الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
عناصر الدرس
* شرح الترجمة (الإختصاص) وحده
* أحوال الإسم المخصوص وإعرابه
* شرح الترجمة (التحذير والإغراء) ـوحد التحذير
* احوال الإسم المحذرمنه ، وما شذ منه
* حد الإغراء وأحواله.
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصَّلَاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:
قال الناظم رحمه الله: الاِخْتِصَاصُ.
أي: هذا باب ذِكْر ما يَتعلَّق بالاختصاص، الاِخْتِصَاصُ (افْتِعَال) كالاجتماع مَصدر: افْتَعَل .. يَفْتَعِل .. افْتِعَالاً، كما يُقَال: اجْتَمَع يَجْتَمِع اجْتِمَاعاً، والأصل: أنه من اخْتصَّ فلانٌ فُلاناً بكذا، أي: قَصَره عليه.
وهو في الاصطلاح يُلاحظ فيه معنيان: معنىً لغوي، ومعنىً اصطلاحي، المعنى اللغوي: وهو قَصْر الحكم على بعض أفراد المذكور، وهذا إن كان يُعبِّر به البيانيون عن الحصر، وعندهم القَصْر والحَصْر، وهنا عُبِّرَ بالاختصاص.
وهذا مُناسبٌ للفعل الذي يُقَدَّر ناصباً، لأنه يقال كما في الحديث:{إِنَّا مَعَاشِرَ الأَنْبِيَاءِ} (مَعَاشِرَ) هذا منصوبٌ على الاختصاص، لماذا سُمِّي منصوباً على اختصاص؟ لأن الفعل المضمَّر المُقَدَّر:(أخصُّ) ولم يُعيِّنه سيبويه بـ: (أخصُّ) وإنما قال: " منصوبٌ بـ (أعني) " ولكن جماهير المتأخرين على أنه يُقَدَّر (أخصُّ) ولذلك سُمِّي: اختصاصاً، فيُقال: هو منصوبٌ على الاختصاص.
والسيوطي في (جمع الجوامع) جَعَل باب الاختصاص داخلاً في باب المفعول به وهو كذلك، فلمَّا عَرَّف المفعول به وبيَّن أحكامه، قال:" ومنه ما نُصِب على الاختصاص"(منه) أي: من المفعول به، ما نُصِب على الاختصاص، كما فعل ابن هشام في (قطر الندى) لمَّا عَرَّف وذَكَر أحكام المفعول به قال:"ومنه المُنَادى".
إذاً: المفعول به أشبه ما يكون بالجنس العام، يدخل تحته المُنَادى، ويدخل تحته الاختصاص. إذ هو مفعولٌ به:{إِنَّا مَعَاشِرَ الأَنْبِيَاءِ} نقو: (مَعَاشِرَ) هذا مفعولٌ به، إذاً مثل:(ضَرَبْت زَيْداً) لكن لمَّا اخْتصَّ بكونه يُنْصَب بفعل مُضمَّر واجب الإضمار، ثُمَّ هو مُعيَّن في كل موقع، فيُقال:(أخصُّ) و (أعني) حينئذٍ اخْتصَّ ببعض المسائل.
إذاً: قَصْرُ الحكم على بعض أفراد المذكور، هذا معناه في اللغة.
ولم يجتهد النحاة في تعريفه من جهة الاصطلاح، وإنما يذْكرون هذا المعنى العام، ولذلك الأشْمُوني ذَكَر هذا المعنى، قال:" الاختصاص: قصْر الحكم على بعض أفراد المذكور" وهذا معنى: {نَحْنُ مَعَاشِرَ الأَنْبِيَاءِ} هذا فيه معنى التخصيص، ومعنى قُصُور الحكم على بعض أفراد المذكور، {مَعَاشِرَ الأَنْبِيَاءِ لا نُورَثُ} هذا الحكم: نفي الإيراث هذا مُختصٌّ بالأنبياء، حينئذٍ نقول: هذا قَصْرٌ للحكم على بعض أفراد المذكور.
ولكن بعضهم عَرَّفه بقوله: هو تخصيص حُكمٍ عُلِّق بِضميرٍ مَا تأخر عنه من اسمٍ ظاهرٍ معرفةٍ، معمولٍ لأخصُّ واجب الحذف. (تخصيص حُكمٍ) هذا واضح، لأنه اختصاص، ولأنه قَصْر حُكمٍ على بعض الأفراد، وهذا معناه اللغوي.
(عُلِّق بِضمير مَا تأخر عنه) لأنه يُشترط كما سيأتي: أن يَتقدَّم ضمير المتَكلِّم {نَحْنُ مَعَاشِرَ الأَنْبِيَاءِ لا نُورَثُ} .. {إِنَّا مَعَاشِرَ الأَنْبِيَاءِ} (ارجوني أيُّها الفتى) كما مَثَّل الناظم هنا، فيتقدم أوَّل الكلام ضمير مُتكلِّم، ثُمَّ يأتي بعده هذا المفعول به المنصوب على الاختصاص.
(تأخر عنه من اسمٍ ظاهر) لا يكون ضميراً كما سيأتي، (معرفة) لا يكون نكرة، (معمولٍ لأخصُّ) عَيَّن هنا، ولذلك قيل: باب الاختصاص، معمول لفعلٍ مُضْمَر واجب الإضمار تقديره: أخصُّ.
ففي مِثَال الناظم هنا (ارجوني أيها الفتى)(ارْجُونِي) الياء هذه مفعولٌ به (أَيُّهَا الفَتَى) يعني: أخصُّ (أَيُّهَا)، فـ:(أَيُّ) هذا منصوب على الاختصاص، لَكنَّه من جهة المحل، لأنه مبني في اللفظ.
إذاً: هذا حقيقته من حيث المعنى الاصطلاحي، والمعنى اللغوي.
وأما الباعث له، يعني: لماذا يؤتى به؟ قال النحاة: محصورٌ في ثلاثة أمور:
الأول: (الفَخْر عَلَيَّ أيُّها الكريم يُعْتَمَد) .. عليَّ أيها الكريم أخص .. (عليَّ) أتى بياء المُتكلِّم، سواءٌ كانت مجرورة أو منصوبة كما في (ارْجُونِي)، (أيُّها الكريم)(الكريم) اسم جنس مُحلىً بـ (أل) وهو نعت لـ (أيُّ) و (أيًُّ) هو المنصوب على الاختصاص، يعني تَقديره:(عَلَيَّ أخصُّ أيُّها الكريم يعتمد الفقير).
الثاني -من باب التواضع-: أنا أيُّها العبد الضعيف مُفْتَقِرٌ إلى عفو الله، (أنا أيها العبد .. أنا أخص أيها العبد).
الثالث: بيان المقصود بالضمير: (نَحن) هذا مُبْهَم، الضمائر كلها مبهمة: نحن العُرب أقرى الناس للضيف، وهذا مَثَّل به الناظم لكن .. ؟؟؟ (نَحْنُ العُرْبَ أَسْخَى مَنْ بَذَل) فانظر! جاء لفظ العرب وهو مفعولٌ به لفعلٍ محذوف وجوباً تقديره أخُص، فتقول (العُرْبَ) هذا منصوبٌ على الاختصاص، إذاً: الباعث على الإتيان بهذا التركيب، وهو تركيبٌ صحيح فصيح، ولذلك جاء في السنة:{إِنَّا مَعَاشِرَ الأَنْبِيَاءِ لا نُورَثُ} إمَّا للفخر، وإمَّا للتواضع، وإمَّا لبيان المقصود بالضمير.
الاِخْتِصَاصُ
وإنْما ذَكَر هذا الباب بعد أبواب النداء، لماذا؟ قالوا: لشبهه به في اللفظ، كما نَصَّ الناظم قال:(الاِخْتِصَاصُ كَنِدَاءٍ) وسيأتي أن الاختصاص يُفارق النداء في ثماني عشرة موضعاً، والناظم تَرَك كثير من المسائل، أو بعض المسائل التي تَتَعلَّق بهذا الباب، ولذلك المكُودِي في شرحه قال:"قد أجحف الناظم بهذا الباب" لأنه لم يذكر إلا بيتين.
قال رحمه الله:
الاِخْتِصَاصُ كَنِدَاءٍ دُونَ يَا
…
كَأَيُّهَا الفَتَى بِإِثْرِ ارْجُونِيَا
وَقَدْ يُرَى ذَا دُونَ أَيٍّ تِلوَ أَلْ
…
كَمِثْلِ نَحْنُ العُرْبَ أَسْخَى مَنْ بَذَلْ
(الاِخْتِصَاص) مبتدأ وهو خبر، (كَنِدَاءٍ) جار مجرور مُتعلِّق بمحذوف خبر المبتدأ، (الاِخْتِصَاصُ كَنِدَاءٍ) يعني: مِثلُ النداء، (دُونَ يَا)(دُونَ) هذا ظرف منصوب على الظرفية، مُتعلِّق بمحذوف نعت، و (دُونَ) هذا مضاف و (يَا) قُصِد لفظه: مضافٌ إليه.
إذاً: (كَنِدَاءٍ دُونَ يَا)(دُونَ) هذا نعت لنداء، وهو مضاف و (يَا) مضاف إليه (كقولك) الكاف داخلة على قولٍ محذوف، وهذا دائماً نَقَدِّره إذا كانت الكاف داخلةً على جملة (كقولك) بخلاف إذا كانت داخلة على مفردٍ، (كَأَيُّهَا الفَتَى) هذه الجملة في محل جر قُصِد لفظها، (بِإِثْرِ) حال من (أيُّ).
(ارْجُونِيَا) الألف هذه للإطلاق، يعني:(أَيُّهَا الفَتَى بِإِثْرِ) يعني: بعد (ارْجُونِيَا) هذا مِثال الاختصاص الذي هو (كَنِدَاءٍ دُونَ يَا) كأنه قال في تركيب المثال: (ارجوني أيُّها الفتى)(ارْجُو) فعل أمر للجماعة مبني على حذف النون و (الواو) فاعل و (النون) للوقاية و (الياء) مفعول، (ارْجُونِي) الياء ضمير متصل مبني على السكون في محل نصب مفعول به.
و (أَيُّ) مبني على الضَمِّ في محل نصب على المفعولية بأخصُّ، فهو مفعولٌ به مثل (ضَرَبْت زيداً)، لكن الفرق لبعض المسائل بينه وبين المفعول به، والذي يُهْتَمُّ به النحاة أن العامل هنا مُعيَّن وهو (أخصُّ) أو (أعني)، وأن هذا العامل محذوف واجب الحذف، والأكثر في باب الاختصاص: أن يكون المفعول به .. المنصوب على اختصاص .. أن يكون لفظ: (أيُّها) و (أيَّتها) هذا هو الغالب، كثير كما سيأتي.
فـ (أَيُّ) مبنيٌ على الضَمِّ في محل نصب على المفعولية بأخصُّ المحذوف وجوباً و (ها) حرف تنبيه و (الفَتَى) مرفوع بِضَمَّة مُقدَّرة على الألف نعتاً لـ: (أَيُّ) تابع للفظها فقط، (أيُّها الفَتَى .. ارجوني أيها الفتى) إذاً (أَيُّهَا): هذا نُصِب على الاختصاص لكن مَحَلاً، لأنه مبنيٌ في اللفظ، و (أَيُّهَا) هي التي في باب النداء هنا ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا)) [البقرة:104] .. ((يَا أَيُّهَا النَّاسُ)) [البقرة:21] هي نفسها ولكن اسْتُعِيرَت هنا لمعنى سيأتي وهو إفادة الخطابية، ثُمَّ اتفقوا هناك على أنها مبنية، وهنا مُخْتَلفٌ: هل هي مبنيةٌ أم مُعْرَبه؟ كما سيأتي.
إذاً: (الاِخْتِصَاصُ) وهو خبرٌ (كَنِدَاءٍ دُونَ يَا) يعني: أن الاختصاص شبيهٌ بالنداء، لأنه قال:(كَنِدَاءٍ) إذاً: يُفْهَم منه أن الاختصاص ليس مُنادى، لأن النداء فيه طلب إقبال، وهذا ليس فيه طلب إقبال، إذاً: هو مثل النداء في بعض الأحكام اللفظية، وأمَّا من حيث المعنى فلا، إذاً يعني: أن الاختصاص شبيهٌ بالنداء، وفُهِم منه أنه ليس منادى، لأنه قال:(كَنِدَاءٍ) وإذا قيل (الاِخْتِصَاصُ كَنِدَاءٍ) يعني: مثل نداءٍ، إذاً: ليس منه، هذا هو الظاهر.
وفُهِم من قوله: (دُونَ يَا) هذا قيد، يعني: أشبه ما يكون بالصفة التي يُحْتَرَز بها عن غيرها بل هي كذلك، (دُونَ يَا) يعني: الاختصاص لا تدخل عليه (يا) ولا أخواتها، لا لفظاً ولا تقديراً، حينئذٍ نقول: ولو كان .. لأنه قد يَرِد أنه (كَنِدَاءٍ) يعني: أشبه النداء، إذاً: قد يتبادر للذهن أنه يُمكن أن تدخل (يا) على الاختصاص، نقول: لا، لا يُمكن أن تدخل (يا) على المنصوب على الاختصاص.
إذاً: وفُهِم من قوله: (دُونَ يَا) أنه لا يَصْحب حرف النداء، وفُهِم من المثال قوله:(أَيُّهَا الفَتَى بِإِثْرِ ارْجُونيَا) فُهِم من المثال: أن (أَيَّ) لا توصف باسم الإشارة كما هو الشأن في المنادى هناك، هناك يجوز أن توصف باسم الإشارة وأمَّا هنا فلا، ولا بالموصول، كما في النداء ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا)) [البقرة:104] وصفت (أَيُّ) بالموصول وهو (الَّذين).
(يا أيُّها الذي قام أبوه) نقول: وصف بـ (الَّذي) أمَّا هنا في باب الاختصاص، ولو كان الاختصاص مِثَل النداء يشبهه إلا أنه لا يُوصَف (أَيُّ) باسم الإشارة ولا بالموصول كما هو الشأن في (أَيُّ) في باب النداء، إذاً: لا تُوصَف باسم الإشارة ولا بالموصول كما في النداء.
وفُهِم من قوله: (ارْجُونِي) أنه لا بُدَّ أن يَتقدَّمها كلام وهو كذلك، لأن الفعل الذي يُقَدَّر في الأصل، في الأصل أنه لا يكون إلا مُتوسطاً حَشْواً، إلا في باب الإغراء كما سيأتي:(أخاك أخاك) يعني: الزم أخاك، (الصَّلَاةَ جَامِعَةً) يعني: احضروا الصلاة، فـ (ارْجُونِي) أنه لا بُدَّ أن يَتقدَّمها كلامٌ، لذلك قيَّده الناظم قال:(أَيُّهَا الفَتَى بِإِثْرِ ارْجُونِيَا).
إذاً: لا بُدَّ أن يَتقدَّم على المنصوب على الاختصاص كلامٌ، ولا يكون في أول الكلام، وأنه لا بُدَّ أن يكون فيه ضمير المتَكلِّم، ولذلك خَصَّه من خَصَّه في التعريف السابق: تَخصِيصُ حُكمٍ عُلِّق بضمير ما تأخر عنه، الذي تأخر هنا:(أَيُّهَا الفَتَى) تأخر عن الضمير المُتَقَدِّم، وهو في (ارْجُونِي) الياء.
وفُهِم من قوله: (كَنِدَاءٍ) أنه منصوبٌ بفعلٍ محذوفٍ واجب الحذف، لأن المنادى قلنا: منصوب لفظاً أو مَحلاً، والعامل فيه فعلٌ محذوفٌ واجب الحذف، مِثْله هنا لأنه قال:(كَنِدَاءٍ) إذاً: هذه الأحكام كلها مأخوذة من تَصْريح الناظم:
?لاِخْتِصَاصُ كَنِدَاءٍ دُونَ يَا
…
كَأَيُّهَا الفَتَى بِإِثْرِ ارْجُونِيَا
(ارْجُونِيَا) الألف هذه للإطلاق، (ارْجُونِي) مثل (ادعوني).
(الاِخْتِصَاصُ) وهو خبر (كَنِدَاءٍ) لماذا قيل: (كَنِدَاءٍ)؟ أي: جاء على صورة النداء، تفسير وجه الشبه هنا بين الاختصاص والنداء: أن الاختصاص جاء على صورة النداء لفظاً، توسُّعاً، وهذا وجه الشبه بينهما: كونه على صورته غالباً، لأنه سيأتي أنه لا يُسْتَعمل (أيُّ) و (أيَّتها)، الغالب والأصل في باب الاختصاص: أن المفعول الذي يُنصب على الاختصاص (أيُّها) و (أيَّتها) هذا الغالب، إذاً: الاختصاص أشبه النداء في كونه على صورته غالباً، ومن غير الغالب (نَحْنُ العُرْبَ) ما جاءت (أيُّ).
حينئذٍ نقول: غالباً يكون المنصوب على الاختصاص (أيُّها) و (أيَّتها) هذا وجه الشبه بين النداء والاختصاص، ولذلك أرى أنَه لو فُصِل الباب عن باب النداء لكان أولى، لأن الأحكام كلها السابقة لا تتأتى في النداء .. لا تتأتى في باب الاختصاص، لكن لا أدري لماذا جعلوا الباب مرتبطاً بالنداء؟! أمَّا الاستغاثة ونَحوها الأمر واضح، يُستعمل بعض أحرف النداء، أمَّا هنا معمول لفعل محذوف (أخصُّ) وهناك (أدعو) إذاً فرقٌ بينهما، على كلٍّ: هذا ما جرى عليه النحاة.
(كَنِدَاءٍ) أي: جَاء صورة النداء لفظاً توسعاً، وهذا وجه الشبه بينهما: كونه على صورته غالباً، لئلا يَرِد أن المنصوب على الاختصاص المقرون بـ (أل) ليس على صورة المنادى، لأنه لا يكون تالياً لـ (أل) .. (نَحْنُ العُرْبَ) ما وجه الشبه هنا؟ ليس فيه شبه، لأن العُرْب هنا لا يُمكن أن يكون تالياً لـ (يا) لأنه مُحلىً بـ (أل)، وأمَّا (أيُّها) و (أيَّتها) يُمكن أن يكون المنصوب على الاختصاص في (أيُّ) و (أيَّتها) أن يكون تالياً لـ (يا) وهذا واضح بَيِّن.
ويُمكن أن يكون وجه الشبه بين الاختصاص والنداء: أن كُلاً من الاختصاص والنداء يُوجد معه الاسم تارةً مبنياً على الضَّم، وتارةً منصوب، انظر! تَكلُّف في جَعْل شبه بين النداء والاختصاص، إذاً: نَفْصله ابتداءً، ونقول: هو نوعٌ من المنصوبات ولا يَلزم أن نقول: مِثْل النداء، ثُمَّ نَحكم عليه بأنه كالمنادى، ثُمَّ نأتي ونتكلَّف في وجه الشبه بينهما، لأن الشبه بعيد جداً، كلٌ منهما مُنفصل عن الآخر، ولذلك تَكلَّفوا؛ لأنه في وجه الشبه الأول قول: أنه يأتي المنصوب على الاختصاص بـ (أيُّها وأيَّتها) والمنادى كذلك (يا أيُّها .. يا أيَّتها) قد يرد عليكم (نَحْنُ العُرْبَ) قالوا: هذا من غير غالب، والغالب (أيُّها وأيَّتها).
قول آخر في وجه الشبه: أن المنصوب على الاختصاص تارةً يكون مبنياً في اللفظ وهو (أيُّها وأيَّتها)، وتارةً يكون منصوباً (نَحْنُ العُرْبَ) ظَهَر، مثل: يا طالعاً جبلاً .. يا غلام زيدٍ .. (يا أيُّها) هذا مثل (يا زيد)، إذاً: تارةً يكون مبنياً، وتارًة يكون مُعرَباً، يَرد على هذا وجه الشبه: أن عِلَّة البناء هناك ليست هي عِلَّة البناء هنا، (أيُّ) بُنِيت هناك لِعلَّةٍ تقتضي البناء، وهنا مُغايرة، إذاً: ما وجه الشبه؟ لا وجه.
كذلك قيل الثالث: أن كلاً منْهما منصوبٌ بِفْعلٍ محذوف وجوباً، وهذا لا يقتضي أن يكون مثله، لأن التحذير قد يُنصَب بِفْعلٍ مَحذوفٍ وجوباً، وكذلك الإغراء قد يكون مُنصوباً بِفعلٍ محذوف وجوباً، إذاً: وجِدَت العِلَّة والحكم يدور مع علته وجوداً وعدماً.
على كلٍ: الظاهر والله أعلم .. يعني: نَتَجَاسر على النحاة ونقول: لا وجه شبه أصلاً بين البابين: باب الاختصاص مُختَص مُنْفصل، وباب النداء مُنْفَصل، ولذلك أحسن السيوطي أيَّما إحسان عندما قال: " ومنه – أي: المفعول به - ما نُصِب على الاختصاص، من المنصوب مفعولاً به بِفعلٍ واجب الإضمار باب الاختصاص، وقَدَّره سيبويه بـ:(أعني) هذا أولى.
إذاً: (الاِخْتِصَاصُ كَنِدَاءٍ دُونَ يَا) وأخواتها لفظاً ونِيَّةً، كقولكِ:(يَا أَيُّهَا الفَتَى بِإِثْرِ ارْجُونِيَا)(بِإِثْرِ) يعني: بَعْدَه، حينئذٍ مَثَّل لك بـ (أَيُّ) ومثلها (أيَّتها).
ثُمَّ قال: (وَقَدْ يُرَى ذَا دُونَ أيٍّ تِلوَ أَلْ) يعني: النوع الثاني من المنصوب على الاختصاص ليس (أيّ) ولا (أيَّتها)، ودائماً النحاة إذا قدَّروا (أي) حينئذٍ مِثْلُها المؤنَّث، يعني: لا نَحتاج إلى أن يُنَصَّ على النوعين، فيقال:(أيُّها) ومثلها (أيَّتها) وقَدْ لا يكون المنصوب على الاختصاص هو (أي) أو (أيَّتها)، وإنَّما يكون اسماً يأتي بدلاً عن (أيٍّ) مقروناً بـ (أل) ولذلك قال:(وَقَدْ) هذا للتقليل.
(وَقَدْ يُرَى ذَا) ما هو (ذَا) المُشار إليه؟ المنصوب على الاختصاص، (وَقَدْ يُرَى ذَا)(يُرَى) هذا مغيَّر الصيغة، و (ذَا) اسم إشارة مبني على السكون في محل رفع نائب فاعل، (دُونَ أَيٍّ) مُرَكَّب إضافي منصوبٌ على الظرفية، حال من (ذَا).
(وَقَدْ يُرَى ذَا) المنصوب على الاختصاص حالة كونه (دُونَ أَيٍّ) يعني: من غير (أي)(تِلوَ أَلْ)(تِلوَ) هذا مفعول ثاني لـ (يُرَى) لأنه بِمعنى يُعْلمَ، (تِلوَ أَلْ)(تِلوَ) مضاف و (أَلْ) قُصِد لفظه مضافٌ إليه، يعني: بعد (أَلْ) مقروناً بـ (أَلْ) مثل ماذا؟ (كَمِثْلِ نَحْنُ العُرْبَ)(العُرْبَ) هذا جاء (دُونَ أَيٍّ تِلوَ أَلْ) ما جاء نكرة.
حينئذٍ نقول: (العُرْبَ) هذا جاء عِوضاً عن (أَيُّ) لأن الأصل في المنصوب على الاختصاص: أن يكون لفظ (أَيَّ)، حينئذٍ (قَدْ) تقليل (يُرَى) المنصوب على الاختصاص من غير أن يكون (أيّاً) ولا (أيَّتها) ولكنه مقروناً بـ (أَلْ) لأنه لا يأتي نكرة كما سيأتي.
(كَمِثْلِ نَحْنُ العُرْبَ)(نَحْنُ) مبتدأ (أَسْخَى) هذا خبر بمعنى: أقرى، (مَنْ بَذَلْ) من أعطى، (أَسْخَى) مضاف و (مَنْ) اسم موصول بمعنى: الذي، مضاف إليه و (بَذَلْ) يعني: أعطى، الجملة صلة الموصول لا محل لها من الإعراب، (نحن أسخى من بذل)(نحن) من؟ هذا يحتاج إلى بيان، قال:(أخصُّ العرب) يعني: العرب أسخى من بذل، حينئذٍ (العُرْبَ) أو (العَرَب) نقول: منصوبٌ على الاختصاص، وعَامله: فعلٌ مضمرٌ واجب الإضمار لا يجوز ذكره، (العُرْبَ) هذا اسمٌ مُحلىً بـ (أَلْ) هل هذا موافق للأصل؟ لا، ليس موافقاً للأصل، لأن الأصل: أن يكون (أَيّ).
إذاً نقول: الاسم المخصوص: وهو الاسم الظاهر الواقع بعد ضميرٍ يَخصُّه، هذا على أربعة أنواع، وكما ذكرنا أن الناظم أجحف بالباب كما قال المكُودِي.
الأول: أن يكون (أيُّها وأيَّتها) بل هذا هو الأصل: أن يكون المنصوب على الاختصاص هو لفظ (أيُّها وأيَّتها) فلهما حكمهما في النداء وهو الضَّم، يعني: مبنيان على الضَمِّ لفْظاً، ويلزمهما الوصف باسم مُحلى بـ (أَلْ) لازم الرفع، يعني: لا بُدَّ أن يتلوهما اسمٌ مُحلى بـ (أَلْ) يُعْرَب نعت، اسم جنس مُحلىً بـ (أَلْ) لازم الرفع، نحو:(أنا أفعل كذا أيُّها الرجل) الرجل هنا: اسمٌ مُحلى بـ (أل) وهو نعت لـ (أيُّ)، و (اللهم اغفر لنا أيَّتها العصابة) كذا مثَّل السيوطي في (الجمع):(اللهم اغفر لنا أيَّتها العصابة) عصابة يدعون الله عز وجل، (أيتها العصابة) فـ (العصابة) مُحلىً بـ (أل)، وجاء بعد (أيَّتها)، وأُنٍّث (أيَّتها) لماذا؟ لأن الصفة هنا مؤنَّث .. تابعٌ له.
إذاً: الأصل في الاسم المخصوص الظاهر: أن يكون (أيًّا وأيَّتها) و (أيُّها) للمُذَكَّر و (أيَّتها) للمؤنَّث مُطلقاً، يعني:(أيَّها) للمُذكَّر مُفرداً أو مُثنَّىً أو جمعاً، و (أيَّتها) للمُؤنَّث مُفرداً أو مُثنَّىً أو جمعاً، هذا (أيُّ) .. هذا هو الاسم الأول وهو الأصل الذي يأتي عليه، فلا يَقَع المختصُّ مبنياً على الضَمِّ إلا بلفظ (أيُّها وأيُّتها).
إذاً: الاسم المخصوص قَدْ يكون مُعرَباً وقد يكون مبنياً، متى يكون مبنياً؟ إذا كان لفظ (أيُّها وأيَّتها) وما عداه فهو مُعربٌ، والنصب يكون ظاهراً، وأمَّا غيرهما فمنصوبٌ، وناصبه فعلٌ واجب الحذف، تقديره:(أخصُّ) وهذا واضح بَيِّن، وإن كان سيبويه قَدَّره (أعني).
ووجه الضَمِّ في (أيُّها وأيَّتها)، لماذا بُنيا؟ قالوا: استصحاب حالهما في النداء، بأن نُقِلا بحالهما عن النداء واستُعمِلا في غيره، وفي المغني: وجه بنائهما على الضَمِّ مشابهتهما في اللفظ (أيُّها وأيَّتها) في النداء، إذاً: ليست هي، وإنما أشبهت (أيُّها) التي تُنْصَب على الاختصاص .. أشبهت (أيّاً) التي يُنَادى بها، هناك صِلَة .. وصْلة، حينئذٍ أشبهت هذه التي معنا تلك، إذاً: ليست هي، ولا يُمكن أن تكون هي أصلاً، لأن تلك تكون مبنيةً على الضمِّ، لأنها منادى وهنا لا.
وفي (المغني): وجه بنائهما على الضمِّ مشابهتهما في اللفظ (أيُّها وأيَّتها) في النداء، وإن انتفى هنا مُوجِب بنائهما في النداء، إذاً: مُوجِب البناء هناك مفقودٌ هنا، وإذا كان الأمر كذلك لماذا نقول: هي عينُها .. جئنا بها من المنادى؟ (أيُّ) ليست مخلوقة للنداء فحسب، وإنما تُسْتَعمل في النداء وفي غيرها، تأتي موصولة، وتأتي شرطية، وتأتي استفهامية، إذاً: لا نقول هي مختصة بالنداء، تقع منادى كذلك وصْلة، فالأصل أن نقول: هذا الباب منفك، ولعلَّ هذه هي الشبهة التي أوقعت النحاة، أنهم قالوا:(أيُّ) هي نَفُسها الندائية، الأصل: أنه يُعلَّل البناء بِما عُلِّل هناك، قالوا: لا، عِلَّة البناء غير موجودة، لماذا بُنيت؟ أشبهت (أيُّ). طيب! هي التي جئتم بها، كيف أشبهتها؟ على كلٍّ الكلام غير مُنضَبِط.
وموضع (أيُّها وأيَّتها) نصبٌ بـ: (أخُصْ) وهذا مذهب الجمهور: أن (أيُّها وأيَّتها) في اللفظ مضمومان على البناء، وفي المحل منصوبان، وهذا مذهب الجمهور.
وذهب الأخْفَش: إلى أنه منادى، وإذا كان منادى لم يَختص ببابٍ مُختصٍ به، وإنما داخلٌ في حد البناء.
ولا يُنْكَر أن الإنسان ينادي نفسه، يعني إذا قيل:(ارجوني أيُّها الفتى) قد يأتي في بعض المواضع أنه يُنادي نفسه، وطبعاً الإنسان لا ينادي نفسه، هذا الأصل، ولو نادى نفسه حينئذٍ لا يكون حقيقةً إنما يكون مجازاً، والأخْفَش يقول: أنه منادى ولا يُنْكَر أن الإنسان يُنادي نفسه، لا! يُنْكَر، لماذا؟ لأن النداء إذا كان حقيقةً لا يُمكن أن ينادي نفسه، إذا كان طلب الإقبال ويستعمل (يا) التي للبعيد، ثُمَّ نقول: نادى نفسه حقيقةً، الجواب فيه تَكلُّف.
كقول عمر: "كل الناس أفقه منك يا عمر" ليس المراد: عمر ينادي نفسه، واضح هذا المثال، يعني: نزَّل نفسه مُنَزَّلة البعيد أو الذي لا يدري مثل هذه المسألة فقال: يا عمر، وليس حقيقةً.
وذهب السيرافي: إلى أن (أَيّاً) في الاختصاص مُعْرَبة وليست مبنية.
ثُمَّ ثَمَّ وجوه في الإعراب: هل هو خبر مبتدأ محذوف أو بالعكس، يرجع إليه في مضآنه.
إذاً: (أَيُّ) التي تُنصب على الاختصاص فيها ثلاثة أقوال: مبنية وهو مذهب الجمهور، حينئذٍ سَلَّط عليها العامل في المحل، والقول الثاني وهو قول الأخفش: أنها منادى، القول الثالث وهو قول السيرافي: أن (أَيّاً) في الاختصاص مُعْرَبة، وهذا من الفوارق بين البابين: باب النداء وباب الاختصاص، أن (أَيّاً) هناك مُجمعٌ على بناءها، وهنا مُخْتَلفٌ في بناءها، فقيل مَبْنِية، وقيل مُعْرَبة.
إذاً هذا النوع الأول: الاسم المخصوص يكون (أيُّها وأيَّتها) فلهما حُكْمُهما في النداء وهو الضَّم، ويلزمهما الوصف باسمٍ مُحلىً بـ (أل) لازم الرفع، كالمثال الذي ذكرناه.
الثاني: أن يكون مُعرَّفاً بـ (أل) وإليه الإشارة بقول الناظم: (وَقَدْ يُرَى ذَا دُونَ أَيٍّ تِلوَ أَلْ)(يُرَى ذَا) يعني: المنصوب على الاختصاص، (دُونَ أَيٍّ) يعني: مكان (أيٍّ) ولم يؤتَ بـ (أيٍّ)(تِلوَ أَلْ) يعني: تابعاً لـ (أَلْ) مثاله: (نَحْنُ العُرْبَ).
الثالث: أن يكون مُعرَّفاً بالإضافة، لذلك انتبه أن المنصوب على الاختصاص لا يكون نكرة البتَّة، الأول:(أيُّها وأيَّتها) معرَّفان، ثُمَّ المُحلى بـ أَلْ:(العُرْبَ)، ثُمَّ المُعرَّف بالإضافة كحديث:{نَحْنُ مَعَاشِرَ الأَنْبِيَاءِ} قيل: اللفظ المحفوظ {إنَّا مَعَاشِرَ الأَنْبِيَاءِ} على كلٍ هذا أو ذاك (مَعَاشِرَ الأَنْبِيَاءِ) هذا مَعْرِفة، لأن (معاشر) أو (معشر) هذا نكرة مُضاف إلى الأنبياء وهو مُحلىً بـ (أل) فاكتسب التعريف، إذاً: هو مَعْرِفة بالإضافة.
قال سيبويه: "وأكثر الأسماء دخولاً في هذا الباب (بنو فلان) و (معشَر) مُضافة و (أهل البيت) و (آل فلان) " أربعة، بل نَصَّ السيُوطي نَقْلاً عن سيبويه:" أنه لم ينصب على الاختصاص إلا هذه الأربعة " فقط، كما سيأتي كلام السيُوطي.
إذاً الثالث: أن يكون مُعرَّفاً بالإضافة.
الرابع: أن يكون عَلَماً وهو قليل، كقول الشاعر:
بِنَا تَمِيماً يُكْشَفُ الضَّبَابُ ..
(بِنَا .. نَا) ضمير مُتكلِّم، (تَمِيماً) هذا عَلَم وهو منصوب، و (العُرْبَ) منصوب، وكذلك (مَعَشر) منصوب، لأن المبني هنا في باب الاختصاص خاصٌ بـ (أيُّ وأيَّتها) فقط، ومَا عداه فهو منصوب. (بِنَا تَمِيماً يُكْشَفُ الضَّبَابُ)، هذه أربعة أنواع للمخْصُوص، والأكثر في المخْتَص أن يلي ضَمير المُتكلِّم:(نحن .. إنَّا .. بنا) إلى آخره، هذا الأكثر.
ولا يجوز حينئذٍ أن يتقدم على الضمير، يعني: لا يتقدم المخصوص على الضمير، فلا يُقال:(معشر الأنبياء نحن) هذا لا يجوز، (أيها الفتى ارجوني) لا يجوز، لا بُدَّ أن يكون مُتأخراً، وقد يلي ضمير مخاطبٍ لكنه على قلة، نحو:(بك الله نرجو الفضل) ولا يكون بعد ضمير غائبٍ.
إذاً: الأصل في الاسم المخْتَص: أن يكون تابعاً لضميرٍ، لا لاسمٍ ظاهر، ثُمَّ الأصل: أن يكون لمتَكلِّمٍ، وما عداه وهو المخاطب والغائب قيل: شاذ، لكن بعضهم حَكم بأنه قليل في المخاطب، ولا يَتَقدَّم عليه إذا كان لمتَكلِّم، ولا يكون بعد ضمير غائبٍ، وجوَّزه السِيُوطي في (الهمع) بناءً على أنه قليل .. قَلَّ أن يأتي بضمير الغائب، لكن الأكثر على أنه شاذ يُحفَظ ولا يُقاس عليه، ولذلك قلنا:(تَخصيص حُكمٍ عُلِّق بضمير ما تأخر عنه) يعني: ضمير مُتكلِّم، ثُمَّ قد يكون خطاباً لمُخَاطَب، ثُمَّ قد يكون لغائب، والاثنان المتأخران الأصل: أنهما شاذَّان، والأصل فيه: أن يكون لمُتكلِّم. تأخر عنه من اسمٍ ظاهرٍ مَعرِفة لا نكرة - لا يكون المخْتَص إلا معرفة -، مَعمولٍ لـ:(أخُصَّ) واجب الحذف.
إذاً: عَرَفنا أن الاختصاص عند النحاة مثل النداء - يعني: شبيه بالنداء -، وانظر إلى الفوارق بين البابين عند النحاة ترى العجب. يفارق الاختصاص النداء في أمور: ثمان عشرة موضعاً، أسردها سرداً:
الأول: أنه ليسَ معه نداءٌ لا لَفْظاً ولا تَقديراً، يعني: لا يدخل عليه حرف النداء، لا لفظاً ولا تقديراً – يعني: لا يُنوى -.
الثاني: أنَّه لا يَقَعُ في أوَّلِ الكلام مثل النداء (يا زيد .. يا عمرو) إلى آخره، بل في أثنائه كالواقع بعد (نحن) في قوله صلى الله عليه وسلم {نَحْنُ مَعَاشِرَ الأَنْبِيَاءِ لا نُورَثُ} .
أو بعدَ تمامِه كما في مِثَال الناظم (ارجوني أيُّها الفتى) جاء خاتمة .. لا بأس.
أو يقع في الأثناء: {نَحْنُ مَعَاشِرَ الأَنْبِيَاءِ لا نُورَثُ} انظر! المُخْتَص هنا وقع في المنتصف .. حشو الكلام، و (ارجوني أيُّها الفتى) جاء متأخراً، إذاً: لا بأس أن يقع في الأثناء أو متأخراً، أمَّا أن يَتقدَّم فلا.
الثالث: أنَّه يُشْتَرط أن يكونَ المقدَّمُ عليه اسْماً بمعناه كـ (الياء) في (ارجوني) فإنها بمعنى (أيُّها الفتى) أي: أن المُراد منهما شيءٌ واحد، يعني: يكون المُختَص كالمُفسِّر للضمير يصدقان على شيءٍ واحد.
الرابع والخامس: أنه يقِلُّ كَونُه عَلَماً وأنَّه يُنْصَب مع كونِه مُفْرَداً، أي: لفظاً لا محلاً فقط، مع كونه مفرداً أي: مُعرَّفاً، إذاً: يَقل كون عَلَماً أنه يُنْصَب مع كونه مُفرداً، والمفرد في باب النداء مبني، هنا (نَحْنُ العُرْبَ) مفرد، لو كان شبيهاً بالنداء لقال:(نَحْنُ العُرْبُ) لأن المنادى هناك المفرد مبني، وهنا مفرد وهو منصوب كذلك.
السادس: أنه يكونَ بـ (أل) قِياساً (نَحْنُ العُرْبَ) أمَّا هناك فلا .. لا يكون بـ (أل).
السابع: أن (أيّاً) تُوصَف بالنداء باسم الإشارة وهنا لا تُوصَف به.
الثامن: أن المَازِني أجَاز نصب تابع (أيٍّ) في النداء، ولم يحكوا هنا خلافاً في وجوب رفعه، يعني: مَا بَعْد (أيّ) هنا باتفاق أنه واجب الرفع، ولذلك ذُكِر في الحد السابق.
التاسع والعاشر، والحادي عشر، والثاني عشر، والثالث عشر، والرابع عشر، والخامس عشر: أنه لا يكون نكرة، ولا اسم إشارة، ولا موصولاً، ولا ضميراً، وأنه لا يستغاث به، ولا يندب، ولا يُرَخَّم. ما بقي .. أين الشبه هنا؟ غريب هذا .. سبحان الله!!
السادس عشر: أن (أيَّ) هنا اخْتُلِف في ضمَّتها هذه هل إعرابٌ أو بناء؟ مُخْتَلفٌ فيها كما سبق: السِيرَافي يرى أنها مُعْرَبة، والأخْفَش يرى أنها مُنَادى، والجمهور على أنها مبنية، وفي النداء ضمَّتها بناءٌ بلا خلاف.
السابع عشر: أن الفعل المحذوف هنا فعل الاختصاص، وفي النداء فعل الدعاء، فرقٌ شاسع .. هذا الفرق يكفي أن يَفْصِل بين البابين، لو قيل باتحاد العامل تَمْشِي، لكن لمَّا كان (أخُصَّ) هنا هو المُقدَّر، وهناك (أدعو) هذا صار مُنْفصلاً.
الثامن عشر: أن هذا العامل لم يُعوَّض عنه هنا شيء، وعُوِّض عنه في النداء، قلنا:(يا) هذه عِوض عن (أدعو) وهنا حُذِف فَلَم يُعوَّض، إذاً: فرقٌ بينهما.
وعُوِّض عنه في النداء حرفه – أي: حرف النداء -، جميع هذه الأحكام راجعة إلى جهة اللفظ، ثماني عشرة موضعاً.
وأمَّا الأحكام المعنوية التي يفترقان فيها فثلاثة أحكام:
- أن الكلام مع الاختصاص خبر ومع النداء إنشاء، -هذا أيضاً تَضُمُّه إلى ما سبق-، أن الكلام هنا من قسم الخبر، والنداء إنشاء.
- الثاني: أن الغَرَضَ من ذِكْره تخصيص مدلوله من بين أمثاله بما نُسِب إليه بخلاف النداء، يعني: الغَرَض هنا من ذِكْر الاختصاص: تَخصيص مدلوله، يعني: فيه قَصْرٌ، إذا قيل (ارجوني أيها الفتى): ارجوني أنا لا غيري، هذا المُراد به في معنى الاختصاص، قلنا: قَصْر الحكم على بعض أفراد المذكور: (ارجوني لا غيري) وهذا ليس موجوداً في النداء، هذا فارق جوهري أيضاً.
- الثالث: أنه مفيدٌ لفخرٍ، أو تواضع، أو بيان مقصود، كما ذكرناه في الإغراء.
هذه فوارق لفظيه ومعنوية تَجعل الناظر أنه يَجْزم جَزْماً باتاً: أن لا علاقة لا من قريبٍ ولا من بعيد بين البابين، وأن ما ذُكِر من وجه الشبه إنما هو تكلُّفٌ وحسب.
إذاً:
الاِخْتِصَاص كَنِدَاءٍ دُونَ يَا
…
كَأَيُّهَا الفَتَى بِإِثْرِ ارْجُونِيَا
وَقَدْ يُرَى ذَا دُونَ أَيٍّ تِلوَ أَلْ
…
كَمِثْلِ نَحْنُ ?لعُرْبَ أَسْخَى مَنْ بَذَلْ
(أَسْخَى) يعني: أقرى الناس للضيف.
قال الشارح هنا: "الاختصاص يشبه النداء لفظاً، ويخالفه من ثلاثة أوجه:
أحدها: أنه لا يُستعمل معه حرف نداء.
والثاني: أنه لا بُدَّ أن يسبقه شيء.
الثالث: أن تصاحبه الألف واللام، وذلك كقولك (أنا أفعل كذا أيها الرجل) و (نحن العرب أسخى الناس) وقوله صلى الله عليه وسلم {نَحْن معَاشِر الأنبياء لا نُورَث مَا تَرَكْنَاه صَدَقة} وهو منصوب لفعل مُضْمَر، والتقدير: أخصُّ العَرَبَ، وأخصُّ معاشر الأنبياء ".
السيُوطي يقول في (جمع الجوامع) وشرحه، قال:"ومنه ما نُصِب على الاختصاص"(منه) يعني: من المفعول به.
في الشرح قال: "أي من المنصوب مفعولاً به بفعلٍ واجب الإضمار باب الاختصاص، وقَدَّرَه سيبويه بـ (أعني) ويَختصُّ بـ (أيٍّ) الواقعة بعد ضمير المُتكلِّم، نحو: (أنا أفعل كذا) ". يعني: المفعول المنصوب على المفعوليه يختصُّ بـ (أي) – هو (أي) فقط هذا الأصل - وقد ينوب عنه المُحلى بـ (أل)، وينوب عنه كذلك المضاف، ثُمَّ العَلَم، فالقسمة رباعية، لكن الأصل: هو (أي) سواءٌ كانت لمُذَكَّر أو مؤنَّث.
ولذلك قال: "ويَختصُّ بـ (أيٍّ) الواقعة بعد ضمير المُتكلِّم" خَصَّ ضمير المتكلِّم وواقعةٌ بعده لا قبله .. لا يجوز أن تتقدَّم.
" نحو: (أنا أفعل كذا أيُّها الرجل) و (اللهم اغفر لنا أيَّتها العصابة)، وإنْما اخْتصَّ بها لأنه لمَّا جَرَى مَجرى النداء لم يكن في المناديات ما لَزِم النداء على صيغة الخاصة إلا (أيُّها الرجل) فلازمه معنى الخطابية الذي في النداء، فناسب أن يكون وحده مفسَّراً" هذه على رابعة، لكنها أضعف مما سبق.
فلا يقال: (إني أفعل زيدٌ) لا يصح .. تُعيد نَفْسَك، وحكم (أيٍّ) في هذا الباب حكمها في باب النداء من بنائها على الضمِّ، مَحكوماً على موضعها بالنصب، إذاً: هي مبنية على الضَمِّ في محل نصب.
وليس هذا الحكم خاص بالنداء، لو انفرد النداء بهذا لقلنا: كل ما أشبهه فهو شبيهٌ بالنداء، يعني: المبني إذا تَسلَّط العَامِل على مَحله حينئذٍ نقول مثل (ضَرَبْتُ حَذَامِي)(حَذَامِي) مبني على الكسر في محل نصب، إذاً: شابه (يا زيد) مبنيٌ في اللفظ لكنه في مَحل نصب، إذاً: لا يختصُّ بالنداء، لو كان تَسليط العَامِل على المَحل خَاصَّاً بالنداء لكان كل ما أشبهه قلنا هذا شبيهٌ بالنداء، لكن الحكم ليس خاصاً. وحكم (أيٍّ) في هذا الباب حكمها في باب النداء من بناءها على الضَمِّ مَحكوماً على موضعها بالنصب، ووصفها باسم الجنس مُلتَزِماً فيه الرفع. وهذا كذلك ليس خاص بالنداء.
ولا يدخل عليها حرف النداء لأن المراد بها: المُتكلِّم، والمُتكلِّم لا ينادي نفسه، ولذلك قيل: خبر، والنداء هنا كـ:(إنشاء)، إذاً: فرقٌ بينهما.
ويَقوم مَقَام (أيٍّ) انظر الأصل: هو (أي) .. ويقوم مقام (أيٍّ) في الاختصاص مُصرَّحاً بنصبه اسمٌ دَالٌّ على مفهوم الضمير، مُعرَّف باللام، يعني: مَا يَدُل ويُفسِّر ويكشف ويشرح الضمير، (نحن) من؟! مُبْهَم، لمَّا قال:(العُرْبَ) إذاً: (العُرْبَ) هذا مُفسِّرٌ لمفهوم الضمير الذي فيه الإبهام، (نحن العُرْبَ أقرى الناس للضيف).
أو الإضافة .. هذا النوع الثالث: {نَحْنُ مَعَاشِرَ الْأَنْبِيَاءِ} . قال سيبويه: "فأكثر الأسماء دخولاً في هذا الباب (بنو فلان) و (معشَر مُضافة) و (أهل البيت) و (آل فلان)، قال: العرب تَنْصِب في الاختصاص هذه الأربعة، ولا ينصبون غيرها" فهي خاصة بباب الإضافة، إذاً: باب الإضافة أُغْلِق .. أربعة فقط التي ذكرها سيبويه، وما عداها اجتهاد منه.
وقلَّ كونه عَلَماً كقول رؤبة:
بِنَا تَمِيماً يُكْشَفُ الضَّبَابُ ..
ولا يكون اسم إشارة ولا غيره، ولا نكرة البتَّة، ولا يَجوز تقديم اسم الاختصاص على الضمير، وإنما يكون بعده حشواً – يعني: في أثناء الكلام - بينه وبين ما نُسِب إليه أو آخراً .. متأخراً، كالمثال الذي ذَكَره الناظم.
وقلَّ وقوع الاختصاص بعد ضمير المخاطب، وبعضهم حكم بأنه شاذ (بك الله نرجو الفضل) ولا يكون بعد ضمير غَيْبَة، هذا مُلخَّص ما ذكره السيُوطي في (جمع الجوامع).
ثُمَّ قال رحمه الله: التَّحْذِيرُ وَالإِغْرَاءُ.
أي: هذا باب التحذير والإغراء، وجَمَع بينهما في بابٍ واحدٍ لاستواء أحكامهما؛ لأنه إذا عُلِمت أحكام التحذير حينئذٍ قيس عليها أحكام الإغراء.
التَّحْذِيرُ وَالإِغْرَاءُ: قلنا جَمَعهما في بابٍ واحدٍ لاستوائهما في أحكامهما، وكان ينبغي تقديم الإغراء على التحذير .. حسن، الإغراء: حَث على التزام شيءٍ محمود، والتحذير: تَخْويف، تفاءلوا .. تُقدِّم الإغراء على التحذير، ولذلك يُقال:(الثواب والعقاب) هكذا جرى البصريون وغيرهم، ولا يُقال:(العقاب والثواب) إنما يُقَدَّم ما فيه حُسنٌ على ما فيه تخويف، لأن الإغراء هو الأحسن معنىً، وعادة النحويين البداءة به كما يقولون:(نِعْمَ وبِئسَ)(نِعْمَ) هذا في المدح و (بئس) في الذمِّ، فيقَدَّم ما هو حسن على ما ليس كذلك.
وقَدْ يُقال: إنما قَدَّم التحذير لأنه من قبيل التَخْلِية، والإغراء من قبيل التَحْلِية، والتَخْلِية قبل التَحْلِية هكذا شاع، ونقول: فيه نظر، بل الصواب التَخْلِية مع التَحْلِية، والتَحْلِية مع التَخْلِية كلٌ منهما مصاحبٌ للآخر، وأمَّا التَخْلِية قبل التَحْلِية ويُراد بالقبلية المراد ذهناً هذا فيه نظر، حتى في تزكية النفوس، التخلية مع التحلية وإن شئت قُل: بالتحلية، أمَّا التخلية قبل التحلية هذا فيه نظر.
على كلٍّ هنا قال: "لأنه من قبيل التَخْلِية، والإغراء من قبيل التَحْلِية، ثُمَّ هما وإن تساويا حكماً مفترقان معنىً" يعني: من جهة الحكم واحد، الأحكام اللفظية الإعراب ونحوه، وأمَّا من حيث المعنى بينهما فرق واضح.
وهما مفترقان معنىً، فالإغراء: التسليط على الشيء (الصَّلَاةَ جَامِعَةً) أو (الصَّلَاةَ .. الصَّلَاةَ) يعني: الزم الصلاة. والتحذير: الإبعاد عنه يعني: عن الشيء المُحذَّر منه، ويشتمل التحذير على مُحذِّر وهو المتَكلِّم، ومُحذَّر وهو المخاطَب، ومُحذَّرٌ منه، وهو الشَّر مثلاً، ومثله يجري في الإغراء.
إذاً: ثلاثة أركان في التحذير: (مُحذِّر) وهو المُتكلِّم، و (مُحذَّر) وهو المخَاطَب، و (محذَّرٌ منه) وهو الشَّر (إيَّاك والشَّرَّ) أنا مُحذِّر، وأنت المُخاطَب بـ (إيَّاك) مُحذَّر، والشَّر مُحذَّرٌ منه.
(التَّحْذِيرُ وَالإِغْرَاءُ)(التَّحْذِيرُ) مصدر حَذَّرَ .. يُحذِّرُ .. تَحذيراً، مصدر حَذَّرت فلاناً كذا، أو حذَّرته من كذا، أي: خَوَّفْته، فالتحذير في اللغة بمعنى: التخويف، وفعله يَتعدَّى إلى مفعولين:((وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ)) [آل عمران:28](يُحَذِّرُكُمُ) الكاف مفعول، (نَفْسَهُ): مفعولٌ ثاني، إذاً: يتعدى إلى مفعولين.
واصطلاحاً: المشهور عند النحاة أنه التحذير: تنبيه المخاطب على أمرٍ مكروهٍ ليجتنبه، هذا المشهور، ولكن إذا قيل: بأنه تنبيه المخاطَب على أمرٍ مكروهٍ ليجتنبه، نأتي على شرحه ثم ننقضه.
و (الإغْرَاءُ): تنبيهه على أمرٍ محمودٍ ليفعله، الإغراء: مَصدَر أغريت فلاناً بكذا إذا حملته عليه، وألزمته أن يفعله.
وفي الاصطلاح عندهم: تنبيه المخُاطَب على أمرٍ محمودٍ ليفعله، إذاً: كلاهما تنبيه، وكلاهما مُتعلقَان بالمخُاطَب، لا المتَكلِّم ولا الغائب، إنما نصوا على المخاطب لما سيأتي، وهو مَقيسٌ فيه.
تنبيه المخاطب: إمَّا على أمرٍ محمودٍ ليفعله ويلتزمه وهو الإغراء، وإمَّا على أمرٍ مذمومٍ ليجتنبه، إمَّا حث على شيء ليفعل، وإمَّا تحذير من شيء ليترك.
وقوله: (تنبيه المخاطب) إنَّما اقتَصَرَ على المخَاطَب لماذا؟ قيل: لأنه هو المقيس، والمُتكلِّم والغائب قيل: إنهما قليلان أو شاذَّان، إذاً: تنبيه المخَاطَب إنما اقتَصَرَ على المخَاطَب، مع أنه يَحتمل المُتكلِّم، ويَحتمل الغائب، اقتَصَرَ عليه مع أن التحذير يكون لغيره، لأن تحذير المخَاطَب هو الكثير المقيس، ما عداه قليل - سُمِعَ لكنَّه قليل - وإذا كان قليلاً لا يكون مَقيساً.
مع أن التحذير يكون لغيره، لأن تَحذير المخَاطَب هو الكثير المقيس، حينئذٍ اخْتصَّ بهذا الحد، ذَكرُوه النحاة دون غيره لما ذَكَرْناه من الفائدة، ويُقال أيضاً: المقيس من التحذير: ما كان صادراً من المتَكلِّم لتخويف المخَاطَب، أمَّا ما صَدَرَ من المتَكلِّم كتحذير نفسه، أو غائبٍ فليس بمقيسٍ بل هو شاذٌ في الحالين -وهذا أجود- أن يُقال: أنه إذا كان التحذير لغائب فهو شاذ، وإذا كان التحذير للمُتكلِّم نفسه فهو شاذ، وإنما يَختصُّ المقيس في لسان العرب وهو الكثير المطَّرِد: أن يكون للمخَاطَب فقط، أمَّا تحذير النفس فهذا بعيد، لو سُمِعَ حينئذٍ يُحْمَل على المجاز ولا يكون حقيقةً، كما قلنا: الإنسان لا ينادي نفسه، ولا يُحذِّر نفسه حقيقةً، لأنه إذا عَلِم الشَّر فالأصل: العاقل أنه يبتعد.
على أمرٍ مكروهٍ ولو في زَعْم المُحذِّر فقط أو المخاطب فقط، يعني: لا يُشتَرط فيه أن يكون هذا المكروه الذي يُنَبٍّه المخَاطَب عليه: أن يكون مُتفقاً بينهما، لا، قَدْ يكون مكروهاً عنده، غير مكروه عند المخَاطَب، يعني: إذا نَبهت شخصاً على أمرٍ ترى أنه مكروه .. مذموم، هل يلزم أن يكون المخَاطَب يَعْلَم ذلك وأنه يقرُّ به؟ لا يلزم، يُسمى تَحذيراً ولو لم يكن عنده مذموماً مكروهاً، والحكم حينئذٍ مُنْفَك. ولو في زَعْم المُحذِّر فقط أو المخاطب فقط، ليجتنبه يعني: يبتعد ويتركه.
بقي: تَنْبيه المخَاطَب على أمرٍ مذمومٍ ليفعله، لو كان إنسان هكذا نَبَّه المخَاطَب على أمرٍ مذموم ليفعله، كما أنه قد يُنَبهه على أمرٍ محمودٍ ليتركه، هل يُسمى تَحذيراً، ويُسمى إغراءً؟ قالوا: نعم.
بقي تَنْبيه المخَاطَب على أمرٍ مذمومٍ ليفعله، مع أن التحذير: تَنْبيه المخَاطَب على أمرٍ مذموم ليتركه ويَجتنبه، لكن هذا خالف العقل والفطرة والدين، فأمره ونَبَّهه من أجل أن يفعله.
وتنبيهه على أمرٍ مَحمود ليجتنبه. فقيل: الأول من الإغراء والثاني من التحذير، الأول من الإغراء: الذي هو تَنْبيه المُخاطَب على أمرٍ مذمومٍ ليفعله، إذا كان المُراد به الفعل حينئذٍ هو إغراء، ولو كان مذموماً، والثاني: الترك ولو كان لمحمودٍ فهو تحذير، فقيل: الأول من الإغراء والثاني من التحذير، ولم يذكرهما النحاة في الحد، لأنه لا ينبغي صدورهما من عاقل.
ودخل في التعريف، نحو: لا تؤذِ أخاك ولا تعصِ الله، وفي الإغراء: أحسن إلى أخيك وأطع الله واصبر، يعني: ما كان مؤداً بالجملة كما سبق في النُّدْبَة هناك: المُتَفَجَّع عليه لا بد من زيادة (وا) أو (ياء).
إذاً نقول: الأصل في التحذير والإغراء: ما ذكره النحاة في التنبيه، لكن يَرِد اعتراض، وهو أن قولهم: تَنْبيه المخَاطَب على أمرٍ محمود ليفعله، وتَنْبيه المخَاطَب على أمرٍ مذموم ليَجْتنبه، مبحث النحاة في: الإعراب والبناء، وهذا أشبه ما يكون بمعنىً لغوي أو اصطلاحي، أو معنىً عام، أو مؤدى لتركيب إسنادي ونحو ذلك، لكن لا يَتعلَّق بالمنصوب نفسه.
نحن نقول هنا: إيَّاك والشَّر، (إيَّاك) منصوب على التحذير، هل تَعرَّض له التعريف؟ وهناك نقول:(الصَّلَاةَ) منصوب على الإغراء، هل تَعَرَّض له التعريف؟ ولذلك انتُقِد هذا التعريف، قيل: الأولى أن يُعرَّف التحذير: بأنه اسمٌ منصوب بأُحَذِّر مَحذُوفاً وجُوباً، هذا؟؟؟ بناؤه وإعرابه، وزِدْ عليه التتميم الآخر، تَنْبيهاً للمخَاطَب لأمرٍ محمودٍ ليفعله، يعني: اجعل هذا مُقدِّمة، لأن بحثنا في ماذا؟ نحن نريد نَصْب وإعراب وجَر، أمَّا هذه المعاني العامة ليست من مصطلحنا، أثرٌ ظاهرٌ أو مُقدَّر يَجلبه العامل .. إلى آخره، حينئذٍ نقول: هذا الذي يعني النحاة، وأمَّا الأمر العام فلا.
كذلك في الإغراء، نقول: اسمٌ منصوبٌ بـ: (الزم)، محذوفاً وجوباً، لتَنبيه المخَاطَب إلى آخر التعريف، إذاً: لا بُدَّ من زيادة هذين القيدين من أجل أن يكون البحث في اسمٍ منصوبٍ والعامل محذوف وجوباً.
التَّحْذِيرُ وَالإغْرَاءُ.
قالوا هنا في فائدة: وإنما ذُكِرا بعد النداء لأن الاسم في التحذير والإغراء مفعولٌ به لفعلٍ محذوف، لا يجوز إظهاره كالمنادى على تَفْصيل آتٍ، يعني: كأنهم أرادوا أن يُلْحِقُوا هذا بالمنادى .. قد تكون مناسبة بينهما، أن كلاًّ منهما منصوبٌ لعاملٍ محذوف.
التَّحْذِيرُ وَالإِغْرَاءُ:
إيَّاكَ وَالشَّرَّ وَنَحْوَهُ نَصَبْ
…
مُحَذِّرٌ بِمَا اسْتِتَارُهُ وَجَبْ
وَدُونَ عَطْفٍ ذَا لإِيَّا انْسُبْ وَمَا
…
سِوَاهُ سَتْرُ فِعْلِهِ لَنْ يَلْزَمَا
إِلَاّ مَعَ الْعَطْفِ أَوِ التَّكْرَارِ
…
كَالضَّيْغَمَ الضَّيغَمَ يَا ذَا السَّارِي
(إيَّاكَ وَالشَّرَّ) هذا مفعولٌ به مُقدَّر، (نَصَبَ مُحذِّرٌ إيَّاكَ والشَّرَّ ونحوه، بِمَا اسْتِتَارُهُ وَجَبْ).
(إيَّاكَ وَالشَّرَّ) قُصِد لفظه: فهو مفعولٌ به منصوب، وعلامة نصبه فتحة مُقدَّرة على آخره، (الشَّرَ هُنا) مُقدَّرة على الراء، (وَنَحْوَهُ) انظر! نَصَبَه، والواو حرف عطف معطوف على (إِيَّاكَ وَالشَّرَّ) إذاً: نَصَبَه فَدَّل على أنه منصوب: وهو مفعولٌ مُقدَّر.
(نَصَبَ مُحَذِّرٌ)(نَصَبَ) فعل ماضي مبني على فتحٍ مُقدَّر، منع من ظهوره سكون الروي، (مُحَذِّرٌ) هذا فاعل، إذاً قلنا: عندنا مُحذِّر، وعندنا مُحذَّر، ومُحذَّرٌ منه، (إيَّاكَ) هذا مُحذَّر، أنا المتَكلِّم مُحذِّر، (الشَّرَّ) مُحذَّرٌ منه، (نَصَبَ مُحَذِّرٌ) نَصَب بـ (مَا) بعاملٍ وجب استتاره، (اسْتِتَارُهُ وَجَبْ) التقديم أحسن، (اسْتِتَارُهُ) مبتدأ و (وَجَبْ) خبر، و (اسْتِتَارُهُ وَجَبْ) الجملة الاسمية لا مَحل لها من الإعراب صلة الموصول.
إذاً: شَرَع الناظم بِذِكْر الوسيلة الأولى في التحذير وهي أهمها، وهي بـ (إيَّاك وأخواته)، نقول: التحذير يكون بثلاثة أشياء .. له ثلاث طُرق:
- (إيَّاك وأخواتها).
- الثاني: ما نَاب عنه من الأسماء المضافة إلى ضمير المخَاطَب: (نفسَك .. نفسَك) كما سيأتي.
- الثالث: ذِكْر المُحذَّر منه، هذه ثلاث طرق.
(إيَّاكَ وَالشَّرَّ): أشار بهذا البيت إلى النوع الأول وهو الأهم وهو عليه العُمْدَة لأنه الأصل، إذاً:(إيَّاك وأخواته) هي الطريقة الأولى في إيجاد وحصول تركيب التحذير.
(إيَّاكَ وَالشَّرَّ وَنَحْوَهُ) نحو ماذا؟ نحو: (إيَّاكَ وَالشَّرَّ .. إيَّاكُمَا وَالشَّرَّ .. إيَّاكُم وَالشَّرَّ .. إيَّاكُنَّ وَالشَّرَّ)، إذاً: نحو (إيَّاكَ أخواتها) وهو ما كان لمخَاطَب: (إيَّاكَ .. إيَّاكِ وَالشَّرَّ .. إيَّاكُما .. إيَّاكَم .. إيَّاكُنَّ) إذاً يعني: أن قولك (إيَّاكَ وَالشَّرَّ وَنَحْوَهُ) من الضمائر المنصوبة المنفصلة الذي هو (إِيَّا)، سبق معنا أن (إيَّا) هو ضميرٌ منفصل، إذا عُطِف عليه نُصِب بِفعلٍ يجب استتاره، لأن التركيب .. كأنه يقول لك: قِس على هذا التركيب وأنت استنبط منه، (إيَّاكَ): هذا ضمير مُنفصل نصب، (وَ) عَطَفَ عليه، (الشَّرَّ) هذا منصوبٌ.
قال: (بِمَا اسْتِتَارُهُ وَجَبْ) إذاً: نَصَبَ مُحَذِّرٌ إِيَّاكَ وَالشَّرَّ بِمَا اسْتِتَارُهُ وَجَبْ، نحو:(إيَّاكُما والأسدَ، وإيَّاكُمْ والمخالفة) هذا نحوه، يعني: إمَّا أنك تُغيِّر في لفظ الشر، وإمَّا أنك تأتي بمفردات وأخوات (إِيَّا).
وفُهِم منه: أن العامل المُقدَّر يَجب تَقْديره بعد الضمير، لأنه قال (بِمَا اسْتِتَارُهُ وَجَبَ) إذاً: إذا كان استتاره واجباً حينئذٍ لا بُدَّ من تَقدِيره، أين يُقَدَّر؟ يَجب أن يتأخر ولا يتقدَّم على (إِيَّا) لأنه لو تقدَّم على (إيَّا) لوجب اتصاله بعامله، ونحن الآن تصورنا المسألة فيما جاز أن يكون الضمير مُنفصلاً، فإذا أمْكَن الاتصال تعيَّن، إذاً: لا يُمكن أن نقدِّر هذا العامل قبل (إيَّا). فُهِم منه: أن العامل المقَدَّر يُقَدَّر بعد الضمير لما يلزم من تقديره قبله اتصاله به.
وَفِي اخْتِيَارٍ لَا يَجِيءُ المنُْْفَْصِلْ
…
إِذَا تَأَتَّى أَنْ يَجِيءَ المُتَّصِلْ
هذا القاعدة تطبقها هنا، فإذا قدَّرت الفعل المحذوف تُقدِّره بعد (إيَّا) ولا تُقدِّره قبله، لأنك لو قَدَّرته قبله لوجب اتصال الضمير، فإذا اتصل الضمير حينئذٍ انتقل عن لفظ (إيَّا) .. خرج عنه، ونحن نريد هذا اللفظ بِعينه، ولا يُمكن أن نَصل إليه إلا إذا تأخر العامل المُقدَّر. فيلزم تعدي فعل الضمير المتَّصِل لضميره المنفَصِل، وهو ممتنعٌ في غير باب (ظن وأخواتها) سميه هناك الذي ذكرناه استثناء ما عداه فهو ممتنع لا يجوز.
ثُمَّ (إيَّاكَ) تُستعمل في التحذير معطوفاً عليها كما تقدم: وَدُونَ عَطْفٍ.
قال: (إيَّاكَ وَالشَّرَّ وَنَحْوَهُ نَصَبْ) عرفنا المراد بـ (نَحْوَهُ)(إيَّاكَ وإيَّاكِ وإيَّاكُم وإيَّاكُنَّ).
(نَصَبْ مُحَذِّرٌ بِمَا اسْتِتَارُهُ وَجَبَ) لماذا وجب استتاره؟ قالوا: لأنه لمَّا كثُر التحذير بهذا اللفظ جعلوه بَدلاً من اللفظ بالفعل، لمَّا كثُر التحذير بهذا اللفظ في لسان العرب:(إيَّاكَ والشَّرَّ .. إيَّاكَ والأسد .. إيَّاك والقتلَ) كَثُر التحذير بهذا اللفظ، حينئذٍ جعلوا هذا اللفظ الملفوظ به بَدَلاً عن الفعل.
بدلاً من اللفظ بالفعل، والأصل:(احْذَر تلاقي نفسِك والشَّرَّ) ثُمَّ حُذِف الفعل وفاعله، (تَلاقِي) هذا مفعولٌ به، حُذِف وهو مضاف، (نَفْسِك) هذا مضاف إليه، انتصب انتصابه:(نَفْسَك) حُذِف (نَفْسَ) ثُمَّ أُقيم (الكاف) مُقامه فانتصب فانفصل فصار: (إيَّاك)، أصلها: أُحَذِّرُ تلاقي نَفْسِك، حُذِف الفعل (أُحَذِّر) مع فاعله، ماذا صار عندنا؟ (تلاقي نَفْسِك والشَّرَّ)(تلاقي) مفعولٌ به، هو مضاف و (نَفْسِك) مضافٌ إليه، حُذِف المضاف وأُقيم المضاف إليه مُقامه فانتصب انتصابه فصار (نَفْسَك والشَّرَّ)(نَفْسَك) مضاف ومضاف إليه، حُذِف الأول وأُقيم الكاف مُقامه فانفصل؛ لأنه سينتصب فإذا انتصب حينئذٍ نأتي بـ (إيَّاكَ والشَّرَّ) هذا أصل الموضوع عندهم. ثُمَّ حُذِف الفعل وفاعله، ثُمَّ المضاف الأول، وأُنِيب عنه الثاني فانْتَصَب، ثُمَّ الثاني، وأُنِيب عنه الثالث فانتصب وانفصل.
(وَدُونَ عَطْفٍ ذَا لإِيَّا انْسُبْ) إذاً: في مثل هذا التركيب (إيَّاكَ وَالشَّرَّ) إذاً عُطِف على (إِيَّا) بالواو حينئذٍ تَعَيَّن أن يكون العامل محذوفاً. (وَدُونَ عَطْفٍ ذَا لإِيَّا انْسُبْ)(انْسُبْ ذَا) أي: الحكم .. النصب بعامل مستتر وجوباً، الناظم يطلق الاستتار على الحذف وهذا من باب التوسع، يعني: بعاملٍ مَحذُوفٍ وجوباً، كما أنه يكون الحكم مع العطف كذلك دون العطف، لو قال (إيَّاكَ الشَّرَّ).
(انْسُبْ ذَا) أي: الحكم المذكور لـ (إِيَّا) إذاً: هي موجودة لا زالت، دُونَ عَطْفٍ تقول:(إيَّاكَ الشَّرَّ .. إيَّاكَ الأسدَ) بدون عطفٍ، كذلك في هذه الحالة الثانية يكون العامل محذوفاً واجب الحذف، لا يجوز أن يَظْهر البتَّة.
(وَدُونَ عَطْفٍ)(دُونَ) هذا منصوبٌ على الظرفية مُتعلِّق بقوله: (انْسُبْ) و (ذَا) اسم إشارة مفعول به مُقَدَّم على (انْسُبْ)، (انْسُبْ ذَا) المشار إليه الحكم السابق: النصب على التحذير، (لإِيَّا) جار مجرور مُتعلِّق بقوله:(انْسُبْ)، (دُونَ عَطْفٍ).
إذاً: من التركيب الأول (إيَّاكَ وَالشَّرَّ) بالواو .. بالعطف على الضمير المنفصل، كذلك مِثلُه (دُونَ عَطْفٍ) فيستوي (إيَّاكَ وَالشَّرَّ .. إيَّاكَ الشَّرَّ) بالواو وبدونها.
(وَدُونَ عَطْفٍ ذَا لإِيَّا انْسُبْ) إذاً: هاتان صورتان فيما يَتعيَّن فيهما النصب بفعلٍ مُضمرٍ وجوباً لا يجوز إظهاره.
(وَمَا سِوَاهُ) يعني: ما سوى ما بـ (إيَّا) السابق (سَتْرُ فِعْلِهِ لَنْ يَلزَمَا إِلَاّ مَعَ العَطْفِ أَوْ التَّكْرَارِ) يعني: إذا كان - هذا النوع الثاني - ما ناب عنه من الأسماء المضافة، حينئذٍ الأصل فيه: أنه لا يَجب استتار العامل المحذوف، فيجوز ذكره ويجوز حذفه.
(وَمَا) هذا مبتدأ و (سِوَاهُ)(سوى) منصوبٌ على الظرفية، مُتعلِّق بمحذوف صلة الموصول، (مَا سِوَاهُ) الضمير هنا يعود على أي شيء؟ (مَا سِوَاهُ) يعني: ما نُصِب كـ (إيَّا)، (سَتْرُ فِعْلِهِ لَنْ يَلزَمَا)(سَتْرُ) مبتدأ ثاني، وهو مضاف و (فِعْلِهِ) مضافٌ إليه، و (لَنْ يَلزَمَا) الألف هذه للإطلاق، جملة (لَنْ يَلزَمَا) خبر المبتدأ الثاني، و (سَتْرُ فِعْلِهِ لَنْ يَلزَمَا) هذا خبر (مَا).
إذاً: ما عدى (إيَّا) وهو النوع الثاني من التحذير، ما ناب عنه من الأسماء المضافة إلى ضمير المخَاطَب، لا يلزم حذف العامل في الاسم المنصوب على التحذير، مثل لو قال:(الأسدَ) دون تكرار ودون عطفٍ، (الشَّرَّ) حينئذٍ نقول: يجوز أن يُقال: (احذر الشَّرَّ)، وأن يقال:(الشَّرَّ) يجوز ذكر العامل، ويجوز حذفه.
(إِلَاّ مَعَ العَطْفِ أَوِ التَّكْرَارِ) إلا إذا عُطِف على الاسم المنصوب على التحذير غيره، فقيل (الأسد والذئب) حينئذٍ وجب أن يكون العامل محذوفاً (أَوِ التَّكْرَارِ) بأن كُرِّر لفظه فقيل:(الأسد .. الأسد) كما قال الناظم (كَالضَّيغَمَ الضَّيغَمَ) وهو الأسد (يَاذَا السَّارِي) حينئذٍ نقول في هاتين الحالتين: يجب، وما عداهما فالأصل الجواز، يعني: جواز الحذف وجواز الذكر.
(إِلَاّ مَعَ العَطْفِ)(إِلَاّ) هذا إيجابٌ لنفي (لَنْ)، (مَعَ العَطْفِ) لكن العطف إنما يتعيَّن أن يكون بالواو، والناظم هنا أطلق، العطف بالواو على جهة الخصوص هذا محل وفاق، (إِلَاّ مَعَ العَطْفِ) سواءٌ ذُكِر المُحذَّر منه نحو:
مَازِ رَأْسَكَ وَالسَّيْفَ ..
(مَازِ) يعني: يا مازن (رَأْسَكَ وَالسَّيْفَ) أي: يا مازن قِ رأسك واحذَّر السِّيف. أمْ لم يُذكَر نحو ((نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا)) [الشمس:13] نَاقَةَ: هذا منصوبٌ على التحذير، إذاً سواءٌ ذُكِر المُحذَّر منه أو لا، (مَعَ العَطْفِ) يَتعيَّن العامل ولا يجوز ذكره، (أَوِ التَّكْرَارِ) كذلك مثله .. حكمه كحكم سابقه
(كَالضَّيغَمَ الضَّيغَمَ) كقولك: الضيغم الضيغم، وهو الأسد .. الأسد، (يَاذَا السَّارِي) صفة (يَا) حرف نداء و (ذَا) اسم إشارة و (السَّارِي) نعته، وقيل: هذا ليس تتميماً للبيت بل هو من تتمة المثال، ونحو:(رأسك رأسك) جعلوا العطف والتكرار كالبدل من اللفظ بالفعل.
إذاً خلاصة ما عيَّنَه الناظم هنا -كذلك الباب لم يعطه حقه- نقول: ذَكَر نوعين اثنين: أن يكون المنصوب على التحذير (إيَّاكَ وأخواته) حينئذٍ يَتعيَّن أن يكون العامل محذوفاً واجب الحذف، سواءٌ عُطِف على الضمير أو لم يُعْطَف (إيَّاكَ وَالشَّرَّ .. إيَّاكَ الشَّرَّ)، ثُمَّ النوع الثاني: وهو أن لا يُذْكَر (إيَّا) وإنما يؤتى بالاسم الموصوف على التحذير، حينئذٍ إمَّا أن يُعطف عليه أو يُكرَّر أو لا، إن كان الأول تعيَّن كالأول، وإن لم يكن الأول حينئذٍ جاز فيه الوجهان، هذا خلاصة ما ذكره الناظم.
(وَدُونَ عَطْفٍ ذَا لإِيَّا انْسُبْ) الإشارة بـ (ذَا) للنصب بإضمار فعلٍ لا يظهر، يعني: أن (إيَّاك وأخواتهما) غير معطوفٍ عليها، تنصب بفعلٍ واجب الحذف نحو:(إيَّاكَ الشَّرَّ) وبعضهم يُقدِّره كما سيأتي (إيَّاكَ من الشَّرَّ).
ثُمَّ أشار إلى الثاني والثالث بقوله: (وَمَا سِوَاهُ سَتْرُ فِعْلِهِ لَنْ يَلزَمَا)(سَتْرُ) بفتح السين مصدر سَتَر، وبالكسر (سِتْر) اسم للشيء الذي يقع به الستْر، يعني: كالجدار، هو عَينُه الستْر، و (السَتْرُ) هو الفعل، (لَنْ يَلزَمَا) فَشَمِل قوله (وَمَا سِوَاهُ) النوعين الثاني والثالث، ما ناب عن (إيَّا) من الأسماء المُضافة لضمير المخاطب والمُحذَّر منه، وقوله:(لَنْ يَلزَمَا) يعني: أنهما منصوبان بفعلٍ مضمر ويجوز إظهاره، (لَنْ يَلزَمَا) الألف للإطلاق، يعني: يُنصبان بفعلٍ مُضْمَر ثُمَّ هذا المُضْمَر لا يجب حذفه بل يجوز ذكره، تقول:(رأسك) يعني: نح رأسك، وهذا تحذير.
وتقول في المُحذَّر منه (الأسد) يعني: احذر الأسد، هذا جائز، يجوز أن تظهر الفعل فتقول:(احذَر الأسد) ويجوز أن تقول: (رأسك .. نفسك .. )(اتق نفسك) يعني: من الشر ونحوه و (الأسد) يعني: احذر الأسد، (رأسك) يعني: نح رأسك.
وقد استثنى من ذلك نوعين أشار إليهما بقوله: (إِلَاّ مَعَ العَطْفِ أَوِ التَّكْرَارِ) فالعطف نحو (رأسك) و (الحائط)، والتَكرَّار نحو:(الأسد .. الأسد) وقد مَثَّله بقوله (كَالضَّيغَمَ الضَّيغَمَ يَا ذَا السَّارِي) و (الضَّيغَمَ) الأسد و (السَّارِي) اسم فاعل من سرى إذا مشى ليلاً وهو مَضِنَّة الخوف من الضَّيْغم، يَا ذَا السَّارِي الذي يسري في الليل، وإنما وجب حذف العامل مع (إيَّا) لكثرة الاستعمال، وأما مع العطف والتكرار فقد جُعِل كالبدل عن الفعل.
والخلاصة نقول: للتحذير ثلاث طرق:
أولاً: بِذِكْر اللفظ .. أن يُذْكَر بلفظ (إيَّاك وأخواته) ولك في هذا الوجه أن تعطف المحذور على (إيَّاكَ) فتقول: إيَّاكَ والأسد، هذا وجهٌ أول، أو تَخْفضه بـ (مِن) هذا على قول يراه بعضهم:(إيَّاكَ من الأسد) أو تَنْصب المحذور بغير عاطفٍ عند سيبويه، ومنعه الجمهور، فتقول:(إيَّاك الأسد) سيأتي أن الصحيح يجوز، الجمهور على المنع، (إيَّاك الأسد .. إيَّاك والأسد .. إيَّاك من الأسد) ثلاثة أوجه في (إيَّا)، (إيَّاك والأسد) متفقٌ عليه، (إيَّاك من الأسد) كذلك متفقٌ عليه في الجملة، (إيَّاك الأسد) بدون (واو) ولا (من) هذا مختلفٌ فيه: الجمهور على المنع، وسيبويه على الجواز، والصحيح أنه يجوز.
الطريق الثاني: أن يُذْكَر اسمٌ ظاهر نائب عن (إيَّا) مضافاً إلى ضمير المُحذَّر المخَاطَب، ولك في هذا الوجه: أن تجيء بِما ذُكِرَ من غير عطفٍ ولا تكرار (نفسك .. الأسد .. رأسك) كما ذكرناه، أو مع العطف (نفسك والأسد) أو بالتكرار فتقول:(نفسك .. نفسك)(رأسك .. رأسك)(الأسد .. الأسد) هذا الطريق الثاني.
الثالث: أن يُذْكَر المُحذَّر منه مُكرَّراً أو معطوفاً عليه أو بدونهما، فتقول:(الأسد .. الأسد)، أو تقول:(الأسد) أو تقول: (الكسل والتواني) والمشهور الذي عليه الاعتماد هو الأول.
(إِيَّاكَ وَالشَّرَّ) قال بعضهم: إن هذا التركيب فيه ضميران، ما هما الضميران؟ (إيَّا) نفسه ضمير .. هذا ضمير نصب، وبقي ضمير مستتر، في هذا التركيب ضميران أحدهما: هذا البارز المنفصل المنصوب وهو (إيَّاك) والآخر: ضمير رفعٍ مستكن فيه منتقلٌ إليه من الفاعل الناصب له.
قلنا: يُحذف الفعل وفاعله، ثُمَّ بعد ذلك ينتقل الضمير من الفعل إلى (إيَّاك)، فصار هو في اللفظ ضمير نصبٍ، وتَحمَّل كذلك ضمير رفعٍ، حينئذٍ إذا أكَّدْتَ (إيَّاك) - جاء التفريع - إذا أكَّدْتَ (إيَّاك) وقلت بوجود الضمير المُنْتقل هذا الرفع حينئذٍ قلت: إيَّاك نفسَك، وأنت بالخيار في تأكيده بـ (أنت) قبل النفس، هذا متى؟ إذا أكَّدت (إيَّاكَ) نفسه .. نَصْب، سبق أنه إذا أُكِّدَ الضمير المُتْصل المرفوع بالنفس والعين وجب أن يؤتى بالضمير المنفصل، لكن هنا أكَّد (إيَّاكَ نفسك .. إيَّاك أنْتَ نفسك) يجوز الوجهان.
(إيَّاك نفسَك) وأنت بالخيار في تأكيده بـ (أنت) قبل النفس، هذا إن أكَّدْتَ (إيَّا) نفسه، وإن أكَّدْتَ ضمير الرفع المستكن فيه قلت (إيَّاك أنت نفسَك) ولا بُدَّ من تأكيده بـ (أنت) قبل النفس حينئذٍ، لأنه تأكيدٌ لضميرٍ مرفوع، فوجب أن يُؤكَّدَ أول:((اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُك)) [البقرة:35] مثل العطف.
وأمَّا العطف فتقول في العطف على إيَّاكَ: (إيَّاك وزيداً والشَّرَّ) جاز دون فصلٍ؛ لأنه عطفٌ على ضميرٍ منفصل بارز، وهو منصوب، (إيَّاك وزيداً والشَّرَّ) وإن شئت قلت: إيَّاك أنت وزيداً – فَصَلْت - والشَّرَّ، وتقول إن عطفت على مرفوع:(إيَّاك أنت وزيدٌ) هنا يَقْبُح أن تعطف دون فاصلٍ، ويَقْبُح بدون تأكيدٍ أو فاصلٍ على ما تَقَدَّم بيانه في عطف النسق.
إيَّاكَ وَالشَّرَّ وَنَحْوَهُ نَصَبْ
…
مُحَذِّرٌ بِمَا اسْتِتَارُهُ وَجَبْ
وَدُونَ عَطْفٍ ذَا لإِيَّا انْسُبْ. . .
…
. . . . . . . . . .........................
ثُمَّ انتقل إلى الثاني والثالث وقال:
. . . . . . . . . وَمَا
…
سِوَاهُ سَتْرُ فِعْلِهِ لَنْ يَلزَمَا
إِلَاّ مَعَ العَطْفِ أَو ?لتَّكْرَارِ
…
..........................................
يعني: ما بعد (إِلَاّ) ثابتٌ له نقيض حكم ما قبل (إِلَاّ)، فالأول:(لَنْ يَلزَمَا)(إِلَاّ مَعَ) إذاً: يلزمه، (كالضَّيغَمَ الضَّيغَمَ يَاذَا السَّارِي).
قال الشارح: "التحذير: تنبيه المخَاطَب على أمرٍ يجب الاحتراز منه، فإن كان بـ (إيَّاك وأخواته) وهو (إيَّاكِ وإيَّاكُما وإيَّاكُم وإيَّاكُنَّ) وجب إضمار الناصب" والناصب هنا فعل، ولا يُقدَّر وصفاً.
سواء وجِدَ تكرارٌ كقولك:
فَإِيَّاكَ إِيَّاكَ المِرَاءَ فَإِنَّهُ ..
(إيَّاكَ إيَّاكَ) حَصَل تَكرار هنا، حينئذٍ مُطلقاً وجَبَ إضمار الناصب .. ناصب (إيَّا) سواءٌ كُرِّرت (إيَّا) نفسها أو لا، (إيَّاكَ وَالشَّرَّ)(إيَّا) منصوب بفعلٍ محذوفٍ واجب الحذف، (إيَّاكَ إيَّاكَ والمِرَاءَ فإنَّهُ) كذلك نقول: العامل محذوف.
أمْ لم يوجد نحو: (إيَّاكَ من الأسد) وأصل التركيب: (بَاعِد نفسك من الأسد) هذا عند الجمهور، ثَمَّ فرقٌ بين كلام سيبويه، وابن الناظم، وابن مالك، والجمهور. والأصل:(بَاعِد نفسك من الأسد)، انظر! الجمهور قَدَّروا لفظ (باعد) باعد يَتَعَدى إلى مفعولين، تَعَدَّى إلى الأول بنفسه، والثاني بحرف جر.
إذاً: (بَاعِد نفسك من الأسد) ثُمَّ حُذِف (بَاعِد) الفعل وفاعله، وقيل: التقدير (أُحذِّرك من الأسد)، فنحو:(إيَّاكَ الأسد) ممتنعٌ على التقدير الأول وهو قول الجمهور، ولذلك قلنا: مذهب سيبويه جواز: (إيَّاكَ الأسد) وهذا يمتنع على مذهب الجمهور، لأن التقدير عندهم (بَاعِد نفسك من الأسد) فَقدَّروا فعلاً يَتعدَّى إلى مفعولٍ واحدٍ بنفسه فحسب، وهذا ينبني عليه في تقدير العامل المحذوف هل هو فعلٌ مُتعدٍ لواحد أو لاثنين .. ينبني عليه تصويب هذه المسألة أو تخطئتها.
مُمتنعٌ على التقدير الأول وهو قول الجمهور، وجائزٌ على الثاني الذي هو (أُحذِّرك من الأسد) ولا خلاف في جواز (إيَّاكَ أن تفعل) لصلاحيته لتقدير (من) لأنه سبق أن (أن) يجوز حذف (مِن) قبلها قياساً:
نَقْلاً وَفِي أَنَّ وَأَنْ يَطَّرِدُ ..
حينئذٍ إذا قيل هنا في هذا التركيب (إيَّاك من أن تفعل) لا شك في أنه جائز، فلو قُدِّرت (من) هذا لا بأس به، فإذا نُصِب المصدر حينئذٍ نقول: نُصِب بنزع الخافض وهو جائز .. مَقِيس.
والحاصل أنه إذا ذُكر المُحذَّر منه بلا عطفٍ فعند الجمهور يتعيَّن جرُّه بـ (من) إذا ذُكِر المُحذَّر منه بلا عطفٍ، يعني: مثل (إيَّاك الأسد) ذُكِر المُحذَّر منه دون عطفٍ، قلنا: هناك قال: (وَدُونَ عَطْفٍ ذَا لإِيَّا انْسُبْ) مَثَّلْنا (إيَّاكَ الأسد) هذا على قول الجمهور لا يَصح، والصحيح: أنه يصح.
ذُكِر المُحذَّر منه بلا عطفٍ، فعند الجمهور يتعيَّن جرُّه بـ (مِن) بناءً على أن العامل عندهم في إيَّاك باعد؛ لأنه لا يَتَعدَّى إلى الثاني بنفسه، وإنما يَتَعدَّى إليه بحرف الجر، وقيل: يَجوز نصبه ولا تتعيَّن (مِن) بناءً على أن العامل عنده في: إيَّاك أُحذِّر ونحوه مِما يَتعدَّى إلى اثنين وهذا أصْوب: أن يُقدَّر العامل المحذوف يَتَعدَّى إلى اثنين بنفسه، وهذا عند ابن الناظم.
وعند ابن مالك: إمَّا أن يُجرَّ بـ (من) أو يُنْصَب بفعلٍ محذوفٍ آخر تقديره: دع، أو نحوه ويجوز إظهاره.
وأمَّا نحو: (إيَّاك أن تفعل) فهذا جائزٌ عند الجميع، لأن الأصل: أن (مِن) يجوز تقديرها قبل (أن)، (إيَّاك من أن تفعل) هذا جائز .. (إيَّاك أن تفعل) فنُقدِّر (من) ثم نقول: المصدر أنْ وما دخلت عليه إذا حذفنا (من) يكون منصوباً على نزع الخافض.
فالمُحذَّر منه (أنْ) المصدرية وصلتها، جاز أن تُحذف (من) سواءً قُدِّر العامل فعلاً يتعدى إلى اثنين أو إلى واحد، لأن الحذف .. حذف حرف الجر قبل (أنْ) جائزٌ في سعة الكلام.
هنا قال: وجب إضمار الناصب، سواءٌ وجِد عطفٌ أم لا، فمثاله مع العطف (إيَّاك والشَّرَّ) (إيَّاك) منصوب بفعل مُضْمَر وجوباً والتقدير (إيَّاك أحذِّرُ). انظر! قدَّره بعد (إيَّاك) لا يجوز تقديره قبل (إيَّاك) لأنه يصير (أُحذِّرُكَ) فصار (إيَّا) متصلاً والأصل: أن يكون منفصلاً.
ومثاله بدون العطف (إيَّاك أن تفعل كذا .. إيَّاك من أن تفعل كذا). انظر! قدَّره هنا مِثَال لما دون عطفٍ، قَدَّره ابن عقيل بِما يِجوز حذف (من) وهو أن يكون (أنْ) المصدرية وصلتها، وأمَّا ما لا يجوز فلم يجعله بناءً على مذهب الجمهور، يعني:(إيَّاك الأسد) هذا المراد.
وإن كان بغير إيَّاك وأخواته وهو المراد بقوله: وما سواه فلا يجب إضمار الناصب إلا مع العطف (ماز رَأْسَكَ وَالسَّيْفَ) يعني: يا مازن قي رأسك واحذر السِّيف، أو التكرار:(الضَّيغَمَ الضَّيغَمَ) أي: احذر الضَّيغَمَ، فإن لم يكن عطفٌ ولا تكرار جاز إضمار الناصب وإظهاره –الأسد .. احذَّر الأسد - فإن شئت أظهرت وإن شئت أضمرت، (لَنْ يَلزَمَا إِلَاّ مَعَ) فهو غير لازم.
(إيَّاكَ الأسدَ) هذه حيَّرت النحاة، جوَّزه سيبويه وجعل العامل في الأسد غير العامل في (إيَّاك) .. فَصَل بينهما، (إيَّاك الأسد) كلاهما منصوبان، هل هما منصوبان بعامل واحد، أو كلٌ منهما منصوبٌ بعامل؟ مذهب سيبويه: أن كلاً منهما منصوبٌ بعامل يَختصُّ به، (إيَّاك) منصوبٌ بعامل و (الأسد) منصوبٌ بعامل. (إيَّاك الأسد) جَوَّزه سيبويه، وجَعل العامل في الأسد غير العامل في (إيَّاك) تقديره (باعد نفسك واتقي الأسد).
إذاً: (نفسك) هذا مفعولٌ لفعلٍ محذوف تقديره (بَاعِد) و (الأسد) هذا مفعولٌ به لفعلٍ محذوف تقديره (اتق) حينئذٍ يكون (إيَّاكَ الأسد) صار جملتين، فعُطِفت جملة على جملة، وجوَّزه ابن الناظم (إيَّاكَ الأسد) أيضاً جائز لكن على تفصيلٍ آخر.
جوَّزه ابن الناظم على تقديرٍ آخر وهو: أن يُقدَّر العامل فعلاً يتعدى إلى اثنين بنفسه، حينئذٍ يكون الكلام جملة واحدة، تقديره (أُحذِّرك الأسد) فالكلام حينئذٍ جملة واحدة، فإذا قيل (إيَّاك من الأسد) فهل يَجوز حذف (من) ونصب الاسم المجرور بعدها؟ (إيَّاكَ من الأسد) هل يصلح على هذا التركيب الذي جوَّزه سيبويه (إيَّاكَ الأسد) أن يكون أصله:(إيَّاكَ من الأسد) ثُمَّ حُذِفت (من) وانتصب (الأسد)؟ لا يجوز، لأنه من باب حذف نزع الخافض، ونصب ما بعده على نزع الخافض، وهذا إنما يكون سماعياً ولا قياسياً، حينئذٍ لا يُحمَل هذا التركيب على شاذٍ.
فتقول (إيَّاك الأسد)، وجوابه: إن قُدِّر العامل في (إيَّاك) فعلاً يَتعدى إلى مفعولٍ واحد، ولم تُقدِّر للأسد عاملاً آخر كما قَدَّره سيبويه لم يجب النصب، لأن نصب الأسد حينئذٍ يكون على نزع الخافض وهذا شاذٌ، وإن قَدَّرت فعلاً يَتعدى إلى اثنين بنفسه حينئذٍ جاز.
وَشَذَّ إِيَّايَ وَإِيَّاهُ أَشَذّ
…
وَعَنْ سَبِيلِ القَصْدِ مَنْ قَاسَ انْتَبَذْ
(إيَّاكَ) قلنا: للمخَاطَب .. تنبيه المخاطب، (شَذَّ إِيَّايَ) المتَكلِّم والغائب شاذان، وحَكَم بعضهم على أنه قليل:(وَشَذَّ إِيَّايَ) ولذلك في الاختصاص ذكرناه، (إِيَّاكَ وَالشَّرَّ) ذاك في الاختصاص .. حصل تداخل.
(إيَّاكَ وَالشَّرَّ) هنا الخطاب .. التحذير يكون لمُخاطَب، هل يُحذِّر نفسه، أو يُحذِّر غائباً؟ قلنا: الأصل فيه: أنه شآذٌ، والعِلَّة فيه السماع، إنما سُمِع (إيَّاكَ وأخواته):(إيَّاكَ .. إيَّاكِ .. إيَّاكُم .. إيَّاكُنَّ)، وأمَّا (إِيَّايَ والأسد) أي: يُحذِّر نفسه الأسد، (إِيَّاه والأسد) كذلك لا يصلح.
وَشَذَّ التحذير بغير ضمير المخَاطَب وهو (إِيَّايَ .. شَذَّ إِيَّايَ)(شَذَّ) فعلٌ ماضي و (إِيَّايَ) قصد لفظه فاعل، و (إيَّانا) مثله إذا كان جماعة، (وَإِيَّاهُ أَشَذّ) يعني: تحذير الغائب أشذ من تحذير المتَكلِّم نفسه، (وَإِيَّاهُ أَشَذّ) (إِيَّاهُ) مبتدأ قُصِدَ لفظه و (أَشَذّ) يعني: أشذُّ من (إِيَّايَ) حَذَف (مِن) ومدخوله، هذا جائز كما سبق معنا (زيدٌ أفضل) يعني:(من عمرو) إذا عُلِم جاز حذفه، هنا (أَشَذّ) يعني: من (إِيَّايَ).
(وَعَنْ سَبِيلِ القَصْدِ مَنْ قَاسَ انْتَبَذْ)(?نْتَبَذْ) يعني: اطُّرِح فهو مَطْرُوح، (عَنْ سَبِيلِ) هذا مُتعلِّق بقوله (انْتَبَذْ).
(مَنْ قَاسَ)(مَنْ) مبتدأ و (قَاسَ) صلة الموصول و (انْتَبَذْ) خبر المبتدأ.
إذاً: (مَنْ قَاسَ انْتَبَذْ) اطُّرِح، (عَنْ سَبِيلِ القَصْدِ) الذي هو الصواب .. فهو منبوذ مطروحٌ، أي: من قاس على (إيَّاكَ)(إِيَّايَ وَإِيَّاهُ) فيما حُفِظَ من تحذير المتَكلِّم نفسه أو الغائب، من قاس عليهما فقوله مُخالفٌ للصواب، من قاس على (إِيَّايَ وَإِيَّاهُ) وما أشبههما فقد حاد عن طريق القصد، أي: الصواب.
إذاً: يَختَصُّ التحذير هنا بالمخَاطَب وما عداه فهو شاذ (إِيَّاكَ) فحسب، وأمَّا (إِيَّانِي .. إِيَّايَ) و (إِيَّانَا) هذا شاذٌ، كذلك (إِيَّاهُ) هذا شاذٌ. حق التحذير أن يكون للمخَاطَب، شذَّ مجيئه للمتَكلِّم في قول:"إيَّايَ وأَنْ يَحذِفَ أَحَدُكُمْ الأَرْنَبَ"، قيل: هذا منسوبٌ لعمر، والأصل: إِيَّايَ باعدوا عن حذف الأرنب، وباعدوا أنفسكم عن أن يَحذف أحدكم الأرنب، هذا على قول الجمهور:(بَاعِد .. بَاعِدوا) ثُمَّ حُذِف من الأول المَحْذُور وهو الأرنب، ومن الثاني المُحذَّر وهو أنفسكم، وأشذُّ منه: مجيئه للغائب في قوله: (إذَا بَلَغَ الرَّجُلُ السِّتِّيْنَ فَإيَّاهُ وَإيَّا الشَّوَابِّ) يعني: جمع شابة، هذا: إيَّاه وإيا الشَّواب أضافه لاسمٍ ظاهر، والتقدير: فَليَحْذر نفسه وأنفس الشَّواب، وفيه شذوذان:
- مجيء التحذير فيه للغائب.
- وإضافته إلى (إِيَّا) .. إلى ظاهرٍ وهو الشَّواب، هذا شاذٌّ مع شاذ، ولا يقاس على شيء من ذلك البتَّة.
وَكَمُحَذَّرٍ بِلَا إِيَّا اجْعَلَا
…
مُغْرَىً بِهِ فِي كُلِّ مَا قَدْ فُصِّلَا
عرفنا معنى (الإغراء) اصطلاحاً ولغةً، والأحكام السابقة كلها من حيث إيجاب حذف العامل، ومن حيث جواز ذِكْرِه، كُله يُذْكَر في الإغراء.
(وَكَمُحَذَّرٍ) هذا مفعول ثانٍ لقوله (اجْعَلَا)(اجْعَلَا مُغْرًى بِهِ كَمُحَذَّرٍ)، (اجْعَل مُغْرًى بِهِ) مفعول أول (وَكَمُحَذَّرٍ) مفعول ثاني.
(بِلَا إِيَّا) هذا مُتعلِّق بقوله: (اجْعَلَا)، (فِي كلِّ مَا قَدْ فُصِّلَا) يعني: في كل الذي قَدْ فصِّل سابقاً، والألف هذه للإطلاق.
(فِي كلِّ ما قَد فصِّلَا من أحكام) فلا يلزم سَتْر عامله إلا مع العطف، لكن بدون (إِيَّا) يعني: الذي هو القسم الثاني الذي يَختص بقوله: (وَمَا سِوَاهُ سَتْرُ فِعْلِهِ لن يَلزَمَا) إذاً: الأصل فيه: ألا يلزم حذف عاملٍ إلا إذا عُطِف عليه أو كُرِّر، وأمَّا (إِيَّاكَ وَالشَّرَّ)(إيَّاكَ الشَّرَّ)(الشَّرَّ) هذا ليس داخلاً هنا، وإنما المُراد في قوله (وَمَا
…
سِوَاهُ سَتْرُ فِعْلِهِ لَنْ يَلزَمَا) الذي هو النوع الثاني من التحذير والنوع الثالث، حينئذٍ النوع الأول يَتعيَّن حذف العامل الذي هو (إيَّاكَ) قولاً واحداً، والثاني هو الذي فيه التفصيل، فالأصل: أنه يَجوز حذف العامل ويجوز ذكره، إلا إذا عُطِفَ أو كُرِّر، كذلك المُغْرَى به هنا يَجوز ذكر عامله، ويَجوز حذفه إلا إذا كُرِّر أو عُطِف عليه.
(فِي كُلِّ مَا قَدْ فُصِّلَا) من أحكامٍ فلا يلزم سَتْر عامله (إِلَاّ مَعَ العَطْفِ) كقوله: (المُرُوءَةَ والنَّجْدَة) يعني: الزم، أَو التَّكْرَارِ: أَخَاكَ أَخَاكَ إِنَّ مَنْ لَا أخَا لَه .. إلى آخره. أي: الزم أخاك، ويَجوز إظهار العامل في نحو:(الصَّلَاةَ جَامِعَةً)، (الصَّلَاةَ) يعني: احضروا الصَّلَاةَ حال كونها جامعةً، (الصَّلَاةُ جَامِعَةٌ .. الصَّلَاةَ جَامِعَةٌ .. الصَّلَاةُ جَامِعَةً) أربعة أوجه فيها، (الصَّلَاةَ) هو الشاهد الذي معنا بالنصب على الإغراء (احضروا الصَّلَاةَ جامعةً: حالة كونها جامعةً) هنا يَجب الحذف؟ نقول: لا يجب، لأن المُغْرَى به لم يُكَرَّر ولم يُعْطَف عليه، فإن كُرِّر أو عُطِف عليه حينئذٍ كان حذف العامل واجباً .. الإضمار واجب، وأمَّا إذا لم يُعْطَف ولم يُكَرَّر حينئذٍ نقول: الأصل جواز الذكْر وحذفه.
ويَجوز إظهار العامل في نحو: (الصَّلَاةَ جَامِعَةً) إذ الصلاة نُصِبَ على الإغراء بتقدير (احضروا) و (جامعةً) حال، فلو صُرِّح بـ (احضروا) جاز.
إذاً: (كَمُحَذَّرٍ بِلَا إيَّا) قيَّد: (بِلَا إيَّا) أمَّا إذا كان بـ (إيَّا) فليس مثله، هذا قَيد احترازاً من (إِيَّا) لأن (إِيَّا) الأصل فيه: أنه يجب حذف العامل مُطلقاً، وأمَّا النوع الثاني فهو الذي يجوز ذكر العامل وحذفه إلا إذا عُطِف عليه أو كُرِّر.
الإغراء: هو أمر المخاطب بلزوم ما يحمد به وهو كالتحذير في أنه إن وجد عطف أو تكرار وجب إضمار ناصبه وإلا فلا ولا تستعمل فيه "إيا" فمثال ما يجب معه إضمار الناصب قولك:
أَخَاكَ أَخَاكَ إنَّ مَنْ لَا أخَا لَه
…
كَسَاعٍ إلى الهَيْجَا بِغيْرِ سِلَاحِ
وقولك: (أَخَاكَ والإحسان إليه) عَطَف عليه، إذاً: يجب حذف العامل: (الزم أخاك).
ومثال ما لا يلزم معه الإضمار قولك: (أَخَاكَ) فقط .. (الصَّلَاةَ) ذَكَره لوحده (الأسد) وهذا يجوز فيه الوجهان، يَجوز الذكْر وعدمه.
قد يُرفع المكرَّر في الإغراء والتحذير، هذا وجهٌ جوَّزه البعض، (إِذَا قَالَ أَخُو النَّجْدَةِ السِّلَاحُ السِّلَاحُ).
وقال الفراء في قوله تعالى: ((نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا)) [الشمس:13] نَصْبُ الناقة على التحذير هذا الأصل، وكل تحذير فهو نَصْبٌ ولو رُفِع على إضمار هذه لجاز، يعني: في غير هذا لو قرئ: (هذه نَاَقَةُ اللهِ) هذا جائز، فإن العَرَب قد تَرْفَع ما فيه معنى التحذير، يعني: يجوز على وجه آخر.
وكَمُحَذِّرٍ بِلَا إِيَّا اجْعَلَا
…
مُغْرًى بِهِ فِي كُلِّ مَا قَدْ فُصِّلَا
والله أعلم. وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين
…
!!!