الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فصل
وهذه نبذةٌ مختصرةٌ من سيرةِ والدِ عبد الملكِ أبي حفصٍ عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه ونَفَعَ بها
قال عمر بن عبد العزيز لصاحب حرسِهِ عمرو بن مهاجر. إذا رأيتني قد مِلْتُ عن الحق فضع يدك في تِلْبابي (1) ثم هُزَّني ثم قل لي: يا عمر، ما تَصْنَعُ؟ وكتب عمر إِلَى المسلمين كتابًا يُقرأ عليهم بالموسم بمكة:
أَمَّا بَعْدُ، فَإِنِّي أُشْهِدُ اللهَ وَأَبْرَأُ إِلَيْهِ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ، وَالْبَلَدِ الْحَرَامِ وَيوْمِ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنِّي بَرِيءٌ مِنْ ظَلَمَكُمْ، وَعُدْوَانِ مِنَ عَادَاكُمْ، أَنْ أَكُونَ أَمَرْتُ بِذَلِكَ أَوْ رَضِيتُ بِهِ أَوْ تَعَمَّدْتُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ وَهْمًا مِنِّي، أَوْ أَمْرًا خَفِيَ عَلَيَّ لَمْ أَتَعَمَّدْهُ، وَأَرْجُو أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مَوْضُوعًا عَنِّي مَغْفُورًا لِي، إِذَا عَلِمَ مِنِّي الْحِرْصَ وَالِاجْتِهَادَ، ألا وَإِنَّهُ لا { .... } (2) عَلَى المَظْلُوم دُونِي، وَأَنَا مِعْوَلُ المَظْلُومٍ، ألا وَأَيُّ عَامِلٍ مِنْ عُمَّالِي رَغِبَ عَنِ الْحَقِّ وَلَمْ يَعْمَلْ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ فَلا طَاعَةَ لَهُ عَلَيْكُمْ، وَقَدْ صَيَّرْتُ أَمَرَهُ إِلَيْكُمْ، حَتَّى يُرَاجِعَ الْحَقَّ وَهُوَ ذَمِيمٌ، ألا وَإِنَّهُ لا دَوْلَةَ بَيْنَ أَغْنِيَائِكُمْ وَلا أَثَرَةَ عَلَى فُقَرَائِكُمْ فِي شَيْءٍ مِنْ فَيْئِكُمْ. ألا وَأَيُّمَا وَارِدٍ وَرَدَ فِي أَمْرٍ يُصْلِحُ اللهُ بِهِ خَاصًّا أَوْ عَامًّا مِنْ هَذَا الدِّينِ، فَلَهُ مَا بَيْنَ مِائَةِ دِينَارٍ إِلَى ثَلَاثِمِائَةِ دِينَارٍ، عَلَى قَدْرِ مَا نَوَى مِنَ الْحَسَنَةِ وَتَجَشَّمَ الْمَشَقَّةِ، فَرَحِمَ اللهُ امْرَأً لَمْ يَتَعَاظَمْهُ سَفَرٌ يُحْيِي اللهُ بِهِ حَقًّا لِمَنْ وَرَاءَهُ، وَلَوْلا أَنْ أَشْغَلَكُمْ عَنْ مَنَاسِكِكُمْ، لَرَسَمْتُ لَكُمْ أُمُورًا مِنَ الْحَقِّ أَحْيَاهَا اللهُ لَكُمْ، وَأُمُورًا مِنَ الْبَاطِلِ أَمَاتَهَا اللهُ عَنْكُمْ، وَكَانَ اللهُ هُوَ الْمُتَوَحِّدُ بِذَلِكَ؛ فَلَا تَحْمَدُوا غَيْرَهُ، فَإِنَّهُ لَوْ وَكَّلَنِي إِلَى نَفْسِي كُنْتُ كَغَيْرِي، وَالسَّلَامُ عَلَيْكُمْ.
(1) قيل لبيت فلانًا، إذا جمعت ثيابه عند صدره ونحره، ثم جررته "لسان العرب"(1/ 733).
(2)
كلمة غير واضحة بالأصل، وفي "المطبوع" إذن.
(3)
في "الأصل" برئيًا.
وكتب بعضُ عمال عمر بن عبد العزير إِلَيْهِ أما بعد، فإن مدينتنا قد خربَتْ فإن رأى أميرُ المؤمنين أن يقطع لنا مالاً نُعمرها به، فعل فكتب إِلَيْهِ. أما بعدُ، فقد فهمتُ كتابك وما ذكرتَ أن مدينتكم قد خربتْ، فَإِذَا قرأت كتابي هذا فأحصنها بالعدلِ، ونقِّ طرقها من الظلمِ، فإنه مرضها والسلام.
وكتب إِلَيْهِ بعض عماله أيضاً:
إِنَّ ناسًا من العمال قد اقتطعوا من مالِ الله مالاً عظيمًا، لستُ أقدر عَلَى إخراجه منهم، إلا أن يمسَّهم شيءٌ من العذاب؛ فإن رأى أميرُ المؤمنين أن ياذن لي في شيء من ذلك.
فكتب إِلَيْهِ عمر:
«أَمَّا بَعْدُ فَالْعَجَبُ كُلَّ الْعَجَبِ اسْتِئْذَانُكَ إِيَّايَ فِي عَذَابِ بَشَرِ، كَأَنِّي لَكَ جُنَّةٌ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ عز وجل وَكَأَنَّ رِضَائِي عَنْكُمْ مُنْجِيكُمْ مِنْ سَخَطِ اللَّهِ، فانظر من قامْت عليه البينةُ فخذه بما قامت عليه، ومن أقر لك بشيءٍ فخذهُ بما أقر به، ومن أنكر فاستحلفْه بالله -تعالى- وخلِّ سبيله، فوالله لأنّ يلقوا الله بجناياتهم أَحَبّ إلي من أن ألقى الله بدمائِهم.
وبلغ عمر بن عبد العزيز أنَّ أحد أولاده اشترى فصًّا بألف درهم ليختم به، فكتب إِلَيْهِ عمر: عزيمة مني عليك يا بُني لما بعتَ الفَصَّ الَّذِي اشتريت بألف درهم، وتصدقت بثمنه، واشتريت فصَّا بدرهم ونقشت عليه: رحم الله امرأ عرف قدر نفسه والسلام.
وشكا مزاحم إِلَى عمر حاجةَ أهلِ عمر وقلةَ ما بأيديهم، فَقَالَ عمر: إِنَّ لي نفسًا توَّاقةً، لقد رأيتُني وأنا بالمدينة غلامٌ من الغلمان، ثم تاقت نفسي إلي العِلْم والعربية والشعرِ فأخذت منه حاجتي. ثم تاقت نفسي إِلَى السلطان فاستُعملتُ عَلَى المدينة. ثم تاقت نفسي وأنا في السلطان إِلَى اللبسِ والعيشِ الطيب، فما علمتُ أن أحدًا من أهل بيتي ولا غيرهم كان فيما كنتُ فيه، ثم
تاقت نفسي إِلَى الآخرة والعمل بالعدل؛ فأنا أرجو أن أنال ما تاقت إِلَيْهِ نفسي من أمرِ آخرتي، ولستُ بالذي أُهلكُ آخرتي بدُنياي.
وكان عمر يقول لجلسائه: من صحبني منكم فليصحبني بخمس خصال: يدلني من العدلِ ما لا أهتدي له، ويكونُ لي عَلَى الحق عونًا، ويبلغني حاجة من لا يستطيعُ إبلاغها، ولا يغتاب عندي أحدًا، ويؤدي لي الأمانة التي حملها مني ومن الناس؛ فَإِذَا كان كذلك فأهلاً به وإلا فهو في حَرَجٍ من صُحبتي والدخول عليَّ.
وكتب عمر إِلَى عاملِهِ عَلَى فلسطين: أن اركب إِلَى البيت الَّذِي يقال له: المكس (1) فاهدمه ثُم احمله إِلَى البحر فانسفه في اليم نسفًا.
وشكا إِلَى عمر بن عبد العزيز بعضُ عمالِهِ فكتب إِلَيْهِ: اذكر طولَ سهرِ أهل النارِ في النار مع خلودٍ إِلَى الأبد، وإياكَ أن ينصرفَ بك من عند الله فيكون آخر العهد، وانقطاع الرجاء. فلما قرأ العامل الكتاب، طوى البلاد حتى قدم عَلَى عمر، قال: ما أقدمك؟! قال: خلعت قلبي بكتابك، والله لا أعود إِلَى ولايةٍ حتى ألقى الله عز وجل!
وكتب عمر إِلَى بعض مدن الشام كتابًا وكتب فيه:
أما بعد، فكم للترابِ في جسدِ ابن آدم من مأكلٍ، وكم للدودِ في جوفِهِ من طريق منخرقٍ، وإني أحذركم أيها الناس ونفسي العرضَ عَلَى الله عز وجل.
وكان عمر يجمع الفقهاء كل ليلة، فيتذاكرون الموت والقيامةَ، ثم يبكون كأن بين أيديهم جنازةً.
وكان عمر يومًا في بيتٍ فبكى، فبكت زوجته، فبكى أهل الدارِ لا يدري
(1) المكس: هو الجباية وهي الدارهم التي كانت تؤخذ من بائع السلع في الأسواق. "لسان العرب"(6/ 20).
هؤلاء ما أبكى هؤلاء، فلما انجلت عنهم العبرةُ قالت له زوجتُهُ: يا أمير المؤمنين، مم بكيت؟ قال: ذكرت منصرف القومِ من بين يدي الله عز وجل فريق في الجنة وفريق في السعير. ثم صرخ وغشي عليه.
وكان آخر خطبة خطبها عَلَى المنبر رحمه الله أن حمد الله وأثنى عليه فقال فيها: إنكم لم تُخلقوا عبثاً، ولن تُتركوا سدى، وإن لكم معاداً ينزلُ اللهُ فيكم ليحكم بينكم، ويفصلَ بينكم، خابَ وخسرَ من خَرَجَ من رحمةِ الله، وحُرمَ جنَّةً عرضُها السماوات والأرض، ألم تعلموا أنه لا يأمن غداً إلا من حذرَ الله اليومَ وخافه، وباعَ نافدًا بباقٍ، وقليلاً بكثير، وخوفاً بأمان. ألا ترون أنكم في أسلاب الهالكين، وسيصيرون من بعدكم للباقين، وكذلك حتى نردَّ إِلَى خيرِ الوارثين، ثم إنكم تشيعونَ كل يومٍ غاديًا ورائحًا قد قضى نحبه، وانقضى أجله حتى تغيبوه في صدع من الأرض، وفي شق صدعٍ، ثم تتركونَهُ غير ممهَّد ولا موسَّدٍ، قد فارق الأحبابَ وباشرَ التُّرابَ وواجهَ الحسابَ، مرتهنٌ بما عمل، غنيٌّ عما تركَ، فقيرٌ إِلَى ما قدم، فاتقوا الله عز وجل قبل نزول الموت وحلولِهِ بكم، أما والله إني لأقول هذا، وما أعلم عند أحدٍ من الذنوب أكثرَ مما عندي، وأستغفرُ الله وأتوب إِلَيْهِ، وما منكم من أحدٍ {له} (1) حاجة، لا يتسع له ما عندنا إلا تمنيتُ الله أن يبدأ بي وبخاصّتي حتى يكون عيشُهُ وعيشنا واحدًا، إنه والله لو أردت غير هذا من غضارَةِ (2) العيش، لكان اللسان دلولاً وكنت بأسبابه عالمًا، ولكن سبق من الله كتاب ناطق وسنة عادلة، دلَّ فيها عَلَى طاعته ونهى فيها عن معصيته. ثم رَفعَ طرَفَ ردائه وبكى حتى شهق وأبكى من حوله، ثم نزل ولم يخطب بعدها حتى مات رحمه الله.
وكتب عمر إِلَى عاملِهِ عَلَى البصرة:
(1) ليست بالأصل، وأثبتها لتناسب السياق.
(2)
الغضارة: النعمة والسعة في العيش. "لسان العرب" مادة: (غضر).
أما بعد، فإني أذكرك بليلةٍ تمخض (1) بالساعة، فصباحها القيامة، يا لها من ليلةٍ ويا له من صباحٍ كان عَلَى الكافرين عسيرًا.
وبكى عمرُ ذات ليلة فاشتد بكاؤه، فلما أصبح قال لغلامه: يا بني، ليس الخير أن يُسمع لك ويُطاع، وإنما الخير أن تعقل عن ربك ثم تطيعه، يا بُني لا تأذن اليوم لأحدٍ عليَّ حتى يرتفع النهار؛ فإني أخاف أن لا أعقل عن الناس ولا يفهموا عني. فَقَالَ الغلام: بأبي أنت يا أميرَ المؤمنين، رأيتك الليلة بكيتَ بكاءً ما بكيتَ مثله. قال: فبكى ثم قال: يا بني، إني والله ذكرتُ الوقوفَ بين يدي الله عز وجل قال: ثم غمي عليه فلم يُفق حتى علا النهار. قال: فما رأيتُهُ بعد ذلك مبتسمًا حتى ماتَ رحمه الله.
وجاء أعرابي يومًا إِلَى عمر بن عبد العزيز، فَقَالَ: يا أمير المؤمنين، جاءت بي الحاجَةُ وانتهت الغايةُ، والله سائلك عني يوم القيامة. قال: ويحك! أعدْ عليَّ. فأعاد عليه؛ فنكَّسَ عمر رأسه وأرسل دموعَهُ حتى ابتلَّت الأرض، ثم رفع رأسه فَقَالَ: ويحك كم عيالك وكم أنتم؟ قال: أنا وثلاثُ بنات. ففرض له عَلَى ثلاثماثة وفرض لبناتِهِ عَلَى مائة وأعطاه مائة درهم وقال: هذا من مالي وليس من أموال المسلمين، اذهب فاستنفقها حتى تخرجَ أعطياتُ المسلمين وتأخذَ معهم.
وأتاه رجل من أهل أذربيجان فقام بين يديه فَقَالَ: يا أمير المومنين، اذكُر بمقامي هذا بين يديك مقامًا لا يشغل اللهَ عز وجل عنه كثرةُ من يتخاصم من الخلائق، يوم تلقاهُ بلا ثقةٍ من العمل، ولا براءةٍ من الذنب. فبكى عمر بكاءً شديدًا ثم قال: ويحك، اردد عليَّ كلامَكَ هذا. فجعل يردِّدُه وعمر يبكي وينتحب، ثم قال: حاجَتَك؟ قال: إِن عامل أذربيجان عدا عليَّ وأخذ
(1) يقال: تمخضت الليلة عن يوم سوء إذا كان صباحها صباح سوء. "لسان العرب" مادة: (مخض).
مني اثني عشر ألف درهم، فجعلها في بيت مال المسلمين فَقَالَ عمر اكتبوا له الساعة إِلَى عاملها حتى يردَّ عليه.
ووعظه رجل من الصالحين يومًا فَقَالَ له يا أمير المؤمنين، ما {من} أمة محمد صلى الله عليه وسلم إلا هو خصمٌ لك. فبكى عمر حتى تمنى ذلك الرجل أنه لم يكن قال شيئًا.
وقال عمر بن عبد العزيز يومًا لخالد بن صفوان: عظني وأوْجز. فَقَالَ: يا أمير المؤمنين، إِنَّ أقوامًا غرهم ستر الله تعالى عليهم، وفتنهم حسن الثناء، فلا يغلبن جهلُ غيركَ بك معرفتَكَ بنفسك. أعاذني الله وإياك أن نكون بالسترِ مغرورين، وبثناء الناس مفتونين، وعما افترض علينا متخلفين، وإلى الهوى مائلين. فبكى عمر ثم قال: أعاذنا الله وإياك من اتّباع الهوى.
وقال خالد بن صفوان يومًا لعمر: إِنَّ الله لم يَرضَ أن يكون أحد فوقك فلا ترض أن يكون أحدٌ (فوقي)(1)، فوالله لأخافنه خوفًا، ولأحذرنه حذرًا، ولأرجونه رجاءً، ولأحبَّنَّهُ محبةً، ولأشكرنَّه شكرًا، ولأحمدنه حمدًا، يكون ذلك كله طاقتي، ولأجتهدنَّ في العدلِ والنِّصفَةِ والزُّهْد في الدُّنْيَا لزوالها، والرغبة في بقاءِ الآخرة ودوامها حتى ألقى الله عز وجل؛ فلعلي أنجو مع الناجين، وأفوز مع الفائزين. وبكى حتى غشي عليه، وقام خالد وتركه عَلَى حاله.
وقرأ عمر بن عبد العزيز يومًا هذه الآية: {وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ} (2) فبكى عمر بكاءً شديدًا حتى سمعه أهلُ الدارِ، فجاءت زوجته، فجعلت تبكي لبكائه، وبكى أهل الدار لبكائهما، فجاء ابنه عبد الملك فدخل عليهم وهم عَلَى تلك الحال فَقَالَ: يا أبه ما يبكيك؟! قال: خير يا بني، ودَّ أبوك أنه لم يعرف الدُّنْيَا
(1) كذا! ولعلها: "فوقه قال: ".
(2)
يونس: 61.
ولم تعرفه، يا بني لقد خشيتُ أن أهلك، يا بني لقد خشيت أن أكون من أهل النار.
ودخل يومًا سابق البربري الشاعرُ عَلَى عمر بن عبد العزيز، فَقَالَ له عمر: عظني يا سابق وأوْجز. قال: نعم، وأبلغ يا أمير المؤمنين إن شاء الله. قال: هات. فأنشده:
إِذَا أَنْتَ لَمْ تَرْحَلْ بِزَادٍ مِنَ التُّقَى
…
وَوَافَيْتَ بَعْدَ الْمَوْتِ مَنْ قَدْ تَزَوَّدَا
نَدِمْتَ عَلَى أَنْ لا تَكُونَ شركتهُ
…
وَأَرْصَدْتَ قَبْلَ المَوْتِ مَا كَانَ أَرْصَدَا
فَبَكَى عُمَرُ حَتَّى خَرَّ مَغْشِيًّا عَلَيْهِ.
وأنشد يومئذ قصيدةً حسنة، مشتملة عَلَى حكم ومواعظ، أنشدها لعمر بن عبد العزيز ونحن نذكرها ونختم بها الكتاب.
قال متمثلاً:
بسم الَّذِي أُنْزِلت من عندِهِ السُّور
…
والحمد للهِ أما بعدُ يا عمرُ
إِن كنتَ تعلمُ ما تأتِى وما تذر
…
فكُن عَلَى حَذَرٍ قد ينفَعُ الحذرُ
واصبرْ عَلَى القَدَر المقدورِ وارضَ به
…
وإن أتاك بما لا تشتهي القَدرُ
فما صفا لامرئ عيشٌ يُسرُّ به
…
إِلا وأعْقَبَ يومًا صفوَهُ كَدَرُ
قد يرعوي المرء يومًا بعد هفوته
…
وتحكم الجاهلَ الأيامُ والغيرُ
إِنَّ التقى خيرُ زادٍ أنتَ حاملُهُ
…
والبرّ أفضَلُ ما تأتي وما تذَرُ
من يطلُبِ الجورَ لا يَظْفَر بحاجتِهِ
…
وطالبُ العدلِ قد يُهدى له الظَّفَرُ
وفي الهدى عِبرٌ تشفى القلوبُ بها
…
كالغيثِ تنضُرُ عن وسمِّيه (1) الشَّجَرُ
وليس ذو العِلْمِ بالتقوى كجاهلها
…
ولا البصيرُ كأعمى ما له بَصَرُ
لا تَشْبَعُ النفسُ حتى حين تحرزُهُ
…
ولا يزال لها فى غيرِه وَطَرُ
ولا تزالُ وإن كانَتْ لها سعَةٌ
…
لها إِلَى الشيءِ لم تظفرْ به نَظَرُ
والذكرُ فيهِ حياةٌ للقلوبِ كما
…
يُحيي البلادَ إذا ما ماتَت المطرُ
والعلمُ يجلو العمى عن قلْبِ صاحبِهِ
…
كما يجلي سوادَ الظُّلمَةِ القمرُ
لا ينفعُ الذكرُ قلبًا قاسيًا أبدًا
…
وهل يَلينُ لقولِ الواعِظِ الحجَرُ
ما يلبثُ المرءُ أن يبلى إذا اختَلفَتْ
…
يومًا عَلَى نفسِهِ الدَّوحاتُ (2) والغِيَرُ (3)
والمرءُ يَصْعَدُ ريعانُ الشباب به
…
وكلُّ مُصعدَةِ يومًا ستنحَدِرُ
(1) وسميه: الوسمي هو مطر أول الربيع. "لسان العرب" مادة (وسم).
(2)
الدوائح: العظائم. "لسان العرب" مادة: (دوح).
(3)
الغير: تغير الدهر من حال إِلَى حال. انظر "لسان العرب" مادة: (غير).
بينا نرى الغُصْنَ لدْنًا في أرومتِهِ (1)
…
ريانَ صارَ حُطامًا جوفُهُ نَخِرُ
وكل بيتٍ خرابٌ بعد جدَّتِهِ
…
ومن وراءِ الشبابِ الموتُ والكبرُ
والموتُ جسرٌ لمن يمشي عَلَى قَدَمٍ
…
إِلَى الأمورِ التي تُخشَى وتُنتَظَرُ
فهم يمرّون إليها وتجمَعُهُم
…
دارٌ إليها يصيرُ البدوُ والحَضَرُ
فكم جميعٍ أشتت الدهرُ شملهُمُ
…
وكلُّ شَمْلٍ جميعٍ سوف ينتشرُ
ورُبَّ أصيدَ سامي الطرفِ متعصبٍ
…
بالتاجِ نيرانُهُ للحربِ تستَعِرُ
يظل مفترشَ الديباجِ محتجبًا
…
عليه تُبنى قباب الملكِ والحُجَرُ
قد غادرتْهُ المنايا وهو مُستَلبٌ
…
مجدَّلٌ تربُ الخدينِ مُنعفرُ
أبعْدَ آدمَ ترجون البقاءَ وهل
…
تبقى فروع لأصلِ حين ينعقِرُ
لهم بيوتٌ بمستن السيوفِ وهل
…
يبقى عَلَى الماء بيتٌ أسُّهُ مَدَرٌ
إِلَى الفناءِ وإن طَالَتْ سلامتُهُم
…
مصيرُ كل بنى أنثى وإن كثروا
إِنَّ الأمور إذا استقبلتها اشتَبَهتْ
…
وفي تدبُّرها التبيانُ والعِيَرُ
(1) أرومته: أصله. "لسان العرب" مادة: (روم).
والمرءُ ما عاش فى الدُّنْيَا له أملٌ
…
إذا انقضى سفرٌ منها أتى سَفَرُ
لها حلاوةُ عيشٍ غيرُ دائمةٍ
…
وفي العواقبِ منها المُرُّ والصَّبرُ
إذا انقضت زمرٌ آجالُها نزلتْ
…
عَلَى منازلها من بعدِها زُمَرُ
وليس يزجرُكم ما توعظون به
…
والبُهم يزجرُها الراعي فتنزجر
أصبحتم جُزُرًا للموت يقبضكم
…
كما البهائمُ في الدُّنْيَا لها جزُرُ
لا تبطروا واهجروا الدُّنْيَا فإن لها
…
غبًّا وخيمًا وكفرُ النعمةِ البَطرُ
ثم اقتدوا بالألى كانوا لكُمْ غررًا
…
وليس من أمةٍ إلا لها غُرَرُ
حتى تكونوا عَلَى منهاجِ أوّلكُمْ
…
وتصبروا عن هوى الدُّنْيَا كما صبروا
ما لي أرى الناس والدنيا مُوَلّيةٌ
…
وكل حبل عليها سوف يَنبَتِرُ
لا يشعرون بما في دينهم نقصوا
…
جهلاً وإن نقصت دُنياهُمُ شعروا
***