الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
عناصر الدرس
* حالات الخبر من حيث التقديم والتأخير
* الحالة الأولى: جواز التقديم والتأخير
* الحالة الثانية: امتناع التقديم
* الحالة الثالثة: وجوب التقديم.
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
قال الناظم رحمه الله تعالى:
وَالأَصْلُ فِي الأَخْبارِ أَنْ تُؤَخَّرَا
…
وَجَوَّزُوا التَّقْدِيمَ إِذْ لَا ضَرَرَا
اعلم أولاً أن الأصل هو تقديم المبتدأ، هذا هو الأصل، يعني الراجح الموافق للشيء الوضعي والطبعي أن يكون المبتدأ مقدماً على الخبر، الأصل تقديم المبتدأ وتأخير الخبر، لماذا؟ لأن المبتدأ محكوم عليه، والخبر محكوم به، وشأن المحكوم عليه التقديم على المحكوم به، هذا أمر طبعي ووافق الوضعي، فلا بد من تقديمه ليتحقق ويجوز تأخيره حيث لا مانع نحو: قائم زيد كما سيأتي.
وكذلك من جهة أخرى أن الخبر وصف في المعنى للمبتدأ، زيد قائم، فحكمت بالقيام على زيد، وكذلك وصفته من حيث المعنى بكونه قائماً، وحينئذ الموصوف شأنه التقديم على صفته، الموصوف الأصل أنه يتقدم على صفته، وحينئذ لما كان الخبر في المعنى وصفاً، والمبتدأ في المعنى موصوفاً قلنا شأن الموصوف أن يتقدم على الصفة.
اعلم أن للخبر في نفسه حالتين: التقدم والتأخر، هذا من حيث هو، لا باعتبار كونه جائزاً أو واجباً إما متقدماً وإما متأخراً، أنت إذا أردت أن تنطق بالخبر فإما أن تنطق به متقدماً على المبتدأ، وإما أن تنطق به مؤخراً عن المبتدأ، إما مقدماً وإما مؤخراً لا ثالث لهما -من حيث اللفظ والنطق لا ثالث لهما-، وإنما يأتي الحكم -وهذا أمر معنوي- من حيث عدم التقديم أو عدم التأخير، نقول: هذا شيء لاحق للفظ فهو وصف له.
إذاً الخبر في نفسه له حالتان: التقدم والتأخر، والأصل منهما التأخر، الأصل هو التأخر لما ذكرناه سابقاً؛ لأنه محكوم به ولأنه وصف في المعنى، بقطع النظر عن كونه واجباً أو جائزاً، لأنه إذا نطقت به متأخراً حينئذ إما أن يكون على جهة الوجوب وإما أن يكون على جهة الجواز، فإذا نطقت به متأخراً فحينئذ وافق اللفظ -نطقك- ما جاء في لسان العرب، ثم هل هو واجب أو جائز؟ هذا حال ووصف للخبر.
إذاً من حيث هو بقطع النظر عن كونه واجباً أو جائزاً، الخبر له حالان إما التأخر وإما التقدم، والتأخر هو الأصل.
ولهما من حيث التفصيل باعتبار الأحكام التي تعتري الخبر ولا يكون منطوقاً به وإنما هو حكم وصف لاحق به ثلاثة أحكام: أولاً: وجوب التأخر وامتناع التقدم، يجب أن يكون متأخراً، الثاني العكس: وهو وجوب التقدم وامتناع التأخر، هذا عكس الأول هذا حكم للخبر.
الثالث: جواز التقدم والتأخر وهذا هو الأصل من الثلاثة؛ إذ الأصل عدم الموجب والمانع، هذا هو الأصل عدم الموجب للتقدم، والمانع من التقدم، حينئذ يستوي فيه الأمران، ويكون الراجح التأخير لأنه موافق للأصل، يستوي فيه الأمران من حيث يجوز تقدمه على المبتدأ، لكن لا يلزم أن يكون هو الراجح بل الراجح هو التأخر مطلقاً سواء وجب أم جاز، لماذا؟ لأنه موافق للأصل.
إذاً ثلاثة أحكام للخبر:
وجوب التأخر وامتناع التقدم.
العكس -وهو وجوب التقدم وامتناع التأخر-.
جواز التقدم والتأخر.
هذان مسألتان، يعني التقدم والتأخر ثم كل منهما ثلاثة أقسام.
قال رحمه الله تعالى: والأَصْلُ فِي الأَخْبارِ أنْ تُؤَخَّرَا: الأَصْلُ، يطلق الأصل ويراد به عدة معاني، الأصل في اللغة ما يبنى عليه غيره، وأما في الاصطلاح فيطلق على معان ومنها الراجح، يقال الأصل في الكلام هو الحقيقة، يعني حمله عند المخاطب أن يحمله على حقيقته دون مجازه، حينئذ نقول: هذا حمل للكلام على أصله، والأصل: أي الراجح، تقديم المبتدأ وتأخير الخبر.
وَالأَصْلُ فِي الأَخْبارِ أَنْ تُؤَخَّرَا: في الأخبار جمعها لماذا؟ لأن الخبر أقسام، الأخبار جمع خبر، والجمع هنا باعتبار كونه مفرداً وجملة وظرفاً ومجروراً، يأتي هذا ويأتي ذاك، فلما تعددت أنواع الخبر حينئذ جاز أن يجمعها المصنف باعتبار الآحاد، وأما هو في نفسه فهو شيء واحد؛ لأنه هو الجزء المتم الفائدة، وَالْخَبَرُ الْجُزْءُ الْمُتِمُّ الْفَائِدَهْ، حينئذ لما كان معناه واحداً، وهذا المعنى موجود في أقسامه حينئذ صح الجمع باعتبار آحاده وأنواعه.
والأَصْلُ فِي الأَخْبارِ أنْ تُؤَخَّرَا: الأَصْلُ: مبتدأ، تُؤَخَّرَا: هذا فعل مضارع مغير الصيغة، والألف هذه للإطلاق، والضمير المستتر نائب فاعل، أَنْ وما دخلت عليه في تأويل مصدر: والأَصْلُ فِي الأَخْبارِ تأخيرها، أو التأخر.
وَالأَصْلُ فِي الأَخْبارِ أنْ تُؤَخَّرَا: لما ذكرناه؛ لأنها وصف في المعنى للمبتدءات فحقها التأخير كالوصف.
وَجَوَّزُوا التَّقْدِيمَ إِذْ لَا ضَرَرَا: هذا هو النوع الأول الذي ذكره المصنف من أنواع وأحكام الخبر، قلنا ثلاثة أقسام: النوع الأول الذي ذكره المصنف هو جواز التقديم والتأخير، يجوز الوجهان أن يقدم الخبر وأن يؤخر الخبر.
وَجَوَّزُوا: أي العرب، يعني نطقوا بالحالين: خبر مقدم، وخبر مؤخر، دون وجود مقتض أو مانع، مقتض للتقديم أو مانع عن التقديم، وحينئذ نطقوا بهذا وذاك.
أو: وَجَوَّزُوا: يعني النحاة، حكموا بجواز كل من الأمرين، يجوز في مثل هذه التراكيب أن يحمل الضمير هنا على النحاة أو على العرب، النحاة بمعنى أنهم حكموا وليس لهم أن يضعوا قواعد وأصول، والعرب بمعنى أنهم نطقوا وتلفظوا بالألفاظ التي استنبط منها النحاة الأحكام.
وَجَوَّزُوا التَّقْدِيمَ: لأن الخبر وإن كان يشبه الصفة؛ لأننا إذا قلنا الأصل في الخبر أنه محمول على الصفة، فحينئذ الصفة لا تتقدم على الموصوف، قلنا الأصل في الخبر أن يتأخر؛ عللناه بعلة وهي أنه وصف في المعنى، والمبتدأ موصوف، حينئذ صار أصله التأخير، قد يرد علينا إذا جوزنا تقديمه قلنا هو في معنى الوصف والوصف لا يتقدم على موصوفه، نقول: الأصل التأخير باعتبار كونه وصفاً في المعنى، وجواز التقديم لكونه لم يشبه الوصف من كل وجه، هو ليس بوصف حقيقة حتى نقول: يمتنع تقديمه، نقول: ذاك تعليل فيما جاء النطق به مؤخراً هذا الأصل فيه، فحينئذ العلة ليست سابقة على الحكم، بل الحكم وجد ثم علل .. الحكم وجد نطق العرب بالخبر متأخراً سواء عرفنا العلة أم لا ننطق كما نطقوا، لكن استنبط النحاة هذه العلة وهي كونه وصفاً.
ثم هذه العلة هي جزء علة وليست علة كاملة؛ لأنه محكوم به، والمبتدأ محكوم عليه وطبعاً أن المحكوم عليه مقدم على المحكوم به، فحينئذ لا ينافي العقل، العقل جاء بما جاء به لسان العرب فلا تنافي بينهما.
إذاً وَجَوَّزُوا التَّقْدِيمَ لا يعترض بأننا عللنا تأخير الخبر على الأصل بأنه وصف في المعنى، طيب يرد إيراد أن الوصف لا يتقدم على موصوفه، إذاً الخبر لا يجوز أن يتقدم على المبتدأ، نقول: لا، لماذا؟ لعدم وجود الشبه الكامل بين الخبر والصفة.
وَجَوَّزُوا التَّقْدِيمَ: لماذا جوزوه نقول: لأن الخبر وإن كان يشبه الصفة إلا أنهم توسعوا فيه؛ لأنه لم يصل إلى درجة الصفة في وجوب التأخير، ذاك شأنه شأن الصفة؛ لأنها لفظاً ومعنىً، حينئذ تجري عليها أحكام الصفة، وأما الخبر فالأصل لا.
وَجَوَّزُوا التَّقْدِيمَ: أي لم يمنعوه، وليس المراد بالجواز استواء الطرفين، لأننا قلنا الأصل أن يكون الخبر متأخراً، فإذا جاز -لو جاز على القول بالجواز- زيد أخوك، أخوك زيد، لكان الأصل: زيد مبتدأ وأخوك خبر، نقول: يجوز تقديم أخوك على المبتدأ، لكن هل معنى ذلك أنه مثل الجملة الأولى –استواء-، زيد أخوك أخوك زيد، استواء؟ لا، نقول: ما كان موافقاً للأصل -الجملة التي فيها الخبر متأخر عن المبتدأ-، ولو جاز التقديم هي أرجح، لماذا؟ لأنه موافقة للأصل، وما وافق الأصل حينئذ يكون مقدماً على غيره.
إذاً جَوَّزُوا التَّقْدِيمَ يعني: لم يمنعوه، وليس المراد هنا استواء الطرفين؛ بأنه يجوز هذا وذاك، والمرتبة واحدة! لا، نقول: لو جاز تقديم الخبر على المبتدأ إلا أن تأخيره أولى؛ لأنه وافق الأصل، وما جاء عن الأصل فهو مقدم.
إذاً: وَجَوَّزُوا التَّقْدِيمَ: أي لم يمنعوه، وليس بالمراد استواء الطرفين لما سبق أن التأخير هو الأصل –الراجح-، وهذا ذكر من الناظم لأول أحوال الخبر الثلاثة: جواز التقديم والتأخير وبدأ بالأول لأنه الأصل من الثلاثة، لكن قيده ليس على إطلاقه، نعم هو النوع الأول لكنه قيده، قال: إِذْ لا ضَرَرَا: إذ لا مانع، يمنع من جواز الوجهين، بمعنى أنه قد يوجد عارض يعرض على الخبر فيحتم تأخيره، أو يوجب تقديمه، حينئذ يرد السؤال: هذه المرتبة وإن كانت الأصل لا يمكن ضبطها إلا بمعرفة مواضع وجوب تأخير الخبر، ومواضع وجوب تقديم الخبر ما ليس من ذاك ولا ذا، حينئذ نقول: جائز الطرفين -يجوز تقديمه ويجوز تأخيره-.
إِذْ لَا ضَرَرَا: (إذ) هذه يحتمل أنها تعليلية، ورجح الصبان أنها ظرفية وليست تعليلية.
إِذْ لَا ضَرَرَا: ضرر اسم لا النافية للجنس، لَا ضَرَرَا، وخبرها مقدم إِذْ لَا ضَرَرَا في التقديم.
وأما تقدير لَا ضَرَرَا موجود هذا فيه ضعف.
إِذْ لَا ضَرَرَا: أي إن لم يمنع مانع يمنع من تقديمه كما سيأتي.
فإن حصل في التقديم ضرر فلعارض حينئذ لا بد من ضبطه، وسيذكره الناظم رحمه الله تعالى.
والأَصْلُ: أي الراجح.
فِي الأَخْبارِ: جمع خبر، جمعه باعتبار تعدده تأخيره، هذا هو الأصل الموافق لما نطق به العرب، ولما علم بالعقل والعلة الصحيحة.
وَجَوَّزُوا التَّقْدِيمَ إِذْ لَا ضَرَرا يمنع من التقديم، إذ لا ضرر حاصل بذلك.
وفهم منه أن الأصل في المبتدءات التقديم، بالعكس إذا كان الأصل هو تأخير الخبر يلزم منه أن يكون المبتدأ في الأصل تقديمه، إذاً دل على هذا الحكم بدلالة اللزوم.
والأَصْلُ فِي الأَخْبارِ أنْ تُؤَخَّرَا
…
وَجَوَّزُوا التَّقْدِيمَ: تقديم الخبر على المبتدءات، وَجَوَّزُوا التَّقْدِيمَ لها على المبتدءات يلزم منه أن يكون الأصل في المبتدأ هو التقديم وهو كذلك، ونعلله بعلتين عكسيتين لما عللناه بالخبر، وهو أنه محكوم عليه وشأن المحكوم عليه التقديم، ولأنه موصوف في المعنى والموصوف من شأنه التقديم، لذلك كان الأصل فيه أن يقدم.
الأصل تقديم المبتدأ وتأخير الخبر؛ وذلك لأن الخبر وصف في المعنى للمبتدأ فاستحق التأخير كالوصف، ويجوز تقديمه إذا لم يحصل بذلك لبس أو نحوه؛ إِذْ لَا ضَرَرَا، وهذا سيبينه الناظم بما سيأتي من أبيات، قائم زيد، أصل التركيب زيد قائم .. زيد مبتدأ وقائم خبر.
وهنا يتعين أن يكون زيد مبتدأ؛ لأنه كما سبق إذا وجد نكرة ومعرفة وهذه النكرة غير صالحة لجعلها مبتدأ حينئذ تعين أن يكون المعرفة هي المبتدأ، وأن يكون النكرة هي الخبر.
زيد قائم هذا الأصل (والأَصْلُ فِي الأَخْبارِ أنْ تُؤَخَّرَا) فزيد محكوم عليه، وقائم محكوم به، وشأن المحكوم عليه التقديم، وشأن المحكوم به التأخير.
زيد في المعنى موصوف، وقائم في المعنى صفة، زيد نقول: هذا الأصل فيه التقديم لأنه مبتدأ؛ لأنه محكوم عليه وشأنه التقديم، وكذلك هو في المعنى موصوف وشأن الموصوف أن يتقدم على صفته.
أيهما أرجح: قائم زيد، زيد قائم؟ الثاني؛ لأنه على الأصل.
إذاً جواز تقديم الخبر في مثل هذا التركيب لا يلزم منه استواء المثالين، هذا جائز وهذا جائز، لكن فيما أرجح وأبلغ وهو أن يكون موافقاً للأصل، وأما إذا وجد علة أو وجد معنى بلاغي، حينئذ صار التقديم هو الأفصح، ولو جاز تأخيره، لكن إذا استويا دون معنى زائد على مجرد التقديم والتأخير حينئذ قلنا تأخير الخبر هو الأرجح، ويفسر قوله الأَصْلُ بأنه الراجح.
وقائم أبوه زيد، زيد مبتدأ مؤخر، وقائم هذا خبر مقدم، وأبوه فاعل للوصف، إذاً نقول هذا خبر مقدم وذاك مبتدأ مؤخر، زيد قائم أبوه، أبوه قائم زيد .. يجوز الوجهان، أبوه منطلق زيد، زيد أبوه منطلق .. زيد مبتدأ أول، وأبوه مبتدأ ثاني، ومنطلق خبر الثاني، والجملة من المبتدأ الثاني وخبره في محل رفع خبر المبتدأ الأول، زيد أبوه منطلق، وهذا الخبر من باب الإخبار بالجملة الاسمية والرابط مذكور أبوه، يجوز تقديم الجملة الاسمية على المبتدأ، أن تقول: أبوه منطلق زيد، حينئذ يعود الضمير على متأخر لفظاً لا رتبة، وهذا جائز، يعني لا يقال بأنه إذا قيل: زيد أبوه منطلق عاد الضمير أبوه على متقدم في اللفظ والرتبة، وأما إذا قدمناه حينئذ لم يرجع إلى متقدم في اللفظ نقول: الممنوع ألا يرجع الضمير إلى متأخر لفظاً ورتبة، إلا في ست مسائل يأتينا في محلها.
فحينئذ نقول: إذا عاد الضمير على متأخر لفظاً لا رتبة هذا مغتفر وهو مسموح به ليس بممنوع، أبوه منطلق زيد، أبوه ضمير عاد على زيد وهو متأخر، والأصل أنه متقدم، نقول: هذا سائغ لغة، وفي الدار زيد، زيد في الدار .. في الدار جار ومجرور متعلق بمحذوف خبر مقدم، وزيد مبتدأ مؤخر، زيد في الدار: هذا الأصل، زيد كائن في الدار، أو استقر في الدار، في الدار زيد .. زيد مبتدأ وفي الدار خبر مقدم.
هل يجوز وجه آخر؟ نعم. زيد فاعل، في الدار زيد: استقر في الدار زيد، فزيد فاعل بمتعلق الجار، فحينئذ نقول: هذا يجوز فيه وجهان، بل ذكره أظنه ابن هشام أو الكافية أن هذا هو الأفصح عند المحققين، أنه في الدار زيد أن يعرب زيد فاعل، حينئذ في مثل هذا هم يمثلون به بجواز التقديم والتأخير، مع ملاحظة هذا وملاحظة الجار والمجرور بعد المعرفة قد يوهم أنه حال فهو محل بحث.
وعندك عمرو القول فيه كالقول في سابقه، عندك عمرو، عندك هذا منصوب بمتعلق محذوف وجوباً، استقر عندك عمرو، جاء لبس عمرو هذا يحتمل أنه فاعل ويحتمل أنه مبتدأ، فحينئذ جواز التقديم نقول: القول فيه كالقول في سابقه.
وَالأَصْلُ فِي الأَخْبارِ أَنْ تُؤَخَّرَا
…
وَجَوَّزُوا التَّقْدِيمَ إِذْ لَا ضَرَرَا
مشنوء من يشنؤك، هذا مَثَلٌ، مشنوء كمبغوض وزناً ومعنىً، مشنوء من يشنؤك، تميمٌ أنا، أنا تميمي، أيضاً القول فيه كالقول في سابقه، مشنوء من يشنؤك، مبغوض من يبغضك، ما إعرابها؟
مشنوء خبر مقدم، و (مَن) مبتدأ مؤخر، ما نوع (مَن) هذه؟
اسم موصول، لا تكون شرطاً أبداً، ولا تكون استفهام أبداً، وإنما هي اسم موصول.
مشنوء من .. أي: الذي يشنؤك مشنوء، وتميمي أنا، تميمي هذا خبر مقدم، وأنا مبتدأ مؤخر.
ثم قال رحمه الله تعالى:
فَامْنَعْهُ حِينَ يَسْتَوِي الْجُزْءانِ: هذا تفسير لقوله: إِذْ لا ضَرَرَا، هذا نفي للضرر الحاصل بالتقديم والتأخير، إذ لا ضررا حينئذ فامنعه، أي تقديم الخبر.
فَامْنَعْهُ حِينَ يَسْتَوِي الْجُزْءَانِ
…
عُرْفَاً وَنُكْراً عَادِمَيْ بَيَانِ
كَذَا إِذَا مَا الْفِعْلُ كَانَ الْخَبَرَا
…
أَوْ قُصِدَ اسْتِعمَالُهُ مُنْحَصِرَا
أَوْ كَانَ مُسْنَداً لِذِي لَامِ ابْتِدَا
…
أَوْ لَازِمِ الصَّدْرِ كَمَنْ لِي مُنْجِدَا
فَامْنَعْهُ: الفاء هذه للتفريع، تفريع على مفهوم إِذْ لا ضَرَرَا، وهذا شروع منه في الحالة الثانية، قلنا الحالة الأولى: جواز التقديم والتأخير، أشار إليها بشطر بيتٍ بعد أن بيَّن الأصل: والأَصْلُ فِي الأَخْبارِ أنْ تُؤَخَّرَا، ثم شرع في بيان الأحوال الثلاثة، وقدَّم الأول لأنه الأصل، وَجَوَّزُوا التَّقْدِيمَ إِذْ لا ضَرَرَا، ثم الحالة الثانية: وهي وجوب التأخير، وامتناع التقديم.
إذاً هذا شروع في الحالة الثانية من أنواع الخبر، وهو وجوب التزام الأصل، وهو وجوب التأخير، وثنى به لأنه موافق للأصل، جاء على الأصل في كونه مؤخراً، وخالف الأصل في كونه واجباً، فهو موافق من جهة ومخالف من جهة أخرى، يعني هذا القسم الثاني وهو وجوب التأخير، نقول: في النطق وافق الأصل؛ لأنه مؤخر، ولكن في الحكم الأمر المعنوي هذا نقول: خالف الأصل، لماذا خالف الأصل؟ لأن الأصل ألا نلتزم تأخيره، فلما التزمنا تأخيره حينئذ خالفنا الأصل، والتزام التأخير هنا هل خالف الأصل في كونه مؤخراً لفظاً؟ لم يخالف، ولذلك ثنى به، بخلاف الحالة الثالثة وهي وجوب التقديم، وَنَحْوُ عِنْدِي دِرْهَمٌ وَلِي وَطَرْ: لِِي وَطَرْ هنا وجب تقديم الخبر، لكون المبتدأ نكرة، لِِي وَطَرْ إذاً خالف الأصل من وجهين: في كونه مقدماً لفظاً، وفي كونه واجب التقديم.
ولذلك ثلث بتلك الحالة، هذه أشبه بالحالة الأولى، وافق الأصل في كونه مؤخراً: يعني منطوقاً به مؤخراً، ثم هذا التأخير الأصل في حكمه أنه جائز، ولكن خالفه فالتزم التأخير، يعني حكمنا بالوجوب.
وهو وجوب التأخير، وثنى به لأنه على الأصل من جهة التأخير، ومخالفته له من جهة الوجوب.
قال رحمه الله تعالى:
فَامْنَعْهُ حِينَ يَسْتَوِي الْجُزْءَانِ
…
عُرْفَاً وَنُكْراً عَادِمَيْ بَيَانِ
هذا هو الموضع الأول الذي يجب فيه تأخير الخبر.
فَامْنَعْهُ: يعني امنع تقديم الخبر على المبتدأ، فحينئذ يلتزم حالته التي نطق بها العرب.
فَامْنَعْهُ: أي امنع تقديم الخبر في مسائل، ذكر منها خمسة.
حِينَ يَسْتَوِي الْجُزْءانِ: أي المبتدأ والخبر والناظم يعبر عن المبتدأ بكونه جزء كما في هذا الموضع، وعن الخبر بكونه جزءاً كما في قوله: وَالْخَبَرُ الْجُزْءُ الْمُتِمُّ الْفَائِدَهْ؛ لأنه جزء من جزأين؛ إذ الكلام مركب من مسند ومسند إليه، كل منهما جزء، وأقل ما يتألف منه الكلام جزءان، أحدهما مبتدأ والآخر الخبر، إذاً حين يستوي الجزءان المبتدأ والخبر
عُرْفًا: في التعريف والتنكير، يعني إذا كان كل من الجزأين -المبتدأ والخبر- معرفتين، وكان كل منهما -من المبتدأ والخبر- نكرتين، وكل منهما صالح لأن يجعل مبتدأً حينئذ يمتنع تقديم الخبر على المبتدأ؛ لإيهام اللبس.
فَامْنَعْهُ حِينَ يَسْتَوِي الْجُزْءانِ: أي المبتدأ والخبر.
المراد الاستواء هنا في جنس التعريف والتنكير، ليس من كل جهة، يعني يستوي الجزءان تعريفاً، قد يقال: بأن الأول علم والثاني علم حتى يكونا في مرتبة واحدة، قد يظن الظان هذا، أنه المراد في التعريف في المرتبة، هذا مضاف إلى معرفة وهذا مضاف إلى معرفة، هذا مضاف إلى اسم إشارة والثاني مضاف إلى اسم إشارة! لا ليس هذا المراد، بل المراد كل منهما معرفة بقطع النظر عن تعريف الجزء الأول بمَ كان وتعريف الجزء الثاني بمَ كان؛ لأنه قد يكون الجزء الأول أعرف من الثاني أو الثاني أعرف من الأول أو يستويان، الأحوال ثلاثة كلها مرادة في كلام الناظم هنا.
فامنعه مطلقاً إذا كان الأول معرفة، سواء كان أعرف من الثاني أو أدنى، فالمبتدأ هو المقدم، ولو كان أدنى مرتبة من الجزء الثاني، والثاني هو الخبر ولو كان أعرف من المبتدأ، فالناظم لم يلتفت إلى هذا، وإنما نظر إلى ما يعرفه المخاطب كما سيأتي.
إذاً المراد هنا بالاستواء حِينَ يَسْتَوِي الْجُزْءانِ المبتدأ والخبر.
عُرْفًا وَنُكْراً: في جنس التعريف والتنكير، وإن كان أحدهما أعرف أو أخص من الآخر، فيما إذا كان نكرتين؛ لأن أحدهما قد يضاف غلام رجل، والآخر قد يوصف بجار ومجرور، حينئذ يكون الأول أقرب إلى قلة الشيوع من الثاني، فهو أخص، إذاً لا يلزم أن يكون الأخص هو المبتدأ والأعم ولو كان نكرة من جهة التخصيص أن يكون هو الخبر لا، فالأول النكرة المخصصة يكون مبتدأ، والثاني النكرة المخصصة يكون خبراً، ولو كان الثاني أكثر تخصيصاً من الأول، لأن ما كان أكثر تخصيصاً يكون أقرب إلى المعرفة فهو أعلى درجة، وما كان أبعد فهو أنزل درجة مطلقاً لا يلتفت إلى هذا ولا ذاك، وإنما المقدم الذي يلفظ به أولاً هو الذي يكون مبتدأً، والذي يلفظ به ثانياً هو الذي يكون خبراً ولو كان الثاني أكثر تخصيصاً من الأول.
أما إذا كان أحدهما نكرة مخصصة، والآخر محضة، محضة يعني لم توصف، وإحدى النكرتين وصفت، رجل صالح حاضر، رجل هذا نكرة، وحاضر نكرة، هل استويا؟ لا، ليس عندنا نكرة مخصصة إلا واحدة رجل صالح، هذه نكرة مخصصة، حاضر نقول: هذا نكرة محضة، في هذا التركيب ليس داخلاً في كلام المصنف؛ لأنه يتعين أن تكون النكرة المخصصة هي المبتدأ، والنكرة المحضة هي الخبر، هذا متعين لا يجوز فيه الوجهان، وإنما نقول: هذا الذي هو رجل صالح، هذا مبتدأ قطعاً، وحاضر هذا خبر قطعاً.
وأما إذا كان أحدهما نكرة مخصصة والآخر محضة، فظاهر أن المبتدأ هي النكرة المخصصة كالمثال الذي ذكرناه، إلا أن هذه الصورة خارجة بقوله: عَادِمَيْ بَيَانِ، ليست بداخلان.
وإن كان الاسمان مستويين فالذي يقدم ويجعل مبتدأً هو ما يعلم المخاطب اتصاف الذات به، والذي يؤخر ويجعل خبرًا هو ما يجهل المخاطب اتصاف الذات به، على الأصل في وضع المبتدأ والخبر، يعني إذا قيل: زيد أخي، على كلام الناظم هنا إذا قلت: زيد ونطقت به أولاً، وأخي نطقت به ثانياً، حينئذ أي النوعين من المعرفتين نجعله مبتدأً والآخر خبر؟
على كلام الناظم مطلقاً زيد مبتدأ، وأخي خبر، ونظر بعضهم إلى المعنى، هذا في الظاهر والله أعلم أنه وقوف ظاهري، لماذا؟ لأن الغرض في المبتدأ أن يكون مخبراً عنه، والخبر أن يكون مخبراً به، هذا الأصل فيه، وهذا أصل مطرد، والعبرة هنا بالمعاني أيضاً كما أن العبرة بالألفاظ.
فحينئذ إذا كان الأصل في المبتدأ، أن يكون مخبراً له، فحينئذ إذا كان معلوماً عند المخاطب أحد اللفظين المعرفتين والثاني فيه نوع جهالة، فالأصل حينئذ أن يكون المعلوم هو المبتدأ، والمجهول هو الخبر؛ لأن الخبر هو الجزء الذي تتم به الفائدة مع المبتدأ، وهو محط الفائدة كما يعبر النحاة.
فحينئذ الأولى في مثل هذا التركيب ألا نعين بأن الثاني مطلقاً هو الخبر، وإنما نقول: ننظر إلى المخاطب، فإن كان عنده علم بأحد الذاتين وجَهْلٌ بأحد الأوصاف المتعلقة بالذاتين، حينئذ نجعل المعلوم هو المبتدأ، والمجهول أو الذي فيه نوع جهالة هو الخبر، فقد يكون هذا المتقدم هو المبتدأ وقد يكون هو الخبر.
وهذا من جهة البيان والبلاغة أبلغ مما اختاره الناظم رحمه الله تعالى، فالذي يقدم ويجعل مبتدأً هو ما يعلم المخاطب اتصاف الذات به، والذي يؤخر ويجعل خبراً هو ما يجهل المخاطب اتصاف الذات به، فإذا عرف المخاطب زيداً بعينه واسمه وجهل اتصافه بأنه أخوك، يعلم أن شخصاً اسمه زيد ويعرفه بعينه، لكن ما يدري أنه أخي، فحينئذ يعلم ماذا ويجعل ماذا؟ يعلم اسم زيد وذاته، ويجهل الحكم وهو كونه أخي، حينئذ زيد أخي أيهما الذي يقدم؟ زيد هو الذي يقدم وأخي هو الذي يؤخر، لو قلت في مثل هذا التركيب أخي زيد أخطأت، لماذا؟ لأن التركيب الثاني إنما يقال لمن علم بأن لي أخاً، وجهل اسمه وعينه، فيقال له: أخي زيد، عكس التركيب الأول، انظر المعنى هنا كيف، تحكم في كون هذا محكوماً عليه وهذا محكوم به، إذا علم اسم الشخص وعينه ي-عرف-، وهذا يقع عند الناس، ترى الشخص وتعرف اسمه إلى آخره، وتجهل أنه أخي، فأقول لك: هذا زيد أخي، حينئذ زيد صار محكوماً عليه، وأخي صار محكوماً به، في مثل هذا التركيب لا يجوز التقديم والتأخير، يجب التزام أن يكون زيد هو المبتدأ وأخي هو الخبر، لو علم بالأخوة يعلم أن له أخاً فقد يكون موجوداً هنا مثلاً، لكن نسي أو جهل اسمه وعينه فيقال: أخي زيد، فحينئذ وجب أن يكون أخي هو المبتدأ، وزيد هو الخبر، هذا أحسن ما يقال فيه.
فإذا عرف المخاطب زيداً بعينه واسمه وجهل اتصافه بأنه أخوك قلت: زيد أخي، وإذا عرف أن لك أخاً وجهل عينه واسمه قلت: أخي زيد.
فَامْنَعْهُ حِينَ يَسْتَوِي الْجُزْءانِ: يعني المبتدأ والخبر.
عُرْفًا وَنُكْراً: أي: في التعريف والتنكير، هذا مراده بالعرف والنكر، في التعريف والتنكير، فهما اسما مصدرين للتعريف والتنكير منصوبان بنزع الخافض، وهو أولى من جعلهما تمييز -أعربها محيي الدين تمييز- والأولى تجعل منصوبان بنزع الخافض؛ لأن المعنى عليه وإن كان مقصوراً على السماع أوضح من جعلهما تمييزين محولين من فاعل يستوي، فحينئذ يكون فَامْنَعْهُ حِينَ يَسْتَوِي الْجُزْءانِ في التعريف وفي التنكير، والمراد النكرة هنا ليس مطلق النكرة، وإنما النكرة التي يصلح أن تكون مبتدأً، كل منهما يصلح أن يكون مبتدأً أفضل من زيد أفضل من عمرو، أفضل أفضل نكرتان، الأولى مخصصة والثانية مخصصة، هنا يجب أن يكون الأول مبتدأً والثاني معرفة، ليس كالسابق، لماذا؟ لأن الأولى صالحة لأن تكون مبتدأ وهي مبتدأ، والثانية أفضل من عمرو كذلك صالحة لأن تكون مبتدأ وهي قد أعربناها خبر، لماذا؟ لأنك لو قدمت وأخرت وقعنا في الإبهام واللبس، أفضل من زيد أفضل من عمرو، كل من كان أفضل من زيد فهو أفضل من عمرو، والعكس صحيح لو قدمنا وأخرنا قلنا: أفضل من عمرو أفضل من زيد؟ ليس بصحيح إذاً وقعنا في وهم ولبس، حينئذ يجب أن نلتزم الأصل، وهو أن يكون الأول هو المبتدأ والثاني هو النكرة؛ لئلا يقع إلباس وتلبيس.
عُرْفًا وَنُكْراً عَادِمَيْ بَيَانِ: هذا تقييد، عَادِمَيْ يعني: ما كانا معرفتين وما كانا نكرتين، عَادِمَيْ بَيَانِ إذا لم توجد قرينة تبين المبتدأ من الخبر، إذا انتفت القرينة وجب أن يكون الأول من المعرفتين هو المبتدأ، وأن يكون الأول من النكرتين الصالحتين لجعلهما مبتدأً أن يكون الأول هو المبتدأ، إن وجدت قرينة مع التقديم والتأخير تنفي اللبس والإيهام، حينئذ جاز التقديم والتأخير بين المعرفتين وبين النكرتين.
فَامْنَعْهُ حِينَ يَسْتَوِي الْجُزْءَانِ
…
عُرْفَاً وَنُكْرَاً عَادِمَيْ بَيَانِ
إذاً الموضع الأول الذي يجب فيه تأخير الخبر -أن يبقى على أصله- أن يكون كل من المبتدأ والخبر معرفة، أو يكون كل من المبتدأ والخبر نكرة، لكنها صالحة لجعلها مبتدأً -لا بد من التقييد- وأما إذا كانا أحدهما صالحاً لأن يجعل مبتدأ والثاني يكون محضاً ليس داخلاً في كلام المصنف، رجل صالح حاضر، هذه خرجت بقوله: عَادِمَيْ بَيَانِ؛ لأنه ليس فيه لبس يتعين الأول أن يكون مبتدأ والثاني خبر.
وعبر عن هذا التركيب في التوضيح: الأول أن يوهم التقديم ابتدائية الخبر، بأن يكون معرفتين أو نكرتين متساويتين ولا قرينة، فإن كان قرينة جاز التقديم كما سيأتي أبو يوسف أبو حنيفة.
إذاً لو تقدم الخبر لتوهمنا ابتدائيته، يعني إذا قلنا الأصل أخي زيد على المعنى السابق، لو أخطأ فقال: زيد أخي، نقول: التركيب ليس بصحيح، أو يصحح على أن يجعل الخبر المقدم مبتدأً؛ لأن المخاطب سيتوهم أنه المبتدأ المحكوم عليه، إذا قال: أخي زيد، قلنا يجب التزام الأصل أخي زيد، أخي مبتدأ وزيد خبر، لو قدم قال: زيد أخي على أن يكون خبراً مقدماً، نقول: لا. هذا يوهم أنه مبتدأ، فإما أن تلتزم بأنه مبتدأ أو ترجع إلى الأصل أن تقول: أخي زيد، إما أن ترجع عن الحكم فيكون زيد الذي قدمته على أنه خبر مقدم يكون مبتدأً، وأخي يكون خبراً.
ولذلك عبر ابن هشام في التوضيح عن هذه الجملة التي عبر عنها ابن عقيل بما هو أوضح: أن يوهم التقديم ابتدائية الخبر، يعني الخبر في الأصل أنه خبر لو قدمناه لتوهم السامع والمخاطب أنه مبتدأ، ودفعاً للإلباس وجب التزام الأصل وهو تأخير الخبر.
ولا مبين للمبتدأ من الخبر: زيد أخوك، هذا واضح، وأفضل من زيد أفضل من عمرو، ولا يجوز تقديم الخبر في هذا ونحوه؛ لأنك لو قدمته فقلت: أخوك زيد وأفضل من عمرو أفضل من زيد لكان المقدم مبتدأً وأنت تريد أن يكون خبراً من غير دليل يدل عليه، فإن وجدت قرينة عَادِمَيْ بَيَانِ، فإن وجد البيان حينئذ بالمفهوم صح التقديم والتأخير: أبو يوسف أبو حنيفة، أبو يوسف هذا تلميذ أبي حنيفة، أبو يوسف هذا مبتدأ وهو مُشَبَّهٌ، وأبو حنيفة مُشَبَّهٌ به، مبتدأ وخبر، أبو يوسف مبتدأ محكوم عليه، وأبو حنيفة هذا خبر، كل منهما استويا تعريفاً.
هنا عندنا قرينة وهي أن الأصل أن التلميذ هو الذي يشبه بشيخه، لا الشيخ هو الذي يشبه بتلميذه، فإذا قال أبو حنيفة أبو يوسف، هل يتوهم متوهم أن أبو حنيفة مبتدأ؟ لا، ليس أبو حنيفة مشبه بأبي يوسف، لا العكس، إذاً وجدت قرينة معنوية، هنا القرينة ليست لفظية وإنما هي معنوية؛ لأن أبو يوسف هذا مشبه وأبو حنيفة مشبه به، كأنه قال: أبو يوسف مثل أبي حنيفة، وشأن المشبه التقدم على المشبه به، وهو المبتدأ والمشبه به هو الخبر، حينئذ لو قدم وأخر فقال: أبو حنيفة أبو يوسف قلنا: عندنا قرينة عند من يفهم، لكن إذا كان ما يعرف أبا حنيفة ولا أبا يوسف، هذه مشكلة عرف بهما أولاً، ثم اشرح له المثال.
لو قال: أبو حنيفة أبو يوسف جاز لوجود القرينة المعنوية ولا إشكال فيه.
بَنُونَا بَنو أَبْنَائِنَا، وَبَنَاتُنا
…
بَنُوهُنَّ أَبْنَاءُ الرِّجالِ الأَباعِدِ
بَنُونَا بَنو أَبْنَائِنَا: كل منهما معرفة، بنونا هذا معرف بماذا؟؟؟؟
وبنو أبنائنا؟
…
؟؟؟
إذاً اجتمع معرفتان على قاعدة ابن مالك أن الأول يكون مبتدأً والثاني يكون خبراً، بَنُونَا بَنو أَبْنَائِنَا، أنت على ماذا تحكم-على من- على أبناء الأبناء أو على البنين أيهما أصل تشبه من بمن؟ أبناء الأبناء بالأبناء أو الأبناء بأبناء الأبناء؟
أبناء الأبناء هؤلاء مشبهون بالأبناء، إذاً بَنُونَا هذا خبر مقدم، بَنو أَبْنَائِنَا هذا مبتدأ مؤخر، معلوم من التشبيه؛ لأن القاعدة أن المشبه هو الذي يكون مبتدأ، والمشبه به هو الخبر، فالمعنى تشبيه أبناء البنين بالبنين ومن يُشَابِهْ أَبَه فَمَا ظلَم، هذا هو الأصل.
فحينئذ بَنُونَا هذا خبر مقدم وبَنو أَبْنَائِنَا هذا مبتدأ مؤخر، والأصل بَنو أَبْنَائِنَا مثل بنينا، هذا هو الأصل.
فبنونا خبر مقدم وبنو أبنائنا مبتدأ مؤخر لأن المراد الحكم على بني أبنائهم بأنهم كبنيهم، وليس المراد الحكم على بنيهم بأنهم كبني أبنائهم.
إذاً عَادِمَيْ بَيَانِ المراد به: أنه إذا وجدت قرينة لفظية أو معنوية تدل على المتقدم والمتأخر فيما إذا استويا تعريفاً وتنكيراً جاز التقديم والتأخير.
كَذَا إذَا مَا الْفِعْلُ كَانَ الْخَبَرَا: كَذَا أي: مثل ذا يمتنع تقديم الخبر إذَا مَا الْفِعْلُ،
…
مَا زائدة ..
…
يا طالباً خذ فائدة
…
ما بعد إذا زائدة
فتحكم عليه بأنها زائدة، يعني نحذفها مطلقاً أو أنها تفيد؟ تفيد التأكيد ((وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ)) [الشورى:37] وارد في القرآن.
كَذَا: أي مثل (ذا) من امتناع تقديم الخبر على المبتدأ يمتنع تقديم الخبر إذا كان الفعل، الْفِعْلُ هذا اسم كان محذوفة.
كَانَ هو الْخَبَرَا: بمعنى أنه إذا وقع الخبر فعلاً وهنا لم يقل جملة؛ لأنه أراد الفعل المنطوق به من حيث هو، بمعنى أنه ليس الفعل الرافع لاسم ظاهر أو ضمير بارز، ولذلك أطلق الفعل وأُورِد -ومنهم ابن عقيل- على المصنف إيراداً ليس في محله، وهو أنه يرد على مطلق الفعل كل فعل ولو رفع ضميراً مستتراً أو ضميراً بارزاً أو اسماً ظاهراً، ومراد المصنف بهذا البيت أن الخبر إذا وقع فعلاً رافعاً لضمير مستتر امتنع تقديمه على المبتدأ: زيد قام، زيد مبتدأ، قام فعل ماضٍ رفع ضميراً مستتراً، هل يجوز أن نقول: قام زيد نقدم الخبر؟ زيد مبتدأ وقام نقول: فعل ورفع ضميراً مستتراً وهو في محل رفع خبر، هل يجوز أن نقدم الخبر فنقول: قام زيد؟ لا يجوز؛ لأنك لو قلت: قام زيد، خرجت الجملة من اسميتها إلى فعليتها، وفرق بين النوعين؛ لأنه لا يجوز أولاً أن يتقدم الفاعل على فعله، فلا يقال حينئذ زيد فاعل وقام فعل كما هو مذهب الكوفيين، وإنما يتعين أن يكون الأول مبتدأً، إذا تعين أن يكون الأول مبتدأً حينئذ تعين تأخير الفعل، والمراد بهذا أن الكوفيين يرون أن قول القائل: زيد قام، زيد فيه وجهان: يحتمل أنه مبتدأ ويحتمل أنه فاعل، يحتمل أنه مبتدأ وخبره جملة قام، ويحتمل أنه فاعل للفعل المتأخر؛ لأنهم يرون جواز تقديم الفاعل على الفعل، وهو باطل كما سيأتي في محله.
إذاً على مذهب البصريين وهو الصواب أنه لا يجوز تقديم الفاعل على فعله إذا قلنا: زيد قام، امتنع تقديم قام على زيد، لماذا؟ لأنه انتقل من الجملة الاسمية إلى الجملة الفعلية، وهذا مخرج الكلام عن أصله.
كَذَا يمتنع تقديم الخبر إذَا مَا الْفِعْلُ، إذاً: نقول الفعل المراد به هنا الرافع للضمير المستتر؛ لأنه في الأصل إذا عُبّر بالفعل عن فعل رافع لضمير مستتر في الغالب أنه لا يعبر عنه بالجملة، وإن كان هو في المعنى جملة، لكن إذا وقع الخبر جملة فعل رافع لاسم ظاهر أو بارز قلنا هذا من باب الإخبار بالجملة الفعلية أو الاسمية، ومراد المصنف هنا بالفعل الصورة المحسوسة كما عبر المكودي وغيره، وليس فاعله محسوساً -الذي ليس فاعله محسوساً- يعني: منطوقاً به وهو الاسم الظاهر والضمير البار.
إذاً الموضع الثاني أن يكون الخبر فعلاً رافعاً لضمير المبتدأ مستتراً بهذا القيد؛ إذ لو قُدِّمَ لأوهم الفاعلية، لو قُدِّمَ –الفعل- وهو خبر على المبتدأ لأوهم الفاعلية، فخرجت الجملة من كونها اسمية إلى فعلية، وهذا ممنوع نحو: زيد قام، فقام وفاعله المستتر خبر عن زيد، ولا يجوز التقديم فلا يقال قام زيد على أن يكون زيد مبتدأً مؤخراً والفعل خبراً مقدماً بل يكون زيد فاعلاً لقام فلا يكون من باب المبتدأ والخبر بل من باب الفعل والفاعل.
فإن رفع ضميراً بارزاً أو اسماً ظاهراً حينئذ جاز فيه الوجهان التقديم والتأخير، وهو داخل في قوله: وَجَوَّزُوا التَّقْدِيمَ إذ لا ضَرَرا.
فتقول: قام أبوه زيد، زيد قام أبوه، زيد مبتدأ وقام أبوه فعل وفاعل والجملة في محل رفع خبر المبتدأ، قدِّم الجملة الفعلية قام أبوه زيد، حصل لبس؟ لا؛ لأن الفعل هنا اكتفى بمرفوعه لا يرفع فاعلين، فزيد مبتدأ سواء قدمته أو أخرته، زيد أبوه منطلق، أبوه منطلق زيد. جاز التقديم والتأخير، هذا إذا رفع اسماً ظاهراً، وأما إذا رفع ضميراً بارزاً نحو: الزيدان قاما، والزيدون قاموا.
الزيدان قاما: الزيدان هذا مبتدأ مرفوع بالابتداء، ورفعه الألف لأنه مثنى، و (قاما) قام فعل ماضي والألف فاعل والجملة في محل رفع خبر المبتدأ الذي هو مثنى.
الزيدان قاما، هذا على المشهور أنه جائز مطلقاً، الجمهور على أنه يجوز مطلقاً إذا رفع الفعل وهو خبر ضميراً بارزاً سواء كان مثنى ألف الاثنين أو واو الجماعة جاز مطلقاً، هذا عند الجمهور.
فإذا قدم المثنى قيل: قاما الزيدان، فالزيدان مبتدأ مؤخر، وجملة قاما هذه خبر مقدم، لكن منع بعضهم تقديم هذه الصورة، لماذا؟ لأن الفاعل يحذف للتخلص من التقاء الساكنين، فيقع لبس، فتقول: قام الزيدان، فيظن الظان أن قام هذا فعل والزيدان فاعل، فمنع بعضهم حكاه السيوطي عن والده أنه يمنع هذه الصورة قاما الزيدان؛ لأنك أنت ما تقول: قاما الزيدان، وإن أجيب بهذه قاما هذا فعل وفاعل، والزيدان مبتدأ، هذا الأصل، لكن لما وقع اللبس قام الزيدان حذفت الألف التي هي فاعل، إذاً وقع لبس، فيظن الظان أن قام ليس خبراً مقدماً بل هو فعل، وأن الزيدان ليس مبتدأً مؤخراً بل هو فاعل، فوقعنا في اللبس، فيه أن الألف تحذف لفظاً لالتقاء الساكنين، فاللبس حاصل لفظاً، وأجيب بأنه يمكن دفعه بالوقف على قاما أو الوصل بنية الوقف، ولا لبس في نحو قاما أخواك، لكن هذا يبقى فيه لبس.
وأما قاموا الزيدون هل فيه لبس؟
لا.
لماذا؟
الضمة التي على الميم.
أما قاما، الفتحة هذه موهمة أنها فتحت بناء، وهي فتحت بناء، لكنها موهمة أن يكون الفعل مسنداً إلى الاسم الظاهر قاما الزيدان، وأما قاموا فإذا حذفت الواو للتخلص من التقاء الساكنين، حينئذ بقيت الضمة على أصلها.
إذاً: إذا رفع ضميراً بارزاً حينئذ الجمهور على الجواز مطلقاً سواء رفع ضميراً بارزاً وهو مثنى، قاما الزيدان يجوز تقديم الخبر على مبتدأ أو رفع ضمير الجمع قاموا الزيدون كذلك جائز.
وخصه بعضهم بالجمع، ومنع المثنى لبقاء الإلباس على السامع، وهو في المثنى واقع، ولو عمم فيه جيد، ومنع قوم التقديم مطلقاً حملاً لحالة التثنية والجمع على الإفراد؛ لأنه الأصل،- لا هذا ضعيف-، يعني ما دام أنه زيد قام هذا ممنوع! إذاً قام قاما قاموا ممنوع، نقول: لا. زيد قام امتنع لماذا؟ لعلة، والحكم يدور مع علته وجوداً وعدماً، وإلا الأصل جواز تقديم الخبر مطلقاً، إذا وقع في إلباس وإيهام حينئذ نقول: نمنع، وأما قاما الزيدان إذا لم يوقع في لبس وما أجاب به الجمهور حينئذ لا بأس، وقاموا كذلك لا بأس، أما قام زيد ونقيس هذا على ذاك نقول: هذا ممتنع.
كَذَا إِذَا مَا الْفِعْلُ كَانَ الْخَبَرَا
…
أَوْ قُصِدَ اسْتِعمَالُهُ مُنْحَصِرَا
قوله: كَذَا إذَا مَا الْفِعْلُ كَانَ الْخَبَرَا، في التركيب ابن مالك أحياناً يقع عنده نوع عسر وركاكة، ولذلك قيل: أصل التركيب كذا إذا ما الخبر كان فعلاً؛ لأن الخبر هو المحدَّثُ عنه، فلا يحسن جعله حديثاً لكنه قلب العبارة لضرورة النظم، وليعود الضمير إلى أقرب مذكور في قوله: أوْ قُصِدَ، أوْ هذا للتنويع، وهي الحالة الثالثة من أحوال وجوب تأخير الخبر ولا يجوز تقديمه على المبتدأ.
أوْ قُصِدَ اسْتِعمَالُهُ مُنْحَصِرَا: (أوْ قُصِدَ) أي: وكذا يمتنع تقديم الخبر إذا استعمل منحصراً.
قُصِدَ اسْتِعمَالُهُ يعني: استعمال الخبر.
مُنْحَصَراً، مُنْحَصِراً: بالوجهين إلا أن الفتح أولى ومنحصَراً ليوافق قوله: كَانَ الْخَبَرَا هذا الأصل.
ثم منحصراً فيه، فحينئذ يكون على تقدير فيه، يعني محصوراً فيه، فمنحصراً بصيغة اسم المفعول على الحذف والإيصال، ففيه نائب فاعل، منحصراً فيه، حذف في، ثم استكن الضمير فصار نائب فاعل، لا بصيغة اسم الفاعل إذ التقدير عليه منحصراً مبتدؤه فيه، بحذف المضاف والمتعلق ففيه كثرة حذف مع مخالفته لقوله: الْخَبَرَا، خَبَرَا الراء مفتوحة، مُنْحَصَراً الصاد هذه مكسورة، أوْ قُصِدَ اسْتِعمَالُهُ يعني استعمال الخبر منحصراً.
بمعنى أنه يقترن بإلا أو بإنما، والحصر إثبات الحكم بالمذكور ونفيه عما عداه.
إذاً يمتنع تقديم الخبر إذا استعمل منحصراً ((وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ)) [آل عمران:144] هذا أعلى صيغ الحصر، (ما) ما إعرابها؟ نافية، محمد هذا مبتدأ، (إلا رسول) المحصور فيه دائماً يكون بعد (إلا) هذا الأصل، ما اقترن بإلا هو المحصور فيه، فحينئذ صار المبتدأ محصوراً في الخبر، كأنه حصر محمداً صلى الله عليه وسلم في صفة واحدة وهي كونه رسولاً، وهذا يسمى حصراً إضافياً لا حقيقياً يعني لا إشكال فيه؛ إذ له صفات أخرى، لكن المراد هنا باعتبار المخاطب، إذاً مُحَمَّدٌ هذا مبتدأ ورَسُولٌ هذا خبر، هل يجوز أن يقال: وما رسول إلا محمد، على أن رسول هو المحصور فيه؟ لا يجوز، لماذا؟ لأن الذي يلي إلا هو المحصور فيه، ولو قدمت وأخرت التبس، ما يدرى ما المحصور وما المحصور فيه، فحينئذ إذا جاء الخبر تالياً مقروناً بعلة لا يجوز تقديمه، يعني لا يجوز تقديمه وحده، واختلفوا فيما إذا قدم مع إلا، هذه مسألة أخرى، الكلام فيما لو قيل: ما محمد إلا رسول، هل يصح أن يقال: وما رسول إلا محمد، نقول: رسول خبر مقدم، ومحمد مبتدأ مؤخر؟ نقول: لا يجوز؛ لأن رسول هذا محصور فيه وهو تالي لـ (إلا) هذا ممتنع تقديمه، كذلك إذا كان محصوراً بـ: إنما ((إِنَّمَا أَنْتَ نَذِيرٌ)) [هود:12] والمحصور بـ: إنما هو الذي يكون ثانياً ليس الذي تالياً لها، المحصور فيه هو الذي يكون آخراً، ((إِنَّمَا أَنْتَ))، (نَذِيرٌ) هو المحصور فيه، (إنما نذير أنت) أنت هو المحصور فيه، الذي يكون ثانياً متأخراً هو الذي يكون محصوراً فيه.
((إِنَّمَا أَنْتَ نَذِيرٌ)) نقول: نذير، هذا لا يجوز تقديمه على المبتدأ، لماذا؟ لأنه محصور فيه بـ: إنما، وبعضهم يعبر عنه بالحصر معنًى، لكنها من أدوات الحصر عند جمهور البيانيين، وحينئذ نقول: نذير لا يجوز تقديمه على أنت، لماذا؟ لأنه محصور فيه، ومحصور إنما يكون متأخراً، فلو قيل: إنما نذير أنت، حينئذ ظُنَّ أن المبتدأ هو المحصور فيه، وهذا يوقع في اللبس.
إذاً أوْ قُصِدَ اسْتِعمَالُهُ مُنْحَصِرَا نحو: ((وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ)) [آل عمران:144]((إِنَّمَا أَنْتَ مُنذِرٌ)) [الرعد:7]، إذ لو قدم الخبر والحالة هذه لانعكس المعنى المقصود، ولأشعر التركيب بانحصار المبتدئ، فإن قيل: المحذور منتف إذا تقدم الخبر المحصور بـ: إلا مع إلا، فظاهر كلام المصنف العموم سواء تقدم مع إلا أو لا، قيل في الجواب: هو كذلك إلا أنهم ألزموه التأخير حملاً على المحصور بـ: إنما، لكن بعضهم أجازه، أن المحصور إذا كان بـ: إلا جاز تقديمه وتأخيره معها لا دونها، لماذا؟ لأن إلا صارت قرينة على كون ما بعدها محصوراً فيه، فلو تقدم الخبر أو تأخر حينئذ نقول: هذا جائز، لو سمع مثل هذا التركيب نقول: الأصل فيه الجواز.
أوْ قُصِدَ اسْتِعمَالُهُ مُنْحَصِرَا، استعمال الخبر منحصراً فيه يعني: في المبتدئ.
إذاً الحالة الثالثة التي يمنع فيها تقديم الخبر: أن يكون الخبر محصوراً بـ: إنما أو إن شئت قل: أن يقترن الخبر بـ: إلا وإنما، إنما زيد قائم، لا يصح أن يقال: إنما قائم زيد إلا على معنى أنه لا يوجد قائم إلا زيد، فرق بين المسألتين، إنما زيد قائم، يعني وصفت زيد بصفة واحدة وهي القيام، زيد ليس له صفة إلا القيام، ولو عكست قلت: إنما قائم زيد يعني لا يوجد قائم من الناس إلا زيد، إنما زيد قائم يعني زيد ليس له صفة إلا القيام، وغير زيد قد يكون قائم، لكن إذا قلت: إنما قائم زيد كأنه لا يوجد في الناس قائم إلا زيد، المعنى اختلف، حينئذ لا يجوز التقديم إذا كان الخبر محصوراً فيه، فلا يجوز تقديم قائم في قوله: إنما زيد قائم، وما زيد إلا قائم على زيد في المثالين.
وقد جاء التقديم مع إلا شذوذاً
فَيا رَبِّ هَلْ إِلَاّ بكَ النَّصرُ يُرْتجى
…
عَليهم وهلْ إِلَاّ عَليكَ المُعَوَّلُ
ولذلك الناظم أطلق، لذلك قلنا: لو سمع -يعني سماعاً- يصح تعليق الحكم به قلنا: هذا جائز لوجود القرينة، هنا قال: وهلْ إلَاّ عليكَ المُعَوَّلُ، هل المعول إلا عليك، هذا الأصل، لكن هل حصل لبس بالتقديم هنا؟ ما حصل، يعني إلا عليك أصل تركيب، وهل المعول إلا عليك؟ يعني لا معول إلا عليك هذا الأصل، فحينئذ لما قدم وهو مقرون بإلا ما حصل لبس بقي على أصله.
ثم قال: أوْ كَانَ مُسْنَداً لِذِي لامِ ابْتِدَا، هذا الموضع الرابع.
أوْ كَانَ الخبر مُسْنَداً لِذِي لمبتدئٍ فيه لامُ ابْتِدَا، يعني إذا اتصلت –دخلت- لام الابتداء على المبتدأ لا يجوز تقديم الخبر على المبتدأ؛ لأن لام الابتداء لها حق الصدارة، فلا يتقدم عليها الخبر لزيد قائم، زيد مبتدأ مرفوع بالابتداء دخلت عليه لام الابتداء للتوكيد، وحينئذ قائم خبره لا يصح أن يقال: قائم لزيد، هذا لا يصح، أي وكذا يمتنع تقديم الخبر إذا كانت لام الابتداء داخلة على المبتدأ، نحو: لزيد قائم، فلا يجوز، وإذا جاء التقديم مسموعاً في لسان العرب حكموا عليه بأنه شاذ.
خَالِي لأَنْتَ وَمَنْ جَرِيرٌ خَالُه
…
يَنَلِ الْعَلَاءَ وَيكْرمِ الأخْوَالَا
خَالِي لأَنْتَ، أصلها لأنت خالي، لأَنْتَ دخلت على المبتدئ، وخَالِي هذا خبر مؤخر في الأصل، لكنه قدم عليه شذوذاً.
إذاً قوله: لِذِي المراد به مبتدأ ذِي هنا بمعنى صاحب، وهي صفة لموصوف محذوف أي لمبتدئٍ صاحب لام ابتداءٍ، فإن تقدم حينئذ نقول: هو من باب خالي لأنت وهو شاذ.
أوْ لازِمِ الصَّدْرِ كَمَنْ لِي مُنْجِدَا: هذه الحالة الخامسة وهي: أن يكون المبتدأ له أحقية الصدارة، ولذلك هذان الموضعان موضع واحد في المعنى، إلا أنه لما كان هو بنفسه المبتدأ لأن لام الابتداء ليست اسماً ليست مبتدأ، وإنما هنا الثاني أن يكون المبتدأ هو نفسه، له أحقية الصدارة كأسماء الاستفهام وأسماء الشرط والتعجب وكم الخبرية .. نقول: هذه كلها لها أحقية الصدارة وهي مبتدءات لا يتقدم عليها أخبارها.
أوْ كَانَ مُسْنَداً لمبتدئ لازِمِ الصَّدْرِ بنفسه أو بسبب، بنفسه كاسم الاستفهام، والشرط، والتعجب، وكم الخبرية .. ما أحسن زيداً، ما هذه تعجبية في محل رفع مبتدأ، أحسن الجملة هذه خبر، لا يجوز أن يتقدم الخبر على المبتدأ، دائماً تكون هذه لازمة للصدر، من في الدار؟ من اسم استفهام، في الدار هذا خبر، لا يجوز أن يقال: في الدار من؛ لأن من هذا مبتدأ وله صدر الكلام، من يقم أقم معه، من نقول: اسم شرط في محل رفع مبتدأ.
أوْ لازِمِ الصَّدْرِ كَمَنْ لِي مُنْجِدَا: قلنا مراده أو كان مسنداً لمبتدءٍ لازم الصدر بنفسه أو بسبب، بنفسه، قلنا كاسم الاستفهام والشرط، والتعجب، وكم الخبرية ما أحسن زيداً، من في الدار، من يقم أقم معه، من نقول: اسم شرط مبني على السكون في محل رفع مبتدأ (يقم أقم معه) وهذه الجملة كلها في محل رفع خبر المبتدأ على الصحيح، فحينئذ لا يجوز أن يتقدم الخبر هنا على المبتدأ، ما العلة؟ لأن من الشرطية بل أسماء الشرط كلها لها أحقية الصدارة، يعني لا يتقدم عليها شيء البتة.
أو بغيره كأن يكون لفظ مضافاً إلى ما له حق الصدارة مثل: غلام من في الدار؟ غلام هذا هل له أحقية الصدارة؟ ليس له أحقية الصدارة، لكن لما أضيف إلى ما له أحقية الصدارة أخذ حكمه.
ولذلك نقول: مبتدأ لازم الصدر بنفسه كاسم الاستفهام خالص، واسم الشرط خالص، لكن لو أضيف إليه لفظ، هذا اللفظ في الأصل ليس له أحقية الصدارة، حينئذ نقول: انتقل إليه الحكم غلام من في الدار، لا يصح أن نقول: في الدار غلام من، لماذا؟ لأن غلام من هذا مضاف ومضاف إليه، المضاف في نفسه ليس له أحقية الصدارة، لكن لما أضيف إلى ما له أحقية الصدارة أخذ حكمه، فلا يجوز التقديم في نحو ذلك المثال.
غلام من يقم أقم معه، نقول: هذا مثله، أو مشبَّهاً بما له الصدارة، الذي يأتيني فله درهم .. الذي هذا اسم موصول، يأتيني جملة الصلة، الذي نقول: هذا اسم موصول في محل رفع مبتدأ، فله درهم، نقول: هذه جملة، لكن الفاء هنا التحقت بالخبر جوازاً، لماذا؟ قالوا: تشبيهاً لذي بما فيه الشرط، باسم الشرط، ولذلك صار فيه نوع عموم، فلما كان فيه نوع عموم جاز إدخال الفاء على الخبر، الذي يأتيني فله درهم، -المبتدأ هنا الذي مشبه باسم الشرط للعموم، هو عام وذاك عام، لكن لما كان فيه معنى الشرطية الذي يأتيني له درهم، هنا فيه تعليق، إذاً فيه معنى الشرطية، فَشُبِّهَ (الذي) بـ: من؛ وحينئذٍ دخلت الفاء في الخبر جوازاً-، ولهذا دخلت الفاء في الخبر جوازاً فلم يجز تقديم الخبر على الذي لما فيه من مشابهته لاسم الشرط.
أوْ لازِمِ الصَّدْرِ كَمَنْ لِي مُنْجِدَا: يعني كقولك: من، من هذا اسم موصول بمعنى الذي، ولِي نقول: هذا خبر ومُنْجِدَا حال من الضمير في الجار والمجرور، والمنجد هو الناصر، من لي منجداً، لا يجوز أن يقال: لي من، أو لي منجداً من .. لا يجوز هذا ولا ذاك، لماذا؟ لأن من هذه لها أحقية الصدارة.
إذاً هذه خمسة مواضع ذكرها الناظم رحمه الله تعالى في وجوب تأخير الخبر، وهي المشهورة، ويزاد عليها أن يكون المبتدأ هو مذ أو منذ، مذ ومنذ كما سيأتينا في باب حروف الجر أنها قد تكون مبتدأ لها اعتباران: تكون حرف، وتكون مبتدأ، وإذا كانت مبتدأ اختلف في إعرابها، لكن إذا كانت اسماً تكون حرفاً وتكون اسماً، وإذا كانت اسماً اختلف في إعرابها على الوجه بكونها مبتدأ لا يجوز تقديم خبرها عليها، ما رأيته مذ يومان، مذ مبتدأ ويومان خبر، لا يصح أن يقال: يومان مذ، التركيب هذا خلل.
الثاني: أن يكون المبتدأ ضمير المتكلم أو المخاطب مخبراً عنه بالذي وفروعه، أنا الذي عرفوني، الذي عرفوني لا يصلح أن يتقدم على أنا، أنت الذي تدعي ما لا تحسنه، أنت الذي لا يصلح أن يتقدم الذي على أنت.
ثالثاً: أن يكون الخبر طلباً، قلنا يصح على الصحيح أن تكون جملة الخبر طلبية، زيد اضربه، لكن إذا كانت جملة هل هي مثل: زيد قام أبوه؟ زيد قام أبوه يجوز التقديم والتأخير، قام أبوه زيد، زيد قام أبوه، لكن زيد اضربه لا يصح أن يقال: اضربه زيد، وكذلك زيد هلا ضربته.
رابعاً: أن يكون المبتدأ دعاءً: سلام عليكم، عليكم سلام .. لا يصح، ويل لكم.
خامساً: أن يكون الخبر متعدداً وهو في قوة الخبر الواحد، الرُّمَّانُ حُلْوٌ حَامِضٌ، الرمان مبتدأ، وحلو حامض هذان خبران تعدد الخبر، وَأَخْبَرُوا بِاثْنَيْنِ أَوْ بِأَكْثَرَا عَنْ وَاحِدٍ كما سيأتي، إذاً الرمان حلو، حُلْوٌ بضم الحاء وإسكان اللام ولا يجوز كسرها، كسرها لحن، حِلوٌ نقول: هذا لحن وإنما هو حُلْو بضم الحاء وإسكان اللام، في هذه الحالة نقول: لا يجوز تقديم الخبر، فلا يقال: حُلو، حامض الرمان.
سادساً: أن يقع بين المبتدئ والخبر ضمير الفصل، زيد هو المنطلق، هذا في قوة {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَاّ رَسُولٌ} مثلما سبق؛ لأنه من أنواع الحصر، زيد هو المنطلق، المنطلق هو زيد اختلف المعنى .. فرق بينهما، إذاً: أن يقع بين المبتدأ والخبر ضمير الفصل لا يجوز تقديم الخبر على المبتدأ.
سابعاً: أن يكون الخبر مقترناً بالباء الزائدة، ما زيد بقائم على لغة الإهمال، لا يصح أن يقال: ما بقائم زيد.
ثامناً: أن يقترن الخبر بالفاء الذي يأتيني فله درهم، ذكرناه؛ لأن الفاء دخلت لشبهه بالجزاء –الشرط- والجزاء لا يتقدم على الشرط.
تاسعاً: أن يكون المبتدأ بعد أما، أما زيد فعالم، الفاء هذه لا تلي أما، لا يجوز أن تكون واقعة وتالية لأما، لو قدمت الخبر قلت: أما فعالم زيد، لا يصح هذا، إذاً يجب أن يتأخر الخبر إذا اقترن بفاء بعد أما، أما زيد فعالم، هنا يجب تأخير الخبر؛ لأن الفاء لا تلي أما البتة.
ثم قال رحمه الله:
وَنَحْوُ عِنْدِي دِرْهَمٌ وَلِيَ وَطَرْ
…
مُلْتَزَمٌ فِيهِ تَقَدُّمُ الْخَبَرْ
هذا شروع منه في الحالة الثالثة للخبر، وهي وجوب التقديم، أخذنا جواز الأمرين_الحالة الأولى-، الثانية: وجوب التأخير، وهذا وافق الأصل من حيث كونه متأخراً في اللفظ مخالفاً له من حيث الوجوب؛ لأن الأصل هو الجواز، هنا خالف من الجهتين، تقدم في اللفظ ثم هو واجب، لا يجوز تأخيره، هذا خرج عن الأصل بالكلية كالمبني، والثاني كالممنوع من الصرف.
وهي وجوب التقديم وثلَّث به لمخالفته الأصل من كل وجه.
وَنَحْوُ عِنْدِي دِرْهَمٌ وَلِيَ وَطَرْ: وَنَحْوُ هذا مبتدأ.
قوله: مُلْتَزَمٌ فِيهِ، يعني يجب، الالتزام، والحتم، واللزوم، والوجوب .. هذه كلها مترادفة من حيث المعنى، يعني تحمل على الإيجاب.
وَنَحْوُ عِنْدِي دِرْهَمٌ وَلِيَ وَطَرْ: عِنْدِي نقول: هذا ظرف وهو خبر مقدم.
ودِرْهَمٌ: هذا مبتدأ مؤخر، لِيَ وَطَرْ: يعني حاجة، لي جار ومجرور متعلق بمحذوف خبر مقدم.
وَطَرٌ: هذا مبتدأ مؤخر.
ما حكم تقدم الخبر هنا على المبتدئ؟ نقول: الوجوب، لماذا؟ لأنه المسوغ للابتداء بالنكرة، لا مسوغ للابتداء بالنكرة هنا إلا تقدم الخبر وهو الظرف والجار والمجرور.
وَنَحْوُ عِنْدِي دِرْهَمٌ وَلِيَ وَطَرْ: مثل بمثالين للظرف وللجار والمجرور.
مُلْتَزَمٌ: هذا خبر المبتدئ نَحْوُ.
مُلْتَزَمٌ فِيهِ: فِيهِ في هذا التركيب السابق، مُلْتَزَمٌ تَقَدُّمُ هذا نائب فاعل، تَقَدُّمُ الْخَبَرْ: تَقَدُّمُ مضاف، والْخَبَرْ مضاف إليه.
إذاً التزم هنا تقديم الخبر على المبتدأ؛ لأن المبتدأ نكرة، ولا مسوغ للابتداء بالنكرة إلا تقدم الخبر.
وهذا سبق معنا هناك:
وَلَا يَجُوزُ الاِبْتِدَا بِالنَّكِرَهْ
…
مَا لَمْ تُفِدْ كَعِنْدَ زَيْدٍ نَمِرَهْ
هل هذا تكرار؟ لا، هنا أفاد الوجوب على ما ذهب سابقاً، هناك أفاد بجواز تقديم أن يبتدأ بالنكرة؛ فالكلام على النكرة، عِنْدَ زَيْدٍ نَمِرَهْ هذا التركيب صحيح؛ لأنه مفيد، لكن ما نوع التقديم هناك، هل هو جائز أو واجب؟ بهذا البيت أفاد أنه واجب وليس بجائز.
إذاً: مُلْتَزَمٌ فِيهِ تَقَدُّمُ الْخَبَرْ: لماذا؟ لأنه المسوغ للابتداء بالنكرة، ورفعاً لإيهام كونه نعتاً في مقام الاحتمال؛ لأنه لو تأخر الظرف والجار والمجرور بعد النكرات يحتمل أنهما صفات، هذا الأصل، نحن نقول الجمل بعد النكرات صفات وبعد المعارف أحوال في الغالب، إذاً رفعاً لإيهام كونه نعتاً في مقام الاحتمال؛ إذ لو قلت: درهم عندي، احتمل أن يكون نعتاً للنكرة؛ لأنه نكرة محضة، واحتمل أن يكون خبراً، يحتمل هذا ويحتمل ذاك.
وحاجة النكرة إلى التخصيص أشد افتقاراً من حاجة المبتدأ إلى الخبر؛ لأنه إذا قيل: عندي درهم، درهم عندي، نقول: درهم هذا إذا جعلناه نكرة هو نكرة، وإذا أعربناه مبتدأ هو مبتدأ .. إذاً النكرة تحتاج إلى مخصص، والمبتدأ يحتاج إلى خبر، أيهما أشد احتياجاً؟ احتياج النكرة إلى الصفة أشد من احتياج المبتدأ للخبر، حينئذ نقدم إعرابه صفة، فإذا جاء في التركيب هكذا: درهم عندي نعرف عندي متعلق بمحذوف صفة للنكرة، أين الخبر؟ ليس له خبر.
حينئذ دفعاً لهذا الإيهام وجب تقديم الخبر على المبتدئ.
إذاً لو أخرناه لاحتمل أنه إما أن يكون خبراً وإما أن يكون صفة، خبر من جهة كونه مبتدأ، وصفة من جهة كونه نكرة، وافتقار النكرة إلى الصفة أشد من افتقار المبتدأ إلى الخبر.
وحاجة النكرة إلى التخصيص ليفيد الإخبار عنها فائدة يعتد بمثلها آكد من حاجتها إلى الخبر، ولهذا لو كانت النكرة مختصة جاز تقديمها نحو:((أَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ)) [الأنعام:2] أَجَلٌ هذا مبتدأ، ومُسَمًّى صفته، عِنْدَهُ هل هذا مثل: عندي درهم؟ الجواب: لا، لماذا؟ لوجود التخصيص، لما لم يوجد للنكرة مسوغ للابتداء بها إلا الظرف تقديمه أو الجار والمجرور تعين، لو وجد غيره حينئذ نقول: لا يجب، رجل ظريف عندي، رجل مبتدأ، وظريف صفته، وعندي هذا خبر، هل يجب تقديم الخبر على المبتدأ لكونه نكرة؟ لا، لماذا؟ لوجود مخصص، وهذا المخصص أفاد، فجوز الابتداء بالنكرة.
وَنَحْوُ عِنْدِي دِرْهَمٌ وَلِيَ وَطَرْ
…
مُلْتَزَمٌ فِيهِ تَقَدُّمُ الْخَبَرْ
إذاً الحالة الأولى التي يجب فيها تقدم الخبر: أن يكون المبتدأ نكرة ليس لها مسوغ إلا تقدم الخبر، والخبر ظرف أو جار ومجرور.
وعبَّر في التوضيح عن هذه المسألة: أن يوقع تأخيره -تأخير الخبر- في لبس ظاهر، ودائماً قاعدة العرب: دفع الإلباس والالتباس، والإيهام والتوهم .. كل ما أدى إلى التوهم واللبس والإلباس فهو ممنوع مطلقاً في باب النحو كله من أوله إلى آخره.
أن يوقع تأخيره في لبس ظاهر: في الدار رجل، فلو أُخِّر لالتبس الخبر بالصفة، ومنه: عندي أنك فاضل، هل يجب التقديم هنا؟ نعم، لأنك لو قلت: أنك فاضل عندي، التبست أن بإن؛ لأنه في أول الكلام، أنك فاضل، نقول: أنك فاضل أن وما دخلت عليه في تأويل مصدر، فهو في قوة المفرد، حينئذ لو قدمناه لاحتمل أن يكون في قوة الجملة فرق بين المسألتين.
حينئذ يتعين نقول: عندي أنك فاضل، يجب تقديم الخبر على المبتدأ وهو عندي، لماذا؟ لأنك لو أخرته وقلت: أنك فاضل عندي لالتبست أن بإن، وهذا لبس يجب دفعه، فحينئذ يجب التقديم.
هذا عبر به ابن هشام هكذا، نحو: عندك رجل، في الدار امرأة، فيجب تقديم الخبر هنا، فلا تقول: رجل عندك، ولا امرأة في الدار، وأجمع النحاة والعرب على منع ذلك، هذا بإجماع: رجل عندي أو عندك، وامرأة في الدار، هذا ممنوع باتفاق، وَلَا يَجُوزُ الابْتِدَا بِالنَّكِرَهْ.
وذكرنا أنه قال بعضهم: لو أوردت النكرة عند مخاطب يعلم جاز الابتداء بها، رجل في الدار، لو كان بينك وبين شخص معرفة أو سابق علم أو فهم فحينئذ لو قلت: رجل في الدار أجازه البعض، مع أنه لم يكن ثم مسوغ للابتداء بالنكرة، وهذا مرده إلى أن الفائدة التي تشترط في تسويغها للابتداء بالنكرة هذه مختلفة وهي نسبية، تختلف من شخص إلى شخص، بل من زمن إلى زمن.
ولذلك ليس لها ضابط معين يمكن الرجوع إليه، بعضهم ضبطها بما أفاد التعميم والتخصيص، وعند السرد حينئذ نأتي إلى المسائل التي ذكرها ابن عقيل سابقاً.
فإن كان للنكرة مسوغ جاز الأمران: رجل ظريف عندي، وعندي رجل ظريف.
كَذَا إِذَا عَادَ عَلَيْهِ مُضْمَرُ
…
مِمَّا بِهِ عَنْهُ مُبِينَاً يُخْبَرُ
وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين
…
!!!