المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌المبحث الثاني: السيماء التربوية لنفسية المرأة - سيماء المرأة في الإسلام بين النفس والصورة

[فريد الأنصاري]

الفصل: ‌المبحث الثاني: السيماء التربوية لنفسية المرأة

‌المبحث الثاني: السيماء التربوية لنفسية المرأة

تقوم السيماء التربوية للمرأة في الإسلام على ثلاثة أركان، ذات أبعاد جمالية خاصة، هي من لطائف الأنثى خِلْقَةً، ومن أسرارها العميقة. وهي كما يلي:

أولا- جمالية الأنوثة:

الأنوثة هي سر الجاذبية الخِلْقية في المرأة. والأنوثة في الإسلام مفهوم تكاملي؛ ومن هنا جماليته. أي أن به يُحَصِّل الرجل كمالَه، من حيث هو جنس بشري، وبدونه فهو ناقص أبدا. وكذلك المرأة في المقابل لا تكون إلا بالرجولة التي على أخيها أن يحفظها ويرعاها لها! و (الجمالية التكاملية) هي المذكورة في قوله تعالى:{هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ} (البقرة:187)؛ ومن هنا وجدنا الإسلام ينهى بشدة عن (تَرَجُّلِ المرأة) أي تشبهها بالرجل؛ لما فيه من فقدان الهوية الفطرية، للتكاملية الإنسانية، ثم لما فيه من إخلال بالتوازن الجنسي، والجمالي في الخلق. فالأنوثة حقيقة وجودية ضرورية لاستمرار النسل من ناحية، وضرورة وجودية للشعور بمعنى الحياة لدى الجنسين، بما يكون من إنتاج للوظيفة البشرية في بناء الأسرة. ومن ثَمَّ؛ من وظيفة عمرانية في قيام الحضارات، واستمرار التاريخ إلى ما شاء الله. فكان الترجل النسوي لذلك تهديدا للوجود الإنساني وخرما لتوازنه! وقد وردت أحاديث عن الرسول الأكرم صلى الله عليه وسلم في هذا الخصوص من مثل قوله صلى الله عليه وسلم:(ثلاثة لا ينظر الله إليهم يوم القيامة: العاق لوالديه، والمرأة المُتَرَجِّلَةُ المتشبهة بالرجال، والدَّيُّوثُ! وثلاثة لا يدخلون الجنة: العاق لوالديه، والمدمن الخمر، والمنان بما أعطى)(1).

(1) رواه أحمد والنسائي والحاكم عن ابن عمرو. وصححه الألباني. انظر حديث رقم: 3071 في صحيح الجامع.

ص: 38

ومثله قوله صلى الله عليه وسلم: (ثلاثة لا يدخلون الجنة أبدا: الدَّيُّوثُ، والرَّجُلَةُ من النساء، ومدمن الخمر)(1). وعن عائشة رضي الله عنها أنه صلى الله عليه وسلم قال: (لعن الله الرَّجُلَةَ من النساء!)(2)

والترجل في المرأة قد يكون شكليا كما باللباس، أو طريقة الكلام، أو المشي، أو نحو ذلك من الشكليات الظاهرة، وقد يكون بدنيا بتغيير خلق الله في نفسها، بالجراحات الطبية المحرمة التي تؤثر على طبيعتها الأنثوية، ووظيفتها الوجودية. وكل ذلك حرام بنص الأحاديث ومقاصد الشريعة. ومن هنا حرم الإسلام حتى مجرد التشبه بالرجل بله الترجل، كما حرم على الرجل التشبه بالنساء سواء! وذلك كما في قوله عليه الصلاة والسلام:(لعن الله المتشبهات من النساء بالرجال والمتشبهين من الرجال بالنساء!)(3)

وقال في خصوص التشبه في اللباس: (لعن الله الرجلَ يلبس لَبْسَةَ المرأة، والمرأةَ تلبس لبسةَ الرجل)(4). فالأنوثة إذن؛ مقصد إسلامي وجودي وتشريعي، وكل خرم له هو خرم لحقيقة التدين ولحقيقة الحياة.

ثانيا- جمالية الحياء والتخفي:

الحياء ضد الفحش والتفحش، وضد البَذَاء. وجمالية الحياء هي من المقتضيات الفطرية للأنوثة. والحياء بطبيعته يميل إلى التخفي؛ لأن به يحفظ وجوده في النفس وفي المجتمع. إن الحياء كالزئبق، بمجرد ما ترفع عنه الغطاء

(1) رواه الطبراني عن عمار بن ياسر. وصححه الألباني. انظر حديث رقم: 3062 في صحيح الجامع الصغير.

(2)

رواه أبو داود، وصححه الألباني. انظر حديث رقم: 5096 في صحيح الجامع.

(3)

رواه أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجه عن ابن عباس. وصححه الألباني. انظر حديث رقم: 5100 في صحيح الجامع.

(4)

رواه أبو داود والحاكم عن أبي هريرة. وصححه الألباني. انظر حديث رقم: 5095 في صحيح الجامع.

ص: 39

يطير في الهواء ويتلاشى! ومن هنا كان لا حياء مع العري، وكان لا حياء مع البروز الفاضح. التخفي سر بقاء الحياء، والحياء سر بقاء الجمال! وإنما جمال الوردة ما لم تقطف! فإذا قطفت فركتها الأيدي ففقدت بهاءها، فلا جمال بعد! ومن هنا كانت الوردة الأجمل هي تلك المحصنة بين خضرة الأوراق وتيجان الأشواك!

والحياء عموما مبدأ إسلامي كلي، عام في كل شيء، سواء كان في الأقوال، أو في الأفعال، أو في الألبسة، أو في التصرفات وسائر الحركات. وهو معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم الجامع المانع:(ما كان الفحش في شيء قط إلا شَانَه، ولا كان الحياء في شيء قط إلا زَانَه)(1). كما أنه كان عاما في كل إنسان، من حيث هو مسلم يحمل عقيدة معينة، وانتماء حضاريا متميزا. ولذلك قرنه النبي صلى الله عليه وسلم بالإيمان في قوله:(إن الحياء والإيمان قُرِنَا جميعا، فإذا رفع أحدهما رفع الآخر)(2)، ومثله قوله صلى الله عليه وسلم:(الحياء من الإيمان، والإيمان في الجنة، والبَذَاءُ من الجفاء، والجفاء في النار)(3).

ثم جعله بعد ذلك سلوكا يوميا، وتعبدا عمليا، وربطه بالله جل وعلا؛ معرفةً بجلال وجهه، وعظمة سلطانه، وجمال إنعامه، فقال صلى الله عليه وسلم: (استحيوا من الله تعالى حق الحياء! من استحيا من الله حق الحياء فليحفظ الرأس وما وعى،

(1) رواه أحمد والترمذي وابن ماجه عن أنس. وصححه الألباني. انظر حديث رقم: 5655 في صحيح الجامع.

(2)

رواه الحاكم والبيهقي عن ابن عمر. وصححه الألباني. انظر حديث رقم: 1603 في صحيح الجامع.

(3)

رواه الترمذي والحاكم والبيهقي في شعبه عن أبي هريرة، كما رواه ابن ماجه والحاكم والبيهقي عن أبي بكرة. ورواه الطبراني والبيهقي في الشعب عن عمران بن حصين. وصححه الألباني. انظر حديث رقم: 3199 في صحيح الجامع.

ص: 40

وليحفظ البطن وما حوى، وليذكر الموت والبِلَى! ومن أراد الآخرة ترك زينة الحياة الدنيا. فمن فعل ذلك فقد استحيا من الله حق الحياء!) (1)

لقد قصدت بإيراد هذه النصوص أن أبين أن الحياء مقصد من أهم المقاصد الشرعية، التي تداني ما سطره العلماء في مقاصد الشريعة. وتَتَبُّعُ هذا المعنى بالمنهج الاستقرائي في النصوص الشرعية؛ يجعل منه كليا من أهم الكليات الخلقية في الإسلام.

ذلك ما يتعلق بالحياء مطلقا في الإسلام، أعني من حيث هو خُلُقٌ إسلامي عام في الرجال والنساء على السواء، وإن كان وجوده في المرأة أجلى وأبين وأجمل.

إلا أن المرأة في الشريعة الإسلامية اختصت منه بلطائف ومعان، ليست على الرجل، ضبطا وتشريعا. فكثيرة هي الأعمال التي أنيطت بالمرأة دون الرجل؛ رعيا لمقصد الحياء! فكل ما أوجب عليها التستر الجسمي أو الحركي أو الصوتي؛ فهو راجع إلى هذا المعنى.

فأما التستر الجسمي فهو ما فرض الله عليها من اللباس الإسلامي، في محكم القرآن العظيم، من قوله تعالى:{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَن يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا} (الأحزاب:59)، وما فصلته السنة النبوية في ذلك، من جزئيات بيانية توضيحية، من مثل قوله صلى الله عليه وسلم: (ما من امرأة تخلع ثيابها في

(1) رواه أحمد والترمذي والحاكم والبيهقي عن ابن مسعود. وحسنه الألباني. انظر حديث رقم: 935 في صحيح الجامع.

ص: 41

غير بيتها إلا هتكت ما بينها وبين الله) (1). ومثله قوله صلى الله عليه وسلم: (أيما امرأة نزعت ثيابها في غير بيتها خرق الله عز وجل عنها ستره)(2).

وأما التستر الحركي فهو ما فرضه الله عليها من الاتزان في المشي وفي الصلاة، وما حرمه عليها من التغنج في الشوارع، والأماكن التي يغشاها الرجال. قال تعالى:{وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنَّ} (النور:31) ومنعها من إمامة الرجال في الصلاة؛ لما فيه من كشف لحركة جسمها ومفاتنه عند الركوع والسجود! ونحو ذلك في الشريعة كثير.

وأما التستر الصوتي فهو متعلق بتلحين أنغامها الصوتية خاصة، وما في معناه من تغنج صوتي، وليس متعلقا بمطلق الصوت طبعا! وذلك كمنعها من الأذان، وتجويد القرآن بمحضر الرجال الأجانب عنها. ومن باب أولى وأحرى منعها من الغناء للرجال، وتلحين الصوت عند الكلام العام؛ قصد التأثير الجنسي على الرجل من غير الزوج! وذلك كله إنما هو مقدمات الزنى. ويجمع هذه المعاني قول الله تعالى الصريح:{فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَّعْرُوفًا} (الأجزاب:32).

كل ذلك إنما كان رعيا لجمالية الحياء الأنثوية في المرأة، وحفظا لفطرتها النفسية ولطائفها الوجدانية، وحمايتها من التسيب الخلقي الذي هو باب كل شر!

وعليه؛ فقد كان التخفي في الإسلام مطلبا تعبديا للمرأة في كل شيء؛ حتى في صلاتها! وبهذا المنطق يجب فهم حديث النبي صلى الله عليه وسلم الذي جعل صلاتها في بيتها أفضل -في الأجر والمثوبة- من صلاتها في المسجد، على عكس ما

(1) رواه أبو داود والترمذي عن عائشة. وصححه الألباني. انظر حديث رقم: 5692 في صحيح الجامع.

(2)

رواه أحمد والطبراني والحاكم والبيهقي عن أم سلمة. وصححه الألباني. انظر حديث رقم: 2708 في صحيح الجامع.

ص: 42

سنه للرجل تماما. وذلك قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: (صلاة المرأة في بيتها أفضل من صلاتها في حجرتها، وصلاتها في مخدعها، أفضل من صلاتها في بيتها!)(1) وأوضح منه قوله صلى الله عليه وسلم: (لأن تصلي المرأة في بيتها خير لها من أن تصلي في حجرتها، ولأن تصلي في حجرتها خير لها من أن تصلي في الدار، ولأن تصلي في الدار خير لها من أن تصلي في المسجد)(2)

وعن أم حميد امرأة أبي حميد الساعدي (أنها جاءت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله إني أحب الصلاة معك. قال: "قد علمت أنك تحبين الصلاة معي، وصلاتك في بيتك خير من صلاتك في حجرتك، وصلاتك في حجرتك خير من صلاتك في دارك، وصلاتك في دارك خير من صلاتك في مسجد قومك، وصلاتك في مسجد قومك خير من صلاتك في مسجدي! " قالت: فأَمَرَتْ؛ فَبُنِيَ لها مسجد في أقصى بيت في بيتها، وأظلمه، فكانت تصلي فيه حتى لقيت الله عز وجل (3).

كل هذا التخفي في العادات والعبادات؛ إنما هو لحفظ جمالية الحياء. ذلك المقصد الذي يشكل سرا من أسرار الجمال في الأنثى!

وبهذه النصوص والمقاصد؛ يدرك المتبصر مقدار المخالفة الشرعية، في جمالية الحياء والتخفي، بين مثال المرأة المسلمة وبين حالها في واقعها المعاصر! فانظر -رحمك الله- كم هي بذيئة حالة الاستعراض التي تمارسها المرأة اليوم

(1) رواه أبو داود عن ابن مسعود، ورواه الحاكم عن أم سلمة. وصححه الألباني. انظر حديث رقم: 3833 في صحيح الجامع.

(2)

رواه البيهقي في سننه عن عائشة. وحسنه الألباني. انظر حديث رقم: 5039 في صحيح الجامع.

(3)

رواه أحمد والطبراني. وقال الهيثمي في مجمع الزوائد: "ورجال أحمد رجال الصحيح غير عبد الله بن سويد الأنصاري، ووثقه ابن حبان". ولذلك قال ابن حجر في فتح الباري: "وإسناد أحمد حسن".

ص: 43

على الملأ، في الشوارع والأماكن العامة، تقليدا لعادات اليهود والنصارى! بل لقد وصل الجهل بمثل هذه الحقائق؛ أن صار كثير ممن ينتسبن إلى التدين والعفاف؛ لا يجدن حرجا في الخروج مع أزواجهن، مشيا على هيأة من التغنج الفاضح، والتلاصق المخجل! خاصة الأزواج الحديثي العهد بالزواج. وكأن كونهما مرتبطين بعَقد شرعي كاف لتسويغ حالة الاستهتار الخلقي، التي يمارسانها على الملأ، من التخاصر والتمايل. فما بالك بمن دونهما من الساقطين والساقطات! لقد فقد الناس الإحساس بالحياء! وفسدت أذواقهم إلا قليلا!

ثالثا- جمالية الأمومة:

الأمومة في الإسلام مفهوم خاص، وكذلك سائر مفاهيم الأسرة، كالأبوة، والبنوة، والعمومة والخؤولة

إلخ.

يخطئ من يظن أن تلك المصطلحات كما وردت في النصوص الشرعية، من كتاب وسنة؛ هي بالمعنى البيولوجي التناسلي فقط! كلا! إنها مفاهيم تعبدية! فالأبوة بالمعنى الجنسي، أو الأمومة بالمعنى التناسلي؛ كلاهما مفهوم بيولوجي له دلالة جنسية، يشترك فيها بالتساوي الإنسان مع سائر البهائم، والحيوانات الأهلية والوحشية!

إن المفاهيم الأسرية في الإسلام لها دلالة متفرعة عن مفهوم (الرَّحِم) بمعناه الإسلامي. و (الرحم) مصطلح قرآني أصيل، مشتق من (الرحمة)، يدل على معنى ديني مقدس في الإسلام. وهو الرابطة التعبدية التي تربط الناس فيما بينهم؛ بعلاقات تناسلية مبنية على مبادئ الشريعة. فلا يدخلها من الفروع والأصول إلا من كان نتاج عقد شرعي كامل!

ومن هنا فقَدَ الزاني مفهومَ (الأبوة) لما وُلِدَ له في الحرام؛ فلم يكن (أبا) بهذا الاعتبار! ولذلك لم يَجُزْ أن يلحق ابن الزنى بأبيه البيولوجي في أي شيء؛

ص: 44

نسبا وإرثا! لأن الأب في الإسلام إنما هو من كان له ولد شرعي من عقد شرعي.

والأصل في ذلك أن الله تعالى جعل الرحم، التي هي رابطة الأسرة في الإسلام؛ مَعْنىً تعبديا، لا يجوز انتهاكه بتغيير أو تبديل، ولا بقطع صلة؛ أي قطع العلاقات بين الفروع والأصول، عموديا أو أفقيا. بل جعل صلتها عملا تعبديا كسائر العبادات الأخروية المقرِّبة من الله تعالى. وجعل رتبتها التعبدية مقرونة في القرآن بتقوى الله ذاته جل وعلا. وذلك قوله سبحانه:{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} (النساء:1).

وقال النبي صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه من الحديث القدسي: (قال الله تعالى: أنا خلقت الرحم وشققت لها اسما من اسمي، فمن وصلها وصلته، ومن قطعها قطعته، ومن بتَّهَا بتَتُّه!)(1) ومثله قوله عليه الصلاة والسلام: (الرَّحِمُ شُجْنَةٌ من الرحمن. قال الله: من وصلك وصلته، ومن قطعك قطعته!)(2) والشُّجْنَةُ هنا: القرابة المشتبكة كاشتباك العروق والأغصان. وفي صحيح مسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (الرحم معلقة بالعرش تقول: من وصلني وصله الله، ومن قطعني قطعه الله!)(3) فتجاوز مفهوم (الرحم) أن يكون مجرد غشاء من اللحم في بطن المرأة لحمل الجنين، بل تعدى هذا المفهوم للدلالة على العلاقة التعبدية بين أفراد الأسرة من الأصول والفروع عموديا وأفقيا. وهذا سر القوة

(1) رواه أحمد، وأبو داود والترمذي والحاكم عن عبد الرحمن بن عوف، كما رواه الحاكم عن أبي هريرة. وصححه الألباني. انظر حديث رقم: 4314 في صحيح الجامع.

(2)

رواه البخاري

(3)

رواه مسلم.

ص: 45

والصمود في بقاء الأسرة -بالمعنى الإسلامي- عبر التاريخ، رغم كل أشكال التذويب الثقافي، الذي تعرض له المسلمون في كل مكان!

إن الرحم نفسها بالمعنى البيولوجي، أي الغشاء الجنيني، هي راجعة في الاشتقاق اللغوي إلى معنى (الرحمة)؛ لما تتسم به الأم من هذا المعنى العظيم كلما حملت؛ فكانت لذلك مورد العطف والحنان! وإنما الرحمة من الله الرحمن الرحيم. هو جل وعلا يخلق ما يشاء كما يشاء.

وللدكتور عبد الوهاب المسيري تحليل دقيق للحركة النسوية في العالم العربي، يرجع به في نهاية المطاف إلى فضح الرغبة الغربية في تدمير نظام الأسرة الإسلامي؛ لما ذكرنا من اعتبارات. يقول: (والعالم الغربي الذي ساند الدولة الصهيونية -التي تحاول تفكيك العالم العربي والإسلامي سياسيا وحضاريا- يساند بنفس القوة حركات التمركز حول الأنثى في بلادنا (

) فالعالم الغربي الذي أخفق في عملية المواجهة العسكرية المباشرة مع العالم الثالث، اكتشف أن هذه المواجهة مكلفة وطويلة، ولا طاقة له بها؛ ومن ثم فالتفكيك هو البديل العملي الوحيد. كما أدرك العالم الغربي أن نجاح مجتمعات العالم الثالث في مقاومته يعود إلى تماسكها، الذي يعود بدوره إلى وجود بناء أسري قوي، لا يزال قادرا على توصيل المنظومات القيمية، والخصوصيات القومية إلى أبناء المجتمع؛ ومن ثم يمكنهم الاحتفاظ بذاكرتهم التاريخية، وبوعيهم بثقافتهم وهويتهم وقيمهم (

) وإذا كانت الأسرة هي اللبنة الأساسية في المجتمع؛ فإن الأم هي اللبنة الأساسية في الأسرة؛ ومن هنا تركيز النظام العالمي الجديد على قضايا الأنثى! فالخطاب المتمركز حول الأنثى هو خطاب تفكيكي (

) وهو خطاب يهدف إلى توليد القلق، والضيق والملل، وعدم الطمأنينة في نفس المرأة، عن طريق إعادة تعريفها! بحيث لا يمكن أن تتحقق هويتُها إلا خارج إطار الأسرة! وإذا انسحبت

ص: 46

المرأة من الأسرة تآكلت الأسرة وتهاوت! وتهاوى معها أهم الحصون ضد التغلغل الاستعماري والهيمنة الغربية!) (1)

ومن ثَمَّ حازت الأم في الشبكة الأسرية موقعا مركزيا، لا يدانيها فيه أحد. ولذلك قال الله تبارك وتعالى في القرآن العظيم:{وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ} (لقمان:14). فهو وإن وصى الإنسان بوالديه معا؛ إلا أنه خص الأم بذكر وظيفتها البيولوجية والنفسية والتربوية؛ فكان لها بذلك خصوص تمييز، لا يلحقه الأب. وهو صريح قول النبي صلى الله عليه وسلم الذي رواه أبو هريرة رضي الله عنه قال:(جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، من أحق الناس بحسن صحابتي؟ قال: أمك. قال: ثم من؟ قال: ثم أمك. قال: ثم من؟ قال: ثم أمك. قال: ثم من؟ قال: ثم أبوك)(2).

ومن هنا كان للأمومة جمالية خاصة في الإسلام، تتحقق على المستوى التربوي في تنشئة الفتاة، وإعدادها النفسي؛ لتملأ الوجدان الاجتماعي كله بالحب والحنان؛ مما يرسي نوعا من التوازن السيكولوجي في الأجيال، ويقوي النسيج الاجتماعي للأمة.

(1) مقال د. عبد الوهاب المسيري: "ما بين حركة تحرير المرأة، وحركة التمركز حول الأنثى: رؤية معرفية" منشور بمجلة المنعطف المغربية، ص:93. عدد مزدوج: 15 - 16 - 1421/ 2000.

(2)

متفق عليه.

ص: 47