الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المحبة في الله
إن المحبة في الله هي أوثق عرى المحبة، وأصدقها وأدومها وأبقاها .. فهي وإن كانت تبدأ في هذه الحياة الدنيا .. إلا أنها تستمر وتبقى في الآخرة .. لأنها محبة قائمة على طاعة الله مستمدة صفاءها من دين الله ..
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «المرء مع من أحب» (1).
صداقة خير تسير في طريق خير
…
لأن المسلم بحكم إيمانه بالله تعالى لا يحب إذا أحب إلا في الله، ولا يبغض إذا أبغض إلا في الله
…
وهو على هذا يحب عباد الله الصالحين ويتقرب منهم ويوادهم ويناصحهم ويواسيهم .. فهم أحبته وإخوانه بل ويتقرب إلى الله بهذا العمل الصالح، وفي الحديث «ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان» وذكر منها «وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله» (2).
قال عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: والله لو صمت النهار لا أفطره، وقمت الليل لا أنامه، وأنفقت مالي غلقًا غلقًا في سبيل الله، أموت يوم أموت وليس في قلبي حب لأهل طاعة الله وبغض لأهل معصية الله. ما نفعني ذلك شيئًا (3).
(1) متفق عليه.
(2)
متفق عليه.
(3)
الإحياء 2/ 175.
وهذه المحبة نابعة من طاعة الله
…
لا تدنسها أهداف الدنيا ونوازع البشر فلا أطماع ولا مغانم سوى رضى الله وهو خير مغنم ..
قال سفيان: ليس شيء من عمل أرجو أن لا يشوبه شيء كحبي مجمعًا التميمي (1).
وهذا كمال الصدق في المحبة والإخلاص في العمل .. إنها محبة في الله .. ولله ..
والمحبة في الله تجعل المسلم يرتفع بأخلاقه ويسمو بنفسه عن مواطن الزلل، ومظان السوء.
قال عمر بن حفص .. قال لي عمر بن عبد العزيز: إذا سمعت كلمة من امرئ مسلم فلا تحملها على شيء من الشر ما وجدت لها محملاً من الخير (2).
ولاشك أنه إذا أحب الرجل أن ينصف من نفسه، فليأت إلى الناس الذي يحب أن يؤتى إليه (3) ..
نعم –أخي الحبيب- أنزل الناس منزلتك .. وأنزل نفسك منزلتهم .. فإنك بهذا تقيم ما اعوج وتصلح ما فسد ..
قال بكر بن محمد بن عبد الله: إذا رأيت إخوانك يكرمونك ويعظمونك فقل: هذا فضل أخذوا به، وإذا رأيت منهم تقصيرًا فقل
(1) صفة الصفوة 3/ 108.
(2)
تاريخ الخلفاء 323.
(3)
الفوائد 194.
هذا ذنب أحدثته (1).
وعن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: ولا تظنن بكلمة خرجت من أخيك المؤمن إلا خيرًا وأنت تجد لها في الخير محملاً (2).
وقال عبد الله بن زيد الجرمي .. إذا بلغك شيء تكرهه فالتمس له العذر جهدك، فإن لم تجد له عذرًا فقل في نفسك: لعل لأخي عذرًا لا أعلمه (3).
اقبل معاذير من يأتيك معتذرًا
…
إن بر عندك فيما قال أو فجرا
فقد أطاعك من يأتيك معتذرًا
…
وقد أجلك من يعصيك مستترًا (4)
قال حماد: ما رأيت رجلاً أشد تبسمًا في وجوه الرجال من أيوب السختياني (5).
وهذا التبسم والتبسط للمسلمين .. أما ما سواهم .. فالأمر كما قال سفيان الثوري عندما سئل: أصافح اليهود والنصارى؟
(1) صفة الصفوة 3/ 248.
(2)
تفسير ابن كثير 4/ 212.
(3)
صفة الصفوة 3/ 238.
(4)
طبقات الحنابلة 4/ 94.
(5)
تذكرة الحفاظ 1/ 131.
فقال: برجلك نعم! ! (1).
فإن لأهل الإسلام كرامة ومنزلة لا يبلغها غيرهم من بني الإنسان.
وقد كان لمحمد بن سيرين منازل لا يكريها إلا من أهل الذمة، فقيل له في ذلك، فقال: إذا جاء رأس الشهر رعته، أكره أن أروع مسلمًا (2).
نعم للمسلم مكانة في نفس أخيه المسلم ومحبة خاصة قال الله عز وجل في وصف ذلك بأنهم: {رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} (3).
روي عن محمد بن علي قال: أراد جار لأبي حمزة السكري أن يبيع داره، فقيل له: بكم؟ قال: بألفين ثمن الدار، وبألفين جوار أبي حمزة، فبلغ ذلك أبا حمزة فوجه إليه بأربعة آلاف، وقال له: لا تبع دارك (4).
وانظر –أخي الحبيب- إلى الفرح والسرور برؤية آثار الطاعة ومحبة الخير للمسلمين .. قال صالح بن أحمد بن حنبل) جاء جار لنا قد خضب، فقال أبي: إني لأرى الرجل يحيي شيئًا من السنة
فأفرح به (5).
(1) وفيات الأعيان 2/ 388.
(2)
صفة الصفوة 3/ 24، وحلية الأولياء 2/ 218.
(3)
سورة الفتح: الآية: 29.
(4)
السير 7/ 387.
(5)
السير 11/ 235.
أخي الحبيب أين نحن من هؤلاء؟ !
قال أبو معاوية الأسود: إخواني كلهم خير مني، قيل له: وكيف ذلك يا أبا معاوية؟ قال: كلهم يرى الفضل لي على نفسه، ومن فضلني على نفسه فهو خير مني.
والمرء يذكر بالجمائل بعده
…
فارفع لذكرك بالجميل بناء
واعلم بأنك تذكر مرة
…
فيقال: أحسن أو يقال أساء
إنها صفات كملت وجملت بالإسلام .. فكان تاجًا للأخلاق الفاضلة ونبراسًا للمعاملة الحسنة ..
وتبقى الدنيا دار الهفوات ومقر الزلات والعثرات .. فهفوة الصديق لا تخلو إما أن تكون في دينه بارتكاب معصية أو في حقك بتقصيره في الأخوة، أما ما يكون في الدين من ارتكاب معصية والإصرار عليها فعليك التلطف في نصحه بما يقوم أوده (1) ويجمع شمله ويعيد إلى الصلاح والورع حاله (2).
ويكون في ذلك عن طريق النصيحة والتوجيه. وذلك بالحسنى والموعظة الحسنة قال سفيان الثوري قلت لسعد بن كدام: تحب أن يهدى إليك عيوبك؟ قال: أما من ناصح فنعم، أما من
(1) أود: أي: اعوج.
(2)
الإحياء 2/ 199.
موبخ فلا (1).
قال الإمام الشافعي:
تعمدني بنصحك في انفرادي
…
وجنبني النصيحة في الجماعة
فإن النصح بين الناس نوع
…
من التوبيخ لا أرضى استماعه
فإن خالفتني وعصيت قولي
…
فلا تجزع إذا لم تعط طاعة
حين مر أبو الدرداء على رجل قد أصاب ذنبًا فكانوا يسبونه، فقال: أرأيتم لو وجدتموه في قليب، ألم تكونوا مستخرجيه؟ قالوا: بلى، قال: فلا تسبوا أخاكم واحمدوا الله عز وجل الذي عافاكم، قالوا: أفلا نبغضه؟ قال: إنما أبغضوا عمله فإذا تركه فهو أخي ..
وكذلك حكي عن أخوين من السلف انقلب أحدهما عن الاستقامة فقيل لأخيه: ألا تقطعه وتهجره، فقال: أحوج ما كان إلي في هذا الوقت لما وقع في عثرته أن آخذ بيده وأتلطف له في المعاتبة وأدعو له بالعودة إلى ما كان عليه (2).
قال أبو حاتم: الواجب على العاقل أن يتحبب إلي الناس
(1) حلية الأولياء 7/ 217.
(2)
الإحياء 2/ 200.
بلزوم حسن الخلق، وترك سوء الخلق؛ لأن الخلق الحسن يذيب الخطايا، كما تذيب الشمس الجليد، وإن الخلق السيئ ليفسد العمل، كما يفسد الخل العسل، وقد تكون في الرجل أخلاق كثيرة صالحة كلها، وخلق سيئ، فيفسد الخلق السيئ الأخلاق الصالحة كلها (1).
والناصح المشفق هو الأخ الصادق كما قال يحيى بن معاذ: أخوك من عرفك العيوب وصديقك من حذرك من الذنوب.
وحتى حينما تكون المواجهة في مكان عام فانظر إلى الحلم والعفو وطيب النفس وعلوها .. خرج علي بن الحسين يومًا في المسجد فسبه رجل، فانتدب الناس إليه فقال: دعوه، ثم أقبل عليه، فقال ما ستره الله عنك من عيوبنا أكثر، ألك حاجة نعينك عليها؟ فاستحيا الرجل فألقى إليه خميصة كانت عليه وأمر له بألف درهم (2).
قال حبيب الجلاب: سألت ابن المبارك: ما خير ما أعطي الإنسان؟ قال: غريزة عقل، قلت: فإن لم يكن؟ قال: حسن أدب، قالت: فإن لم يكن؟ قال: أخ شقيق يستشيره، قالت: فإن لم يكن؟ قال: صمت طويل. قلت: فإن لم يكن؟ قال: موت عاجل (3).
(1) روضة العقلاء 64.
(2)
البداية والنهاية 9/ 118.
(3)
السير 8/ 397.
وكان السلف إذا أرادوا نصيحة أحد وعظوه سرًا حتى قال بعضهم: من وعظ أخاه فيما بينه وبينه فهي نصيحة، ومن وعظه على رءوس الناس فإنما وبخه.
وقال الفضيل بن عياض موضحًا الفرق بين الناصح والشامت: المؤمن يستر وينصح والفاجر يهتك ويعير (1).
وينثر أبو الدرداء درراً من الكلام وجواهر من الحكم فيقول: معاتبة الأخ خير من فقده، ومن لك بأخيك كله أعط أخاك ولن له ولا تطع به حاسدًا فتكون مثله، غدًا يأتيه الموت فيكفيك قتله، كيف تبكيه بعد الموت وفي الحياة تركت وصله؟ (2)
لا أمدح المرء أبغي من فضائله
…
ولا أظل أداجيه إذا غضبا
ولا يراني على باب أراقبه أبغي
…
الدخول إذا ما بابه حجبا
قال الخليل بن أحمد النحوي: الرجال أربعة، فرجل يدري ولا يدري أنه يدري فذلك غافل فنبهوه، ورجل لا يدري ويدري أنه لا يدري فذاك جاهل فعلموه، ورجل يدري ويدري أنه يدري فذاك عالم فاتبعوه، ورجل لا يدري ولا يدري أنه لا يدري فذاك مائق فاحذروه (3).
(1) جامع العلوم والحكم 77.
(2)
صفة الصفوة 1/ 364.
(3)
تذكرة الحفاظ 3/ 788.
والنصيحة طريق الناصحين هذا رجل نصح لأبي حنيفة فقال: اتق الله! ! ! فانتفض أبو حنيفة واصفر، وأطرق، وقال جزاك الله خيرًا ما أحوج الناس كل وقت إلى من يقول مثل هذا (1).
والتواصي بالحق .. يصدر من صغير إلى كبير ومن كبير إلى صغير .. بل ومن عالم إلى عالم ..
كتب إبراهيم بن أدهم إلى الثوري:
من عرف ما يطلب هان ما يبذل، ومن أطلق بصره طال أسفه، ومن أطلق أمله ساء عمله، ومن أطلق لسانه قتل نفسه.
وقال الشافعي: أعز الأشياء ثلاثة: الجود من قلة، والورع في خلوة، وكلمة الحق عند من يرجى أو يخاف (2).
حياة المؤمن كلها طاعة وأوقاته جلها عبادة، قال حاتم الأصم: ما من صباح إلا والشيطان يقول لي: ما تأكل؟ وما تلبس؟ وأين تسكن؟ فأقول: آكل الموت ،وألبس الكفن، وأسكن القبر (3).
وكان الربيع بن خثيم إذا أصبح قال: مرحبًا بملائكة الله .. اكتبوا بسم الله الرحمن الرحيم، سبحان الله، والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر.
أخي الحبيب .. انظر القياس وزن الأمور
…
قال عروة بن الزبير لبنيه ناصحًا وموضحًا: إذا رأيتم الرجل يعمل الحسنة،
(1) السير 6/ 400.
(2)
جامع العلوم والحكم 195.
(3)
صفة الصفوة 4/ 162.
فاعلموا أن لها عنده أخوات، وإذا رأيتم الرجل يعمل السيئة فاعلموا أن لها عنده أخوات، فإن الحسنة تدل على أختها، والسيئة تدل على أختها (1).
وأيام الحياة تسير
…
ودقائق الأوقات تنقضي .. ما هو الخير في تلك اللحظات الغالية النفيسة، إنه كما قال سعيد بن عبد العزيز .. لا خير في الحياة إلا لصموت واع وناطق عارف (2).
وتبقى لحظات في حياة المسلم يؤانس بها صحبه ويزيل الكلفة عن رفقته .. فالدعابة لها وقت وشروط والمزاح له حد معقول .. فلا يفرط فيها .. لأن الإسلام ليس في حاجة إلى الهازلين والمهرجين واللاعبين، بل الحاجة قائمة للرجال الجادين الذين شغلوا أوقاتهم بطلب العلم والدعوة والجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أما من يكثر من المزاح فقد أساء كل الإساءة لنفسه ولدينه، ومن حرص على سنته صلى الله عليه وسلم، فإنه سيعطي المزاح قدرًا يسيرًا، والحق أنه من الغلط العظيم أن يتخذ المزاح حرفة يواظب عليه ويفرط فيه، ثم يتمسك بفعل الرسول صلى الله عليه وسلم، وهو كمن يدور نهاره مع الزنوج ينظر إليهم وإلى رقصهم ويتمسك بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أذن لعائشة في النظر إلى لعب الزنوج في يوم عيد (3).
(1) البداية والنهاية 9/ 115.
(2)
تذكرة الحفاظ 1/ 219.
(3)
تهذيب موعظة المؤمنين.
عن الأحنف بن قيس قال: قال لي عمر بن عبد العزيز: يا أحنف، من كثر ضحكه قلت هيبته، ومن مزح استخف به، ومن أكثر من شيء عرف به، ومن كثر كلامه كثر سقطه وقل حياؤه، ومن قل حياؤه قل ورعه، ومن قل ورعه مات قلبه (1).
والوجه تخلقه المزاحة إنها
…
لفظ يضر ومنطق لا يرشد
فدع المزاحة للسفيه فربما
…
هاجت عجاج عداوة لا تحمد (2)
إن الجاد في عمله الخائف من الأحوال التي أمامه .. في حال لا يتطرق إليها المزاح ولا الهزل إنه كما قال موسى بن إسماعيل .. لو قلت لكم إني ما رأيت حماد بن سلمة ضاحكًا قط لصدقتكم، كان مشغولاً لنفسه، إما أن يحدث، وإما أن يقرأ وإما أن يسبح وإما أن يصلي، كان قد قسم النهار على هذه الأعمال.
نعم كانوا يخشون ما أقبل من الأيام ويخافون موقفًا تقشعر من رؤيته الأبدان .. فقد كان عبد الله أبو يعلى يقول: أتضحك ولعل أكفانك قد خرجت من عند القصار (3).
وحكي عن بعض الصالحين أنه رأى رجلاً وهو يضحك
(1) تاريخ عمر لابن الجوزي 200.
(2)
كتاب الصمت 212.
(3)
الإحياء 3/ 137.
ضحكًا شديدًا، فقال له: يا هذا هل ذقت الموت؟ قال: لا، قال: فهل رجح ميزانك؟ قال: لا، قال: فهل جزت الصراط؟ قال: لا، قال: فلأي شيء هذا الضحك والفرح؟ !
قال فبكى الرجل وقال: لله علي نذر أن لا أضحك بعدها أبدًا.
لله دره
…
أفاق من غفلته وقام من كبوته .. ليته يسمع بعض ضحكات المجالس .. ومزاح الفارغين .. وتفاهة بعض المتحدثين.
بل كيف لو رأى اللاهون العابثون يومًا من أيام وكيع بن الجراح؟ فقد كان لا ينام حتى يقرأ ثلث القرآن، ثم يقوم في آخر الليل فيقرأ المفصل، ثم يجلس فيأخذ في الاستغفار حتى يطلع الفجر فيصلي ركعتين! !
أخي الحبيب .. أين نحن من هؤلاء؟ !
قال الحارث الغنوي: آلى ربعي بن حراش ألا يضحك حتى يعلم في الجنة هو أو في النار.
قال الحارث الغنوي: فلقد أخبرني غاسله أنه لم يزل مبتسمًا على سريره ونحن نغسله حتى فرغنا من غسله.
رحم الله ضعفنا وتفريطنا وطول غفلتنا ..
قال عمر بن عبد العزيز لإسماعيل بن عبد الله: يا إسماعيل: كم أتت عليك من سنة؟ ! قال: ستون سنة وشهور، قال: يا إسماعيل إياك والمزاح.
أخي:
إذا ما أتتك الأربعون فعندها
…
فاخش الإله وكن للموت حذرا (1)
قال الفضيل بن عياض: بلغني عن طلحة بن مصرف أنه ضحك يومًا فوثب على نفسه فقال: فيم الضحك؟ إنما يضحك من قطع الأهوال وجاز الصراط، ثم قال: آليت أن لا أفتر ضاحكًا حتى أعلم بم تقع الواقعة، فما رئي ضاحكًا حتى صار إلى الله عز وجل.
وعن سعيد بن سالم القداح قال: سمعت عبد العزيز بن أبي رواد يقول لرجل: من لم يتعظ بثلاث لم يتعظ بشيء: الإسلام، والقرآن، والشيب.
صاح بي الشيب لا مقام
…
بين الرجعة السقام
صوتان قد أزعجا وحثا
…
عمري وراعني الحمام
لا آمن الدهر والمنايا
…
إذ كل عمر له انعدام (2)
ومن رأى تقلب الأيام وسرعة انقضائها وفجأة الموت .. هل يتنعم بلذة نعيم أو يهنأ باله بطرفة ودعابة؟ ! الأمر جد .. والحساب
(1) حلية الأولياء 5/ 269.
(2)
حلية الأولياء 10/ 184.
شديد والجزاء قادم ..
يا واقفًا يسأل القبور أفق
…
فأهلها اليوم عنك قد شغلوا
قد هالهم منكر وصاحبه
…
وخوف ما قدموا وما عملوا
رهائن للثرى على مدر
…
يسمع للدود بينهم زجل
سرى البلى في جسومهم فجرت
…
دمًا وقيحًا وسالت المقل (1)
أخي المسلم .. عشت مثلي لحظات مشرقة من حياتهم .. سمعنا حديثهم ورأينا جدهم .. والسؤال الآن .. هل نترك التبسم والدعابة والطرفة مع الأحباب والأصحاب؟ !
قال الذهبي: الضحك اليسير والتبسم أفضل، وعدم ذلك من مشايخ العلم على قسمين:
أحدهما: يكون فاضلاً لمن تركه أدبًا وخوفًا من الله، وحزنًا على نفسه المسكينة.
الثاني: مذموم لمن فعله حمقًا وكبرًا وتصنعًا كما أن من أكثر الضحك استخف به، ولا ريب أن الضحك في الشباب أخف منه وأعذر منه في الشيوخ.
(1) التبصرة 1/ 91.
وأما التبسم وطلاقة الوجه فأرفع من ذلك كله، قال النبي صلى الله عليه وسلم:«تبسمك في وجه أخيك صدقة» (1).
وقال جرير: ما رآني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا تبسم (2).
فهذا هو خلق الإسلام، فأعلى المقامات من كان بكاء بالليل، بسامًا بالنهار، وقال عليه السلام:«لن تسعوا الناس بأموالكم، فليسعهم منكم بسط الوجه» (3).
ينبغي لمن كان ضحوكًا بسامًا أن يقصر من ذلك، ويلوم نفسه حتى لا تمجه الأنفس، وينبغي لمن كان عبوسًا منقبضًا أن يتبسم ويحسن خلقه، ويمقت نفسه على رداءة خلقه، وكل انحراف عن الاعتدال فمذموم، ولابد للنفس من مجاهدة وتأديب (4).
أخي المسلم .. إن كانت الرفقة الصالحة والأخوة الصادقة تعين على الطاعة وتشد الأزر وتشحذ النفوس
…
فإن المسلم يحتاج إلى وقفات محاسبة ولحظات مراجعة.
قال عمر بن الخطاب: خذوا بحظكم من العزلة (5).
ولسنا نريد رحمك الله بهذه العزلة التي نختارها مفارقة الناس في الجماعات والجمعات وترك حقوقهم في العبادات وإفشاء السلام
(1) رواه البخاري في الأدب المفرد والترمذي وابن حبان وصححه الألباني.
(2)
أخرجه البخاري ومسلم.
(3)
أخرجه الحاكم والبزار وأبو يعلى وفي إسناده ضعف.
(4)
السير 10/ 140.
(5)
العزلة 18.
ورد التحيات وما جرى مجراها من وظائف الحقوق الواجبة لهم ووضائع السنن والعادات المستحسنة فيما بينهم، فإنها مستثناة بشرائطها جارية على سبلها ما لم يحل دونها حائل شغل ولا يمنع عنها مانع عذر (1).
ولذلك قال إبراهيم النخعي لغيره: تفقه ثم اعتزل (2)، وأما إذا كانت العزلة فيها مجانبة لمجالس الشر ومفارقة لرفقاء السوء فإنها كما قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: في العزلة راحة من خليط السوء (3).
وقال أبو ذر: الصاحب، مملي الخير خير من الساكت، والساكت خير من مملي الشر (4).
والمرء كما قال عنه مسروق: حقيق أن تكون له مجالس يخلو فيها فيذكر ذنوبه ويستغفر منها (5).
دع الناس ما شاءوا يقولوا فإنني
…
لا أكثر مما يحكي علي خمول
فما كل من أغضبه إذا معتب
…
ولا كل ما يروى علي أقول
(1) العزلة 13.
(2)
العزلة 24.
(3)
العزلة 18.
(4)
العزلة 57.
(5)
العزلة 39.
والعزلة أخي الحبيب فيها فوائد ظاهرة خاصة في مجتمعات تتفشى فيها الغيبة والنميمة .. كما قال إسماعيل بن محمد .. سمعت ابن إبراهيم يقول لو لم يكن في العزلة أكثر من أنك لا تجد أعوانًا على الغيبة لكفى (1).
والكثير تنفر نفسه من العزلة ولا يصبر عن الناس والسبب في ذلك كما قال بعض الحكماء: إنما يستوحش الإنسان بالوحدة لخلاء ذاته وعدم الفضيلة من نفسه فتكثر حينئذ علاقات الناس ويطرد الوحشة عن نفسه بالكون معهم فإذا كانت ذاته فاضلة طلب الوحدة ليستعين بها على الفكرة ويتفرع لاستخراج
الحكمة.
وخير جليس كتاب الله يؤانس به المسلم وحدته ويتدبر آياته .. قال بعضهم: الاستئناس بالناس من علامات الإفلاس (2).
وإلا فكيف تتكدر نفسه ويضيق صدره وبين يديه كتاب الله عز وجل يقرؤه ويتدبر معانيه.
قيل لابن المبارك: إذا أنت صليت لم لا تجلس معنا؟ قال: أجلس مع الصحابة والتابعين، أنظر في كتبهم وآثارهم، فما أصنع معكم؟ أنتم تغتابون الناس (3).
وليست المؤانسة بكثرة الكلام والمداعبة والمزاح .. فمن تهدأ
(1) العزلة 31.
(2)
العزلة 22.
(3)
السير 8/ 398.
بحضوره نفسك ويرتاح لوجوده سمعك وعينك فإنه نعم الرفيق حتى وإن تباعدت أيامه وغابت طلعته ..
قال شبيب بن شيبة: إن من إخواني من لا يأتيني في السنة إلا اليوم الواحد .. هم الذين أتخذهم وأعدهم للمحيا والممات، ومنهم من يأتيني كل يوم فيقبلني وأقبله، ولو قدرت أن أجعل مكان قبلتي عضة لعضضته (1).
ويحتار الإنسان في الناس فكيف السلامة والمخرج؟ ! وأين الطريق والجادة؟ !
قال الشافعي –رحمه الله ليونس بن عبد الأعلى: يا أبا موسى رضا الناس غاية لا تدرك، ليس إلى السلامة من الناس سبيل، فانظر ما فيه صلاح نفسك فالزمه، ودع الناس وما هم فيه (2).
أخي الحبيب .. لا تنس قول سفيان الثوري: كثرة أصدقاء المرء من سخافة دينه ..
قال أبو سليمان يوضح ذلك .. يريد أنه ما لم يداهنهم ولم يجلهم لم يكثروا لأن الكثرة إنما هي في أهل الريبة، وإن كان الرجل صلب الدين لم يصحب إلا الأبرار الأتقياء وهم فيهم قلة (3).
قال مالك –رحمه الله: الناس أشكال كأجناس الطير، الحمام
(1) العزلة 45.
(2)
العزلة 79.
(3)
العزلة 44.
مع الحمام، والغراب مع الغراب، والبط مع البط، والصعو (1) مع الصعو وكل إنسان مع شكله (2).
وهذه بعض آداب العشرة والمجالسة مع أصناف الخلق ملتقطة من كلام بعض الحكماء:
إن أردت حسن العشرة فالق صديقك وعدوك بوجه الرضا من غير ذلة لهم ولا هيبة منهم، وتوقير من غير كبر، وتواضع في غير مذلة، وكن في جميع أمورك في أوسطها فكلا طرفي قصد الأمور ذميم. ولا تنظر في عطفيك، ولا تكثر الالتفات، ولا تقف على الجماعات وإذا جلست فلا تستوفز وتحفظ من تشبيك أصابعك والعبث بلحيتك وخاتمك وتخليل أسنانك وإدخال أصبعك في أنفك وكثرة بصاقك وتنخمك وطرد الذباب من وجهك وكثرة التمطي والتثاؤب في وجوه الناس وفي الصلاة وغيرها، وليكن مجلسك هادئًا وحديثك منظومًا مرتبًا وأصغ إلى الكلام الحسن ممن حدثك من غير إظهار تعجب مفرط ولا تسأله إعادته، واسكت عن المضاحك والحكايات ولا تحدث عن إعجابك بولدك ولا جاريتك ولا شعرك ولا تصنيفك وسائر ما يخصك، ولا تتصنع تصنع المرأة في التزين ولا تتبذل تبذل العبد وتوق كثرة الكحل والإسراف في الدهن، ولا تلح في الحاجات ولا تشجع أحدًا على الظلم ولا تعلم أهلك وولدك فضلاً عن غيرهم مقدار مالك فإنهم إن رأوه قليلاً هنت
(1) الصعو: عصفور صغير.
(2)
روضة العقلاء 109.
عندهم وإن كان كثرًا لم تبلغ قط رضاهم، وخوفهم من غير عنف ولن لهم من غير ضعف ولا تهازل أمتك ولا عبدك فيسقط وقارك، وإذا خاصمت فتوقر وتحفظ من جهلك وتجنب عجلتك وتفكر في حجتك ولا تكثر الإشارة بيديك ولا تكثر الالتفات إلى من وراءك ولا تجث على ركبتيك وإذا هدأ غيظك فتكلم وإن قربك سلطان فكن منه على مثل السنان فإن استرسل إليك فلا تأمن انقلابه عليك وارفق به رفقك بالصبي وكلمه بما يشتهيه ما لم يكن معصية، ولا يحملنك لطفه بك أن تدخل بينه وبين أهله وولده وحشمه وإن كنت لذلك مستحقًا عنده، فإن سقطة الداخل بين الملك وبين أهله سقطة لا تنعش وزلة لا تقال، وإياك وصديق العافية فإنه أعدى الأعداء ولا تجعل مالك أكرم من عرضك، وإذا دخلت مجلسًا فالأدب فيه البداية بالتسليم وترك التخطي لمن سبق والجلوس حيث اتسع وحيث يكون أقرب إلى التواضع، وأن تحيي بالسلام من قرب منك عند الجلوس.
ولا تجلس على الطريق، فإن جلست فأدبه غض البصر ونصرة المظلوم وإغاثة الملهوف وعون الضعيف وإرشاد الضال ورد السلام وإعطاء السائل والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والارتياد لموضع البصاق ولا تبصق في جهة القبلة ولا عن يمينك ولكن عن يسارك وتحت قدمك اليسرى.
ولا تجالس الملوك، فإن فعلت فأدبه ترك الغيبة ومجانبة الكذب وصيانة السر وقلة الحوائج وتهذيب الألفاظ والإعراب في الخطاب،
والمذاكرة بأخلاق الملوك وقلة المداعبة وكثرة الحذر منهم –وإن ظهرت لك المودة- وأن لا تتجشأ بحضرتهم ولا تتخلل بعد الأكل عنده، وعلى الملك أن يحتمل كل شيء إلا إفشاء السر والقدح في الملك والتعرض للحرم.
ولا تجالس العامة، فإن فعلت فأدبه ترك الخوض في حديثهم وقلة الإصغاء إلى أراجيفهم والتغافل عما يجري من سوء ألفاظهم وقلة اللقاء لهم مع الحاجة إليهم وإياك أن تمازح لبيبًا أو غير لبيب فإن اللبيب يحقد عليك والسفيه يجترئ عليك لأن المزاح يخرق الهيبة ويسقط ماء الوجه ويعقب الحقد ويذهب بحلاوة الود ويشين فقه الفقيه ويجرئ السفيه ويسقط المنزلة عند الحكيم ويمقته المتقون، وهو يميت القلب ويباعد عن الرب تعالى ويكسب الغفلة ويورث الذلة وبه تظلم السرائر وتموت الخواطر وبه تكثر العيوب وتبين الذنوب وقد قيل: لا يكون المزاح إلا من سخف أو بطر، ومن بلي في مجلس بمزاح أو لغط فليذكر الله عند قيامه، قال النبي صلى الله عليه وسلم:«من جلس مجلس فكثر فيه لغطه فقال قبل أن يقوم من مجلسه ذلك: سبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك، إلا غفر له ما كان في مجلسه ذلك» (1).
وقبل الختام نعرج على أعظم صحبة وأجلها فقد كان الصديق رضي الله عنه رفيق رسول الله صلى الله عليه وسلم في دعوته وهجرته
(1) رواه الترمذي وأحمد وابن حبان وصححه الشيخ الألباني.
وجهاده .. فقدم روحه وماله فداء للرسول صلى الله عليه وسلم ونفعًا للإسلام والمسلمين قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما نفعني مال قط كمال أبي بكر» رواه أحمد، وقال صلى الله عليه وسلم:«إن أمنَّ الناس عليَّ في صحبته وماله أبو بكر» رواه البخاري.
أخي المسلم: جعلنا الله وإياكم من المتحابين فيه وجمعنا ووالدينا وأبناءنا وأزواجنا وأقاربنا في جنات عدن ..