المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الشرط الثاني: الضبط - رسالة في الكلام على أحكام خبر الواحد وشرائطه - ضمن «آثار المعلمي» - جـ ١٩

[عبد الرحمن المعلمي اليماني]

الفصل: ‌الشرط الثاني: الضبط

[ص 18] فصل

‌الشرط الثاني: الضبط

من الواضح أن الكذب قد يكون عمدًا ويكون خطأ، وأنه قد يكون كليًّا ويكون جزئيًّا. وأريد بالكلي: أن يكون الخبر كله كذبًا سندًا ومتنًا، وبالجزئي: أن يكون فيه ما هو حق وما هو باطل، فقد يكون السند حقًّا والخبر باطلًا، إما البتَّةَ وإما بذلك السند. وذلك كمن يسمع حديثًا بسندٍ، فيغلَط، فيتوهم أن الذي سمعه بذلك السند كلام آخر، فيروي ذلك الكلام بذلك السند. وقد يكون ذلك الكلام صحيحًا في نفسه، لكن بسند آخر، وقد يكون باطلًا.

وقد يكون الكذب الجزئي بإسقاط رجل من السند، أو زيادته، أو إبدال اسم بآخر، أو نحو ذلك. وكذلك يكون في المتن بتغييرٍ فيه يُغيِّر المعنى بزيادة أو نقص، أو تقديم وتأخير، أو إبدال كلمةٍ بأخرى، ونحو ذلك.

ومن المعروف المشاهد أيضًا أن صلاح الإنسان في نفسه إنما يحصل به الوثوق أنه لا يتعمد الكذب. ويبقى احتمال الكذب خطأ، فهذا لا يندفع إلا بأمر زائد على صلاح الراوي في نفسه، وهو الضبط. وهو عبارة عن حالٍ تحصلُ للإنسان باجتماع أمرين: ثبات، وتثبُّت.

وتوضيحه: أن الرجل إذا سمع كلامًا من رجل، فقد يسمعه كما ينبغي، ويحفظه كما ينبغي، ويفهمه كما ينبغي، ويكون عارفًا أن المتكلم هو فلان بن فلان كما ينبغي. وإنْ كتبه كتبه كما ينبغي، وحفظ كتابه كما ينبغي.

وقد لا يكون بعض هذا كما ينبغي؛ فمن الناس من لا يسمع كما ينبغي،

ص: 166

ولكنه يتوهم أنه سمع كما ينبغي، وكذلك في الحفظ وغيره، فهذا غير ضابطٍ إذا كانت هذه عادته وكثرت منه.

ومنهم من هو ضابط لميزان نفسه، يعرف غالبًا متى سمع كما ينبغي، ومتى لم يسمع كما ينبغي، وهكذا في الباقي. ثم إذا أراد أن يحدِّث بذلك الخبر، فقد يكون غيرَ ذاكرٍ للقصة كما ينبغي، ولكنه يتوهم أنه ذاكر لها كما ينبغي، وقد يكون ضابطًا لميزان نفسه، يعرف حال ذكره للقصة أكما ينبغي أم لا؟

فكون الإنسان ضابطًا لميزان نفسه عند التلقي وعند الأداء هو الثبات.

ثم قد يكون للإنسان ثباتٌ في نفسه ولكنه لا يتفقَّدها عند الأداء، فيخبر بما لم يضبطه، ولو تفقَّد نفسَه لعلم أنه لم يضبطه، فهذا غير متثبِّت، إذ لا فائدة في ثباتٍ في النفس لا يستعمله صاحبه.

وقد يكون مع ثباته في نفسه يتفقد نفسه عند الأداء، فيعرف حقيقة الحال، فيحدث بحسبها، فهذا هو المتثبت.

فاجتماع الثبات والتثبت هو الضبط.

هذا، ومن أهل العلم من أدرج الضبط في العدالة، فجعل العدالة هي الصلاح في الدين والضبط، والخطبُ سهل.

ومما يدل على اشتراط الضبط ــ مع الاتفاق عليه ــ الآية السابقة، فقد بينت أن وجوب التبيُّن في نبأ الفاسق إنما هو لأنه لا يُوثَق بخبره، وإذا لم يُوثَق به فالعمل به عمل بجهالة. وخبر المغفَّل والمتساهل كذلك. ويدل عليه قوله تعالى في الشهود:{مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} [البقرة: 282].

ص: 167

فصل

قد يقال: أما ثبات النفس فهو الغالب في الناس، وأما التثبت فهو من تمام العدالة، وقد تقدم الكلام في ثبوت العدالة، فعلى هذا يقال: إذا ثبتت العدالة ثبت الضبط ما لم يثبت خلافه.

[ص 19] أقول: أما الثبات عند التلقي فقد يُسلَّم أنه الغالب، وأما عند الأداء ففيه نظر، ولاسيما بعد طول الزمان وبُعد العهد بالقصة، حتى لقد يكون بين سماع الرجل الحديثَ وأدائه سبعون سنة وأكثر.

وأما التثبت فمسلَّم أنه من تمام العدالة، ولكن إذا قلنا: إن العدالة تثبتُ بكون الرجل من أهل القرون الأولى فإنما يثبت منها عدم تعمد الفسق فقط، والتثبت أمر زائد على ذلك.

وكذلك إذا قلنا: إنها تثبت بكثرة رواية الثقة عن الرجل، أو برواية الثقتين، أو إكثارهما عن الرجل، أو اشتهار الرجل بالتحديث ولم يتكلم فيه أهل عصره؛ لأننا إذا تتبعنا أحوال السلف وجدناهم كثيرًا ما يروون عن الرجل وتشتهر روايته ولا يتكلم فيه أهل عصره، ثم نجد أحاديثه تدل على أنه لم يكن ضابطًا.

وبالجملة فغالب ما في كتب الجرح والتعديل من الكلام مبني على اعتبار حديث الراوي، فإن غالب ذلك من كلام الإمام أحمد وابن معين وأقرانهما وتلامذتهم، وهؤلاء كثيرًا ما يحكمون على من لم يدركوه، وبعض من لم يدركوا من أدركه. وكثير من كلامهم صريح في أنهم إنما بَنوه على اعتبار أحاديث الراوي.

ص: 168

[ص 20] والذي تحرَّر لي باستقراء كثير من كلامهم أن لهم مذاهب:

الأول: مذهب ابن حبان، وقد ذكره في "الثقات"

(1)

، قال:[العدل من لم يُعرَف منه الجرح ضد التعديل، فمن لم يُعلم بجرحٍ فهو عدل إذا لم يبيّن ضدّه، إذ لم يُكلَّف الناس من الناس معرفة ما غاب عنهم، وإنما كُلِّفوا الحكمَ بالظاهر من الأشياء غيرِ المغيب عنهم].

فعنده أن المسلمين محمولون على العدالة، فكل راوٍ لم يُجرح فالظاهر أنه عدل، ولم يبق على المحدث إلا أن ينظر في حديث ذلك الراوي، فإن وجد فيه ما يدل على كذبه أو غلطه أو ضعفه فقد يتبين له بذلك جرحه فيجرحه، وإلا وثَّقه.

وهذا مذهب ضعيف، أما العدالة فقد مرَّ الكلام فيها، وبقي مع ذلك الضبط، وقد مرَّ الكلام فيه. وأما الاعتبار فإذا لم يقف المحدث للراوي إلا على حديث واحد مثلًا، فأقصى ما هناك أن يكون ذلك الحديث قد ثبت من رواية غيره، وأقصى ما في هذا هو الدلالة على أن ذلك الراوي صدق في ذلك الحديث وضبطه. وذلك لا يدل على أن الصدق والضبط شيمة له وعادة حتى يستحق التوثيق.

ثم ما يُدرِيك؟ لعل له حديثًا آخر لم تقف عليه أنت، ولو وقفت عليه لضعَّفته، ولعل من بعدك يرى توثيقك له فيحتج بذلك الحديث الذي لم تقف عليه!

(1)

(1/ 13). وما بين المعكوفتين منه، وترك المؤلف هنا بياضًا.

ص: 169

فأما إذا كان الحديث الواحد الذي وقفت عليه لم يثبت من جهة أخرى فالتوثيق أبعد وأبعد؛ إذ ليس في رواية ذلك الراوي ذلك الحديثَ دلالةٌ ما على صدقه وضبطه.

ثم ما يُدرِيك؟ لعلك فهمت من ذلك الحديث معنى لم تنكره، ولعل من بعدك يفهم منه ما ينكر، ثم يحتج به على ذلك، عملًا بتوثيقك ذلك الراوي.

وهكذا الكلام فيما إذا وقف المحدث للراوي على حديثين فقط، ويبقى النظر فيما زاد. وسيأتي.

ولِما ذكرنا ونحوِه تجد ابن حبان ربما يذكر الرجل في "الثقات"، ثم يذكره في "الضعفاء"، وربما يجعل الواحد اثنين، فيذكره في "الثقات" برواية، ويذكره في "الضعفاء" بأخرى.

والذي تبيَّن لي أن ابن حبان لم يلتزم الاعتبار، بل أخذ "التاريخ الكبير" للبخاري، ونقل غالبه إلى "الثقات". وكثير ممن أخذه عن "تاريخ البخاري" وذكره في "الثقات" لم يعرفه ابن حبان، ولا عرف ما روى، بل وكثير منهم لم يعرف عمن رووا ولا من روى عنهم.

وعادته فيمن ذكره البخاري ولم يذكر عمن روى ولا من روى عنه أن يقول: "روى المراسيل، روى عنه أهل بلده". كما أن عادة ابن أبي حاتم في بعض هؤلاء أن يدع بياضًا.

فإنما يقوى توثيق ابن حبان في حق المشاهير الذين يغلب على الظن أنه اطلع على الكثير من حديثهم.

ص: 170

المذهب الثاني: مذهب أحمد بن عبد الله بن صالح العجلي. ولم أره منقولا عنه، وإنما تتبعت جماعة من الرواة الذين وثَّقهم، فوجدته انفرد بتوثيق كثير من التابعين الذين لم يذكر لكلٍّ منهم إلا راوٍ واحد ثقة. ومنهم: أربدة، وأسماء بن الحكم الفزاري، وأقرع مؤذن عمر، والبراء بن ناجية، والحارث بن لقيط، وحبيب بن أبي سُبَيعة، وحسان بن الضمري، والربيع بن البراء بن عازب، وربيعة بن ناجذ، ورجاء بن أبي رجاء الباهلي، وغيرهم.

ووافقه ابن حبان في هؤلاء أو أكثرهم، على قاعدته.

ص: 171