المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الباب الثالثفي ذكر زهده في الدنيا وقناعته باليسير وبعده من الإسراف - سيرة عبد الملك بن عمر بن عبد العزيز - جـ ٢

[ابن رجب الحنبلي]

الفصل: ‌الباب الثالثفي ذكر زهده في الدنيا وقناعته باليسير وبعده من الإسراف

‌الباب الثالث

في ذكرِ زُهدِهِ في الدُّنْيَا وقناعتِهِ باليسيرِ وبُعدِهِ من الإسراف

روى ابنُ المبارك في كتاب "الزهد"(1) له بإسناده عن ميمون بن مهران قال: قال لي عمر بن عبد العزيز: أما دخلت عَلَى عبد الملك -يعني ابنه. قال: فأتيت الباب فَإِذَا وصيف، فقلت: استأذن لي عليه فَقَالَ: ادخل؛ فإن عنده الناس، أو أمير هو؟ فدخلت عليه، فَقَالَ: من أنت؟ فعرف. ثم حضر طعامُهُ فأُتى بقَلية مدنية -وهي عظام اللحم- ثم أتي {بثريدة} (2) قد {ملئت خبزًا} (3) وشحمًا، ثم أتي بزبد وتمر، فقلت: لو {كلمتَ أمير المؤمنين} (3) يخصُّكَ منه بخاصةٍ. فَقَالَ: إني {لأرجو أنه} (3) يكون أوفى حظًّا عند الله من ذلك. إني في ألفين {كان} (3) سليمان ألحقني فيهما، والله لو كان أبي في نفسه لما فعل، ولي غلة بالطائف إِنَّ سلمت لي أتاني غلَّة (4) ألفُ درهم، فما أصنع بأكثر من ذلك. فقلت في نفسي: أنتَ لأبيك.

وقد رُويت هذه القصة من وجهٍ آخر، وأن ميمون بن مهران قال: دخلت عَلَى عبد الملك وبين يديه قليلٌ من طعامٍ فما منعني من الأكلِ معه إلا الأبق عليه.

وروى الدورقي بإسناده عن ميمون بن مهران قال: قال عمر بن عبد العزيز: ابني عبد الملك قد أُعجبتُ به، فما أدري أهو كذلك أم حبُّ الوالِد للولد؟ فأنا أَحَبُّ أن تأتيَهُ فتسبر ما عنده، فإن كان عَلَى ما ظننتُ أخبرتني فحمدتُ الله عليه، وإن كان غير ذلك أدَّبتهُ؛ فإنما هو ابنُ أخيك.

(1)(ص310) رقم (888).

(2)

في "الأصل": بثرة، والمثبت من "الزهد" لابن المبارك.

(3)

طمس بالأصل، والمثبت من "الزهد".

(4)

الغَلَّة: الدخل من كراء دار، وأجر غلام، وفائدة أرض. "ترتيب القاموس"(3/ 363).

ص: 482

قال ميمون بن مهران فانتهيتُ إِلَيْهِ فاستأذَنتُ فدخلتُ عليه، وإذا تحته مِسحٌ (1) خلق وشاذكونة خلقة ومرفقة (2) قد ترفق بها، فوسَّع لي لأجلس معه، فجلست مقابله، فقلت: ما ها هنا أحبُّ إلي وإذا بين يديه مائدةٌ عليها ثلاثةُ أرغفةٍ وقصعة فيها خَل وزيتٌ. فقلت: هذا طعامُك في كل يوم؛ فَقَالَ: إِنَّ أمير المؤمنين صيَّر الدهر أثلاثًا: فيومٌ خبزٌ ولحم، ويومٌ لبن، ويومٌ خبزٌ وزيت. فبينا أنا كذلك إذ جاء غلام له فَقَالَ: قد فَرَّغناها. فأعرض عنه فعاود، فقلت: ما هذا الَّذِي فرغ؟ قال: الحمام. قلت: هل الحمامُ لك؟ قال: لا. قلت: فلأحد من إخوانك؟ قال: لا. قلت: فلأحدٍ من أهل بيتك؟ قال: لا. قلت: فلأمير المؤمنين؟ قال: لا. قلت: فبم استحللتَ أن تفرغَ حمامَ المسلمين فلَعلَّ إذا رجل يجيء من أقصى المدينةِ فيحالُ بينه وبين الحمام، أو تعطيه بقدر شغل حمامه؛ فهذه نفقةٌ باطلة، هذا أريد أن أُنهيَهُ (3) إلي أمير المؤمنين. قال: أوتسترُ علي يا عم، واللهِ ما يسرني أنه وَجَدَ عليَّ ساعة من نهار، ثم أتاني عنه الرضا، ولا أنَّ ليَ الدُّنْيَا وما فيها، ولك عليَّ ألا أدخل الحمام إلا ليلاً ومع ضعفةِ الناسِ. قال: قلت له: افعل. فخرجت من عنده، فما رأيت أفضل من عمر بن عبد العزيز، ولا ابنًا أفضل من عبد الملك رضي الله عنهما.

وقد رُويته هذه القصة من وجه آخر، وفيه: أن عبد الملك قال: لولا برد بلادنا ما دخلته -يعني: الحمام- ليلاً ولا نهارًا.

وأنه إِنَّمَا كان امتناعه من دخوله مع الناس، خشية أن يرى فيه منكرًا، {فيؤدب} (4) فاعله، فربما خشي أن يجاوز حدَّ الأدب {أو أن يُنسَبَ} (4) إِلَى شيء من الظلم في ذلك، وسيأتي {ذكر} (4) ذلك فيما بعد -إِنَّ شاء الله تعالى.

(1) المسح: الكساء من الشعر. "لسان العرب"(2/ 596).

(2)

المرفقة: المتكأ والمخدة.

(3)

أنهيه. أنهي الشيء أي أبلغه

(4)

طمس بالأصل، والسياق يقتضيها.

ص: 483

هذا مع أن طائفة من أعيان العُلَمَاء رأوا خلاء الحمام وزيادة صاحبِهِ كذلك لما في مثل ذلك من السلامةِ من رؤيةِ المنكراتِ مثل كشفه للعورة وغيرها.

وممن رأى ذلك عروة بن الزبير وأبو جعفر بن علي الباقر وسفيان الثوري رحمهم الله.

وأما ميمون بن مهران فقد كرِه ذلك؛ وعلَّلَ بأنه قد يأتي الرجلُ الضعيفُ من مكان بعيدٍ فيُمتنعُ من دخوله حينئذ لإخلائه، وعلَّلهُ أيضاً في رواية أخرى بأن هذه نفقةُ كبر وسرَفٍ، ولكن هذا إذا كان المقصودُ بإخلائه مجرد التكبر والتعاظُمِ دونَ السلامةِ من رؤيةِ المنكراتِ، والله أعلم.

***

ص: 484