الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ومن تجليات هذه الوسطية:
تكريم الإنسان
{وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا} (1) . إذ خلقه الله بيده ونفخ فيه من روحه وأسجد له ملائكته سجود تكريم، وعلّمه الأسماء كلها، وخلق له زوجا من نفسه وجعل بينهما مودة ورحمة، وأسكنهما جنته، وترك لهما الحرية كاملة في التمتع بالأكل منها حيثما شاءا رغدا، إلا أن لهذه الحرية حدودا، فنهاهما الله عن الاقتراب من شجرة واحدة معنية بالإشارة إليها تأكيدا للتحذير لما في معصية الأكل منها من سوء العاقبة بالنسبة إليهما، لكنهما ضعفا أمام إغراء الشيطان فأزلهما عما كانا فيه فأهبطهما إلى الأرض التي قدر الله أن يكون فيها آدم وبنوه خليفة كما أخبر الله ملائكته قبل خلقه بقوله:{وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} (2) ولم يتركه لنفسه، ولم يغلق دونه باب رحمته ولا نعمة توبته من نسيانه الذي أضعف عزمه، بل ألهمه "الاستغفار" وعبادة التوبة:{فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ} (3) وبين له طريق الهدى وسبيل الفلاح، وحذره
(1) الإسراء: 70.
(2)
البقرة: 30.
(3)
البقرة: 37.
من فتنة ذاك الذي أبى أن يطيع ربه بالسجود له مع الملائكة حسدًا من عند نفسه وتكبرًا وغرورا، فقد رأى نفسه أنه أولى منه بهذا التكريم لأن الله خلقه من نار أما آدم فمخلوق من طين، وهكذا نجا آدم من الخطيئة التي ارتكب فلم تعد ينوء بها كاهله، كما لم يورثها لعقبه من بعده وأصبح بنو آدم في حل مما جناه أبوهم بتوبة الله عليه.
وبذلك أصبح آدم وبنوه على اتصال بربهم دون واسطة بشرية أو غير بشرية حتى لا يسقط في الاستغلال، ولا يعرض نفسه لهتك أسراره وتشويه عرضه، فما عليه إذ يجترح سيئة إلا أن يبادر بالتوبة والإنابة فيجد الله توابا رحيما:{وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} (1) بل إن بعض السيئات تُبدل لدى الكريم الغفار التواب الحليم حسنات: {يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} (2) . وقد رغّب الإسلام في التوبة في الكتاب والسنة بشتى الترغيبات مما لا يدع مجالا للقنوط واليأس من رحمة الله ولو جاء بأكثر ما يمكن تصوره من الذنوب والآثام شرط ألا يشرك بالله: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} (3) وبذلك فتح أبواب الخير أمام الإنسان ليعود إلى الوسط بين الخوف والرجاء مع حسن الظن بربه، وإلى الصراط المستقيم حتى يستظل بظلال رحمة الله وعفوه ويستمد معرفته الصادقة والصحيحة بربه وعندئذ يتمتع بالكلمة الطيبة في حياته التي هي
(1) البقرة: 186.
(2)
الفرقان: 70.
(3)
النساء: 48.
خير كلها مثل شجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها (1) .
(1) انظر: تفسير الرازي والكشاف وابن كثير وأضواء البيان وغيرها.
إن التوبة إحدى خصائص الوسطية في الإسلام، وهي تترك الباب مفتوحا لتجديد العبد صلته بربه دون واسطة أو سمسرة، ودون تيئيس أو قطع الرجاء فيتمادى المذنب والمجترح للسيئات في عناده وغيه، ذلك أن الله سبحانه وتعالى كرم بني آدم إذ خلقهم على الفطرة، ومهما اعترتها من شوائب وأكدار وحُجُب فإن العمق يظل سليما، لذلك قال - تعالى - مخاطبا المؤمن:{ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} {وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} (1) . فإن الإنسان طيب في أعماقه فيه استعداد للمودة وللتسامح وصلة ما انقطع لكن يحتاج إلى مخاطبته ومعالجته ومدافعة عناده وإصراره على العداوة بالتي هي أحسن التي تستطيع أن تخترق تلك الحجب ليمس الفطرة التي فطره الله عليها لتتحول عداوته إلى ولاية حميمة وصداقة وثيقة، بخلاف الشيطان فإنه شر محض مفطور عليه لا يقبل رشوة لذلك فلا ينفع معه إلا الاستعاذة بالله. ومن تجليات الوسطية إكرام الله الإنسان بعقيدة التوحيد التي تتميز بسمة التوازن العقلي والروحي، فلا إنكار للألوهية،
(1) فصلت: 34-35.
ولا غلو فيها ولا وثنية، فالوحدانية عقيدة بريئة من التفريط والإفراط والتطرف عن الصراط المستقيم يمينا أو يسارا:{وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} .
ومن تكريم الله للإنسان حق الحياة، فمن قتل نفسا بغير حق أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا، ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا، لكنه إذا ما أزهق روحا متعمدا فالنفس بالنفس، وهو في الآخرة خالد في النار، ومن تكريم الإسلام للإنسان إعلان مبدإ تحرير العبيد عن طريق العتق الذي يعد بابا من أبواب القربات إلى الله، وعن طريق العقاب المالي مثل بعض الكفارات، فالسيد في الإسلام لا يملك إنسانية عبده ولكن يملك رقبته أي عمله وخدمته، أما إنسانيته فلا، فإن جاز له أن يؤدبه فلا يتعدى عشر ضربات مثلما يؤدب أهله (1) . فإن مثل بعبده عتق عليه وهذا مذهب فقهاء الحديث. ولو استكره الرجل عبده أو أمة غيره على الفاحشة عتقا عليه ويضمن لأمة غيره بمثلها (2) .
(1) إعلام الموقعين 49 / 2.
(2)
نفسه 46 / 2.
ولا يُعرف في تاريخ الفتوحات الإسلامية أنها أبادت شعوبا كما فعلت أمم أخرى من أجل إحلال المسلمين مكانهم، أو استعبدت شعوبا كما فعل الآخرون عن طريق الغزو والعدوان وجلبها المستعمرات الجديدة وبيعها في الأسواق كما تباع الأنعام لاستغلالها أبشع استغلال، وإنما كانت الشعوب تسلم عن طواعية، فمن أبى فإنه يعيش على دينه كما نرى ذلك في كثير من بلاد العرب وغيرها مثل الشام:" سوريا ولبنان والأردن وفلسطين والعراق ومصر واليهود في المغرب العربي والسودان ". أما الهند وبلاد فارس والأندلس وغيرها فإن الفتح الإسلامي اعترف أيضا بالآخر ولم يرغم أي واحد على الدخول في الإسلام، في حين عندما انتصر ملوك شبه الجزيرة النصارى أطبقوا على إبادة المسلمين وإحراق كتبهم وتراثهم وتحويل مساجدهم إلى كنائس، إذ لم يبق في إسبانيا ولو كتاب واحد من ملايين الكتب التي ألفها واقتناها ونسخها علماء الأندلس ووراقوها ونساخوها. . أما الكتب التي هي بمكتبة الإسكوريال فهي مغربية الأصل قرصنها قرصان فرنسي وتسلط عليه الإسبان فجعلوها في دير الإسكوريال وقد أتلف جلها بالحرق وغيره!!
ولولا الفتح الإسلامي بالأندلس لاستؤصل اليهود الذين كانوا يتعرضون من حين لآخر إلى مصائب وويلات من لدن ملوك شبه الجزيرة قبل الفتح الإسلامي، وقد نالوا في ظل الإسلام من الحقوق والحظوة والمكانة العلمية والاجتماعية والسياسية ما لا ينكره أحد منهم، أما المسلمون فلا يزالون يبادون إلى اليوم، والبوسنة والشيشان مثال على ذلك.