المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الرسالة الخامسة: رسالة أهل نجد والجواب عليها - رسائل وفتاوى عبد الرحمن بن حسن بن محمد عبد الوهاب

[عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ]

الفصل: ‌الرسالة الخامسة: رسالة أهل نجد والجواب عليها

‌الرسالة الخامسة: رسالة أهل نجد والجواب عليها

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، المعرضين عن الحق المبين، وصلى الله على سيد المرسلين، وإمام المتقين، وعلى آله وصحبه أجمعين، وسلم تسليما.

أما بعد:

فإنه ألقي إلينا رسالة من الأحساء مشتملة على الكذب والبهتان، والإثم والعدوان، والله تعالى عند لسان كل قائل وقلبه، وهو المستعان.

وهذه الرسالة قد صدرها صاحبها بشبهة تنبي عن شك من صدرت منه، وارتيابه في هذا الدين، الذي بعث الله به المرسلين. والشبهة هي بذاتها وحروفها وكلماتها، هي التي أوردها أهل نجد على شيخنا الشيخ محمد بن عبد الوهاب، لما دعاهم إلى أن يعبدوا الله وحده لا شريك له، ويتركوا عبادة ما كانوا يعبدونه من الأوثان والطواغيت كتاج وشمسان، ويخلعوا عبادة الأوثان، مثل عبادتهم لزيد بن الخطاب، وغيره من أرباب القبور، والأشجار، والأحجار.

وممن أورد هذه الشبهة عليه عبد الله المويس واعي حرمه، وابن إسماعيل في الوشم، وسليمان بن عبد الوهاب في العارض، وزعموا أن الأمة لا يقع فيها شرك، فرد عليهم رحمه الله بالكتاب والسنة، وبين أن هذا الذي يفعلونه هو الشرك الأكبر الذي لا يغفره الله، بالأدلة والبراهين من كتاب الله، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.

وبين ضلال هؤلاء وأمثالهم، وظهرت حجته عليهم وعلى أمثالهم ممن اشمأز عن التوحيد؛ فانتشرت دعوته

ص: 53

في الآفاق، وأقر بصحتها الخلق الكثير، والجم الغفير، فأنقذ الله بدعوته من الشرك والضلال أكثر أهل نجد، وما والاها، وبعض الأقاليم البعيدة؛ فالحمد لله على ظهور الحق ودحوض الباطل. ثم إن صاحب هذه الرسالة أظهر الشبهة المشار إليها فقال رسالته، يعني رجلا كان يكرهه لدينه، ويظن به ما قد أظهره في رسالته، فقال: أيها الرجل الجاهل المعجب بنفسه، لقد غويت وجهلت باعتقادك في هذه الأمة المحمدية التي قال الله فيها:{كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} 1، وقال تعالى:{وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً} 2 أي عدلا خيارا. وقال صلى الله عليه وسلم: "ألا وإن هذه توفي سبعين أمة هي خيرها وأكرمها عند الله عز وجل".

قلت: فترك من الآيتين ما هو دليل عليه، وحرف الحديث وغيره.

ثم قال: إنك جعلتهم ما بين مشرك، ومبتدع، وفاسق، وجاهل، وظالم، ولا هنا مسلم حقيقي إلا أنت وكم نفر من الذي تشتهي، ولا سبقك أحد بهذا الاعتقاد.

فأقول قبل الجواب: الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، ما أعظم هذه الفرية وأبينها ضلالة! أليس الله تعالى قد بعث محمدا صلى الله عليه وسلم إلى الأحمر والأسود، والجن والإنس، فآمن به من آمن، وكفر به من كفر، ونافق من نافق، وأنزل الله عليه الكتاب والحكمة، وفي كل سورة من السور المكية محاجة المشركين، والرد عليهم، وبيان ضلالهم.

ولما هاجر النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة أمره الله بالجهاد، وافترضه عليه وعلى المؤمنين فقال:{فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا تُكَلَّفُ إِلَاّ نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ} 3، وسمى

1 سورة آل عمران آية: 110.

2 سورة البقرة آية: 143.

3 سورة النساء آية: 84.

ص: 54

الله تعالى في كتابه من لم يؤمن به كفارا ومشركين، وأحل له دماءهم وأموالهم، وسبي نسائهم وذراريهم، وهذا أظهر من الشمس في نحر الظهيرة.

وإذا كان الأمر كذلك، فلا يخلو هذا المشبه الجاهل الغاوي من أحد أمور ثلاثة، إما أن يقول: إن الذين سماهم الله كفارا ومشركين ومنافقين ليسوا من أمة محمد صلى الله عليه وسلم، وهذا لا يقوله أحد حتى الزنادقة والشياطين، أو يقول: إن المؤمن والكافر والمنافق والمبتدع كلهم من أمة محمد صلى الله عليه وسلم خير أمة أخرجت للناس، فهذا لا يقوله إلا من ضل عن القرآن وخرج من الإيمان، وغوى عن الحق والهدى، وسلك سبيل أهل الزيغ والردى؛ حيث جعل المشركين والكفار كالمقربين والأبرار، وسوى بين أهل الجنة وأهل النار.

فإن رجع عن هذين الأمرين خصم نفسه وأبطل شبهته. والبصير يعرف حال هذا الرجل في دينه وجهله، وأنه لا يقول هذا الأمر إلا من لا عقل له ولا دين، لكن يتعين علينا الجواب مخافة أن تكون هذه الشبهة قد دخلت على بعض العوام، وعلى بعض من ينتسب إلى العلم من المستكبرين المعرضين عن هذا الدين.

مييز أمة الإجابة من أمة الدعوة

فأقول وبالله التوفيق: قال الله تعالى: {حم تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ بَشِيراً وَنَذِيراً فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ} 1 - إلى قوله {فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ} 2: فأخبر تعالى في هذه الآيات أن الأكثر أعرضوا عن هذا القرآن، الذي أوحاه الله إلى نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، فلم يقبلوا ما جاءهم به، وهم الذين بعث فيهم صلى الله عليه وسلم من قريش وغيرهم، لا ريب أنهم من أمته صلى الله عليه وسلم، فصاروا فريقين: فريق آمنوا واتبعوه، والأكثر أعرضوا عنه، ونصبوا له

1 سورة فصلت آية: 2.

2 سورة فصلت آية: 5.

ص: 55

العداوة ولأتباعه؛ وهؤلاء كثير منهم من مات على كفره، ومنهم من قتل ببدر وأحد والخندق.

ولا يمكن أحد له أدنى مسكة من عقل أن يقول: إن هؤلاء ليسوا من أمة محمد صلى الله عليه وسلم، ولا يمكنه أيضا أن يقول: إنهم من خير أمة أخرجت للناس؛ فظهر بهذا الدليل الواضح أن خير الأمة هم المؤمنون، الذين استجابوا لله ولرسوله، من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان، وهم الموصوفون في هذه الآية بقوله:{تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} 1، فخص بالثناء على الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر، وأنهم خصوص أهل الإيمان دون من عداهم من مشرك ومنافق ومرتاب، فليسوا من خير أمة ولا كرامة، بل هم شرار الأمة.

وقد بعث الله نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون، فأقام بمكة ثلاث عشرة سنة يوحى إليه السور المكية، وكلها جدال مع المشركين، وبيان وإيضاح للتوحيد، وبينات ودلالات، فلما قامت الحجة على من تخلف عن الإيمان به، شرع الله الهجرة، وأمره بالقتال بالسيوف، وضرب الرقاب والهام لمن خالف القرآن وعانده.

ولما هاجر النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة وجد فيها ثلاث قبائل من اليهود: بني النضير، وبني قينقاع، وبني قريظة، وفيها من الأوس والخزرج من آمن به واتبعه، وفيهم أهل العقبة الذين بايعوه بمنى على أن يؤووه وينصروه، وفيهم من لم يؤمن به ويتبعه من المنافقين.

وقد بعثه الله تعالى إلى الأسود والأحمر من بني آدم كما قال تعالى: {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً} 2، وقال تعالى:{قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً} 3. وكل أهل الملل من اليهود والنصارى

1 سورة آل عمران آية: 110.

2 سورة الفرقان آية: 1.

3 سورة الأعراف آية: 158.

ص: 56

والمجوس والصائبة من أمته الذين أرسل إليهم، وكلهم من أمة محمد، وهم أمة الدعوة، قال الله تعالى:

{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} 1.

فمن لم يؤمن بالنبي صلى الله عليه وسلم ولم يتبعه من هذه الملل الخمسة فهو في النار كما قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُولَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ} 2، فأخبر تعالى أنهم في النار خالدين فيها، وأنهم شر البرية، مع كونهم من هذه الأمة؛ فبطل بهذين الوجهين ما زعمه هذا الجاهل الغافل المغفل، الذي لم يرفع بدين الإسلام رأسا.

تأييد الرد بالأدلة

ومعلوم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قتل كعب بن الأشرف اليهودي، وأجلى بني قينقاع لما أرادوا الغدر به وذلك بعد وقعة أحد، وقتل بني قريظة لما ظاهروا المشركين يوم الخندق، وكل هؤلاء كفارن ولا ريب أنهم من أمة الدعوة لا من أمة الإجابة. فيلزم على ما اعتقده هذا الضال الجاهل أن أولئك اليهود من خير أمة أخرجت للناس، وهذا لا يقوله من عرف الإسلام من الكفر؛ ومن يميز بين الكفر والإسلام فإنه لا يدري ما يقول.

وفي صحيح مسلم عن أبي موسى الأشعري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "والذي نفسي بيده لا يسمع بي رجل من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ثم لا يؤمن بي إلا دخل النار" 3 رواه الإمام أحمد أيضا. وعن أبي هريرة مثله. فدل هذا الحديث أن اليهود والنصارى من هذه الأمة، وأن من لم يؤمن برسول الله صلى الله عليه وسلم ويتبعه منهم فهو من أهل النار.

وقد قال تعالى: {فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ} 4، وقال

1 سورة الحج آية: 17.

2 سورة البينة آية: 6.

3 مسلم: الإيمان (153) ، وأحمد (2/317) .

4 سورة التوبة آية: 5.

ص: 57

تعالى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} 1، فأمر تعالى بقتال المشركين من العرب وأهل الكتاب، وهذا فرض على المسلمين، وحكم ثابت إلى يوم القيامة على كل من قام بالإسلام من هذه الأمة، فيجب عليه قتال المشركين وأهل الكتاب حتى يسلموا؛ فإن كانوا أهل كتاب وبذلوا الجزية أخذت منهم، واشترط عليهم ما اشترطه عمر بن الخطاب صاروا أهل ذمة.

وقد قال صلى الله عليه وسلم في المجوس: "سنوا بهم سنة أهل الكتاب"2. وقد شرع الله تعالى جهاد الكفار والمشركين من أهل الكتاب وغيرهم، كما قال تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: {فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْساً وَأَشَدُّ تَنْكِيلاً} ، وقال تعالى: {فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنّاً بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا} 3.

ففعل النبي صلى الله عليه وسلم ما أمره الله تعالى به، فقاتل من كفر من العرب وسبى النساء والذرية، وكذلك أهل الكتاب قتلهم بخيبر وسبى نساءهم، وبعث سراياه إلى الشام، وغزا النصارى حتى بلغ تبوك، فلم يلق كيدا فرجع، وهي آخر غزوة غزاها صلى الله عليه وسلم.

وعن بريدة قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أمر أميرا على جيش أو سرية أوصاه بتقوى الله تعالى ومن معه من المسلمين خيرا، ثم قال: اغزوا باسم الله في سبيل الله، قاتلوا من كفر بالله" 4 الحديث؛ وسيره صلى الله عليه وسلم وغزواته مبسوطة في كتب السير وكتب الحديث.

1 سورة التوبة آية: 29.

2 مالك: الزكاة (617) .

3 سورة محمد آية: 4.

4 مسلم: الجهاد والسير (1731)، والترمذي: الديات (1408)، وأبو داود: الجهاد (2613)، وابن ماجه: الجهاد (2858) ، وأحمد (5/352،5/358)، والدارمي: السير (2439) .

ص: 58

فعلم مما ذكرناه وغيره من أدلة الكتاب والسنة أن الكفار والمشركين كانوا في عهد النبي صلى الله عليه وسلم ومن أمته؛ ولهذا وجب قتالهم. وهذا أظهر من الشمس في نحر الظهيرة، لكن خفيت على الأعمى الذي لا يبصر.

وتبين بهذا خطأ من زعم أنه للناس وهم الأمة الوسط، ولا ريب أن قائل هذا لا يعرف القرآن ولا الرسول، ولا عرف الإسلام من الكفر، لأنه جعل الكل شيئا واحدا، ولو كان له أدنى نهمة إلى الإسلام لما خفي عليه هذا، لأن ما في الكتاب والسنة من ذلك أظهر شيء وأبينه، لا يخفى إلا على من هو أبعد الناس عن الحق ومعرفته، ومن لا علم له بالكتاب والسنة، فمن أين يهتدي إلى معرفة الحق وقبوله؟ اللهم إنا نسألك العفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة.

وما زال الجهاد بالحجة واللسان والسيف والسنان قائما في هذه الأمة، على الكفار والمشركين والمنافقين، وأهل البدع والفساد إلى قرب قيام الساعة. وسيأتي الإشارة إلى ذلك قريبا. وأصل دين الإسلام معرفة الشرك، والبراءة منه وإنكاره، ومعاداة أهله، ومعرفة التوحيد على الحقيقة، وقبوله ومحبته، وموالاة أهله، ومن لم يكن كذلك فليس له في الإسلام نصيب؛ لأن من لم يعرف الشرك لم يعرف التوحيد، ومن لم يعرفه كيف يعمل به، فمن وجد خيرا فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه.

وأما ما استدل به من الآيتين فهما حجة عليه، وذلك أن الله وصف خير أمة أخرجت للناس بثلاث صفات، وهي لأهل الإيمان خاصة، وليس لأهل الكفر والشرك والنفاق والبدع والفسوق فيها نصيب، فقال:{تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} 1، كما قال تعالى في

1 سورة آل عمران آية: 110.

ص: 59

سورة براءة: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} 1 الآيتين.

ووصف المنافقين بعكس هذه الصفات فقال تعالى: {الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} 2، فوصفهم بالنفاق تارة وبالكفر تارة. وقوله:{لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} 3 فوصفهم بهذه الصفات التي صاروا بها في الدرك الأسفل من النار، وقد كانوا مع النبي صلى الله عليه وسلم ويشهدون أن لا إله إلا الله، ويصلون ويجاهدون، فلم ينفعهم ذلك، لعدم إيمانهم وقبولهم لما بعث الله به ورسوله من الهدى والعلم.

ولهذا أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم بجهادهم فقال: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} 4 في سورة براءة والتحريم.

بعثة الرسول بأربعة أسياف

وذكر العماد ابن كثير رحمه الله في تفسيره عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بأربعة أسياف: سيف للمشركين: {فَإِذَا انْسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} 5، وسيف للكفار أهل الكتاب:{قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} 6، وسيف للمنافقين:{جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ} 7، وسيف للبغاة:{فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ} 8؛ وهذا يقتضي أنهم يجاهدون بالسيوف إذا أظهروا النفاق، وهو اختيار ابن جرير.

قلت: فإذا كان المستحقون لهذه السيوف التي بعث بها رسول الله

1 سورة التوبة آية: 71.

2 سورة التوبة آية: 67.

3 سورة التوبة آية: 66.

4 سورة التوبة آية: 73.

5 سورة التوبة آية: 5.

6 سورة التوبة آية: 29.

7 سورة التوبة آية: 73.

8 سورة الحجرات آية: 9.

ص: 60

صلى الله عليه وسلم موجودين في حياته والقرآن ينزل، فلأن يوجد بعده وبعد القرون المفضلة أولى وأحرى، كما لا يخفى على من له بصيرة ومعرفة بأحوال الأمة، ولا يخفى هذا إلا على من هو أجهل خلق الله وأتركهم لدين الله.

خطأ من قال ليس في الأمة كافر ولا مبتدع

وأما ما استدل به على شبهته الواهية والباطلة من الآيتين: آية البقرة وآية آل عمران، فهما من أظهر الحجة عليه في إبطال شبهته، فإن قوله تعالى:{كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} 1 إنما خاطب بها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فالخطاب بها متوجه إليهم، فإنهم هم الموصوفون بهذه الصفات. فهو مؤمن من خير أمة أخرجت للناس، وهم الموعودون في كتاب الله وسنة رسوله بالفوز بالجنة والنجاة من النار؛ بخلاف الكفار والمشركين والمنافقين، فإنهم أهل المنكر، يفعلونه ويأمرون به ويوالون أهله، ويتركون المعروف وينهون عنه ويعادون أهله، فهم أعداء الله وأعداء رسوله حيث كانوا.

وقد كان جنسهم في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وفيهم نزل القرآن، ووجودهم فيما بعد خير القرون أكثر، كما لا يخفى على من له عقل، بخلاف من ليس له عقل ولا دين يقول: ليس في الأمة كافر ولا مشرك ولا مبتدع. فأين ذهب عقل؛ هذا الجاهل عن القرآن والسنة؟! فإن الله بيَّن أحوال الكفار والمشركين والمنافقين، ومقتهم ولعنهم، وأمر بجهادهم ما داموا على كفرهم وشركهم وضلالهم، في كل زمان ومكان. قال تعالى:{وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ} 2. فقل لهذا الجاهل المغفل الحيران المفتون: أين ذهب بك الشيطان عن معرفة ما في القرآن؟

وأما آية البقرة فهي أيضا حجة على هذا في إبطال شبهته وبيان

1 سورة آل عمران آية: 110.

2 سورة الأنفال آية: 39.

ص: 61

جهله وضلاله، فإن الله تعالى قال:{وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً} 1 أي: عدلا خيارا؛ والخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وهم المعنيون بهذه الآية أيضا، ومن كان مثلهم من أهل الإيمان لحق بهم. وأما الكفار والمشركون والمنافقون فهم أعداء الأمة الوسط في كل زمان ومكان، ولا يمكن أحد أن يزعم أنهم من الأمة الوسط إلا مثل هذا الجاهل الذي يقول: ليس في الأمة كافر ولا مشرك ولا مبتدع ولا فاسق. فكيف يثبت لهذا إيمان بالقرآن وهو يقول هذه المقالة التي في غاية البطلان والانحراف عن سبيل أهل الإيمان؟ قال الشاعر:

لا تبلغ الأعداء من جاهل

ما يبلغ الجاهل من نفسه

ويلزمه من هذا القول أن الصحابة أخطؤوا في قتالهم من قاتلوه من العرب وبني حنيفة وغيرهم من فارس والروم؛ لأن الكل ليس فيهم كافر ولا مشرك ولا مبتدع، وكلهم من أمة محمد صلى الله عليه وسلم: وكذلك كل من قاتل أهل الكتاب والمجوس والنصارى والمشركين فإنما قاتل الأمة الوسط الخيار، وهلم جرا إلى يومنا هذا.

وعلى هذا القول يلزمه أن من قاتل من خرج عن الشريعة فهو مخطئ، لأنه ليس في الأمة مبتدع ولا مشرك. وأنت تجد مثل هذا تظهر كراهته لمن أمره بمعروف أو نهاه عن منكر على صفحات وجهه وفلتات لسانه، وتجده محبا لأهل المنكر مواليا لهم، معاديا لأهل المعروف؛ فما رأيت شبيها له إلا رجلا بمصر، رأيته وضع يده على نصراني فقال: هؤلاء أسيادنا. نعوذ بالله من الضلال والخذلان، والخروج عن سبيل أهل الإيمان، ولنذكر ما يزيد هذا المقام.

قال العماد ابن كثير رحمه الله في تفسيره في معنى قول الله تعالى:

1 سورة البقرة آية: 143.

ص: 62

{الأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْراً وَنِفَاقاً وَأَجْدَرُ أَلَاّ يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} 1: أخبر تعالى أن في الأعراب كفارا ومنافقين ومؤمنين، وأن كفرهم ونفاقهم أعظم من غيره، {وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} 2 أي: عليم بمن يستحق أن يعلمه الإيمان والعلم، الحكيم فيما قسم بين عباده من العلم والجهل والإيمان والكفر والنفاق، لا يسأل عما يفعل لعلمه وحكمته، وقوله:{وَمِنَ الأَعْرَابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ قُرُبَاتٍ عِنْدَ اللَّهِ} 3: هذا هو القسم الممدوح من الأعراب.

قلت: وهم الموصوفون بالإيمان والإخلاص، فتبين أن الأعراب وهم من أمة محمد صلى الله عليه وسلم فيهم المشرك والكافر، والمنافق والمؤمن؛ وما زالوا كذلك في كل زمان إلى يومنا هذا وبعده، وشرهم اليوم أكثر، وكفرهم أكبر وأظهر، فيلزمه على أصله أن كلهم من خير أمة أخرجت للناس ومن الأمة الوسط، وأن من قاتلهم لشركهم وكفرهم فقد ظلمهم، فتدبر.

ثم ذكر تعالى السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار، والذين اتبعوهم بإحسان فقال تعالى:

{وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} 4، وذكر قول الشعبي أن السابقين من أدرك بيعة الرضوان.

قلت: والمذكور في هذه الآية هم الأمة الوسط، هم خير أمة أخرجت للناس.

قال العماد ابن كثير: فيا ويل من أبغضهم أو سبهم أو أبغض أو سب بعضهم، ولا سيما سيد الصحابة بعد الرسول صلى الله عليه وسلم

1 سورة التوبة آية: 97.

2 سورة التوبة آية: 97.

3 سورة التوبة آية: 99.

4 سورة التوبة آية: 100.

ص: 63

وخيرهم وأفضلهم، أعني الصديق الأكبر، والخليفة الأعظم أبا بكر بن أبي قحافة رضي الله عنه؛ فإن الطائفة المخذولة من الرافضة يعادون أفضل الصحابة، ويبغضونهم ويسبونهم -عياذا بالله من ذلك-، وهذا يدل على أن عقولهم معكوسة، وقلوبهم منكوسة، فأين هؤلاء من الإيمان بالقرآن إذ يسبون من رضي الله عنهم؟!

موالاة من والى الله ومعاداة من عاداه

وأما أهل السنة فإنهم يترضون عمن رضي الله عنه، ويسبون من سبه الله ورسوله، ويوالون من يوالي الله، ويعادون من يعادي الله، وهم متبعون لا مبتدعون، ومقتدون لا مبتدون؛ ولهذا هم حزب الله المفلحون وعباده المؤمنون. انتهى.

قلت: فما أكثر الرافضة في زماننا هذا! -لا كثرهم الله-، وتأمل كيف حال هذا المشبه؟ فإنه جعل الرافضة والمشركين والكافرين والمنافقين مثل الصحابة. وأهل الإيمان هم أعداء الرافضة والمشركين في كل زمان ومكان، وقد ميز الله تعالى في كتابه السعداء والأشقياء بالأعمال في المآل، ولا يخفى هذا إلا على من أعمى الله بصيرته، فلا يعرف حقا ولا باطلا، نعوذ بالله من عمى البصيرة، وخبث السريرة، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.

ما جرى في الأمة من الشرك والبدع والضلال

ونشير إلى ما جرى في الأمة من الشرك والبدع والضلال، فمن ذلك: أن العرب لما سمعوا بوفاة النبي صلى الله عليه وسلم ارتد أكثرهم عن الإسلام، وقاتلهم أبو بكر رضي الله عنه بالصحابة، حتى دخلوا من الباب الذي خرجوا منه، وقتل من قتل منهم على ردته. وكذلك بنو حنيفة صدقوا مسيلمة لما ادعى النبوة، وكفروا، وقاتلهم أصحاب رسول الله -صلى

ص: 64

الله عليه وسلم-، وأمرهم خالد بن الوليد وهو أمير الجيش الذين قاتلوا من ارتد، ولا ريب أن بني حنيفة كفار، ومن قتل منهم قتل كافرا، فلم ينفعهم مع الكفر بالله كونهم من هذه الأمة، وعلى رأي هذا المشبه ليسوا كفارا، والصحابة أخطؤوا في قتالهم.

وكذلك الخوارج الذين قتلهم علي بن أبي طالب بالنهروان، فإن النبي صلى الله عليه وسلم أخبره أنهم "يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية" 1، وقال:"أينما لقيتموهم فاقتلوهم، فإن في قتلهم أجرا لمن قتلهم" 2 ولا ريب أنهم من هذه الأمة، لكنهم من شرار الأمة، وهم الذين قتلوا علي بن أبي طالب، قتله عبد الرحمن بن ملجم وهو منهم. وكذلك الذين اعتقدوا الإلهية في علي بن أبي طالب، فخد لهم الأخاديد وأحرقهم بالنار لشركهم بالله. فاسأل هذا الجاهل المفتري: هل أصاب علي في قتلهم أم أخطأ؟ وهل كانوا كفارا أم لا؟ ومن لم يكفرهم فهو كافر.

وكذلك الذين أخبر النبي صلى الله عليه وسلم قال: "سيكون في أمتي كذابون ثلاثون كلهم يزعم أنه نبي وأنا خاتم النبيين لا نبي بعدي" 3 أيكون هؤلاء كفارا أم لا؟ فإن طرد أصله وقال: لم يكونوا كفارا، صار أخا لهم؛ لأنه زكاهم وتولاهم. نفاة القدر من شرار هذه الأمة

وكذلك الذين أنكروا القدر، منهم معبد الجهني وغيلان القدري، الذين قال عبد الله بن عمر فيهم، لما أخبره يحيى بن يعمر قال له: إذا لقيت هؤلاء فأخبرهم أني بريء منهم، وأنهم برآء مني، والذي يحلف به عبد الله، إن أحدهم لو أنفق مثل أُحد ذهبا ما قبله الله منه حتى يؤمن بالقدر.

وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنهم مجوس هذه الأمة، وأفتى العلماء رحمهم الله بقتل داعيتهم غيلان القدري، فقتله هشام بن عبد الملك في خلافته. وهم مبتدعة بإجماع العلماء لمخالفتهم ما دل عليه الكتاب

1 البخاري: المناقب (3611)، ومسلم: الزكاة (1066)، والنسائي: تحريم الدم (4102)، وأبو داود: السنة (4767) ، وأحمد (1/91،1/147) .

2 البخاري: استتابة المرتدين والمعاندين وقتالهم (6930)، ومسلم: الزكاة (1066)، والنسائي: تحريم الدم (4102)، وأبو داود: السنة (4767) ، وأحمد (1/81،1/131) .

3 أبو داود: الفتن والملاحم (4252) .

ص: 65

والسنة في إثبات القدر، وهو من أصول الإيمان كما في سؤال جبريل للنبي صلى الله عليه وسلم:"قال: فأخبرني عن الإيمان، قال: أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله وباليوم الآخر وبالقدر خيره وشره. قال: صدقت"1. والآيات والأحاديث في إثباته كثيرة جدا.

والمقصود: أن نفاة القدر من هذه الأمة، وقد صاروا مبتدعة ضُلّالا، ومن كان كذلك فليس من خير أمة أخرجت للناس، بل هم من شر الأمة. صدق الله، وكذب المرتابون.

ثم ظهرت بدعة الجهمية في آخر دولة بني أمية، فجحدوا ما وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم من صفاته ونعوت جلاله. وكان أول من أظهر هذه البدعة الجعد بن درهم، فضحى به خالد بن عبد الله القسري -وكان إذ ذاك أميرا على العراق- فقال في خطبته يوم الأضحى: أيها الناس، ضحوا تقبل الله ضحاياكم، فإني مضحٍ بالجعد بن درهم، فإنه يزعم أن الله لم يتخذ إبراهيم خليلا، ولم يكلم موسى تكليما. قال العلامة ابن القيم -رحمه الله تعالى- لما ذكر بدعة الجهمية:

ولأجل ذا ضحى بجعد خالد ال

قسري يوم ذبائح القربان

شكر الضحية كل صاحب سنة

لله درك من أخي قربان

وفي تلك الدولة، والإسلام ظاهر والسنة ظاهرة وأهلها، كذلك البدعة إذا ظهرت أنكرت، وعوقب أهلها بالقتل تارة، وبالحبس تارة، وبالتعزير. ثم إن جهم بن صفوان أظهر هذه البدعة في دولة بني العباس، فأنكر ذلك العلماء، وكفروه ومن تبعه على بدعته، منهم سفيان الثوري، وأبو حنيفة، والإمام مالك، وخلق كثير من أهل الحديث والفقه، قال ابن القيم رحمه الله:

1 البخاري: تفسير القرآن (4777)، ومسلم: الإيمان (9،10)، والنسائي: الإيمان وشرائعه (4991)، وابن ماجه: المقدمة (64) ، وأحمد (2/426) .

ص: 66

ولقد تقلد كفرهم سبعون في

عشر من العلماء في البلدان

فعظمت بدعتهم، وتكلم العلماء في ردها وإبطالها، وصنفوا الكتب في ذلك. وممن صنف في رد هذه البدعة الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله، وابنه عبد الله بن أحمد، وعثمان بن سعيد الدارمي، وأبو بكر المروزي صاحب الإمام أحمد، وإمام الأئمة محمد بن خزيمة في كتاب التوحيد له، واللالكائي في كتاب السنة، وأبو عثمان الصابوني، وخلق كثير.

وبعض العلماء ضمن كتابه الرد عليهم كالبخاري، وغيره من أئمة الحديث، وممن رد عليهم شيخ الإسلام أبو إسماعيل الأنصاري في كتاب الفاروق له، وصنف شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام كتاب "العقل والنقل في الرد على الجهمية والفلاسفة"، كما قال العلامة ابن القيم -رحمه الله تعالى-:

واقرأ كتاب العقل والنقل الذي

ما في الوجود له نظير ثاني

قلت: فلو عرف هذا الجاهل المشبه ما وقع في هذه الأمة من البدع والمنكرات، لم يتفوه بهذه الشبهة، لكنه جاهل لا يدري ما وقع في الأمة من خير وشر، وقد أعجب بنفسه، وهو من السفلة الضلال، فلا علم ينفعه، ولا عقل يردعه، نعوذ بالله من غرور الشيطان، والانحراف عن سبيل أهل الإيمان. وهذه البدع التي ذكرنا ظهرت في القرون المفضلة، لكنها تنكر وتغير.

الفتن في هذه الأمة وخير قرونها

وفي هذه القرون من الأمة المفضلة الخلق الكثير، والجم الغفير، لا يحصيهم إلا الله سبحانه-. وقد عرفت أن أهل البدع والنفاق بينهم مقهورون ذليلون قليلون؛ وأهل هذه القرون هم الذين عناهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله:"أنتم توفون سبعين أمة، أنتم خيرها وأكرمها على الله"1،وهم المعنيون

1 ابن ماجه: الزهد (4288) ، وأحمد (4/447)، والدارمي: الرقاق (2760) .

ص: 67

بقوله صلى الله عليه وسلم: "قال الله لعيسى ابن مريم: إني باعث بعدك أمة، إن أصابهم ما يحبون حمدوا وشكروا، وإن أصابهم ما يكرهون احتسبوا وصبروا، ولا حلم ولا علم، قال: يا رب كيف ولا حلم ولا علم؟ قال: أعطيهم من حلمي وعلمي"1.

فإذا تصور العارف ما حصل في خلافة أبي بكر وعمر، ممن اجتمع من المسلمين على حرب فارس والروم لما أظهرهم الله عليهم، ملؤوا الشام والعراق والحجاز واليمن وغيرها، فما زالوا كذلك على السنة في القرون الثلاثة، والجهاد قائم بهم، والأقاليم مملوءة منهم.

وفي مسند الإمام أحمد -رحمه الله تعالى- عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: "كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر فنزلنا منزلا، فمنا من يضرب خباءه، ومنا من هو في جشره، ومنهم من ينتضل، إذ نادى منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم: الصلاة جامعة، فانتهيت إليه وهو يخطب الناس، ويقول: أيها الناس إنه لم يكن نبي قبلي إلا كان حقا عليه أن يدل أمته على ما يعلمه خيرا لهم، وينذرهم عما يعلمه شرا لهم. ألا وإن عافية هذه في أولها، وسيصيب آخرها بلاء وفتن يرقق بعضها بعضا. تجيء الفتنة فيقول المؤمن: هذه مهلكتي. ثم تنكشف فيقول: هذه هذه. ثم تنكشف، فمن أحب أن يزحزح عن النار ويدخل الجنة فلتدركه منيته وهو يؤمن بالله واليوم الآخر".

ويشهد لهذا الحديث قوله صلى الله عليه وسلم: "خير القرون قرني، ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم، ثم إنها تخلف من بعدهم خلوف يقولون ما لا يفعلون، ويفعلون ما لا يؤمرون، فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن، ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن، ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن، وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل" انتهى الحديث.

1 أحمد (6/450) .

ص: 68

قلت: وقد وقع ما أخبر به صلى الله عليه وسلم وفي آخر القرن، وفيه امتحن المأمون بن الرشيد علماء الحديث، وحملهم على القول بخلق القرآن، فمنهم من أجاب مكرها، ومنهم من لم يجب، وصبر على المحنة كالإمام أحمد، ومحمد بن نوح -رحمه الله تعالى-، واستمرت المحنة في خلافة أخيه المعتصم، وفي خلافة الواثق. فلما استخلف المتوكل رفع المحنة عن الإمام أحمد وأهل الحديث.

ثم بعد ذلك ظهرت دولة القرامطة في المشرق، وصار لهم صولة، وأظهروا الكفر، وقتلوا الحجاج بمكة، وألقوهم في بئر زمزم، وقلعوا الحجر الأسود، ونقلوه إلى بلادهم. قال شيخ الإسلام: وهم من أشد الناس كفرا.

وظهرت دولة بني بويه في أوائل القرن الرابع، فأظهروا الغلو في أهل البيت، وبنوا المساجد على قبورهم، وبنوا المشاهد، وعبدوها من دون الله، فأشبهوا اليهود والنصارى، كما في الحديث الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"لعنة الله على اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد" 1 يحذر ما صنعوا.

ولما ذكرت له أم سلمة وأم حبيبة كنيسة رأتاها بأرض الحبشة وما فيها من الصور فقال: "أولئك إذا مات فيهم الرجل الصالح أو العبد الصالح بنوا على قبره مسجدا، وصوروا فيه تلك الصور، أولئك شرار الخلق عند الله يوم القيامة"2.

وكذلك بنو عبيد القداح تغلبوا على مصر وبعض المغرب، وبنوا المساجد على القبور والمشاهد، بزعمهم أنها قبور أناس من أهل البيت، وهي الموجودة تعبد إلى الآن، وغيرها تعبد من دون الله.

فظهرت المقالات والبدع من الفلاسفة، والجهمية، والمعتزلة، والكلابية، والكرامية، والأشاعرة، وغيرهم من أهل البدع، وفشا الشرك والزندقة في هذه

1 البخاري: الصلاة (436)، ومسلم: المساجد ومواضع الصلاة (531)، والنسائي: المساجد (703) ، وأحمد (1/218،6/34،6/80،6/252،6/255)، والدارمي: الصلاة (1403) .

2 البخاري: الصلاة (434)، ومسلم: المساجد ومواضع الصلاة (528)، والنسائي: المساجد (704) ، وأحمد (6/51) .

ص: 69

الفرق وغيرها، وقلَّ أهل السنة والجماعة.

وفي القرن السابع سار التتر، وقتلوا الخليفة العباسي ببغداد، وقتلوا العلماء، وألقوا الكتب من الحديث والسنة في شط دجلة. وتحصن أهل الشام عنهم في رؤوس الجبال، فقاتلهم سلطان مصر، ومن معه من أهل مصر والشام، فهزمهم الله؛ وذلك بسبب شيخ الإسلام ابن تيمية لما شجع السلطان.

وفي تلك القرون اشتدت غربة الإسلام، وعاد المعروف منكرا والمنكر معروفا، والسنة بدعة والبدعة سنة، نشأ على هذا الصغير، وهرم عليه الكبير، قال بعض أهل السنة:"لا تستوحش من الطريق لقلة السالكين، ولا تغتر بالباطل لكثرة الهالكين". وفي هذه الحال يقول الشاطبي رحمه الله:

وهذا زمان الصبر من لك بالتي

كقبض على جمر فتنجو من البلا

غربة الإسلام في هذه الأزمنة

وذلك أن هذه الأزمنة هي التي أخبر عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الإسلام يعود غريبا كما بدأ، وأن القابض على دينه كالقابض على الجمر. قال ابن القيم: والحديث رواه الأعمش عن أبي إسحاق عن أبي الأحوص عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الإسلام بدأ غريبا وسيعود غريبا كما بدأ، فطوبى للغرباء. قيل: ومن الغرباء يا رسول الله؟ قال: النزاع من القبائل" 1 وفي حديث عبد الله بن عمرو: "قيل يا رسول الله، من الغرباء؟ قال: ناس صالحون في أناس كثير، من يعصيهم أكثر ممن يطيعهم" 2،.

قال العلامة ابن القيم: ومعنى قوله صلى الله عليه وسلم أنهم النزاع من القبائل: أن الله سبحانه بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم وأهل الأرض على أديان مختلفة، فهم بين عباد أوثان وعباد نيران وعباد صلبان

1 الترمذي: الإيمان (2629)، وابن ماجه: الفتن (3988) ، وأحمد (1/398)، والدارمي: الرقاق (2755) .

2 أحمد (2/177) .

ص: 70

ويهود وصابئة وفلاسفة، فكان الإسلام في أول ظهوره غريبا، فكان من أسلم منهم واستجاب لله ورسوله غريبا في حيه وقبيلته وقريته وأهله وعشيرته.

وكان المستجيبون لدعوة الإسلام نزاعا من القبائل، آحادا منهم، تغربوا عن قبائلهم وعشائرهم، فكانوا هم الغرباء حقا، حتى ظهر الإسلام، وانتشرت دعوته، ودخل الناس فيه أفواجا، ثم أخذ في الاغتراب حتى عاد غريبا كما بدأ؛ بل الإسلام الحق الذي كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه اليوم أشد منه غربة في أول ظهوره، وإن كانت أعلامه ورسومه الظاهرة مشهورة معروفة، فالإسلام الحقيقي غريب جدا، وأهله غرباء بين الناس.

وكيف لا تكون فرقة واحدة قليلة جدا غريبة بين اثنتين وسبعين فرقة ذات أتباع ورياسات، ومناصب وولايات، لا يقوم لها سوق إلا بمخالفة ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم؟! فإن نفس ما جاء به يضاد أهواءهم ولذاتهم، وما هم عليه من الشبهات التي هي منتهى فضيلتهم وعلمهم، والشهوات التي هي غاية مقاصدهم وإرادتهم، فكيف لا يكون المؤمن السائر إلى الله على طريق المتابعة غريبا بين هؤلاء الذين اتبعوا أهواءهم، وأطاعوا شيخهم، وأعجبوا منه برأيه؟ انتهى.

قلت: فإذا كان هذا في القرن السابع وما قبله، فما بعده أشد غربة للإسلام والسنة؛ وبسبب اشتداد الغربة أنكر الناس على من قام يدعوهم إلى أن يعبدوا الله ولا يشركوا به شيئا.

حديث علي مع اليهودي والنصراني في الافتراق

فقد ثبتت الأحاديث التي فيها افتراق هذه الأمة إلى ثلاث وسبعين فرقة ورواها عن النبي صلى الله عليه وسلم عدة من الصحابة، منهم علي بن أبي طالب رضي الله عنه.

ص: 71

وقد رواه الإمام محمد بن نصر المروزي رحمه الله في كتاب الاعتصام، فنذكر من كل حديث ما دل على ذلك.

فروي بإسناده إلى سعيد بن جبير عن أبي الصهباء قال: سمعت علي بن أبي طالب، وقد دعا رأس الجالوت وأسقف النصارى وقال: إني سائلكما عن أمر وأنا أعلم به منكما فلا تكتماني، يا رأس الجالوت: أنشدك الله الذي أنزل التوراة على موسى، وأطعمكم المن والسلوى، وضرب لكم في البحر طريقا، وأخرج لكم من الحجر اثنتي عشرة عينا، لكل سبط من بني إسرائيل عين، إلا ما أخبرتني عن كم افترقت بنو إسرائيل بعد موسى؟ فقال له: ولا فرقة واحدة. فقال له علي ثلاث مرات: كذبت، والله الذي لا إله إلا هو لقد افترقت على إحدى وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة.

ثم دعا الأسقف وقال: أنشدك الله الذي أنزل الإنجيل على عيسى، وجعل على رحله البركة، وأراكم العبرة، فأبرأ الأكمه، وأحيا الموتى، وصنع لكم من الطين طيورا، وأنبأكم بما تأكلون وما تدخرون في بيوتكم، فقال: دون هذا أصدقك يا أمير المؤمنين، فقال: على كم افترقت النصارى بعد عيسى من فرقة؟ فقال: لا والله ولا فرقة. فقال ثلاث مرات: كذبت، والله الذي لا إله إلا هو لقد افترقت على اثنتين وسبعين فرقة كلها في النار إلا فرقة.

فأما أنت يا يهودي فإن الله يقول: {وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ} 1، فهي التي تنجو، وأما أنت يا نصراني فإن الله يقول:{مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ} 2، فهي التي تنجو، وأما نحن فيقول:{وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ} 3، وهي التي تنجو من هذه الأمة.

وبالسند إلى زاذان أبي عمرو قال: قال علي: يا أبا عمرو، أتدري كم

1 سورة الأعراف آية: 159.

2 سورة المائدة آية: 66.

3 سورة الأعراف آية: 181.

ص: 72

افترقت اليهود؟ قال: قلت: الله ورسوله أعلم. قال: افترقت على إحدى وسبعين فرقة، كلها في الهاوية إلا واحدة هي الناجية. ثم قال علي: أتدري كم تفترق فيَّ؟ قلت: وإنه يفترق فيك يا أمير المؤمنين؟! قال: نعم، اثنتا عشرة فرقة كلها في النار إلا واحدة (هي) الناجية، وهي تلك الموحدة، يعني الفرقة من الثلاث والسبعين، وأنت منهم يا أبا عمرو.

وبالسند إلى عبد الله بن يزيد عن عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "سيأتي على أمتي ما أتى على بني إسرائيل مثلا بمثل حذو النعل بالنعل، وإنهم تفرقوا على اثنتين وسبعين ملة، وستفترق أمتي على ثلاث وسبعين ملة، كلهم في النار غير واحدة. قالوا: يا رسول الله، وما تلك الواحدة؟ قال: هي ما أنا عليه اليوم وأصحابي"1.

وبالسند إلى عبد الله بن عبدة عن بنت سعد عن أبيها سعد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "افترقت بنو إسرائيل على إحدى وسبعين فرقة، ولن تذهب الليالي والأيام حتى تفترق أمتي على مثلها -أو قال مثل ذلك- وكل فرقة منها في النار إلا واحدة، وهي الجماعة".

وبالسند إلى سويد بن غفلة عن ابن مسعود قال: "دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا ابن مسعود. قلت: لبيك يا رسول الله. قال: أتدري أي الناس أعلم؟ قلت: الله ورسوله أعلم. قال: فإن أعلم الناس أبصرهم بالحق إذا اختلف الناس وإن كان مقصرا في العمل، واختلف من قبلي على اثنتين وسبعين فرقة ونجا منها ثلاثة وهلك سائرها، فرقة آذت الملوك وقاتلوهم على دينهم ودين عيسى وأخذوهم فقطعوهم بالمناشير، وفرقة لم يكن لهم طاقة في مؤاذاة الملوك ولا بأن يقيموا بين ظهرانيهم

1 الترمذي: الإيمان (2641) .

ص: 73

ويدعونهم إلى دين الله ودين عيسى بن مريم، فساحوا في البلاد وترهبوا وهم الذين قال الله فيهم:(ورهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم إلا ابتغاء رضوان الله فما رعوها حق رعايتها) إلى قوله: (فاسقون) ".

وقال صلى الله عليه وسلم "من آمن بي وصدقني واتبعني فقد رعاها حق رعايتها ومن لا يتبعني فأولئك هم الهالكون" قلت: فالفرقة الثالثة هي التي آمنت بمحمد صلى الله عليه وسلم واتبعته من بني إسرائيل وغيرهم.

الفرقة الناجية هي المتمسكة بالكتاب والسنة

وبالسند إلى يزيد الرقاشي حدثني أنس بن مالك مرفوعا أن بني إسرائيل افترقت على إحدى وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة، قال يزيد الرقاشي: وهي الجماعة. وفيه حديث معاوية وهو مشهور.

فتبين بهذه الأحاديث أن الفرقة الناجية من الثلاث والسبعين هي التي تمسكت بكتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعملوا بما في كتاب الله، وأخلصوا له العبادة، واتبعوا رسوله. فإن أصل دين الإسلام أن لا يعبدوا إلا الله، وأن لا يعبد إلا بما شرع، وأنت اليوم (ترى) أكثر من ينتسب إلى العلم لا يعرف من معنى "لا إله إلا الله" إلا ما دلت عليه التزاما، وهو توحيد الربوبية الذي أقر به المشركون.

وذلك أن هؤلاء يفسرون الإله بالقادر على الاختراع، وما اهتدوا إلى ما دلت عليه كلمة الإخلاص مطابقة، وهو نفي ما يألهه المشركون من دون الله بأي نوع كان من العبادة، وهو المنتفي بجملة "لا إله"، ومعنى "إلا الله" أنه الذي يؤله ويعبد بكل نوع من أنواع العبادة دون كل ما سواه، وسيأتي مزيد لذلك إن شاء الله.

وبسبب جهل كثير بما دلت عليه "لا إله إلا الله"، لم ينكروا عبادة الطواغيت والأشجار والأحجار والقبور وغير ذلك، وذلك أنه لا يعرف عن أحد من العلماء في

ص: 74

العصر الذي قام فيه شيخنا رحمه الله ولا من قبله أنه أنكر الشرك في الإلهية، ودعا الناس إلى عبادة الله وحده؛ فبسبب الجهل بهذا التوحيد الذي هو حق الله على عباده أنكروا على شيخنا رحمه الله دعاء الناس في القرن الثاني عشر إلى ما دعت إليه الرسل:{أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} ،1 {أَنْ لا تَعْبُدُوا إِلَاّ اللَّهَ} {الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ} 3.

فالوقت الذي صارت دعوة الرسل فيه عند أهله منكرا، فالإسلام فيه قد بلغ في الغربة إلى غايتها ومنتهاها، وقد دل القرآن العزيز على أن الكفار الذين جحدوا هذا التوحيد كانوا يعرفون معنى ما دعاهم إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قال لهم:"قولوا لا إله إلا الله" 4، قال الله تعالى:{إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لا إِلَهَ إِلَاّ اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ وَيَقُولُونَ أَإِنَّا لَتَارِكُو آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ} 5.

فعرفوا أن معناها ترك الآلهة التي كانوا يعبدونها من دون الله، وقد أخبر الله تعالى عن قوم هود أنهم أجابوه لما قال لهم:{اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} {قَالُوا أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ} 7، فتبين بهذه الآيات وجميع ما في القرآن أن الدعوة التي اتفق عليها الرسل هي إفراد الرب بالعبادة، كما في قوله تعالى في فاتحة الكتاب:{إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} 8: فتقديم المعمول يفيد الحصر، أي لا نعبد غيرك، ولا نستعين إلا بك. فالجهل بهذا التوحيد هو غاية الجهل، والإنكار على من دعا إليه هو الغاية في الكفر.

وقد قال عالم صنعاء في منظومته المشهورة، التي بعث بها لشيخنا محمد بن عبد الوهاب -رحمه الله تعالى-:

لقد أنكرت كل الطوايف قوله

بلا صدر في الحق منهم ولا ورد

1 سورة الأعراف آية: 59.

2 سورة هود آية: 2.

3 سورة هود آية: 1.

4 أحمد (3/492) .

5 سورة الصافات آية: 35.

6 سورة الأعراف آية: 65.

7 سورة الأعراف آية: 70.

8 سورة الفاتحة آية: 5.

ص: 75

وقد جاءت الأخبار عنه بأنه

يعيد لنا الشرع الشريف بما يبدي

وينشر جهرا ما طوى كل جاهل

ومبتدع منه فوافق ما عندي

قول ابن جرير في الدعاء والعبادة

والمقصود أن الله تعالى مَنَّ على الناس في آخر هذه الأعصار ببيان الدين الذي بعث الله به رسله، وهو الذي خلق الخلق لأجله، وبيان أدلته من الكتاب والسنة، ودعوة الناس إلى أن يتدبروا ذلك، ويعرفوا ما أراده الله تعالى من عباده، وبينه تعالى بقوله:{فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ} 1، وقوله:{قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَهُ دِينِي} 2، وقال تعالى:{وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} 3.

وقد ذكر الإمام محمد بن جرير في تفسيره: إن الدين المذكور في هذه الآيات وأمثالها الدعاء، والدعاء نوعان: دعاء عبادة، ودعاء مسألة؛ والكل عبادة. فمن أخلص الدعاء بنوعيه لله تعالى، ولم يجعل له فيه شريكا فقد وحد الله تعالى بعبادته، وأسلم لله. ومن جعل لله شريكا في ذلك فقد أشرك مع الله غيره، وهذا واضح في الآيات المحكمات كقوله تعالى:{قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ} 4.

وهذه الآية تشبه {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} 5، والمعنى: بل الله فاعبد لا غيره، فإن تقديم المعمول يفيد الحصر، وهذا هو الإخلاص، وهو معنى شهادة أن لا إله إلا الله، فمن لم يفهم دين الإسلام الذي رضيه الله تعالى لعباده من هذه الآيات المحكمات فأبعده الله، فإن الخصومة بين الرسل والأمم إنما كانت في إخلاص العبادة كما قال تعالى: {وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنْذَرَ

1 سورة الزمر آية: 2.

2 سورة الزمر آية: 14.

3 سورة البينة آية: 5.

4 سورة الزمر آية: 64.

5 سورة الفاتحة آية: 5.

ص: 76

قَوْمَهُ بِالأَحْقَافِ وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ أَلَاّ تَعْبُدُوا إِلَاّ اللَّهَ} 1.

وهذا هو الدين الذي دعا إليه شيخنا رحمه الله آخر الأعصار، لما اندرست أعلامه، وانمحت آثاره، واتخذ الناس الشرك في العبادة دينا، وأنزلوا حوائجهم بمن لا يملك لنفسه ضرا ولا نفعا، فكيف يملك لهم من الضر والنفع ما لا يملك لنفسه؟ قال تعالى:{أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلا نَفْعاً وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} 2.

والقرآن من أوله إلى آخره في بيان توحيد العبادة، وهو أظهر شيء في القرآن وأبينه، وقد أشرت إلى سبب خفاء هذا التوحيد على كثير من المتكلمين ومن سلك سبيلهم؛ فلهذا لم ينكروا الشرك الذي وقع في هذه الأمة من عبادة الأشجار والأحجار والطواغيت والجن، فصار هذا الشرك لهم عادة، نشأ عليها الصغير، وهرم عليها الكبير، وهذا هو سبب إنكارهم على من نهاهم عنه.

فمن تدبر ما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لتتبعن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة، حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه" 3 تبين له خطأ المغرورين في إنكارهم على من دعاهم إلى إخلاص العبادة لله وحده لا شريك له، واشمئزازهم من ذلك.

فلنذكر ما ورد هذا المعنى:

ففي الحديث الصحيح عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال:" أنتم أشبه الناس ببني إسرائيل، والله لا تدعون شيئا عملوه إلا عملتموه، ولا كان فيهم شيء إلا سيكون فيكم مثله" وفي رواية عنه أنه قال:"أنتم أشبه الناس سمتا وهيئة ببني إسرائيل، تتبعون آثارهم حذو القذة بالقذة، لا يكون فيهم شيء إلا يكون فيكم مثله".

1 سورة الأحقاف آية: 21.

2 سورة المائدة آية: 76.

3 البخاري: الاعتصام بالكتاب والسنة (7320)، ومسلم: العلم (2669) ، وأحمد (3/84،3/89،3/94) .

ص: 77

وبالإسناد إلى سعيد بن جبير عن ابن عباس قال:"لم يكن في بني إسرائيل شيء إلا كان فيكم".

وعن عبد الله بن عمرو قال:"لتركبن سنن من كان قبلكم حلوها ومرها" وتقدم في الأحاديث المرفوعة مثل هذا.

ولا يعرف ما وقع في الأمة من أنواع الشرك الأكبر وخفاءه على الأكثر، إلا من شرح الله صدره للإسلام وتدبر القرآن، بخلاف من أعرض عن كتاب الله، وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، واعتمد على ما في كتب المتكلمين ومقلديهم، نعوذ بالله من عمى البصيرة، وفساد الطوية والسريرة. وقد اعترف عالم صنعاء الأمير "محمد بن إسماعيل" بما كان الناس عليه من الجهل بالتوحيد، في وقت ظهور شيخنا -رحمه الله تعالى وعفا عنه-، فمن ذلك قوله رحمه الله تعالى:

أسائل من دار الأراضي سياحة

عسى بلدة فيها هدى وصواب

فيخبر كل عن قبائح ما رأى

وليس لأهليها يكون متاب

لأنهم عدوا قبائح فعلهم

محاسن يرجى عندهن ثواب

مبدأ دعوة ابن عبد الوهاب

ونذكر شيئا من مبدأ دعوة شيخنا رحمه الله فنقول: لما شرح الله صدره للإسلام، وتبين له ما كان أكثر الناس عليه من الجهل بالتوحيد، وما وقعوا فيه من الشرك والتنديد، دعا من كان حوله إلى تدبر كتاب الله، ومعرفة التوحيد الذي خلقوا له، وبعث الله به رسله، وأنزل به كتبه، وضمنه أشرف كتبه، وهو القرآن الذي أنزله على رسوله صلى الله عليه وسلم وأن ما وقع منهم من الاعتقاد في الطواغيت، وأرباب القبور، والأشجار والأحجار، وهو الشرك الذي بعث الله رسله بإنكاره.

فصاحوا به منكرين ما دعاهم إليه، واستنجدوا بالملوك من كل جانب، حتى أخرجوه من

ص: 78

بلده العينية، فهاجر إلى الدرعية. فتلقاه شيخ البلد محمد بن سعود رحمه الله هو وأولاده وقرابته وأعيان أهل بلده، فقابلوا دعوته بالقبول، وجدوا في نصرته على ضعفهم وقلتهم، وكثرة عدوهم؛ واستصراخ أعدائهم الملوك عليهم، فما زالوا يرمونهم بقوس العداوة، وحزبوا عليهم مرارا كثيرة من كل جهة، فأظهرهم الله على من عاداهم -على ضعفهم وقلتهم-، وأوقع بأسه بكل من عاداهم، حتى الملوك أهلكهم الله وأباد خضراءهم، وفي ذلك آيات لمن كان واعيا. وهذه الآية لا تخفى على من صحت بصيرته، وأما أعمى البصيرة فلا يبصر. وكلما كادهم عدو ورام إهلاكهم أهلكه الله، فما زالوا -بحمد الله- ظاهرين إلى يومنا هذا، {فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَرَبِّ الأَرْضِ رَبِّ الْعَالَمِين َوَلَهُ الْكِبْرِيَاءُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} 1. ولله در الشيخ حسين بن غنام، حيث قال لما ظهرت له أنوار التوحيد، أظهر ذلك في شعره نثرا، وأجاب محمد بن فيروز في هجوه وسبه، ومنظومته موجودة في تاريخه، فمن قوله رحمه الله:

نفوس الورى إلا القليل ركونها

إلى الغي لا يلفى لدين حنينها

فسل ربك التثبيت أي موحد

فأنت على السمحاء باد يقينها

وغيرك في بيد الضلالة سائر

وليس له إلا القبور يدينها

وأنت بمنهاج الشريعة سالك

وسنة خير المرسلين تبينها

فساد اعتقاد صلاح جميع الأمة

قلت: ولا يخفى على ذوي البصائر أن من أعظم الجهل، وأبين الكذب، وأبعد الضلال، جحود من جحد أنه: ليس في هذه الأمة كافر ولا مشرك، ولا مبتدع، ولا فاسق، ولا ظالم. والقرآن كله من أوله إلى آخره يخبر عن الكفار والمشركين والمنافقين والفاسقين والظالمين، فسبحان الله! كيف

1 سورة الجاثية آية: 36.

ص: 79

أدته العداوة والبغضاء لمن قام بالدعوة إلى التوحيد إلى أن جحد الكثير من القرآن والسنة! وادعى أن الأمة كلها من أولها إلى آخرها كلهم خير أمة أخرجت للناس، وأنهم الأمة الوسط؛ فجحد ما لا يمكن جحوده في حق أحد، وحقيقة حال هذا أنه كذّب بما في القرآن من ذلك.

فتأمل ما يترتب على هذا القول من الفساد والإلحاد، وكيف يمكن أحد أن يجحد ما وقع في هذه الأمة من ذلك من الكفر والشرك والبدع؟

وقد ذكرت في هذا الجواب بعض ما وقع في الأمة من ذلك -على سبيل الاختصار- لبيان بطلان هذه الشبهة، وشدة ضلال ملقيها. ثم إنه حرف القرآن والأحاديث، ووضعها في غير موضعها، فزعم أن المطيع والعاصي والمؤمن والكافر على حد سواء، وهذا ممتنع عقلا وشرعا وفطرة.

وقد تقدم في هذا الجواب ما يبين الخطأ من الصواب -ولله الحمد والمنة- مع الاقتصار كما في الأثر: "خير الكلام ما قل ودل ولم يطل فيمل"، والقصد بذلك انتفاع طالب الحق بالجواب عن شبهة المشبهين، وتحريف الملحدين. وبالله التوفيق.

وإلا ففي الواقع اليوم ممن هم من هذه الأمة ما يكفي البصير في رد الشبهة وإبطالها؛ فإن الرافضة اليوم كثيرون، وشركهم وبدعتهم لا يخفى على من يعرفهم، وكذلك أحوال الأعراب، وما فيهم من الفساد والجفا في الدين، واستحلال المحرمات، وسفك الدماء، ونهب الأموال، وإخافة السبيل وقطعها.

والحمد لله الذي هدانا للإسلام، وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله، وصلى الله على سيد المرسلين وإمام المتقين، وعلى آله وصحبه أجمعين.

ص: 80