المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌[5] آداب الاستئذان والزيارة - روائع البيان تفسير آيات الأحكام - جـ ٢

[محمد علي الصابوني]

فهرس الكتاب

- ‌[2] قذف المحصنات من الكبائر

- ‌[3] اللعان بين الزوجين

- ‌[4] في أعقاب حادثة الإفك

- ‌[5] آداب الاستئذان والزيارة

- ‌[6] آيات الحجاب والنظر

- ‌[7] الترغيب في الزواج والتحذير من البغاء

- ‌[8] الاستئذان في أوقات الخلوة

- ‌[9] إباحة الأكل من بيوت الأقرباء

- ‌سورة لقمان

- ‌[1] «طاعة الوالدين» أو «بر الوالدين»

- ‌سورة الأحزاب

- ‌[1] التبني في الجاهلية والإسلام

- ‌[2] الإرث بقرابة الرحم

- ‌[3] الطلاق قبل المساس

- ‌[4] أحكام زواج النبي صلى الله عليه وسلم َ

- ‌[5] من آداب الوليمة

- ‌[6] الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم َ

- ‌[7] حجاب المرأة المسلمة

- ‌سورة سبأ

- ‌[1] حكم التماثيل والصور

- ‌سورة ص

- ‌[1] موقف الشريعة من الحيل

- ‌سورة محمد

- ‌[1] الحرب في الإسلام

- ‌[2] ترك العمل بعد الشروع

- ‌سورة الحجرات

- ‌[1] التثبت من الأخبار

- ‌سورة الواقعة

- ‌[1] حرمة مس المصحف

- ‌سورة المجادلة

- ‌[1] الظهار وكفارته في الإسلام

- ‌[2] نجوى الرسول صلى الله عليه وسلم َ

- ‌سورة الممتحنة

- ‌[1] التزاوج بين المسلمين والمشركين

- ‌سورة الجمعة

- ‌[1] صلاة الجمعة وأحكامها

- ‌سورة الطلاق

- ‌[1] أحكام الطلاق

- ‌[2] أحكام العدة

- ‌سورة المزمل

- ‌[1] تلاوة القرآن

الفصل: ‌[5] آداب الاستئذان والزيارة

[5] آداب الاستئذان والزيارة

التحليل اللفظي

{تَسْتَأْنِسُواْ} : أي تستأذنوا، قال الزجاج:(تستأنسوا) في اللغة بمعنى تستأذنوا وكذلك هو في التفسير كما نقل عن ابن عباس.

وأصل الاستئناس: طلب الأنس بالشيء وهو سكون النفس، واطمئنان القلب وزوال الوحشة قال الشاعر:

عوى الذئب فاستأنست للذئب إذ عوى

وصوّت إنسان فكدت أطير

ص: 126

وقال بعضهم: الاستئناس هو الاستعلام من آنس الشيء إذا أبصره ظاهراً مكشوفاً. ومنه قوله تعالى: {إني آنَسْتُ نَاراً} [طه: 10] أي أبصرت ناراً. ومعنى الآية: حتى تستعلموا أيريد أهلها أن تدخلوا أم لا؟

قال الزمخشري: هو من (الاستئناس) ضد الاستيحاش. لأن الذي يطرق باب غيره لا يدري أيؤذن له أم لا؟ فهو كالمستوحش فإذا أذن له يستأنس.

قال الطبري: والصواب عندي أن (الاستئناس) استفعال من الأنس وهو أن يستأذن أهل البيت في الدخول عليهم، ويؤذنهم أنه داخل عليهم فيأنس إلى إذنهم ويأنسوا إلى استئذانه.

{على أَهْلِهَا} : المراد بالأهل السكان الذين يقيمون في الدار سواء كانت سكناهم بالملك، أو بالإجارة، وبالإعارة، وقد دل على هذا معنى قوله تعالى:{غَيْرَ بُيُوتِكُمْ} قال الألوسي: والمراد اختصاص السكنى أي غير بيوتكم التي تسكنونها. لأنه كون الآجر والمعير منهيين كغيرهما عن الدخول بغير إذن دليل على عدم إرادة الاختصاص الملكي فلا حاجة إلى القول بأن ذلك خارج مخرج العادة.

{ذلكم خَيْرٌ لَّكُمْ} : الإشارة راجعة إلى الاستئذان والتسليم أي دخولكم مع الاستئذان والسلام خير لكم من الهجوم بغير إذن ومن الدخول على الناس بغتة.

{لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} : أي كي تتعظوا وتتذكروا وتعملوا بموجب تلك الآداب الرفيعة وهي مضارع حذف منه إحدى التاءين.

ص: 127

{أزكى لَكُمْ} : أي أطهر وأكرم لنفوسكم وهو خير لكم من اللجاج والعناد والوقوف على الأبواب فالرجوع في مثل هذه الحال أشرف وأطهر للإنسان العاقل.

{جُنَاحٌ} : أي إثم وحرج قال تعالى: {وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَآ أَخْطَأْتُمْ بِهِ} [الأحزاب: 5] .

{غَيْرَ مَسْكُونَةٍ} : المراد البيوت العامرة التي تقصد لمنافع عامة غير السكنى كالحمامات والحوانيت والبيوت التي لا تخص بسكنى أحد كالرباطات والفنادق والخانات فهذه وأمثالها لا حرج في دخولها بغير إذن.

{متاع لَّكُمْ} : المتاع في اللغة يطلق على (المنفعة) أي فيها منفعة لكم كالاستظلال من الحر وحفظ الرحال والسّلع والاستحمام وغيره. ويطلق ويراد منه (الغرض والحاجة) أي فيها لكم غرض من الأغراض، أو حاجة من الحاجات.

المعنى الإجمالي

يؤدب المولى تبارك وتعالى عباده المؤمنين بالآداب الجليلة، ويدعوهم إلى التخلق بكل أدب رفيع فيامرهم بالاستئذان عند إرادة الدخول إلى بيوت الناس، وبالتلطف عند طلب الاستئذان، وبالسلام على أهل المنزل لأن ذلك مما يدعو إلى المحبة والوئام، وينهاهم عن الدخول بغير إذن لئلا تقع أعينهم على ما يسوءهم فيطلعوا على عورات الناس أو تقع على مكروه لا يحبه أهل المنزل، فإن في الاستئذان والسلام ما يدفع خطر الريبة أو القصد السيِّئ ويجعل الزائر محترماً مكرماً مستأنساً به.

وإذا لم يؤذن له فعليه بالرجوع فذلك خير له من الوقوف على الأبواب أو الإثقال على أهل المنزل فقد يكون أهل البيت في شغل شاغل عن استقبال أحد من الزائرين.

ص: 128

وإذا لم يكن في البيوت أحد فلا يجوز الدخول أو الاقتحام لأن البيوت حرمة، ولا يحل دخولها إلا بإذن أربابها، وربما كان أهل البيت لا يرغبون أن يطلع أحد على ما عندهم في المنزل من مال أو متاع وربما أدى الدخول إلى فقدان شيء أو ضياعة ووقعت التهمة على ذلك الإنسان.

أما البيوت التي ليس بها ساكن، أو التي فيها للإنسان منفعة أو مصلحة فلا مانع من دخولها بغير إذن. ذلك هو أدب الإسلام وتربيته الحميدة الرشيدة التي أدّب بها المؤمنين.

وجه الارتباط بين الآيات الكريمة

الآيات التي تقدمت في صدر السورة كانت في بيان (حكم الزنى) وبيان ضرره وخطره. وبيان أنه قبيح ومحرم وأنَّ مرتكبه يستحق العذاب والنكال.

ولما كان الزنى طريقُه النظر، والخلوة، والاطلاع على العورات

وكان دخول الناس في بيوت غير بيوتهم مَظِنَّة حصول ذلك كله، أرشد الله عز وجل عباده إلى الطريقة الحكيمة التي يجب أن يتبعوها إذا أرادوا دخول هذه البيوت، حتى لا يقعوا في ذلك الشر الوبيل، والخطر الجسيم، الذي يقضي على أواصر المجتمع، ويدمر الأسر، ويشيع الفحشاء بين الناس.

وقد تحدثت الآيات السابقة عن (حادثة الإفك) التي اتهمت فيها أم المؤمنين عائشة رضوان الله عليها تلك المرأة العفيفة الطاهرة التي برّأها القرآن مما نسبها إليه أهل النفاق والبهتان، ولم يكن لأصحاب الإفك متكأ في رميها إلا أنها بقيت مع صفوان فيما يشبه الخلوة، لذلك نهى الله سبحانه وتعالى عن دخول البيوت بغير إذن حتى لا يؤدي ذلك إلى القدح في أعراض البرآء الأطهار، ويكون المجتمع في منجاة عن ذلك الشر الخطير.

ص: 129

سبب النزول

أ - روي في سبب نزول هذه الآية أن امرأة أتت النبي صلى الله عليه وسلم َ فقالت يا رسول الله: إني أكون في بيتي على الحالة التي لا أحب أن يراني عليها أحد ولا والد ولا ولد فيأتيني آت فيدخل علي فكيف أصنع؟ فنزلت الآية الكريمة {ياأيها الذين آمَنُواْ لَا تَدْخُلُواْ بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ

} الآية.

ب - وروى ابن حاتم عن (مقاتل) أنه لما نزل قوله تعالى: {ياأيها الذين آمَنُواْ لَا تَدْخُلُواْ

} إلخ قال أبو بكر رضي الله عنه يا رسول الله: فكيف بتجار قريش الذين يختلفون من مكة، والمدينة، والشام، وبيت المقدس ولهم بيوت معلومة على الطريق فكيف يستأذنون ويسلِّمون وليس فيها سكان؟ فرخص سبحانه في ذلك فأنزل قوله تعالى: {لَّيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَدْخُلُواْ بُيُوتاً غَيْرَ مَسْكُونَةٍ.

. .} الآية.

لطائف التفسير

اللطيفة الأولى: تصدير الخطاب بلفظ (الإيمان) مشعر بعلو مكانة المؤمن عند الله فالمؤمن أهل للتكليف والخطاب، والكافر كالدابة والحيوان ليس بأهل للتكريم أو الخطاب وصدق الله {أولئك كالأنعام بَلْ هُمْ أَضَلُّ} [الأعراف: 179] وهذا هو السر في نداء المؤمنين بقوله تعالى: {ياأيها الذين آمَنُواْ} .

اللطيفة الثانية: قوله تعالى: {غَيْرَ بُيُوتِكُمْ} خارج مخرج العادة إذْ الأصل في الأصل أن يسكن في بيته الذي هو ملكه، والتنكير في قوله

ص: 130

{بُيُوتاً} يفيد العموم والشمول.

اللطيفة الثالثة: قوله تعالى: {حتى تَسْتَأْنِسُواْ} فيه معنى دقيق، فليس المراد من اللفظ مجرد الإذن وإنما المراد معرفة أنس أهل البيت بدخول الزائر عليهم هل هم راضون بدخوله أم لا؟

قال العلامة المودودي: (وقد يخطئ الناس إذ يجعلون كلمة (الاستئناس) بمعنى الاستئذا فقط مع أن الكلمتين بينهما فرق لطيف لا ينبغي أن ينصرف عنه النظر، فكلمة (الاستئناس) أعم وأشمل من كلمة (الاستئذان) كما لا يخفى بأدنى تأمل والمعنى: حتى تعرفوا أنس أهل البيت بدخولكم عليهم) .

اللطيفة الرابعة: قوله تعالى: {فَإِن لَّمْ تَجِدُواْ فِيهَآ أَحَداً} هذا تعبير دقيق يشير إلى معنى أدق، فربما كان في البيت صاحبه ولم يردّ على الزائر، أو لم يأذن له فيصدق على المستأذن أنه لم يجد أحداً، ولو قال (فإن لم يكن فيها أحد) لما كان هذا المنزع اللطيف، والسر الدقيق، والحاصل أن الآية تنهى عن الدخول في حالتين:

أ - في حالة الاعتذار الضمني {فَإِن لَّمْ تَجِدُواْ فِيهَآ أَحَداً} وهي إشارة إلى عدم الإذن.

ب - في حالة الاعتذار الصريح {وَإِن قِيلَ لَكُمْ ارجعوا فارجعوا} وهي تصريح بعدم الإذن صريح.

اللطيفة الخامسة: قوله تعالى {فارجعوا} قال العلامة ابن كثير: قال بعض المهاجرين: لقد طلبت عمري كله هذه الآية فما أدركتها

أن أستأذن على بعض إخواني فيقول لي: إرجعْ، فأرجع وأنا مغتبط لقوله تعالى: {وَإِن

ص: 131

قِيلَ لَكُمْ ارجعوا فارجعوا هُوَ أزكى لَكُمْ} .

اللطيفة السادسة: قال الزمخشري: فإذا نُهي الزائر عن الإلحاح لأنه يؤدي إلى الكراهة وجب الانتهاء عن كل ما يؤدي إليها من قرع الباب بعنف، والتصييح بصاحب الدار وغير ذلك مما يدخل في عادات من لم يتهذب من أكثر الناس.

اللطيفة السابعة: قوله تعالى: {والله يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ} فيه وعيد شديد لأهل الريبة والنوايا الخبيثة الذين لا يقصدون إلا التطلع على عورات الناس أو غيرها من الأغراض السيئة.

حكمة التشريع

يقول شهيد الإسلام سيد قطب تغمده الله برحمته في تفسيره «ظلال القرآن» ما نصه:

(لقد جعل الله البيوت سكنا، يفيء إليها الناس فتسْكن أرواحهم، وتطمئن نفوسهم، ويأمنون على عوراتهم وحرماتهم، ويلقون أعباء الحذر والحرص المرهقة للأعصاب) .

والبيوتُ لا تكون كذلك إلا حين تكون حَرَماً آمناً لا يستبيحه أحد إلا بعلم أهله وإذنهم، وفي الوقت الذي يريدون، وعلى الحالة التي يحبون أن يلقوا عليها الناس، ذلك إلى أن استباحة حرمة البيت من الداخلين دون استئذان يجعل أعينهم تقع على عورات، وتلتقي بمفاتن تثير الشهوات، وتهيئ الفرصة للغواية الناشئة من اللقاءات العابرة، والنظرات الطائرة، التي قد تتكرر فتتحول إلى نظرات قاصدة، تحركها الميول التي أيقطتها اللقاءات الأولى على غير

ص: 132

قصد ولا انتظار، وتحولها إلى علاقات آثمة، أو إلى شهوات محرمة، تنشأ عنها العقد النفسية والانحرافات.

ولقد كانوا في الجاهلية يهجمون هجوماً فيدخل الزائر البيت وكان يقع أن يكون صاحب الدار مع أهله في الحالة التي لا يجوز أن يراهما عليها أحد، وكان يقع أن تكون المرأة عارية أو مكشوفة العورة هي أو الرجل، وكان ذلك يؤذي ويجرح، ويَحرِم البيوت أمنَها وسكينتها، كما يعرّض النفوس من هنا وهناك للفتنة حين تقع العين على ما تثيره.

من أجل هذا أو ذاك أدَّب الله المسلمين بهذا الأدب العالي «أدب الاستئذان» على البيوت والسلام على أهلها لإيناسهم وإزالة الوحشة من نفوسهم - قبل الدخول - وعبر عن الاستئذان ب (الاستئناس) وهو تعبير يوحي بلطف الاستئذان ولطف الطريقة التي يجيء بها الطارق فتحدث في نفوس أهل البيت أنساً به. واستعداداً لاستقباله، وهي لفتة دقيقة لطيفة لرعاية أحوال النفوس ولتقدير ظروف الناس في بيوتهم.

الأحكام الشرعية

الحكم الأول: هل السلام قبل الاستئذان أم بعده؟

ظاهر الآية الكريمة يدل على تقديم الاستئذان على السلام، وبهذا الظاهر قال بعض العلماء، وجمهور الفقهاء على تقديم السلام على الاستئذان حتى قال النووي: الصحيح المختار تقديم التسليم على الاستئذان لحديث «السلام قبل الكلام» .

أ - استدل الجمهور بما روي أن رجلاً من بني عامر استأذن على النبي صلى الله عليه وسلم َ

ص: 133

وهو في البيت فقال: أألج؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم َ لخادمه أخرج إلى هذا فعلمه الاستئذان فقل له: السلام عليكم أأدخل؟

ب - واستدلوا بحديث أبي هريرة فيمن يستأذن قبل أن يسلِّم قال: لا يؤذن له حتى يسلِّم. .

ج - واستدلوا بما روي عن (زيد بن أسلم) قال: أرسلني أبي إلى ابن عمر رضي الله عنهما فجئت فقلت: أألج؟ فقال: ادخل فلما دخلت قال مرحباً يا ابن أخي، لا تقل أألج، ولكن قل: السلام عليكم، فإذا قيل: وعليك فقل أأدخل؟ فإذا قالوا: ادخل فادخل.

د - واستدلوا بما روي أن عمر رضي الله عنه استأذن على النبي صلى الله عليه وسلم َ فقال: السلام على رسول الله السلام عليكم، أيدخل عمر؟ .

وفصَّل بعض العلماء المسألة فقال: إن كان القادم يرى أحداً من أهل البيت سلّم أولاً ثم استأذن في الدخول، وإن كانت عينه لا ترى أحداً قدذم الاستئذان على السلام، وهذا اختيار (الماوردي) وهو قول جيد وفيه جمع بين الأدلة كما نبه عليه (الألوسي) .

ولا يشترط أن يكون الإذن صريحاً بلفظ (أألج أو أأدخل) بل يجوز بكل لفظ يشير إلى الاستئذان كالتسبيح، والتكبير، أو التنحنح فقد روى الطبراني عن أبي أيوب أنه قال: قلت يا رسول الله أرأيت قول الله {حتى تَسْتَأْنِسُواْ وَتُسَلِّمُواْ على أَهْلِهَا} هذا التسليم قد عرفناه فما الاستئناس؟ قال: يتكلم الرجل بتسبيحة، وتكبيرةٍ، وتحميدةٍ، ويتنحنح فيؤذن أهل البيت.

أقول: ومثل هذا في عصرنا أن يطرق الباب أو يقرع الجرس فهذا

ص: 134

نوع من الاستئذان مشروع لأن الدور في عصر الصحابة لم يكن لها هذه الستور والأبواب فيكفي للقادم أن يقرع الجرس ليدل على طلبه الاستئذان والله أعلم.

الحكم الثاني: كم عدد الاستئذان؟

لم توضح الآية الكريمة عدد الاستئذان، وظاهرها يدل على أن من استأذن مرة فأجيب دخل، وإلاّ رجع. ولكنّ السنة النبوية قد بيَّنت أن الاستئذان يكون ثلاثاً، لما روي عن أبي هريرة مرفوعاً:(الاستئذان ثلاث: بالأولى يستنصتون، وبالثانية يستصلحون، وبالثالثة يأذنون أو يردون) .

ومما يدل على أن الاستئذان يكون ثلاثاً قصة (أبي موسى الأشعري) مع عمر بن الخطاب وتفصيل القصة كما رواها البخاري ومسلم في «الصحيحين» عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: (كنت جالساً في مجلس من مجالس الأنصار فجاء أبي موسى فزعاً، فقلنا له ما أفزعك؟ فقال: أمرني عمر أن آتيه فأتيته، فاستأذنت ثلاثاً فلم يؤذن لي فرجعت فقال: ما منعك أن تأتيني؟ فقلت قد جئت فاستأذنت ثلاثاً فلم يؤذن لي وقد قال عليه الصلاة والسلام ُ: «إذا استأذن أحدكم ثلاثاً فلم يؤذن له فليرجع» فقال: لتأتينِّي على هذه البينة أو لأعاقبنك، فقال (أُبيُّ بن كعب) لا يقوم معك إلا أصغر القوم، قال أبو سعيد: وكنتُ أصغرَهم فقمتُ معه، فأخبرت عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم َ قال ذلك) .

وفي بعض الأخبار أن عمر قال لأبي موسى: إني لم أتهمك ولكني خشيت أن يتقول الناس على رسول الله صلى الله عليه وسلم َ فأردت أن أثبت.

والراجح أن إكمال العدد (ثلاثاً) إنما هو حق المستأذن، وأما الواجب فإنما هو مرة وذكر (أبو حيان) أنه لا يزيد على الثلاث، إلا إن تحقَّق أن من في البيت لم يسمع.

ص: 135

الحكم الثالث: ما الحكمة في إيجاب الاستئذان؟

الحكمة هي التي نبه الله تعالى عليها في قوله: {لَّيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَدْخُلُواْ بُيُوتاً غَيْرَ مَسْكُونَةٍ} فدل بذلك على أن الذي حرم من أجله الدخول هو كون البيوت مسكونة، إذ لا يأمن من يهجم عليها بغير استئذان أن يرى عورات الناس، وما لا يحل النظر إليه، وربما كان الرجل مع امرأته في فراش واحد، فيقع نظره عليهما، وهذا بلا شك يتنافى مع الآداب الإجتماعية التي أرشد إليها الإسلام.

الحكم الرابع: هل يستأذن على المحارم؟

ومن الآداب السامية أن يستأذن الإنسان على المحارم لما روي أن رجلاً قال للنبي صلى الله عليه وسلم َ أأستأذن على أمي؟ قال: نعم، قال: إنها ليس لها خادم غير أفأستأذن عليها كما دخلت؟ قال: أتحب أن تراها عُريانة؟ قال الرجل: لا، قال فاستأذن عليها.

قال الفخر الرازي: واعلم أن ترك الاستئذان على المحارم وإن كان غير جائز، إلا أنه أيسر، لجواز النظر إلى شعرها وصدرها وساقها ونحوها من الأعضاء، والتحقيق فيه أن المنع من الهجوم على الغير إن كان لأجل أن ذلك الغير ربما كان منكشف الأعضاء فهذا دخل فيه الكل إلا (الزوجات) و (ملك اليمين) . وإن كان لأجل أنه ربما كان مشتغلاً بأمر يكره اطلاع الغير عليه وجب أن يعمّ في الكل، حتى لا يكون له أن يدخل إلاّ بإذن.

الحكم الخامس: هل الاستئذان والسلام واجبان على الداخل؟

ظاهر الآية الكريمة أنه لا بد قبل الدخول من (الاستئذان والسلام) معاً، وعليه جمهور الفقهاء غير أنهما ليسا بمرتبة واحدة، فالاستئذان واجب

ص: 136

والسلام مستحب، وذلك لأن الاستئذان من أجل البصر لئلا يقع نظره على عورات الناس، وقد جاء في الحديث الشريف «إنما جعل الاستئذان من أجل النظر» فكان واجباً. وأما السلام فهو من أجل المحبة والمودة كما قال صلى الله عليه وسلم َ:«أوَلَا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم؟ أفشو السلام بينكم» فكان ذلك مندوباً، وقد أرشد إليه القرآن الكريم في مواطن عديدة فقال جل ثناؤه {فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُواْ على أَنفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِّنْ عِندِ الله مُبَارَكَةً طَيِّبَةً

} [النور: 61] الآية.

الحكم السادس: كيف يقف الزائر على الباب؟

من الآداب الشرعية في الاستئذان، ألا يستقبل الزائر الباب بوجهه، بل يجعله عن يمينه أو شماله، فقد صح أنه عليه الصلاة والسلام ُ كان إذا أتى باب قوم، لم يستقبل الباب من تلقاء وجهه، ولكن من ركنه الأيمن أو الأيسر فيقول: السلام عليكم، السلام عليكم، وذلك لأن الدور لم يكن عليها حينئذ ستور.

وروي عن (سعيد بن عبادة) قال: جئت إلى النبي صلى الله عليه وسلم َ وهو في بيته فقمت مقابل الباب فاستأذنت فأشار إلي أن تباعد، وقال: هل الاستئذان إلا من أجل النظر؟

وهذا الأدب ينبغي أن يلتزم به المسلم في عصرنا هذا فإن الدور ولو كانت مغلقة الأبواب فإن الطارق إذا استقبلها فإنه قد يقع نظره عند فتح الباب على ما لا يجوز أو ما يكره أهل البيت اطلاعه عليه.

الحكم السابع: هل يجب الاستئذان على النساء أو العميان؟

ظاهر الآية الكريمة يدل على أنه يجب الاستئذان على كل طارق سواء كان رجلاً أو امرأة، مبصراً أو أعمى، وبهذا قال جمهور العلماء وحجتهم في ذلك أن من العورات ما يدرك بالسمع ففي دخول الأعمى على أهل بيت

ص: 137

بغير إذنهم ما يؤذيهم فقد يستمع الداخل إلى ما يجري من الحديث بين الرجل وزوجته فأما قوله عليه السلام:

«إنما جعل الاستئذان من أجل النظر» فذلك محمول على الغالب، ولا يقصد منه الحصر.

قال الزمخشري في «الكشاف» : (إنما شرع الاستئذان لئلا يوقف على الأحوال التي يطويها الناس في العادة عن غيرهم ويتحفظون من اطلاع أحد عليها ولم يشرع لئلا يطَّلع المرء على عورة، ولا تسبق عينه إلى ما لا يحل النظر إليه فقط) .

والحكمة التي شرع من أجلها الاستئذان متحققة في الرجال والنساء معاً ولهذا قال العلماء أن التعبير باسم الموصول {ياأيها الذين} فيه تغليب الرجال على النساء كما هو المعهود في الأوامر والنواهي القرآنية المبدوءة بمثل هذا النداء، أو المراد بالخطاب الوصف ويكون معنى الآية:(يا من اتصفتم بالإيمان) فيدخل فيه الرجال والنساء على السواء. ومما يدل على أن المرأة تستأذن كما تستأذن الرجل ما روي عن (أم إياس) قالت: «كنت في أربع نسوة نستأذن على عائشة رضي الله عنها، فقلت: ندخل؟ فقالت: لا، فقالت واحدة: السلام عليكم؟ قالت: ادخلوا، ثم قالت {ياأيها الذين آمَنُواْ لَا تَدْخُلُواْ بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حتى تَسْتَأْنِسُواْ وَتُسَلِّمُواْ على أَهْلِهَا} . . الآية. فدل هذا على أن المرأة تستأذن كما يستأذن الرجل.

الحكم الثامن: ما هي الحالات التي يباح فيها الدخول بدون إذن؟

ظاهر الآية يدل على النهي عن دخول البيوت بغير إذن في جميع الأزمان والأحوال ولكن يستثنى منه الحالات التي تقضي بها الضرورة وهي حالات اضطرارية تبيح الدخول بغير إذن وذلك إذا عَرَض أمر في دار من حريق، أو هجوم سارق، أو ظهور منكر فاحش، فإنَّ لمن يعلم ذلك أن يدخلها

ص: 138

بغير إذن أصحابها كما نبه على ذلك الفخر الرازي في تفسيره الشهير.

الحكم التاسع: هل يجب الاستئذان على الطفل الصغير؟

أحكام الاستئذان خاصة بالبالغين من الرجال والنساء، وأما الأطفال فإنهم غير مكلفين بهذه التكاليف الشرعية، وليس هناك محظور يخشى من جانبهم لأنهم لا يدركون أمور العورة، ولا يعرفون العلاقات الجنسية فيجوز لهم الدخول بدون إذن إلا إذا بلغوا مبلغ الرجال لقوله تعالى:{وَإِذَا بَلَغَ الأطفال مِنكُمُ الحلم فَلْيَسْتَأْذِنُواْ كَمَا استأذن الذين مِن قَبْلِهِمْ} [النور: 59] .

وهناك أوقات ثلاثة يجب على الأطفال الاستئذان فيها وهي: (وقت الفجر) ، و (وقت الظهيرة) ، و (وقت العشاء) كما سيأتي إن شاء الله.

الحكم العاشر: لو اطلع إنسان على دار غيره بغير إذنه فما الحكم؟

اختلف الفقهاء في مسألة هامة تتعلق بالنظر وهي: إذا رأى أهل الدار أحداً يطلع عليهم من ثقب الباب فطعن أحدهم عينه فقلعها، فهل يجب القصاص؟ وما الحكم؟

1 -

ذهب الإمامان (الشافعي وأحمد) إلى أنه لو فقئت عينه فهي هدر ولا قصاص.

2 -

وذهب مالك وأبو حنيفة إلى القول بأنها جناية يجب فيها الأرش أو القصاص.

دليل الشافعية والحنابلة:

أ - حديث أبي هريرة (من اطلع في دار قوم بغير إذنهم ففقأوا عينه فقد هدرت عينه) .

ص: 139

ب - حديث سهل بن سعد قال: (اطَّلع رجل في حُجْرة من حجر النبي صلى الله عليه وسلم َ ومع النبي مِدْرَى (آلة رفيعة من الحديد) يحك بها رأسه فقال: لو أعلم أنك تنظر لطعنت بها في عينك، إنما جعل الاستئذان من أجل النظر) .

دليل المالكية والأحناف:

أ - عموم قوله تعالى: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَآ أَنَّ النفس بالنفس والعين بالعين

} [المائدة: 45] فمن أقدم على هذا النحو كان جانباً، وعليه القصاص، إن كان عامداً، والأرش إن كان مخطئاً.

ب - واستدلوا بإجماع العلماء على أن من دخل داراً بغير إذن أهلها فاعتدى عليه بعض أهلها بقلع عينه فإن ذلك يعتبر جناية تستوجب القصاص.

قالوا: فإذا كان دخول الدار واقتحامها على أهلها مع النظر إلى ما فيها غير مبيح لقلع عين ذلك الداخل، فلا يكون النظر وحده من ثقب الباب مبيحاً لقلع عينه من باب أولى.

ج - وتأولوا الحديث الذي استدل به (الشافعية والحنابلة) على أنّ من اطَّلع في دار قوم ونظر إلى حُرَمهم ونسائهم فمونع فلم يمتنع وقاوم وقاتل فقلعت عينه بسبب المقاومة والمدافعة فهي هدر، لأنه ظالم معتد في هذه الحالة.

قال أبو بكر الرازي:

«والفقهاء على خلاف ظاهر الحديث وهذا من أحاديث أبي هريرة التي تُرَدّ لمخالفتها الأصول مثل ما روي أن ابن الزنى لا يدخل الجنة، ومن غسّل ميتاً فليغتسل ومن حمله فليتوضأ. . ثم قال: ولا خلاف أنه لو دخل داره بغير إذنه ففقأ عينه كان ضامناً وعليه القصاص

إلخ» .

ص: 140

قال الفخر الرازي من فقهاء الشافعية وصاحب التفسر المسمى «التفسير الكبير» :

«واعلم أن التمسك بقوله تعالى: {والعين بالعين} [المائدة: 45] في هذه المسالة ضعيف.

وأما قوله: إنه لو دخل لم يجز فقأ عينه فكذا إذا نظر. قلنا: الفرق بين الأمرين ظاهر، لأنه إذا دخل علم القوم دخوله عليهم فاحترزوا عنه وتستَّروا، فأما إذا نظر فقد لا يكونون عالمين بذلك فيطَّلع على ما لا يجوز الاطلاع عليه، فلا يبعد في حكم الشرع أن يبالغ هاهنا في الزجر حسماً لباب هذه المفسدة» .

أقول: ولعلّ ما ذهب إليه الشافعية والحنابلة أرجح، لقوة أدلتهم والله تعالى أعلم.

ما ترشد إليه الآيات الكريمة

أولاً - وجوب الاستئذان عند دخول ببيت الغير.

ثانياً - حرمة الدخول إذا لم يكن في البيت أحد.

ثالثاً - وجوب الرجوع إذا لم يؤذن للداخل.

رابعاً - السلام مشروع للزائر لأنه من شعائر الإسلام.

خامساً - لا يجوز لإنسان أن يطلع على عورات الناس.

سادساً - البيوت إذا لم تكن مسكونة فلا حرج من دخولها.

سابعاً: على المسلم أن يرعى حرمة أخيه المسلم فلا يؤذيه في نفسه أو ماله.

ثامناً - في هذه الآداب التي شرعها الله طهارة للمجتمع والأفراد.

ص: 141