المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ربط العلم والتقنية بالقيم الخلقية - الإسلام دين الوسطية والفضائل والقيم الخالدة

[عبد السلام الهراس]

الفصل: ‌ربط العلم والتقنية بالقيم الخلقية

و‌

‌ربط العلم والتقنية بالقيم الخلقية

هو الجوهر الأساس لوسطية الإسلام بعد توحيد الله والإيمان بالغيب، ويطلق على هذه القيم: الأخلاق والأدب وتزكية النفس، لذلك نرى اهتمام الحضارة الإسلامية بالجانب السلوكي والتربوي للرفع من مستوى الإنسان المسلم في جميع مناحي حياته وتصرفاته، فالأدب كما يقول ابن القيم:" هو الدين كله "(1) ويقول عكرمة مولى عبد الله ابن عباس: " لكل شيء أساس، وأساس الإسلام الخلق الحسن"(2) . وحقيقة الأدب اجتماع خصال الخير، ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«أدبني ربي فأحسن تأديبي» . وقال له ربه: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} . وما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا ليتمم مكارم الأخلاق كما جاء في الحديث الشريف. والأدب يكون أولا مع الله ومع رسول الله صلى الله عليه وسلم ومع الخلق: بشرا وحيوانا ونباتا وجمادا، لذلك فإن وسطية الإسلام تبرز بشكل قوي في هذه الشبكة العظيمة للأخلاق والآداب التي تحيط بالإنسان في جميع أحواله وعلى جميع مقاماته ومستوياته ومختلف مسؤولياته، كما أحاطت الإنسان المسلم بأدعية وأذكار وكلها مرتبط بإصلاح الباطن. ومضمون تلك القيم يجعل المسلم

(1) مدارج السالكين 384 / 2.

(2)

مشكلة الثقافة ص 81 للأستاذ مالك بن نبي - دار الفكر المعاصر - بيروت- دار الفكر - دمشق- ط4- سنة 1420هـ / 2000م.

ص: 25

متوازنا في حياته نافعا لمجتمعه بل للإنسانية جمعاء، وما يحيط بها من البيئة. وتجعله عنصر إسعاد لنفسه ولغيره. ولنأخذ مثلا لذلك التعامل مع الجار ومواجهة الجهل والجاهل، وحق الطريق، وحق المنابع المائية، وحق المرافق الاجتماعية، وحق الحيوان، وحقوق الوالدين وأصدقائهما، وحق المسلم على المسلم في شتى الأحوال والعلاقات، وحق الرحم ولو كانت كافرة، وحق المواطنين غير المسلمين، بل حق نفسه على نفسه، وحق أهله وأولاده. . . وهناك النوافل المختلفة وفروض الكفاية تجعل من المسلم العضو الصالح والنافع والمسهم بحيوية في تغذية المجتمع بثقافة الخير والمحبة والسلام، وهذه الثقافة تمتاز ما دامت تستمد تعاليمها من منابعها الصافية بالتماسك الداخلي وبالشمول والحيوية والبناء المطرد كالشجرة المباركة.

ص: 26

أما الأدعية والأذكار المشروعة فهي دائما تزكي تلك القيم الروحية والخلقية، وترسخ الجوانب الجميلة والصالحة في تربية الإنسان المسلم من لدن استيقاظه إلى ذهابه إلى النوم لتجعله أثناء ذلك وبعد ذلك عضوا سليما وصحيحا وفعالا من خير أمة أخرجت للناس، ومن أمة الوسط يتمثل فيه الخير والحب والرفق والنفع للدوائر المسؤول عنها كلها. وهكذا يحاط المسلم بكل ما يجعله يمثل حقا إنسان الرسالة السماوية الخالدة.

إن أمة الوسط هي أمة الأخلاق ولكن أي أخلاق، إنها أخلاق حضارية شاملة يعم إشعاعها الداخل والخارج، فهي لا تعرف عنصرية ولا تحيزا، ولا الكيل بمكياليْن أو مكاييل كما وقع في الحضارات البائدة وفي مجتمعات عنصرية معاصرة مثل جنوب إفريقيا، وكما هو واقع الآن في جل المجتمعات الغربية التي فضحتها ممارسات غير أخلاقية غلبت التطبع الذي كان واجهة لا تعبر عن حقيقة ما وراءها. وقد شهدت أخلاق القوم هناك تراجعا وتدهورا تجاه الآخرين ولا سيما المسلمون.

ص: 27

ثم إن للأخلاق الإسلامية حداً متى جاوزت صارت عدوانا، وما قصرت عنه كان نقصا ومهانة.

وضابط ذلك كله العدل كما يقول ابن القيم وغيره، فأعدل الناس من قام بحدود الأخلاق والأعمال والمشروعات معرفة وفعلا (1) .

إن الأخلاق الإسلامية تنشأ مع العقيدة وتسري في العبادات وتتفاعل مع المعاملات، فهي الثمار الجميلة والمفيدة والمطلوبة والمرغوب فيها من الإنسان على اختلاف مشاربه وملله ونحله، وهي أساسا تبدأ بشد الأفراد في المجتمع برباط متين.

(1) صفة الصفوة 2 / 61.

ص: 28

يقول مصطفى صادق الرافعي: " وما الإسلام في حقيقته إلا مجموعة أخلاق قوية ترمي إلى شد المجموع من كل جهة"(1) . ويقول: إنها تضبط الضمير المسلم ضبطا ينعكس انضباطا في الحياة، ويتجاوب مع ما يسن من تشريعات وقوانين عادلة، ذلك الضبط الذي يعبر عنه القرآن بالتقوى. ويقول: إن من خصائص هذا الدين الأخلاقي أنه صُلب فيما لا بد منه للنفس الإنسانية إذا أرادت الكمال الإنساني، ولكنه مرن فيما لا بد منه لأحوال أزمنة مختلفة مما لا يأتي على أصول الأخلاق الكريمة (2) . ومن تلك التقوى والانضباط الروحي والنفسي والعقلي ينشأ الاعتصام بأمر الله جميعا كما نص القرآن الكريم محذرا في الوقت نفسه من التفرق والتنازع والتناحر يقول تعالى:{وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} (3) .

(1) الفوائد لابن القيم ص 140، 141.

(2)

وحي القلم3 / 201.

(3)

آل عمران: 103.

ص: 29

فإذا تحقق الاعتصام وعدم التفرق فإن وراء ذلك نعمة الله على هذه الأمة التي كانت متعادية متفرقة متقاتلة متباغضة فألف الله - سبحانه - بين قلوبهم.

ثم يستمر القرآن الكريم بتحذير هذه الأمة من أن تقع فيما وقعت فيه أمم سابقة، فيجب عليها أن تعتبر حتى لا تكون كأولئك الذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءتهم البينات (آل عمران 105) . ثم تأتي الآية 110 لتخبر المسلمين بأنهم خير أمة أخرجت للناس بالشروط والسمات المذكورة.

ص: 30

إن روح الإسلام هو الذي جعل من عناصر متفرقة وقبائل متناحرة في أم القرى وما حولها وفي المدينة وما حولها ومن عنصري المهاجرين والأنصار أول مجتمع إسلامي متماسك متراص ومتعاون كأحسن ما يكون التعاون، حتى كان الرجل في المجتمع الجديد يعرض على أخيه أن ينكحه من يختار من أزواجه بعد أن يطلقها له كي يبني بذلك أسرة (1) . تلك ملامح من وسطية الإسلام، وهنا يتبادر إلى الذهن سؤال مشروع: أين الأمة التي تمثل وسطية الإسلام؟ وبعبارة أخرى: أين أمة الوسط؟ فهل هي التي كانت في العهد الأول على عهد رسول الله وعهد خلفائه الراشدين قبل أن تتحول إلى ملك عضوض ثم جددها الخليفة الخامس عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه؟ إن تجريد الأمة من وسطيتها من بعد العصرين النبوي والراشدي ظلم كبير، فقد امتد الإسلام امتداد ضياء الشمس في الأرض وما زال يمتد. وإن تراثه العظيم وحضارته العظيمة وثقافته السامية النبيلة ما يزال العالم يستفيد منها ويشيد بها، وما يزال لهذا الدين نفوذه وقوته عبر العالم. ولقد أعلنت أمريكا أنه أسلم من جيشها في السعودية فقط أثناء إقامته هناك ثلاثة آلاف فرد (3000) ، وقد أعلن بعض من كان يمارس الدعوة في وسط الجيش

(1) 3 / 202.

ص: 31

الأمريكي أن العدد أضعاف مضاعفة ، وكذلك الأمر بالكويت وغيرها من بلاد الخليج والآن في العراق، بل قد أعلنت الدوائر الأمريكية المسؤولة أن عدة حراس بقاعدة "غوانتانامو" أسلموا على يد الأسرى المسلمين هناك ، كما أعلنت داخلية فرنسا أنه أسلم في فرنسا خلال عشر سنوات حوالي خمسين ألف فرنسي. ولعل الرقم مضاعف ثلاث مرات على الأقل حسب ما نشاهد وما يقال لنا من مصادر موثوقة. إن ظاهرة دخول الناس في الإسلام مطردة ومتنامية، ونحن نعيش في وسط هذه الظاهرة بالنسبة لأسبانيا، فلا يكاد يمر أسبوع دون أن يزور بعض مراكز إخواننا الدعاة في إسبانيا وفي المغرب أفراد وأسر بكاملها دخلت في الإسلام أو تريد أن تشهد للدخول فيه، وما يقع في العالم الغربي يقع في العالم الثالث وخاصة أفريقيا التي هي مستقبل الإسلام بحول الله وقوته.

ص: 32

وما ذلك إلا لوجود طائفة ذات حجم مهم يدعون إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة ويجادلون بالتي هي أحسن، فالعالم الإسلامي مصنف - ما عدا ماليزيا - من العالم الثالث، وهو عموما في مجمله فقير متخلف علميا وتقنياً، ولكنه عالم غني بقيمه الخلقية السامية وبكثير من عاداته النبيلة مما يجعل ظاهرة التأثير الإسلامي قوية عبر العالم غير الإسلامي متحضرا أو متخلفا. يقول مالكولم إيكس في رسالة مشهورة بعثها أثناء حجه بمكة المكرمة إلى بعض أقربائه ومعارفه وإلى والاس محمد بن شيخه إليجه محمد قال فيها:"لم أعرف أبدا في حياتي ضيافة في مثل هذا الصدق والأخوة وفيما تبعثه من العواطف العميقة كلقاء الرجال والنساء من جميع الأجناس المجتمعين على هذه الأرض القديمة المقدسة، موطن إبراهيم ومحمد الذين ورد ذكرهما في القرآن الكريم. . . إن أمريكا بحاجة إلى أن تفهم الإسلام لأنه هو الدين الوحيد الذي لا يعرف التمييز العنصري ".

هذا الحج أرغمني على مراجعة بعض الأفكار التي كنت أعدها أفكاري، وعلى بعض النتائج التي كنت قد توصلت إليها. . .

ص: 33

لقد فكرت وأنا أراهم لو أن البيض الأمريكيين كانوا يقرون بوحدانية الله كانوا هم أيضا يقرون بوحدانية الإنسان، وأنهم سوف يكفون عن مجابهة الآخرين والإضرار بهم لأسباب تتعلق باللون.

ونرى أن التمييز العنصري هو سرطان أمريكا الحقيقي، وأن مصيرها سيكون مثل مصير ألمانيا النازية إلا إذا عكفت على الحل الإسلامي للمشكلة لإنقاذ أمريكا من كارثة توشك أن تحل بها. . . ". ووقع باسم الحاج مالك ثبار وتحت ذلك مالكولم إيكس (1) . ومازلت أذكر كلمة قالها لي أحد الأمريكيين وكان فيما مضى قاضيا وهو أسود، وقد أسلم تايسون على يده:

" إن نعمة الإسلام نعمة كبيرة وعظيمة لا يشعر بها المسلمون، إنما نحن الذين نشعر بها عندما أسلمنا فشعرنا بالفرق الهائل بين النقم التي كنا نعيش بها وضنك الحياة والخواء الروحي وسوء الأخلاق التي كنا نعانيها وبين نعمة الإسلام التي ملأت قلوبنا اطمئنانا وسكينة، وغيرت أخلاقنا ونظرتنا إلى العالم حتى أصبحنا نرثي لأعدائنا ونعطف عليهم ونسعى لضمهم إلى قافلة المنعم عليهم بالإيمان ".

(1) مذكرات مالكولم إيكس - ترجمة ذوقان قرقوط - دار الآداب - بيروت 1968م.

ص: 34

لذلك لا غرابة أن يسلم كبار القوم وصغارهم وما بين الطرفين، وقصص إسلام هؤلاء على رغم أن بعضها سجل إلا أن آلاف الأحوال لم تسجل، وما أوتينا من علم ذلك إلا قليلا.

وقد أصلح الحاج مالك ثبار بعض آرائه وأفكاره مثل مستر نوكس الذي كان من الفهود السود وصار ينظر إلى الرجل الأبيض نظرة إسلامية بعيدة عن التطرف والتعصب والتمييز العنصري نتيجة للنظرة الأمريكية العنصرية. وقال لي أحد أقطاب جماعة عباد الرحمن ببيروت آخر الستينيات: إنهم احتفلوا بالحاج مالك ثبار ورسخوا في ذهنه فكرة أن التفاضل بين الناس ليس على أساس العرق أو اللون أو المال وإنما أكرمكم عند الله أتقاكم.

ص: 35

ومن المعلوم أن لدعاة المملكة العربية السعودية أثرا واضحا في إصلاح أفكار الرجل وتسديد موقفه من البيض ومن غير المسلمين. . . وقبله أسلم في المملكة على عهد الملك عبد العزيز رحمه الله ليوبولد فايس (محمد أسد) ولو لم يكن لهذا الرجل في الإسلام إلا " الإسلام على مفترق " و " الطريق إلى مكة" لكفاه. فقد أضاف كتبا أخرى ومنها: ترجمة لمعاني القرآن الكريم إلى الإنجليزية الذي يعده الأستاذ الدكتور سيد دسوقي حسن أحسن ترجمة أنجليزية إلى الآن، كما يعتمد عليه بعض قدماء الدكاترة المسلمين والإسبان مثل عبد السلام منصور إسكوديرو. وقد ظل محمد أسد يعيش في ظل كرم بعض رجالات السعودية الأكارم إلى وفاته 1992 / 2 / 19 بالأندلس بإسبانيا (1) . إن سر انتشار الإسلام في الأوساط الغربية وكذا روسيا وسطيته وتوازنه وتجاوبه مع الفطرة والعقل السليم انطلاقا من توحيد الله إلى إماطة الأذى عن الطريق، ولما تحمله تعاليمه من قوة روحية نافذة قد تخترق الحجب لتستقر في الروح والوجدان دون إرادة صاحبه كما يعبر عن ذلك محمد أسد الذي لم يشعر إلا والإسلام قد ملأ روحه وأضاء جميع وجدانه بنور الحق. . . والقصص الرائعة لبعض من أسلم من

(1) انظر: المقال القيم عن «محمد أسد» المنشور في «المجلة العربية السعودية» ص 59 رجب 1413 هـ للكاتب الكبير الشيخ عبد العزيز الرفاعي رحمه الله.

ص: 36

الغربيين جديرة بالتسجيل. لكن بقدر ما يعتز المسلم بما يحققه الإسلام من انتشار مبارك في العالم يشعر بالحزن والأسى للواجهات المشوهة التي تعرض على العالم غير المسلم بما يصدر عن " بعض " المسلمين من تصرفات مشينة وأفكار سيئة ومواقف منفرة. وقد كثر هذا النوع الذي يطلق عليه أستاذنا مالك المحامي المورط الذي يجعل من دفاعه الأرعن عن الإسلام البريء أكبر حجة على إدانته والحكم عليه. وليت الأمر يقف عند حد الكلام، بل إنه يتحول إلى أفعال مفزعة واندفاعات إجرامية شنيعة. والمؤسف أكثر أن الدعوة الإسلامية تحولت عند هؤلاء إلى محاكم التفتيش تقوم على التكفير والتفسيق واستباحة دماء الأبرياء مما يناقض وسطية الإسلام وسماحته وجماله ورحمته ودعوته إلى الرفق وحسن الظن والتيسير والمحبة والاحترام واللطف وحسن الآداب مع الجميع:{وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} (1) . وهذا النوع من المسلمين يخلون برسالتهم في تمتين أواصر المحبة بالداخل وفي تشتيت الجهود للبناء الاجتماعي وتضييع الفرص المتاحة لاستدراك ما فات الأمة من اللحاق بالأمم المتقدمة مثلما وقع للمسلمين عندما نبتت خلالهم ومن وسط التقوى

(1) آل عمران: 159.

ص: 37

والصلاح والزهد وحب آل البيت تيارات زعزعت الشبكة الاجتماعية للبناء الإسلامي كالخوارج، فإن الجهود الجبارة والشجاعة النادرة والاستماتة العجيبة والاستهانة بالموت في سبيل المبادئ ومظاهر عمق التدين والتعلق بالآخرة وإيثارها على الحياة الدنيا بدل أن تكون هذه الخصال الحميدة قوة دفع للمسلمين ونشر الدعوة في الخارج كانت عوامل هدم للمسلمين بالداخل عاقت الفتوحات ونشرت روح التمرد وفتحت أبواب الفتن بين العوام، فما تبنيه الحكمة في دهر تهدمه الحدة في وقت وجيز كما يقول محمد عبده فيما ضيعته حدة أستاذه جمال الدين الأفغاني رحمه الله.

ص: 38

إن على المؤسسات العلمية المسؤولة عن الدعوة الإسلامية وعن الجامعات الإسلامية والمنظمات الإسلامية الرسمية التعاون الصادق مع المنظمات وجماعات الدعوة العاقلة والمتزنة والمشهود لها بالحكمة والإخلاص والغيرة على الأمة وقضاياها، ومع أعلام الفكر الإسلامي ورجالاته العاملين في حقول الدعوة بصفة فردية لتدارك الأخطار المقبلة والمهددة بالقيام بالتخطيطات على المدى القريب والبعيد لانتزاع التوجيه والإرشاد وشؤون الفقه والدين والتربية والتكوين والفتوى من مساعر الحرب والفتن والأيدي والجهات التي انتهجت السلوك المشين والاضطرابات المؤسفة التي لا تزيد الأمة إلا تأخرا وتنشر خلالها روح التقاطع والتدابر وكل ما يمزق الشبكة التي يَمْتَنّ الله بقوتها وتلاحمها وتآلفها على المسلمين.

ص: 39

وقد رأينا محاولات فردية وغير فردية تتصدى لهذا الفكر وتعمل على انتزاع إمامته للشباب منه، تلك الإمامة التي تعزز اتجاهها المدمِر بإيهام الشباب بأن مرجعيتها من الكتاب والسنة وفقه السلف الصالح وكبار الأئمة والمصلحين. والحقيقة أن هناك من يعتمد في مواقفه وسلوكه وفقهه على أئمة هم براء مما يصدر عن هؤلاء الذين يورطون الأمة ويوقعونها في مشاكلات عويصة لا قِبَل لهم بحلها.

إن السلفية الحقة بريئة من اتجاه التكفير والتفسيق والخروج على الأمة وتوريطها في نزاع مع الخارج وإعطاء صور مشوهة عن الإسلام والمسلمين مما يثير شعوب العالم على هذا الدين وأصحابه في وقت أصبح الإسلام أكثر الأديان تأثيرا وقبولا. . . فلو لم يكن هذا الدين محجوبا بسلوك أولئك الذين يشوهون حقيقته لكان للإسلام والمسلمين في هذا العصر شأن وأي شأن. يقول الإمام الذهبي رحمه الله عن شيخه ابن تيمية رحمه الله الذي يتكئون على بعض فقهه الذي لم يفهموه: " كان شيخنا ابن تيمية في أواخر أيامه يقول:

ص: 40

" أنا لا أكفر [أحدا] من الأمة، ويقول: " قال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا يحافظ على الوضوء إلا مؤمن» فمن لازم الصلوات بوضوء فهو مسلم ". ويقول الذهبي: إنه يدين بما سمعه من شيخه وبما بلغه عن الإمام الأشعري رحمه الله" الذي عندما قرب حضور أجله دعا زاهر بن أحمد السرخسي وكان الإمام يقيم معه في داره قال:

" فأتيته فقال: اشهد عليّ أني لا أكفر أحدا من أهل القبلة لأن الكل يشيرون إلى معبود واحد وإنما هذا كله اختلاف في العبارات "(1) .

بل إن الإمام ابن تيمية رحمه الله يرى عدم قتال طائفة وصفها رسول الله صلى الله عليه وسلم بالباغية سواء كان ذلك بتأويل أو بغير تأويل لما ينشأ عن ذلك من الفتنة، ويقول:" وكل ما أوجب فتنة وفرقة فليس من الدين (2) ". وأئمة الإسلام وعلماؤه مجمعون على هذا الفقه، وهو فقه لا يروق نفسيات ساخطة وعقولاً صغيرة وعلوماً ناقصة.

ومما يغيب عن بال كثير ممن يتعاطى الدعوة أن منشأ الفتنة لا يكون من ترك ما أمر الله به فقط، وإنما من ترك الصبر أيضا.

وروى ابن تيمية أن الذي لم يعرف الحق وقصر في معرفته وزاد على ذلك فقد أصاب ثلاثة ذنوب (3) .

(1) سير أعلام النبلاء 15 / 88.

(2)

الاستقامة 1 / 36-37.

(3)

نفسه 39.

ص: 41

ومن فقه هذا الإمام أنه يزودنا بأفكار عظيمة مبثوثة في كل كتبه، من هذه الأفكار الرائعة التي تغيب عن كثير من ذلك النوع من الدعاة الذين كادت الساحات تمتلئ بهم وذلك تجنبا للفتنة وحفاظا على الأمن والاستقرار يقول:

" ولهذا نجد الناس يفضلون من كان من الملوك ونحوهم إنما يظلم نفسه بشرب الخمر والزنا أو الفواحش ويتجنب ظلم الرعية ويتحرى العدل فيهم على من كان يتجنب الفواحش والخمر والزنا وينتصب لظلم الناس في نفوسهم وأموالهم وأعراضهم (1) .

ونرى كذلك من نتائج هذا الفكر المجانب للوسطية الإسلامية أنه يثير فتنا كثيرة بسبب بعض من يراه غير أهل للإمامة لجرح شاع عنه أو رآه عليه فلم يستره وإنما جعله ديدنه ففضحه وهتك أستاره، وربما حاول أن ينصحه ففضحه أو عنفه واشتد عليه على رؤوس الأشهاد. يقول الإمام ابن تيمية رحمه الله:

" ولو علم المأموم أن الإمام مبتدع يدعو إلى بدعته، أو فاسق ظاهر الفسق وهو الإمام الراتب الذي لا تمكن الصلاة إلا خلفه كإمام الجمعة والعيدين والإمام في صلاة الحج بعرفة ونحو ذلك فإن المأموم يصلي خلفه عند عامة السلف والخلف". وهو مذهب أحمد والشافعي وأبي حنيفة وغيرهم.

(1) نفسه 466.

ص: 42

ولهذا قالوا في العقائد: إنه يصلي الجمعة والعيد خلف كل إمام برا كان أو فاجرا.

فإن الصلاة في جماعة خير من صلاة الرجل وحده وإن كان الإمام فاسقا.

ومن ترك الجمعة والجماعة خلف الإمام الفاجر فهو مبتدع عند الإمام أحمد (1) .

وهذه الأفكار منتشرة كثيرا في تراثنا الإسلامي، من ذلك ما قاله العالم الجليل الشيخ أحمد زروق الفاسي في قواعده:" حفظ النظام واجب، ومراعاة المصلحة العامة لازمة، فلذلك أجمعوا على تحريم الخروج عن الإمام بقول أو فعل حتى انجر إجماعهم على الصلاة خلف كل بر وفاجر من الولاة وغيرهم ما لم يكن فسقه في عين الصلاة "(2) .

(1) فتاوى ابن تيمية 23 / 353.

(2)

قواعد التصوف، ص 69.

ص: 43

إن القراءات الجزئية والمبتسرة لفقه بعض العلماء بما يناسب أهواء الغلاة ويرضي انحرافهم أو فهمهم القاصر أو تأويلهم الفاسد كل ذلك أو بعضه يعد المسؤول عن هذه الفتن التي نشأت عن فتاوى وأفكار كانت تغترف من هذه المدارس التي يتزعمها أنصاف العلماء الذين أصبحوا يرددون أمام العوام كلمة قالها قبلهم كبار الأئمة وكانوا يعرفون ما يقولون: (نحن رجال وهم رجال) دون أن يعرفوا معنى ذلك، والعجب أن هذه " المقولة " أصبح يرددها بعض العوام بإجازة من " شيوخهم " الذين ألهاهم التكاثر!! وما أصدق الحكمة الآتية:" من رأيته مجيبا عن كل ما سئل، ومعبِّرا عن كل ما شَهِدَ، وذاكرا كل علم فاستدل بذلك على وجود جهله "(1) .

(1) الحكم العطائية - الحكمة 68.

ص: 44

إن الدراسة الشاملة والمتأنية لأئمة نسبت إليهم أقوال ومواقف وفتاوى تبين لنا بوضوح أنها لم تكن كذلك لأنهم أسمى من أن يقعوا فيما ينسب إليهم؛ وممن ظلم فيمن ظلم من أئمتنا بجعله مرجعا لبعض أولئك الشيخ المصلح: محمد بن عبد الوهاب حتى أصبحت"الوهابية"(1) تهمة حتى في بعض البلاد الإسلامية بعدما كانت قد خمدت حدتها لبيان حقيقتها. كما عانت بعض الحركات الإسلامية في عنفوان المذهب الاشتراكي ما عانت بما كان ينشر عنها من دعايات مشينة ونفس الأمر وقع لمصلحين كبار اتهموا اتهامات تخرجهم من الملة.

إن الإمام محمد بن عبد الوهاب مثلا كتب إلى بعضهم رسالة يقول له فيها:

(1) لا يوجد مذهب وهابي لا في العقيدة ولا في الفقه، وإنما الأمر اختراع تركي سياسي بشحن هذا «المصطلح» بمفتريات لا صلة لها بالحقيقة، إن الإمام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله كان على مذهب الإمام ابن حنبل رحمه الله.

ص: 45

" إذا تبين هذا فالمسائل التي شنع بها، منها ما هو من البهتان الظاهر، وهي قوله: إني مبطل كتب المذاهب. وقوله:" إني أقول: إن الناس من ستمائة سنة ليسوا على شيء. وقوله:" إن اختلاف العلماء نقمة. وقوله:" إني أكفر من توسل بالصالحين. وقوله:" إني أكفر البوصيري لقوله: يا أكرم الخلق. وقوله: " إني أقول لو أقدر على هدم حجرة الرسول صلى الله عليه وسلم لهدمتها، ولو أقدر على الكعبة لأخذت ميزابها وجعلت لها ميزابا من خشب. وقوله:" إني أنكر زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم. وقوله:" إني أنكر زيارة قبر الوالدين وغيرهم وإني أكفر من يحلف بغير الله. فهذه اثنتا عشرة مسألة جوابي فيها أن أقول: {سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ} (1) .

(1) مؤلفات الشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب- القسم الخامس- الرسائل الشخصية ص64 - نشر جامعة الإمام - الرياض.

ص: 46

إن من أخطر ما يورط المسلمين ويعطي انطباعات سيئة عن الإسلام هذه النزعة الخوارجية التي تدعو للدين دون زاد كاف أو فقه سليم أو سلوك قويم، ومن ذلك دعوة بعضهم لإقامة دولة الخلافة الإسلامية في ديار الغرب حيث تستغلها أجهزة الإعلام المغرضة لإفزاع الشعوب الغربية من الإسلام والمسلمين، وترسيخ ربط الإرهاب بالدين وبالمسلمين معا على طريقة نظرية " بافلوف الروسي ". ومن المظاهر المؤلمة ما يقوم به بعضهم من فتن داخل الشعوب الإسلامية الحديثة العهد بالاستقلال عن روسيا.

لذلك يجب تدارس جدي لإنقاذ أنفسنا قبل فوات الأوان.

إن الوسطية الإسلامية يجب أن تتحول إلى مؤسسات فكرية تربوية ذات مناهج علمية محكمة تهدف إلى صياغة المسلم صياغة تحقق التغيير النفسي الداخلي المشروط في القرآن الكريم ليتحقق التغيير الخارجي: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} {سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا} .

ص: 47

وقبل أن نطالب الآخرين أن يتغيروا يجب أن نتغير نحن لكن وفق ما نطمح إليه من ضبط الداخل والخارج حسب مقاصد الشريعة السامية وحقائقها الخالدة. إن المهمة الملحة هي إعداد النفوس لعملية التغير والتغيير الداخليين لصيانة الذات وتحصينها، وحينئذ نكون قد تجاوزنا دركات النفس الأمارة حتى تترسخ في النفوس تلك الدوافع النبيلة والنوازع الخيْرية فتنضبط حركةً نحو الخير وسكونا عن الشر، وتنصهر حتى تصبح روحا واحدة وجسدا واحدا في اتجاه البناء الجديد كأن الجميع نفس واحدة، وإنسان الظالم لنفسه إلى الارتقاء في الشروع في السير خلال النفس اللوامة التي تمثل المسلم المقتصد حتى نحقق الاستقرار على طريق المسيرة في مدارج النفس المطمئنة أو المسلم السابق بالخيرات بإذن الله. فكلما توافرت للأمة النسبة العالية للنوع الثالث استطاعت أن تأخذ مكانتها المحترمة بين أمم العالم، ولعل هذا ما يعنيه القرآن الكريم والله أعلم بقوله تعالى: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ

ص: 48

الْكَبِيرُ} (1) . فالنوع الثالث أكرمه الله بتربية عالية تجعل حسناته ترجح سيئاته، وهو من النوع الذي يقضي حقوق الآخرين دون أن يقتضي حقوقه ممن هضمه إياها، فهو إنسان تضحية ونكران الذات، وهمه أن تكون أمته قائدة رائدة فلا يحاسبها على ساعة العمل، فهو يعطي أكثر مما يأخذ. ولا ضير أن يكون بجانبه الإنسان المقتصد الذي يقوم بواجباته قدر ما يأخذ من حقوقه (2) . ولكن النوع الظالم لنفسه هو المثبط والمتثبط فإن ارتفاع نسبته في الأمة يؤذن بالتأخر والتخلف وربما بالسقوط. يقول مالك بن نبي رحمه الله في كتبه وأحاديثه:" إن الرقي والتقدم لا يتحقق إلا في مجتمع يتوافر فيه فائض الواجبات " ويضرب مثلا بألمانيا واليابان بعد الحرب العالمية الثانية.

(1) فاطر: 32.

(2)

لعل القائل هو ابن القيم في مدارج السالكين.

ص: 49

ولكي نحقق ذلك يجب إسناد الأمر إلى ذويه وأهله من رجال التربية والسلوك والقدوة الحسنة الذين تتوافر فيهم شروط، العلم وأعني به علم الشرع وعلم الواقع أي المجال الذي يعمل فيه. والحكمة: وهي الخبرة العميقة التي تجعله قادرا على التعامل بأحسن الأساليب وأنجح الوسائل وأنسب الآليات وأجمل فنون الاتصال لنقل فكرته وتفهيمها بوضوح ودقة مع حسن التأثير والتجاوب وتحقيق أحسن النتائج، بما يضاف إليها من الصفة الحسنة والجدل بالتي هي أحسن، ولم توصف الحكمة بأحد الوصفين المذكورين لأنها الأحسن في ذاتها لا تحتاج إلى وصف زائد (1) . ولعل البصيرة تجمع العلم والحكمة ثم الورع والصلاح ليكون الداعية قدوة مؤثرة بالسلوك والعمل.

(1) انظر: طريق الهجرتين لابن القيم: ص212-213، تحقيق الدكتور وهبة الزحيلي- دار الخير - دمشق- بيروت 1419هـ.

ص: 50

إن الثروة البشرية العالمة والعاملة في ميدان الدعوة إلى الإسلام داخل البلاد وخارجها كبيرة وكثيرة ومتنوعة وغنية وفي المستويات اللائقة، لكن عليها أن تتناسق وتتعاون فيما بينها قبل فوات الأوان، وعليها أن تتعاون أيضا مع الدول الإسلامية وأنظمتها المختلفة ما أمكن لها ذلك وعلى الأقل أن تتجنب الصدام مع أولي الأمر ذلك أن الأمة كلها مهدَّدَة. فقد ظهر جليا أن كل توتر داخلي يشيع روح السخط والتبرم وسوء الظن خلال المجتمع ويجر إلى عواقب وخيمة قد تمتد إلى البنيات التحتية للإسلام والقواعد الراسخة في الأمة مما يجعلها طعمة سائغة للمؤامرات الخارجية بما يصيبها من وهن وتمزق. ولقد اعترف قادة من هنا ومن هناك بأن الأفعال من جانب وردودها من جانب آخر كانت الأمة هي الخاسرة في الأولى والأخيرة، بل لدينا روايات شفوية مؤكدة أن من الأخطاء الفادحة التعاونَ على تقويض بعض الأنظمة لفسادها أو بدعوى ذلك لما ترتب على تقويضها من فساد أكبر هو الذي نتجرع مرارته كل لحظة بعد أن كانت الأنظمة الثورية تمني شعوبا بالفردوس وبتطهير البلاد من الصهيونية وعملائها فإذا بهذه الشعوب في قعر الجحيم وسواء السعير تبكي على الماضي الصالح الذي

ص: 51

كانت الأمة تتمتع فيه بكثير من الحقوق، وتعيش في مستوى معيشي وثقافي وسياسي واجتماعي وأخلاقي لم تصل في ظل الانقلابات وما بعدها حتى إلى ربعه.

إن وسطية الإسلام يجب أن نمثلها في سلوكنا وأفكارنا وتعاملنا فيما بيننا أولا ثم ننقلها إلى الخارج لا من خلال الأفكار فقط ولكن من خلال السلوك. ولو استطعنا أن نصل إلى قمم القيم الإسلامية وقمم الحقيقة الإسلامية واستطعنا أن ننزل إلى هضاب الحضارة الغربية المتعطشة فنرويها بالحقيقة الإسلامية وبالهدى الإسلامي لأضفنا إليها بعدا جديدا، " لأن الحضارة العلمانية، حضارة الصاروخ، حضارة الإلكترون اكتسبت هذه الأشياء وضيعت بعدا تشعر بفقدانه وهو بعد السماء "(1) .

(1) دور المسلم ورسالته في الثلث الأخير من القرن العشرين ص 38 مالك بن نبي - دار الفكر - دمشق - 1398هـ.

ص: 52