الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
عناصر الدرس
* علامة الإعراب الفرعية (النيابة) ـ وأقسامها.
* بيان الباب الأول من أبواب النيابة (الأسماء الستة) ـ
* بيان عدد الأسماءالستة وعلامة إعرابها (حكمها) ـولغاتها.
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
وقفنا عند قول الناظم:
وَارْفَعْ بِوَاوٍ وَانْصِبَنَّ بِالأَلِفْ .. إلى آخره
هذا شروع منه في بيان أبواب النيابة، وقد ذكرنا أن الإعراب: جنس تحته أربعة أنواع: رفع ونصب وخفض وجزم، وأن لهذه الأنواع علامات، علامات أصول، وعلامات فروع، والفروع ينظر إليها نظران: إما باعتبار المحل وإما باعتبار الحال، الحال يعني: نفس الألف والواو والياء، واعتبار المحل نفس الكلمة التي تكون محلاً للنيابة، فباعتبار المحل النائب سبعة أبواب: خمسة في الأسماء، واثنان في الأفعال، وأما باعتبار النائب فعشرة: ثلاثة عن الضمة، وأربعة عن الفتحة، واثنان عن الكسرة، وواحد عن السكون.
ثم اعلم أن النائب في الاسم إما حرف وإما حركة، قد ينوب حرف عن حركة كما هو الشأن في الأسماء الستة، الواو نابت عن الضمة، وقد تنوب حركة عن حركة، كما هو في جمع المؤنث السالم: نابت الكسرة عن الفتحة في حالة النصب، وكذلك الممنوع من الصرف نابت الفتحة عن الكسرة، إذاً: إما حرف وإما حركة، وفي الفعل إما حرف وإما حذف، حرْفٌ: مثل النون -ثبوت النون-، والحذْفُ: مثل حذف النون فهو نائب عنه.
فنيابة الحرف عن الحركة في الاسم يكون في ثلاثة مواضع: الأسماء الستة، والمثنى، والجمع على حَدِّه، هذا ماذا؟ نقول: نيابة الحرف عن الحركة في الاسم يكون في ثلاثة مواضع: الأسماء الستة، والمثنى، والجمع على حَدِّه، فبدأ بالأسماء الستة، قدم الأسماء الستة على المثنى وعلى الجمع على حد المثنى؛ لأنها أسماء مفردة، أبوك .. أبٌ .. أخٌ .. حمٌ .. هنُ، هذه أسماء مفردة يعني: ليست مثناة ولا مجموعةً، والمفرد سابق المثنى، والجمع هو أسبق، أبٌ أبوان أبون، أيهما أسبق؟ المفرد، ثم المثنى ثم الجمع.
إذاً: قدم المفرد لأنه أسبق، ولأن إعرابها على الأصل في الإعراب بالفرع من كل وجه، المثنى هو نائب للفعل، لكنه ينوب الألف عن الضمة، والياء عن الكسرة، وأما في حالة النصب فهذا لم ينب شيء عن شيء في الحقيقة، وإنما ناب حرفان عن ثلاث حركات، ولذلك نقول: يرفع بالألف وينصب ويجر بالياء، الياء ليست هي عين الياء كما سيأتي، فحينئذٍ لم يستوف الثلاث، فالأصل في الإعراب بالحروف أن تكون الواو نائبة عن الضمة، والألف نائبة عن الفتحة، والياء نائبة عن الكسرة.
ولذلك يقال: إن الإعراب بالحروف أقوى من الإعراب بالحركات، لماذا؟ لأن الواو عبارة عن ضمتين، والألف عبارة عن فتحتين إشباع، والياء عبارة عن كسرتين، فحينئذٍ ما استوفى هذه الحروف الثلاثة تمت النيابة فيه عن جميع الحركات، فالواو نائبة عن الضمة، والألف نائبة عن الفتحة، والياء نائبة عن الكسرة، وهذا لا يوجد لا في المثنى ولا في جمع المذكر السالم؛ لأنه في جمع المذكر السالم نابت الواو والياء فقط، وفي المثنى نابت الألف والياء، إذاً: لم يستوف، فلذلك قدم هذا الباب من هذين الجهتين:
أولاً: لأنه مفرد، والمفرد سابق المثنى.
ثانياً: نقول: إعرابه قد استوفى الفرع من كل وجه، فنابت فيه الواو عن الضمة، والألف عن الفتحة، والياء عن الكسرة، إذاً: هذا هو الباب الأول وهذا سبب تقديم الناظم كغيره من النحاة.
الأسماء الستة يقال فيها: الأسماء الستة المعتلة المضافة، الأسماء الستة هذا علم بالغلبة، وهو ما وضع لمعنىً كلي وغلب استعماله في بعض جزئياته، الأسماء الستة في الأصل أنه لفظ عام يصدق على أبٍ وأخٍ وحمٍ وهنِ وذو وفم، ويصدق على غيره، لو جمعت أسماء ستة قلت: بيت، وسماء، وأرض، وخالد، وعمرو، ومحمد، تقول: هذه أسماء ستة، أليس كذلك؟ إذاً هذا اللفظ يصدق على كل عدد من الأسماء هو ستة، لكن بالغلبة في الاستعمال غلب على بعض الأسماء دون غيرها، بحيث إذا أطلق انصرف إلى هذه الأسماء الستة دون غيرها، وهذا يسمى علماً بالغلبة، ويأتي في محله في باب العلم، كا لعبادلة مثلاً في الصحابة، والعشرة، إذا أطلق العبادلة كل أربعة تجمع عبد الله فهم عبادلة، لكن إذا أطلق في الصحابة العبادلة انصرف إلى عدد معين، لا ينطلق على غيرهم، وكذلك العشرة المبشرون بالجنة لا ينطلق على غريهم.
قال رحمه الله:
وَارْفَعْ بَوَاوٍ وانْصِبَنَّ بِالأَلِفْ
…
وَاجْرُرْ بِيَاءٍ ..
بيَّن أن الأسماء الستة ترفع بالواو نيابةً عن الضمة، وتنصب بالألف نيابةً عن الفتحة، وتجر بالياء نيابةً عن الكسرة، ولذلك قال: وَارْفَعْ، هذا أمر، والأمر يقتضي الوجوب، فهل المراد به أنه يجب رفع الأسماء الستة؟ الجواب: لا، ولو مع استيفاء الشروط؛ لأنه سمع مع استيفاء الشروط إعرابها بالحركات على الأصل، حينئذٍ ارفع، نقول: هذا ليس للوجوب بل هو مُجَوَزٌ مع وجود الشروط التي سيأتي ذكرها أن تُرفع بالواو أو أن تُرفع بالضمة على الأصل.
وَارْفَعْ بَوَاوٍ، يعني: وارفع رفعاً مُصَوَّرَاً بمسمى واو، لا بد من التقدير؛ لأن الواو اسم مسماه هو عين الواو التي تكون في أبوك، حينئذٍ لا بد أن نقدر، نقول: ارفع رفعاً مُصَوَّرَاً بواو، الباء هذه للتصوير، يعني: صَوَّرَت عين الرفع؛ لأن الصحيح أن الإعراب لفظي، فإذا كان لفظياً حينئذٍ الواو هي الرفع والرفع هو الواو، هو عينه، إذ هو هي، فالحركة الضمة هي عين الرفع، والرفع هو عين الضمة، لذلك نقول: ارفع إذا أردت أن تدل على أن هذه الكلمة مرفوعة فانطق بالواو، إذاً الواو هي عين الرفع، والرفع هو عين الواو، لكن ليس الواو ذاتها، وإنما مسمى الواو: واو، أنت لا تقول: أبوواوك! إنما تقول: أبوك، إذاً: مسمى الواو هو الذي يكون علامةً للرفع، وليس عين الواو.
وارفع رفعاً مصوراً بمسمى واو، سواء كانت هذه الواو ظاهرة أو مقدرة، قد تكون ظاهرةً، يعني: ملفوظاً بها، ((وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ)) [القصص:23] أبونا: نطق بالواو.
وهل تقدر الواو في الأسماء الستة؟ نقول: نعم، وذلك فيما إذا أضيف أبو إلى محلاً بأل، جاء أبو العباس، أبو العباس، فما تقول: أبووا العباس .. أبو العباس التقى ساكنان الواو التي هي علامة إعراب واللام الساكنة، العباس حينئذٍ لا يمكن تحريك الأولى فحذفناها تخلصاً من التقاء الساكنين، (أبُ العباس)، تأتي بباء مضمومة ثم العباس، حينئذٍ نقول: جاء فعل ماضي، أبو العباس: أبو فاعل مرفوع ورفعه ضمة مقدرة محذوفة للتخلص من التقاء الساكنين.
إذاً: وَارْفَعْ بَوَاوٍ .. بمسمى واو ظاهرةً كانت كما في: ((وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ)) [القصص:23] أو مقدرةً كما إذا أضيف أبو في حالة الرفع إلى محلاً بأل، كما في قولك: جاء أبو العباس.
وانْصِبَنَّ: أكَّدَه لعله للوزن لا لكونه آكد من الرفع، وانصبن: نصباً مصوراً بمسمى الألف، أيضاً القول في الألف كالقول في الواو، الألف اسم، مسماه الألف التي تنطق بها: أباك، نقول: هذا مسمى، اسمه الألف، والذي يعرب به المسمى لا الاسم، وانْصِبَنَّ نَصْبَاً مُصَوَّرَاً، إذاً: الباء هذه للتصوير، بمسمى الألف في حالة النصب نيابةً عن الفتحة، كما نابت الواو عن الضمة، هنا نابت الألف عن الفتحة.
كذلك ظاهرةً أو مقدرة، ظاهرة كما في قوله:((إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ)) [يوسف:8] ومقدرة فيما إذا أضيف إلى المحلى بأل، رأيت أبَ العباس، ليس فيه ألف، فتقول: رأيت فعل وفاعل، وأب العباس فاعل مرفوع ورفعه الألف المحذوفة للتخلص من التقاء الساكنين، فهي ألف مقدرة، يعني: غير ملفوظ بها.
واجْرُرْ بِيَاءٍ: واجْرُر جرَّاً مُصَوَّرَاً بمسمى ياء، فالباء للتصوير، وكذلك الياء اسم مسماه الذي ينطق به في الحرف نفسه ارجعوا إلى أبي .. أبي .. أبيكم فالياء هذه هي مسمى الياء التي تنطق بها، هي علامة الإعراب.
إذاً: واجْرُرْ جرَّاً مُصَوَّرَاً بِيَاءٍ نيابةً عن الكَسْرَة، فحينئذٍ نقول: كذلك بياء ظاهرةً أو مقدرة، ظاهرة: كما في الآية التي ذكرناها: ((ارْجِعُوا إِلَى أَبِيكُمْ)) [يوسف:81] فإنها ملفوظ بها، ومقدرة كما إذا أضيف أبي إلى المحلى بأل، مثل ماذا؟ مررت بأبِ العباس، نفس المثال، في حالة الرفع والنصب والجر يكون مقدراً، مررت بأبِ العباس، لا تقل: بأبي العباس، بأبِ العباس، باء مكسورة ثم يأتي العباس، إذاً: مررت بـ الباء حرف جر، بأبِ العباس، أبي مضاف والعباس مضاف إليه، إذاً: هو اسم مجرور بالباء وجره الياء المحذوفة للتخلص من التقاء الساكنين.
قال: ارْفَعْ وانْصِبَنَّ واجْرُرْ (ما): هذه كلها الأفعال طلبت ما على أنها مفعول به، ارفع بواو ما من الأسماء أصف، انصبن بالألف ما من الأسماء أصف، اجرر بياء ما من الأسماء أصف، هذا يسمى ماذا؟ يسمى تنازع، وسيأتي معنا التنازع باب خاص اسمه: باب التنازع، فحينئذٍ كل من هذه الأفعال الثلاثة قد طلب ما الاسم الموصول على أنه مفعول به له، حينئذٍ لا بد من الترجيح ما هو كلها تأخذ هذا المفعول، لا بد من واحدٍ، ونشبهه بالزوجة، المرأة لا يتنازع فيها رجلان، كذلك هذا نفسه وحينئذٍ نقول: أعملنا الأخير: اجرر بياء ما، ما: اسم موصول بمعنى الذي منصوب في محل نصب، والعامل فيه اجرر الأخير، ثم نضمر في الأول والثاني الذي هو ارفع وانصبن فإذا أضمرنا في، حينئذٍ حذفناه جائز الحذف، فأعملنا الأخير وأضمرنا في الأول والثاني ثم حذفناهما من باب الاختصار:
وَحَذْفَ فَضْلَةٍ أَجِزْ إِنْ لَمْ يَضِرْ ..
إذاً: فأعملنا الأخير وأضمرنا فيما قبله ضميره وحذفناه لكونه فضلةً، وَحَذْفَ فَضْلَةٍ أَجِزْ إِنْ لَمْ يَضِرْ كما سيأتي في محله، ما إذاً: اسم موصول بمعنى الذي، ما، يصدق على ماذا؟ قال: من الأسماء، من: هذه بيانية، لأن اسم الموصول مبهم، يحتاج إلى مبيِّن مفسر، لا بد له من مبين ومفسر وشارح، ما أصف من الأسماء نعم، ما أصف .. ما: اسم موصول بمعنى الذي، أصف: هذه جملة الصلة، من الأسماء جار ومجرور متعلق بأصف.
إذاً: هذا الباب خاص بالأسماء ولا يشرَكُه الأفعال، ولو كانت معربة، وأما الحروف فليست داخلةً معنا أصالةً:
وَارْفَعْ بِوَاوٍ وَانْصِبَنَّ بِالأَلِفْ
…
وَاجْرُرْ بِيَاءٍ مَا مِنَ الأَسْمَا أَصِفْ
ما أصفه لك من الأسماء، حينئذٍ سمى أهل العلم –النحاة- هذا الباب بباب الأسماء الستة، وهو لم يعنون بهذا، وإنما قال: ما من الأسماء أصف، ثم وصف ستة أسماء، فدل على أن الباب هو باب الأسماء الستة، بعضهم يزيد الستة المعتلة المضافة، معتلة: له وجهان: إما أنها سميت معتلة؛ لأن إعرابها بالواو والألف والياء، وهذه حروف العلة:
والياءُ وَالواوُ جميعًا والألفْ
…
هُنَّ حروفُ الاعتِلالِ المُكتَنِفْ
هكذا قال الحريري في: الملحة، هذا وجه، حينئذٍ أقول: لا إشكال في كون هذه الأسماء كلها يطلق عليها أنها معتلة.
وجه آخر في تسميتها معتلة: أن لاماتها حرف علة، أبٌ أصله: أَبَوٌ، الهمزة فاء الكلمة، والباء عين الكلمة، أين لامها؟ محذوفة، ما نوع الحذف؟ اعتباطي .. اعتباطاً، ما معنى: اعتباطاً؟ لغير علة تصريفية، يعني: بدون سبب، لا التقاء ساكنين ولا غيره، هذا يسمى حذفاً- عند الصرفيين- حذفاً اعتباطياً، إذاً: لام الكلمة، أبٌ لامها واوٌ وهو حرف علة، إذاً معتل، "أبَوٌ .. أخَوٌ .. حَمَوٌ .. هَنَوٌ"، -كلها- لاماتها محذوفة وهي حرف من حروف العلة، ذُو .. قيل: ذُوَيٍ، وقيل: ذُوَوٌ، إما لام وإما ياء على خلاف، وكلاهما حرف علة، ماذا بقي؟ فَمٌ، (فَمٌ) الأصل فيه أنه على وزن فَوْهٍِ فَعْلٍ، لامه حرف علة؟ ليس حرف علة، حينئذٍ تسميتها المعتلة باعتبار لاماتها يكون من باب التغليب، وأما تسميتها مضافة؛ لأنها لا تعمل هذا العمل إلا وهي مضافة، وأما ذو فهي ملازمة للإضافة.
إذاً: الأسماء الستة التي سيعُدُّها المصنف هي: " أبٌ .. وأخٌ .. وحمٌ .. وهنٌ .. وفُوهُ .. وذُو مالٍ"، فهذه كما نص عليه: ترفع بالواو كما في قوله تعالى: ((وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ)) [القصص:23] وتنصب بالألف كما في قوله: ((إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ)) [يوسف:8] وتجر بالياء نحو: ((ارْجِعُوا إِلَى أَبِيكُمْ)) [يوسف:81] وهذا هو المشهور بأنها معربة بالحروف، وهو مذهب الزجاجي وقطرب والزيادي من البصريين، وهشام من الكوفيين.
قال في شرح التسهيل: وهذا أسهل المذاهب وأبعدها عن التكلف، ما دام أن العرب غايرت بين حروف العلة الواو والياء والألف، والتغير والتبدل هو من سيمى الإعراب، حينئذٍ يفهم منه أنها قد جعلت هذه الحروف علامات إعراب، أو جعلتها إعراباً في نفسه.
ومذهب سيبويه على المشهور والفارسي، ونسب إلى جمهور البصريين: أنها معربة بحركات مقدرة على الحروف وأُتبع فيها ما قبل الآخر للآخر، هذا مذهب سيبويه، هذا أبوك، أبوك، قال: هذا مبتدأ أبوك .. أبو خبر مرفوع ورفعه ضمة مقدرة على الواو، وأُتبع فيها ما قبل الآخر للآخر، ما هو آخر أبوك؟ الواو، أصلها قبل رجوع الواو؟ أبَوٌ، نحن لا نقول: أبَووك، نقول: أبوك، أليس كذلك؟ أو أبووك؟ فأبوك، نقول: هذا مرفوع ورفعه ضمة مقدرة على آخره، أتبع فيها ما قبل الآخر للآخر، هنا واو، والواو لا يناسبها ما قبلها إلا أن يكون مضموماً أحسن، إذاً: أصل أبوك، أصلها: أبووك، استثقلت الضمة على الواو فحذفت؛ لأن الأصل هي محل الإعراب فصار مقدراً.
طيب! رأيت أباك، أباك: أصله أبَوَك .. رأيت أبَوَك، ظهرت الفتحة على الواو لخفتها، أليس كذلك؟ حينئذٍ تحركت الواو وانفتح ما قبلها وقلبت ألفاً صار أباك، إذاً ليس عندنا ألف هنا ناب عن فتحة فهو على الأصل، رأيت أبَوِكَ .. على الأصل؛ لأن أب محذوفة اللام واللام واو، حينئذٍ لا بد أن تكون موجودةً رفعاً ونصباً وجراً هذا الأصل.
مررت بأَبَوِكَ، بفتح الباء وكسر الواو، استثقلت الكسرة على الواو فنقلت إلى ما قبلها بعد إسقاط حركتها صار، أبِوْ بكسر الباء وإسكان الواو، جاءت القاعدة الصرفية: سكنت الواو وانكسر ما قبلها فقلبت ياءً فصار أبيك، بأبيك، إذاً: ليس فيه إقامة حرف عن حرف، وهذا فيه تكلف، والأحسن أن يقال: أنها معربة بما تلفظ به العرب، وهذا يحتاج إلى إثبات، أن أصلها كذا ثم أتبع ما قبل الآخر للآخر.
إذاً: في الأسماء الستة مذهبان على المشهور:
مذهب إعرابها بالحركات المقدرة على الأصل؛ لأنه لا يعدل إلى الفرع إلا عند عدم تمكن الأصل، وهذه قاعدة: أنه متى ما أمكن أن يؤتى بالحركة الضمة أو الفتحة أو الكسرة فلا يعدل عنه إلى الفرع، ولذلك رجح ابن عقيل في الأسماء الستة والمثنى: أنها كلها معربة بحركات مقدرة، هذا خلاف المشهور.
والمذهب الثاني: أنها بما نطقت به العرب، أبوك .. أباك .. أبيك، وقد وجد إنابة الحرف -حرف العلة- عن الحركة فلا مانع أن يجعل هذا الباب مما ناب فيه حرف عن حرف، إذاً نقول: هي معربةٌ، فهذه الأسماء الستة تعرب بالواو رفعاً، وبالألف نصباً، وبالياء جراً، فحينئذٍ نقول: هذا هو المذهب المرجح.
وهذا الإعراب متعين فيما ذكره المصنف الأول من ذاك ذو، متعين فيها، ليس فيها غير ذلك، ولذا بدأ به، فقال: من ذاك ذو، ثم ثنى بالفم، وهو كذلك متعين فيه، ثم ثلث بأبٍ وأخٍ وحمٍ وهنٍ، وهذا يجوز فيه الوجهان، وهذا غير متعين في الثلاثة التي تلي ذي والفم، وهي أبٌ وأخٌ وحمٌ، لكنه الأشهر والأحسن فيها، أي: أكثر استعمالاً.
قال رحمه الله:
مِنْ ذَاكَ ذُو إِنْ صُحْبَةً أَبَانَا
…
وَالْفَمُ حَيْثُ الْمِيمُ مِنْهُ بَانَا
مِنْ ذَاكَ، من: بعض، ذاك، أي: من الذي أصفه لك، ما من الأسماء أصف، ما هي هذه الأسماء التي ستصفها؟ قال: من ذاك .. من ذاك الموصوف، وهو ما يرجع على الأسماء، إشارة إلى:(ما)، (من ذاك) إشارة إلى:(ما)، و (ما) تصدق على الأسماء التي سيصفها لنا المصنف، فأبهم ثم فصل:
مِنْ ذَاكَ ذُو، (ذو) ما إعرابها هنا؟ مبتدأ مؤخر، إعرابه مبتدأ مؤخر مرفوع بالواو نيابة عن الضمة؛ لأنه من الأسماء الستة .. غلط ليس صحيح، هنا علم، متى تكون ذو مرفوعة بالواو؟ في المركبات المستعملة، هذا مثل من: حرف جر، ضرب: فعل ماضي مثله، زيد: ثلاثي، لا حول ولا قوة إلا بالله كنز من كنوز الجنة، نقول: هذا قصد لفظه فصار علماً، إذاً من ذاك: خبر مقدم، ذو: مبتدأ مؤخر مرفوع ورفعه ضمة مقدرة على آخره؛ لأنه معتل بالواو، إذاً: قصد لفظه، ذو تأتي طائية بمعنى الذي، فهي مبنية، وتأتي اسماً من الأسماء الستة ترفع بالواو وتنصب بالألف وتجر بالياء، أراد المصنف أن يحترز عن ذو الطائية، فقال: إنْ صُحْبَةً أَبَانَا.
مَنْ ذَاكَ ذُو: ليس مطلقاً كل ذو، فيدخل فيه الطائية التي هي مبنية، وإنما الحكم خاص بذي التي تكون بمعنى: صاحب، إن أمكن تفسيرها بمعنى صاحب فعلى الأصل، فهي معربة وهي من الأسماء الستة، ولها ضابط سيأتي.
مِنْ ذَاكَ ذُو، إذاً ذو هنا نقول: مبتدأ مؤخر مرفوع بضمة مقدرة؛ لأن إعرابها بالحروف إذا كانت مستعملةً في معناها وهي هنا المراد بها اللفظ.
إنْ صُحْبَةً أَبَانَا: أظهر .. (أبانا) الألف هذه للإطلاق، إطلاق الروي، أبانا: فعل ماضي مثل قام، أبانا أطلق الألف للروي، إن صحبةً أبانا، إن: حرف شرط، والأصل فيه أنه لا يليه إلا الفعل، هذا الأصل قاعدة، إما مذكوراً وإما مقدراً، صحبةً أبانا، إن أبان صحبةً أبانا، حينئذٍ لا بد أن يجعل صحبةً هذا مفعولاً به لفعل محذوف تقديره أبانا، فسره العامل المذكور المتأخر، ولذلك الأصل أنه لا يجمع بين المفَسِّر والمفَسَّر إلا في مقام التعليم، فيقال:((وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ)) [التوبة:6] إن أحد: هذا فاعل ليس مبتداً على الصحيح، فاعل ليس مبتداً حينئذٍ إذا كان فاعلاً لا بد له من فعل:
وَبَعْدَ فِعْلٍ فَاعلٌ فَإنْ ظَهَر
…
فَهْوَ وَإلاّ فََضَمِيرٌ اسْتَتَرْ
فحينئذٍ لا بد من فعل، هذا الفعل إما أن نقدره نحن من السياق، وإما أن نقدره بما لفظ بعده:((وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ)) [التوبة:6] إذاً المراد: إن استجارك أحد .. –استجارك- الجمع بينهما غلط؛ لأنه يمنع أن يجمع بين المفَسِّر والمفَسَّر العِوَض والمُعَوَّض؛ لأننا حذفنا: وإن استجارك لدلالة استجارك الثاني عليه، حينئذٍ لا يجمع بينهما، وهذا خطأ قد يقع عند بعض النحاة الآن، إلا في مقام التعليم فيجمع بينهما للضرورة، فيقال التقدير: وإن استجارك أحد من المشركين استجارك، فيجمع بينهما ليبين أن استجارك الأول الذي وقع بعد إن مأخوذ من لفظ استجارك الثاني، فهو مشارك له في اللفظ والمعنى، لكنهما متغايران.
فالأول يكون في محل جزم، والثاني يكون جملة مفسرة لا محل لها من الإعراب، وإن استجارك، استجارك تقول: هذا فعل شرط في محل جزم، من المشركين استجارك الثانية تعربها كما هي، ثم تقول: الجملة لا محل لها من الإعراب جملة مفسرة، ففرق بينهما وإن اتحدتا في اللفظ.
إنْ صُحْبَةً أَبَانَا: إن أبان صحبةً .. أبانا، إذاً لا بد من تقدير فعل بعد إن الشرطية، إن صحبةً أبانا، نقول: مفعول لمحذوف يفسره المذكور من باب الاشتغال، وسيأتي باب الاشتغال، لا مفعول مقدم لأبانا؛ لأن أداة الشرط لا يليها إلا فعل ظاهر أو مقدر، وقد يقال: إذا جعل صحبةً مفعولاً مقدماً لأبانا فقد ولي، إن الفعل الظاهر تقديراً، وهذا خلاف الأولى، فأعربه محيي الدين على هذا، لكن الأولى أن يجعل صحبةً مفعولاً به لفعل محذوف يفسره المذكور واجب الحذف.
إنْ صُحْبَةً أَبَانَا: إذاً قلنا احترز بهذا عن ماذا؟ عن ذو الطائية، فذو الطائية هذه مبنيةٌ وليست معربةً، إذاً: قيد الناظم ذو هنا في هذا النظم بقوله: إنْ صُحْبَةً أَبَانَا، فهو شرط دفعاً لتوهم المبتدئ الذي لا يعرف أن ذو الطائية مبنية، فحينئذٍ يظن أنها داخلةٌ في قوله: ذو، وذو الطائية هذه موصولة، سيأتي ذكرها في باب الموصولات، فإنها لا تفهم صحبةً، بل هي بمعنى:(الذي)، فلا تكون مثل:(ذي) التي بمعنى: صحاب، بل تكون مبنيةً، يعني: في لغة طيّ -على الأشهر عند طيّ-، في لغة طي مبنية.
وقد سمع إعرابها، إعراب ذي بمعنى: صاحب، لكنه على قلة، وعليه تكون الأسماء سبعةً لا ستةً، بعضهم قال: الأسماء السبعة، اعتباراً بذي الطائية في حالة إعرابها، ولذلك سمع:
فَإِمَّا كِرَامٌ مُوسِرُونَ لَقِيتُهُمْ
…
... فَحَسْبِيَ مِنْ ذُو عِنْدَهُمْ مَا كَفَانِيَا
مِنْ ذُو: من حرف جر، وذو .. لو كانت هذه بمعنى صاحب حينئذٍ وجب جرها بالياء ..
وانْصِبَنَّ بِالأَلِفْ واجْرُرْ بِيَاءٍ .. إذاً: وجب جره إذا قال: من ذي، ولكن سمع أيضاً: من ذي عندهم، فدل على أن بعضهم يعربها إعراب ذي التي بمعنى: صاحب، حينئذٍ هي من الأسماء الستة، فتكون الأسماء سبعة.
تقول: جاءني ذو قام، ورأيت ذو قام، ومررت بذو قام، هذه المبنية في لغة طيّ وهي الأكثر والأشهر، جاء ذو قام، جاء: فعل ماضي، ذو: فاعل مبني على السكون في محل رفع؛ لأنها من المبنيات، والمبنيات إعرابها إعراب محلي لا تقديري، رأيت ذو قام، ذو: في محل نصب مفعول به، مررت بذو قام، في محل جر بالباء، فحينئذٍ حالةً لزمت واحدة، وهذا هو الأصل في المبني أنه يلزم حالةً واحدة، ومنه البيت التي ذكرنها:
فَحَسْبِيَ مِنْ ذُو عِنْدَهُمْ مَا كَفَانِيَا
الفرق بين ذو الطائية والتي بمعنى: صاحب، ما الفرق بينهما، لا بد من ضابط حتى نعرف؟ نقول: الموصولة: لا تقع صفةً إلا لمعرفةٍ، يعني: لا يوصف بها إلا المعرفة؛ لأنها معرفة بالصلة، والتي بمعنى: صاحب: يوصف بها المعرفة ويوصف بها النكرة، التي بمعنى: صاحب يجوز أن يوصف بها المعرفة، ويوصف بها النكرة، وأما التي بمعنى: الذي، فيتعين أن يكون منعوتها معرفةً، لماذا؟ لأنها هي معرفة ملازمة .. هي من المعارف كما سيأتي الموصولات، من المعارف فإذا كانت معرفةً حينئذٍ لا يوصف بها النكرة، لا بد من التطابق بين النعت ومنعوته تعريفاً وتنكيراً، فإذا كانت ذو الطائية ملازمةً للتعريف لزم أن يكون منعوتها معرفةً.
وأما ذو التي بمعنى: صاحب، فهذه يجوز فيها الوجهان: أن ينعت بها النكرة، وأن ينعت بها المعرفة، متى نصف بها المعرفة، ومتى نصف بها النكرة؟ بحسب المضاف إليه: إن أضيفت ذو إلى نكرة فحينئذٍ وصفت النكرة بها، جاء رجل ذو مالٍ، رجل: فاعل، وذو مال، ذو نقول: بمعنى صاحب صفة لرجل، مالٍ: نكرة، إذاً وصفت بها النكرة، جاء زيدٌ ذو المال، بأل، لماذا عرفناه بأل؟ يلزم أن نعرفه بأل، لا يصح أن نقول: جاء رجل ذو المال، غلط؛ لأن ذو المال .. ذو في أصلها بمعنى صاحب:
وسيأتي:
نَكِرَةٌ قَابِلُ أَلْ مُؤَثِّرَا
…
أَوْ وَاقِعٌ مَوْقِعَ مَا قَدْ ذُكِرَا
فذو في المعنى: بمعنى صاحب، وصاحب نكرة، حينئذٍ الأصل في ذو أنه نكرة، فإذا أضيفت إلى النكرة هل اكتسبت التعريف؟ لا لم تكتسب التعريف، حينئذٍ قولك: جاء زيد ذو مالٍ –غلط-؛ لأنه لم يتطابق الوصف مع موصوفه، فحينئذٍ يتعين أن يقال: جاء رجل ذو مال، وجاء زيد ذو المال بالتعريف، وجاء زيدٌ ذو أكرمته، هذه نقول: طائية، جاء زيد ذو أكرمته، ذو هذه نعت لزيد، جاء زيد ذو أكرمته، ذو هذه نعت لزيد، هل يصح جاء رجل ذو أكرمته؟ لا يصح؛ لأن رجل موصوف وهو نكرة وذو معرفة؛ لأنها موصولة، والشرط التطابق بين الموصوف وصفته وهنا انتفى.
إذاً: هذا يُفَّرق بين ذي، التي بمعنى: صاحب، وذو الطائية.
منْ ذَاكَ ذُو إنْ صُحْبَةً أَبَانَا .. يعني: أظهر صحبةً.
ثم قال: وَالْفَمُ حَيْثُ الْمِيمُ مِنْهُ بَانَا: هذا هو الاسم الثاني، الأول: ذو، وبين شرطه: إن صحبةً أبانا، بقي له شرط واحد سيأتي في آخر الشرح.
وَالْفَمُ حَيْثُ الْمِيمُ مِنْهُ بَانَا: بانا: الألف للإطلاق، يعني: انفصل، فصل الميم من الفم، وذكر الفعل؛ لأن الميم مؤنثة لإرادة الحرف، ذكر الفعل بانا ولم يقل: بانت، يعني: انفصلت، مع كونه عاد إلى مؤنث مجازي، ميم .. هذه ميم، لكن قد ينظر إليه باعتبار كونه حرفاً فيجوز تذكيره، لذلك قال: بانا، ولم يقل: بانت، يعني: انفصلت الميم، لماذا؟ بالنظر إلى كون الميم حرفاً، والحرف مذكر فلذلك لم يؤنِّث، وبانا بمعنى: انفصل.
قوله: حَيْثُ الْمِيمُ .. حيث: هنا استعمل حيث في الزمان على رأي الأخفش، أو في المكان الاعتباري أعني: التركيب، واعترض كلامه هنا: ميمُ، فصلت من الفم هذا فيه نوع إشكال؛ لأن إذا كان الحكم على الفم نفسه .. لفظ الفم، إذا كان الحكم على الفم نفسه يشترط في إعرابه بالواو والألف والياء أن تنقطع وتنفصل منه الميم، إذا انفصلت الميم صار فم، اقطع الميم: صار الفاء لوحده، وليس هو الفاء الذي يعرب، هذا محل إشكال، لا بد من توجيه كلام المصنف.
واعترض كلامه بأنه يوهم أن الأصل فمٌ بالميم، هذا وجهٌ: أن الأصل بالميم، والأصل كما سبق أنه فَوهٌ، حذفت الهاء لام الكلمة اعتباطاً، ثم قلبت الواو ميماً، إذاً الميم ليست أصلية، وليست هي لام الكلمة وإنما هي عين الكلمة منقلبة عن واو، فإذا حذفت عين الكلمة ما بقي إلا فاء الكلمة، واعترض كلامه بأنه يوهم أن الأصل فم بالميم، فالذي ينبغي وفَوهٌ إن لم يبدل من واوه ميم، وقد يقال: لا نسلم أن الأصل الواو، هذا محل نظر، بل الصواب: أنه واو.
وبأن الفم إذا فارقته الميم هو الفاء وحدها، ولا تعرب أصلاً، والمعرب هو فوك، وهو غير الفم بنقص الميم، وهذا واضح، الذي يعرب هو فوك، وليس هو الفم، إذاً: ما التوجيه؟ قالوا: هنا المراد بالفم العضو المخصوص، يعني: مسمى الفم.
دال الفم: هو الذي يشترط فيه أن يكون منفصلاً عن الميم، وأجيب: بأن المراد بالفم العضو المخصوص لا اللفظي، ليس هذا اللفظ، وَالْفَمُ حَيْثُ الْمِيمُ مِنْهُ بَانَا، يعني: انفصل الميم ليس من لفظ الفم، وإنما من الأسماء التي تنطلق على هذا العضو، فالمرابد بالفم هنا: العضو المخصوص، الذي هو مسمى فوك، على تقدير مضاف، أي: ودال الفم حيث الميم من داله بانا، والدال يعم ما معه ميم وما ليس معه ميم.
إذاً: والفم المراد به دال الفم، يعني: الذي يدل على العضو المخصوص، والذي يدل على العضو المخصوص فَوهٌ وفَمٌ، فيشترط في فوه أن تنفصل منه الميم وليس فيه ميم، فحينئذٍ هو الذي يكون معرباً بالحروف.
إذاً: والفم، ليس المراد عين هذا اللفظ، بل هذا اسم للعضو المخصوص، فحينئذٍ نقول هنا على حذف مضاف، ودال الفم، ما هو الذي يدل على الفم؟ فوه وفم، ما معه ميم وما خلا من الميم، ما الذي يعرب بالحروف: هل هو فوه، أو فم؟ فوه، بشرط .. إذاً: فيه لغتان:
فم وفوه، الذي يعرب بالحروف هو الذي خلا عن الميم، وليس هو لفظ الفم، ففرق بينهما:
وَالْفَمُ حَيْثُ الْمِيمُ مِنْهُ بَانَا .. إذاً: إذا اتصلت به الميم حينئذٍ أعرب بالحركات على الأصل، فإذا انفصلت منه الميم حينئذٍ نقول: هذا يعرب بالحروف نيابةً عن الحركات، يقال: هذا فوك، رأيت فاك، نظرت إلى فيك، هنا ليس فيه ميم، وأما الفم فهذه نقول: هذه معربة على الأصل بالحركات، وليست هي التي تعرب الحروف، فإن لم ينفصل الميم أعرب بالحركات، وفيه حينئذٍ عشر لغات: نقصه، وقصره، وتضعيفه، مثلَّث ثلاث في ثلاث بتسع، وبقي واحدة.
نقصه، يعني: حذف اللام وجعل الإعراب على الميم، نقص يسمى فَمْ فَمْ، فَمٌ فَمٌ، فِمٌ .. فُمٌ، ثلاث لغات، فَمٌ بفتح الفاء، وفِمٌ بكسر الفاء، وفُمٌ بضم الفاء، هذا يسمى النقص، يعني: حذف اللام النقص اللغوي.
وقصره، يعني: أن يكون كالفتى، فَمَى .. فِمَى .. فُمَى بثلاث لغات هذه ست.
وتضعيفه، يعني: فَمٌّ تشديد الميم، إذاً هي لغة: فَمُّك، هذه لغة، كذلك بتثليث الفاء: فَمٌّ .. فِمٍّ .. فُمٌّ، مثلث الفاء فيهن.
والعاشرة: إتباع فائه لميمه، أي: في حالة نقصه، قيل: وهذه اللغة أضعف اللغات:
وفصحاهن فتح فائه منقوصاً فَمٌ ..
فَمٌ: هي أفصح اللغات.
وأضعفها هي التي فيها إتباع فائه لميمها ..
يعني، تقول: هذا فَمٌ، الميم ما حركتها؟ خبر مرفوع رفعه ضمة، إذا تقول: هذا فُمٌ، تتبع الفاء حركة الميم في حالة الرفع، هذا فَمٌ فُمٌ، هذه لغة، إتباع الفاء لحركة الميم، في حالة النصب: رأيت فَماً على الأصل، نظرت إلى فِمٍ، إتباع الفاء لحركة الميم، هذه اللغة ضعيفة.
وفَمٌ أصله: فوه حذفت الهاء وانقلبت الواو ميماً؛ لأنهما شفويتان حذراً من سقوطها وبقاء الاسم على حرف، وفَمٌ هذه تستعمل مضافةً وتستعمل مقطوعةً عن الإضافة، فإذا قطعت عن الإضافة فعلى الأصل:{لخُلوف فَمِ الصائم} استعملت مضافة، ومنه قول الشاعر:
يُصْبِحُ ظَمآناً وَفِي الْبَحْرِ فَمُهْ
هذه مضاف، وتستعمل كذلك مقطوعةً عن الإضافة: هندٌ أطيب الناس فماً ..
ثم قال:
…
أَبٌ أخٌ حَمٌ كَذَاكَ وَهَنُ
وَفِي أَبٍ وَتَالِيَيْهِ يَنْدُرُ
…
والنَّقْصُ فِي هَذَا الأَخِيرِ أَحْسَنُ
وَقَصْرُهَا مِنْ نَقْصِهِنَّ أَشْهَرُ
أبٌ: هذا مبتدأ أليس كذلك؟ كيف جاء مبتدأ وهو نكرة؟ نقول: قصد لفظه وصار معرفةً، يعني: صار علماً، أبٌ: مبتدأٌ لأنه معرفةٌ؛ لأن المراد لفظه.
أبٌ أخٌ حمٌ: على حذف حروف العطف، وهو جائز في الشعر اتفاقاً، ومختلف في النثر، هل يجوز حذف حرف العطف؟ نقول: جاء زيدٌ عمروٌ خالدٌ؟ في الشعر محل وفاق، وأما في النثر فهذا محل نزاع سيأتي في باب العطف.
أبٌ أخٌ حمٌ، يعني: أبٌ وأخٌ وحمٌ، أبٌ وأخٌ واضح، أبٌ أصلها: أبَوٌ، ومعروف الأب، أخٌ أصلها: أخَوٌ ومعروف الأخ، حمٌ أصلها: حمَوٌ والمراد به: أقارب الزوج، أباً كان أو أخاً أو غيرهما، ولذا أنث الضمير فيقال: حموها، هذا خطاب للمرأة، حينئذٍ حموها باعتبار زوجها فيؤنث، ويطلق على أقارب الزوجة العكس، حينئذٍ يقال: حموه باعتبار الزوج، إذاً: يجوز فيه الوجهان، لا يغلط إذا قيل: حموه كما في بعض الكتب، هذا غلط يقال؛ لأن الحمُو أقارب الزوج، فلا بد أن يقال: حموها، نقول: تغليطك غلط؛ لأنه يجوز فيه الوجهان، وإن كان الأشهر أنه أقارب الزوج، فيقال: حموها.
ويطلق بقلة على أقارب الزوجة، فيقال: حموه، فيجوز الوجهان.
كَذَاكَ، أي: مما أصف، مثل ذلك، أبٌ: هذا مبتدأ وما عطف عليه، كذاك، أي: مثل ذاك، فالكاف للتشبه، فهو جار ومجرور متعلق بمحذوف خبر، كذاك، أي: مما أصفه، فترفع الباء .. نعم أبٌ أخٌ حمٌ كذاك، أي: مما يرفع بالواو نيابةً عن الضمة، وينصب بالألف نيابةً عن الفتحة، ويجر بالياء نيابةً عن الكسرة، كذاك، أي: مثل ذاك.
وهَنُ: لِمَ لَمْ يقل: أبٌ أخٌ حمٌ وهن كذاك؟ أتى بـ (الكذلكة) قبل هنُ؟ للاختلاف؛ لأنه هو الآن يحكي لغة الإتمام، يعني: الإعراب بالحروف، الأسماء الستة فيها ثلاث لغات: الإتمام والنقص والقصر، وحديثنا الآن في ماذا؟ في لغة الإتمام، يعني: رد الواو وإعراب الاسم بالواو، هذا أبوك .. هذا أخوك .. هذا حموك، هنُ، هل يعرب هذا الإعراب لغة الإتمام؟ هذا محل نزاع، والصواب: أنه ثابت، لكنه على قلة، قليل جداً، ولذلك أنكره الفراء كما سيأتي.
نظراً لهذا الاختلاف بل لقلته في لسان العرب حتى أنكره بعض النحاة كالفراء وغيره، صار مرتبته أدنى من أب وأخ وحمو، ولذلك أتى بـ (الكذلكة)، حينئذٍ وهنُ مبتدأ كذاك خبره مقدر، هنُ ماذا نعربه؟ مبتدأ، أين خبره؟ كذاك، أي: مثل ذاك، يعني: من الأسماء التي أصفها لك مما تعرب بالحروف نيابةً عن الحركات، أبٌ أخٌ حمٌ كذاك، وهن كذاك، أي: مثل ذو وفم وما عطف عليه.
وأما هَنُ، قال في الشرح: فالفصيح فيه أن يعرب بالحركات، أولاً: ما هو الهنُ؟ قال الجوهري: الهنُ كناية، يعني: ليس اسماً صريحاً على مسماه، بل هو كنياية، يكنى به عن ماذا؟ ومعناه: شيء، تقول: هذا هنُك، أي: شيئك، والمراد بالشيء هنا ليس مطلقاً أي شيء موجود، بل الشيء الذي يستقبح ذكره، كل ما استقبح ذكره بين الناس وصار معيباً يصح أن يطلق عليه: هنُ، إذاً: الهنُ الشيء الذي لا يستحب ذكره، أو بمعنى: شيء.
قيل: أو الفرج خاصةً، الفرج خاصة يقال: هنُك، ولذلك جاء في الحديث:{من تعزى بعزاء الجاهلية فأعضِّوه بهنِ أبيه ولا تكنوا} .
وفي الأشموني، الهنُ: كلمة يكنى بها عن أسماء الأجناس، وقيل: عما يستقبح ذكره، أي: فرجاً كان أو غيره مطلقاً، كل ما يستقبح ذكره فيكنى عنه بالهنِ، وقيل: هو عن الفرج خاصة، والصحيح أنه يكنى به عن كل شيء يستقبح ذكره.
فالفصيح في الهنِ: أن يعرب بالحركات الظاهرة على النون، هذا هو الفصيح، الفصيح الذي يوافق أكثر لسان العرب، وما سمع فيه: أن يعرب الهنُ كغدٍ، كذا قال ابن هشام في: قطر الندى، بالحركات الظاهرة على النون، ولا يكون في آخره حرف علة، يعني: إما أن ترده فتقول: هنوك، وإما أن تبقيه على المحذوف فتقول: هنُك، هنُ: الهاء والنون حرفان من الكلمة، الهاء هي فاء الكلمة، والنون هي عين الكلمة، حذفت اللام اعتباطاً، عند الإضافة القياس والأكثر استعمالاً ألا يُرَدَّ المحذوف.
ولذلك هنا مع كثرته استعمالاً وهو الفصيح، كذلك وافق القياس؛ لأن يداً أصلها: يديٌ، ولذلك تقول: هذه يدك، ورأيت يدك، لا ترد المحذوف، إذاً: القاعدة والقياس: أن المحذوف اعتباطاً الأصل فيه ألا يرجع، بخلاف المحذوف لعلة، هذا الأصل فيه الرجوع، فحينئذٍ: هنُك، مثل يدك، فالأفصح فيه ألا ترجع الواو.
ولذلك كان أكثر استعمال العرب على عدم إرجاع الواو فيقولون: هنُك .. هذا هنُ زيدٍ، بالإضافة ولم ترجع الواو، ورأيت هنَ زيدٍ، ومررت بهنِ زيدٍ، فحينئذٍ بقي على أصله من الحذف؛ لأنه إذا حذف اعتباطاً الحرف صار نسياً منسياً، يعني: كأن اللفظ قد وضع على حرفين، فإذا صار نسياً منسياً حينئذٍ لا ينبغي رده عند الإضافة، هذا هو الأصل المطرد والموافق للقياس، جاء الاستعمال الفصيح موافقاً للقاعدة، فجاء هنُ زيدٍ، ورأيت هنَ زيدٍ، ونظرت إلى هنِ زيدٍ.
ولذلك قال في النظم: والنَّقْصُ فِي هذا الأَخِيرِ أَحْسَنُ، وهو الذي شرحناه، أي: النقص في هنِ أحسن من الإتمام، الإتمام: هو رد الواو، فبدلاً من أن يقول: هذا هنُ زيد، يقول: هذا هنو زيد، برد الواو فحينئذٍ يكون إعرابه بالواو نيابةً عن الضمة، فيقول: هذا هنُك .. هنُوك يجوز فيه الوجهان، وهنُك أكثر وأفصح من هنوك، ولذلك قال في الشرح: أي النقص في هنٍ أحسن من الإتمام، والإتمام جائزٌ لكنه قليل جداً، ولذلك لقلته أنكر الفراء جواز إتمامه، لكنه محجوج بحكاية سيبويه وغيره، ومن حفظ حجة على من لم يحفظ.
وهي مع كونها أكثر استعمالاً هي أفصح قياساً؛ لأن ما كان ناقصاً في الإفراد قبل الإضافة فحقه أن يبقى على نقصه في الإضافة كما في يدٍ، إذاً: مراد المصنف بقوله: وهنُ فصَله عما قبله ليدل على أن الإتمام وإن كان مسموعاً إلا أنه دون الفصيح، وأن الفصيح في هنٍ على جهة الخصوص هو الإتمام، ولذلك لا بد من التنبيه على هذا.
وعيب من النحاة من سرد الأسماء الستة كلها دون أن ينبه على أن هناً دون بقية الأسماء، ولذلك قال ابن مالك: ومن لم ينبه على قلته فليس بمصيب، وإن حظي من الفضل بأوفر نصيب، وهو قد نبه هنا بفصله بـ (الكذلكة)، قال: أبٌ أخٌ حمٌ كذاك وهنُ كذاك، فدل على أنه عمل بما انتقد به غيره:
والنَّقْصُ فِي هذا الأَخِيرِ أَحْسَنُ: والنقص، ما المراد بالنقص هنا؟ يعني: كونه منقوصاً، المنقوص عن النحاة له معنيان: منقوص لغوي، ومنقوص اصطلاحي، المنقوص اللغوي: مرادهم به: كل كلمة حذفت لامها اعتباطاً، يعني: باعتبار اللغة، حذفت لامها، بخلاف المنقوص الاصطلاحي، فهو المراد به: القاضي، كل اسم معرب آخره ياء لازمة ساكنة قبلها كسرة، هذا المراد به القاضي ونحوه، هذا سيأتي:
وَسَمِّ مُعْتَلاًّ مِنَ الأَسْمَاءِ مَا
…
كالْمُصْطَفى والمُرتْقَيِ مَكَارِمَا
وأما النقص هنا فالمراد به ما حذفت لامه، الذي حذفت لامه يسمى منقوصاً لغةً، وهو صحيح؛ لأن أصله ثلاثي فنقص منه حرف فهو ناقص، إذاً: النقص في هذا الأخير وهو: (هنُ) أحسن من الإتمام.
إذاً: هذا تصريح بما تضمنه قوله: وهنُ كذاك؛ لأنه فصل بينهما وقلنا: أراد ماذا؟ أراد أنه دونه في المرتبة، دون أبٍ وأخٍ وحمٍ في المرتبة، صرح بهذا المفهوم بقوله: والنقص، أي: -حذف- عدم إرجاع الواو في هنِ، في هذا الأخير وهو هنُ أحسن من الإتمام، وهو الإعراب بالأحرف الثلاثة، ولذلك أخره.
أحسنُ: المراد به أكثر استعمالاً، ولا يقال فيه: إنه ليس بفصيح لا، لأنه ليس بنادر، بمعنى: أنه قليل السماع، لا سمع لكنه، باعتبار الإتمام أكثر، فأكثر استعمالاً هنُك من هنوك، وكلاهما منقول، وكلاهما مسموع، لكنه من باب فصيح وأفصح، كما يقال: صحيح وأصح، أليس كذلك؟ نقول: صحيح وأصح اشتركا في الصحة، هنا اشتركا في السماع، وكلاهما فصيح، إلا أن هنُك أفصح من هنُوك، لماذا؟ لأن العرب إذا استعملت شيئاً أكثر من غيره دل على أنه هو المقصود بالذات.
والنَّقْصُ فِي هذا الأَخِيرِ وهو هنو أَحْسَنُ، يعني: من الإتمام.
وَفِي أبٍ وَتَالِيَيْهِ يَنْدُرُ .. وَفِي أبٍ وَتَالِيَيْهِ: تثنية تالي، ما هما اللذان تليا أب؟ أخٌ وحمٌ، إذاً: إشارة إلى ما سبق في البيت السابق، وفي أبٍ وأخٍ وحمٍ يندر، يعني: يقل، الضمير يعود إلى أي شيء؟ إلى النقص، سُمِع:
بِأَبِهِ اقْتَدَى عَدِىٌّ في الْكَرَمْ
…
وَمَنْ يُشَابِهْ أَبَهُ فَمَا ظَلَمْ
إن كان كريماً فهو كريم، بخيل بخيل، بأبه؟ -استنبطوا-، بأبه: الباء حرف جر، وأبه: قلنا أبٌ أصلها: أبَوٌ، هنا وجد الشرط شرط الإتمام، شرط الإتمام وهو الإضافة إلى الضمير، بأبه: لو أجراه على لغة الإتمام لقال: بأبيه، لكنه لم يرُد المحذوف اللام، وإنما أبقاه ناقصاً على ما هو عليه، وأظهر الكسر على الباء، فدل على أنه معرب بالحركات.
بأبه اقتدى عدي في الكرم ومن يشابه أبه .. أبه: ما إعرابها؟ مفعول به منصوب وعلامة نصبه الفتحة، لو قال قائل: أبٌ هذا يعرب بماذا؟ بالواو؛ لأنه من الأسماء الستة، وهنا قد وجد الشرط تحققت الشروط، في هذا التركيب نقول: يجوز لك الوجهان: إما الإتمام وإما النقص، ولذلك قلنا: وارفع بواو .. ارفع هذه صيغة افعل، والأصل أن افعل يدل على الوجوب لغةً وشرعاً، الشرع لا شك فيه، وأما اللغة فالصحيح أنه يدل لغةً على الوجوب.
وارفع، هل المراد به أنه إذا توفرت الشروط شروط الإتمام، وإعماله على أن يعرب بالحروف يجب أو يجوز؟ لا، يجوز ولا نقول: يجب، بدليل: وَفِي أبٍ وَتَالِيَيْهِ يَنْدُرُ جاز النقص مع استيفاء الشروط، وهذه قرينة صارفة لقوله: افعل على الوجوب لا الندب والجواز، وارفع بواو، إذاً هذا جائز، وليس بواجب، بدليل: وَفِي أبٍ وَتَالِيَيْهِ يَنْدُرُ، تجعله قرينة صارفة.
بِأَبِهِ اقْتَدَى عَدِىٌّ في الْكَرَمْ
…
وَمَنْ يُشَابِهْ أَبَهُ فَمَا ظَلَمْ
بِأَبِهِ: هنا جره بالكسرة، مع إضافته إلى ضمير الغائب، وهذه لغة، ومن يشابه أبه: هنا نصبه بالفتحة، مع إضافته للضمير لاستيفائه للشرط، حينئذٍ بِأَبِهِ يجوز أن يقول: بأبيه، وبأبه في غير الشعر، ومن يشابه أباه .. ومن يشابه أبه، يجوز فيه الوجهان، لو قال قائل: هذا البيت قاله في الشعر، فيحتمل أنه ضرورة، يحتمل أنه بأبه، أي: بأبيه ولكنه قصره ضرورةً، ومن يشابه أبه، الأصل: أباه، قلنا: حكا أبو زيد: جاءني أخُك، أخُك رَدَّهُ؟ لم يرد المحذوف، والشيء إذا استعمل نثراً دل على أنه لغة، لو لم يرد حينئذٍ يتوجه الاعتراض بأنه يحتمل أنه من قبيل الضرورة، لكن حكا أبو زيدٍ: جاءني أخك، والفراء: هذا حمُك، ولم يقل: حموك، فدل على أنه لغةٌ لا ضرورة.
إذاً: يجوز في أبٍ وأخٍ وحمٍ النقص، يندر لكنه قليل، قليل عن ماذا .. أقل من ماذا؟ من الإتمام، إذاً: أبٌ أخٌ حمٌ يجوز فيه لغتان .. إلى هنا يجوز فيه لغتان، الإتمام والإعراب بالحروف، أبوك أخوك حموك .. أباك أخاك حماك .. أبيك أخيك حميك، فحينئذٍ هذا هو الأصل، ويجوز النقص بألا ترجع الواو ويعرب بالحركات الظاهرة على آخره، كما قلنا في: بأبه، ومن يشابه أبه.
أيهما أفصح وأكثر؟ الإتمام على العكس من الهنُ، ولذلك قال: والنَّقْصُ فِي هذا الأَخِيرِ أَحْسَنُ، يعني: أكثر استعمالاً، وأما: وَفِي أبٍ وَتَالِيَيْهِ يَنْدُرُ، أي: قليل، وإذا قيل: يندر، ليس المراد به أنه ليس بفصيح، بل هو فصيح، كل ما ورد في لسان العرب ولم يكن ثم مانع من اعتباره فهو فصيح.
وَفِي أبٍ وَتَالِيَيْهِ يَنْدُرُ، أي: يقل النقص.
وَقَصْرُهَا مِنْ نَقْصِهِنَّ أَشْهَرُ: هذه اللغة الثالثة في أب وتالييه، وَقَصْرُهَا الضمير يعود إلى أي شيء؟ إلى أقرب مذكور: وَفِي أبٍ وَتَالِيَيْهِ، يعني: أبٌ أخٌ حمٌ قصرها أشهر من نقصهن، ما المراد بالقصر هنا؟ المراد بالقصر أن تستعمل كالفتى، فتى: مقصور آخره آلف لازمة، حينئذٍ نقول: هذه لغة القصر، وهي أن تكون بالألف رفعاً ونصباً وجراً، هذا أباه وأخاه وحماها، ورأيت أباه وأخاه وحماها، ومررت بأباه وأخاه وحماها:
إِنَّ أَبَاهَا وَأَبَا أَبَاهَا
…
قَدْ بَلَغَا فِي الْمَجْدِ غَايَاتَاهَا
إِنَّ أَبَاهَا: هذا يحتمل أنه منصوب بالألف، ويحتمل أنه على لغة القصر، وَأَبَا: هذا معطوف على اسم إن، كذلك يحتمل، الاستدلال ليس بالأول ولا بالثاني، وَأبَا: هذا معطوف على اسم إن فهو منصوب، أبا مضاف، وأَبَاهَا امضاف إليه، لو كان أجراه على لغة الإتمام لقال: وأبا أبيها، لكن أجراه على الألف، حينئذٍ عامله معاملة المقصور كالفتى.
نرجح بهذا أن قوله: إنَّ أبَاهَا وَأبَا كذلك مقصور؛ لأنه يبعد أن يستعمل الشاعر في بيت واحد لغتين مختلفتين، والأصل في اللغات أنها لكل قبيلة لغتها الخاصة بها، وما يسمى بالتداخل كما في فضل يفضل غير، هذا كله من باب التكلف عند الصرفيين، وإلا الأصل فيه: أن كل صاحب لغةٍ فحينئذٍ يختص بقبيلة معينة، والتداخل هذا لا يلجأ إليه إلا عند عدم وجود عذر يعتذر به عن وجود الخلل.
إذاً: (إنَّ أبَاهَا وَأبَا أبَاهَا) .. أبَاهَا: المضاف إليه مجرور بكسرة مقدرة على الألف، مع كونه مضافاً لغير ياء المتكلم، فدل على أن من العرب من يعرب الأسماء الستة مع استيفائها للشروط إعراب المقصور من فتىً ونحوه، وهي لغة القصر، وكذلك قولهم: سمع، يعني: وقد يقال بأنه شعر ضرورة، نقول: سمع قولهم للمرأة حماة، كلمة دراجة الآن، إذا قيل: حماة مثل فتاة، وإذا قيل: فتاة، العرب تفرق بين المذكر والمؤنث بالتاء، إذاً: فتى .. حمى، هذا الأصل صار مثل فتى.
وكذلك القول للمرأة: حماةٌ، إذاً نقول: يستدل بقولنا: أباها وأبا أباها على ثبوت لغة القصر، وأن أباً ونحوه يلزم الألف ويعرب بالحركات المقدرة على آخره، منه يدل على ذلك قولهم للمرأة: حماة، فإذا قالوا ذلك للأنثى فإنهم يقولون للمذكر: حمى، بألف مقصورة، إذ لا فرق بين المذكر والمؤنث إلا تاء التأنيث، كما في فتى وفتاة، فتىً وفتاة لا فرق بينهما إلا بتاء التأنيث، كذلك حمى وحماة لا فرق بينهما إلا بتاء التأنيث.
كذلك المثل المشهور: (مُكْرَهٌ أخَاكَ لا بَطَل)، هذا منه:(مُكْرَهٌ أخَاكَ لا بَطَل)، أخاك: هذا مبتدأ مؤخر، ومكره: هذا خبر مقدم ولا يجوز العكس، لماذا؟ لا يجوز أن يكون: مكره .. هذا مبتدأ؛ لأنه نكرة، وأخاك: هذا معرفة، وأما على مذهب الكوفيين فيجوز أن يكون مكرهٌ: هذا مبتدأ، وأخاك: هذا نائب فاعل سد مسد الخبر، لكن نقول: هذا ليس بصواب، بل الصحيح أن يكون أخاك: هذا مبتدأ مؤخر، ومكره: خبر مقدم، إذاً: لزم الألف.
إذاً قوله: وَقَصْرُهَا، أي: أبٌ وأخٌ وحمٌ مِنْ نَقْصِهِنَّ أَشْهَرُ، يعني: أشهر من نقصهن، إذاً: يجوز في أب وتالييه ثلاث لغات:
الإتمام وهذا الأشهر، ثم القصر وهذا أشهر لكنه دون الأول، ثم النقص وهذا أدناها: ثلاث لغات في أبٍ وتالييه، وهنُ فيه لغتان: الإتمام والنقص، وذو وفم، فيه لغةٌ واحدة.
قوله: أَشْهَرُ .. وَقَصْرُهَا مِنْ نَقْصِهِنَّ أَشْهَرُ: يفيد أن النقص شهير؛ لأنه جاء بأفعل التفضيل، يفيد ماذا؟ أن النقص شهير، ولكن القصر أكثر أشهر، وهو كذلك، ولا ينافيه قوله: وَفِي أبٍ وَتَالِيَيْهِ يَنْدُرُ، أي: النقص؛ لأن الشهرة ضد الخفاء، فلا تنافي الندرة التي هي قلة الاستعمال، وأشهر: هذا أفعل تفضيل لكنه شاذ، أشهر، وإن جاء به الناظم على هذا، لكنه سيأتي في بابه أنه شاذٌ؛ لأنه إما من شُهِرَ المبني للمجهول ولا يصاغ منه أفعل التفضيل، وإما من أشْهرَ الزائد على الثلاثي، وهذا كذلك لا يصاغ منه أفعل التفضيل إلا بواسطة كما سيأتي في محله، إذاً: هذا التركيب شاذ.
وَقَصْرُهَا مِنْ نَقْصِهِنَّ أَشْهَرُ، إذاً: ذكر ذو وفم، وليس فيهما إلا لغة واحدة وهي الإتمام، وهنُ فيها لغتان: الإتمام والنقص، والنقص أفصح وأكثر استعمالاً، ولذلك أنكر الفراء وغيره الإتمام، وهو محجوج بسماع سيبويه له، ثم أبٌ وأخ ٌوحمٌ فيه ثلاث لغات، على لغة النقص:
بأبه اقْتَدَى عَدِيٌّ في الكَرَم .. على هذه اللغة يقال في تثنية الأب أبان، أبٌ .. بأبه، إذا ثنيته على هذه اللغة عندهم، يقول: أبان وأخان وحمان، جعلوا الباء والخاء آخر الكلمة ولم يلتفتوا إلى اللام المحذوفة، وإن كانت التثنية ترد الأشياء إلى أصولها، أبٌ على لغة الإتمام إذا ثنيتها تقول: أبوان، القبيلة التي تتم إذا أرادوا تثنية أبٍ قالوا: أبوان وأخوان وحموان، ردوا الواو لأنها معتبرة عندهم، ولذلك لما أضيفت قيل: أبوك أعربوه بالواو، وأما هذه اللغة: بأبه، التي هي لغة النقص، هؤلاء جعلوا الحرف المحذوف نسياً منسياً، كأنه غير موجود أصالةً، فلما ثنوا لم يرجعوا الواو التي حذفت وهي من أصل الكلمة، ولذلك لم تراع، لا في جهة إعرابها .. إعراب الأسماء الستة، ولا في جهة التثنية، فيقال: أبان بأبه .. أخان بأخه.
إذاً: حاصل ما ذكره المصنف أن في أبٍ وأخٍ وحمٍ ثلاث لغات أشهرها: أن تكون بالواو والألف، والواو هكذا يقول ابن عقيل، الإعراب بالأحرف الثلاثة، والثاني: أن تكون بالألف مطلقاً، والثالث: أن يحذف منها الحرف .. -الأحرف الثلاثة- وهذا نادر.
وأن في (هنِ) لغتين: إحداهما النقص وهو الأشهر والأفصح، والثاني: الإتمام وهو قليل، وزاد في: التسهيل، في أبٍ التشديد: أبٍّ، أبٌّ بتشديد الباء، وفي أخٍ أخٌّ بتشديد الباء، إذاً: هذه كم لغة في أب؟ أربع لغات، الإتمام والنقص والقصرو التشديد، أبٌ أبُّك، هذا جائز.
إذاً: فيه أربع لغات، وفي أخٍ التشديد، وفيه أخْوٌ بإسكان الخاء، فيكون فيه خمس لغات: الإتمام والنقص والقصر والتشديد أخٌّ، وأخْوٌ بإسكان الخاء، فيكون فيه خمس لغات.
وفي حمٍ حَمْوٌ كقَرْوٍ حَمْوٍ، بفتح الحاء وإسكان الميم، وحَمْئٍ كقرئ بالهمز، وحَمَأٍ كخطأٍ، كم لغة؟ ست لغات: الإتمام والنقص والقصر وحَمْوٍ كقَرْوٍ وحَمْئٍ وحَمَأٍ، ست لغات، وهنٌ ذكر في التسهيل أنه قد يشدد، فيقال: هنٌّ كأبٍّ وأخٍّ، فحينئذٍ صار فيه كما لغة؟ صار فيه ثلاث لغات: الإتمام والنقص والتشديد.
ثم شرع في بيان شروط هذه الأسماء الستة، وهذا لئلا ننقطع نتمه بعد الصلاة إن شاء الله تعالى.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
…