المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ الوجه الثاني: - رسالة في الكلام على أحكام خبر الواحد وشرائطه - ضمن «آثار المعلمي» - جـ ١٩

[عبد الرحمن المعلمي اليماني]

الفصل: ‌ الوجه الثاني:

بعض الشهود، مع أنه ليس هناك فرق كبير بين رجلين ورجل وامرأتين.

وإنما لم تُقبل شهادة النساء في الزنا والقتل ونحوه لقلة تثبتهن، وسرعة تأثرهن، وغير ذلك مما عبِّر عنه في الحديث بنقص عقولهن.

فأما الاكتفاء بشاهد ويمين المدعي فمختلف فيه، إلا أن ما عورض به الدليل على ذلك يختص بما إذا كان أحد الخصمين مدّعيًا والآخر منكرًا، فأما إذا تداعيا شيئًا ليس في يد أحدهما، فأقام أحدهما شاهدًا وأراد أن يحلف معه فالحكم بذلك قوي جدًّا.

فأما الرواية فالحاجة داعية إلى معرفة الحكم الشرعي للعمل به، وهذا يقتضي التوسعة في ما يُعرَف به. وعارض ذلك خشيةُ غلطِ الراوي، أو أن يكون في نفس الأمر بخلاف ما ظهر من عدالته، فيُخشى من التوسعة أن يدخل في الدين ما ليس منه، ويُخشى من التشديد أن يتعذر على كثير من الناس ثبوت الحكم الشرعي، فيلزمه الحكم بخلافه أو التوقف. والموازنة بين هذين مما يصعب على الناظر، فلا يسعُه إلا أن يَكِلَ الأمر إلى عالم الغيب والشهادة الحكيم الخبير.

[ص 11]

‌ الوجه الثاني:

أن العارف إذا نظر وتدبر تبين له أن الظن الحاصل بخبر الثقة الواحد الذي يقبله أئمة الحديث لا ينقص عن الظن الحاصل بشهادة العدلين التي تقضي بها الحكّام، بل لعله أقوى منه، وذلك لأمور:

الأول: أن الدواعي إلى الكذب أو التساهل في الحديث أقلُّ وجودًا وأضعف تأثيرًا في النفوس، ولاسيما نفوس من جمع شرائط القبول، بخلاف الدواعي إلى الكذب أو التساهل في الشهادة، فإنها كثيرة الوجود

ص: 150

قوية التأثير حتى في نفوس مَن ظاهرُهم العدالة، وذلك كالعداوة والبغضاء المحتمل وجودها بين الشهود والمشهود عليه، وإن لم تظهر، وكالميل والعصبية منهم للمشهود له، وكالرشوة التي يحتمل أنهم أخذوها منه.

الأمر الثاني: أن شرائط قبول الرواية للحديث أشد وأحوط من شرائط قبول الشهادة، كما يُعلم بمراجعة الموضعين. ونخص بالذكر منها التعديل، فإن معدِّل الشاهد يكتفي بأنه قد جاوره أو عامله أو رافقه في السفر فلم ير منه ما يُسقط عدالتَه، وأما معدِّل الراوي فإنه لا يكتفي بذلك حتى ينظر في كثير من أحاديث الراوي، وينظر عمن روى، وكيف روى، إلى غير ذلك مما يعلم من محله.

الأمر الثالث: أن الرواة غالبًا من أهل العلم والدين الذين اعتنوا بطلب العلم، وكثرت مجالستهم لأهله، وأما الشهود فيكثر أن يكونوا من عامة الناس.

الأمر الرابع: أن معدِّلي الرواة أئمة مشهورون بالعلم والدين والتحقيق والزهد والتقوى، ومعدِّلو الشهود ليسوا في الغالب كذلك.

الأمر الخامس: أن المنفِّرات عن الكذب والتساهل في الرواية عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أكثر وأشدُّ من المنفِّرات عن الكذب والتساهل في الشهادة:

أولًا: أن الكذب على النبي صلى الله عليه وآله وسلم كفر، كما ذهب إليه جماعة من أهل العلم، وأوضحتُه في موضع آخر

(1)

، وليس الكذب في الشهادة كذلك.

ثانيًا: لأن الراوي يعلم عظم المفسدة إن كذب أو تساهل، وهي أن يُتديَّن بما رواه ويُعمل به ويُحكم به في قضايا لا تحصى، والشاهد يعلم خفة المفسدة إن كذب أو تساهل في شهادته، وإنما هي ــ مثلًا ــ أن يحكم لهذا

(1)

في "كتاب العبادة".

ص: 151

الرجل بهذه الدار التي لعلها ليست له، وكلما عظمت المفسدة في الأمر كان الامتناع عن ارتكابه أشد.

ثالثًا: أن الإنسان يكره أشدَّ الكراهية أن يظهر أنه كذب أو تساهل، والمحدث أبلغُ في ذلك من الشاهد؛ لأن الغالب في راوي الحديث أن تكون الرواية هي مهمّته التي يصرف أكثر عمره فيها، وفضيلته التي تُبنى عليها مكانته بين الناس، وهو يعلم أن الكذب أو التساهل يُبطل عليه تلك الفضيلة، ويُضيع عليه ذلك التعب كله، ويُسقطه من عيون الناس، ويجعله لُعْنةً فيما بينهم.

ولهذا جاء عن ابن المبارك أنه سئل عن بعض من روى، فقال: لم يكن الحديث بِيْشَقَه

(1)

. يعنى لم يكن صناعته التي يعتدُّ بها، وإنما اتفق أن روى حديثًا أو حديثين مثلًا.

وأما الشهود فالغالب أن لا تكون الشهادة صناعتهم، فكراهيتهم لظهور أنهم كذبوا أو تساهلوا أضعفُ.

وكان هذا [12] من جملة الأسباب التي حملت القضاة في العصور السابقة على أن يتخذوا شهودًا معينين تكون حرفتهم الشهادة.

رابعًا: أن الطرق التي يوقف بها على كذب الراوي أو تساهله كثيرة، لا يمكنه أن يحيط بها حتى يأمن من ظهور كذب أو تساهلٍ وقع منه، بخلاف الشهود.

(1)

انظر "معرفة علوم الحديث" للحاكم (ص 149). و"بيشق" بمعنى الصنعة تعريب الكلمة الفهلوية "پيشك"، وهي بالفارسية الحديثة:"پيشه".

ص: 152