المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌المبحث الثالث: الفرق في الاسم والوصف بين أرض مكة المكرمة، وأرض المسجد الحرام مما ذكر في القرآن الكريم - الإلحاد والظلم في المسجد الحرام بين الإرادة والتنفيذ

[محمد بن سعد آل سعود]

الفصل: ‌المبحث الثالث: الفرق في الاسم والوصف بين أرض مكة المكرمة، وأرض المسجد الحرام مما ذكر في القرآن الكريم

في رواية الزهري عن أنس عن أبي ذر1: "فُرج سقف بيتي وأنا بمكة"، وفي رواية الواقدي2 بأسانيده أنه صلى الله عليه وسلم أُسري به من شعب أبي طالب، وفي حديث أم هانئ عند الطبراني: أنه صلى الله عليه وسلم بات في بيتها، قالت:"ففقدته من الليل، فقال: لها "إن جبريل أتاني".

والجمع بين هذه الأقوال أنه صلى الله عليه وسلم نام في بيت أم هانئ، وبيتها عند شعب أبي طالب، ففرج سقف بيته صلى الله عليه وسلم، - وأضاف البيت إليه لكونه كان يسكنه - فنزل منه الملك، فأخرجه من البيت إلى المسجد، فكان مضطجعاً، وبه أثر النعاس، ثم أخرجه الملك إلى باب المسجد فأركبه البراق.

وقد وقع في مراسيل الحسن عند ابن اسحاق: أن جبريل أتاه فأخرجه إلى المسجد، فأركبه البراق، وهو يؤيد هذا الجمع3.

1 هي في صحيح البخاري كتاب الصلاة، باب كيف فُرضت الصلوات في الإسراء؟ وصحيح مسلم في كتاب الإيمان باب الإسراء برسول الله صلى الله عليه وسلم.

2 أنظر: طبقات ابن سعد (1/213) ، وسيرة ابن هشام (2/36) والروض الأُنف (3/399) .

3 انظر فتح الباري شرح صحيح البخاري، لأحمد بن علي بن حجر (7/204) .

ص: 142

‌المبحث الثالث: الفرق في الاسم والوصف بين أرض مكة المكرمة، وأرض المسجد الحرام مما ذكر في القرآن الكريم

أولاً - مكة المكرمة:

تقع في الجهة الغربية من شبه الجزيرة العربية، غربي مدينة الطائف، وشرقي مدينة جدة، وجنوبي المدينة المنورة، وهضبة نجد. وبطن مكة ليس فيه ماء، ولم يكن لأحد فيه قرار. بدأت أهميتها للمسلمين بلداً مقدساً منذ أن أسكن فيها

ص: 142

إبراهيم إبنه إسماعيل عليهما السلام مع أمه (هاجر) بأمر من الله. وقول الله تبارك وتعالى على لسان إبراهيم - بعد أن ترك أهله وأراد العودة إلى الشام: {رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ} [إبراهيم 37] .

فقوله تعالى: {بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ} وصف مميز لطبيعة أرض مكة المكرمة الجغرافية، فالوادي ممر تجري فيه سيول الأمطار، وكونه (غير ذي زرع) دليل على عدم صلاح تربة جانبيه للزرع، ولوجود الصخور والأحجار المتناثرة فوقه، ولعدم ملائمة جوه الحار الجاف لانبات كثير من أنواع الشجر، والزروع التي تحتاج إلى رطوبة الجو، وغزارة المياه لكي تنمو وتعطي ثمارها. فالموقع الذي اختاره الخليل عليه السلام لأهله لا يختاره إنسان بإرادته ومعرفته البشرية، لخلوه في الظاهر من أكثر عناصر الحياة أهمية للإنسان وهما: الماء والغذاء. مما يدل على أن الله جل وعلا بعلمه وحكمته، اختار له ذلك المكان ليترك أهله، ويعود من حيث أتى وهو مطمئن على مصيرهم لثقته برعاية الله لهم، وله معاً.

لذلك عندما أوقفته (هاجر) وسألته: إن كان الله هو الذي أمره بتركهم في هذا المكان المقفر، أجاب: نعم. قالت: إن الله لن يضيعنا1.

وأنبط الله ماء زمزم، حيث وضع الفتى عليه السلام جرى ماءً غَدَقاً، فرحت به الأم المتعبة، فأخذت تحوطه بيديها كي لا يضيع في التراب، شفقة منها، ولهفة عليه. فسقت، وأسقت واطمأنت، وخلتْ.

ومر بهما نفر من جرهم، اعتادوا اجتياز هذا الوادي المقفر، ولم يعهدوا فيه ماء، ولا طيراً تحوم حوله. وقد شدهم رؤية طير فوقهم صافات ويقبضن، فبعثوا

1 انظر: صحيح البخاري كتاب الأنبياء، باب يزفون: النسلان المشي رقم (9) وفتح الباري لابن حجر (6/396) رقم الحديث (3364) .

ص: 143

بأحدهم يستجلي الأمر، حتى إذا وقف على هاجر، ورأى الماء عندها، سألها المشاركة فيه، فأبت عليهم ذلك إلا أن يكون أمر الماء إليها، فوافق ذلك هوى في نفوسهم، وهوت أفئدتهم إليها فحطوا عن رحالهم، وأقاموا مشكِّلين بذلك النواة الأولى لمجتمع مكة المكرمة، مما مكن إسماعيل عليه السلام عند نشأته، وفي نشأته من تعلم لغتهم، وفنونهم في الفروسية، حتى إذا شب عن الطوق زوجوه منهم.

وأخذ الخليل عليه السلام يعاود زيارة تركته في ذلك المكان، مرة بعد مرة:{وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَداً آمِناً وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} [البقرة 26] .

ولم تزل أرض مكة حرماً آمناً منذ خلق الله السموات والأرض. وإنما سأل الخليل عليه السلام ربه تبارك وتعالى أن يجعلها آمنة من الجدب والقحط، وأن يرزق أهلها من الثمرات1.

ثم يمضي الله - جل وعلا - في مشيئته، تحقيقاً، وتثبيتاً، فيأمر خليله وابنه إسماعيل، عليهما السلام برفع قواعد بيته المندثرة، وبنائِه للمرة الثالثة بعد بناء الملائكة، وآدم عليه السلام. قال تعالى يصف فعلهما:{وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [البقرة 127] .

وكان ذلك كما بينه الله تعالى في كتابه: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً وَهُدىً لِلْعَالَمِينَ فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِناً وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} [آل عمران 97] .

فالأمن لمن دخله، عرض مغر لأولئك الذين يعيشون الخوف في مجتمعاتهم لا يأمنون على شيء مما يملكون. فإذا اجتاز حدود الحرم إليه استشعر الأمن لنفسه

1 انظر شفاء الغرام - للفاسي - (1/72) .

ص: 144

من نفسه، فإن وجد من يعكر صفو ذلك الأمن في المسجد الحرام فذلك من الإلحاد والظلم فيه، عندها يذقه الله من عذاب أليم.

ويأمر الله جل وعلا خليله عليه السلام، بدعوة الناس إلى حج بيته الحرام طلباً لمغفرته {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج /29] .

ومنذ ذلك النداء الخالد أصبح لمكة المكرمة - قرية المسجد الحرام - مكانة قدسية راسخة في عقول العباد، ونفوسهم على مدى العصور والأزمان، يؤمون كعبتها بقدر كبير من الخشوع، والتعظيم، حتى إذا أشرق نور الإسلام، وبعث الله محمداً بالفرقان، أكد - تعالى - وجوب قصد البيت الحرام على كل مسلم مرة في العمر، عند استطاعته ذلك:{وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} [آل عمران/97] .

وأقسم تعالى في كتابه العزيز بالبلد الأمين: {لا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ} [البلد/1-2] . وقال تعالى: {وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ وَطُورِ سِينِينَ وَهَذَا الْبَلَدِ الأَمِينِ} [التين/1-3] .

وورد في القرآن الكريم ذكرها في أكثر من آية، وبأكثر من اسم، فهي (البلد)، قال تعالى:{وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنا} [إبراهيم/35] .

وقال تعالى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنا} [البقرة/126] .

والبلد في اللغة: صدر القُرى.

وهي (البلدة) في قوله تعالى: {إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا} [النمل/91] .

ص: 145

وهي (أم القرى) في قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآناً عَرَبِيّاً لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا} [الشورى/7] .

وهي (بكة) في قوله تعالى: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً وَهُدىً لِلْعَالَمِينَ} [آل عمران/96] .

وقال عكرمة، ومقاتل بن حيَّان:

البيت وما حوله (بكَّة) وما وراء ذلك (مكة)1.

وهي (القرية) في قوله تعالى: {وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْنَاهُمْ فَلا نَاصِرَ لَهُمْ} [محمد/13] .

والقرية: اسم لما يجمع جماعة من الناس، من قولهم: قريت الماء في الحوض إذا جمعته فيه. وهي خير وأحب الأرضين إلى الله قال صلى الله عليه وسلم: "والله إنك لخير أرض الله، وأحبُّ أرض الله إلى الله، ولولا أني أخرجت منك ما خرجت"2.

وروى ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم لما خرج من مكة إلى الغار وأتاه التَفَتَ إلى مكة، وقال:"أنت أحب بلاد الله إلى الله، وأنت أحب بلاد الله إليَّ، ولولا أن المشركين أخرجوني لم أخرج منك"3.

وهي (مكة) كما في قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ} [الفتح/24] .

1 انظر تفسير ابن كثير عند تفسير آية آل عمران رقم (96) .

2 أخرجه الترمذي (3925) ، وابن ماجه (3108) ، وأحمد (4/305) ، والدارمي (2513) كلهم من طرق عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، أن عبد الله بن عدي بن الحمراء الزهري أخبره. قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب صحيح.

3 أخرجه الترمذي في سننه تحت رقم (3926) من طريق عبد الله بن عثمان بن خُثَيم حدثنا سعيد بن جبير وأبو الطفيل عن ابن عباس، وقال: هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه، وانظر تحفة الأشراف (5539) ، والدر المنثور للسيوطي (7/463) .

ص: 146

وهي (الحرم) في قوله تعالى: {أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقاً مِنْ لَدُنَّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ} [القصص/57] .

وفي قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ} [العنكبوت/67] .

قال ابن كثير: "أخبر الله عن اعتذار بعض الكفار في عدم اتباع الهدى، حيث قالوا لرسوله:{إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا} أي: نخشى إن اتبعنا ما جئت به من الهدى، وخالفنا من حولنا مِن أحياء العرب المشركين أن يقصدونا بالأذى والمحاربة، ويتخطفونا أينما كنا، قال الله تعالى مجيباً لهم:{أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً} يعني هذا الذي اعتذروا به كذب وباطل، لأن الله تعالى جعلهم في بلد آمن، وحَرَمٍ معظَّم، آمِن منذ وضع، فكيف يكون هذا الحرم آمِناً لهم في حال كفرهم، وشركهم، ولا يكون آمناً لهم وقد أسلموا، وتابعوا الحق1؟

قال الأزهري: "فإن قيل: كيف يكون حرماً آمناً وقد أخيفوا، وقُتِلوا في الحرم؟، فالجواب بأن الله عز وجل جعله حَرَماً آمناً أمراً، وتعَبُّداً لهم بذلك لاإجباراً فمن آمن بذلك كفّ عما نُهي عنه اتباعاً، وانتهاءً إلى ما أمر به، ومن ألحد وأنكر أَمْرَ الحرمِ وحُرمَتَهُ فهو كافر مباح الدم، ومن أقرَّ وركب النهي فهو فاسق2.

ثانياً: المسجد الحرام

نصت أكثر آيات الكتاب الكريم على تسميته بالمسجد الحرام، كما في سورة:

1 انظر: تفسير ابن كثير عند تفسير الآية (57) من سورة القصص.

2 انظر تهذيب اللغة (5/43) .

ص: 147

البقرة الآيات: (144، 149، 150، 191، 196، 217)

والتوبة الآيات: (2، 7، 19، 27)

والأنفال الآية: (34)

والإسراء الآية: (1)

والحج الآية: (25)

والفتح الآيتان: (25، 27)

و (الحرام) ضد (الحلال) ، و (أحرم) الرجل بالحج والعمرة لأَنَّه يَحْرُمُ عليه ما كان حلالاً من قبل كالصيد، والنساء.

و (المسجد الحرام) عَلَمٌ على المسجد الذي بداخله الكعبة المشرفة، بيت الله. وكذلك (البيت الحرام) 1، و (بيتك المحرم) 2، و (البيت العتيق) 3، و (البيت) 4، و (البيت المعمور) 5 و (بيتي)6.

عند تتبع الآيات الواردة في الكتاب الكريم التي تصف مكة المكرمة، والأخرى التي تصف بيت الله المسجد الحرام، يظهر بجلاء الفرق بين الموضعين، فمكة المكرمة قرية تضم الدور، والشوارع، والميادين، والشجر، والحجر، وكل ما يحتاجه الإنسان من مرافق كالأسواق، والمساجد، والسجون، والشُرَط، وأصحاب الحرف، كالحدادين، والنجارين، والبُناة، والخبَّازين، والتُجار، إلى غير

1 سورة المائدة (79) .

2 سورة إبراهيم (37) .

3 سورة الحج (29،33) .

4 سورة البقرة (125،127،158) وآل عمران (96،97) ، والأنفال (35) .

5 سورة الطور (4) .

6 سورة البقرة (125) .

ص: 148

ذلك من الأمور التي تكون في القُرى، والمدن العامرة بالسكان.

والمسجد الحرام: الذي يضم في جنباته الكعبة المشرفة، ومقام إبراهيم، وحجر إسماعيل عليهما السلام، وبئر زمزم، والركن اليماني، والحجر الأسود، وما يحيط بكل ذلك من ساحات، وأروقة، وما ينتظم فيها من صفوف المصلين خلف إمام واحد مهما اتَّسعت دائرة المصلِّين حول البيت المعمور، وما استحدث ويستحدث من ساحات حول المسجد الحرام تكتظ بالمصلين عند كثرة الآمِّين للمسجد الحرام في موسم الحج والعمرة وغيرهما.

فإذا اتصلت الصفوف من هناك إلى حيث من يؤم المصلين فهو من المسجد الحرام، عيناً، وحكماً.

بعد ذلك ندرك أن لكل منهما وصفاً قائماً بذاته، وخصوصيته ثابتة لا تجوز على أحدهما بدل الآخر، أو يشتركان فيه.

جاء في الأثر عن ابن عمر قوله: إن الله عز وجل اختار الكلام فاختار القرآن، واختار البلاد فاختار الحرم، واختار الحرم فاختار المسجد، واختار المسجد فاختار موضع البيت1.

والكعبة من المسجد قِبْلة المسلمين أينما وجدوا، وحيث ما حلوا تنفيذاً لقوله تعالى:{قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} [البقرة/144]، وقوله تعالى:{وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [البقرة/150] .

قال الإمام الشافعي: (شطره) جهته في كلام العرب، وكذلك (تلقاءه) أي: استقبل تلقاءه، وجهته.

1 انظر المطالب العالية لابن حجر (1/363) .

ص: 149

قال خفاف بن نُدْبَة1:

ألا مَن مُبْلغٍ عمراً رسُولاً

وما تُغْنى الرسالةَ شطْر عمْرو

وهذا كله مع غيره من أشعارهم يُبيِّن أن شطر الشيء: قصدَ عين الشيء، إذا كان مُعَايناً فبالصواب، وإذا كان مُغيَّباً، فبالإجتهاد بالتوجه إليه، وذلك أكثر ما يمكنه فيه2.

إذاً كلما كان المسلم يرى الكعبة بعينه المجرّدة، فلا يجزئه عند الصلاة إلاّ استقبال عينها، كما لو كان قذيفة أُطلقت من مَدْفَعٍ نحو الكعبة، وكلما بَعُدَ عن مركز البيت الحرام اتسعت جهة القبلة إليه، كوضع (الفرجار) يكون طرفاه مُتطَاَبِقين، ثم يأخذ كل طرف يبتعد عن مركز الدائرة حتى تصل الزاوية بينهما إلى (180ْ) درجة.

فمن صلّى في المسجد الحرام استقبل عين الكعبة، ومن كان بمكة استقبل جهة المسجد الحرام، ومن كان خارجها استقبل جهتها، ومن كان خارج جزيرة العرب اتجه نحو جزيرة العرب3.

والكعبة البيت الحرام منذ إنشائها إلى أن ترك إبراهيم الخليل عليه السلام بعض أهله في موضع قرب البيت العتيق، لم يستقر حولها من السكان أحد

1 هو خفاف - بضم الخاء المعجمة وتخفيف الفاء - بن عمير بن الحارث بن الشريد أبو خراشة ينسب إلى أُمة، يقال: خفاف بن ندبة، وهي أمة سوداء، وخفاف أسود حالك، شاعر، فارسي، صحابي، شهد فتح مكة وحنيناً، والطائف، [انظر الأغاني - دار الثقافة - 18/22، وشرح أبيات المغني للبغدادي 1/174، 2/331، والإصابة في تمييز الصحابة (3/148) رقم (1547) ] .

2 انظر الرسالة للشافعي (ص34ـ38) ، ومعرفة الآثار والسنن للبيهقي (2/315) .

3 الذي نقل عن علي بن أبي طالب "شطره" قِبَله، وقال: والذي روي مرفوعاً "البيت قبلة لأهل المسجد، والمسجد قبلة لأهل الحرم، والحرم قبلة لأهل الأرض " حديث ضعيف.

ص: 150

- والله أعلم - وبعد دعوة إبراهيم ربه بأن يجعل {أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ} ، وبعد أن نبع زمزم، وأعاد إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام بناء الكعبة، تقاطر الناس نحو مكة وازداد تقاطرهم بعد أذان الخليل فيهم بالحج بأمر من الله:{وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ} [الحج/27] .

ومع كثرة الوافدين إلى المسجد الحرام أصبح من الضروري أن يجد هؤلاء الوافدون أماكن لطعامهم، وشرابهم، وقضاء حاجاتهم، ونومهم وسائر حاجاتهم الأخرى خارج المسجد الحرام الذي لا تجوز فيه إلاّ أمور العبادة من صلاة، وذكر، وتلاوة قرآن، وطواف1، ولقوله تعالى:{وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} [البقرة/125] .

فانتشرت حول المسجد الحرام الأماكن الخاصة، والعامة، والدور، والأزقة، والمرافق العامة والخاصة، وهذا مما جعله الله تعالى للإنسان في الأرض، وأمتنَّ به عليه، قال جلّ ذكره: {وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَناً

} [النحل/80] ، تأوون إليها وتستترون بها، وتنتفعون، مما شكَّل حول المسجد الحرام من جهاته المختلفة ما يشبه القرية المأهولة بالسكان الذين هوت أنفسهم إلى بيت الله الحرام، فآثروا الجوار بالاستقرار فعُرفوا بعد ذلك بأهل الله2، فأصبح للقرية حُرمة مستمدة

1 أخرج مسلم في صحيحه عن أنس قال: بينا نحن في المسجد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ جاء أعرابي، فقام يبول في المسجد، فقال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: مَهْ، مَهْ. قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تزرموه، دعوه" فتركوه حتى بال، ثم إنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم دعاه، فقال له:"إن هذه المساجد لا تصلح لشيء من هذا البول ولا القذر، إنما هي لذكرالله عز وجل، والصلاة، وقراءة القرآن"، [انظر صحيحه، كتاب الطهارة، باب وجوب غسل البول (1.. ـ 285) ] .

2 روى أن الرسول صلى الله عليه وسلم لما استعمل عتّاب بن أسيد على أهل مكة قال له: "يا عتّاب أتدري على من استعملتك على أهل الله تعالى فاستوص بهم خيراً" قال ابن أبي مُليكة: كان أهل مكة فيما مضى يُلْقَوْنَ فيقال لهم: يا أهل الله، وهذا من أهل الله. انظر القِرى لقاصد أم القرى، (ص649) ، وعند الفاكهي في أخبار مكة (3/65) أتدري أين بعثتك؟ بعثتك على أهل الله، ليس بلد أحب إلى الله عز وجل، ولا إليّ منها، ولكن قومي أخرجوني فخرجت، ولو لم يخرجوني لم أخرج. وانظر شفاء الغرام بأخبار البلد الحرام (1/78) ، وانظر الكامل لابن عدي (7/27) .

ص: 151

من حُرمة البيت الحرام، أكَّد ذلك الرسول صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة إذ قال: "إن هذا البلد حرّمهُ الله تعالى يوم خلق السموات والأرض، فهي حرام بحُرمة الله عز وجل إلى يوم القيامة

" 1.

وهو ما يدل على أن هذه البقعة من الأرض محرمة عند الله منذ خلق السموات والأرض، فكان من الأسباب والمسببات بعد ذلك ما جعل من تلك البقعة المباركة موضعاً لبيته الحرام: {إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركاً وهدىً للعالمين

} [آل عمران/96] .

ثم أن الله تبارك وتعالى جعل البيت موضعاً يُرجع إليه مرة بعد أخرى قال جلّ ذكره: {وإذ جعلنا البيت مثابة للناس وأمناً

} [البقرة/125] .

و (ثاب) الناس: اجتمعوا، وجاءوا2.

وشعر كل من جاور المسجد الحرام - أو هكذا يجب أن يكون - بحرمته، وعظمته، ورضي العيش بمكة - قرية المسجد الحرام - كل من عايش في نفسه حب الخير، وكراهة المعصية، وكان للعبادة في حياته الجانب الأهم.

ومنهم من أخذ على نفسه ترويضها على الطاعة، متأثراً بمن حوله في المجتمع، فأصبح الطابع المميز لأكثر سكان مكة المكرمة الرغبة في الطاعة، والإستزادة من فعل الخيرات، مما أكسبهم محبة غيرهم من الوافدين عليهم، أو بلغته أخبارهم، فأصبح مجتمع مكة مجتمعاً آمناً كما قال تعالى ممتنا، ومُبكِّتاً لبعض

1 انظر صحيح مسلم كتاب الحج باب تحريم مكة وصيدها (445 ـ 1353) .

2 انظر مادة (ثوب) من الصحاح وغيره.

ص: 152

أهله الذين كذبوا محمداً صلى الله عليه وسلم حينذاك، معللين ذلك بخوفهم من جيرانهم اليهود والنصارى أن يتخطفوهم إذا آمنوا، واتبعوا الرسول صلى الله عليه وسلم، ويمنعوا عنهم تجارتهم. وهي حجة واهية فالأمن لجيران المسجد الحرام أمر واقع، وملموس منذ عهد إبراهيم عليه السلام، وكان محفوظاً بحفظ الله له رغم ما أدخله بعض العرب فيه من عبادة الأوثان، فهل يأمنون وهم مشركون، ويخافون إذا هم آمنوا؟!

إنها دعوى باطلة، قال تعالى:{وَقَالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقاً مِنْ لَدُنَّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ} [القصص/57] .

وقال تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ} [العنكبوت/67] .

وقال تعالى: {لإِيلافِ قُرَيْشٍ إِيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ} [قريش/1-4] .

وإذا أسقطنا الأفعال المشينة التي خالف فيها مجتمع مكة القديم، أوامر الله بطاعته، وتوحيده، واجتناب نواهيه، وسببه ما طرأ على أهلها من شرك، ووثنية، فإنا نجده مجتمعاً يجنح أهله ويحرصون على فعل الخير، وإشاعته حفاظاً على مصالحهم، ومكانتهم المقدسة عند جيرانهم لكونهم جيران بيت الله الحرام.

فقد تحالف أهله في وقت من الأوقات على نصرة المظلوم، وكفّ يد الظالم، على شكل معاهدة ومُعاقدة على التعاضد والتساعد والاتفاق، مثل: حلف المُطيِّبين، وحلف الفضول، وأنشأوا دار الندوة.

قال الرسول صلى الله عليه وسلم: "شهدت حلف المُطَّيَّبين مع عمومتي، وأنا غلام، فما أُحب أن لي حٌمر النَّعم وأني أنكثه" 1، وكان بنو هاشم، وبنو زهرة، وتيمٌ قد

1 أخرجه الحاكم في المستدرك (2/22) وقال: هذا الحديث صحيح الإسناد، = ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي، وانظر مسند الإمام أحمد (1/19.،193) ، كلاهما من طريق إسماعيل بن أمية، عن عبد الرحمن بن إسحاق عن الزهري عن محمد بن جبير عن أبيه عن عبد الرحمن بن عوف، وانظر الكامل لابن عدي (4/161) وأبو نُعيم في معرفة الصحابة (ص495) .

ص: 153

اجتمعوا في دار عبد الله بن جدعان في الجاهلية، وجعلوا طيباً في جَفنة وغمسوا أيديهم فيه، وتحالفوا على التناصر، والأخذ للمظلوم من الظالم، فسموا المطيِّبين1.

وكذا حلْف الفضول عندما تداعت قبائل من قريش: بنو هاشم، وبنو المطلب، وأسد بن عبد العُزى، وزهرة بن كلاب، وتيم بن مُرة، فتعاقدوا على أن لا يجدوا بمكة مظلوماً من أهلها وغيرهم ممن دخلها من سائر الناس إلاّ قاموا معه، وكانوا على من ظلمه حتى تُردُّ عليه مظلمته2.

وأما دار الندوة فهي الدار التي كانوا يجتمعون فيها للتشاور3. وكان بينهم من تكفل برفادة الحجيج وآخر بسقايته قال السهيلي: "كانت الرفادة خرْجاً تُخرجه قريش في كل موسم من أموالها إلى قُصي بن كِلاب فيصنع به طعاماً للحاجِّ فيأكله من لم يكن له سعة ولا زاد، وخطب فيهم قائلاً: يا معشر قريش إنكم جيران الله وأهل بيته، وأهل الحرم، وإن الحاج ضيف الله، وزوّار بيته، وهم أحق الضيف بالكرامة"4.

وقال أبو طالب:

وكُنَّا قديماً لا نُقِرُّ ظُلامةً

إذا ما ثنوا صُعْر الخدود نُقِيمها5

1 انظر الروض الأُنف (2/61) .

2 المصدر السابق (2/63) .

3 المصدر السابق (2/55) .

4 المصدر السابق (2/5) .

5 انظر الإملاء المختصر للخشني (1/166) .

ص: 154