المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌مدخل إن الإنسان وهو يسير في هذه الدنيا ويقطع مراحل حياته - رفقاء طريق

[عبد الملك بن قاسم]

الفصل: ‌ ‌مدخل إن الإنسان وهو يسير في هذه الدنيا ويقطع مراحل حياته

‌مدخل

إن الإنسان وهو يسير في هذه الدنيا ويقطع مراحل حياته فيها يحتاج إلى من يؤانسه في الطريق ويسلي وحدته في السفر .. ويكون له عونًا عند نزول الملمات والحوادث، يفرح لفرحه ويحزن لحزنه

أصاب من الدين أوفره ومن الأدب أكثره

جمع الله له بين الدين والخلق.

إنه الأخ المسلم الناصح المشفق .. صاحب الخلق والدين.

ولا يخفى أن ثمرة الخلق الحسن الألفة وانقطاع الوحشة، ومهما طاب الثمر طابت الثمرة، وكيف وقد ورد في الثناء على نفس الألفة سيما إذا كانت الرابطة هي التقوى والدين وحب الله من الآيات والأخبار والآثار ما فيه كفاية ومقنع، قال الله تعالى مظهرًا عظيم منته على الخلق بنعمة الألفة:{لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ} (1). وقال تعالى: {فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا} . أي بالألفة، ثم ذم التفرقة وزجر عنها فقال عز من قائل:{وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا} إلى {لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} (2)، وقال صلى الله عليه وسلم: «إن أقربكم مني مجلسًا أحاسنكم أخلاقًا الموطئون أكنافًا الذين يألفون

(1) الأنفال: 63.

(2)

آل عمران 103.

(*) رواه الطبراني وصححه الألباني.

ص: 4

ويؤلفون» (*)(1)

أخي المسلم:

إن التحاب في الله والأخوة في دينه من أفضل القربات، وألطف ما يستفاد من الطاعات في مجاري العادات ولها شروط بها يلتحق المتصاحبون بالمتحابين في الله تعالى، وفيها حقوق بمراعاتها تصفو الأخوة عن شوائب الكدورات ونزعات الشيطان، فبالقيام بحقوقها يتقرب إلى الله زلفى، وبالمحافظة عليها تنال الدرجات العلى (2).

واعلم أنه لا يصلح للصحبة كل إنسان، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال صلى الله عليه وسلم: «الرجل على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل» (3). ولابد أن يتميز الصاحب بخصال وصفات يرغب بسببها في صحبته وتشترط تلك الخصال بحسب الفوائد المطلوبة من الصحبة.

ويطلب من الصحبة فوائد دينية ودنيوية:

أما الدنيوية، كالانتفاع بالمال أو الجاه أو مجرد الاستئناس بالمشاهدة.

أما الدينية، فيجتمع فيها أيضًا أغراض مختلفة منها الاستفادة

(1) الإحياء 2/ 171.

(2)

الإحياء 2/ 171.

(3)

رواه أحمد وأبو داود والترمذي، وقال النووي: إسناده صحيح.

ص: 5

من العلم والعمل، ومنها الاستفادة من الجاه تحصنًا به عن إيذاء من يشوش القلب ويصد عن العبادة، ومنها استفادة المال للاكتفاء به عن تضييع الأوقات في طلب القوت، ومنها الاستعانة في المهمات فيكون عدة في المصائب وقوة في الأحوال (1).

أخي المسلم: ينبغي فيمن تؤثر صحبته خمس خصال: أن يكون عاقلاً حسن الخلق، غير فاسق، ولا مبتدع، ولا حريص على الدنيا (2).

وقد أثنى جل وعلا على الصحبة الطيبة وجعلها سببًا لدخول الجنة ..

قال صلى الله عليه وسلم: «إن الله تعالى يقول يوم القيامة: أين المتحابون بجلالي؟ اليوم أظلهم في ظلي يوم لا ظل إلا ظلي» (3)، وقال صلى الله عليه وسلم: «سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: إمام عادل، وشاب نشأ في طاعة الله، ورجل قلبه متعلق بالمسجد إذا خرج منه حتى يعود إليه، ورجلان تحابا في الله اجتمعا على ذلك وتفرقا عليه

» (4).

بل ورفع الله عز وجل ذكر الكلب برفقته للصالحين فقال

(1) الإحياء 2/ 185.

(2)

الإحياء 2/ 186.

(3)

رواه مسلم.

(4)

متفق عليه.

ص: 6

تعالى: {سَيَقُولُونَ ثَلَاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ} (1).

إن الخليل هو المرآة التي تعكس صورتك للناس وتريهم من تكون

فالمرء على دين خليله، فلينظر المرء من يخالل.

قال أبو سليمان: قوله «المرء على دين خليله» معناه: لا تخالل إلا من رضيت دينه وأمانته، فإنك إذا خاللته قادك إلى دينه ومذهبه

ولا تغرر بدينك ولا تخاطر بنفسك فتخالل من ليس مرضيًا في دينه ومذهبه (2).

أنت في الناس تقاس

بمن اخترت خليلا

فاصحب الأخيار تعلو

وتنل ذكرًا جميلا

وانظر أخي المسلم إلى موقف الأخلاء من بعض يوم القيامة وهو أهم المواقف وأعظمها شأنًا، قال جل وعلا يصف حالتهم:{الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ} (3).

* وفي وصف عجيب وتصوير دقيق للصحبة وأثرها قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنما مثل الجليس الصالح وجليس السوء، كحامل المسك، ونافخ الكير، فحامل المسك إما أن يحذيك، وإما أن

(1) سورة الكهف الآية: 22.

(2)

العزلة 510.

(3)

الزخرف 67.

ص: 7

تبتاع منه، وإما أن تجد منه ريحًا طيبة، ونافخ الكير، إما أن يحرق ثيابك، وإما أن تجد منه ريحًا منتنة» (1).

وقال علي رضي الله عنه: عليكم بالإخوان فإنهم عدة في الدنيا والآخرة، ألا تسمع قول أهل النار {فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ وَلَا صَدِيقٍ حَمِيمٍ} (2).

وللأخوة حقوق قد ذكرها عطاء بن ميسرة بقوله: تعاهدوا إخوانكم بعد ثلاث، فإن كانوا مرضى فعودوهم وإن كانوا مشاغيل فأعينوهم، وإن كانوا نسوا فذكروهم (3).

ولاشك أن لكل إنسان عيبًا وفي كل مخلوق نقصًا

من أولئك أيضًا من اخترتهم للصحبة واصطفيتهم للرفقة ولكن:

إن تجد عيبًا فسد الخللا

فجل من لا عيب فيه وعلا (4)

قال أبو علي الرباطي: صحبت عبد الله الرازي وكان يدخل البادية، فقال: علي أن تكون أنت الأمير أو أنا؟ ، فقلت: بل أنت، فقال: وعليك الطاعة، فقلت: نعم فأخذ مخلاة ووضع فيها الزاد وحملها على ظهره

فإذا قلت له أعطني، قال: ألست قلت: أنت

(1) متفق عليه.

(2)

الإحياء 2/ 175.

(3)

حلية الأولياء 5/ 198.

(4)

البداية والنهاية 14/ 160.

ص: 8

الأمير، فعليك الطاعة، فأخذنا المطر ليلة فوقف على رأسي إلى الصباح وعليه كساء وأنا جالس يمنع عني المطر

فكنت أقول مع نفسي: ليتني مت ولم أقل: أنت الأمير (1).

أين أخي الحبيب هؤلاء من رفقة اليوم .. وصحبة هذا الزمن؟ !

ولهذا قال المأمون: الإخوان ثلاثة: أحدهم: مثله مثل الغذاء لا يستغنى عنه، والآخر: مثله مثل الدواء يحتاج إليه في وقت دون وقت، والثالث: مثله مثل الداء لا يحتاج إليه قط .. ولكن العبد قد يبتلى به وهو الذي لا أنس فيه ولا نفع ..

وقد قيل: مثل جملة الناس كمثل الشجر والنبات .. فمنها ما له ظل وليس له ثمر وهو مثل الذي ينتفع به في الدنيا دون الآخرة فإن نفع الدنيا كالظل السريع الزوال ومنها ما له ثمر وليس له ظل وهو مثل الذي يصلح للآخرة دون الدنيا، ومنها ما له ثمر وظل جميعًا، ومنها ما ليس له واحد منهما كأم غيلان تمزق النبات ولا طعم فيها ولا شراب، ومثله من الحيوانات الفأرة والعقرب.

الناس شتى إذا ما أنت ذقتهم لا

يستوون كما لا يستوي الشجر

هذا له ثمر حلو مذاقته

وذاك ليس له طعم ولا ثمر (2)

(1) الإحياء 2/ 199.

(2)

الإحياء 2/ 187.

ص: 9

ولكن أخي الكريم عليك بحسن الاختيار

والحرص والتحري .. وانظر مع من تجتمع؟ وعلى ماذا تجتمع؟ وكيف تختار الأصدقاء؟ ! أهم الذين قال الله فيهم: {وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} فأعانوا على الطاعة الاستقامة والسير إلى الله أم هم أهل الضياع والضلال والخسران؟ !

فإن الاجتماع بالإخوان قسمان:

أحدهما: اجتماع على مؤانسة الطبع وشغل الوقت فهذا مضرته أرجح من منفعته، وأقل ما فيه أنه يفسد القلب ويضيع الوقت.

الثاني: الاجتماع بهم على التعاون على أسباب النجاة والتواصي بالحق والصبر، فهذا من أعظم الغنيمة وأنفعها، ولكن فيه ثلاث آفات: إحداها: تزين بعضهم لبعض.

الثانية: الكلام والخلطة أكثر من الحاجة. الثالثة: أن يصير ذلك شهوة وعادة ينقطع بها عن المقصود، وبالجملة، فالاجتماع والخلطة لقاح إما للنفس الأمارة وإما للقلب والنفس المطمئنة، والنتيجة مستفادة من اللقاح، فمن طاب لقاحه طابت ثمرته، وهكذا الأرواح الطيبة لقاحها من الملك والخبيثة من الشيطان، وقد جعل الله سبحانه بحكمته الطيبات للطيبين والطيبين للطيبات وعكس ذلك (1).

(1) الفوائد 68.

ص: 10

قال أبو حاتم: الكريم يلين إذا استعطف، واللئيم يقسو إذا ألطف، والكريم يجل الكرام، ولا يهين اللئام، ولا يؤذي العاقل، ولا يمازح الأحمق، ولا يعاشر الفاجر، مؤثرًا إخوانه على نفسه باذلاً ما ملك، إذا اطلع على رغبة من أخ لم يدع مكافأتها، وإذا عرف منه مودة لم ينظر في قلق العداوة، وإذا أعطاه من نفسه الإخاء لم يقطعه بشيء من الأشياء (1).

وإذا صاحبت فاصحب صاحبًا

ذا حياء وعفاف وكرم

قائلاً للشيء لا إن قلت لا

وإذا قلت نعم قال نعم (2)

وليست موافقة الصاحب مقصورة على الحياة فحسب بل إن نفع هذا الخليل يمتد إلى ما بعد ذلك وهو استمرار لهذه المحبة الصادقة والأخوة الظاهرة فقد كان محمد بن يوسف الأصفهاني يقول: وأين مثل الأخ الصالح؟ أهلك يقتسمون ميراثك ويتنعمون مما خلفت، وهو منفرد بحزنك مهتم مما قدمت وما صرت إليه يدعو لك في ظلمات الليل وأنت تحت أطباق الثرى (3).

ورأينا هذا الفعل في كثير من الأخلاء الصالحين

يتصدقون

(1) روضة العقلاء 173.

(2)

شذرات الذهب 1/ 97.

(3)

الإحياء 2/ 202.

ص: 11

عن صاحبهم ويدعون له .. وما ذكر في مجلس إلا ترحموا عليه ودعوا له بالمغفرة ولسان أحدهم يقول:

ولقد نظرت فلم أجد يهدى لكم

غير الدعاء المستجاب الصالح (1)

ومثل الأخوين مثل اليدين تغسل إحداهما الأخرى .. فهما يتعاونان في إصلاح بعضهما وكذلك يتشاركان في السراء والضراء .. وكل منهما للآخر معين ومساعد

يعينه في سير الدنيا إلى الآخرة.

أخي المسلم: إذا لم تجد رفيقًا صالحًا وأخًا في الله فإن الوحدة وقراءة القرآن خير لك، والكتب النافعة أثمر والتزود من الطاعات أجدى وأنفع .. وقس الأمر وانظر أين الخير؟ !

فقد قال مالك بن دينار: كل جليس لا تستفيد منه خيرًا فاجتنبه (2).

وقال بكر بن محمد العابد: قال لي داود الطائي: يا بكر، استوحش من الناس كما تستوحش من السبع (3).

وقال عبد العزيز بن الخطاب: رؤي إلى جنب مالك بن دينار كلب عظيم ضخم أسود رابض، فقيل له: يا أبا يحيى، ألا ترى هذا

(1) شذرات الذهب 7/ 85.

(2)

حلية الأولياء 2/ 372.

(3)

روضة العقلاء 82.

ص: 12

الكلب إلى جنبك؟ قال: هذا خير من جليس السوء (1).

وعندما سئل إبراهيم بن أدهم: لم لا تصحب الناس؟

قال: إن صحبت من هو فوقي: تكبر علي.

وإذا صحبت من هو دوني: لم يعرف حقي.

وإذا صحبت من هو مثلي: حسدني.

لا تصحب أخا

الجهل فإياك وإياه

فكم من جاهل أردى

حليمًا حين يغشاه

يقاس المرء بالمرء

إذا هو ما شاه

وللشيء على الشيء

مقاييس وأشباه

وللقلب على القلب

دليل حين يلقاه

أخي .. اعلم أن كل من يحب في الله لابد أن يبغض في الله فإنك إن أحببت إنسانًا لأنه مطيع لله ومحبوب عند الله فإن عصاه فلابد أن تبغضه لأنه عاص لله وممقوت عند الله (2).

(1) روضة العقلاء 82.

(2)

الإحياء 2/ 181.

ص: 13

والصحبة تنقسم إلى ما يقع عليه الاتفاق، كالصحبة بسبب الجوار أو بسبب الاجتماع في المكتب، أو في المدرسة أو في السوق، أو على باب السلطان أو في الأسفار، وإلى ما ينشأ اختيارًا وقصدًا، وأجلها وأعظمها الأخوة في الدين، فإن من رافق الأخيار أصبح منهم ومن سار مع الطيبين هبت نسمات الخير على وجهه .. فهم خير معين بعد الله في الدنيا وهم خير رفيق في السير إلى الدار الآخرة.

انظر إلى حالهم في الدنيا وإلى نماذج من صورهم الطيبة وأفعالهم الزكية .. فقد دخل علي بن الحسين على محمد بن أسامة بن زيد في مرضه فجعل يبكي فقال: ما شأنك؟ قال: علي دين! ! قال: كم هو؟ قال: خمسة عشر ألف دينار، قال: فهو علي (1).

إذا أعجبتك خلال امريء

فكنه يكن منكما يعجبك

فليس على الجود والمكرما

ت إذا جئتها حاجب يحجبك (2)

نعم من يحجب الإنسان عن التخلق بالخلق الحسن؟ ومن يمنع المرء عن معالي الأمور؟ ..

قال الشعبي: إن كرام الناس أسرعهم مودة، وأبطؤهم عداوة

(1) حلية الأولياء 3/ 141.

(2)

مدارج السالكين 3/ 45.

ص: 14

مثل الكوب من الفضة يبطئ الانكسار، ويسرع الانجبار وإن لئام الناس أبطؤهم مودة وأسرعهم عداوة مثل الكوب من الفخار: يسرع الانكسار ويبطئ الانجبار.

وقال أبو حاتم: الكريم من أعطاه شكره، ومن منعه عذره، ومن قطعه وصله، ومن وصله فضله، ومن سأله أعطاه ومن لم يسأله ابتدأه، وإذا استضعف أحدًا رحمه وإذا استضعفه أحد رأى الموت أكرم له منه، واللئيم بضد ما وصفنا من الخصال كلها (1).

قال بعضهم لرجل وهو يعظه: جماع الخير كله في ثلاثة أشياء: إن لم تمض نهارك بما هو لك فلا تمضه بما هو عليك، وإن لم تصحب الأخيار فلا تصحب الأشرار، وإن لم تنفق مالك فيما لله رضاء فلا تنفقه فيما لله فيه سخط (2).

أخي المسلم: إن ما نراه من التكلف وعدم التبسط بين الأحباب ومع الأصحاب مرده إلى عدم معرفتنا حقوق الأخوة في الله .. ومدى قوة هذا الوثاق.

قال عبد الله بن الوليد: قال لنا أبو جعفر محمد علي: يدخل أحدكم يده في كم صاحبه فيأخذ ما يريد؟ قلنا: لا، قال: فلستم بإخوان كما تزعمون (3).

(1) روضة العقلاء 174.

(2)

الزهد للبيهقي 310.

(3)

حلية الأولياء 3/ 187.

ص: 15

ويقول الإمام الشافعي:

إذا المرء لا يلقاك إلا تكلفًا

فدعه ولا تكثر عليه التأسفا

ففي الناس أبدال وفي الترك راحة

وفي القلب صبرللحبيب ولو جفا

فما كل من تهواه يهواك قلبه

ولا كل من صافيته لك قد صفا

إذا لم يكن صفو الوداد طبيعة

فلا خير في ود يجيء تكلفا

ولا خير في خل يخون خليله

ويلقاه من بعد المودة بالجفا

وينكر عيشًا قد تقادم عهده

ويظهر سرًا كان بالأمس في خفا

سلام على الدنيا إذا لم يكن بها

صديق صدوق صادق الوعد منصفا

ص: 16

وصفات الصاحب الكريم صفات محبوبة وخصال حميدة .. والشاعر يميزه عن اللئيم فيقول:

وترى الكريم إذا تقدم وصله

يخفي القبيح ويظهر الإحسانا

وترى اللئيم إذا تقضى وصله

يخفي الجميل ويظهر البهتانا (1)

بل يا أخي ..

إن الكريم الذي تبقى مودته

ويحفظ السر إن صافى وإن صرما

ليس الكريم الذي إن زل صاحبه

بث الذي كان من أسراره علما (2)

قال بعض الناصحين: لا تصحب من الناس إلا من يكتم سرك ويستر عيبك فيكون معك في النوائب ويؤثرك بالرغائب ينشر حسنتك ويطوي سيئتك، فإن لم تجده فلا تصحب إلا نفسك.

وقال أبو حاتم: الواجب على العاقل أن يستعيذ بالله من صحبة من إذا ذكر الله لم يعنه، وإن نسي لم يذكره، وإن غفل حرضه على ترك الذكر، ومن كان أصدقاؤه أشرارًا كان هو شرهم، وكما أن الخير لا يحب إلا البررة، كذلك الردي لا يصحب

(1) الإحياء 2/ 195.

(2)

تاريخ بغداد 5/ 158.

ص: 17

إلا الفجرة فإن المرء إذا اضطره الأمر فليصحب أهل المروءات (1).

إن أخاك الحق من كان معك

ومن يضر نفسه لينفعك

ومن إذا ريب زمان صدعك

شتت فيه شمله ليجمعك (2)

أخي الكريم: إذا أجدبت الأرض وضاقت المسالك .. وادلهمت الخطوب وتاهت الدروب .. هناك يظهر لك الأخ الصادق والوفي

تستأنس برأيه

وتتقوى بهمته يهون عليك المصيبة ويحمل عنك ما أثقل كاهلك ..

أما إذا اخضرت الأرض وابتسمت لك الدنيا .. فالكل أصحاب وأحباب! !

وكل الناس إخوان الرخاء إنما

أخوك الذي آخاك عند الشدائد (3)

ومن مصائب الدنيا وشدائدها مصيبة الموت .. فما هو أثر الرفقة والصحبة .. عند الموت وبعده

؟ ! هل إذا وسدت الثرى ينقطع ذكرك وينساك الأصحاب والأحباب؟ ! بل هو يترك أبناؤك لليتم والفقر والعوز .. بل والضياع؟ !

(1) روضة العقلاء 102.

(2)

الإحياء 2/ 178.

(3)

العزلة 54.

ص: 18

كان بعض السلف يتفقد عيال أخيه بعد موته أربعين سنة فيقضي حوائجهم (1)(2).

ولهذا يوصي عمر بن الخطاب رضي الله عنه فيقول: عليك بإخوان الصدق تعش في أكنافهم، فإنهم زينة في الرخاء وعدة في البلاء، وضع أمر أخيك على أحسنه حتى يجيئك ما يقليك منه، واعتزل عدوك واحذر صديقك إلا الأمين، ولا أمين إلا من يخشى الله، ولا تصحب الفاجر فتتعلم من فجوره، ولا تطلعه على سرك (3).

قال مالك بن دينار: إنك إن تنقل الحجارة مع الأبرار خير من أن تأكل الخبيص (4) مع الفجار (5).

وقال أبو حاتم: العاقل لا يدنس عرضه، ولا يعود نفسه أسباب الشر بلزوم صحبة الأشرار، ولا يغضي عن صيانة عرضه، ورياضة نفسه بصحبة الأخيار، على أن الناس عند الخبرة يتبين منهم أشياء ضد الظاهر منها.

أخي الحبيب .. أين نحن من هؤلاء؟ !

كان أبو حنيفة ربما يمر بالرجل فيجلس إليه لغير قصد ولا

(1) أعرف من قام بمثل هذا ثمانية عشر سنة.

(2)

منهاج القاصدين 108.

(3)

منهاج القاصدين 108.

(4)

نوع من الحلوى.

(5)

روضة العقلاء 100.

ص: 19

مجالسة، فإذا قام سأل عنه فإن كان به فاقة وصله، وإن مرض عاده حتى يجره إلى مواصلته (1).

وللرفيق حقوق وللصديق واجبات وقد ذكر سعيد بن العاص ذلك بقوله: لجليسي علي ثلاث: إذا دنا رحبت به، وإذا حدث أقبلت، وإذا جلس أوسعت له (2).

وقد ذكر الله عز وجل بعضًا من تلك الصفات الحميدة بين المؤمنين فقال تعالى: {رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} إشارة إلى الشفقة والإكرام، ومن تمام الشفقة أن لا ينفرد بطعام لذيذ أو بحضور في مسرة دونه بل يتنغص لفراقه ويستوحش بانفراده (3).

وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «خير الأصحاب عند الله خيرهم لصاحبه» (4).

إذا أنت صاحبت فكن فتى

كأنك مملوك لكل رفيق

وكن مثل طعم الماء عذبًا وباردًا

على الكبد الحري لكل صديق (5)

هذه صحبة الأخيار ورفقة الصالحين تناديك –أخي المسلم-

(1) تاريخ بغداد 13/ 360.

(2)

الإحياء 2/ 191.

(3)

الإحياء 2/ 191.

(4)

رواه أحمد والترمذي وصححه الألباني.

(5)

التواضع والخمول 37.

ص: 20

فهي عون لك في الشدائد ومنبه لك عند العثرات

إعانة على الخير وتواصي بالصبر .. فالزم أهل الخير وجاور أهل التقى.

في الجانب الآخر .. ماذا نرى؟ ! إنهم الأشرار ورفقاء السوء

تزيين للفاحشة وإضاعة للطاعات

وإتيان للمحرمات

لا تغني معرفتهم في الدنيا شيئًا ولا تثمر في الآخرة إلا شقاء وندمًا

وصفهم الله جل وعلا يوم القيامة بأنهم أعداء .. انتهت تلك الرفقة وتلاشت تلك الصحبة

وتحول كل ذلك إلى عداوة وبغضاء {الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ}

كان أبو الدرداء رضي الله عنه يقعد إلى القبور، فقيل له في ذلك

فقال: أجلس إلى قوم يذكروني معادي، وإن غبت لم يغتابوني (1).

وكانوا يتحرون للصحبة كبار السن من جمل الشيب مفارق رءوسهم وعلا الوقار حديثهم عصرتهم الأيام وخبرتهم الليالي .. أهل الدين والعقل والحكمة.

قال أبو عمرو بن العلاء: رآني سعيد بن جبير وأنا جالس مع الشباب، قال ما يجلسك مع الشباب؟ عليك بالشيوخ (2).

ومن جلس اليوم إلى الشيوخ لم يرض بمجالس الشباب فهناك تخرج من أفواه الكبار الحكمة والقصة وتذكر السنين الماضية .. وما

(1) منهاج القاصدين 432.

(2)

روضة العقلاء 101.

ص: 21

بينهما إلا ذكر الله واستغفار وتسبيح وتحميد .. فمن يداني تلك المجالس يربح ومن يلازمهم يفرح وإن أخذ منهم وأضاف لهم من علمه وقراءته فقد زكى ونما .. وله في تلك الرفقة دعوة ومعرفة وخلاصة تجربة .. وإلا فعليه بقول أبي الدرداء: لصاحب صالح خير من الوحدة، والوحدة خير من صاحب السوء، ومملي الخير خير من الساكت، والساكت خير من مملي الشر.

وقال أبو حاتم: العاقل لا يصاحب الأشرار؛ لأن صحبة صاحب السوء قطعة من النار، تعقب الضغائن، لا يستقم وده، ولا يفي بعهده.

وإن من سعادة المرء خصالاً أربعا: أن تكون زوجته موافقته، وولده أبرارًا، وإخوانه صالحين، وأن يكون رزقه في بلده.

وكل جليس لا يستفيد المرء منه خيرًا تكون مجالسة الكلب خيرًا من عشرته، ومن يصحب صاحب السوء لا يسلم كما أن من يدخل مداخل السوء يتهم.

قال الزهري: وهل ينتفع من السيئ الخلق بشيء (1)؟

وقال وهب بن منبه: الأحمق كالثوب الخلق، إن رفأته من جانت انخرق من جانب آخر، مثل الفخار المكسور لا يرقع ولا يشعب ولا يعاد طينا.

فهذا مثل الأحمق: إن صحبته عناك، وإن اعتزلته شتمك، وإن

(1) روضة العقلاء 65.

ص: 22

أعطاك من عليك، وإن أسر إليك اتهمك، وإن أسررت إليه خانك، وإن كان فوقك حقرك، وإن كان دونك غمزك (1).

وحال بعض مجالس اليوم قريبة من ذلك بل وتزيد على ذلك

أخي المسلم: رفقة العاصي ما هي نتيجتها وفائدتها إنها فراق وشقاق وخسران ووبال .. في يوم تتقطع تلك المودة وتزول المحبة لأنها بنيت على شفا جرف هار.

قال علي بن الحسين: ما اصطحب اثنان على معصية إلا أوشك أن يفترقا على غير طاعة (2).

وذلك لأن رباط المعصية رباط واه كخيط العنكبوت سرعان ما ينقطع ويزول

لأنه رباط غير صادق لم يقم إلا على معصية ولم ينشأ إلا عن غفلة ومصلحة .. متى انتهت انقطع وتصرم! !

لكن أوثق العرى رباط الأخوة الدينية الذي ينبهك إذا غفلت ويذكرك إذا نسيت ويحتسب الأجر في مودتك ورفقتك ويتقرب إلى الله عز وجل بمحبتك ..

أخي الحبيب:

إن من ذكرك بحق الله عليك وأعانك على الطاعة وجنبك المعصية لهو خير الإخوان وأصدق الأخلاء وأوفى الرفقاء .. بل إنه

(1) روضة العقلاء 122.

(2)

البداية والنهاية 9/ 121.

ص: 23

بصنيعه هذا خير لك ممن يعطيك مالاً وينالك منه إحسان .. إن هذا هو خير الإحسان وأوفره ..

قال بلال بن سعد: أخ لك كلما لقيك ذكرك بحظك من الله خير لك من أخ كلما لقيك وضع في كفك دينارًا (1).

يدلك على درب الآخرة ويزودك من زادها ويسهل لك أمر العبادة ويفتح لك طرق الخير .. صاحب خوف ومراقبة وخشية ومحاسبة.

ومن الخوف المستمر، والوجل الدائم قال الفضيل بن عياض: بلغني عن طلحة بن مصرف أنه ضحك يومًا فوثب على نفسه، فقال: فيم الضحك؟ ! إنما يضحك من قطع الأهوال وجاز الصراط ثم قال: آليت أن لا أُرى ضاحكًا حتى أعلم بما تقع الواقعة، فما رئي ضاحكًا حتى صار إلى الله عز وجل (2).

أخي .. إن رفقة الصالحين ومصاحبة الطيبين لهي خير معين على الطاعة والعبادة بل إنها من المثبتات على لزوم الجادة والسير إلى الدار الآخرة .. ولذا حرصوا على مصاحبة الأخيار والحث على رفقة الصالحين.

قال إبراهيم التيمي: إذا رأيت الرجل يتهاون في التكبيرة الأولى، فاغسل يدك منه (3).

(1) حلية الأولياء 5/ 225.

(2)

حلية الأولياء 5/ 15.

(3)

حلية الأولياء 4/ 215.

ص: 24

إن مثل هؤلاء الأخيار تجب محبتهم ويحسن القرب منهم قال عبد الله بن عمر رضي الله عنهما في ذلك: والله لو صمت النهار ولا أفطره، وقمت الليل لا أنامه، وأنفقت مالي غلقًا غلقًا في سبيل الله أموت يوم أموت وليس في قلبي حب لأهل طاعة الله وبغض لأهل معصيته ما نفعني ذلك شيئًا (1).

ولنتأمل في إحدى نصائح من نحب في الله

قال محمد بن يونس بن موسى: سمعت زهير بن نعيم وقد قال له رجل: يا أبا عبد الرحمن توصي بشيء؟ قال: نعم احذر أن يأخذك الله وأنت في غفلة.

والمعاملة الطيبة الحسنة صفة ملازمة لأهل الخير فهذا أحدهم وهو يزيد بن أبي حبيب يقول: لا أدع أخًا لي يغضب علي مرتين، بل أنظر الأمر الذي يكره فأدعه (2).

ألا فنعمت الأخوة ونعمت المحبة

وكنت إذا صحبت رجال قوم

صحبته وشيمتي الوفاء

فأحسن حين يحسن محسنهم

وأجتنب الإساءة إن أساءوا

(1) الإحياء 2/ 175.

(2)

تذكرة الحفاظ 1/ 130.

ص: 25

وأبصر ما يريبهم بعين

عليها من عيونهم غطاء (1)

دخل جماعة على الحسن: وهو نائم فجعل بعضهم يأكل من فاكهة في البيت فقال: رحمك الله، هذا والله فعل الإخوان (2).

وجاء فتح الموصلي إلى منزل لأخ له وكان غائبًا فأمر أهله، فأخرجت صندوقه ففتحه وأخذ حاجته، فأخبرت الجارية مولاها فقال: إن صدقت فأنت حرة لوجه الله سرورًا بما فعل (3).

لست أنسى تلك الحقوق ولكن

لست أدري بأيهن أكافئ

ومن يكافئ أولئك الرجال؟ !

كتب الأوزاعي إلى أخ له، أما بعد: فإنه قد أحيط بك من كل جانب، واعلم أنه يسار بك في كل يوم وليلة، فاحذر الله والمقام بين يديه، وأن يكون آخر عهدك به

والسلام (4).

أخي المسلم:

وإذا كان هؤلاء الإخوان وأولئك هم الأحبة .. بين فعل حسن ونصيحة محقة .. فعليك بهم كما أوصى بذلك علي بن أبي طالب: عليكم بالإخوان فإنه عدة في الدنيا والآخرة .. ألا تسمعوا

(1) شذرات الذهب 2/ 33.

(2)

منهاج القاصدين 108.

(3)

الإحياء 2/ 189.

(4)

حلية الأولياء 6/ 140.

ص: 26

قول أهل النار {فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ وَلَا صَدِيقٍ حَمِيمٍ} (1).

ألا إنهم عدة في الدنيا والآخرة .. إذا كان أحدهم مثل أبي سليمان الداراني الذي يقول: تعرض علي النكتة من نكت القوم، فلا أقبلها إلا بشاهدي عدل، الكتاب والسنة (2).

وما ذاك –أخي الكريم- إلا خوفًا من أن يكون كلمة سوء

يؤزر عليها ولا يؤجر، ومجالس اليوم مجالس لا تعرض حديثها على الكتاب والسنة .. بل إن بعضها فيه استزاء بالكتاب وأهل السنة –والعياذ بالله-.

أخي الحبيب: انظر إلى قياسهم في الصحبة وما يجب في الرفيق، فقد كفوك مؤنة البحث ومشقة النظر ووضعوا لك الموازين

هذا مالك بن دينار يقول للمغيرة بن حبيب: يا مغيرة .. انظر كل جليس وصاحب لا تستفيد في دينك منه خيرًا فانبذ عنك صحبته (3).

وكل ما دون الدين فهو سهل وكل ما وراء الخير فهو هين .. ركيزة الدين هي الأساس وما ظهر خلاف ذلك من زلة وهنة فالرجوع قريب.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية:

ولو كان كل ما اختلف مسلمان في شيء تهاجرا لم يبق بين

(1) الإحياء 2/ 175.

(2)

مدارج السالكين 2/ 42.

(3)

الزهد 449، صفة الصفوة 3/ 286.

ص: 27

المسلمين عصمة ولا أخوة (1).

وقال الفضيل بن عياض: من طلب أخًا بلا عيب بقي بلا أخ (2).

وقال أبو حاتم: الواجب على العاقل إذا رزقه الله ود امريء مسلم صحيح الوداد محافظ عليه: أن يتمسك به، ثم يوطن نفسه على صلته إن صرمه، وعلى الإقبال عليه إن صد عنه، وعن البذل له إن حرمه، وعلى الدنو منه إن باعده، حتى كأنه ركن من أركانه، وإن من أعظم عيب المرء تلونه في الوداد (3).

ويجب أخذ أمر الصديق والرفيق على أحسن المحامل وخير التفسيرات.

قالت بنت عبد الله بن مطيع لزوجها طلحة بن الرحمن بن عوف –وكان أجود قريش في زمانه-: ما رأيت قومًا ألأم من إخوانك! ! قال لها: مه، ولم ذلك؟ قالت: أراهم إذا أيسرت لزموك، وإذا أعسرت تركوك، فقال لها: هذا والله من كرم أخلاقهم، يأتوننا في حال قدرتنا على إكرامهم، ويتركوننا في حال عجزنا عن القيام بحقهم ..

فلله دره كيف تأول صنيع إخوانه على أوفى وأكمل الأخلاق والنظرات .. وما ذاك إلا من تقاه وإيمانه وحسن خلقه.

(1) مجموع الفتاوى 24/ 173.

(2)

روضة العقلاء 169.

(3)

روضة العقلاء 103.

ص: 28

وإذا بحثت عن التقي وجدته

رجلاً يصدق قوله بفعال

وإذا اتقى الله امرؤ وأطاعه

فيداه بين مكارم ومعال

وعلى التقي إذا تراسخ في التقى

تاجان: تاج سكينة، وجمال

وإذا تناسبت الرجال، فما أرى

نسبًا يكون كصالح الأعمال (1)

أخي الحبيب:

ومن لا يغمض عينه عن صديقه

وعن بعض ما فيه يمت وهو عاتب

ومن يتتبع جاهدًا كل عثرة

يجدها ولا يبقى له الدهر صاحب (2)

أخي الحبيب

أين نحن من هؤلاء؟ !

كان عبد الله بن المبارك إذا عزم على الحج يقول لأصحابه: من عزم منكم في هذا العام على الحج فليأتني بنفقته حتى أكون أنا أنفق عليه، فيأخذ منهم نفقاتهم ويكتب على كل صرة اسم صاحبها ويجعلها في صندوق، ثم يخرج بهم في أوسع ما يكون من

(1) روضة العقلاء 9/ 286.

(2)

البداية والنهاية 9/ 286.

ص: 29

النفقات والركوب وحسن الخلق والتيسير عليهم، فإذا قضوا حجتهم يقول لهم: هل أوصاكم أهلوكم بهدية؟ فيشتري لكل واحد منهم ما وصاه أهله من الهدايا المدينة، فإذا رجعوا إلى بلادهم بعث من أثناء الطريق إلى بيوتهم فأصلحت وابيضت أبوابها ورمم شعثها فإذا وصلوا إلى البلد عمل وليمة بعد قدومهم ودعاهم فأكلوا وكساهم ثم دعا بذلك الصندوق فتحه وأخرج منه تلك الصرر، ثم يقسم عليهم أن يأخذ كل واحد نفقته التي عليها اسمه فيأخذونها وينصرفون إلى منازلهم (1).

أخي المسلم .. للصداقة الحقة شروط فكما أن هناك صداقة قائمة على منفعة فهذه تدوم بدوام هذه المنفعة، وإما صداقة قائمة على الهوى فهذه صداقة في مهب الريح لأنها قامت على أساس متقلب فلا يأمن أصحابها غرر بعضهم ببعض، وإما

صداقة مبنية على الإيمان والحب في الله فهذه هي الأخوة الصادقة المستمرة.

أخي الكريم:

سامح أخاك إذا خلط

منه الإصابة والغلط

وتجاف عن تعنيفه

إن زاغ يومًا أو قسط

(1) البداية النهاية 10/ 203.

ص: 30

واعلم بأنك إن طلبـ

ت مهذبًا رمت الشطط

من ذا الذي ما ساء قـ

ط ومن له الحسنى فقط

والأخ هذا الذي تتحمل جفوته وتصبر على زلته لا يعدو كونه أحد رجلين .. قال عنهم شعيب بن حرب: لا تجلس إلا مع رجلين: رجل إذا جلست إليه يعلمك خيرًا فتقبل منه، أو رجل تعلمه خيرًا فيقبل منك .. والثالث اهرب منه (1).

وانظر فيمن حولك لترى كيف هم أصحابك وأحبابك؟ !

وعليك بمراتب ومنازل ذكرها ابن الجوزي لتنزل كلاً منهم منزلته

قال: كان لنا أصدقاء وإخوان أعتد بهم، فرأيت منهم من الجفاء وترك شروط الصداقة والأخوة عجائب فأخذت أعتب.

ثم انتبهت لنفسي فقلت: وما ينفع العتاب، فإنهم إن صالحوا فللعتاب لا للصداقة، فهممت بمقاطعتهم، ثم تفكرت فرأيت الناس بي معارف وأصدقاء في الظاهر وإخوة مباطنين، فقلت لا تصلح مقاطعتهم.

إنما ينبغي أن تنقلهم من ديوان الإخوة إلى ديوان الصداقة الظاهرة فإن لم يصلحوا لها نقلتهم إلى جملة المعارف، وعاملتهم

(1) صفة الصفوة 3/ 8.

ص: 31

معاملة المعارف، ومن الغلط أن تعاتبهم.

قال يحيى بن معاذ: بئس الأخ تحتاج أن تقول له اذكرني في دعائك، وجمهور الناس اليوم معارف ويندر فيهم الصديق في الظاهر ..

وإياك أن تنخدع بمن يظهر لك الود، فإنه مع الزمان يبين لك الحال فيما أظهره.

وربما أظهر لك ذلك لسبب يناله منك.

قال الفضيل بن عياض: إذا أردت أن تصادق صديقًا فأغضبه فإن رأيته كما ينبغي فصادقه.

وهذا اليوم مخاطرة، لأنك إذا أغضبت أحدًا صار عدوًّا في الحال (1).

في زمنهم مخاطرة أما في زمننا فهو أكثر من ذلك

فقد شحت الأنفس وضاقت الصدور واندثرت المروءات إلا ما رحم ربي وقليل ما هم! !

هذا ابن المبارك وقد صحب رجلاً سيئ الخلق في سفر فكان يحتمل منه ويداريه فلما فارقه بكى، فقيل له في ذلك، فقال: بكيته رحمة له، فارقته خلقه معه لم يفارقه (2).

قال الفضيل بن عياض: إذا خالطت فخالط حسن الخلق،

(1) صيد الخاطر 497.

(2)

الإحياء 10/ 57.

ص: 32

فإنه لا يدعو إلا إلى خير، وصاحبه منه في راحة ولا تخالط سيئ الخلق فإنه لا يدعو إلا إلى شر، وصاحبه منه في عناء، ولأن يصحبني فاجر حسن الخلق أحب إلي من أن يصحبني قارئ سيئ الخلق إن الفاسق إذا كان حسن الخلق عاش بعقله وخف على الناس وأحبوه وإن العابد إذا كان سيئ الخلق ثقل على الناس ومقتوه (1).

أخي الحبيب:

ما هو سوء الخلق؟ وبأي شيء يعرف حسن الخلق؟ !

قال يوسف بن أسباط: علامة حسن الخلق عشر خصال: قلة الخلاف، وحسن الإنصات، وترك طلب العثرات، وتحسين ما يبدو من السيئات، والتماس المعذرة، واحتمال الأذى، والرجوع بالملامة على النفس، والتفرد بمعرفة عيوب نفسه دون عيوب غيره، وطلاقة الوجه للصغير والكبير، ولطف الكلام لمن دونه ولمن فوقه (2).

سألزم نفسي الصفح عن كل مذنب

وإن كثرت منه علي الجرائم

وما الناس إلا واحد من ثلاثة

شريف ومشروف ومثلي مقاوم

فأما الذي فوقي فأعرف قدره

وأتبع فيه الحق والحق لازم

(1) روضة العقلاء 64.

(2)

الإحياء 3/ 77.

ص: 33

وأما الذي دوني فإن قال صنت عن

إجابته عرضي وإن لام لائم

وأما الذي مثلي فإن زل أو هفا

تفضلت إن الفضل بالحلم حاكم (1)

وأعظم من هذا وذاك قول الله جل وعلا: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} (2).

فالآية تشتمل على أربع قواعد في التعامل مع الناس فأولها: أخذ العفو، وثانيها: الأمر بالمعروف، وثالثها: الإعراض عن الجاهلين، ورابعها: الاستعاذة بالله من نزغ الشياطين، وقد روي عن جعفر الصادق أنه قال: ليس في القرآن آية أجمع لمكارم الأخلاق منها (3).

وذكر عمر بن الخطاب رضي الله عنه سهولة حصول الخير فقال: البر شيء هين، وجه طليق، وكلام لين (4).

ومن أدب المجالس وواجبات الأخوة في الله ما قاله مجاهد بن جبر .. لا تحد النظر إلى أخيك ولا تسأل من أين جئت؟ وأين

(1) الإحياء 3/ 1.

(2)

سورة الأعراف، الآيتان: 199، 200

(3)

فتح الباري لابن حجر 8/ 306.

(4)

الإحياء 3/ 129.

ص: 34

تذهب؟ (1).

وتأمل مجالس اليوم وكثرة الأسئلة فيها!

ولرفعة النفس وسموها عن الدنايا قال مالك رحمه الله: ما جالست سفيها قط! !

أخي الحبيب .. أين نحن من هؤلاء؟ !

قال مجاهد: صحبت ابن عمر وأنا أريد أن أخدمه فكان يخدمني (2).

هذه صفة من صفاتهم وفيض من نبعهم .. بها تستمر العشرة وتدوم المودة.

عن ميمون بن مهران قال

سمعت ابن عباس يقول: ما بلغني عن أخ مكروه قط إلا أنزلته أحد ثلاث منازل:

إن كان فوقي عرفت له قدره، وإن كان نظيري تفضلت عليه، وإن كان دوني لم أجهل به (3).

وأما ما وقع فيه كثير من الناس فقد قال عنه الحسن: ابن آدم تبغض الناس على ظنة، وتنسى اليقين من نفسك (4).

نعم أنت تعلم وتعرف عيوبك ومساوئك وتظن الظنون بمساوئ إخوانك وأحبائك وتبغضهم لذلك الظن، إن أثر الصحبة

(1) صفة الصفوة 2/ 209.

(2)

السير 4/ 452.

(3)

صفة الصفوة 1/ 754.

(4)

الحسن البصري 106.

ص: 35

الطيبة والرفقة الصالحة ظاهرة لا تحتاج إلى كثير إيضاح ويكفي من ذلك موقف واحد لتتميز الطرق وتتضح السبل

{الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ} .

يكفي هذا الموقف لتأخذ المحبة في الله الصدارة وقصب السبق ..

قال أحمد بن حرب: عبدت الله خمسين سنة، فما وجدت حلاوة العبادة حتى تركت ثلاثة أشياء: تركت رضى الناس حتى قدرت أن أتكلم بالحق، وتركت صحبة الفاسقين حتى وجدت صحبة الصالحين، وتركت حلاوة الدنيا حتى وجدت حلاوة الآخرة (1).

وحين لا يجد المسلم من يعينه .. ويثبته ويشد أزره في رحلة الدنيا فعليه بقول الإمام أحمد بن حنبل عندما قال: رأيت الخلوة أروح لقلبي (2).

(1) السير 11/ 34.

(2)

السير 11/ 226.

ص: 36