الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فتدبر هذا الخطاب الرهيب، والوعيد الشديد في قول النبي صلى الله عليه وسلم:(العنوهن فإنهن ملعونات!) ما كان ليكون ذلك كذلك؛ لو لم يكن التعري خطيئة من أبشع الخطايا، وأخسها! ولو لم يكن مسخا للفطرة الإنسانية، وتغييرا لخلق الله في السلوك النفسي والاجتماعي! إنه سيمياء الشيطان!
فالسِّتْرَ السِّتْرَ بنيتي! فإنه سيماء الرحمن! قال صلى الله عليه وسلم: (إن الله تعالى حَيِيٌ سِتِّيرٌ، يحب الحياء والستر، فإذا اغتسل أحدكم فليستتر!)(1)
والخلاصة في هذه المسألة أنه يمكنك القول: إن هيأة المسلم في لباسه ومظهره -رجلا كان أو امرأة- هي عبارة عن صلاة! بكل ما تحمله كلمة (صلاة) من معاني السير إلى الله خضوعا وخشوعا.
إن سيماء الصورة في الإسلام لغة كاملة؛ لغة من لغات الصلاة المودعة في أسرار هذا الملكوت! إنها تعبير عن منطق الطير، وصحف إبراهيم، وألواح موسى، ومزامير داود وإنجيل عيسى، وآيات هذا الكتاب العظيم، الذي أنزل على محمد عليه الصلاة والسلام، وعلى سائر الأنبياء والمرسلين. ذلك الدين الواحد، ضل عنه المحرفون الذين بدلوا، وغيروا خلق الله، ونبذوا ستر الله، وانحازوا لعري إبليس! فهدى الله المسلمين إلى جمال الستر. ولكن أكثرهم اليوم - مع الأسف - لا يعقلون!
المبحث الثاني: التأصيل الفقهي لسيماء الصورة في الإسلام
ونظرا لعمق الدلالة السيميائية للباس المرأة في الإسلام، وارتباطه بماهيتها الإنسانية كما بينا؛ فقد جاء تشريع أحكامه فريضة في القرآن نفسه. ولم يترك ذلك لتشريع السنة فقط، أو تشريع الاجتهاد فقط، على الرغم مما للسنة ثم
(1) رواه أحمد وأبو داود والنسائي، وصححه الألباني. انظر حديث رقم: 1756 في صحيح الجامع.
للاجتهاد من قيمة تشريعية في الإسلام. لقد تولى الله جل جلاله بذاته إنزال حكم لباس المرأة من فوق سبع سماوات! وفي ذلك ما فيه من قوة تشريعية، وحجية إلزامية ليس فوقها قوة!
إن ورود أحكام اللباس مبينة في القرآن العظيم نفسه له أكثر من معنى! إنه حكم إلهي مباشر، صدر من أعلى سلطة في هذا الوجود: الله رب العالمين، خالق الأكوان أجمعين، القاهر فوق عباده!
ولقد بينا في كتابنا البيان الدعوي قاعدة مراتب التشريع في الإسلام، وما للتشريع القرآني من قصد إلزامي بهذا المعنى. فليس الحكم الذي ذكره الله في القرآن نصا؛ كالحكم الذي لم يرد إلا في السنة، أو لم يرد بعد ذلك إلا في استنباطات الفقهاء. وليس معنى هذا التنقيص من القيمة التشريعية للسنة كلا! وإنما المقصود تمييز التشريع القرآني بما هو أهله. فإنما ذلك كلام الله المباشر. وتلك حقيقة وجودية من أعظم الحقائق وأثقلها. قال عز وجل:{إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا!} (المزمل: 5).
ونورد ههنا خلاصة لمعنى قاعدة مراتب التشريع، على ما أصلناه في موضعه مفصلا بأدلته: (ومفادها أن ما كان من أصول الدين الاعتقادية أو العملية، إنما يكون أصل تشريعه في القرآن. ولا يترك منه للسنة إلا ما كان من قبيل البيان والتفصيل، من توضيح الهيآت وبيان الكيفيات. وذلك شأن الإيمان بالله واليوم الآخر، والصلاة والصيام والزكاة والحج؛ من الواجبات، وكذا شأن الربا، والخمر، والميسر، والزنا، وأكل الميتة والدم ولحم الخنزير وما ذبح على النصب؛ من المحرمات، ونحو هذا وذاك.
فقد ورد تشريع كل ذلك في القرآن أساسا. من مثل قوله تعالى في الواجبات: {وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة} (البقرة:109)، وقوله:{كُتِبَ عَلَيْكُم الصِّيام} (البقرة:182)، وقوله:{ولله على الناس حَجُّ البيت} (آل عمران:97)، ونحو قوله سبحانه في المحرمات:{وذروا ما بقي من الربا} (البقرة:277)،
{وأحل الله البيع وحرم الربا} (البقرة:274)، وقوله تعالى:{إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون} (المائدة:92)، وقوله:{ولا تقربوا الزنى إنه كان فاحشة وساء سبيلا} (الإسراء:32)، وقوله:{إنما حرم عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل به لغير الله} (البقرة: 172). إلى غير ذلك من أصول الواجبات والمحرمات في الدين. فإن الله تعالى إنما أنزل كتابه ليكون أصل التشريع الأول بلا منازع، قال تعالى:{ما فرطنا في الكتاب من شيء} (الأنعام:39)، أي من أصول التشريع وكليات الأحكام. فلا حكم شرعي مما هو مقصود أصالة من الدين إلا وأصله التشريعي في القرآن.
فلا ينبغي أن يعتقد بناء على هذا؛ أن بعض الأصول الدينية التشريعية قد أهملت من القرآن؛ لتتولى السنة تشريعها. فهذا مما يخالف قصد الشارع، وطبيعة التشريع الإسلامي، وقواعده الكلية الاستقرائية. فإنما شأن السنة في مثل هذه الأمور بيان الهيآت التنزيلية والكيفيات التطبيقية، من مثل قوله عليه الصلاة والسلام:(صلوا كما رأيتموني أصلي)(1)، وحديث المسيء صلاته المشهور، وفيه: (والذي بعثك بالحق ما أحسن غيره فعلمني! فقال: إذا قمت إلى الصلاة فكبر، ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن، ثم اركع
…
إلخ الحديث) (2)، وبَّين صلى الله عليه وسلم مقادير الزكاة وأنصبتها، وكيفية الصيام، وقال في الحج وهو يحج بالمسلمين في حجة الوداع:(يا أيها الناس خذوا عني مناسككم)(3) ونحو هذا وذاك كثير، وإنما قصدنا التمثيل لطريقة السنة في التعامل مع أصول التشريع وكلياته، من البيان والتفصيل.
(1) رواه البخاري
(2)
متفق عليه
(3)
رواه مسلم والبيهقي واللفظ له.
وعليه؛ فإنه لا يترك للسنة من التشريع إلا ما كان بمنزلة الفروع والجزئيات، لا الأصول والكليات. فإذا وجدت من السنة ما هو كذلك ـ ولم يكن بيانا تطبيقيا ولا تفصيليا ـ فإنك تجده من قبيل تأكيد التشريع لا تأسيس التشريع! فلا حكم من الكليات التشريعية إلا وتجد في كتاب الله أصله الأول. دل على ذلك الاستقراء التام لأصول الشريعة وفروعها. وذلك كأحاديث إيجاب الصلاة والزكاة والصيام والحج بالسنة، فإنما هو من قبيل التأكيد، لا التأسيس.
وأما ما تفردت السنة بتشريعه تأسيسا، من الواجبات والمحرمات، فإنه لا يكون من الأصول والكليات، وإنما هو من الفروع والجزئيات، بالنسبة إلى ما ورد في القرآن من التشريع. كأحاديث النهي عن كل ذي ناب من السباع، وكل ذي مخلب من الطير، وذوات السموم، ونحو ذلك.
إذن؛ فالأصل في المقصود أصالة من الشريعة أن يكون منصوصا عليه في الكتاب. وهذه هي المرتبة الأولى من التشريع. وذلك حق أمهات الفضائل وأمهات الرذائل، من الواجبات والمحرمات جميعا. وإنما للسنة المرتبة الثانية، فما اقتصر على تشريعه فيها -ولم يكن من قبيل البيان والتفصيل- كان إيجابه أو تحريمه بها من الدرجة الثانية، بالنسبة إلى ما أوجبه الله أو حرمه بالقرآن. ومن أخطأ هذه القاعدة الأصولية الجليلة فاته كثير من فقه الدين!) (1)
في هذا السياق إذن يأتي حكم لباس المرأة في القرآن. ويصدر الرحمن أمره العظيم إلى رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم، في سورتين اثنتين من القرآن، فيقول جل وعلا في سورة الأحزاب:{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاء الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَن يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا} (الأحزاب:59).
(1) ن. الفصل الثاني من كتابنا البيان الدعوي
لقد ورد هذا الخطاب القرآني المشكل لسيماء الصورة، يحمل ضوابط رفيعة للرقي بالمرأة إلى وظيفتها الإنسانية الحقيقية. فجعل لها علامات، باعتبار أن العلامات هي وسيلة التعبير الأخطر في حياة الإنسان، والأكثر تأثيرا في توريث القيم، وتصديرها أو استيرادها.
فأما آية سورة الأحزاب فقد ألزمت المؤمنات جميعا بارتداء الجلباب وإدنائه. والمقصود بالجلباب: ما ترتديه المرأة فوق ثيابها؛ لتخرج به، فيستر جميع بدنها. سواء كان إزارا أو رداء، أو ملحفة. جاء في كتاب النهاية في غريب الحديث والأثر لابن الأثير قوله:(الجِلْبَابُ: الإزَارُ والرّدَاء. وقيل: المِلْحَفَة. وقيل: هو كالمِقْنَعَة تُغَطّي به المرأة رأسها وظَهْرَها وصدرَها، وَجَمْعُه: جَلَابيبُ)(1). ولذلك قال الأصفهاني في مفرداته: (والجلابيب: القُمُصُ والخُمُر، الواحد: جلباب)(2).
وجاء في لسان العرب: (والجِلْبابُ: القَمِيصُ. والجِلْبابُ: ثوب أَوسَعُ من الخِمار، دون الرِّداءِ، تُغَطِّي به المرأَةُ راسَها وصَدْرَها؛ وقيل: هو ثوب واسِع، دون المِلْحَفةِ، تَلْبَسه المرأَةُ؛ وقيل: هو المِلْحفةُ (
…
) وقيل: هو ما تُغَطِّي به
(1) النهاية في غريب الحديث والأثر لابن الأثير، المجلد الأول: حرف الجيم، باب الجيم مع اللام.
(2)
المفردات: مادة: (جلب)
المرأَةُ الثيابَ من فَوقُ كالمِلْحَفةِ؛ وقيل: هو الخِمارُ. وفي حديث أُم عطيةَ: "لِتُلْبِسْها صاحِبَتُها من جِلْبابِها" أَي إِزارها (
…
) وقيل: جِلْبابُ المرأَةِ مُلاءَتُها التي تَشْتَمِلُ بها، واحدها جِلْبابٌ، والجماعة جَلابِيبُ، وقد تَجلْبَبَتْ) (1). وقال في القاموس: (الجلباب: (
…
) القميص، وثوب واسع للمرأة دون الملحفة، أو ما يغطي به ثيابها من فوق كالملحفة) (2).
وبناء على هذه النصوص يكون الجلباب هو الثوب الواسع الذي تستر به المرأة جميع جسمها، وترخيه على كل بدنها. وقد كان الجلباب في زمان النبي صلى الله عليه وسلم عبارة عن رداء أو ملحفة، أو إزار تلتحف به المرأة، وهو أشبه بما تفعله اليوم النساء في واحات سجلماسة بتافيلالت بالمغرب الأقصى من التلفع بالإزار. ذلك هو الجلباب، دل عليه حديث النبي صلى الله عليه وسلم للمرأة التي سألت عن الخروج لصلاة العيد:(هل على إحدانا بأس إن لم يكن لها جلباب أن لا تخرج؟ فقال صلى الله عليه وسلم: لِتُلْبِسْهَا صاحبتُها من جلبابها!)(3) فلا يمكن أن يكون ذلك ممكنا إلا إذا كان الجلباب يتسع لامرأتين، ولا يكون كذلك إلا إذا كان إزارا، أو رداء صالحا للاشتمال. ويؤخذ منه أيضا أنه ثوب غير الثوب الذي تلبسه المرأة لِخاصَّةِ أمرها وبيتها. لكن يقاس عليه كل لباس ستر البدن كله،
(1) اللسان: (مادة: جلب)
(2)
القاموس: (مادة جلب).
(3)
وتمام قصته: ما رواه الشيخان وغيرهما عن حفصة بنت سيرين، أن امرأة سألت النبي صلى الله عليه وسلم (فقالت هل على إحدانا بأس إن لم يكن لها جلباب أن لا تخرج؟ [تعني لصلاة العيد] قال: لتلبسها صاحبتها من جلبابها! ولتشهد الخير ودعوة المؤمنين! قالت حفصة: فلما قدمت أم عطية رضي الله عنها سألنها أو قالت: سألناها؛ فقالت: وكانت لا تذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا قالت: بأبي! فقلنا: أسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول كذا وكذا؟ قالت: نعم بأبي! فقال صلى الله عليه وسلم: لتخرجِ العواتقُ ذواتُ الخدور، أو العواتقُ وَذواتُ الخدور، والحُيَّضُ؛ فيشهدن الخير ودعوة المسلمين! ويعتزل الحيض المصلى. فقلت: آلحائض؟ فقالت: أوَ ليس تشهدُ عرفةَ، وتشهد كذا، وتشهد كذا) متفق عليه.
من قميص فضفاض، أو جلباب مغربي فيه سعة، أو نحو ذلك مما يلف جسم المرأة ويكفيه إحاطةً وسترا.
صورة الحجاب الشرعي:
فتبين أن صورة لباس المرأة تعود إلى عبارتين محوريتين، من آيتين: الأولى عبارة (إدناء الجلباب) من قوله تعالى: {يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلَابِيبِهِنَّ} (الأحزاب:59)، والثانية:(ضرب الخمار على الجيوب)، من قوله تعالى:{وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ} (النور:31)، فيؤخذ من ذلك كله؛ عبارةً وأصالةً؛ أن أقل ما يجزئ المرأة من اللباس هو: ثوب وافٍ ضافٍ، ساتر فضفاض، لا يصف ولا يشف، يستوعب جميع البدن، في ثوب واحد. وهو معنى الجلباب كما تبين. فلا يجزئ عنه أشكال الموضة المستوردة من البنطلونات، والبذلات القصيرة، أو ذات الأجزاء؛ لأنها لا تفي بكمال الستر. وإنما يجزئ الجلباب المغربي الواسع، أو المشرقي، أو ما كان على شاكلته من أردية شاملة، كالقمصان، والعباءات النسوية الوافية، الساترة لجميع البدن بثوب واحد. ويقاس عليه أيضا كل معطف رومي أو عجمي، إذا جمع معاني الجلباب قصدا وغاية؛ من حيث استيعابه لجميع البدن طولا وعرضا، بشروطه الشرعية المذكورة (1). وذلك مقتضى الدلالة من آية الأحزاب في (إدناء الجلباب)؛ مراعاةً لقصد الشارع من كمال الستر.
ثم خمار للرأس، لكن بشرط أن يكون وافيا حتى تتمكن صاحبته من الضرب به على الجيوب. والجيوب هنا: هي ثنايا العنق من النحر، والقفا، والكتفين. وهو مقتضى عبارة الأمر الرباني العظيم:{وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ} كما بيناه. ولها أن تدني الخمار على الجبين بدل إدناء الجلباب، إذا
(1) قد سبق إقرار النبي صلى الله عليه وسلم زوجة أسامة بن زيد في لبس (القبطية)، وهي من أردية العجم من أهل مصر آنئذ، أي قبل إسلامهم وتعربهم. وإنما قال له صلى الله عليه وسلم:(مُرْهَا فلتجعل تحتها غلالة؛ فإني أخاف أن تصف حجم عظامها!) وقد سبق تخريجه مفصلا.
كان الجلباب مما لا يلبس على الرأس مثل الجلباب المغربي، فهنا لابد من إدناء الخمار ضرورة! حتى يستوعب مقدمة الجبين ثم ترخيه على كتفيها وصدرها ونحرها، ثم تشده على ما هنالك؛ لتمتثل الضرب على الجيوب؛ استجابة لأمر الله جل وعلا. ولكن لا تعقده على رأسها من جهة القفا؛ بما يظهر هيأة الشعر وحجمه، كما يفعله بعض الجاهلات من المتحجبات! ولا تضفر طرفيه على جبينها بصورة الضفيرة من الشعر؛ بما يلفت الأنظار. وإنما تستجيب لله، بقصدها إلى الستر والحياء؛ عبادةً لله الواحد القهار، إن كانت من الصادقات حقا!
وبعد ذلك تلتزم شروط الستر الأخرى في لباسها، من عدم إظهار الزينة؛ استجابة لما ذكرنا من أمر الله تعالى في سورة النور:{وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ} ، وقوله سبحانه:{وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنَّ} ؛ فلا يكون اللباس -لذلك- زينة في نفسه بألوانه وزخرفته، أو بما تظهر صاحبته عليه من الحلي. ذلك مجمل لباس المرأة في صورتها القرآنية، وسيمائها الإيمانية. وإنما الموفقة من وفقها الله.
وتفصيل ذلك بأدلته هو كما يلي:
فقوله تعالى من آية الأحزاب: (يدنين)؛ الإدناء: التقريب، وهو تقريب الإزار من العينين، حتى يغطي أغلب الجبين. وهو أصح تفسير ثبت سندا عن ابن عباس رضي الله عنهما. قال:(تدني الجلباب إلى وجهها ولا تضرب به)(1). ومعنى قوله: {ولا تضرب به} أي لا تغطي به وجهها؛ لأن الضرب بالثوب على الشيء تغطيته به. وإنما المطلوب هو (الإدناء) بنص القرآن. والإدناء: تقريب الثوب من الوجه، أي إرخاؤه على الجبين، وشده على حدود الحاجبين، كما صحت بذلك النصوص، على ما سترى قريبا بحول الله.
(1) قال الألباني: أخرجه أبو داود في مسائله بسند صحيح جدا كما في الرد المفحم:51.
قال العلامة محمد ناصر الدين الألباني: (وما خالفه إما شاذ أو ضعيف!) أي ما خالف قول ابن عباس هذا. وهو يقصد ما روي عن ابن عباس نفسه؛ من أن المرأة تغطي وجهها ولا تبدي إلا عينا واحدة، وسنده ضعيف! (1)
وكذلك ما تناقلوه بسند ضعيف عن عبيدة السلماني، من سؤال ابن سيرين له عن آية الإدناء (فتقنع عبيدة بملحفة، وغطى رأسه كله حتى بلغ الحاجبين، وغطى وجهه، وأخرج عينه اليسرى)(2). وإنما روي بسند صحيح عن مجاهد تلميذ ابن عباس قوله في تفسير الإدناء: (أخذ الله عليهن إذا خرجن أن يقنعن على الحواجب)(3)
وهذا كله يقوي الرواية التي رويت عن ابن عباس في تفسير الإدناء أيضا، والتي صرح الألباني بتصحيحها، وهي قوله السابق:(وإدناء الجلباب: أن تقنع وتشده على جبينها)(4). وذلك كله يترك للوجه فرصة الظهور من الحاجب إلى الذقن.
وأما قوله تعالى في سورة النور: {وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} فجمهور المفسرين على أن المستثنى وهو {ما ظهر منها} يقصد به الوجه والكفان. وهو معنى متواتر من عمل النساء الصحابيات في زمن النبوة، ومن تفسير الصحابة، كما سيأتي. ويؤكده الحديث الصحيح، وهو قول النبي صلى الله عليه وسلم
(1) الرد المفحم:11 و 48. وقول الألباني هو في ص:10 من الكتاب نفسه.
(2)
خرجه السيوطي في الدر المنثور وحكم الألباني بضعفه من عدة وجوه: الرد المفحم:55 - 57.
(3)
قال الألباني: أخرجه ابن جرير بسند صحيح عنه: الرد المفحم:52.
(4)
صرح الألباني بضعف سنده، لكن قال: وله شواهد، وهو يقصد ما ذكر أعلاه من روايات صحيحة في أن الإدناء شد الإزار على الوجه دون الضرب به، وإنما يشد على الحواجب. ن. الرد المفحم:11. ولذلك صححه في الصفحة:8 من الكتاب المذكور.
لأسماء بنت أبي بكر الصديق: (يا أسماء! إن المرأة إذا بلغت المحيض لم يصلح لها أن يرى منها إلا هذا وهذا! وأشار إلى وجهه وكفيه)(1).
وأما الصحابة الذين فسروا {ما ظهر منها} بأنه الوجه والكفان فهم: عبد الله بن عباس، وقد خرج الألباني الرواية عنه على سبعة طرق! بعضها صحيح الإسناد وبعضها يتقوى بالصحيح (2). وكذلك عائشة أم المؤمنين، وعبد الله بن عمر، وأنس بن مالك، والمسور بن مخرمة (3).
ومن هنا فليس غريبا أن تجد شبه إجماع بين فقهاء الأمصار، على أن الوجه والكفين ليسا بعورة. وذلك هو مذهب الإمام أبي حنيفة، ومذهب الإمام مالك بن أنس، ومذهب الإمام الشافعي، ورواية عن الإمام أحمد بن حنبل. ورغم أن روايات أخرى عند أحمد بوجوب تغطية الوجه؛ إلا أن بعض علماء الحنابلة قالوا: بل كشفه هو الصحيح من المذهب. وهو قول الإمام علاء الدين المرداوي الحنبلي قال: (الصحيح من المذهب أن الوجه ليس بعورة)(4). وهو اختيار ابن قدامة المقدسي الحنبلي، قال:(لو كان الوجه والكفان عورة لما حرم سترهما [يعني على المُحْرِمَةِ بالحج أو بالعمرة] ولأن الحاجَة تدعو إلى كشف الوجه للبيع والشراء، والكفين للأخذ والعطاء)(5).
(1) رواه أبو داود وصححه الألباني رحمه الله في كتابه "الرد المفحم" بعد دراسة مستفيضة من ص: 79 إلى 102.
(2)
الرد المفحم: 49 - 51 و 103
(3)
الرد المفحم: 103 - 104.
(4)
الإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف على مذهب الإمام المبجل أحمد بن حنبل:1/ 452.
(5)
المغني:1/ 637. ون. ذلك في الرد المفحم:8 - 9
وقال ابن تيمية الجد -وهو حنبلي- في كتاب المنتقى: (باب أن المرأة عورة إلا الوجه والكفين)(1).
وأما قوله تعالى: {وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ} فالخمار في اللغة: ما تغطي به المرأة رأسها من دون الوجه. وإنما غطاء الوجه هو النقاب. ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (لا تَنْتَقِبُ المُحْرِمَةُ ولا تلبس القُفَّازين)(2). وقد شاع عند بعضهم فهم الخمار بمعنى النقاب وهو خطأ. وإنما الخمار ما تخمر به المرأة رأسها فقط. كما أجمع عليه أهل اللغة. قال الراغب الأصفهاني في المفردات: (أصل الخمر: ستر الشيء، ويقال لما يستر به: خمار؛ لكن الخمار صار في التعارف اسما لما تغطي به المرأة رأسها، وجمعه خُمُر، قال تعالى: {وليضربن بخمرهن على جيوبهن} واخْتَمَرَتِ المرأةُ وتَخَمَّرَتْ، وخمَّرتُ الإناءَ: غطيته)(3).
وقال العلامة الألباني رحمه الله بعد نقل نصوص أرباب اللغة والفقه والتفسير ما نصه: (فبهذه الأدلة من الكتاب والسنة، وأقوال أئمة التفسير والحديث والفقه واللغة؛ ثبت قولنا: إن الخمار غطاء الرأس وبطل قول الشيخ التويجري ومقلديه كابن خلف الذي زعم من "نظراته" أن الخمار عام لمسمى الرأس والوجه لغة وشرعا)(4)
(1) المنتقى لابن تيمية الجد (باب أن المرأة عورة إلا الوجه والكفين .. إلخ) ينظر في شرحه نيل الأوطار للإمام الشوكاني في كتاب النكاح: 6/ 163 بضبط عصام الدين الصبابطي. طبعة دار الحديث بالقاهرة، الطبعة الأولى: 1413 هـ/1993 م.
(2)
رواه البخاري.
(3)
المفردات: (مادة: خمر).
(4)
الرد المفحم: 22.
وقال الإمام الشوكاني في الخمار: (هو بكسر الخاء: ما يُغَطَّى به رأس المرأة، قال صاحب المحكم: الخمار: النصيف)(1). والنصيف: هو غطاء الرأس للمرأة، الذي ينسدل إلى نصفها، كما في المعاجم. قال النابغة الذبياني:
سَقَطَ النَّصِيفُ ولم تُرِدْ إسْقَاطَهُ
…
فتَنَاوَلَتْهُ واتَّقَتْنَا باليَدِ!
ولهذا ذهب العلماء إلى أنه لو كان الخمار يشمل الوجه لما قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: (لا يقبل الله صلاة حائض إلا بخمار)(2)؛ لأنهم أجمعوا على صحة صلاة المرأة كاشفة وجهها. وهو دال باللزوم على أن الستر بالخمار لا يشمل الوجه، ولا هو صنع لذلك! وهذا فقه دقيق فتأمله!
النقاب فضيلة:
إلا أنه لا بد ههنا من البيان أنني بهذا لا أدعو إلى سفور الوجه، كلا! فليس لي أن أدعو إلى نبذ فضيلة شرعها الله تعالى لنساء المؤمنين! فالنقاب مشروع ولكنه ليس بواجب! وقد صح فعله عن الصحابيات بأدلة ثابتة منها: ما أخرجه البخاري من قول الرسول صلى الله عليه وسلم: (لا تنتقب المرأة المحرمة ولا تلبس القفازين)(3). وفيه دليل على أن المؤمنات كن يلبسن النقاب في غير الإحرام. وإنما النقاب: غطاء الوجه. ومنها ما صح عن أسماء بنت أبي بكر الصديق رضي الله عنهما أنها قالت: (كنا نغطي وجوهنا من الرجال، وكنا نمتشط قبل ذلك في الإحرام)(4).
(1) نيل الأوطار: 2/ 79
(2)
رواه ابن خزيمة وابن حبان وابن الجارود، وصححه الألباني في إرواء الغليل:196 وفي الرد المفحم: 16
(3)
رواه البخاري
(4)
رواه الحاكم، وقال حديث صحيح على شرط الشيخين ووافقه الذهبي، وقال الألباني:(إنما هو على شرط مسلم)(مختصر جلباب المرأة المسلمة:55).
فإسدال النقاب على الوجه فضيلة، لا ينكرها إلا جاحد، أو غَالٍ. فإذا علمنا مما سبق أن التخفي مقصد من مقاصد التشريع، في أحاكم اللباس النسوي في الإسلام؛ علمنا أن النقاب -وهو أحوط للتخفي- زيادة في الخير، ومنزلة في الفضل، تتقرب به الصالحات إلى الله تعالى. ولكنه مع ذلك ليس فريضة. والقول بفرضيته أيضا غلو في الدين!
ولقد عُلِمَ عند أهل العلم بالشريعة وصناعة أصول الفقه؛ أن من الابتداع الخفي في الدين -الذي قد يخفى على بعض طلبة العلم- تحريف الحكم الشرعي، ونقله من رتبة الندب إلى الوجوب! أو من الجواز إلى الكراهة، أو من الكراهة إلى التحريم! قال الله جل وعلا:{وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِّتَفْتَرُوا عَلَى اللهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ} (النحل:116). اللهم إلا إذا كان ذلك صادرا عمن له أهلية الاجتهاد، وكان قد بلغ غاية الوسع في الاستدلال متجردا عن الأهواء المذهبية والعرفية؛ فقد صحت النصوص باغتفار خطئه.
وقد تشدد قوم وخالفوا الكتاب والسنة الصحيحة، وأقوال الصحابة، وفتاوى العلماء أرباب المذاهب وغيرهم. عندما قالوا بوجوب تغطية الوجه والكفين!
والقول بوجوب تغطية الوجه ينقضه ما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم من قوله لأسماء بنت أبي بكر في الحديث الصحيح المذكور قبل: (يا أسماء! إن المرأة إذا بلغت المحيض لم يصلح لها أن يرى منها إلا هذا وهذا! وأشار إلى وجهه وكفيه). وهو نص -بتعبير الأصوليين- في المسألة.
وينقضه أيضا تواتر كشف الوجه عند الصحابيات في زمانه صلى الله عليه وسلم. والتواتر يفيد القطع بما هو حاصل فيه! وقد ذكر ذلك العلامة الألباني في الرد
المفحم (1). وساق عدة حوادث تشهد له في كتاب جلباب المرأة المسلمة، وفي كتاب الرد المفحم، نذكر منها حديث قيس بن أبي حازم قال:(دخلت أنا وأبي على أبي بكر رضي الله عنه، وإذا هو رجل أبيض خفيف الجسم، عنده أسماء بنت عميس تذب عنه، وهي امرأة بيضاء، موشومة اليدين، كانوا وشموها في الجاهلية)(2). وهو واضح في أنها كانت مكشوفة الوجه واليدين. وعن عمران بن حصين رضي الله عنه، قال:(كنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قاعدا، إذ أقبلت فاطمة رحمها الله، فوقفت بين يديه، فنظرت إليها، وقد ذهب الدم من وجهها، فقال: ادني يا فاطمة! فدنت حتى قامت بين يديه، فرفع يده فوضعها على صدرها موضع القلادة، وفرج بين أصابعه، ثم قال: "اللهم مشبع الجاعة، ورافع الوضيعة، لا تجع فاطمة بنت محمد صلى الله عليه وسلم! " قال عمران: فنظرت إليها وقد غلب الدم على وجهها، وذهبت الصفرة، كما كانت الصفرة قد غلبت على الدم)(3). وفي قصة صلب ابن الزبير (أن أمه [أسماء بنت أبي بكر] جاءت مسفرة الوجه مبتسمة)(4)
وكذلك حديث الخَثْعَمِيَّةِ الذي لم يستطع المخالفون رده إلا بتأويلات باهتة باطلة. وهو ما أخرجه الشيخان وغيرهما عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: (أردف رسول الله صلى الله عليه وسلم الفضل بن عباس يوم النحر خلفه على عَجُزِ راحلته، وكان الفضل رجلاً وضيئاً، فوقف النبي صلى الله عليه وسلم للناس يفتيهم، وأقبلت امرأة من خثعم، وضيئة، تستفتي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فطفق الفضل ينظر
(1) الرد المفحم: 41.
(2)
رواه الطبري في تهذيب الآثار، وابن سعد في الطبقات، والطبراني في الكبير، وقال الألباني: وإسناده صحيح. ن. المختصر:49
(3)
قال الألباني: رواه الطبري في التهذيب والدولابي في الكنى بسند لا بأس به في الشواهد. ن. المختصر:50
(4)
رواه أحمد وابن سعد وأبو نعيم بسند صحيح. المختصر:51.
إليها، وأعجبه حسنها، فالتفت النبي صلى الله عليه وسلم والفضل ينظر إليها، فأخلف بيده، فأخذ بذقن الفضل، فعدل وجهه عن النظر إليها، فقالت: يا رسول الله! إن فريضة الله في الحج على عباده، أدركت أبي شيخاً كبيراً، لا يستطيع أن يستوي على الراحلة، فهل يقضي عنه أن أحج عنه؟ قال: نعم) (1).
قال العلامة الألباني منبها إلى: (تكرار نظره إليها وهو حاج! [يعني الفضل بن عباس] وكيف كان النبي صلى الله عليه وسلم يكتفي بصرف وجهه عنها، ولا يأمرها بأن تسدل على وجهها، وهذا هو وقت الفتنة بها، وسد الذريعة دونها بزعمهم، ولكنه صلى الله عليه وسلم لم يفعل ذلك. فدل فعله صلى الله عليه وسلم على بطلان ما ذهبوا إليه من إيجاب الستر كما هو ظاهر؛ لاتفاق العلماء على أنه لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة، ولذلك فقد أساء أحدهم حين قال - تخلصا من هذه الحجة الظاهرة - "لعل النبي صلى الله عليه وسلم أمرها بعد ذلك! " أي بتغطية وجهها! فأقول تبعا لابن عمر، أو لغيره من السلف: اجعل (لعل) عند ذاك الكوكب! لأن فيه تعطيلا للسنة التي منها إقراره صلى الله عليه وسلم (
…
) واعلم أيها القارئ أن الأحاديث التي أخذ منها العلماء - على اختلاف مذاهبهم - كثيرا من الأحكام من إقراره صلى الله عليه وسلم أكثر من أن تحصر، ولو أن باحثا توجه لجمعها في كتاب، وتكلم عليها رواية ودراية؛ لكان من ذلك مجلد أو أكثر!) (2)
(1) متفق عليه. ورواه أحمد أيضا عن ابن عباس عن أخيه الفضل، قال:(كنت رديفَ رسول الله صلى الله عليه وسلم من جمع إلى منى، فبينا هو يسير إذ عرض له أعرابي مردفا ابنة له جميلة، وكان يسايره. قال: فكنت أنظر إليها، فنظر إليّ النبي صلى الله عليه وسلم فقلب وجهي عن وجهها، ثم أعدت النظر فقلب وجهي عن وجهها، حتى فعل ذلك ثلاثا، وأنا لا أنتهي!) رواه أحمد وقال الشيخ الألباني: (ورجاله ثقات لكنه منقطع) مختصر جلباب المرأة المسلمة:30. قلت: وانقاطعه لا يؤثر في تبين الدلالة؛ ما دامت القصة صحيحة، فقد رويت بألفاظ متقاربة -كما رأيت- في الصحيحين، وغيرهما.
(2)
الرد المفحم: 136 - 137
ونضيف كذلك الحديث الذي رواه مسلم عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ. قَالَ: شَهِدْتُ مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم الصّلَاةَ يَوْمَ الْعِيدِ. فَبَدَأَ بِالصّلَاةِ قَبْلَ الْخُطْبَةِ. بِغَيْرِ أَذَانٍ وَلَا إِقَامَةٍ. ثُمّ قَامَ مُتَوَكّئاً عَلَىَ بِلَالٍ. فَأَمَرَ بِتَقْوَى اللهِ. وَحَثّ عَلَىَ طَاعَتِهِ. وَوَعَظَ النّاسَ. وَذَكّرَهُمْ. ثُمّ مَضَىَ. حَتّىَ أَتَى النّسَاءَ. فَوَعَظَهُنّ وَذَكّرَهُنّ. فَقَالَ: «تَصَدّقْنَ. فَإِنّ أَكْثَرَكُنّ حَطَبُ جَهَنّمَ!» فَقَامَتِ امْرَأَةٌ مِنْ سِطَةِ النّسَاءِ سَفْعَاءُ الْخَدّيْنِ. فَقَالَتْ: لِمَ؟ يَا رَسُولَ اللهِ قَالَ: «لأَنّكُنّ تُكْثِرْنَ الشّكَاةَ، وَتَكْفُرْنَ الْعَشِيرَ» قَالَ: فَجَعَلْنَ يَتَصَدّقْنَ مِنْ حُلِيّهِنّ. يُلْقِينَ فِي ثَوْبِ بِلَالٍ مِنْ أَقْرِطَتِهِنّ وَخَوَاتِمِهِنّ) (1) ففيه أن المرأة كانت عارية الوجه، فقد وصف جابر رضي الله عنه خديها. ومعنى (سفعاء الخدين): أي بهما سواد مشرب بحمرة كما في اللسان (2).
ونحو ذلك من الأحاديث كثير حتى قال الألباني: (قد جاءت أحاديث كثيرة في كشف النساء لوجوههن وأيديهن (
…
) يبلغ مجموعها التواتر المعنوي عند أهل العلم، فلا جرم عمل بها جمهور العلماء) (3).
ولو كان الوجه عورة لوجب أن يبينه النبي صلى الله عليه وسلم، ويأمر به اللواتي كشفن عن وجوههن في عهده صلى الله عليه وسلم؛ والقاعدة الأصولية أنه (لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة).
وههنا عندنا قاعدة أصولية هامة تقطع بحول الله الخلاف، وهي أن (ما تعم به البلوى لا يجوز خفاء حكمه)، بل الأصل فيه ألا ينقل حكمه إلا متواترا، بله نقله بأخبار الآحاد الصحيحة! وعموم البلوى بوجه المرأة معناه أنه مما ينتشر حضوره في المجتمع البشري في كل وقت وحين، وفي كل مجال، من البيت إلى المسجد إلى السوق؛ فلا يعقل ألا يصدر في حقه حكم شرعي
(1) رواه مسلم
(2)
اللسان: (مادة: سفع).
(3)
الرد المفحم: 41.
واضح ومشهور! بل متواتر! لو تعلق به فعلا وجوبٌ في شيء ما! وإنما المتواتر الوحيد ههنا هو الخبر بجواز كشفه!
ثم إن كشف الوجه هو (مما تعم به البلوى)، كما يقول الفقهاء ومعلوم أن حكم ما دخل تحت عموم البلوى لا يجوز أن يغيب حكمه إذا كان كذلك في عهده صلى الله عليه وسلم، وقد كان! فلا يعقل ألا ترد فيه النصوص الكثيرة بتحريم كشفه لو كان كذلك، ولكنه ليس كذلك! بل وردت النصوص الوفيرة بجواز كشفه!
ثم إن الذين قالوا بوجوب ستر الوجه اختلطت عليهم دلالات الآيات من سورة الأحزاب وسورة النور. والفقه ما ذهب إليه المحققون كابن تيمية. قال العلامة الألباني رحمه الله: (يزعم كثير من المخالفين المتشددين: أن (الجلباب) المأمور به في آية الأحزاب هو بمعنى (الحجاب) المذكور في الآية الأخرى: "فاسألوهن من وراء حجاب"(الأحزاب:53) وهذا خلط عجيب! حملهم عليه علمهم بأن الآية الأولى لا دليل فيها على أن الوجه والكفين عورة؛ بخلاف الأخرى؛ فإنها في المرأة وهي في دارها، إذ أنها لا تكون عادة متجلببة ولا مختمرة فيها، فلا تبرز للسائل؛ خلافا لما يفعله بعضهن اليوم ممن لا خلاق لهن! وقد نبه على هذا الفرق شيخ الإسلام ابن تيمية فقال في الفتاوى:"فآية الجلابيب في الأَرْدِيَةِ عند البروز من المساكن، وآية الحجاب عند المخاطبة في المساكن") (1)
قال الألباني بعد ذلك معلقا: (ليس في الآيتين ما يدل على وجوب ستر الوجه والكفين)(2).
(1) الرد المفحم: 10، ون. مثله فيه: 122 - 123. وكلام ابن تيمية في الفتاوى:15/ 448.
(2)
الرد المفحم: 10. وقد رد عليهم محدث العصر العلامة محمد ناصر الدين الألباني ردا قاطعا لكل خلاف البتة! وذلك في الكتاب الذي لخص مضمونه في عنوانه الجامع المانع، وهو: (الرد المفحم على من خالف العلماء وتشدد وتعصب، وألزم المرأة أن تستر وجهها وكفيها =
ومن هنا ترجم الإمام أبو البركات مجد الدين عبد السلام، المعروف بابن تيمية (الجد) في كتابه منتقى الأخبار لحد عورة المرأة بصيغة جامعة مانعة، قال رحمه الله:(باب أن المرأة الحرة كلها عورة إلا وجهها وكفيها)(1).
ويتبين المقصود الشرعي بالخمار وحده عندما يُرَاعَى -عند الفهم- سبب النزول في الآيات، وسبب الورود في الأحاديث؛ لأنه مسلك عظيم جدا في تبين قصد الشارع. وذلك أن الله جل وعلا أمر النساء بالستر، في ظرف كان فيه نوع معين من التبرج سائدا، وهو التبرج الموروث عما سماه الله تعالى في القرآن بتبرج الجاهلية الأولى في قوله تعالى:{ولَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الجَاهِلِيَّةِ الأُولَى} (الأحزاب:33). وهو نوع من العري تكشف فيه المرأة عن جانبي عنقها ونحرها وضفائرها أو قلائدها المنسدلة من خلف أو جانب، وتمضي بين الرجال في مشية متغنجة. وهو ما نقله ابن كثير رحمه الله في تفسير هذه الآية، قال:(قال مجاهد: كانت المرأة تخرج تمشي بين يدي الرجال، فذلك تبرج الجاهلية. وقال قتادة: كانت لهن مشية، وتكسر، وتغنج، فنهى الله تعالى عن ذلك. وقال مقاتل: التبرج أنها تلقي الخمار على رأسها ولا تشده فيواري قلائدها وقرطها وعنقها، ويبدو ذلك كله منها! وذلك التبرج. ثم عمت نساء المؤمنين في التبرج)(2). فقوله: (فيواري) هو بمعنى: لا يواري، أي لا يغطي؛ لأنه متعلق بما قبله من قوله:(ولا تشده)، أي: هي لا تشد الخمار ليواري ما ذكر، بل ترسله على كتفيها طليقا؛
= وأوجب، ولم يقنع بقولهم: إنه سنة ومستحب!) وقد أورد فيه من الأدلة والحجج العلمية ما لم يبق معه -لمنصف- قول مخالف. والكتاب صنفه في الأصل ليكون مقدمة لطبعة جديدة من كتابه النفيس (جلباب المرأة المسلمة في الكتاب والسنة) إلا أنه عدل عن ذلك رحمه الله فجعله مستقلا، كما قال الناشر في مقدمته، فانظره فإنه لم يصنف مثله في هذا الموضوع.
(1)
منتقى الأخبار ضمن شرحه المسمى نيل الأوطار للشوكاني: 2/ 79
(2)
انظر تفسير الآية 33 من سورة الأحزاب بمختصر تفسير ابن كثير للصابوني.
ليكشف عما تحته من صفحة العنق وجانبيه، والنحر، والضفائر المدلاة! وذلك هو تبرج الجاهلية الأولى. ومن هنا أمر الله بضرب الخمار على الجيوب لستر ذلك كله. فلا علاقة له إذن بتغطية الوجه.
وإنما حكمة الخمار -كما سبق بيانه في دلالته السيميائية- أنه إعلان للتدين لدى المرأة، وإشهار للعفة والوقار، وعدم الميل إلى الزيغ والضلال؛ ليس صونا لنفسها فقط، ولكن صونا للمجتمع الإسلامي كله؛ أن تشيع فيه الفاحشة، وتتطبع فيه النفوس على الفساد. ولذلك قال الشيخ عبد الرحمن الجزيري في كتابه "الفقه على المذاهب الأربعة" في (مبحث حكمة مشروعية الحدود)، بعد إيراد الآية السابقة من قوله تعالى:{ولَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الجَاهِلِيَّةِ الأُولَى} ، قال: (فقد خاطب الله تعالى أمهات المؤمنين ونساء النبي صلى الله عليه وسلم وهن الصالحات القانتات، اللائي تربين في مدرسة النبوة، ونشأن في أعظم جامعة إسلامية، وتأدبن بآداب النبوة، وتخلقن بأخلاق الرسول صَلَوَاتُ اللَّهِ وسَلَامهُ عَلَيْه. وقد كن لا يخرجن من بيوتهن إلا لعذر شرعي، كحج أو عمرة، أو زيارة أبوين، أو صلة أرحام، أو عيادة مريض، أو نحو ذلك. وإذا خرجن لا يبدين زينتهن، ولا يظهرن شيئاً من محاسنهن، ولا يلبسن ثيابا براقة. فإذا كان اللَّه تَعَالى قد أمرهن هذا الأمر، وهن على هذا الحال، فغيرهن من سائر النساء أولى أن يخشى عليهن، لو خرجن ومشين في الطرقات على أعين الناس، وفيهم من في قلبه مرض، من العصاة الفجرة، والمجرمين الفسقة، الذين لا يخشون اللَّه، ولا يخافونه (
…
) واتفقت كلمة الفقهاء على أن خروج المرأة من بيتها قد يكون كبيرة إذا تحققت منه المفسدة! كخروجها متعطرة متزينة، سافرة عارية، مبدية محاسنها للرجال الأجانب، كما هو حاصل في هذا الزمان، مما يوجب الفتنة. ويكون الخروج من المنزل حراماً، وليس كبيرة إذا ظنت وقوع الفتنة، ويصد عنها المفسدين المعتدين.
وتبرج الجاهلية الأولى -وهي التي كانت قبل الإسلام- التبختر في تثن مع إظهار المحاسن، والزينة، وما يجب ستره من العنق، والصدر، والشعر، والقفا، والظهر، والذراعين، والساقين.
ومما يدمي قلب الحر المؤمن الغيور، ما نشاهده في هذا الزمان من تبرج النساء، والفتيات، وخروجهن متبذلات، كاسيات عاريات، مائلات مميلات، عاريات الشعور والظهور، من غير حياء ولا مبالاة! حتى صرن أكثر تبذلاً، وانحلالاً من أهل الجاهلية التي كانت قبل الإسلام!) (1)
وهذا كلام مليح جدا، فيه بيان لمستوى السقوط عن حد التدين الشرعي، الذي انحطت إليه المرأة المسلمة في خصوص هذا الزمان! لكن لا ينبغي أن يقودنا ذلك إلى سد ذرائع لم يأمر الله تعالى بسدها، وهو تعالى العليم بها. ولذلك أحب في هذا السياق أن أنقل نصا نفيسا للشيخ الألباني، فيه دلالة على أنه رحمه الله كان له فقه بالزمان والإنسان؛ إضافة إلى فقه جيد لهذه المسألة. فقد قال كلاما أعجبني أن يصدر من مثله -وهو المتهم بالتشدد- قال رحمه الله: (هل يجب على النساء أن يسترن وجوههن لفساد الزمان وسَدّاً للذريعة؟ فأقول: هذا السؤال يطرحه اليوم كثير من المقلدة، الذين لا ينظرون إلى المسائل الشرعية بمنظار الشرع وأدلته، ولا يتحاكمون عند الاختلاف إلى الكتاب والسنة، وإنما إلى ما قام في نفوسهم من الآراء والأفكار (
…
) ولجؤوا إلى تقليد بعض المقلدين، الذين جاؤوا من بعد الأئمة بعلة ابتدعوها، وهي قولهم:(بشرط أمن الفتنة!) أي: الافتتان بها!) (2).
ثم قال بعد إيراد قصة الفضل بن العباس مع الفتاة الخَثْعَمِيَّة مرة أخرى، وقد ذكر سؤال العباس للنبي صلى الله عليه وسلم:(يا رسول الله! لِمَ لَوَيْتَ عنق ابن عمك؟ فقال صلى الله عليه وسلم: رأيت شابا وشابة ولم آمن الشيطان عليهما) فقال الألباني معلقا:
(1) الفقه على المذاهب الأربعة لعبد الرحمن الجزيري الجزء الخامس، باب الحدود.
(2)
الرد المفحم:127
(فهذا صريح في أنه صلى الله عليه وسلم إنما فعل ذلك مخافة الفتنة؛ كما قال الشوكاني في نيل الأوطار (1) فمن فعل في مثل هذه الحالة خلاف فعل النبي صلى الله عليه وسلم فقد خالف هديه صلى الله عليه وسلم!) (2) إلى أن يقول: (وخلاصة القول: إن الفتنة بالنساء كانت في زمن نزول الوحي على النبي صلى الله عليه وسلم (
…
) فلو شاء الله تعالى أن يوجب على النساء أن يسترن وجوههن أمام الأجانب؛ لفعل سدا للذريعة أيضا {وما كان ربك نسيا} (مريم:64) ولأوحى إلى النبي صلى الله عليه وسلم أن يأمر المرأة الخثعمية أن تستر وجهها، فإن هذا هو وقت البيان -كما تقدم- ولكنه على خلاف ذلك، أراد صلى الله عليه وسلم أن يبين للناس في ذلك المشهد العظيم؛ أن سد الذريعة هنا لا يكون بتحريم ما أحل الله للنساء؛ أن يسفرن عن وجوههن إن شئن! وإنما بتطبيق قاعدة:(يغضوا من أبصارهم!) وذلك بصرفه نظر الفضل عن المرأة) (3).
قلت: وهو كلام صحيح مليح، يجري على قواعد أصول الشريعة ومقاصدها. على ما بيناه بالضبط من قاعدة عموم البلوى في هذا الشأن. وإنما سد الذريعة عند القائلين به يتعلق بما لا يقطع المصالح المشروعة. كما قال الإمام أبو إسحاق الشاطبي (790 هـ) في كتاب الموافقات، في قاعدة اطراد المصالح، التي بناها على (أصل اعتبار المآل في الأفعال). قال رحمه الله: (ومن هذا الأصل أيضا تستمد قاعدة أخرى، وهي: أن الأمور الضرورية، أو غيرها من الحاجية أو التكميلية، إذا اكتنفتها من خارج أمور لا ترضى شرعا؛ فإن الإقدام على جلب المصالح صحيح، على شرط التحفظ بحسب الاستطاعة، من غير حرج؛ كالنكاح الذي يلزمه طلب قوت العيال، مع ضيق طرق الحلال، واتساع أوجه الحرام والشبهات. وكثيرا ما يلجئ إلى الدخول في الاكتساب لهم بما لا يجوز، ولكنه غير مانع؛ لما يئول إليه التحرز من المفسدة
(1) نيل الأوطار: 6/ 97.
(2)
الرد المفحم:137 - 138
(3)
الرد المفحم: 139 - 140
المُرْبِيَةِ على توقع مفسدة التعرض. ولو اعتُبِر مثلُ هذا في النكاح في مثل زماننا لأدى إلى إبطال أصله! وذلك غير صحيح. وكذلك طلب العلم، إذا كان في طريقه مناكر يسمعها ويراها، وشهود الجنائز، وإقامة وظائف شرعية، إذا لم يقدر على إقامتها إلا بمشاهدة ما لا يرتضى؛ فلا يُخرِج هذا العارضُ تلكَ الأمورَ عن أصولها؛ لأنها أصول الدين وقواعد المصالح، وهو المفهوم من مقاصد الشارع. فيجب فهمها حق الفهم!) (1).
قلت: وهذه قاعدة ثمينة لمن ذاق معنى أصول الفقه ومقاصد الشريعة! فهي تتضمن من الفقه في الدين الشيء الكثير؛ ولذلك قال: (فيجب فهمها حق الفهم!)
وأما قوله: (وكثيرا ما يلجئ إلى الدخول في الاكتساب لهم بما لا يجوز)؛ فليس معناه أنه يعقد النية على الحرام؛ ولكنه دال على أن الكسب عادة ما تنزل به نوازل من الممنوعات؛ بسبب اختلاط الحياة، مما لم يقصده المكلف أصلا، لكنه يصبح نازلة بين يديه لا مفر له منها؛ فإذا عُلِم هذا فلا يجوز رفع أصل الزواج سدا للذريعة، والقول بأن زماننا هذا -مثلا- يتعذر فيه الوصول إلى الكسب الحلال الصافي من الشبه؛ فلا زواج! كلا! بل لابد من استمرار النسل؛ وإذن فلا بد من استمرار الزواج مهما كانت الظروف!
وبهذه القاعدة أيضا نقول ببطلان سد الذريعة في القول بوجوب ستر الوجه. والمالكية هم المولعون بسد الذرائع، ولكنهم مع ذلك لم يسدوا هذه الذريعة الوهمية!
ومن هنا قال الشيخ الألباني رحمه الله -برؤية دعوية عجيبة، تدل في نازلتنا على فقه دعوي رفيع-: (وإني لأعتقد أن مثل هذا التشديد على المرأة لا يمكن أن يخرج لنا جيلا من النساء يستطعن أن يقمن بالواجبات الملقاة على عاتقهن، في كل البلاد والأحوال، مع أزواجهن وغيرهم، ممن تحوجهم
(1) الموافقات: 4/ 210.
الظروف أن يتعاملن معهم، كما كن في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، كالقيام على خدمة الضيوف، وإطعامهم، والخروج في الغزو، يسقين العطشى، ويداوين الجرحى، وينقلن القتلى، وربما باشرن القتال بأنفسهن عند الضرورة!) (1)
وقال رحمه الله في أول خاتمته لكتاب (الرد المفحم) كلمة ثمينة نقتطف منها ما يلي: (هذا ولا بد لي في هذه الخاتمة من لفت النظر إلى أن التشدد في الدين شر لا خير فيه! وإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم قد قال: "الخير لا يأتي إلا بالخير" (2). فكذلك الشدة شر، لا تأتي إلا بالشر! ولذلك تكاثرت الأحاديث، وتنوعت عباراتها في التحذير منها) (3). وإنما المقصود بالشدة هنا هو نقل حكم النقاب من الندب إلى الوجوب! ومن الاستحباب إلى اللزوم! وهو واضح في صيغة عنوان الكتاب المذكور حيث جعل تمامه كما يلي:(الرد المفحم على من خالف العلماء، وتشدد وتعصب، وألزم المرأة أن تستر وجهها وكفيها وأوجب، ولم يقنع بقولهم: إنه سنة ومستحب).
وذكر رحمه الله أحاديث في النهي عن التشدد والتشديد، نذكر منها قوله صلى الله عليه وسلم:(إن الدين يسر ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه فسددوا! وقاربوا!)(4). وقوله صلى الله عليه وسلم: (إياكم والغلو في الدين! فإنما هلك من كان قبلكم بالغلو في الدين)(5). وغيرهما في هذا المعنى كثير. وإنما الموفق من وفقه الله.
إلا أنه لابد من البيان أن تغطية الوجه أمر مشروع محبوب في الشريعة؛ لأنه أكمل سترا، وأبلغ ورعا. وإنما بحثنا السالف قائم على دحض القول بالوجوب فيه ليس إلا! وفرق بين القول بالوجوب وبين القول بالجواز، أو
(1) الرد المفحم: 149.
(2)
متفق عليه
(3)
الرد المفحم: 146
(4)
رواه البخاري
(5)
رواه ابن خزيمة وابن حبان والحاكم والضياء وغيرهم. وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة.
الندب. فالقضية دقيقة -بنيتي- فتنبهي! فمن اختارت أن تتقرب إلى ربها بستر وجهها، خاصة إذا كانت جميلة جدا، ذات وجه فاتن، ينبض بالحسن والجمال، يقع عليه البصر فلا يطيق الغض عنه؛ فلا نقول لها إلا كما قال الله تعالى في الحديث القدسي، الذي فيه:(وما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه: فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، وإن سألني أعطيته، ولئن استعاذني لأعيذنه)(1).
وخلاصة القول أن أمره تعالى النساء بضرب الخمر على الجيوب فيه دلالة على وجوب تغطية حواشي العنق بغطاء الرأس. ومن هنا وجب أن يكون الخمار واسعا فضفاضا، لا كما يصنعه بعضهن من الاقتصار على غطاء قصير لا يفي بتمام الضرب على الجيوب.
ثم إنه لا بد من البيان أيضا أن التفنن في تنميق الحجاب، وتشكيله على حسب تجدد الموضات، واتباع آخر الصيحات و (التقليعات)، في الألوان والهيآت، لهو ابتداع في الدين، يخرج بلباس المسلمة الملتزمة حقا عن مقتضى قصد الشارع الحكيم، من الستر المفروض على المرأة؛ إذ يفقد بذلك صفته الشرعية! علما بأن إظهار الزينة على الحجاب الشرعي أصلا؛ يخرج به عن حد الشرع! ونص القرآن في ذلك واضح وضوح الشمس في رابعة النهار، لمن كانت تفقه شيئا من مدارك النصوص الشرعية، وتدرك شيئا من مقاصد الشريعة، ومراتب الدلالات الأصولية. قال تعالى: {وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ
(1) وطرف الحديث بتمامه هو قول رَسُول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم في الحديث القدسي: (إن اللَّه تعالى قال: من عادى لي وليا فقد آذنته بالحرب، وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضت عليه. وما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه! فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، وإن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه) رواه البخاري.
مَا يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنَّ} (النور:31). ذلك ما يسمى بقياس الأولى في علم الأصول. وتحقيق مناطه هنا هو أنه إذا كان النص الصريح قد حرم عليها الضرب بالأرجل في الأرض، وخبط القدمين على الطريق؛ حتى لا تسمع الرجال ما خفي من زينة الحلي المعلقة على بدنها، وما يحدث عن ذلك من رنين يثير خيال الرجال؛ فيستحضرون صورتها الداخلية بمجرد الخيال! فكيف -بالله عليك- لو أنها عرضت ذلك عليهم عرضا؟ فوق ألبستها لا تحتها، بما لا تحتاج معه إلى الضرب برجليها، بل تظهره ألوانا وأشكالا، وجواهر وحليا فوق حجابها المزعوم؛ حتى يشهدوا بأعينهم عيانا، لا توهما ولا خيالا! إن إظهار المتحجاب -زعمن- لزينتهن؛ إنما هو أمر أشبه ما يكون بالابن العاق، الذي سمع قول الله تعالى في حق الوالدَيْن:{فَلَا تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا} (الإسراء:23) فقال: أنا لا أتأفف منهما ولا أنتهرهما، ولكني -فقط- أضربهما!
ويؤخذ من الآية المذكورة أيضا تحريم الخروج بالأحذية العالية، ذات الكعاب الدقيقة، مما يكون له فرقعة على الأرض، وطقطقة عند الخطو! حتى لكأنها تقول للرجال: اسمعوا وانظروا! ها أنا ذي مارة بين أيديكم! ألا قبح الله السَّفَه!
وجوب تغطية القدمين:
ومما وجب التنبيه عليه ما شاع في أوساط بعض المتدينات، من تساهل في تعرية أقدامهن، مع أن النصوص واضحة في وجوب ضرب اللباس عليهن سواء كان ذلك بالأزر والأردية أو بالجوارب. ومن النصوص في ذلك ما سلف ذكره من حديث عائشة في قوله صلى الله عليه وسلم لأختها أسماء:(يا أسماء! إن المرأة إذا بلغت المحيض لم يصلح لها أن يرى منها إلا هذا وهذا! وأشار إلى وجهه وكفيه) فهذا حصر لما يباح إظهاره من الجسم وهو الوجه والكفان. فامتنع بدلالة الحصر في مفهوم المخالفة تعريةُ القدمين وسائر الجسد ما عدا الوجه
والكفين. وكذلك حديث ابنِ عُمَرَ قالَ: قالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: (مَنْ جَرّ ثَوْبَهُ خُيَلَاءَ لَمْ يَنْظُر الله إليهِ يَوْمَ القِيَامَةِ، فَقَالَتْ أُمّ سَلَمَةَ: فَكَيْفَ يَصْنَعُ النّسَاءُ بِذُيُولِهِنّ؟ قالَ: يُرْخِينَ شِبْراً، فقَالَتْ إذاً تَنْكَشِفُ أَقْدَامُهُنّ، قالَ: فَيُرْخِينَهُ ذِرَاعاً لا يَزِدْنَ عَلَيْهِ)(1) وهو ظاهر في تجويز جر الإزار للنساء؛ اعتبارا لعلة ستر الأقدام.
وعليه كان عمل النساء زمن النبوة، وبه وقعت الفتوى من لدن أمهات المؤمنين للنساء. ففي موطأ مالك رحمه الله أن امرأة (سألت أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم: ماذا تصلي فيه المرأة من الثياب؟ فقالت تصلي في الخمار والدرع السابغ، إذا غيب ظهور قدميها) (2).
وقال ابن عبد البر في التمهيد: (وقد أجمعوا أنه من صلى مستور العورة فلا إعادة عليه. وإن كانت امرأة فكل ثوب يغيب ظهور قدميها ويستر جميع جسدها وشعرها فجائز لها الصلاة فيه؛ لأنها كلها عورة إلا الوجه والكفين. على هذا أكثر أهل العلم)(3).
والدرع: القميص. ومن هنا قال مالك رحمه الله: (إذا صلت وشيء من شعرها، أو قدمها مكشوف؛ تعيد ما دامت في الوقت! وقال الشافعي وأحمد وأبو ثور: تعيد أبدا! وشذ أبو حنيفة فقال: إن قدم المرأة ليس بعورة. ورُدَّ عليه بأحاديث الباب والآثار، التي لعلها لم تبلغه)(4).
(1) رواه أبو داود والنسائي والترمذي وقال هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ.
(2)
الموطأ: 1/ 142 ورواه أيضا أبو داود والبيهقي والدارقطني وعبد الرزاق في مصنفه. وروى مالك مثل ذلك عن عائشة وميمونة في الموطأ أيضا.
(3)
التمهيد: 6/ 364
(4)
التمهيد: 6/ 366
وفي كل ذلك دليل واضح على أن قدم المرأة عورة وجب سترها. وقد اتفقوا على أن أقل عورة المرأة ما تصح به صلاتها. وهو سائر بدنها ما عدا الوجه والكفين.
ولا ينقض ذلك الحديث الصحيح الذي رواه أنس بن مالك قال: (لما كان يوم أحد انهزم الناس عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: ولقد رأيت عائشة بنت أبي بكر، وأم سليم، وإنهما لَمُشَمِّرَتَان، أرى خَدَم سوقهما، تنقزان القرب. وقال غيره: تنقلان القرب على متونهما، ثم تفرغانها في أفواه القوم، ثم ترجعان فتملآنها، ثم تجيئان فتفرغانها في أفواه القوم.)(1)
ومعنى خَدَم سوقهما: الخلاخيل، جمع خَدَمة بفتح الخاء والدال المهملة، ويلزم عنه أنه رأى ليس القدم فحسب؛ بل ما فوقها من الساق! وانكشاف ذلك إنما هو لطبيعة الظرف غير العادي من الحرب وخدمة الجرحى! فالمعتمد إنما هو نصوص أحوال السلم، والعمومات التي سبقت. ولذلك قال الألباني في سياق حديثه عن انخراط النساء المسلمات في نوازل الحرب والقتال ونحوها:(وقد ينكشف منهن ما لا يجوز عادة!) وهو يقصد هذا الحديث وما في معناه. وقد ذكره في هذا السياق بالذات! (2)
إن الحق في لباس المرأة قد ضاع بين فريقين. وكلاهما على غلو من فقهه: الأول قوم ألزموا المرأة ما لم يلزمها الله به من تغطية الوجه والكفين كما رأيت، وقوم تسيبوا فأباحوا كشف القدمين، وتزيين الألبسة من الجلابيب بما ينقض قصد شرع اللباس الإسلامي للمرأة من التقوى والعفاف. وكذا التشبه بالرجال فيما جرت العادة أن يلبسه الرجال من المعاطف والبنطلونات! ويضعن بعد ذلك على رؤوسهن خرقا بتلاويين وتشكيلات، ويقلن بعد ذلك إنهن محتجبات!
(1) متفق عليه.
(2)
الرد المفحم: 149.
الخصائص العامة للحجاب الشرعي:
وإنما الخصائص العامة للباس الشرعي لدى الأنثى تتمثل فيما سبق بيانه سيميائيا وفقهيا، مفصلا بكل مباحث هذا الكتاب، وخاصة بهذا المبحث الأخير:(التأصيل الفقهي لسيماء الصورة في الإسلام). ولكن يمكن إجمالها الآن -بصورة أخرى- في ثلاث خصائص وهي:
- الخصيصة الأولى: وتتمثل في المقصد التعبدي. وهذا هو مربط الفرس، وأصل الأصول من اللباس الشرعي، لدى الرجال والنساء على حد سواء. فهو رمز الطاعة لله رب العالمين، خالق الأكوان أجمعين، وخالق الإنسان من طين! فحق الخالقية في أن نوحد الله وحده دون سواه متعلق بسيمياء اللباس، كما هو متعلق بكل سيمياء تعبدية، من سائر أعمال الجوارح والقلوب؛ تأصيلا بما سبق بيانه من قوله تعالى:{يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْءَاتِكُمْ وَرِيشًا. وَلِبَاسُ التَّقْوَىَ ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ. يَا بَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُم مِّنَ الْجَنَّةِ يَنزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْءَاتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ. إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ} (الأعراف:26). فكل لباس أخطأه هذا القصدُ فَقَدَ معناه التعبدي! وصار عرضة لأي انحراف، ولو زعمَتْ صاحبتُه ما زعمت، من دعاوى التدين والالتزام!
- الخصيصة الثانية: وتتمثل في المقصد الفقهي، وذلك بتصحيح المطابقة الظاهرة والباطنة، للمقاييس القرآنية والسنية، مما سبق بيانه من مصطلحي الجلباب إدناءً، والخمار ضربا. وذلك بما يشمل الجسم كله، من أعلى الرأس حتى ظاهر القدمين، ما عدا الوجه والكفين، بشروطه السالفة الذكر، من كون الثوب وافيا ضافيا، ساترا فضفاضا، لا يصف ولا يشف، لا معطرا، ولا مزركشا، يستوعب جميع البدن، في ثوب واحد. وهو معنى الجلباب ومقتضى العبارة من إدنائه، كما تبين من آية الأحزاب. ثم خمار
للرأس يكون وافيا حتى تتمكن صاحبته من الضرب به على الجيوب. وإنما الجيوب -كما بيناها- هي: ثنايا العنق من النحر، والقفا، والمنكبين. وذلك مقتضى عبارة الأمر الرباني العظيم:{وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ} . مع إدناء الثوب -سواء كان خمارا أو جلبابا، حسب طبيعة اللباس من بلد إلى آخر- وتقريبه؛ حتى تضرب به على بداية الوجه، وحتى يستوعب مقدمة الجبين على حدود الحواجب، ثم ترخيه على كتفيها وصدرها ونحرها، ثم تشده على ما هنالك؛ لتمتثل الضرب على الجيوب؛ استجابة لأمر الله جل وعلا.
- الخصيصة الثالثة: وتتمثل في المقصد الرسالي والدعوي. وذلك بالمجاهدة لتحصيل التقوى، في النفس وفي المجتمع، بما يرمز إليه اللباس الشرعي من معان جليلة، ودلالة على الانتساب إلى السابقين بالخيرات، والمرابطة به في سبيل الله مدافعةً لقوى الشر المتربصة بقيم الإسلام وتعاليمه، مما بيناه في كتاب (بلاغ الرسالة القرآنية)، إذ سبق قولنا: (اليوم تدور حرب حضارية كبرى، هذا قدَر زماننا، فإما أن نكون فيه ـ كما يجب أن نكون ـ أو لا نكون!
العري هزيمة! والعفاف خطوة كبرى في طريق الانتصار. ومن هنا جاء فرض الحجاب في القرآن، وفي القرآن نفسه قبل سواه. وما نزل القرآن بحكم إلا كان أمرا جليلا، وعزما مبينا، وكان هتكه جرما عظيما. فالستر يا بنيتي -لو تبصرين- جمال وجلال (
…
).
ثم إن حجابك الشرعي راية دعوة وجهاد لو تعلمين! إنه ناطق بكثير من المعاني، إنه يعلن للعالمين أن المرأة المسلمة ليست مجرد جسد للتجارة، في أسواق السياسة والإعلام! إنها نفس إنسانية تَسْبَح في فلك الأمانة الكونية التي حملها الإنسان. تؤدي وظيفتها الحقيقية، عمارةً في الأرض على المنهج الرباني،