الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
سورة ص
[1] موقف الشريعة من الحيل
التحليل اللفظي
{بِنُصْبٍ} : النُصْب بضم النون وسكون الصاد بمعنى التعب كالنّصَب. قال الفراء: هما كالرُشْد والرَشد، والحُزْن والحزن معناهما واحد.
قال في اللسان: والنَّصْب، والنّصْب والنُّصُب: والبلاء والشر، والنّصَب: الأعياء من العناء. وفي التنزيل: {لَا يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ} [الحجر: 48] أي تعب.
وقال أبو عبيدة: النُصْب: الشر والبلاء، والنّصَب: التعب والإعياء.
والمراد في الآية: مرضُ أيوب وما كان يقاسيه من أنواع البلاء في جسده.
{اركض} : الركض: الدفع بالرجل، يقال: ركض الدابةَ إذا ضربها برجله لتعدو، وقال المبرّد: الركض التحريك والضرب، ولهذا قال الأصمعي: يقال رُكِضَت الدابةُ، ولا يقال: ركَضَت هي، لأن الركض إنما هو تحريك راكبها رجليه ولا فعل لها في ذلك. والمراد في الآية: اضرب برجلك ينبع الماء فتغتسل وتشرب منه.
{مُغْتَسَلٌ} : المغتسل الماء الذي يُغتسل به، وقيل: الموضع الذي يغتسل فيه، والصحيح الأول.
{ضِغْثاً} : الضّغْث في أصل اللغة: الشيء المختلط ومنه (أضغاث أحلام) للرؤيا المختلطة.
قال في اللسان: الضغث: قبضة من قضبان مختلفة يجمعها أصل واحد مثل الأسَل والكرّاث قال الشاعر:
كأنّه إذْ تدلّى ضِغْث كُرّاث
…
وقيل: هي الحزمة من الحشيش، مختلطة الرطب باليابس.
وقال ابن عباس: هو عُشْكال النخل الجامع بشماريخه. أي عنقود النخل المتفرّع الأغصان.
والمعنى: أمره الله أن يأخذ حزمة من العيدان فيها مائة عود، ويضربها بها ضربة واحدة، ليبرّ في يمينه ولا يحنث فيها.
{تَحْنَثْ} : الحنثُ: الخُلْف في اليمين، يقال: حنث في يمينه، يحنث إذا لم يبرّ بها.
قال في اللسان: الحنيث في اليمين: نقضُها والنكثُ فيها، وهو من الحِنْث بمعنى الإثم وفي الحديث:«اليمين حنْثٌ أو مندمة» ومعناه: إمّا أن يندم على ما حلف عليه، أو يحنث فتلزمه الكفارة. والحنْث: الذنب العظيم، وفي التنزيل العزيز:{وَكَانُواْ يُصِرُّونَ عَلَى الحنث العظيم} [الواقعة: 46] .
{أَوَّابٌ} : الأوْب: الرجوع، والأوّاب: التّوَّاب، الرجّاع، الذي يرجع إلى التوبة والطاعة، ويرجع إلى الله في جميع أمورة، وهي من صيغ المبالغة مثل (ظلاّم) و (قتّال) .
المعنى الإجمالي
اذكر يا محمد لقومك قصة عبدنا (أيوب) إذ نادى ربه مستغيثاً به، ضارعاً إليه، فيما نزل به من البلاء، راجياً أن يكشف الله عنه الضر حيث قال: ربّ إني أُصبتُ ببلاء وشدّة، وتعب وضنى، وأنت أرحم الراحمين ورب المستضعفين
…
فاستجاب الله الحليم الكريم دعاءه، وكشف عنه شدته، فأذهب عنه الآلام والأسقام، وأمره أن يضرب برجله الأرض، حتى تنبع له عين ماء يكون فيها شفاؤه، وقلنا له: هذا مغتسل بارد وشراب،
تغتسل منه وتشرب فتشفى بإذن الله، فلما ضرب الأرض نبعث له عين ماء، فاغتسل منها فذهب الداء من ظاهره، ثم شرب منها فذهب الداء من باطنه، فعادت إليه الحياة الطبيعية التي كان يعيشها، وشعر بأهله وأولاده، ونعم بأسرته التي كانت بالنسبة إليه كالمفقودة، ومتّعه الله بصحته وقواه حتى كثر نسله وتضاعف عدد أولاده، ورزقه من الأموال فضلاً منه ونعمة، وإكراماً لعبده الصابر الطائع، وتذكيراً لعباد الله بفضل الله وإكرامه لأنهم إذا ذكروا بلاء أيوب - وهو أفضل أهل زمانه - وطّنوا أنفسهم على الصبر على شدائد الدنيا ومصائبها، واللجوء إلى الله عز وجل ّ فيما يحيق بهم كما لجأ أيوب ليفعل الله بهم ما فعل به من حسن العاقبة، وعظيم الإكرام.
وما كان الله - جلت حكمته - ليكرمه ويدع زوجه التي أحسنت إليه، وأعانته في بلائه ومحنته، وكان قد حلف لأمر فعلته ليضربنها مائة جلدة، فجزاها الله بحسن صبرها أن أفتاه في ضربها تسهيلاً عليه وعليها فأمره أن يجمع لها (مائة عود) ويضربها ضربة واحدة، لا يحنث في يمينه.
ثم شهد الله تعالى لأيوب عليه السلام شهادة تبقى على مر الأزمان، مظهره أنه كان في بلائه صابراً، لا تحمله الشدة على الخروج عن طاعة ربه، والدخول في معصيته، فكان من خيره خلق الله وعبّاده، مقبلاً على طاعته، رجَّاعاً إلى رضاه، فلم يكن دعاؤه عن تذمر وشكوى، وإنما كان لجوءاً إلى الله العليّ القدير الذي بيده مقاليد السموات والأرض.
الغرض من ذكر القصة
المقصود من ذكر قصة (أيوب) عليه السلام، وما قبلها من قصص الأنبياء الاعتبار بما يقع في هذه الحياة، كأنّ الله تعالى يقول: يا محمد، إصبر على سفاهة قومك، وشدتهم في معاملتك، ومقابلة دعوتك بالصدود والإعراض، فإنه ما كان في الدنيا أكثر نعمة ومالاً وجاهاً من (داود) و (سليمان)
- عليهما السلام وما كان أكثر بلاء ومحنة من أيوب عليه السلام فتأمل في أحوال هؤلاء لتعرف أنّ أحوال الدنيا لا تنتظم لأحد، وأن العاقل لا بدّ له من الصبر على المكاره.
وجوه القراءات
أولاً: قوله تعالى: {أَنِّي مَسَّنِيَ} قرأ الجمهور بفتح همزة {أنّي} وقرأ عيسى بن عمر (إنّي) بكسرها على تقدير: قال إني.
ثانياً: قوله تعالى: {بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ} قرأ الجمهور {بنُصْبٍ} بضم النون وسكون الصاد، وقرأ الحسن {بنَصَبٍ} بضمهما.
وقرأ بعضهم {بنَصْب} بفتح النون وسكون الصاد، ونسبها جماعة إلى أبي جعفر.
قال الطبري: «والصواب من القراءة في ذلك عندنا ما عليه قراءة الأمصار وذلك الضم في النون والسكون في الصاد»
وجوه الإعراب
أولاً: قوله تعالى: {واذكر عَبْدَنَآ أَيُّوبَ} عطف على قوله {واذكر عَبْدَنَا دَاوُودَ} [ص: 17] من عطف جملة على جملة.
و (أيوب) عطف بيان، أو بدل من (عبدنا) بدل كل من كل.
ثانياً: قوله تعالى: {أَنِّي مَسَّنِيَ الضر} [الأنبياء: 83] منصوب بنزع الخافض أي (بأني
مسَّني) حكاية لكلامه الذي ناداه بسببه، ولو لم يحك قوله لقال: بأنه مسّه، لأنه غائب.
ثالثاً: قوله تعالى: {رَحْمَةً مِّنَّا وذكرى} رحمة مفعول لأجله، ومثلها {وذكرى} أي لرحمتنا إيّاه وليتذكّر أرباب العقول بما يحصل للصابر من الفضل والأجر.
رابعاً: قوله تعالى: {وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً} عطف على {اركض} أو على {وَهَبْنَا} بتقدير قلنا خذ بيدك ضغثاً.
قال الألوسي: «والأول أقرب لفظاً، وهو أنسب معنى، فإنَّ الحاجة إلى هذا الأمر لا تكون إلا بعد الصحة واعتدال الوقت» .
لطائف التفسير
اللطيفة الأولى: في قصة أيوب عليه السلام كان قد حصل له نوعان من البلاء: (المشقة الشديدة) بسبب زوال النعم والخيرات، وحصول المكروه و (الألم الشديد) في الجسم، ولما كان كل منهما قد لحق به وأصابه الضرُّ بسببه، أحدهما مادي، والآخر جسدي، ذكر الله تعالى في الآية الكريمة لفظين (النُّصْب) و (العذاب) ليقابل بذلك الضر الذي أصابه، فالنُّصْب الضرُّ في الجسد، والعذاب البلاء في الأهل والمال.
اللطيفة الثانية: وصف الله تعالى نبيّه (أيوب) عليه السلام بالصبر، وأثنى عليه بقوله:{إِنَّا وجدناه صَابِراً} مع أن أيوّب كان قد اشتكى إلى ربه من الضر الذي أصابه فقال: {مَسَّنِيَ الضر} في سورة الأنبياء [83]، وقال هنا:{مَسَّنِيَ الشيطان بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ} فدلّ ذلك على أنّ الشكوى إلى الله تعالى
لا تنافي الصبر، وقد قال يعقوب عليه السلام:{إِنَّمَآ أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى الله} [يوسف: 86] ولهذا مدحه الله بقوله: {نِّعْمَ العبد إِنَّهُ أَوَّابٌ} ولو كانت الشكوى إلى الله تعالى تنافي الصبر لما استحق هذا الثناء.
اللطيفة الثالثة: قوله تعالى: {أَنِّي مَسَّنِيَ الشيطان} أسند الضُرَّ الذي أصابه في جسمه وأهله، وماله، إلى الشيطان أدباً مع الله تعالى، مع أن الفاعل الحقيقي هو الله رب العالمين، فالخيرُ والشرُ، والنفع والضُّر، بيد الله جلَّ وعلا. ولكن لا ينسب الشر إلى الله وإنما ينسب إلى النفس أو الشيطان، ولهذا راعى عليه السلام الأدب في ذلك فنسبه إلى الشيطان، وهو على حدّ قول إبراهيم عليه السلام:{والذي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ} [الشعراء: 79 - 80] حيث نسب الإطعام إلى الله ونسب المرضَ إلى نفسه أدباً.
اللطيفة الرابعة: سئل سفيان عن عبدين، ابتلى أحدهما فصبر، وأُنْعم على الآخر فشكر، فقال: كلاهما سواء، لأن الله تعالى أثنى على عبدين: أحدهما صابر، والآخر شاكر ثناءً واحداً فقال في وصف أيوب {نِّعْمَ العبد إِنَّهُ أَوَّابٌ} وقال وفي وصف سليمان {نِعْمَ العبد إِنَّهُ أَوَّابٌ} [ص: 30] .
وفضّل بعض العلماء: الغنيّ الشاكر، على الفقير الصابر، لأن الغنَى ابتلاء وفتنة، والشاكرُ من عباد الله قليل
{وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشكور} [سبأ: 13] بخلاف الصابر فإنه كثير والمسألة فيها نظر.
اللطيفة الخامسة: يضرب المثل بصبر أيوب عليه السلام فيقال: (صبرٌ
كصبر أيوب) وقد صبر على البلاء في جسمه، وأهله، وولده مدة ثمان عشرة سنة على الراجح من الأقوال، ويروى أن زوجه لما طلبت منه أن يدعو الله أن يشفيه سألها: كم مكثنا في الرخاء؟ قالت سبعين عاماً، فقال لها: ويحك كنّا في النعيم سبعين عاماً، فاصبري حتى نكون في الضُرّ سبعين عاماً.
ويروى أنه قال لها: إني لأستحيي من الله أن أسأله أن يشفيني وما قضيتُ في بلائي ما قضيتُه في رخائي!!
ولهذا يضرب به المثل في الصبر.
اللطيفة السادسة: روى البخاري والنسائي عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم َ قال: «بينما أيوب يغتسل عرياناً خرّ عليه رِجْلُ جرادٍ من ذهب، فجعل يحثي في ثوبه، فناداه ربه يا أيوب: ألم أكن أغنيك عمّا ترى؟ قال: بلى يا رب، ولكن لا غنى لي عن بركتك» .
قال بعض العلماء: حين صبر أيوب أكرمه الله بالمال الوفير، والأجر الجزيل، وعوّضَه عن الأهل والولد، بضعفهم وبارك فيهم كما قال تعالى:{فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِن ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَّعَهُمْ رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا وذكرى لِلْعَابِدِينَ} [الأنبياء: 84] .
الأحكام الشرعية
الحكم الأول: ما هو سبب حلف أيوب عليه السلام بضرب أهله؟
دلّ ظاهر قوله تعالى: {وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فاضرب بِّهِ وَلَا تَحْنَثْ} على أن أيوب عليه السلام كان قد صدر منه يمين على ضرب أهله، ويقول المفسّرون إنه حلف لئن شفاه الله ليجلدنّ زوجته مائة جلدة، فأمره الله أن يأخذ قبضة من حشيش، أو حزمة من الخلال والعيدان، فيضرب بها ليبرّ بيمينه
ولا يحنث، ولم تذكر الآية سبب هذا الحلف، وقد ذكر بعض المفسرين كلاماً طويلاً في سبب هذا اليمين، فقيل: إن امرأة أيوب كانت تخدمه وضجرت من طول مرضه، فتمثّل لها الشيطان بصورة طبيب، وجلس في طريقها فقالت له: يا عبد الله إنّ هاهنا إنساناً مبتلى، فهل لك أن تداويه؟ قال: نعم إن شاء شفيته، على أن يقول إذا برأ: أنتَ شفيتني، فجاءت إلى أيوب فأخبرته فقال: ذاك الشيطان، لله عليّ إن شفاني الله أن أجلدك مائة جلدة.
وزعم بعضهم أن إبليس لقي زوجه أيوب فقال لها: أنا الذي فعلتُ بأيوب ما فعلت، وأنا إله الأرض، ولو سجدت لي سجدة واحدة لرددت عليه أهله وماله، فجاءت فأخبرت أيوب فأقسم أن يضربها إن عافاه الله.
وكتابُ الله تعالى لم يأت فيه تفصيل للقصة، ولهذا انطلقت الخيالات تنسج قصصاً في سبب بلائه وفي سبب حلقه على زوجه، منها ما هو باطل لا يصح اعتقاده ومنها ما هو ضعيف واهن.
يقول أبو بكر ابن العربي: «ما ذكره المفسّرون من أن إبليس كان له مكان في السماء السابعة، وأنه طلب من ربه أن يسلّطه على أيوب فقال له: قد سلّطتك على أهله وماله. . إلخ إن هذا قول باطل، لأن إبليس أهبط منها بلعنة الله وسخطه، فكيف يرقى إلى محل الرضا، ويجول في مقامات الأنبياء، ويخترق السموات العلى!!
إنَّ هذا لخطب من الجهالة عظيم.
وأما قولهم: إن الله تعالى قال له: هل قدرت من عبدي أيوب على شيء؟ فباطل قطعاً، لأن الله عز وجل ّ لا يكلِّم الكفار الذين هم من جند
إبليس اللعين، فكيف يكلّم من تولّى إضلالهم؟!
وأما قولهم: إن الله قال قد سلطتك على ماله وولده، فذلك ممكن في القدرة، ولكنه بعيد في هذه القصة، وكذلك قولهم: إنه نفخ في جسده حين سلّطه عليه فهو أبعد، والباري سبحانه قادر على أن يخلق ذلك كله من غير أن يكون للشيطان كسب فيه حتى تقر له - لعنةُ الله عليه - عينٌ بالتمكن من الأنبياء في أموالهم، وأهليهم، وأنفسهم.
وأما قولهم: إنه قل لزوجته أنا إله الأرض، ولو تركت ذكر الله وسجدت لي لعافيته. . فاعلموا أنه لو عَرَض لأحدكم وبه ألم وقال هذا الكلام، ما جاز عنده أن يكون إلها في الأرض، وأنه يسجد له، وأنه يعافى من البلاء، فكيف أن تستريب زوجة نبي؟ ولو كانت زوجة سوادي أو فَدْم بربريّ ما ساغ ذلك عندها» .
ثم قال: «ولم يصّح عن أيوب في أمره إلاّ ما أخبرنا الله عنه في كتابه في آيتين: الأولى قوله تعالى: {وَأَيُّوبَ إِذْ نادى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضر} [الأنبياء: 83] والثانية في ص: {أَنِّي مَسَّنِيَ الشيطان بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ} وأما النبي صلى الله عليه وسلم َ فلم يصحّ عنه أنه ذكره بحرف واحد إلا قوله:» بينا أيوب يغتسل إذ خرّ عليه رِجْلٌ من جرادٍ من ذهب «الحديث وقد تقدم.
وإذا لم يصح عنه فيه قرآن ولا سنة إلاّ ما ذكرناه، فمن الذي يوصل السامعَ إلى أيوب خبره، أم على أي لسان سمعه؟ والإسرائيلياتُ مرفوضة عند العلماء على البتات، فأعرضْ عن سطورها بصرك، وأصمم عن سمعها أُذنيك، فإنها لا تعطي فكرك إلا خَيالاً، ولا تزيد فؤادك إلاّ خبالاً» .
أقول: «ليس بلازم في ثبوت صبر أيوب اعتقاد أمثال هذه القصص
الإسرائيلية، التي حشا بها بعض المفسّرين كتبهن، ولا أمثال هذه الغرائب التي لا يصح سندها ولا نسبتها إلى الأنبياء الكرام لأنها تنافي» العصمة «ولا تتفق من المناصب الرفيعة للأنبياء الكرام صلوات الله وسلامه عليهم، ويكفي أن نقتصر على ما ذكره الله تعالى في كتابه، ونعرض عن مثل هذه الخرافات والأباطيل، كزعم بعضهم أنّ أيوب تساقط لحمه من شدة المرض، وأصبح الدود يخرج من جسمه حتى استقذره القريب والبعيد، وملّه الصديق والغريب ولم يصبر عليه إلا امرأته، وأنه عظم بلاؤه حتى أخرج من بيته وألقي على كُناسة (مزبلة) .
. . إلى آخر ما هنالك من حكايات مكذوبة وقصص إسرائيلية تلقّفها بعض القُصّاص، ودخلت إلى بعض كتب التفسير وهي مما تنافي (عصمة الأنبياء) .
والذي ينبغي أن يقتصر عليه المسلم أنّ ما أصاب (أيوب) من ضر إنما كان مرضاً من الأمراض المستعصية، التي ينوء بحملها الناس عادة، ويضجرون من ثقلها، وخصوصاً إذا امتد الزمن بها، وأن هذا المرض لم يصل إلى حدّ الاستقذار والنفرة، وأنه غضب على زوجه لأمرٍ من الأمور فحلف ان يضربها مائة جلدة، فجعل الله له من أمره فرجاً ومخرجاً، وسهّل عليه الأمر فجمع لها (مائة عود) فضربها بها ضربة واحدة ولم يحنث في يمينه، وكشف الله عنه ضُرّه وبلاءه.
الحكم الثاني: هل يباح للرجل ضرب امرأته تأديباً؟
استدل بعض العلماء بالآية الكريمة على جواز ضرب الرجل امرأته تأديباً، وذلك لأن امرأة أيوب أخطأت في حق زوجها فحلف ليضربنّها مائة جلدة، فأمره الله تعالى أن يضربها بعثكول من عثاكيل النخيل أو بحزمةٍ من العيدان، وذلك ليبرّ في يمينه ولا يحنث، ولو كان الضرب غير جائز لما أقرَّه القرآن عليه ودلّه على ما هو أرحم.
وفي الآية إشارة إلى أنه لا يجوز ضرب المرأة فوق حدود الأدب، ولهذا قال عليه السلام في حجة الوداع:«واضربوهنّ ضرباً غير مبرِّح» ، والجوازُ لا ينافي الكراهة فقد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم َ أنه قال:«لا تضربوا إماء الله» فجاء عمر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم َ فقال: ذأرن النساء على أزواجهن، فرخّص في ضربهن، فأطاف بآل النبي صلى الله عليه وسلم َ نساء كثير يشكون أزواجهن، فقال صلى الله عليه وسلم َ:«لقد طاف بآل محمد نساء يشكون أزواجهن، ليس أولئك بخياركم» .
قال الجصاص: «والذي ذكره الله في القرآن وأباحه من ضرب النساء إذا كانت ناشزاً بقوله: {والاتي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ} [النساء: 34] إلى قوله {واضربوهن} [النساء: 34] وقد دلت قصة أيوب على أن له ضربها تأديباً لغير نشوز وقوله تعالى: {الرجال قوامون عَلَى النسآء} [النساء: 34] فما روي من القصة فيه يدل على مثل دلالة قصة أيوب، لأنه روي أن رجلاً لطم امرأته على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم َ فأراد أهلها القصاص فأنزل الله:{الرجال قوامون عَلَى النسآء} [النساء: 34] .
الحكم الثالث: هل الحكم خاص بأيوب أم هو عام لجميع الناس؟
اختلف العلماء في هذا الحكم الذي أرشده الله تعالى إليه نبيّه (أيوب) عليه السلام هل هو خاص به أم عام لجميع الناس؟
فذهب (مجاهد) إلى أنه خاص بأيوب عليه السلام، وهو منقول عن ابن عباس رضي الله عنهما، وهو مذهب (مالك، وأحمد بن حنبل) رحمهما الله تعالى.
وذهب عطاء بن أبي رباح: وابن أبي ليلى إلى أن الحكم عام، وأنّ هذه الرخصة لجميع الناس فضلاً من الله تعالى وكرماً، وهذا مذهب الشافعي
وأبي حنيفة رحمهما الله تعالى.
الحكم الرابع: هل يشترط في الضرب أن يكون مفرّقاً؟
وبناءً على ما سبق فقد اختلف الفقهاء فيمن حلف أن يضرب عبده عشرة أسواط، فجمعها كلَّها وضربه بها ضربة واحدة، هل يكفي ذلك أم لا بدّ في الضرب أن يكون مفرقاً؟
فقال مالك وأحمد: لا يبرّ بيمينه حتى يفرّق الضرب.
وقال أبو حنيفة والشافعي: إذا أصابه واحد منها فقد برّ في يمينه ولا يشترط التفريق.
حجة المذهب الأول:
1 -
إن هذا الأمر خاص بأيوب وزوجه لأن الله تعالى قال: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً} [المائدة: 48] ولأن زوجة أيوب لم تفعل أمراً تستحق معه جلد مائة، فجعل الله سبحانه لأيوب فرجاً ومخرجاً بذلك.
2 -
ولأنه إذ أقسم بالضرب إنما أراد الإيلام، وليس في الضرب بالجميع إيلام.
3 -
الأيمان مبناها على النية، فإن لم توجد فعلى اللغة والعرف، واللغة لا تجعل الضارب مرة بسوط ذي شعب ضارباً مرات بعدد الشعب، وكذا العرف فوجب أن تجري على ما هو الحكم عندنا بموجب العرف واللغة.
حجة المذهب الثاني:
1 -
عموم قصة أيوب عليه السلام، وشرعُ من قبلنا شرع لنا ما لم يأت ناسخ، وقد جاء في الشرع ما يؤيدها، ولم يثبت الناسخ.
2 -
واستدلوا بحديث أبي أمامة عن بعض الصحابة من الأنصار: أنه أشتكى رجل منهم فعاد جلدةً على عظم، فدخلت عليه جارية لبعضهم فهشَّ لها، فوقع عليها، فلما دخل عليه رجال من قومه يعودونه أخبرهم بذلك، وقال: استفتوا لي رسول الله صلى الله عليه وسلم َ. فذكروا له ذلك، وقالوا: ما رأينا بأحد من الضر مثل ما به، ولو حملناه لك لتفسَّخت عظامه، ما هو إلا جلدٌ على عظم.
فأمر النبي صلى الله عليه وسلم َ أن يأخذوا له مائة سمراخ فيضربونه بها ضرة واحدة.
ودلالة الآية ظاهرة على صحة هذا القول.
وذلك لأن فاعل ذلك يسمى ضارباً لما شرط من العدد، وذلك يقتضي البر في يمينه.
3 -
وقالوا: إن القرآن حكم بأنه لا يحنث بفعله لقوله تعالى: {فاضرب بِّهِ وَلَا تَحْنَثْ} .
ولكن يجب أن لا يطبق ذلك في الحدود إلا مقيداً بما ورد الحديث به، فيكون ذلك حد المريض الذي وصل من المرض إلى الحد الذي وصف في الحديث الشريف.
الحكم الخامس: هل تجوز الحيلة في الشريعة الإسلامية؟
3 -
قال الجصاص: في تفسيره «أحكام القرآن» : (وفي الآية دليل على جواز الحيلة في التوصل إلى ما يجوز فعله، ودفع المكروه بها عن نفسه وعن غيره لأن الله تعالى أمره بضربها بالضغث ليخرج به من اليمين ولا يصل إليها كثير ضرر) .
أقول: هذا هو الحد المقبول من الحيل الشرعية التي توصل إلى ما يجوز فعله وتدفع المكروه عن نفسه وغيره. أما الحيل التي يتوصل بها إلى الهرب
من فرائض الله، والتخلص مما أوجبه الله على الإنسان، فهذه لا يقبلها ذو قلب سليم ولا يقرها مسلم عاقل، لأنَّ فرائض الله إنما فرضت لتؤدَّى، والواجبات إنما شرعت لتقام على وجه الأرض، لا لتكون طريقاً للتلاعب في أحكام الله.
وقد استدل بعض العلماء على جواز الحيلة مطلقاً بهذه الآية. وبقول الله تعالى في قصة يوسف: {فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ جَعَلَ السقاية فِي رَحْلِ أَخِيهِ} [يوسف: 70]، وليس الأمر كما زعموا فإن ذلك بإذن الله ليظهر فضله على سائر إخوته بدليل قوله تعالى:{كذلك كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الملك إِلَاّ أَن يَشَآءَ الله} [يوسف: 76] .
الحكم السادس: هل أفعال الإله جلّ وعلا تابعة للمصالح؟
قال الإمام الفخر رحمه الله: (وفي قصة أيوب عليه السلام دلالة على أن أفعال ذي الجلال والإكرام منزهة عن التعليل بالمصالح والمفاسد {لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأنبياء: 23] . وذلك لأن أيوب لم يقترف ذنباً حتى يكون ابتلاؤه في مقابلة ذلك الجرم، وإن كان البلاء ليجزل له الثواب، فإن الله تعالى قادر على إيصال كل خير ومنفعة إليه من غير توسط تلك الآلام والأسقام، وحينئذٍ لا يبقى في تلك الأمراض والآفات فائدة. وهذه كلمات ظاهرية جلية والحق الصريح أنه لا يُسأل عما يفعل) .
الحكم السابع: هل البرّ في اليمين أفضل أم الكفارة عن اليمين؟
في الآية الكريمة دليل على أن البر باليمين ما لم يكن في إثم أفضل من الكفارة.
وقد قال ابن تيمية رحمه الله إن الكفارة لم تكن مشروعة في زمنه وإلا لأمره الله تعالى بها
…
وذكره ابن العربي قبله.
قال القرطبي: قوله إنه لم يكن في شرعهم كفارة، ليس بصحيح، فإن أيوب عليه السلام لما بقي في البلاء ثمان عشرة سنة - كما في حديث ابن شهاب - قال له صاحباه: لقد أذنبتَ ذنباً ما أظن أحداً بلغه. فقال أيوب صلى الله عليه وسلم َ: ما أدري ما تقولان، غير أن ربي عز وجل ّ يعلم أني كنت أمر على الرجلين يتزاعمان فكلٌّ يحلف بالله، أو على النفر يتزاعمون فأنقلب إلى أهلي فأكفِّر عن أيمانهم إرادة أن لا يأثم أحد يذكره، ولا يذكره إلا بحق فنادى ربه:
{أَنِّي مَسَّنِيَ الضر وَأَنتَ أَرْحَمُ الراحمين} [الأنبياء: 83] . فقد أفادك هذا الحديث أن الكفارة كانت من شرع أيوب، وأن من كفّر عن غيره بغير إذه فقد قام بالواجب عنه وسقطت عنه الكفارة.
ما ترشد إليه الآيات الكريمة
أولاً: إبتلاء الله تعالى لنبيّه أيوب عليه السلام كان امتحاناً لإيمانه، ورفعاً لمقامه.
ثانياً: الإنسان يُبتلى في هذه الحياة على قدر إيمانه، ولهذا كان الأنبياء أعظم الناس ابتلاءً.
ثالثاً: التضرع إلى الله والشكوى إليه سبحانه لا ينافي مقام الصبر الممدوح.
رابعاً: كما يبتلي الله سبحانه بالفقر يبتلي بالغنى، والمؤمن من يشكر الله في السراء والضراء.
خامساً: إذا اتقى الإنسان ربه جعل الله له من أمره فرجاً ومخرجاً، كما صنع بأيوب عليه السلام.
سادساً: زوجة أيوب جازاها الله بحسن صبرها، فأفتاه في ضربها بمائة عود جملة واحدة.
سابعاً: اتخاذ الحيلة جائز إذا لم يكن فيها إبطال حق أو هدم أمرٍ من أمور الشرع الحنيف.
ثامناً: على الإنسان أن يبرّ في يمينه أو يكفر عنها إذا كان ثمة مصلحة وكان الحنث أفضل من البر.
حكمة التشريع
لقد نزل الإسلام بتشريعاته وتعالميه ليحكم المجتمع البشري في كل ظروفه وأحواله، فلهذا أعطى لكل أمر حكماً، وراعى المصالح في أحكامه وتشريعاته كما راعى اختلاف الطباع الإنسانية، فعندما أجاز الشارع ضرب المرء زوجه إنما أجازه أولاً وقبل كل شيء في حدود، وأن يكون الضرب مبرِّحاً، ولا يتعدى حدود التأديب والتهذيب، ومع ذلك فقد اعتبر ضرب الأزواج غير ممدوح فاعله، وتبدو حكمة الترخيص بالضرب جلية في نساء مخصوصات تعوَّّدن عليه، ونشأن في ظلاله، فلم يعد من الممكن تأديبهن إلا بهذه الطريق فأجازها الشارع لذلك.
يقول شهيد الإسلام سيد قطب في كتابه «الظلال» ما نصه:
«وقصة ابتلاء أيوب وصبره ذائعة مشهورة، وهي تضرب مثلاً للابتلاء
والصبر ولكنها مشوبة بإسرائيليات تطغى عليها، والحد المأمون في هذه القصَّة هو أن أيوب عليه السلام كان كما جاء في القرآن عبداً صالحاً أوّاباً، وقد ابتلاه الله فصبر صبراً جميلاً، ويبدو أن ابتلاءه كان بذهاب المال والأهل والصحة جميعاً ولكنه ظل على صلته بربه، وثقته به، ورضاه بما قسم له.
وكان الشيطان يوسوس لخلصائه القلائل الذين بقوا على وفائهم له، ومنهم زوجته بأنَّ اللَّهَ لو كان يحب أيوب ما ابتلاه، وكانوا يحدِّثونه بهذا فيؤذيه في نفسه أشد ما يؤذيه الضر والبلاء. فلما حدثته امرأته ببعض هذه الوسوسة حلف لئن شفاه الله ليضربها عدداً عيَّنه، قيل مائة.
وعندئذ توجه إلى ربه بالشكوى مما يلقى من إيذاء الشيطان، ومداخله إلى نفوس خلصائه، ووقع هذا الإيذاء في نفسه:{أَنِّي مَسَّنِيَ الشيطان بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ} .
فلما عرف ربُّه منه صدقه وصبره، ونفوره من محاولات الشيطان وتأذيه بها، أدركه برحمته، وأنهى ابتلاءه، ورد عليه عافيته إذ أمره أن يضرب الأرض بقدمه فتتفجر عين باردة يغتسل منها ويشرب فيشفى ويبرأ {اركض بِرِجْلِكَ هذا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ} .
ويقول القرآن الكريم: {وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَّعَهُمْ رَحْمَةً مِّنَّا وذكرى لأُوْلِي الألباب} .
وتقول بعض الروايات: إن الله أحيا له أبناءه، ووهب له مثلهم، وليس في النص ما يحتِّم أنه أحيا له من مات، وقد يكون معناه أنه بعودته إلى الصحة والعافية قد استرد أهله الذين كانوا بالنسبة إليه كالمفقودين، وأنه رزقه بغيرهم زيادة في الإنعام والرحمة والرعاية مما يصلح ذكرى لذوي العقول والإدراك.
والمهم في معرض القصص هنا هو تصوير رحمة الله وفضله على عباده الذين يبتليهم فيصبرون على بلائه، وترضى نفوسهم بقضائه.
فأما قسمه ليضربن زوجه، فرحمة من الله، وبزوجه التي قامت على رعايته، وصبرت على بلائه وبلائها به، أمره الله أن يأخذ مجموعة من العيدان بالعدد الذي حدده فيضربها به ضربة واحدة تجزئ عن يمينه فلا يحنث فيها:{وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فاضرب بِّهِ وَلَا تَحْنَثْ} هذا التيسير وذلك الإنعام، كانا جزاء على ما علمه الله من عبده أيوب من الصبر على البلاء وحسن الطاعة والالتجاء {إِنَّا وجدناه صَابِراً نِّعْمَ العبد إِنَّهُ أَوَّابٌ} .