الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[ص 8]
الفصل الثالث
المعنى الذي لأجله وجب العمل بخبر الواحد
لا نزاعَ أن مدار وجوب العمل بخبر الواحد على إفادته الظن.
وقد دلَّ عليه قول الله عز وجل: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} [الحجرات: 6]. فعلّل وجوب التبيُّن في خبر الفاسق بأن العمل به بلا تبيُّن أخذٌ بجهالة، والجهالة عدم العلم، وهي هاهنا عدمُ العلم الذي هو الظن؛ لأن الآية قد دلّت على أنه لا يجب التبيُّن في خبر العدل، فدلَّ ذلك أن الأخذ به ليس أخذًا بجهالة، وقد عُلِم أنه يفيد الظن.
ولكن هنا احتمالان:
الأول: أن تكون إفادة الظن هي العلة.
الثاني: أن تكون هي الحكمة، والعلة ضابطها، وهو نفس إخبار الثقة.
وذكر بعض أهل العلم أن الأول قد يُنقَض بخبر بعض الصبيان المميّزين، وبعض الكفّار، وبعض الفسّاق. فقد يكون الصبي المميّز أديبًا ذكيًّا نشأ على الصدق والأمانة والتدين، يُعرف منه شدةُ الحرص على الصدق والتباعد عن الكذب. وكذلك بعض الفسّاق بنحو شرب الخمر، قد يكون معروفًا بالصدق، شديدَ الحرصِ عليه والتباعدِ عن الكذب في أمور الناس، فضلًا عن الكذب على النبي صلى الله عليه وآله وسلم. وكذلك بعض الكفار قد يكون معروفًا بتحرِّي الصدق وتجنُّب الكذب.
وأجاب: بأن ردَّ خبر الصبي والفاسق والكافر مطلقًا من تخصيص العلة، وهو غير قادح عند جماعة من علماء الأصول، كما هو رأي الحنفية.
قال عبد الرحمن: الحق أن العلة لا بدَّ من سلامتها من النقض، لكن قد ينتفي الحكم مع وجودها، لفقد شرطٍ أو لوجود مانعٍ منعَ من تأثيرها. فإذا عُرِف في الصورة التي ينتفي فيها الحكم مع وجود العلة أنه انتفى فيها شرطٌ أو وُجِد مانع= لم يكن ذلك نقضًا. وذلك كالزوجية علة للإرث، ولا ينقضها أن أحد الزوجين إذا قتل الآخر لم يرِثْه، لأن ذاك لمانع، وهو القتل.
فأما أن تنتفي مع وجودها بشروطها وعدمِ مانعٍ، فلا يجوز. فإن اعتُرِض على علة بمثل هذا فهو قادح فيها البتةَ.
فإن كانت منصوصةً فلا تخلو عن وجوه:
أحدها: أن يكون هناك وصف لا بد أن يُضمَّ إليها، وهو غير موجود في صورة النقض.
الثاني: أن يكون لها شرط كذلك، أي غير موجود في صورة النقض.
الثالث: أن يكون في صورة النقض مانع.
وقبل أن يتبين واحد من هذه الثلاثة لا يمكن الجزمُ بأنها علة تامة.
وعلى هذا، فقد يجاب عن المذكور بجواب أصح مما ذكر:
فيقال: أما الصبي فلا نسلِّم أن خبره يفيد الظن في الأمور المهمة، وذلك أن المانع من الكذب إمّا خشية الله والخوف من عذاب الآخرة، وإمّا الخوف من الضعة عند الناس، والصبي خالٍ من الأول، لعلمِه أن القلم مرفوع عنه. وعن الثاني لأنه لم يبلغ المبلغ الذي يكون للشرف عند صاحبه
قيمةٌ، بل يرى أنه إن تبيَّن كذبُه فالناس يعذرونه بالصغر.
وأما الفاسق فقد تبين بظهور فسقه ضعفُ خشيته من الله، وخوفِه من عذاب الآخرة، وضعفُ خوفه من الضعة عند الناس. ومع ذلك، فالفسق مانع من قبول خبره، زجرًا له وتنفيرًا له ولغيره عن الفسق؛ لأن الإنسان إذا رأى أن الفسق يحطُّه عن درجة من يُقبَل خبره كان ذلك مما يردعه ويزجره.
وأما الكافر فلا يصدُّه عن الكذب على المسلمين خشيةٌ من الله ولا من عذاب الآخرة.
وخشية الضعة عندهم إذا ظهر كذبه يعارضها رجاؤه الرفعةَ عند إخوانه من الكفار؛ لأنه هو وهم أعداء للإسلام وأهله، ومع ذلك فهذه العداوة مانع من قبول خبره، والمانع الذي ذكرناه في الفاسق قائم هنا أيضًا.
[ص 9] وقد يُخدَش في بعض هذا الجواب بما قد يمكن دفعه، وقد يُعترض بغير ما ذكر، وبسط ذلك يطول. وعلى كل حال، فلا يخلو الاحتمال الأول من خدشةٍ، فلننظر في الاحتمال الثاني.
فأقول: قد يشهد له ما عُرف من تفاوت درجات الظن، ومن ضبط الشارع له في الشهادة ضوابط مختلفة، تارة بأربعة رجال بشرطهم، وتارة برجلين كذلك، وتارة برجل وامرأتين، إلى غير ذلك.
وقد يُعترض عليه باتفاق أهل العلم في الجملة على رد بعض أخبار الثقات، والحكمِ عليها بأنها خطأ، وتوقفهم فيها، مع اختلافهم في ما علل بالمظنة، وهي ضابط الحكمة: هل يثبت الحكم مع ثبوته حتى في الصور التي يتبين فيها عدم الحكمة، كلحوق نسب ولد المرأة بزوجها الذي لم يجتمع بها قطعًا؟
والجواب: أنه إن صح أن من المجتهدين من كان يجزم بهذه القاعدة بإطلاق، وهي أن العبرة بوجود الضابط، وإن علم انتفاء الحكمة قطعًا= فلعله غفل عن أصله هنا، أو رأى أن العلة هنا هي مجرد إفادة الظن، أو رأى زيادة وصف في الضابط، كأن يقال: خبر الثقة خبرًا لم يتبين خطؤه. وهذا معنى قول أهل الحديث: "من غير شذوذ ولا علة قادحة". فالشذوذ والعلة القادحة بمعنى قولي: "لم يتبين خطؤه". فالذي يتحرر رجحان الاحتمال الثاني، لكن بهذا القيد، والله الموفق.