالك، ونزل بعض

1 المقصود بالوعيدين: الوعيد بالداك للجبال، وتسييرها، وقد جاء هذا الوعيد في قول الله تعالى:{وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً} . "الحاقة: 14"، وقول الله تعالى:{وَتَسِيرُ الْجِبَالُ سَيْراً} . "الطور: 10"، وقول الله تعالى:{وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ} . "الكهف: 47" وقول الله تعالى: {وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَاباً} . "النبأ: 20" وقول الله تعالى: {وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ} . "التكوير: 3".

2 الحوات: بائع الحيتان.

ص: 518

عمارتها إلى البر. ولم يكن الناظور بالبرج، فمر بهم الفرسان الخارجون من مربلة وكانوا اثني عشر فقتل النصارى أحدهم وفر واحد وأسر العشرة. وقتل معهم رجل حوّات وهو الذي وجدت قفته مطروحة بالأرض وأشار علي ذلك القائد بالمبيت في موضعه ليوصلني منه إلى مالقه فبت بحصن الرابطة المنسوبة إلى سهيل. والأجفان المذكورة مرساة عليه. وركب معي بالغد فوصلنا إلى مدينة مالقه إحدى قواعد الأندلس، وبلادها الحسان جامعة بين مرافق البر والبحر، كثيرة الخيرات والفواكه. رأيت العنب يباع في أسواقها بحساب ثمانية أرطال بدرهم صغير. ورمانها المرسي الياقوتي لا نظر له في الدنيا، وأما التين واللوز فيجلبان منها ومن أحوازها إلى بلاد المشرق والمغرب. قال ابن جزي: وإلى ذلك أشار الخطيب أبو محمد بن عبد الوهاب بن علي المالقي في قوله، وهو من مليح التجنيس:

مالقة حييت ياتينها

فالفلك من أجلك يأتينها

نهى طبيبي عنك في علة

ما لطبيبي عن حياتي نهى

وذيلها قاضي الجماعة أبو عبد الله بن عبد الملك بقوله في قصد المجانسة:

وحمص لا تنسى لها تينها

واذكر مع التين زياتينها1

وبمالقة يصنع الفخار المذهب العجيب ويجلب منها إلى أقاصي البلاد. ومسجدها كبير الساحة شهير البركة وصحنه لا نظير له في الحسن فيه أشجار النارنج البعيدة. ولما دخلت مالقة وجدت قاضيها الخطيب الفاضل أبا عبد الله ابن خطيبها الفاضل أبي جعفر بن خطيبها ولي الله تعالى أبي عبد الله الطنجالي قاعداً بالجامع الأعظم، ومعه الفقهاء ووجوه الناس يجمعون مالاً برسم فداء الأساري الذي تقدم ذكرهم، فقلت له: الحمد لله الذي عافاني ولم يجعلني منهم. وأخبرته بما اتفق لي بعدهم، فعجب من ذلك، وبعث إلي

1 مغنى البيتين الأولين: حياك الله يا تين مالقة، فإن السفن تقصد مالقة من كل مكان لأجلك، وقد نهاني الطبيب عن أكلك لمرضي فلماذا نهاني طبيبي عنك وأنت حياتي؟ والجناس فيهما بين: ياتينها، وحياتي نهى، وهو جناس ناقص لاختلاف الكلمات في بعض الحروف، وفي الشكل، ومعنى البيت الأخير الذي ذيّل به البيتان السابقان: لا تنسى تين حمص، واذكر كذلك ما تمتاز به من أنواع الزيتون. وفيه جناس ناقص بين: لها تينها، وزياتينها.

ص: 519

بالضيافة رحمه الله. وأضافني أيضاً خطيبها أبو عبد الله الساحلي المعروف بالمعمم1.

ثم سافرت منها إلى مدينة بلّش وبينهما أربعة وعشرون ميلاً. وهي مدينة حسنة بها مسجد عجيب، وفيها الأعناب والفواكه والتين، كمثل ما بمالقة. ثم سافرنا منها إلى الحمة وهي بلدة صغيرة لها مسجد بديع الوضع عجيب النباء. وبها العين الحارة على ضفة واديها، وبينها وبين البلد ميل أو نحوه. وهنالك بيت لاستحمام الرجال، وبيت لاستحمام النساء.

ثم سافرت منها إلى غرناطة قاعدة بلاد الأندلس2 وعروس مدنها وخارجها لانظير له في بلاد الدنيا، وهو مسيرة أربعين ميلاً يخترقه نهر شنيل المشهور وسواه من الأنهار الكثيرة والبساتين والجنات والرياض والقصور. والكروم محدقة بها من كله جهة. ومن عجيب مواضعها عين الدمع وهو جبل فيه الرياض والبساتين لا مثل له بسواها. قال ابن جزي: لولا خشية أن أنسب إلى العصبية لأطلت القول في وصف غرناطة فقد وجدت مكانه. ولكن ما اشتهر كاشتهارها لا معنى لإطالة القول فيه. ولله در شيخنا أبي بكر محمد بن أحمد بن شيرين البستي نزيل غرناطة، حيث يقول:

رعى الله من غرناطة مُتَنوّأً

يَسُرُّ حزينا أو يجير طريدا

تبرّم منها صاحبي عندما رأى

مسارحها بالثلج عُدن جليدا

هي الثغر، صان الله من أَهِلَت به

وما خير ثغر لا يكون برودا.

وكان ملك غرناطة في عهد دخولي إليها السلطان أبو الحجاج يوسف بن السلطان أبي الوليد إسماعيل بن فرج بن إسماعيل بن يوسف بن نصر. ولم ألقه بسبب مرض كان به. وبعثت إلي والدته الحرة الصالحة الفاضلة بدنانير ذهب ارتفقت بها. ولقيت بغرناطة جملة من فضلائها منهم قاضي الجماعة بها الشريف البليغ أبو القاسم محمد بن أحمد ابن محمد الحسيني السبتي، ومنهم فقيههاً المدرس الخطيب العالم أبو عبد الله محمد ابن إبراهيم البياني، ومنهم عالمها ومقرئها الخطيب أبو سعيد بن فرج بن قاسم الشهير بابن لب،

1 في إحدى طبعات الكتاب: المعروف بالعم.

2 أي: في عهد ابن بطوطة.

ص: 520

ومنهم قاضي الجماعة نادرة العصر وطرفة الدهر أبو البركات محمد بن محمد بن إبراهيم السلمي البعلبعي. قدم عليها من المرية في تلك الأيام فوقع الاجتماع به في بستان الفقيه أبي القاسم محمد بن الفقيه الكاتب الجليل أبي عبد الله بن عاصم. وأقمنا هنالك يومين وليلة.

قال ابن جزي: كنت معهم في ذلك البستان وأمتعنا الشيخ أبو عبد الله1 بأخبار رحلته وقيدت عنه أسماء الأعلام الذين لقيهم فيها واستفدنا منه الفوائد العجيبة. وكان معنا جملة من وجوه أهل غرناطة منهم الشاعر المجيد الغريب الشأن أبو جعفر أحمد بن رضوان بن عبد العظيم الجذامي. وهذا الفتى أمره عجيب فإنه نشأ بالبادية ولم يطلب العلم ولا مارس الطلبة ثم إنه نبغ بالشعر الجيد الذي يندر وقوعه من كبار البلغاء وصدور الطلبة مثل قوله:

يا من اختار فؤادي منزلاً

بابُه العينُ التي تَرْمُقه

فَتحَ البابَ سُهادي بَعدَكم

فابعثوا طيفَكم يُغْلِقُهُ

ولقيت بغرناطة الشيوخ والمتصوفين منهم: الفقيه أبا علي عمر بن الشيخ الصالح الولي أبي عبد الله محمد بن المحروق، وأقمت أياما بزاويته التي بخارج غرناطة وأكرمني أشد الإكرام.

وتوجهت معه إلى زيارة الزاوية الشهيرة البركة المعروفة برابطة العقاب، والعقاب جبل مطل على خارج غرناطة، وبينهما نحو ثمانية أميال، وهو مجاور لمدينة البيرة الخربة. ولقيت أيضاً ابن أخيه الفقيه أبا الحسن علي بن أحمد بن المحروق بزاويته المنسوبة للجام بأعلى ربض نجد من خارج غرناطة المتصل بجبل السبيكة، وهو شيخ المنتسبين من الفقراء.

وبغرناطة جملة من فقراء العجم، استوطنوها لشبهها ببلادهم منهم الحاج أبو عبد الله السمرقندي والحاج أحمد التبريزي والحاج إبراهيم القونوي والحاج حسين الخراساني والحاجان علي ورشيد الهنديان وسواهم.

ثم رحلت من غرناطة إلى الحمة ثم إلى بلش ثم إلى مالقة ثم إلى حصن ذكوان، وهو حصن حسن كثير المياه والأشجار والفواكه، ثم سافرت منه

1 أي: ابن بطوطة.

ص: 521

إلى رندة، ثم إلى قرية بني رياح. فانزلني شيخها أبو الحسن علي سليمان الرياحي، وهو أحد كرماء الرجال وفضلاء الأعيان يطعم الصادر والوارد وأضافني ضيافة حسنة. ثم سافرت إلى جبل الفتح وركبت البحر في الجفن الذي جزت فيه أولاً وهو لأهل أصيلاً، فوصلت إلى سبتة. وكان قائدها إذ ذاك الشيخ أبو المهدي عيسى بن سليمان ابن منصور، وقاضيها الفقيه أبو محمد الزجندري. ثم سافرت منها إلى أصيلَا وأقمت بها شهوراً. ثم سافرت منها إلى مدينة سلا، ثم سافرت من سلا فوصلت إلى مدينة مراكش. وهي من أجمل المدن فسيحة الأرجاء متسعة الأقطار كثيرة الخيرات، بها المساجد الضخمة كمسجدها الأعظم المعروف بمسجد الكتبيين، وبها الصومعة الهائلة العجيبة صعدتها وظهر لي جميع البلد منها. وقد استولى عليه الخراب. فما شبهته إلا ببغداد، إلا أن أسواق بغداد أحسن.

وبمراكش المدرسة العجيبة التي تميزت بحسن الوضع وإتقان الصنعة وهي من بناء الإمام مولانا أمير المسلمين أبي الحسن رضوان الله عليه. قال ابن جزي: في مراكش يقول قاضيها الإمام التاريخي أبو عبد الله محمد بن عبد الملك الأوسي:

لله مراكش الغراء من بلد

وحبذا أهلها السادات من سكن

إن حلها نازح الأوطان مغترب

أسلوه بالأنس عن أهل وعن وطن

بين الحديث بها أو العيان لها

ينشأ التحاسد بين العين والأذن.

ثم سافرت من مراكش صحبة الركاب العلي، ركاب مولانا أيده الله فوصلنا إلى مدينة سلا، ثم إلى مدينة مكناسة العجيبة الخضرة النضرة ذات البساتين والجنات المحيطة بها بحائر الزيتون من جميع نواحيها. ثم وصلنا إلى حضرة فاس حرسها الله تعالى فوادعت بها مولانا أيده الله وتوجهت برسم السفر إلى بلاد السودان، فوصلت إلى مدينة سجلماسة. وهي من أحسن المدن، وبها التمر الكثير الطيب وتشبهها مدينة البصرة في كثرة التمر. لكن تمر سجلماسة أطيب، وصنف أيران منه لا نظير له في البلاد. ونزلت منها عند الفقيه أبي محمد البشري وهو الذي لقيت أخاه بمدينة قنجنفو من بلاد الصين. فيا شدّ ما تباعدا، فأكرمني غاية الإكرام واشتريت بها الجمال وعلفتها أربعة أشهر.

ثم سافرت في غرة شهر الله المحرم سنة ثلاث وخمسين في رفقة مقدمها

ص: 522

أبو محمد يندكان المسوفي رحمه الله تعالى وفيها من تجار سجلماسة وغيرهم. فوصلنا بعد خمسة وعشرين يوماً إلى تَغَازَى، وضبط اسمها "بفتح التاء المثناة والغين المعجم وألف وزاي مفتوح أيضاً"، وهي قرية لا خير فيها. ومن عجائبها أن بناء بيوتها ومسجدها من حجارة الملح وسقفها من جلود الجمال. ولا شجر بها إنما هي رمل فيه معدن الملح يحفر عليه في الأرض فيوجد منه ألواح ضخام متراكبة كأنها قد نحتت ووضعت تحت الأرض يحمل الجمل منها لوحين. ولا يسكنها إلا عبيد مسوفة الذين يحفرون على الملح ويتعيشون بما يجلب إليهم من تمر درعة وسجلماسة ومن لحوم الجمال ومن أنلي المجلوب من السودان، ويصل السودان من بلادهم فيحملون منها الملح. ويباع الحمل منه بأيوالاتن بعشرة مثاقيل إلى ثمانية، وبمدينة مالي بثلاثين مثقالاً إلى عشرين، وربما انتهى إلى أربعين مثقالاً.

وبالملح يتصارف السودان، كما يتصارف بالذهب والفضة. يقطعونه قطعاً ويتبايعون به. وقرية تغازي على حقارتها يتعامل فيها بالقناطير المقنطرة من التبر. وأقمنا بها عشرة أيام في جهد لأن ماءها زعاق وهي أكثر المواضع ذباباً، ومنها يرفع الماء لدخول الصحراء التي بعدها. وهي مسيرة عشرة لا ماء فيها إلا في النادر. ووجدنا نحن بها ماء كثيراً في غدران أبقاها المطر ولقد وجدنا في بعض الأيام غديراً بين تلين من حجارة ماؤه عذب فتروينا منه وغسلنا ثيابنا. والكمأة بتلك الصحراء كثير ويكثر القمل بها حتى يجعل الناس في أعناقهم خيوطا فيها الزئبق فيقتلها.

وكنا في تلك الأيام نتقدم أمام القافلة فإذا وجدنا مكانا يصلح للرعي رعينا الدواب به. ولم نزل كذلك حتى ضاع في الصحراء رجل يعرف بابن زيري فلم أتقدم بعد ذلك ولا تأخرت. وكان ابن زيري وقعت بينه وبين ابن خاله ويعرف بابن عدي منازعة ومشاتمة فتأخر عن الرفقة فضل. فلما نزل الناس لم يظهر له خبر فأشرت على ابن خاله بأن يكتري من مسوفة من يقص أثره لعله يجده فأبى، وانتدب في اليوم الثاني رجل من مسوفة دون أجرة لطلبه فوجد أثره وهو يسلك الجادة طوراً ويخرج عنها تارة ولم يقع له على خبر. ولقد لقينا قافلة في طريقنا فأخبرونا أن بعض رجال انقطعوا عنهم فوجدنا أحدهم ميتا تحت شجيرة من أشجار الرمل، وعليه ثيابه، وفي يده

ص: 523

سوط. وكان الماء على نحو ميل منه. ثم وصلنا إلى تاسرهلا "بفتح التاء المثناة والسين المهمل والراء وسكون الهاء"، وهي أحساء ماء تنزل القوافل عليها، ويقيمون ثلاثة أيام. فيستريحون ويصلحون أسقيتهم ويملؤونها بالماء ويخيطون عليها التلاليس خوف الريح، ومن هنالك يبعث التكشيف.

والتكشيف اسم لكل رجل من مسوفة يكتريه أهل القافلة فيتقدم إلى أيوالاتن يكتب الناس إلى أصحابهم بها ليكتروا لهم الدور ويخرجون للقائهم بالماء مسيرة أربع. ومن لم يكن له صاحب بأيوالاتن كتب إلى من شهر بالفضل من التجار بها فيشاركه في ذلك. وربما هلك التكشيف في هذه الصحراء فلا يعلم أهل أيوالاتن بالقافلة فيهلك أهلها أو الكثير منهم. وتلك الصحراء كثيرة الشياطين فإن كان التكشيف منفرداً لعبت به واستهوته حتى يضل عن قصده فيهلك إذ لا طريق يظهر بها ولا أثر إنما هي رمال تسفيها الريح فترى جبالاً من الرمل في مكان ثم تراها قد انتقلت إلى سواه والدليل هنالك من كثر تردده وكان له قلب ذكي. ورأيت من العجائب أن الدليل الذي كان لنا هو أعور العين الواحدة مريض الثانية وهو أعرف الناس بالطريق. واكترينا التكشيف في هذه السفرة بمائة مثقال من الذهب وهو من مسوفة. وفي ليلة اليوم السابع رأينا نيران الذين خرجوا للقائنا فاستبشرنا بذلك. وهذه الصحراء منيرة مشرقة ينشرح الصدر فيها وتطيب النفس وهي آمنة من السراق والبقر الوحشية بها كثير يأتي القطيع منها حتى يقرب من الناس فيصطادونه بالكلاب والنشاب لكن لحمها يولد أكله العطش فيتحاماه كثير من الناس لذلك. ومن العجائب أن هذه البقر إذا قتلت وجد في كروشها الماء. ولقد رأيت أهل مسوفة يعصرون الكرش منها ويشربون الماء الذي فيه. والحيات أيضاً بهذه الصحراء كثير.

وكان في القافلة تاجر تلمساني يعرف بالحاج زيان. ومن عادته أن يقبض على الحيات ويعبث بها وكنت أنهاه عن ذلك فلا ينتهي. فلما كان ذات يوم أدخل يده في جحر ضب ليخرجه فوجد مكانه حية فأخذها بيده. وأراد الركوب فلسعته في سبابته اليمنى وأصابه وجع شديد فكويت يده وزاد ألمه عشي النهار فنحر جملاً وأدخل يده في كرشه وتركها كذلك ليلة ثم تناثر لحم أصبعه فقطعها من الأصل. وأخبرنا أهل مسوفة أن تلك الحية كانت قد شربت

ص: 524

الماء قبل لسعه ولو لم تكن شربت لقتلته. ولما وصل إلينا استقبلونا بالماء شربت خيلنا. ودخلنا صحراء شديدة الحر ليست كالتي عهدنا. وكنا نرحل بعد صلاة العصر ونسري الليل كله وننزل عند الصباح. وتأتي الرجال من مسوفة وبردامة وغيرهم بأحمال الماء للبيع. ثم وصلنا إلى مدينة أيوالاتن في غرة شهر ربيع الأول بعد سفر شهرين كاملين من سجلماسة. وهي أول عمالة السودان ونائب السلطان بها فَرْبا حسين وفربا "بفتح الفاء وسكون الواو وفتح الباء الموحدة" معناه النائب. ولما وصلنا جعل التجار أمتعتهم في رحبة وتكفل السودان بحفظها وتوجهوا إلى الفربا وهو جالس على بساط في سقيف وأعوانه بين يديه بأيديهم الرماح والقسي وكبراء مسوفة من ورائه. ووقف التجار بين يديه وهو يكلمهم بترجمان على قربهم منه احتقاراً لهم، فعند ذلك ندمت على قدومي بلادهم لسوء أدبهم، واحتقارهم للأبيض. وقصدت دار ابن بداء وهو رجل فاضل من أهل سلا، كنت كتبت له أن يكتري لي داراً ففعل ذلك. ثم إن مشرف أيوالاتن ويسمى مَنْشَاجو "بفتح الميم وسكون النون وفتح الشين المعجم وألف وجيم مضموم وواو" استدعى من جاء في القافلة إلى ضيافته، فأبيت من حضور ذلك فعزم الأصحاب علي أشد العزم فتوجهت فيمن توجه. ثم أتي بالضيافة وهي جريش أنلي مخلوطاً بيسير عسل ولبن قد وضعوه في نصف قرعة صيروه شبه الجفنة فشرب الحاضرون وانصرفوا، فقلت لهم: ألهذا دعانا الأسود؟ قالوا: نعم، وهو الضيافة الكبيرة عندهم. فأيقنت حينئذ أن لا خير يرتجى منهم، وأردت أن أسافر مع حجاج أيوالاتن ثم ظهر لي أن أتوجه لمشاهدة حضرة ملكهم. وكانت إقامتي بإيوالاتن نحو خمسين يوماً. وأكرمني أهلها وأضافوني، منهم: قاضيها محمد بن عبد الله بن ينومر، وأخوه الفقيه المدرس يحيى. وبلدة إيوالاتن شديدة الحر، وفيها يسير نخيلات، يزرعون في ظلالها البطيخ. وماؤهم من أحساء بها، ولحم الضأن كثير بها وثياب أهلها حسان مصرية وأكثر السكان بها من مسوفة. ولنسائها الجمال الفائق، وهن أعظم شأنا من الرجال.

وشأن هؤلاء القوم عجيب وأمرهم غريب، فأما رجالهم فلا غيرة لديهم ولا ينتسب أحدهم إلى أبيه بل ينتسب لخاله ولا يرث الرجل إلا أبناء أخته دون بنيه. وذلك شيء ما رأيته في الدنيا إلا عند كفار بلاد المليبار من الهنود.

ص: 525

وأما هؤلاء فهم مسلمون محافظون على الصلوات وتعلم الفقه وحفظ القرآن. وأما نساؤهم فلا يحتشمن من الرجال ولا يحتجبن مع مواظبتهن على الصلوات. ومن أراد التزوج منهن تزوج، لكنهن لا يسافرون مع الزوج، ولو أرادت إحداهن ذلك لمنعها أهلها. والنساء هنالك يكون لهن الأصدقاء والأصحاب من الرجال الأجانب، وكذلك للرجال صواحب من النساء الأجنبيات ويدخل أحدهم داره فيجد امرأته ومعها صاحبها فلا ينكر ذلك.

ودخلت يوماً على القاضي بإيوالاتن بعد إذنه في الدخول، فوجدت عنده امرأة صغيرة السن بديعة الحسن، فلما رأيتها ارتبت وأردت الرجوع، فضحكت مني ولم يدركها خجل. وقال لي القاضي: لم ترجع؟ إنها صاحبتي. فعجبت من شأنهما فإنه من الفقهاء الحجاج وأخبرت أنه استأذن السلطان في الحج في ذلك العام مع صاحبته لا أدري أهي هذه أم لا؟ فلم يأذن له.

ودخلت يوما على أبي محمد بن يندكان المسوفي الذي قدمنا في صحتبه، فوجدته قاعداً على بساط وفي وسط داره سرير مظلل، عليه امرأة معها رجل قاعد وهما يتحدثان. فقلت له: ما هذه المرأة؟ فقال: هي زوجتي. فقلت: وما الرجل الذي معها؟ فقال: هو صاحبها. فقلت له: أترضى بهذا وأنت قد سكنت بلادنا وعرفت أمور الشرع. فقال لي: مصاحبة النساء للرجال عندنا على خير وحسن طريقة لا تهمة فيها، ولسن كنساء بلادكم. فعجبت من رعونته وانصرفت عنه فلم أعد إليه بعدها. واستدعاني مرات فلم أجبه. ولما عزمت على السفر إلى مالي وبينها وبين أيوالاتن مسيرة أربعة وعشرين يوماً للمجد اكتريت دليلاً من مسوفة إذ لا حاجة إلى السفر في رفقة لأمن تلك الطريق وخرجت في ثلاثة من أصحابي. وتلك الطريق كثيرة الأشجار وأشجارها عادية ضخمة تستظل القافلة بظل الشجرة منها وبعضها لا أعصان لها ولا ورق ولكن ظل جسدها بحيث يستظل به الإنسان وبعض تلك الأشجار قد استأسن داخلها واستنقع فيه ماء المطر فكأنها بئر ويشرب الناس من الماء الذي فيها. ويكون في بعضها النخل والعسل فيشتاره الناس منها. ولقد مررت بشجرة منها فوجدت في داخلها رجلاً حائكا قد نصب بها مرمته وهو ينسج فعجبت منه. قال ابن جزي: إن ببلاد الأندلس شجرتان من شجر القسطل في جوف كل واحدة منهما حائك ينسج الثياب وإحداهما بسندا وادي

ص: 526

آش والآخرى ببشارة غرناطة.

وفي أشجار هذه الغابة التي بين إيوالاتن ومالي ما يشبه شجرة الإجاص والتفاح والخوخ والمشمش وليست بها. وفيها أشجار تثمر شبه الفقوس فإذا طاب انفلق عن شيء شبه الدقيق فيطبخونه ويأكلونه ويباع بالأسواق ويستخرجون من هذه الأرض حبات كالفول فيقلونها ويأكلونها وطعمها كطعم الحمص المقلو. وربما طحنوها وصنعوا منها شبه الإسفنج وقلوه بالغرتي، والغرتي "بفتح الغين المعجم وسكون الراء وكسر التاء المثناة" هو ثمر كالإجاص شديد الحلاوة مضر بالبيضان إذا أكلوه، ويدق عظمه فيستخرج منه زيت لهم فيه منافع، فمنها أنهم يطبخون به ويسرجون السرج ويقلون به هذا الإسفنج ويدهنون به ويخلطونه بتراب عندهم ويسطحون به الدور كما تسطح بالجير. وهو عندهم كثير متيسر ويحمل من بلد إلى بلد في قرع كبار تسع القرعة منها قدر ما تسعه القلة ببلادنا. والقرع ببلاد السودان يعظم ومنه يصنعون الجفان. يقطعون القرعة نصفين فيصنعون منها جفنتين وينقشونها نقشاً حسناً. وإذا سافر أحدهم يتبعه عبيده وجواريه يحملون فرشه وأوانيه التي يأكل ويشرب فيها وهي من القرع.

والمسافر في هذه البلاد لا يحمل زاداً ولا إداماً ولا ديناراً ولا درهماً. إنما يحمل قطع الملح وحلي الزجاج الذي يسميه الناس النظم وبعض السلع العطرية. وأكثر ما يعجبهم منها القرنفل والمصطكى وتاسر غنت وهو بخورهم. فإذا وصل قرية جاء نساء السودان بأنلي واللبن والدجاج ودقيق النبق والأرز والفوني، وهو كحب الخردل يصنع منه الكسكسو والعصيدة ودقيق اللوبيا فيشتري منهن ما أحب من ذلك. إلا أن الأرز يضر أكله بالبيضان، والفوني خير منه. وبعد مسيرة عشرة أيام من أيوالاتن وصلنا إلى قرية زَاغري "وضبطها بفتح الزاي والغين المعجم وكسر الراء"، وهي قرية كبيرة يسكنها تجار السودان ويسمون وَنْجَرَاته "بفتح الواو وسكون النون وفتح الجيم والراء وألف وتاء مثناة وتاء تأنيث". ويسكن معهم جماعة من البيضان يذهبون مذهب الإباضية من الخوارج، ويسمون صَغَنَغُو "بفتح الصاد المهمل والغين المعجم الأول والنون وضم الغين الثاني وواو" والسنيون المالكيون من البيض يسمون عندهم تُوُرِي "بضم التا المثناة وواو وراء مكسورة". ومن هذه القرية يجلب أنلي إلى

ص: 527

إيوالاتن. ثم سرنا من زاغري فوصلنا إلى النهر الأعظم، وهو النيل1 وعليه بلدة كارْسَخُو "بفتح الكاف وسكون الراء وفتح السين المهمل وضم الخاء المعجم وواو"، والنيل ينحدر منها إلى كَابرَة "بفتح الباء الموحدة والراء"، ثم إلى زَاغَة "بفتح الزاي والغين المعجم"، ولكابرة وزاغة سلطانان يؤديان الطاعة لملك مالي، وأهل زاغة قدماء في الإسلام لهم ديانة وطلب للعلم، ثم ينحدر النيل من زاغة إلى تنبكتو ثم إلى كَوْكَوْ وسنذكرها، ثم إلى بلدة مُولِي "بضم الميم وكسر اللام" من بلاد الليميي، ن وهي آخر عمالة مالي، ثم إلى يوفي واسمها "بضم الياء آخر الحروف وواو مكسورة"، وهي من أكبر بلاد السودان وسلطانها من أعظم سلاطينهم. ولا يدخلها الأبيض من الناس لأنهم يقتلونه قبل الوصول إليها. ثم ينحدر منها إلى بلاد النوبة وهم على دين النصرانية، ثم إلى دُنْقُلة وهي أكبر بلادهم "وضبطها ضم الدال والقاف وسكون النون بينهما وفتح اللام"، وسلطانها يدعى بابن كنز الدين، أسلم على أيام الملك الناصر، ثم ينحدر إلى جنادل وهي آخر عمالة السودان وأول عمالة أسوان من صعيد مصر. ورأيت التمساح بهذا الموضع من النيل بالقرب من الساحل كأنه قارب صغير. ولقد نزلت يوماً إلى النيل لقضاء حاجة فإذا بأحد السودان قد جاء ووقف فيما يني وبين النهر. فعجبت من سوء أدبه وقلة حيائه، وذكرت ذلك لبعض الناس فقال: إنما فعل ذلك خوفاً عليك من التمساح فحال بينك وبينه. ثم سرنا من كارسخو فوصلنا إلى نهر صَنْصَرة "بفتح الصادين المهملين والراء وسكون النون" وهو على نحو عشرة أميال من مالي. وعادتهم أن يمنع الناس من دخولها إلا بإذن. وكنت كتبت قبل ذلك لجماعة البيضان وكبيرهم محمد بن الفقيه الجزولي وشمس الدين ابن النقويش المصري ليكتروا لي داراً، فلما وصلت إلى النهر المذكور جزت في المعدية ولم يمنعني أحد، فوصلت إلى مدينة مالي حضرة ملك السودان فنزلت عند مقبرتها ووصلت إلى محلة البيضان، وقصدت محمد بن الفقيه، فوجدته قد اكترى لي داراً إزاء داره، فتوجهت إليها.

1 وَهِمَ ابن بطوطة في قوله: إن النهر الأعظم الذي وصل إليه هو النيل، فإنما هو نهر النيجر، فهو الذي يمر بالبلدان التي ذكرها، ومنابعه في شمال سيراليون، وليبيريا، ويصب في المحيط الأطلسي، أما نهر النيل فتقع عليه دنقلة، وبلاد النوبة، ومنابعه في أوغندا، وتنغانيقا، وتصل إليه الأمصار التي تسقط صيفاً على الجبال الحبشة، فيكون فيضانه.

ص: 528

وجاء صهره الفقيه المقريء عبد الواحد بشمعة وطعام، ثم جاء ابن الفقيه إلي من الغد وشمس الدين بن النقويش وعلي الزودي المراكشي وهو من الطلبة، ولقيت القاضي بمالي عبد الرحمن، جاءني، وهو من السودان حاج فاضل له مكارم أخلاق بعث إلي بقرة في ضيافته. ولقيت الترجمان دوغَا "بضم الدال وواو وغين معجم"، وهو من أفاضل السودان وكبارهم، وبعث إلي بثور وبعث إلي الفقيه عبد الواحد غرارتين من الفوني وقرعة من الغرتي، وبعث إلي ابن الفقيه الأرز الفوني، وبعث إلي شمس الدين ضيافة، وقاموا بحقي أتم قيام شكر الله لهم حسن أفعالهم. وكان الفقيه متزوجاً ببنت عم السلطان فكانت تتفقدنا بالطعام وغيره. وأكلنا بعد عشرة أيام من وصولنا عصيدة تصنع من شيء شبه القلقاس يسمى القافي "بقاف وألف وفاء" وهي عندهم مفضلة على سائر الطعام فأصبحنا جميعاً مرضى وكنا ستة فمات أحدنا وذهبت أنا لصلاة الصبح فغشي علي فيها، وطلبت من بعض المصريين دواءً مسهلاً فأتى بشيء يسمى بَيْدر "بفتح الباء الموحدة وتسكين الياء آخر الحروف وفتح الداء المهمل وراء" وهو عروق نبات، وخلطه بالأنيسون والسكر، ولته بالماء فشربته، وتقيأت ما أكلته مع صفراء كثيرة. وعافاني الله من الهلاك. ولكني مرضت شهرين.

وكان سلطان مالي مَنْسَى سليمان ومنسى "بفتح الميم وسكون النون وفتح السين المهمل" معناه: السلطان، وسليمان اسمه وهو ملك بخيل لا يرجى منه كبير عطاء، واتفق أني أقمت هذه المدة ولم أره بسبب مرضي، ثم إنه صنع طعاما برسم عزاء مولانا أبي الحسن رضي الله عنه واستدعى الأمراء والفقهاء والقاضي والخطيب وحضرت معهم فأتوا بالربعات وختم القرآن ودعوا لمولانا أبي الحسن رحمه الله ودعوا لمنسي سليمان. ولما فرغ من ذلك تقدمت فسلمت على منسى سليمان وأعلمه القاضي والخطيب وابن الفقيه بحالي فأجابهم بلسانهم فقالوا لي: يقول لك السلطان أشكر الله: فقلت الحمد لله، والشكر على كل حال.

ولما انصرفت بعث إلي الضيافة فوجهت إلى دار السلطان القاضي وبعث القاضي بها مع رجاله إلى دار ابن الفقيه. فخرج ابن الفقيه من داره مسرعاً حافي القدمين فدخل علي، وقال: قم، قد جاءك قماش السلطان وهديته. فقمت،

ص: 529

وظننت أنها الخلع والأموال، فإذا هي ثلاثة أقراص من الخبز وقطعة لحم بقري مقلو بالغرتي وقرعة فيها لبن رائب، فعندما رأيتها ضحكت وطال تعجبي من ضعف عقولهم، وتعظيمهم لهذا الشيء الحقير.

وأقمت بعد بعث هذه الضيافة شهرين لم يصل إلي فيهما شيء من قبل السلطان. ودخل شهر رمضان وكنت خلال ذلك أتردد إلى المشور وأسلم عليه وأقعد مع القاضي والخطيب فتكلمت مع دوغا الترجمان، فقال: تكلم عنده، وأنا أعبر عنك ما يجب فجلس في أوائل رمضان وقمت بين يديه وقلت له إني سافرت بلاد الدنيا، ولقيت ملوكها، ولي ببلادك أربعة أشهر ولم تضفني ولا أعطيتني شيئاً. فماذا أقول عنك عند السلاطين؟ فقال: إني لم أرك ولا علمت بك فقام القاضي وابن الفقيه فردا عليه، وقالا: إنه قد سلم عليك، وبعثت إليه الطعام فأمر لي عند ذلك بدار أنزل بها ونفقة تجري علي، ثم فرق على القاضي والخطيب والفقهاء مالاً ليلة سبع وعشرين من رمضان يسمونه الزكاة. وأعطاني ثلاثة وثلاثين مثقالاً وثلثاً وأحسن إلي عند سفري بمائة مثقال ذهباً.

وله قبة مرتفعة بابها بداخل داره يقعد فيها أكثر الأوقات ولها من جهة المشور طيقان ثلاثة من الخشب مغطاة بصفائح الفضة وتحتها ثلاثة مغشاة بصفائح الذهب أو هي فضة مذهبة وعليها ستور ملف فإذا كان يوم جلوسه بالقبة رفعت الستور فعلم أنه يجلس فإذا جلس أخرج من شباك إحدى الطاقات شرابة حرير قد ربط فيها منديل مصري مرقوم فإذا رأى الناس المنديل ضربت الأطبال والأبواق ثم خرج من باب القصر نحو ثلاثمائة من العبيد في أيدي بعضهم القسي وفي أيدي بعضهم الرماح الصغار والدرق فيقف أصحاب الرماح منهم ميمنة وميسرة ويجلس أصحاب القسي كذلك ثم يؤتى بفرسين مسرجين ملجمين ومعهما كبشان يذكرون أنهما ينفعان من العين.

وعند جلوسه يخرج ثلاثة من عبيده مسرعين فيدعون نائبه قنجاه موسى وتأتي الفَرارية "بفتح الفاء"، وهم الأمراء، ويأتي الخطيب والفقهاء، فيقعدون أمام السلحدارية يمنه ويسرة في المشور ويقف دوغا الترجمان على باب المشور وعليه الثياب الفاخرة من الزردخانة وغيرها وعلى رأسه عمامة ذات

ص: 530

حواشي لهم في تعميمها صنعة بديعة وهو متقدل سيفاً غمده من الذهب وفي رجليه الخف والمهاميز ولا يلبس أحد ذلك اليوم خفاً غيره. ويكون في يده رمحان صغيران أحدهما من ذهب والآخر من فضة وأسنتهما من الحديد.

ويجلس الأجناد والولاة والفتيان ومسوفة وغيرهم خارج المشور في شارع هنالك متسع فيه أشجار، وكل فراري بين يديه أصحابه بالرماح والقسى والأطبال والأبواق، بوقاتهم من أنياب الفيلة، وآلات الطرب المصنوعة من القصب والقرع وتضرب بالسطاعة ولها صوت عجيب وكل فراري له كنانة قد علقها بين كتفيه وقوسه بيده وهو راكب فرسه وأصحابه بين مشاة وركبان ويكون بداخل المشور تحت الطيقان رجل واقف فمن أراد أن يكلم السلطان كلم دوغا ويكلم دوغا لذلك الواقف ويكلم الواقف السلطان.

ويجلس السلطان أيضاً في بعض الأيام بالمشور وهنالك مصطبة تحت شجرة لها ثلاث درجات، يسمونها البَنْبي "بفتح الباء المعقود الأولى وكسر الثانية وسكون النون بينهما"، وتفرش بالحرير، وتجعل المخاد عليها ويرفع الشطر وهو شبه قبة من الحرير وعليه طائر من ذهب على قدر البازي ويخرج السلطان من باب في ركن القصر وقوسه بيده وكنانته بين كتفيه وعلى رأسه شاشية ذهب مشدودة بعصابة ذهب لها أطراف مثل السكاكين رقاق طولها أزيد من شبر وأكثر لباسه جبة حمراء موبرة من الثياب الرمية التي تسمى المطنفس، ويخرج بين يديه المغنون بأيديهم قنابر الذهب والفضة وخلفه نحو ثلاثمائة من العبيد أصحاب السلاح ويمشي مشياً رويداً ويكثر التأني وربما وقف، فإذا وصل إلى البَنْبي وقف ينظر في الناس، ثم يصعد برفق كما يصعد الخطيب المنبر، وعند جلوسه تضرب الطبول والأبواق والأنفار ويخرج ثلاثة من العبيد مسرعين فيدعون النائب والفرارية فيدخلون ويجلسون ويؤتى بالفرسين والكبشين معهما ويقف دوغا على الباب وسائر الناس في الشارع تحت الأشجار.

والسودان أعظم الناس تواضعاً لملكهم، وأشدهم تذللاً له ويحفلون باسمه فيقولون: منسى سليمان كي، فإذا دعا بأحدهم عند جلوسه بالقبة التي ذكرناها نزع المدعو ثيابه ولبس ثياباً خلقة، ونزع عمامته، وجعل شاشية وسخة، ودخل رافعاً ثيابه وسراويله إلى نصف ساقه وتقدم بذلة ومسكنة، وضرب الأرض بمرفقيه ضرباً شديداً ووقف كالراكع يسمع كلامه.

ص: 531

وإذا كلم أحدهم السلطان فرد عليه جوابه كشف ثيابه عن ظهره ورمى بالتراب على رأسه وظهره كما يفعل المغتسل بالماء، وكنت أعجب منهم كيف لا تعمى أعينهم. وإذا تكلم السلطان في مجلسه بكلام وضع الحاضرون عمائهم عن رؤوسهم، وأنصتوا للكلام وربما قام أحدهم بين يديه فيذكر أفعاله في خدمته، ويقول: فعلت كذا يوم كذا، وقتلت كذا يوم كذا فيصدقه من علم ذلك وتصديقهم أن ينزع أحدهم وتر قوسه ثم يرسلها كما يفعل إذا رمى، فإذا قال له السلطان: صدقت أو شكره نزع ثيابه وترب وذلك عندهم من الأدب. قال ابن جزي: وأخبرني الصاحب العلامة الفقيه أبو القاسم بن رضوان أعزه الله أنه لما قدم الحاج موسى الونجراتي رسولاً عن منسى سليمان إلى مولانا أبي الحسن رضي الله عنه، كان إذا دخل المجلس الكريم، حمل بعض ناسه معه قفة تراب فيترب لهما قال له مولانا كلاماً حسناً، كما يفعل ببلاده.

وحضرت بمالي عيدي الأضحى والفطر فخرج الناس إلى المصلى وهو بمقربة من قصر السلطان وعليهم الثياب الحسان وركب السلطان وعلى رأسه الطيلسان والسودان لا يلبسون الطيلسان إلا في العيد ما عدا القاضي والخطيب والفقهاء فإنهم يلبسونه في سائر الأيام وكانوا يوم العيد بين يدي السلطان وهم يهللون ويكبرون وبين يديه العلامات الحمر من الحرير ونصب عند المصلى خباء فدخل السلطان إليها وأصلح من شأنه ثم خرج إلى المصلى فقضيت الصلاة والخطبة ثم نزل الخطيب وقعد بين يدي السلطان وتكلم بكلام كثير وهنالك رجل بيده رمح يبين للناس بلسانهم كلام الخطيب وذلك وعظ وتذكير وثناء على السلطان وتحريض على لزوم طاعته وأداء حقه. ويجلس السلطان في أيام العيدين بعد العصر على البنبي ويأتي السلحدارية بالسلاح العجيب من تراكش الذهب والفضة والسيوف المحلاة بالذهب وأغمادها منه ورماح الذهب والفضة ودبابيس البلور ويقف على رأسه أربعة من الأمراء يشردون الذباب وفي أيديهم حلية من الفضة تشبه ركاب السرج ويجلس الفرارية والقاضي والخطيب على العادة ويأتي دوغا الترجمان بنسائه الأربع وجواريه وهن نحو مائة عليهن الملابس الحسان وعلى رؤوسهن عصائب الذهب والفضة فيها مفاتيح ذهب وفضة وينصب لدوغا كرسي يجلس عليه،

ص: 532

ويضرب الآلة التي هي من قصب وتحتها قريعات ويغني بشعر بمدح السلطان فيه ويذكر غزواته وأفعاله ويغني النساء والجواري معه ويلعبن بالقسي ويكون معهن نحو ثلاثين من غلمانه عليهم جباب الملف والحمر وفي رؤسهم الشواشي البيض وكل واحد منهم متقلد طبله يضربه ثم يأتي أصحابه من الصبيان ويلعبون في الهواء كما يفعل السندي ولهم في ذلك رشاقة وخفة بديعة ويلعبون بالسيوف أجمل لعب ويلعب دوغا بالسيف لعباً بديعاً وعند ذلك يأمر السلطان له بالإحسان فيوتى بصرة فيها مائتا مثقال من التبر وينثر ما فيها على رؤوس الناس وتقوم الفرارية فينزعون في قسيهم شكرا للسلطان وبالغد يعطى كل واحد منهم لدوغا عطاء على قدره وفي كل يوم جمعة بعد العصر يفعل دوغا مثل هذا الترتيب الذي ذكرناه.

وإذا كان يوم عيد وأتم دوغا لعبه جاء الشعراء ويسمون الجُلا "بضم الجيم"، وأحدهم جالي، وقد دخل كل واحد منهم في جوف صورة مصنوعة من الريش تشبه الشقشاق، وجعل لها رأس من الخشب له منقار أحمر كأنه رأس الشقشاق ويقفون بين يدي السلطان بتلك الهيئة المضحكة فينشدون أشعارهم. وذكر لي أن شعرهم نوع من الوعظ يقولون فيه للسطان أن هذا البنبي الذي عليه جلس فوقه من الملوك فلان وكان من أحسن أفعاله كذا وفلان وكان من أفعاله كذا فافعل أنت من الخير ما يذكر بعدك ثم يصعد كبير الشعراء على درج البنبي ويضع رأسه في حجر السلطان ثم يصعد إلى أعلى البنبي فيضع رأسه على كتف السلطان الأيمن ثم على كتفه الأيسر وهو يتكلم بلسانهم، ثم ينزل. وأخبرت أن هذا الفعل لم يزل قديماً عندهم قبل الإسلام فاستمروا عليه.

وحضرت مجلس السلطان في بعض الأيام فأتى أحد فقهائهم وكان قدم من بلاد بعيدة وقام بين يدي السلطان وتكلم كلاماً كثيراً فقام القاضي فصدقه ثم صدقهما السلطان فوضع كل واحد منهما عمامته عن رأسه وترب بين يديه وكان إلى جانبي رجل من البيضان فقال: أتعرف ما قالوه؟ فقلت: لا أعرف. فقال: إن الفقيه أخبر أن الجراد وقع ببلادهم فخرج أحد صلحائهم إلى موضع الجراد فهاله أمرها فقال هذا جراد كثير. فأجابته جرادة منها وقالت: إن البلاد التي يكثر فيها الظلم يبعثنا الله لفساد زرعها. فصدقه القاضي والسلطان. وقال عند ذلك للأمراء إني بريء من الظلم ومن ظلم منكم عاقبته ومن علم بظالم

ص: 533

ولم يعلمني به فذنوب ذلك الظالم في عنقه والله حسيبه وسائله. ولما قال هذا الكلام وضع الفرارية عمائمهم عن رؤوسهم وتبرؤوا من الظلم.

وحضرت الجمعة يوماً فقام أحد التجار من طلبة مسوفة ويسمى بأبي حفص فقال: يا أهل المسجد أشهدكم أن منسى سليمان في دعوتي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما قال ذلك خرج إليه جماعة رجال من مقصورة السلطان فقالوا له: من ظلمك؟ من أخذ لك شيئاً؟ فقال منشاجو إيوالاتن يعني مشرفها أخذ مني ما قيمته ستمائة مثقال وأراد أن يعطيني في مقابلته مائة مثقال خاصة فبعث السلطان عنه للحين فحضر بعد أيام وصرفهما للقاضي فثبت للتاجر حقه فأخذه وبعد ذلك عزل المشرف عن عمله.

واتفق في يوم إقامتي بمالي أن السلطان غضب على زوجته الكبرى بنت عمه المدعوة بقاسا ومعنى قاسا عندهم الملكة، وهي شريكته في الملك على عادة السودان، ويذكر اسمها مع اسمه على المنبر وسجنها عند بعض الفرارية، وولى في مكانها زوجته الأخرى بنجو ولم تكن من بنات الملوك فأكثر الناس الكلام في ذلك وأنكروا فعله، ودخل بنات عمه على بنجو يهنئنها بالمملكة فجعلن الرماد على أذرعهن ولم يتربن رؤوسهن ثم إن السلطان سرح قاسا من ثقافها فدخل عليها بنات عمه يهنئنها بالسراح وتزين على العادة فشكت بنجو إلى السلطان بذلك. فغضب على بنات عمه فخفن منه واستجرن بالجامع فعفا عنهن، واستدعاهن وعادتهن إذا دخلن على السلطان أن يتجردن عن ثيابهن ويدخلن عرايا، ففعلن ذلك ورضي عنهن، وصرن يأتين باب السلطان غدواً وعشياً مدة سبعة أيام وكذلك يفعل كل من عفا عنه السلطان. وسارت قاسا تركب كل يوم في جواريها وعبيدها وعلى رؤوسهم التراب وتقف عند المشور متنقبة لا يرى وجهها، وأكثر الأمراء الكلام في شأنها فجمعهم السلطان في المشور وقال لهم دوغا على لسانه: إنكم قد أكثرتم الكلام في أمر قاسا وإنها أذنبت ذنباً كبيراً.

ثم أتي بجارية من جواريها مقيدة مغلولة، فقيل لها: تكلمي بما عندك. فأخبرت أن قاسا بعثتها إلى جاطل ابن عم السلطان الهارب عنه إلى كنبرني واستدعته ليخلع السلطان عن ملكه، وقالت له: أنا وجميع العساكر طوع أمرك، فلما سمع الأمراء ذلك قالوا: إن هذا ذنب كبير وهي تستحق القتل عليه.

ص: 534

فخافت قاسا من ذلك واستجارت بدار الخطيب، وعادتهم أن يستجيروا هنالك بالمسجد وإن لم يتمكن فبدار الخطيب. وكان السودان يكرهون منسى سليمان لبخله، وكان قبله منسى مغا وقبل منسى مغا منسى موسى وكان كريماً فاضلاً يحب البيضان ويحسن إليهم وهو الذي أعطى لأبي إسحاق الساحلي في يوم واحد أربعة آلاف مثقال، وأخبرني بعض الثقات أنه أعطى لمدرك بن فقوص ثلاثة آلاف مثقال في يوم واحد وكان جده سارق جاطه أسلم على يدي مدرك هذا.

وأخبرني الفقيه مدرك هذا أن رجلاً من أهل تلمسان يعرف بابن شيخ اللبن كان قد أحسن إلى السلطان منسى موسى في صغره بسبعة مثاقيل وثلث وهو يومئذ صبي غير معتبر ثم اتفق أن جاء إليه في خصومة وهو سلطان فعرفه ودعاه وأدناه منه حتى جلس معه على البنبي ثم قرره على فعله معه وقال للأمراء ما جزاء من فعل ما فعله من الخير فقالوا له الحسنة بعشر أمثالها فأعطه سبعين مثقالاً فأعطاه عند ذلك سبعمائة مثقال وكسوة وعبيداً وخدماً وأمره أن لا ينقطع عنه وأخبرني بهذه الحكاية أيضا ولد ابن شيخ اللبن المذكور وهو من الطلبة يعلم القرآن بمالي.

فمن أفعالهم الحسنة قلة الظلم فهم أبعد الناس عنه وسلطانهم لا يسامح أحداً في شيء منه، ومنها شمول الأمن في بلادهم فلا يخاف المسافر فيها ولا المقيم من سارق ولا غاضب، ومنها عدم تعرضهم لمال من يموت ببلادهم من البيضان ولو كان القناطير المقنطرة إنما يتركونه بيد ثقة من البيضان حتى يأخذه مستحقه، ومنها مواظبتهم للصلوات والتزامهم لها في الجماعات وضربهم أولادهم عليها، وإذا كان يوم الجمعة ولم يبكر الإنسان إلى المسجد لم يجد أين يصلي لكثرة الزحام. ومن عادتهم أن يبعث كل إنسان غلامه بسجادته فيبسطها له بموضع يستحقه بها حتى يذهب إلى المسجد وسجاداتهم من سعف شجر يشبه النخل ولا ثمر له، ومنها لباسهم الثياب البيض الحسان يوم الجمعة ولو لم يكن لأحدهم إلى قميص خلق غسله ونظفه وشهد به الجمعة، ومنها عنايتهم بحفظ القرآن العظيم وهم يجعلون لأولادهم القيود إذا ظهر في حقهم التقصير في حفظه فلا تفك عنهم حتى يحفظوه.

ولقد دخلت على القاضي يوم العيد وأولاده مقيدون، فقلت له: ألا

ص: 535

تسرحهم؟ فقال: لا أفعل حتى يحفظوا القرآن. ومررت يوماً بشاب منهم حسن الصورة عليه ثياب فاخرة وفي رجله قيد ثقيل. فقلت لمن كان معي: ما فعل هذا؟ أقتل؟ ففهم عني الشاب وضحك وقيل لي: إنما قيد حتى يحفظ القرآن. ومن مساوئ أفعالهم كون الخدم الجواري والبنات الصغار يظهرن للناس عرايا باديات العورات. ولقد كنت أرى في رمضان كثيراً منهن على تلك الصورة. فإن عادة الفرارية أن يفطروا بدار السلطان ويأتي كل واحد منهم بطعامه تحمله العشرون فما فوقهن من جواريه وهن عرايا. ومنها دخول النساء على السلطان عرايا غير مستترات، وتعري بناته، ولقد رأيت في ليلة سبع وعشرين من رمضان نحو مائة جارية خرجن بالطعام من قصره عرايا، ومعهن بنتان لهما ناهدان ليس عليهما ستر. ومنها جعلهم التراب والرماد على رؤوسهم تأدباً. ومنها ما ذكرته من الأضحوكة في إنشاد الشعراء. ومنها أن كثيراً منهم يأكلون الجيف والكلاب والحمير.

وكان دخولي إلى مالي في الرابع عشر لجمادى الأولى سنة ثلاثة وخمسين وخروجي عنها في الثاني والعشرين لمحرم سنة أربع وخمسين ورافقني تاجر يعرف بأبي بكر بن يعقوب وقصدنا طريق ميمة وكان لي جمل أركبه لأن الخيل غالية الأثمان يساوي أحدها مائة مثقال فوصلنا إلى خليج كبير يخرج من النيل لا يجاز إلا في المراكب وذلك الموضع كثير البعوض فلا يمر أحد به إلا بالليل. ووصلنا الخليج ثلث الليل والليل مقمر.

ولما وصلنا الخليج رأيت على ضفته ست عشرة دابة ضخمة الخلقة فعجبت منها وظننتها فيلة لكثرتها هنالك ثم أني رأيتها دخلت في النهر. فقلت لأبي بكر بن يعقوب: ما هذه الدواب؟ فقال: هي خيل البحر خرجت ترعى في البر وهي أغلظ من الخيل ولها أعراف وأذناب ورؤوسها كرؤوس الخيل وأرجلها كأرجل الفيلة. ورأيت هذه الخيل مرة أخرى لما ركبنا النيل من تُنبكتو إلى كَوْكَوْ وهي تعوم في الماء وترفع رؤوسها وتنفخ. وخاف منها أهل المركب فقربوا من البر لئلا تغرقهم. ولهم حيلة في صيدها حسنة وذلك أن لهم رماحاً مثقوبة قد جعل في ثقبها شرائط وثيقة فيضربون الفرس منها فإن صادفت الضربة رجله أو عنقه أنفذته وجذبوه بالحبل حتى يصل إلى الساحل فيقتلونه ويأكلون لحمه ومن عظامها بالساحل كثير. وكان نزولنا عند

ص: 536

هذا الخليج بقرية كبيرة عليها حاكم من السودان حاج فاضل يسمى فربامغا "بفتح الميم والغين المعجم"، وهو ممن حج مع السلطان منسى موسى لما حج.

أخبرني فربامغا أن منسى موسى لما وصل إلى هذا الخليج كان معه قاض من البيضان يكنى بأبي العباس ويعرف بالدكالي فأحسن إليه بأربعة آلاف مثقال لنفقته. فلما وصلوا إلى ميمة شكا إلى السلطان بأن الأربعة آلاف مثقال سرقت له من داره. فاستحضر السلطان أمير ميمة وتوعده بالقتل إن لم يحضر من سرقها. وطلب الأمير السارق فلم يجد أحداً ولا سارق يكون بتلك البلاد. فدخل دار القاضي واشتد على خدامه وهدّدهم. فقالت له إحدى جواريه: ما ضاع له شيء وإنما دفنها بيده في ذلك الموضع وأشارت له إلى الموضع فأخرجها الأمير وأتى بها السلطان وعرفه الخبر فغضب على القاضي ونفاه إلى بلاد الكفار الذين يأكلون بني آدم فأقام عندهم أربع سنين ثم رده إلى بلده. وإنما لم يأكله الكفار لبياضه، لأنهم يقولون: إن أكل الأبيض مضرّ، لأنه لم ينضج. والأسود هو النضج بزعمهم.

قدمت على السلطان منسى سليمان جماعة من هؤلاء السودان الذين يأكلون بني آدم معهم أمير لهم. وعادتهم أن يجعلوا في آذانهم أقراطاً كباراً وتكون فتحة القرط نصف شبر ويلتحفون في ملاحف الحرير. وفي بلادهم يكون معدن الذهب فأكرمهم السلطان وأعطاهم في الضيافة خادماً فذبحوها وأكلوها ولطخوا وجوههم وأيديهم بدمها. وأتوا السلطان شاكرين. وأخبرت أن عادتهم متى ما وفدوا عليه أن يفعلوا ذلك. وذكر لي عنهم أنهم يقولون أن أطيب ما في لحوم الآدميات الكف والثدي. ثم رحلنا من هذه القرية التي عند الخليج فوصلنا إلى بلدة قُرِي منسا. وقرِي "بضم القاف وكسر الراء"، ومات لي بها الجمل الذي كنت أركبه فأخبرني راعيه بذلك فخرجت لأنظر إليه فوجدت السودان قد أكلوه كعادتهم في أكل الجيف فبعثت غلامين كنت استأجرتهما على خدمتي ليشتريا لي جملاً بِزَاغَري وهي على مسيرة يومين. وأقام معي بعض أصحاب أبي بكر بن يعقوب وتوجه هو لينتظرنا بميمة فأقمت سبعة أيام أضافني فيها بعض الحجاج بهذه البلدة حتى وصل الغلامان بالجمل.

وفي أيام إقامتي بهذه البلدة رأيت ليلة فيما يرى النائم كأن إنساناً يقول لي: يا محمد بن بطوطة لماذا لا تقرأ سورة يس في كل يوم؟ فمن يومئذ ما

ص: 537

تركت قراءتها كل يوم في سفر ولا حضر. ثم رحلت إلى بلدة مِيمَة "بكسر الميم الأول وفتح الثاني" فنزلنا على آبار بخارجها.

ثم سافرنا منها إلى مدينة تُنْبُكتُو"وضبط اسمها بضم التاء المعلوة وسكون النون وضم الباء الموحدة وسكون الكاف وضم التاء المعلوة الثانية وواو"، وبينها وبين النيل أربعة أميال. وأكثر سكانها مسوفة أهل اللثام وحاكمها يسمى فربا موسى. حضرت عنده يوماً وقد قدم أحد مسوفة أميراً على جماعة فجعل عليه ثوبا وعمامة وسروالاً كلها مصبوغة وأجلسه على درقة ورفعه كبراء قبيلته على رؤوسهم. وبهذه البلدة قبر الشاعر المفلق أبي إسحاق الساحلي الغرناطي المعروف ببلده بالطويجن، وبها قبر سراج الدين بن الكويك أحد كبار التجار من أهل الإسكندرية.

كان السلطان منسى موسى، لما حج نزل بروض لسراج الدين هذا ببركة الحبش خارج مصر وبها ينزل السلطان واحتاج إلى مال فتسلفه من سراج الدين وتسلف منه أمراؤه أيضاً. وبعث معهم سراج الدين وكيله يقتضي المال فأقام بمالي فتوجه سراج الدين بنفسه لاقتضاء ماله ومعه ابن له، فلما وصل تُنْبُكتو أضافه أبو إسحاق الساحلي فكان من القدر موته تلك الليلة فتكلم الناس في ذلك واتهموا أنه سم. فقال لهم ولده: إني أكلت معه ذلك الطعام بعينه فلو كان فيه سم لقتلنا جميعا لكنه انقضى أجله. ووصل الولد إلى مالي واقتضى ماله وانصرف إلى ديار مصر. ومن تُنْبُكتو ركبت النيل في مركب صغير منحوت من خشبة واحدة وكنا ننزل كل ليلة بالقرى فنشتري ما نحتاج إليه من الطعام والسمن بالملح وبالعطريات وبحلي الزجاج ثم وصلت إلى بلد اُنسيت اسمه له أمير فاضل حاج يسمى فربا سليمان مشهور بالشجاعة والشدة لا يتعاطى أحد النزع في قوسه ولم أر في السودان أطول منه ولا أضخم جسماً واحتجت بهذه البلدة إلى شيء من الذرة فجئت إليه وذلك يوم مولد رسول الله صلى الله عليه وسلم فسلمت عليه وسألني عن مقدمي وكان معه فقيه يكتب له فأخذت لوحاً كان بين يديه وكتبت فيه: يا فقيه قل لهذا الأمير، إنا نحتاج إلى شيء من الذرة للزاد والسلام. وناولت الفقيه اللوح يقرأ ما فيه سرا ويكلم الأمير في ذلك بلسانه فقرأه جهراً وفهمه الأمير فأخذ بيدي وأدخلني إلى مشوره وبه سلاح كثير من الدرق والقسي والرماح، ووجدت عنده كتاب

ص: 538

المدهش لابن الجوزي فجعلت أقرأ فيه.

ثم أتي بمشروب لهم يمسى الدَّقْنُو "بفتح الدال المهمل وسكون القاف وضم النون وواو" وهو ماء فيه جريش الذرة مخلوط بيسير عسل أو لبن وهم يشربونه عوض الماء لأنهم إن شربوا الماء خالصاً أضرّ بهم وإن لم يجدوا الذرة خلطوه بالعسل أو اللبن، ثم أتي ببطيخ أخضر فأكلنا منه ودخل غلام خماسي فدعاه وقال لي: هذا ضيافتك واحفظه لئلا يفر، فأخذته وأردت الانصراف فقال: أقم حتى يأتي الطعام. وجاءت إلينا جارية له دمشقية عربية فكلمتني بالعربي. فبينما نحن في ذلك سمعنا صراخاً بداره. فوجه الجارية لتعرف خبر ذلك فعادت إليه فأعلمته أن بنتا له قد توفيت، فقال: إني لا أحب البكاء فتعال نمش إلى البحر يعني النيل وله على ساحله ديار فأتى بالفرس، فقال لي: اركب فقلت لا اركبه وأنت ماش فمشينا جميعاً ووصلنا إلى دياره على النيل وأتي الطعام فأكلنا وودعته وانصرفت.

ولم أر في السودان أكرم منه ولا أفضل والغلام الذي أعطانيه باق عندي إلى الآن. ثم سرت إلى مدينة كَوْكَو، وهي مدينة كبيرة على النيل من أحسن مدن السودان وأكبرها وأخصبها فيها الأرز الكثير واللبن والدجاج والسمك، وبها الفقوس العناني الذي لا نظير له. وتعامل أهلها في البيع والشراء بالودع وكذلك أهل مالي. وأقمت بها نحو شهر. وأضافني بها محمد بن عمر من أهل مكناسة وكان ظريفاً مزاحاً فاضلاً. وتوفي بها بعد خروجي عنها. وأضافني بها الحاج محمد الوجدي التازي وهو ممن دخل اليمن، والفقيه محمد الفيلالي إمام مسجد البيضان.

ثم سافرت منها برسم تَكْدَّا في البر مع قافلة كبيرة للغدامسين. دليلهم ومقدمهم الحاج وُجّين "بضم الواو وتشديد الجيم المعقودة" ومعناه الذئب بلسان السودان. وكان لي جمل لركوبي وناقة لحمل الزاد فلما رحلنا أول مرحلة وقفت الناقة فأخذ الحاج وجين ما كان عليها وقسمه على أصحابه فتوزعوا حمله. وكان في الرفقة مغربي من أهل تادلي فأبى أن يرفع من ذلك شيئاً كما فعل غيره. وعطش غلامي يوماً فطلبت منه الماء فلم يسمح به. ثم وصلنا إلى بلاد بَرْدامة وهي قبيلة من البربر "وضبطها بفتح الباء الموحدة وسكون الراء وفتح الدال المهمل وميم مفتوح وتاء تأنيث". ولا تسير القوافل إلا

ص: 539

في خفارتهم. والمرأة عندهم في ذلك شأنا أعظم من الرجل. وهم رحالة لا يقيمون، وبيوتهم غريبة الشكل ويقيمون أعواداً من الخشب ويضعون عليها الحصر وفوق ذلك أعواداً مشتبكة وفوقها الجلود أو ثياب القطن. ونساؤهم أتم النساء جمالاً وأبدعهن صوراً، مع البياض الناصع والسمن. ولم أر في البلاد من يبلغ مبلغهن في السمن. وطعامهن حليب البقر وجريش الذرة يشربنه مخلوطاً بالماء غير مطبوخ عند السماء والصباح. ومن أراد التزوج منهن سكن بهن في أقرب البلاد إليهن، ولا يتجاوز بهن كوكو ولا إيوالاتن. وأصابني المرض في هذه البلاد لاشتداد الحر وغلبة الصفراء. واجتهدنا في السير إلى أن وصلنا إلى مدينة تَكْدّاَ "وضبطها بفتح التاء المعلوة والكاف المعقودة والدال المهمل مع تشديده". ونزلت بها في جوار شيخ المغاربة سعيد بن علي الجزولي وأضافني قاضيها أبو إبراهيم إسحاق الجاناتي وهو من الأفاضل وأضافني جعفر بن محمد المسوفي. وديار تكدا مبنية بالحجارة الحمر وماؤها يجري على معادن النحاس فيتغير لونه وطمعه بذلك ولا زرع بها إلا يسير من القمح يأكله التجار والغرباء ويباع بحساب عشرين مدا من أمداداهم بمثقال ذهب ومدهم ثلث المد ببلادنا. وتباع الذرة عندهم بحساب تسعين مدا بمثقال ذهب. وهي كثيرة العقارب وعقاربها تقتل من كان صبيا لم يبلغ، وأما الرجال فقلما تقتلهم.

ولقد لدغت يوماً وأنا بها ولداً للشيخ سعيد بن علي عند الصبح فمات لحينه، وحضرت جنازته ولا شغل لأهل تكدا غير التجارة يسافرون كل عام إلى مصر ويجلبون كل ما بها من حسان الثياب وسواها. ولأهلها رفاهية وسعة حال ويتفاخرون بكثرة العبيد والخدم وكذلك أهل مالي وأيوالاتن. ولا يبيعون المعلمات منهن إلا نادراً وبالثمن الكثير.

لما دخلت تكدا أردت شراء خادم معلمة فلم أجدها، ثم بعث إلي القاضي أبو إبراهيم بخادم لبعض أصحابه فاشتريتها بخمسة وعشرين مثقالاً. ثم إن صاحبها ندم ورغب في الإقالة، فقلت له: إن دللتني على سواها أقلتك. فدلني على خادم لعلي أغيول وهو المغربي التادلي الذي أبى أن يرفع شيئاً من أسبابي حين وقعت ناقتي وأبى أن يستقي غلامي الماء حين عطش. فاشتريتها منه وكانت خيراً من الأولى. وأقلت صاحبي الأول ثم ندم المغربي على بيع

ص: 540

الخادم ورغب في الإقامة، وألح في ذلك فأبيت إلا أن أجازيه بسوء فعله، فكاد أن يجن أو يهلك أسفا. ثم أقلته بعد.

ومعدن النحاس بخارج تكدا يحفرون عليه في الأرض، ويأتون به إلى البلد، فيسكبونه في دورهم. ويفعل ذلك عبيدهم وخدمهم فإذا سكبوه نحاساً أحمر صنعوا منه قضباناً في طول شبر ونصف بعضها رقاق وبعضها غلاظ. فتباع الغلاظ منها بحساب أربعمائة قضيب بمثقال ذهب. وتباع الرقاق بحساب ستمائة وسبعمائة بمثقال ذهب. وهي صرفهم يشترون برقاقها اللحم والحطب، ويشترون بغلاظها العبيد والخدم والذرة والسمن والقمح. ويحمل النحاس منها إلى مدينة كوبر من بلاد الكفار، وإلى زغاري، وإلى بلاد برنو، وهي على مسيرة أربعين يوماً من تكدا وأهلها مسلمون لهم ملك اسمه إدريس لا يظهر للناس ولا يكلّمهم إلا من وراء حجاب.

ومن هذه البلاد يؤتى بالجواري الحسان والفتيان والثياب المجسدة. ويحمل النحاس أيضاً منها إلى جوجرة وبلاد المورتيين وسواها.

وفي أيام إقامتي بها، توجه القاضي أبو إبراهيم والخطيب محمد والمدرس أبو حفص والشيخ سعيد بن علي إلى سلطان تكدا وهو بربري يسمى إزْار "بكسر الهمزة وزاي وألف وراء" وكان على مسيرة يوم منها ووقعت بينه وبين التكركري وهو من سلاطين البربر أيضا منازعة فذهبوا إلى الإصلاح بينهما. فأردت أن ألقاه فاكتريت دليلاً وتوجهت إليه وأعلمه المذكورون بقدومي فجاء إلى راكبا فرساً دون سرج وتلك عادتهم.

وقد جعل عوض السرج طنفسة حمراء بديعة وعليه ملحفة وسراويل وعمامة كلها زرق ومعه أولاد أخته وهم الذين يرثون ملكه. فقمنا إليه وصافحناه. وسأل عن حالي ومقدمي فأعلم بذلك وأنزلني ببيت من بيوت اليناطبين، وهم كالوصفان عندنا. وبعث برأس غنم مشوي في السفود، وقعب من حليب البقر. وكان في جوارنا بيت أمه وأخته فجاءتا إلينا وسلمتا علينا. وكانت أمه تبعث لنا الحليب بعد العتمة وهو وقت حلبهم ويشربونه ذلك الوقت وبالغدو. وأما الطعام فلا يأكلونه. ولا يعرفونه وأقمت عندهم ستة أيام. وفي كل يوم يبعث بكبشين مشويين عند الصباح والمساء. وأحسن إلي بناقة

ص: 541

وعشرة مثاقيل من الذهب، وانصرفت عنه وعدت إلى تكدا.

ولما عدت إلى تكدا، وصل غلام الحاج محمد بن سعيد السجلماسي، بأمر مولانا أمير المؤمنين وناصر الدين المتوكل على رب العالمين آمراً لي الوصول إلى حضرته العلية فقبّلته. وامتثلته على الفور.

واشتريت جملين لركوبي بسبعة وثلاثين مثقالاً وثلث، وقصدت السفر إلى توات. ورفعت زاد سبعين ليلةً إذ لا يوجد الطعام فيما بين تكدا وتوات إنما يوجد اللحم واللبن والسمن يشترى بالأثواب، وخرجت من تكدا يوم الخميس الحادي عشر لشعبان سنة أربع وخمسين في رفقة كبيرة فيهم جعفر التواتي وهو من الفضلاء ومعنا الفقيه محمد بن عبد الله قاضي تكدا. وفي الرفقة نحو ستمائة خادم. فوصلنا إلى كاهر من بلاد السلطان الكركري، وهي أرض كثيرة الأعشاب يشتري بها الناس من برابرها الغنم، ويقددون لحمها ويحمله أهل توات إلى بلادهم. ودخلنا منها إلى برية لا عمارة بها ولا ماء وهي مسيرة ثلاثة أيام.

ثم سرنا بعد ذلك خمسة عشر يوماً برية لا عمارة بها إلا أن بها الماء. ووصلنا إلى الموضع الذي يفترق به طريق غات الآخذ إلى ديار مصر وطريق توات. وهنالك احساء ماء يجري على الحديد فإذا غسل به الثوب الأبيض اسودّ لونه.

وسرنا من هنالك عشرة أيام ووصلنا إلى بلاد هكار، وهم طائفة من البربر ملثمون لا خير عندهم، ولقينا أحد كبرائهم فحبس القافلة حتى غرموا له أثواباً وسواها. وكان وصولنا إلى بلادهم في شهر رمضان. وهم لا يغيرون فيه ولا يعترضون القوافل. وإذا وجد سراقها المتاع بالطريق في رمضان لم يعرضوا له. وكذلك جميع من بهذه الطريق من البرابر. وسرنا في بلاد هكار شهراً وهي قليلة النبات كثيرة الحجارة طريقها وعر. ووصلنا يوم عيد الفطر إلى بلاد برابر أهل لثام كهؤلاء. فأخبرونا بأخبار بلادنا وأعلمونا أنّ أولاد خراج وابن يغمور خالفوا وسكنوا تسابيت من توات. فخاف أهل القافلة من ذلك. ثم وصلنا إلى بُودا "بضم الباء الموحدة" وهي من أكبر قرى توات، وأرضها رمال وسباخ وتمرها كثير ليس بطيب، لكن أهلها يفضلونه على تمر سجلماسة. ولا

ص: 542

زرع بها ولا سمن ولا زيت، وإنما يجلب لها ذلك من بلاد المغرب. وأكل أهلها التمر والجراد وهو كثير عندهم يختزنونه كما يختزن التمر ويقتاتون به ويخرجون إلى صيده قبل طلوع الشمس فإنه لا يطير إذاك لأجل البرد. وأقمنا ببُودَا أياماً ثم سافرنا في قافلة، ووصلنا في أوسط ذي القعدة إلى مدينة سجلماسة. وخرجت منها في ثاني ذي الحجة وذلك أوان البرد الشديد ونزل بالطريق ثلج كثير. ولقد رأيت الطرق الصعبة والثلج الكثير ببخارى وسمرقند وخراسان وبلاد الأتراك، فلم أر أصعب من طريق أم جنيبة. ووصلنا ليلة عيد الأضحى إلى دار الطمع، فأقمت هنالك يوم عيد الأضحى، ثم خرجت فوصلت إلى حضرة فاس، حضرة مولانا أمير المؤمنين أيده الله، فقبلت يده الكريمة وتيمنت بمشاهدة وجهه المبارك، وأقمت في كنف إحسانه بعد طول الرحلة. والله تعالى يشكر ما أولانية من جزيل إحسانه، وسابغ امتنانه ويديم أيامه ويمتع المسلمين بطول بقائه. وههنا انتهت الرحلة المسماة: تحفة النظار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار. وكان الفراغ من تقييدها في ثالث ذي الحجة عام ستة وخمسين وسبعمائة.

والحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى.

ص: 543