الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
عناصر الدرس
* شرح الترجمة ومعنى النواسخ وأنواعها (كان وأخواتها) ـ
* عمل (كان) ـوأخواتها ومعنى كل فعل
* أنواع تصرفها وعملها بعد التصرف
* حالات خبرها من حيث التقديم والتأخير.
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:
قال الناظم رحمه الله تعالى: (كَانَ) وأَخَواُتها.
لما فرغ مما يتعلق بالمبتدأ والخبر شرع فيما يسمى بنواسخ المبتدأ والخبر، (كان) وأخواتها وما عمل عملها، و (ظن) وأخواتها و (إن) وأخواتها .. هذه أبواب كلها متتالية يعنون لها بالنواسخ، يعني: نواسخ المبتدئ والخبر.
نواسخ: جمع ناسخ اسم فاعل مأخوذ من النسخ، وهو في اللغة بمعنى الإزالة، ونسخت الشمس الظل إذا أزالته، واصطلاحاً عندهم: ما يرفع حكم المبتدأ والخبر، (ما) أي: فعل أو حرف يرفع حكم المبتدأ والخبر؛ لأن (إن) وأخواتها هذا يعتبر من الحروف، و (كان) وأخواتها و (كاد) و (ظن) هذا يعتبر من الأفعال.
إذاً: ما يعني عامل يصدق على الفعل والحرف، فيعم حينئذٍ النواسخ من حيث الفعلية والحرفية.
يرفع حكم المبتدأ والخبر، المبتدأ الأصل أنه مرفوع، والخبر كذلك مرفوع.
مبتدأ مرفوع بالابتداء، والخبر مرفوع بالمبتدأ كما سبق معنا في قوله:
وَرَفَعُوا مُبْتَدَأً بِالاِبْتِدَا
…
كَذَاكَ رَفْعُ خَبَرٍ بِالْمُبْتَدَا
هذا الرفع الذي يكون في المبتدأ قد يرفع، ينسخ يزال، كذلك الرفع الذي يكون في الخبر يرفع وينسخ ويزال، ويأتي بحكم جديد.
والعوامل النواسخ من حيث الرفع وما يحدث للمبتدأ من حيث النصب، وما يحدث للخبر تنقسم إلى ثلاثة أقسام:
منها ما يرفع المبتدأ وينصب الخبر، وهو باب كان وأخواتها وما ألحق بها.
وما ينصب المبتدأ ويرفع الخبر، وهو (إن) وأخواتها.
وما ينصب المبتدأ والخبر، وهو باب (ظن) وأخواتها.
هذا من حيث العمل تنقسم النواسخ إلى ثلاثة أقسام:
ما يرفع المبتدأ وينصب الخبر؛ العكس: ما ينصب المبتدأ ويرفع الخبر؛ ما ينصبهما معاً.
وهل يوجد ما يرفع المبتدأ والخبر؟
هذا قيل به، لكن على تأويل وهو في (كان) الشأنية، لكن الأقسام الثلاثة من حيث القياس المطرد.
وأما من حيث أنفسها ذواتها فهي إما أن تكون فعل وإما أن تكون حرفاً، كان وأخواتها باتفاق كلها أفعال إلا ليس، ففيه خلاف والصحيح أنها فعل وليست بحرف، خلافاً لمن زعم حرفيتها، والدليل على أنها فعل أنها تقبل آثاراً فعلية ((لَيْسُوا سَوَاءً)) [آل عمران:113]، ((لَسْتَ عَلَيْهِمْ)) [الغاشية:22] ليست هند مفلحةً، إذاً: قبلت تاء التأنيث وقبلت تاء الفاعل، ((لَسْتَ عَلَيْهِمْ)) هذه التاء تاء الفاعل، تاء الفاعل علامة على الفعلية بِالتَّا مِزْ كما سبق معنا وَمَاضِيَ الأفْعَالِ بِالتَّا مِزْ وَسِمْ، إذاً: ميزه بالتاء التي هي تاء الفاعل وتاء التأنيث الساكنة؛ حينئذٍ نثبت أنها فعل، وجماهير النحاة على القول بفعليتها.
وأما ما عدى ليس في باب كان وأخواتها فهو فعل وهذا محل وفاق.
وأما من حيث العمل فجمهور البصريين على أن (كان) وأخواتها ترفع المبتدأ، وهذا الرفع حادث وليس هو الرفع السابق الذي كان قبل دخول الناسخ، وكذلك تنصب الخبر، وهذا أيضاً محل وفاق كونه منصوباً، وأن (كان) هي التي نصبته على خلاف في توجيه النصب، قيل: حال، وقيل: مشبه بالحال، وقيل: خبر كان ..
فأما كان فمذهب البصريين أنها ترفع المبتدأ، ويسمى اسمها حقيقة وفاعلاً مجازاً لشبهه بالفاعل؛ لأنه أشبه الفاعل، الأصل في الفعل أن يتلوه فاعل، حينئذٍ كان زيد قائماً، كان نقول: هذا فعل، والأصل في الفعل أنه يطلب فاعله، حينئذٍ لو سمي اسم كان فاعلاً مجازاً تشبيهاً لكان بضرب على الأصل في الإعمال، حينئذٍ نقول: هذا من باب المجاز، بل بعضهم سماه: فاعلاً حقيقة.
ومذهب الكوفيين أنها لم تعمل فيه شيئاً وأنه باق على رفعه؛ لأنه مرفوع، مرفوع بماذا؟ بما رفع به قبل دخول كان، فحينئذ: كان زيد قائماً، كان فعل ماضي ناقص، وزيد مبتدأ مرفوع بالابتداء.
إذاً الرفع هذا ليس نتيجة دخول كان وإنما هو بالعامل الذي قبل دخول كان، وهذا ضعيف جداً، لماذا؟ لأنه يترتب عليه أنه يوجد عامل ينصب ولا يرفع، وهذا لا نظير له، أن يوجد عامل ينصب ولا يرفع؛ لأنهم يقولون: إن قائماً هذا منصوب بكان، فإذا كان منصوباً بكان وزيد مرفوع بالابتداء على الأصل، حينئذٍ وجد عامل ينصب ولا يرفع.
ومذهب الكوفيين أنها لم تعمل فيه شيئاً وأنه باق على رفعه، وهذا ضعيف لا يعول عليه.
واستدل البصريون باتصال الضمائر بها، وهي لا تتصل إلا بالعام.
كنت قائماً، التاء هنا اسم كان، اتصلت بكان، وهو ضمير، والقاعدة: أن الضمائر لا تتصل إلا بعاملها، فدل على أن التاء هنا معمول لكان، هذا وجه جيد، والوجه الذي ذكرناه أيضاً له اعتبار، أنَّ (كان) على هذا الاعتبار -قول الكوفيين- أنها نصبت ولم ترفع، وهذا لا نظير له، أن يوجد عامل ينصب ولا يرفع.
إذاً: البصريون استدلوا بكون الضمائر تتصل بكان أن (كان) قد أحدثت الرفع، وهذا الرفع متجدد ليس هو الرفع الذي كان قبل دخول كان؛ لأنه قد يقال: زيد قائم، دخلت كان زيد كما هو زيد، في اللفظ كما هو؛ حينئذٍ نقول: لا، هو في اللفظ متحد لكن في الحقيقة ثم فرق فكان زيد (زيدٌ) هذه الضمة أحدثها كان وهو عامل لفظي، وزيد قائم (زيدٌ) هذه الضمة وإن أشبهت ضمة كان زيدٌ إلا أنها محدثة بعامل هو معنوي وهو ضعيف، وفرق بين النوعين.
إذاً: اتصال الضمائر بكان دلت على أن اسم كان معمول لكان.
ويُنصب الخبر باتفاق الفريقين، ويسمى خبرها، يعني: قائماً هذا منصوب باتفاق البصريين والكوفيين على أنه منصوب، لكن اختلفوا في وجه النصب، فقال الفراء: تشبيهاً بالحال، وقال الكوفيون: حال، والصحيح أنه خبر لكان، فـ (كان) أحدثت الرفع وأحدثت النصب؛ لأن الأصل أن كان وأخواتها دخلت على ما هو مبتدأ وخبر، وحينئذٍ نقول: كان زيد قائماً (زيد) هذا مبتدأ في الأصل، فهو عمدة، و (قائماً) هذا كان خبراً في الأصل قبل دخول (كان) فهو عمدة، والحال حينئذٍ يكون ماذا؟ يكون فضلة فلا يكون الأصل قبل دخول كان فضلة بعد دخولها، هذا ممتنع.
إذاً اتفقوا على أن قائماً منصوب، لكن اختلفوا في وجه النصب، فقال الكوفيون المشهور عندهم-: أنه منصوب على الحال فعملت فيه (كان)، لكن لا كونه خبراً لها وإنما هو حال.
وذهب الفراء إلى أنه مشبه بالحال، والبصريون على أنه خبر لكان وهذا أصح، أصح من حيث المعنى وأصح من حيث القياس.
وينصب الخبر باتفاق الفريقين، ويسمى خبرها، ومفعولاً به مجازاً لشبهه به.
والقياس في هذه الأفعال الأصل فيها أنها لا تعمل، لماذا؟ لأنها قاصرة، الأصل في الفعل أنه يطلب فاعلاً ويطلب مفعولاً، هذا الأصل فيه، وأما أنه يختص بالدخول على جملة اسمية ويكون مقيداً بأحكامها، حينئذٍ هذا قصور في الفعل، وإلا الأصل علو الفعل من حيث العمل على الاسم، الأصل في العمل للأفعال، ولما كان هذا الفعل- (كان) وأخواتها- من حيث المعنى مختلف فيه: هل هو دال على حدث أم لا؟ وهل يتعلق به الظرف أو الجار والمجرور؟ وهل أحكام الخبر من حيث التقدم والتأخير باقية على أصلها بعد دخول كان؟ ضعف، لم يكن له قوة مثل ما كانت الجملة الاسمية قبل دخول (كان) فلها أحكامها من حيث التقديم والتأخير المبتدأ والخبر على ما ذكرناه، هذه باقية نفس الأحكام .. باقية كما هي بعد دخول (كان)، وهذا يدل على أنها لم يجعل لها التصرف التام في الجملة الاسمية، وحينئذٍ صارت (كان) منضبطة بالمبتدأ ومنضبطة بالخبر من حيث التقدم والتأخير، وهذا نقص فيها، فكان الأصل أنها لا تعمل.
والقياس في هذه الأفعال ألا تعمل شيئاً لأنها ليست بأفعال صحيحة؛ إذ دخلت للدلالة على تغيّر الخبر بالزمان الذي يثبت فيه، وإنما عملت تشبيهاً لها بما يطلب من الأفعال الصحيحة اسمين نحو (ضرب).
(ضرب) هذا يطلب اسمين، أحدهما فاعل، والثاني مفعولاً به، ألحقت (كان) لكونها دخلت على اسمين مبتدأ وخبر بضرب، وحينئذٍ رفعت ونصبت، على كل الأصل فيه السماع وهذا التعليل فيه نظر.
ورفع اسمها تشبيهاً بالفاعل من حيث هو مُحَدَّثٌ عنه، ونصب الخبر تشبيهاً بالمفعول.
وذهب الكوفيون إلى أنه منصوب على الحال، ورُدَّ بوروده مضمراً -جاء ضمير- كان هو زيد، والحال لا تقع ضميراً، وكذلك جاء معرفة والحال لا تكون معرفة، وأيضاً لا يستغنى عنه، والحال يمكن في بعض الأحوال أنه يستغنى عنها، إذاً ثم فرق بين كونه حالاً وبين كونه خبراً، والأحسن أن يقال بأن (كان) قبل دخولها الخبر عمدة، والعمدة هنا لا يجوز حذفه، فالأصل بقاء ما كان على ما كان .. هذا هو الأصل؛ لأن الأحكام باقية في الأصل إلا ما استثني، أحكام المبتدأ والخبر باقية إلا جملة منها تغيرت وتبدلت بعد دخول كان.
حينئذٍ الخبر قبل دخول كان نقول: هذا كان عمدة، فلما دخلت (كان) بقي على أصله، ولذلك نقول: تَرْفَعُ كَانَ الْمُبْتَدَا اسْمَاً وَالْخَبَرْ
…
تَنْصِبُهُ، إذاً المبتدأ قبل دخول كان هو اسم كان، ويبقى على أصله أنه عمدة، والخبر قبل دخول كان هو خبر كان أيضاً، والأصل أنه عمدة.
ثم قد يكون معرفة، وقد يكون ضميراً، وقد يكون لا يستغنى عنه، بل هو الأصل أنه لا يستغنى عنه، وحينئذٍ لا يمكن أن يعرب حال، ولذلك مذهب الكوفيين يعتبر ضعيفاً في هذا المحل.
ورد بوروده مضمراً ومعرفة وجامداً، وأنه لا يستغنى عنه، وليس ذلك شأن الحال؛ لأن الحال وإن كانت منصوبة مثل خبر كان، إلا أنه قد يستغنى عنها، ثم هي ملازمة للتنكير ولا تكون معرفة إلا على تأويل.
وجوّز الجمهور رفع الاسمين بعد (كان) كما في قول الشاعر:
إِذَا مُتُّ كَانَ النَّاسُ صِنْفَانِ شَامِتٌ
…
وَآخَرُ مُثْنٍ بِالَّذِي كُنْتُ أَصْنَعُ
إِذَا مُتُّ كَانَ النَّاسُ صِنْفَانِ: صِنْفَانِ خبرها، إذاً رفعت المبتدأ على أنه اسم لها، ورفعت كذلك الخبر، هكذا سمع، كَانَ النَّاسُ صِنْفَانِ، والأصل أن يقول: كان الناس صنفين، لكنه رفع، حينئذٍ رفع الاسمان بعد كان، والصحيح أن هذه كان الشانية، بمعنى أن الضمير يكون محذوفاً بعده وجوباً كانهُ الناس صنفان، فحينئذٍ الناس مبتدأ وصنفان خبر، والجملة في محل نصب خبر كان .. لا بد من التأويل؛ لأنه إذا كان مطرداً أن (كان) تنصب وترفع، حينئذٍ ما جاء مخالفاً للأصل لا بد من التأويل وأمكن التأويل هنا، أمكن التأويل دون قبحودون شذوذ، حينئذٍ كانهُ الناس صنفان، وهذه تسمى كان الشانية وهو أن يكون اسمها ضمير الشان محذوفاً واجب الحذف، ومفسر بالجملة، تفسره جملة ((هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ)) [الإخلاص:1] (اللَّهُ أَحَدٌ) هذا مفسر لهو، أين مرجعه؟ (اللَّهُ أَحَدٌ) إذاً جملة، فصار مفسراً بجملة.
ثم يكون مرجعه متأخراً لا متقدماً، والشأن هو كذلك هو .. هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ، فسر بجملة ثم هذا المرجع متأخر عنه، والأصل في الضمير أنه يعود إلى متقدم إلا ما استثني.
فحينئذٍ كان الناس صنفان نقول: كانهُ، اسم كان محذوف وهو ضمير الشأن، لا بد من التأويل، والجمهور على أن في كان ضمير الشأن اسمها، والجملة في محل نصب خبر كان، وعن الكسائي أنها ملغاة ولا عمل لها، يعني في مثل هذا التركيب.
إذاً لا بد من التأويل، إذا جاء ما شأنه الرفع في الجزأين لابد من التأويل.
واختلف في دلالة هذه الأفعال على حدث كان وأخواتها، هل تدل على حدث أم لا؟
المشهور: أنها لا تدل على الحدث، وإنما جيء بها للدلالة على الزمن، ربط مضمون الخبر بالاسم، فكان فقط زمانية لا تدل على حدث، والصواب أنها تدل على الحدث، واختلف في دلالة هذه الأفعال على الحدث، والمشهور أنها تدل عليه كالزمان، كسائر الأفعال، ومنعه قوم والأول أصح؛ للتصريح بالمصدر كما سيأتي (وكَوْنُكَ إيَّاهُ عَلَيكَ يَسِيرُ)، هذا تصريح بالمصدر، وإذا صرح بالمصدر حينئذٍ المصدر هو عين الحدث.
وحكى أبو زيد مصدر فتئ، وكذلك غيره حكى مصدر ظل وبات، وينبني على هذا الخلاف هل (كان) تدل على حدث أم لا؟ هل يتعلق بها شيء من الظرف أو الجار والمجرور، فمن أثبت أنها تدل على الحدث حينئذٍ علق بها، يقول: هذا جار ومجرور متعلق بقوله: كان، ((أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا)) [يونس:2] لِلنَّاسِ هذا متعلق بكان، بناء على ماذا؟ على أنها تدل على الحدث، وإذا لم تكن تدل على الحدث حينئذٍ الظرف والجار والمجرور يقيد ماذا؟ لما قلنا: المتعلقات بالفعل، كلها مقيدات ضرب زيد عمرواً ضرباً شديداً يوم الجمعة في داره، قلنا: في داره، ويوم الجمعة .. هذه كلها مقيدة؛ لأن ضرب زيد عمرواً أين ضربه؟ هذا مبهم، وما نوعية الضرب؟ هذا مبهم، لكن إذا قلت: ضرب زيد عمرواً يوم الجمعة عرفت أن الضرب وقع يوم الجمعة، يوم الجمعة عصراً، بعد الخامسة، في داره .. هذه كلها تقييدات، كلما زادت المقيدات اتضح مفهوم الفعل، وكلما حذفت صار نوع انبهام فيه في الفعل، وحينئذٍ ((أَكَانَ لِلنَّاسِ)) [يونس:2] نقول: لِلنَّاسِ جار ومجرور متعلق بكان بناءً على أنها تدل على الحدث، وإذا قيل بأنها لا تدل على الحدث وإنما هي زمانية فقط وجيء بها لربط مدلول الخبر بالمبتدأ، فحينئذٍ لا يصح أن يقال بأن الجار والمجرور والظرف متعلقان بكان.
وينبني على هذا الخلاف عملها في الظرف والجار والمجرور فمن قال بدلالته على الحدث أجازه، ومنه ((أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا)) [يونس:2]، ومن قال: لا يدل عليه منعه.
قال رحمه الله تعالى: كان وأخواتها.
أي: هذا باب بيان كان وأخواتها.
وأخواتها: أي نظائرها في العمل، فالأخوة هنا أخوة عملية ليست حقيقية على بابها، وإنما نظائرها في العمل، أفرد كان هنا وعطف أخواتها عليها لماذا؟ لأنها أم الباب، فإذا قيل:(إن) وأخواتها إذاً: (إن) هي أم الباب؛ لأن ما كان أم الباب هذا له تصرف، له أحكام خاصة ينفرد بها عن غيره، (ظن) وأخواتها، نقول هذا لأن ظن هي أم الباب، أفردت كان بالذكر إشارة إلى أنها أم الباب، ولذا اختصت بزيادة أحكام، وإنما كانت أم الباب، لماذا؟ لأن الكون الذي هو مصدر كان وكَوْنُكَ إيَّاهُ، هذا يعم جميع مدلولات أخواتها، أصبح، وأمسى، وظل .. هذا كله داخل في الكون؛ لأن المراد بالكون الذي يتعلق به الجار والمجرور، زيد في الدار أي: كائن، ما المراد بالكينونة؟ المراد به الحصول والحدوث، وهذا يعم أخوات كان ويزيد عليها؛ لأن كان تدل على مطلق الحدوث، وأما أصبح فتدل على حدوث في وقت الصباح، وكذلك أمسى وظل ونحوها، وأما كان فلا فتدل على مطلق الكينونة.
إذاً: لأن الكون يعم جميع مدلولات أخواتها، وكان الألف هذه منقلبة عن واو، لأن أصله (كون) تحركت الواو وانفتح ما قبله فوجب قلبها ألفاً، يقال: كان، دليل على أنها واوية الكون ويكون، الكون وهو مصدر، ويكون وهو فعل مضارع.
ووزنها فعَل بفتح العين لا فعِل ولا فعُل، لماذا؟ لأنه لو كان فعُل لما جاء منه اسم الفاعل على فاعل، وإنما يجيء على فعيل، وهنا قد سمع كائن
وَمَا كُلُّ مَنْ يُبدي البَشَاشَةَ كائناً أَخَاكَ .. (كائن) هذا اسم فاعل، وهذا لا يأتي من فعُل، وإنما يأتي منه فعيل، ولا من فعِل، لماذا؟ لأن المضارع كان يكْوُنُ يفعُل، ويفعُل لا يأتي من فعِل، وإنما يأتي من فعَل وفعُل، ظرُف يظرُف.
إذاً: ليست من باب فعِل ولا من باب فعُل، ما الدليل؟ نقول: ليست من باب فعُل لأنه سمع اسم الفاعل على فاعل، حينئذٍ لو كانت من باب فعُل فاسم الفاعل من فعُل يأتي على فعيل، ظرف فهو ظريف، كرم فهو كريم، حينئذٍ لما جاء كائن علمنا أنه ليس من باب فعُل.
ليس من باب فعِل؛ لأن المضارع يأتي على وزن يكون، يفعُل .. ويفعُل هذا إما أن يكون ماضيه فعُل أو فعَل، وليس من باب فعِل، وأسقطنا فعُل باسم الفاعل، فتعين أن يكون من باب فعَل.
إذاً كان أصله (كَوَنَ) على وزن فعَل، تحركت الواو وانفتح ما قبلها فوجب قلبها ألفاً.
تَرْفَعُ كَانَ المُبْتَدَا اسْمًا والْخَبَرْ
…
تَنْصِبُهُ كَكَانَ سَيِّدًا عُمَرْ
كَكَانَ ظَلَّ بَاتَ أَضْحَى أَصْبَحَا
…
أَمْسَى وَصَارَ لَيْسَ زَالَ بَرِحَا
فَتِيءَ وَانْفَكَّ وَهذِى الأَرْبَعَهْ
…
لِشِبْهِ نَفْيٍ أَوْ لِنَفْيٍ مُتْبَعَهْ
وَمِثْلُ كَانَ دَامَ مَسْبُوقاً بِمَا
…
كَأَعْطِ مَادُمْتَ مُصِيبَاً دِرْهَمَا
تَرْفَعُ كَانَ: (تَرْفَعُ) هذا فعل مضارع مرفوع وكَانَ فاعل، قصد لفظه.
تَرْفَعُ كَانَ المُبْتَدَا: المُبْتَدَا هنا مفعول به.
والْخَبَرْ تَنْصِبُهُ: والْخَبَرَ سكنه من أجل الروي، (والْخَبَرْ تَنْصِبُهُ) يعني وتنصب الخبر من باب الاشتغال، ويجوز رفعه: والْخَبَرُ تَنْصِبُهُ كما سيأتي.
تَرْفَعُ كَانَ المُبْتَدَا: تَرْفَعُ عرفنا أن مذهب البصريين أن هذا الرفع بعد دخول كان رفع مجدد حاصل، وليس هو الرفع الذي كان قبل دخول كان؛ لأن كان عامل اللفظ، فلما دخل على الجملة الاسمية المكونة من مبتدئ وخبر نسخ العامل الذي دخل على المبتدأ فرفع المبتدأ؛ لأن كان عامل لفظي، والابتداء عامل معنوي، والعامل اللفظي أقوى من العامل المعنوي، بل هو الأصل، والمعنوي إنما جُوِّز للضرورة، الأصل أن يكون العامل لفظياً وهو ما للسان فيه حظ، ولذلك اقتصر في العامل المعنوي على بابين فحسب، باب المبتدأ أنه مرفوع بالابتداء وهو عامل معنوي، وباب الفعل المضارع المجرد عن ناصب وجازم، فرفعه يكون بالتجرد والتعري عن العوامل النصب والجزم، حينئذٍ نقول: هذا باب العامل المعنوي فحسب ولا يقاس عليه غيره.
وكل ما أمكن تعليق العامل بكونه لفظياً فهو مقدم، لكن بشرط أن يصح تعليق .. إن صح تعليق العمل هنا بعامل لفظي حينئذٍ صار هو المقدم، لماذا؟ لأن الأصل في العمل أن يكون لشيء ملفوظ به؛ لأنه هو الكلام في الأصل، فالفعل هو الأصل في العمل، حينئذٍ الأصل في الفعل أن يكون ملفوظاً به، وإذا قدر حينئذٍ المقدر أو المحذوف لعلة كالثابت كما هو القاعدة عند الصرفية.
إذاً: تَرْفَعُ المراد به تجدد له رفعاً غير الأول الذي عامله معنوي وهو الابتداء.
تَرْفَعُ كَانَ المُبْتَدَا، إذا دخلت عليه ويسمى اسماً لها.
تَرْفَعُ كَانَ المُبْتَدَا: كيف ترفع كان المبتدأ إذا دخلت عليه؟ هو الآن لم يكن مبتدأ، وإنما تسميته باعتباره قبل دخول كان، وهنا سماه مبتدأً من باب الإيضاح للمبتدئ أو القارئ أو المستمع؛ ليبين لك أن (كان) هذه دخلت على ما أصله مبتدأ الذي سبق تقريره في الباب السابق، وإلا تسميته مبتدأ في مثل هذا التركيب مجاز، يعني لم يقصد به المبتدأ الحقيقي، وإنما أطلق المبتدأ باعتبار ما كان.
إذاً تَرْفَعُ كَانَ المُبْتَدَا تسميته مبتدأً باعتبار حاله قبل دخول الناسخ، و (أل) هنا في المبتدئ للجنس، لماذا؟ لأننا لو أطلقنا أن كان تدخل على المبتدئ، إذاً يفهم من هذا أن كل مبتدئ يصح دخول كان عليه وليس بصحيح، بل من المبتدئ ما هو لازم الصدر، فلا يصح دخول كان عليه، من المبتدأ ما هو واجب الحذف كالنعت المقطوع، هو الكريم:(هو) كيف يدخل عليه كان؟ ما تدخل عليه؛ لأنه محذوف، من المبتدئ ما هو لازم الابتداء لا يتصرف (طوبى للمؤمن) نقول: طوبى هذا ملازم الابتداء، لا يعرب إلا مبتدأ فأين التركيب؟ حينئذٍ لا تدخل عليه كان.
فمثل هذه المبتدءات يمتنع دخول كان عليها، فقصد المصنف بالمبتدئ هنا: ما يصح دخول كان عليه، وليس كل مبتدئ يصح دخول كان عليه، إذاً:(أل) هنا نحمله على الجنس، فليست للاستغراق لتعم كل ما هو مبتدئ لا، نقول: من المبتدئ ما يمتنع دخول كان عليه، ومن المبتدئ ما يجوز دخول كان عليه، ومراد المصنف هو الثاني وعليه نحمل (أل) للجنس لا للاستغراق.
و (أل) في المبتدئ للجنس، فإن منه ما لا تدخل عليه كلازم الصدر إلا ضمير الشأن، كما في المثال السابق: كان الناس صنفان، كان دخلت على المبتدئ والخبر وضميرها اسمها ضمير الشأن ولا بأس به.
ولازم الحذف كالمخبر عنه بنعت مقطوع وما لا يتصرف كطوبى للمؤمن، فإنه يلزم الابتداء.
هذه الأنواع الثلاثة وما شاكلها حينئذٍ نقول: هذه لا يمكن أن تخرج عن كونها مبتدأً، من يقم أقم معه، نقول:(من) هذا لازم الصدر، لا يمكن أن تدخل عليه بكان ممتنع، طوبى للمؤمن لا يمكن أن تدخل عليه كان.
إذاً قوله: المبتدأ جنس أراد به بعض الأفراد وليس على إطلاقه.
تَرْفَعُ كَانَ المُبْتَدَا: إذا دخلت عليه ويسمى اسماً لها حقيقة، أو فاعلاً مجازاً.
والْخَبَرْ تَنْصِبُهُ: والْخَبَرْ هذا مفعول به أو مبتدأ تَنْصِبُهُ الجملة هذه إما مفسرة وإما أنها خبر المبتدأ، يحتمل هذا وذاك.
والْخَبَرْ إذاً: القول فيه كالقول في سابقه، استثنى النحاة من الخبر هنا الجملة الطلبية، فلا يكون خبراً لكان، وجمهور النحاة الذين أجازوا أن يقع الخبر هنا -خبر المبتدئ- جملة طلبية منعوه هنا.
فحينئذٍ زيد اضربه، نقول: زيد هذا يصح دخول (كان) عليه، لكن يمتنع هنا لا لذات زيد وإنما لكون خبر زيد جملة طلبية، ولذلك يستثنى من الخبر الجملة الطلبية.
يشترط في خبر كان ألا يكون جملة طلبية حتى عند الجمهور الذين يجوزون وقوع الطلبية خبراً عن المبتئدئ.
إذاً: يستثنى من المبتدئ ليس كل مبتدئ تدخل عليه كان، ويستثنى من الخبر ليس كل خبر تدخل عليه كان ولو صح دخوله على المبتدئ، فزيد اضربه نقول: هنا لا يصح دخول (كان) عليه الجملة هذه، لماذا؟ لذات المبتدئ أو للخبر؟ للخبر؛ لكونه جملة طلبية وأما المبتدأ فهو جائز.
تَرْفَعُ كَانَ المُبْتَدَا اسْمًا والْخَبَرْ تَنْصِبُهُ.
(تَنْصِبُهُ) خبراً لها، باتفاق أنه منصوب، وإنما منصوب على أي شيء؟ جمهور البصريين على أنه منصوب خبرٌ لكان، حينئذٍ نقول: هذا الوجه هو المرجح، والقول بأنه حال وهو مذهب الكوفيين مذهب ضعيف لا يعول عليه، لما ذكرناه.
كَكَانَ سَيِّدًا عُمَرْ: ((وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيرًا)) [الفرقان:54] ربك قدير هذا الأصل .. (رب) مبتدأ ودخلت عليه كان وجاز الدخول عليه؛ لأنه ليس من الممنوعات، و (قدير) هذا الخبر وهو ليس جملة طلبية فدخلت كان رفعت المبتدأ الذي هو قبل دخول (كان) وأحدثت له رفعاً جديداً، والعامل فيه (كان)، ونصبت الخبر المرفوع قبل دخول (كان) فصار خبراً لكان.
حينئذٍ نقول: اسم كان مرفوع بكان، وخبر كان منصوب بكان، فأحدثت عملين في محلين مفترقين أحدهما الرفع والثاني النصب ((وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيرًا)) [الفرقان:54].
كَكَانَ أي: كقولك كَانَ سَيِّدًا عُمَرْ، كان عمر سيداً، هذا فيه أيضاً جواز تقدم خبر كان على اسمها.
كَكَانَ سَيِّدًا عُمَرْ: إذاً أفاد فائدتين بهذا المثال وهو: أن كان دخلت على المبتدئ وهو علم، فرفعته على أنه اسم لها.
وسَيِّد هذا كان مرفوعاً فدخلت عليه (كان) فأحدثت فيه النصب؛ على أنه خبر لها، ودل كذلك على أنه يجوز تقدم الخبر على المبتدئ، وإن كان الأصل في النظر في خبر كان مع اسمها هو عين النظر في المبتدئ مع الخبر، هذا الأصل إلا ما استثني، فما وجب هناك تأخر الخبر وجب هنا وما وجب تقدم الخبر هناك وجب هنا، كما سيأتي.
كَكَانَ سَيِّدًا عُمَرْ .. كَكَانَ ظَلَّ، ككان في ذلك في كونها ترفع المبتدا اسماً لها والخبر تنصبه ليس خاصاً هذا الحكم بكان فحسب، بل أخوات (كان) ونظائرها مثلها في ذلك العمل، فتدخل على المبتدئ جائز الدخول، وعلى الخبر جائز الدخول فترفع الأول وتنصب الثاني.
كَكَانَ هذا خبر مقدم، ظل هذا قصد لفظه وهو مبتدأ مؤخر.
كَكَانَ ظَلَّ بَاتَ بإسقاط العاطف، هو جائز في الشعر، ظَلَّ، وبَاتَ، وأَضْحَى، وأَصْبحَا الألف هذه للإطلاق، وأَمْسَى، وَصَارَ، ولَيْسَ، وزَالَ، وبَرِحَا، وفَتِىءَ، وَانْفَكَّ .. هذه اثنا عشر، بقي واحد وهو دَامَ أشار إليه بقوله:(وَمِثْلُ كَانَ دَامَ) فهي ثلاثة عشرة فعلاً.
هذه الأفعال باعتبار العمل منها ما يعمل بلا شرط ولا قيد، ومنها ما يعمل بشرط، منها ما يعمل بلا شرط.
الأُوَل الثمانية تعمل بلا شرط كان، وظَلَّ، وبَاتَ، وأَضْحَى، وأَصْبحَا، وأَمْسَى، وَصَارَ، ولَيْسَ. هذه كلها متتالية وهي ثمانية تعمل بلا شرط، لا يشترط لها أي شرط.
وزَالَ، وبَرِحَا، وفَتِىءَ، وَانْفَكَّ .. هذه تعمل بشرط، وهو أن يتقدمها نفي أو شبه نفي.
دَامَ كذلك مشروطة بشرط وهو أن تكون مسبوقة بما المصدرية، ولذلك قال: منها ما يعمل هذا العمل بلا شرط وهي ثمانية: كان وما عطف عليها إلى قوله: ليس، ومنها ما لا يعمل هذا العمل إلا بشرط وهو قسمان: أحدهما ما يشترط في عمله أن يسبقه نفي لفظاً أو تقديراً، وهو ما أشار بقوله: وهذه الأربعة الأخيرة التي هي: زال، ماضي يزال كما سيأتي، وبرح، وفتئ، وانفك.
فَتِىءَ بكسر التاء هذا هو الأشهر في اللغة، الأشهر أنها بكسر التاء، وفيها لغة بالفتح فتَئ من باب فعَل، والأولى على وزن فعِل، ولغة ثالثة أفتأ، ورابعة فتُئ يفتأُ، كظرف يظرف، هذه أربعة لغات في فتئ المشهور فيها كسر التاء فتِئ ثم فتَئ.
وَانْفَكَّ وَهذِى الأرْبَعَهْ: أي موادها التي هي زال وما عطف عليه، وَهذِه الأرْبَعَهْ الأخيرة لا تعمل إلا بشرط كونها لِشِبْهِ نَفْيٍ، والمراد بشبه النفي النهي والدعاء، فلا تعمل إلا إذا كانت مسبوقة بدعاء أو نهي أو لنفي محض، وهذا النفي قد يكون بالاسم وقد يكون بالفعل، وقد يكون بالحرف.
وَهذِى الأرْبَعَهْ: ذِى مبتدأ، والأرْبَعَهْ بدل أو عطف بيان، مُتْبَعَهْ هذا خبر المبتدئ، ولِشِبْهِ نَفْيٍ هذا لا بد من أن نقدره أو نعلقه بمُتْبَعَهْ، ولو قدرناه بمحذوف كما قال بعضهم لا بأس به.
لِشِبْهِ نَفْيٍ أوْ لِنَفْيٍ، إذاً: لا بد أن يتقدمها نفي أو شبه نفي، لماذا؟ قالوا: لأن المقصود من الجملة الإثبات، وهذه ملازمة للنفي معناها، وحينئذٍ نفي النفي إثبات، المراد بالجملة الإثبات، يعني جملة ما دخل على المبتدئ والخبر المقصود به الإثبات، وهذه الألفاظ في نفسها تدل على النفي، فاشترطنا النفي قبلها؛ لأن نفي النفي إثبات، ولذلك لا تعمل هذا العمل إلا بهذا الشرط أن تكون مسبوقة بنفي أو شبه النفي، وقلنا شبه النفي هو: الدعاء والنهي، وأما النفي فالمراد به حقيقته وهو النفي المحض، وهذا قد يكون بحرف وقد يكون بفعل، وقد يكون باسم، أما الحرف نحو:
لَنْ تَزَالُوا كَذَلِكُمْ ثُمَّ لَا زِلـ
…
ـتُ لَكُمْ خَالِداً خُلُودَ الجِبَالِ
وزَالَ هنا عملت وهي فعل مضارع لسبقها بالنفي وهو لن وهو حرف، كذلك أن تكون مسبوقة بنفي وهو فعل:
لَيْسَ ينفَكُّ ذا غِنىً واعْتِزَازٍ
…
كُلُّ ذِي عِفَّةٍ مُقِلٌّ
قَنُوعُ - أو مُقِلٌ ضبط بهذا وذاك.
وقد يكون بالاسم النفي:
غَيْرُ مُنْفَكٍّ أَسِيرَ هَوىً
…
كلُّ وَانٍ لَيْسَ يَعْتَبرُ
حينئذٍ نقول: النفي قد يكون حرفاً وقد يكون اسماً وقد يكون فعلاً، وقد يكون ملفوظاً كما في الأمثلة المذكورة وقد يكون مقدراً، يعني محذوفاً ومثلوا له بقوله تعالى:((قَالُوا تَاللَّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ)) [يوسف:85] تَفْتَأُ يعني لا تفتأ، ((تَذْكُرُ يُوسُفَ)) وحينئذٍ نقول: هذا الفعل تَفْتَأُ قد عمِل عمَل كان، ووجد شرطه لكنه مقدر، ويشترط في التقدير هنا ليس قياساً مطرداً، وإنما هو في القَسَمِ أولاً ثم مع الفعل المضارع، ثم لا على جهة الخصوص.
بهذه الشروط الثلاثة يجوز أن يكون النفي مقدراً، ((قَالُوا تَاللَّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ)) أي لا تفتأ ولا يحذف النافي معها قياساً إلا بعد القسم كما في الآية، وكذلك أن يكون مضارعاً –فعل- وأن يكون لا على جهة الخصوص، وقد شذ الحذف بدون القسم:
وَأَبْرَحُ مَا أَدَامَ اللهُ قَوْمِي
…
بِحَمْدِ اللهِ مُنْتَطِقاً مُجِيدَا
أَبْرَحُ هذا فعل مضارع، لكنه ليس قسماً، أبرح فعل مضارع، والحرف المقدر هو لا، إذاً وجد شرطان بقي شرط ثالث وهو القسم، إذاً يعتبر شاذاً ولا يقاس إلا ما جاء النص باستثنائه؛ لأنه بالاستقراء أن هذا الفعل كغيره لا يعمل إلا بتقدم نفيٍ، وحينئذٍ إذا حذف فصار خارجاً عن القياس، فحينئذٍ ينظر في المثل الذي ورد أو في الآية التي معنا، فنجد أن تفتأ فعل مضارع، إذاً لا يتعداه، وأن التقدير: لا تفتأ، إذاً: لن، وما، وإن .. هذه ليست مثل لا، فنقتصر الحكم على المذكور، ثم هو في قسم، فنقول بهذه الشروط الثلاثة يجوز حذف النافي -حرف النفي-، وأما ما عداه فنقول: لا، وأبرح كما قال الشاعر هنا: وَأَبْرَحُ مَا أَدَامَ اللهُ قَوْمِي، نقول: هذا شاذ يحفظ ولا يقاس عليه؛ لأنه وإن كان فعلاً مضارعاً، وإن كان المحذوف الحرف وهو لا، إلا أنه ليس في سياق القسم، والشرط أن يكون في سياق القسم، فهذا أن يكون لنفي أو لشبه نفي، والمراد به كما ذكرنا النهي كقولك: لا تزل قائماً، (لا) ناهية، و (تزل) هذا فعل مضارع ناقص مجزوم بلا، وجزمه السكون، واسمه أنت، وقائماً خبره.
إذاً: يحتاج إلى اسم وخبر، ومنه قوله:
صاحِ شمِّرْ ولَا تَزَلْ ذاكِرَ المَوْتِ
…
فَنِسْيانُهُ ضَلالٌ مُبِينُ
صاحِ يعني: يا صاح، هذا وإن كان في الأصل شاذ إلا أنا نتوسع به لكثرته، ولا تَزَلْ .. (ولا) هذه ناهية و (تزل) هذا فعل مضارع ناقص مجزوم بلا، وجزمه سكون آخره، ولا تزل (أنت) ضمير وهو اسم تزل، و (ذاكِرَ المَوْتِ) هذا خبر، إذاً نصب
والدعاء كقولك: لا يزال الله محسناً إليك، لا يزال (لا) هنا دعائية، ولا في النهي والدعاء كما قال ابن آجروم هناك، لا يزال الله محسناً إليك، (لا) نقول هذه نافية -نسميها دعاء أيضاً لا بأس-، (يزال) فعل مضارع مرفوع ناقص مرفوع لتجرده عن الناصب والجازم، ولفظ الجلالة اسم يزال، ومحسناً هذا خبرها
أَلَا يَا اسْلَمي يا دارَ مَيَّ، عَلى الْبَلضى
…
وَلَا زالَ مُنْهَلاً بِجَرْعائِكِ الْقَطْرُ
وَلا زالَ مُنْهَلاً (لا) دعائية أو نافية، (زال) فعل ماضي، والقطر هذا اسمها، ومنهلاً خبر مقدم، بجرعائك هذا متعلق بـ: منهلاً.
إذاً: هذا شبه النفي وقد مثلنا للنفي.
وَهذِى الأرْبَعَهْ أي موادها الأخيرة المذكورة زال، وبرح، وفتئ، وانفك .. هذه الأربعة لا تعمل هذا العمل الذي هو رفع المبتدأ ونصب الخبر إلا إذا تقدمها شبه نفي أو لنفي، إلا إذا كانت متبعة، كيف متبعة؟ هي تابعة أو متبعة؟ إذا كانت متبعة، بماذا؟ كيف التقدير يكون؟ ما الذي أتبع الثاني؟ هي متبعة للنفي وشبه النفي، لذلك تقول: لشبه هذا متعلق بقوله متبعة وهو خبر ذي.
إذاً: هذا ما ذكره في هذا البيت.
وَمِثْلُ كَانَ دَامَ، هذا الثالث عشر وَمِثْلُ كَانَ، يمثل بـ: كان -ككان ظل- وَمِثْلُ كَانَ؛ لأنها أم الباب هي الأصل.
وَمِثْلُ كَانَ دَامَ يعني: في العمل المذكور بشرط حال كونه (مَسْبُوقاً بِمَا) أي ما؟ المصدرية الزمانية أو الظرفية، ومن أين أخذنا هذا التقييد؟
كَأعْطِ مَادُمْتَ مُصِيباً دِرْهَما إذاً: من المثال نقيد (ما) هنا ليست موصولة، وليست مصدرية فحسب، وإنما هي مصدرية ظرفية يعني زمانية.
كَأعْطِ مَادُمْتَ مُصِيباً دِرْهَما: ما دمت (ما) هذه مصدرية ظرفية، لماذا مصدرية؟ لأنها تسبك مع ما بعدها بمصدر، وظرفية لأنها تفسر أو تضاف إلى المدة أو إلى الظرف
كَأعْطِ مَادُمْتَ: دام فعل ماضي، والتاء هنا اسمها، ومصيباً درهماً هنا فيه حذف وفيه تقديم وتأخير كأعط المحتاج درهماً ما دمت مصيباً له؛ لأن أعط هذا يتعدى إلى مفعولين، أعط المحتاج درهماً، يأتينا هذا باب أعطى وكسى يتعدى إلى مفعولين ليس أصلهما المبتدأ والخبر، أعط هذا يتعدى إلى مفعولين، أين مفعوله؟ (أعط المحتاج) هذا حذف، (درهماً) هذا المفعول الثاني (ما دمت مصيباً) يعني مدة دوام مصيباً، فمصيباً هذا خبر دام، والتاء هذا اسمها.
إذاً كأعط المحتاج درهماً ما دمت مصيباً له، ففي المثال تقديم وتأخير وحذف
وَمِثْلُ كَانَ دَامَ مَسْبُوقاً بِمَا
…
كَأعْطِ مَادُمْتَ مُصِيباً دِرْهَمَا
إذاً هذا يشترط في عمله وهو لفظ دام أن يسبقه (ما) المصدرية الظرفية، لا بد من القيدين؛ لأنها قد تكون مصدرية لا ظرفية فلا تعمل هذا العمل، لو كانت مصدرية فقط ولا تعمل عمل المذكور يعجبني ما دمت صحيحاً، يعني مدة دوامك صحيحاً؟ لا، ليس كذلك لا يقدر بظرف، يعجبني ما دمت صحيحاً أي: دوامك صحيحاً، فدام تامة بمعنى بقي، وصحيحاً حال ولا توجد الظرفية بدون المصدرية.
كَأعْطِ مَادُمْتَ مُصِيباً دِرْهَما أي: أعط مدة دوامك مصيباً درهماً، ومنه قوله تعالى:((وَأَوْصَانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا)) [مريم:31] أي مدة دوامي حياً، وهذا يستدل به على أن دام لها مصدر؛ فإن التقدير هنا يكاد أن يكون إجماعاً مدة دوامي حياً، فإذا كان كذلك كوننا نحكم على أن ما المصدرية هنا في هذا التركيب مصدرية لا يفهم منها إلا أنها تسبك مع ما بعدها بمصدر، ولا يفهم غير هذا، إذا لم تسبك مع ما بعدها بمصدر وتؤل بمصدر لم تكن مصدرية، فإذا حكمنا عليها بأنها مصدرية معناه هو أن ما بعد له مصدر، فدام له مصدر، وأما القول بأن مدة دوامي، دوامي هذا مصدر لدام التامة أستعير هنا هذا مغالطة، بل الصحيح أنه لدام الناقصة؛ لأن دام التامة لا تطلب خبراً وإنما تكتفي بمرفوعها كما ستأتي، وحينئذٍ نقول: هذه دام الناقصة على الأصل.
قال رحمه الله تعالى
تَرْفَعُ كَانَ المُبْتَدَا اسْمًا والْخَبَرْ
…
تَنْصِبُهُ كَكَانَ سَيِّدًا عُمَرْ
كَكَانَ ظَلَّ .. وما عطف عليه.
ثم قال: وَهذِى الأرْبَعَهْ الأخيرة يشترط فيها ما لا يشترط في الثمانية الأولى.
وَمِثْلُ كَانَ دَامَ مَسْبُوقاً بِمَا كَأعْطِ يعني بـ (ما) المصدرية الظرفية، أما معانيها فمعنى (ظل) المراد به اتصاف المخبر عنه بالخبر نهاراً، ظل زيد قائماً، ما المقصود بظل زيد قائماً؟ بمعنى أنه اتصف بالقيام في النهار، اتصف المخبر عنه الذي هو اسم ظل بمضمون الخبر في وقت النهار، فظل المراد به اتصاف المخبر عنه الذي هو اسم ظل بمضمون الخبر نهاراً.
ومعنى (بات) اتصافه به ليلاً، بات زيد قائماً، بمعنى أنه اتصف بمضمون قام في وقت البيتوتة وهو في الليل.
و (أضحى) اتصافه به في وقت الضحى، و (أصبح) اتصافه به في الصباح، و (أمسى) اتصافه به في المساء .. ومعنى (صار) التحول من صفة إلى صفة أخرى، و (ليس) المراد بها النفي، وهي عند الإطلاق لنفي الحال ليس زيد قائماً يعني الآن، إذا أطلق عن القيد حينئذٍ نحملها على نفي الحال، الآن يعني ليس زيد قائماً الآن، وبعده الله أعلم لا نحكم عليه، وإنما نقول: ليس زيد قائماً الآن، في هذا الوقت الذي نتحدث فيه ليس زيد قائماً، وما بعده نقول: هذا ليس داخلاً في الحكم.
ليس زيد قائماً أي الآن، وعند التقييد بزمن على حسبه، ليس زيد مسافراً غداً، إذاً ليست لنفي الحال، وإنما تحمل على ما قيدت به، ليس زيد مسافراً غداً، إذاً قد يكون بعده.
ومعنى زال وأخواتها تدل على ملازمة الصفة للموصوف مذ كان قابلاً لها، اتفق النحاة على أن هذه الأربع كلها بمعنى واحد (زال، وبرح، وفتئ، وانفك) بمعنى واحد، باتفاق النحاة إجماع أنها بمعنى واحد، وأن هذا المعنى يدل على ملازمة الصفة للموصوف، الصفة الذي هو خبرها، للموصوف الذي هو اسمها، لكن كل ملازمة بحسب الجملة، لا زال زيد عالماً، الأصل في الاتصاف بالعلم أنه مدة بقائه منذ أن شم رائحة العلم إلى أن يموت هذا الأصل فيه.
لا زال زيد قائماً، هذا ينفك عنه في وقت دون وقت، وحينئذٍ نقول: الملازمة هنا بحسب ما قبله، يعني بحسب الوصف الذي يكون للموصوف، قد يكون لا يوجد في وقت دون وقت، بل هو ملازم له مدة حياته كالوصف بالعلم والحياة ونحو ذلك، وقد يكون يوجد في وقت دون وقت، وحينئذٍ نفسره بالملازمة ليست كالملازمة السابقة، وإنما هي ملازمة في وقت دون وقت.
لا زال زيد صائماً، شهر كامل وشهرين ثلاثة وهو صائم! لا، لا زال زيد صائماً في وقت الصيام، وأما إذا جاء المغرب انتهى الوقت.
إذاً تدل على ملازمة الصفة للموصوف منذ كان قابلاً لها، على حسب ما قبلها، فإن كان ما قبلها متصلة الزمان دامت له كذلك نحو ما زال زيد عالماً، وإن كان قبلها في أوقات دامت له كذلك، ما زال يعطي الدراهم، نقول: هذا يعطي في وقت دون وقت، ما زال يعطي الدراهم.
وترد كان، وأصبح، وأضحى، وأمسى، وظل بمعنى صار، قلنا صار تأتي بمعنى التحول من صفة إلى صفة، قد تخرج هذه الخمسة عن معانيها الأصلية كان تدل على كينونة وهو حدث كما ذكرناه، وهذا الحدث واقع في زمن مضى وانقطع، فهي زمانية وتسمى رابطة عند المناطقة، وظل، وأصبح، وأمسى، وأضحى .. نقول: هذه الأصل أنها موضوعة لاتصاف المخبر عنه بما دل عليه اللفظ، فأصبح اتصافه بالقيد متى؟ في الصباح، وكذلك المساء، لكن قد تخرج عن هذا المعنى إلى معنى آخر وهو معنى صار، التحول من صفة إلى صفة أخرى.
فلا يقع حينئذٍ الماضي خبراً لها، إذا كانت بمعنى صار يمتنع أن يكون خبرها فعلاً ماضياً ((فَكَانَتْ هَبَاءً مُنْبَثًّا)) [الواقعة:6] يعني وصارت، ((وَكُنتُمْ أَزْوَاجًا ثَلاثَةً)) [الواقعة:7]، ((فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا)) [آل عمران:103] صرتم، ((ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا)) [النحل:58] صار، وحينئذٍ إذا خرجت عن أصلها واستعملت بمعنى صار نقول: لا تخرج عن العمل بل هي باقية على الأصل.
وَغَيْرُ مَاضٍ مِثْلَهُ قَدْ عَمِلَا
…
إِنْ كَانَ غَيْرُ المَاضِ مِنْهُ اسْتُعْمِلَا
وَغَيْرُ مَاضٍ، مبتدأ غَيْرُ مضاف، ومَاضٍ مضاف إليه.
مِثْلَهُ قَدْ عَمِلَا، قد عمل مثله، (قد) حرف تحقيق، و (عمل) هذا فعل ماضي، الألف للإطلاق، والجملة خبر غير، مثله أصل التركيب غير ماض قد عمل مثله، يعني مثل ماذا؟ مثل الماضي، غير الماضي عمل عمل الماضي، حينئذٍ يكون حالاً، حالة كونه مثله، ولو قيل بأنه صفة لمفعول مطلق محذوف كان أولى، يعني وغير ماض قد عمل عملاً مثله، وعملاً هذا مفعول مطلق، ومثله جاء صفة له، هذا أولى من إعرابه حال، من فاعل عمل مستتر، وَغَيْرُ مَاضٍ مِثْلَهُ أي مثل الماضي قد عمل العمل المذكور، والألف هذه للإطلاق؛ لأنه أورد ماذا؟ لماذا نص على مثل هذا التركيب؟
لأنه في سياق تعداد الأفعال ذكرها بصيغة الماضي.
كَكَانَ ظَلَّ بَاتَ أَضْحَى أَصْبحَا
…
أَمْسَى وَصَارَ لَيْسَ زَالَ بَرِحَا
فَتِىءَ وَانْفَكَّ وَهذِى الأرْبَعَهْ
ثم قال: وَمِثْلُ كَانَ دَامَ
قد يظن الظان أنها لا تعمل هذا العمل إلا إذا كانت بصيغة الماضي، وليس الأمر كذلك، فنفى هذا التصور المحدث بقوله: وَغَيْرُ مَاضٍ مِثْلَهُ قَدْ عَمِلَا
فما اشتق من كان، وما اشتق من ظل، وما اشتق من انفك، وزال إلى آخره يعمل عمل زال، وما اشتق من ظل يعمل عمل ظل .. فالحكم واحد.
حينئذٍ الحكم ليس لصيغة الفعل وإنما لمادة الفعل، ولذلك قلنا: وَهذِى الأرْبَعَهْ أي موادها، لماذا قلنا موادها؟ لأن الحكم إما أن يتعلق بالمادة وإما بالصيغة، إذا قلنا بالصيغة معناها بصيغة الماضي، فلا يتعدى الحكم إلى المضارع والأمر واسم الفاعل، وإذا قلنا المادة مادة كان، حينئذٍ كان، يكون، كائن، كن .. هذه كلها تعمل، هنا العبرة بالمادة أو بالصيغة؟ بالمادة، إذاً ليس المراد من تعداد الأفعال السابقة صيغها، بل المراد موادها.
فكل ما دل على كان بالمادة سواء كان ماضياً أو مضارعاً أو مصدراً أو أمراً حينئذٍ يعمل هذا العمل، ترفع كان أي: مادة كان المبتدأ، والخبر تنصبه .. ككان ظل أي مادة ظل، بات أي مادة بات، ليس عين الصيغة، وهذا تأويل جيد.
وَغَيْرُ مَاضٍ مِثْلَهُ قَدْ عَمِلَا
متى؟ قيده هل كل الأفعال لها مضارع أو متصرفة؟ لا، إنْ كانَ غَيْرُ الْمَاضِ مِنْهُ اسْتُعْمِلَا، فالمرد حينئذٍ السماع ليس المسألة اجتهادية، فكل ما ورد من تصرف تلك الأفعال عمل عمل الماضي، فإن لم يكن له إلا ماضي مالنا حيلة فيه يبقى على مضيه، إذا لم يرد إلا الماضي لا يمكن أن نقول غير ماض مثله قد عملا، ليس له غير ماض، فالماضي حينئذٍ يكون هو خاصاً به، فنقدر هناك صيغته مثل ليس.
إنْ كانَ غَيْرُ الْمَاضِ مِنْهُ اسْتُعْمِلَا (مِنْهُ) هذا متعلق بقوله استعملا، والألف للإطلاق، يعني ما تصرف من هذه الأفعال يعمل غير الماضي منه عمل الماضي.
جميع هذه الأفعال تتصرف، هذا الأصل فيها؛ لأن الأصل في الفعل أنه متصرف، هذا الأصل فيه، وغير التصرف هذا خارج عن القياس، فجميع هذه الأفعال تتصرف فيأتي منها المضارع والأمر والمصدر والوصف إلا ليس، وهذا مجمع عليه في (ليس).
إلا ليس فمجمع على عدم تصرفها، وأما دام فنص كثير من المتأخرين على أنها لا تتصرف، (ليس) مجمع على أنها ملازمة للماضي، إذاً ليس لها غير الماضي، ليست داخلة في قوله: وَغَيْرُ مَاضٍ مِثْلَهُ قَدْ عَمِلَا، وأما (دام) فأكثر المتأخرين على أنها لا تتصرف، وجزم به ابن مالك رحمه الله تعالى على أنها لا تتصرف.
قال أبو حيان: وما ذكر من عدم تصرفها لم يذكره البصريون، ولتصاريف هذه الأفعال من العمل والشروط ما للماضي منها، وكذا سائر الأفعال، يعني إذا قيل: وَغَيْرُ مَاضٍ مِثْلَهُ قَدْ عَمِلَا، وقد اشترطنا شروطاً في بعضها نقول: الشروط تلك ليست خاصة بالفعل الماضي، بل كل ما تصرف من الماضي فالشرط لازم له (إنْ كانَ غَيْرُ الْمَاضِ مِنْهُ اسْتُعْمِلَا).
قال الشارح: هذه الأفعال على قسمين: أحدهما: ما يتصرف، والتصرف المراد به أنه يأتي منه ماضي ومضارع وأمر، وهذا التصرف قسمان، قد يكون تصرفاً تاماً بأن سمع منه المضارع والأمر والمصدر، وقد يكون تصرفاً ناقصاً، بأن لم يسمع منه إلا المضارع فحسب.
أحدهما: ما يتصرف، وهو ما عدا ليس ودام.
وهذا القسم -ما يتصرف قسمان-: ما يتصرف تصرفاً ناقصاً وهو (زال) وأخواتها فإنه لا يستعمل منها الأمر ولا المصدر، زال ليس عندنا زل، زال وانفك وفتئ وبرح، هذه ليست لها أمر ولا مصدر، حينئذٍ تصرفها ناقص ليس بتام.
الثاني ما يتصرف تصرفاً تاماً وهو باقيها.
قال: والثاني: ما لا يتصرف بحال، وهو (ليس) باتفاق، و (دام) عند المتأخرين، ويصححونه يقولون: على الصحيح، وقيل لها: مضارع دام، وهو يدوم، فهي متصرفة إذا ثبت أن لها مضارعاً، قد أثبته بعضهم.
حينئذٍ هي متصرفة تصرفاً ناقصاً، والصحيح أن لها مصدراً أيضاً كما سبق، مدة دوامي حياً ((مَا دُمْتُ حَيًّا)) [مريم:31] اشترطنا كون (ما) المصدرية حينئذٍ لزم أن يكون ما بعد له مصدر، إن قلنا ليس لها مصدر فحينئذٍ ليست (ما) مصدرية، وهذا باطل، حينئذٍ لا بد أن يكون لها مصدر، والقول بالاستعارة هذا قول لا يلتفت إليه، أنه استعير لها من أجل أن يقيم مصدر (دام) التامة مقام (دام) الناقصة فهذا لا يعول عليه.
فنبه المصنف بهذا البيت على أن ما يتصرف من هذه الأفعال يعمل غير الماضي منه عمل الماضي، وذلك هو المضارع ((وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا)) [البقرة:143] يَكُونَ هذا منصوب بما قبله، ((وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا)) الرَّسُولُ اسم يكون، وشَهِيدًا هذا خبرها، عملت يكون عمل كان وَغَيْرُ مَاضٍ مِثْلَهُ قَدْ عَمِلَا
((كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ)) [النساء:135] كُونُوا هذا أمر، نقول: فعل أمر مبني على حذف النون كُونُوا مثل قوموا مبني على حذف النون، والواو اسمها ((كُونُوا قَوَّامِينَ)) هذا خبرها منصوب بالياء، ((قُلْ كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا)) [الإسراء:50]، واسم الفاعل زيد كائن أخاك، كيف صرح هنا ونحن قلنا: نَاوِينَ مَعْنَى كَائِنٍ أَوْاسْتَقَرّْ، وهنا يصرح بكائن؟ هذاك في المتعلق، هنا مقصود لفظه عينه ونفسه.
وَمَا كُلُّ مَنْ يُبْدِي البَشَاشَةَ كَائناً
…
أَخَاكَ إِذَا لم تُلفِهِ لك مُنجِدَا
وَمَا كُلُّ مَنْ يُبدي البَشَاشَةَ كائناً أَخَاكَ، (ما) هذه حجازية، (كل) اسمها، (من يبدي) كل مضاف و (من) مضاف إليه اسم موصول، (يبدي) صلة الموصول لا محل له من الإعراب، (كائناً) خبر ما، واسمها ضمير مستكن كائناً هو، أخاك خبرها منصوب بالألف؛ لأنه من الأسماء الستة.
إذاً: كائناً اسم فاعل وهذا يدل على أنها من باب فعل، لا من باب فعُل، فحينئذٍ هو اسم فاعل وعمل عمل كان، كائناً أخاك، والمصدر كذلك والصحيح أن لها مصدر
بِبَذْلٍ وحِلمٍ سَادَ في قَوْمِهِ الفَتى
…
وَكَوْنُكَ إِيَّاهُ عَلَيكَ يَسِيرُ
وكَوْنُكَ هذا مبتدأ، وهو مضاف والكاف مضاف إليه.
إيَّاهُ خبرها، عَلَيكَ جار ومجرور متعلق بـ: يَسِيرُ.
يسير خبر كون.
(كون) لها اعتباران الآن: هي مبتدأ، وهي من مادة كان، نعربها مبتدأ على الأصل قبل دخول كان –لم تدخل كان هنا- (كون) مبتدأ، إذاً تطلب خبر مثل زيد قائم، ثم هي في نفس الوقت تطلب خبراً واسماً، إذاً لها جهتان: تطلب خبرين .. الكلمة هذه كونك تطلب خبرين: خبر من حيث كونها مبتدأ وهو يسير، يسير خبر المبتدأ وليس خبر الكون، وكون يطلب اسماً وهو الكاف، فالكاف هنا لها محلان: محل جر باعتبار كونها مضافاً إليه ومحل رفع باعتبار كونها اسماً لكون.
إيَّاهُ (إيَّا) هذا هو خبر الكون، إذاً كون له خبران يسير وإيا، لكن باعتبارين: باعتبار كون الكون مبتدأً يطلب خبراً وهو يسير، وباعتبار كونه وَغَيْرُ مَاضٍ مِثْلَهُ قَدْ عَمِلَا، حينئذٍ نقول لها: خبر وهو إيَّاهُ.
وكَوْنُكَ إيَّاهُ عَلَيكَ يَسِيرُ وما لا يتصرف منها وهو دام وليس، وما كان النفي أو شبهه شرطاً فيه وهو زال وأخواتها لا يستعمل منه أمر ولا مصدر.
إذاً:
وَغَيْرُ مَاضٍ مِثْلَهُ قَدْ عَمِلَا
…
إِنْ كَانَ غَيْرُ الْمَاضِ مِنْهُ اسْتُعْمِلَا
المراد بهذا البيت أن الحكم وهو رفع المبتدأ على أنه اسم لها أو نصب الخبر على أنه خبر لها ليس خاصاً بالفعل الماضي منها، بل كل ما جاء منها من أمر أو مصدر أو مضارع أو اسم فاعل فالحكم له سيان، وقد جاء في القرآن ويكفي في إثبات هذا الحكم
وَفِي جَمِيعِهَا تَوَسُّطَ الْخَبَرْ
…
أَجِزْ وَكُلٌّ سَبْقَهُ دَامَ حَظَرْ
هنا انتقل إلى بيان حال الخبر مع كان ومع اسمها.
وَفِي جَمِيعِهَا يعني: جميع هذه الأفعال حتى ليس ودام، أطلق الناظم هنا في جميع هذه الأفعال حتى دام وليس.
وَفِي جَمِيعِهَا تَوَسُّطَ الْخَبَرْ بينها وبين الاسم، إذا قيل: توسط الخبر فالمراد به ألا يتقدم على الفعل، وألا يبقى في محله، بل المراد به أن يقع بين العامل والمعمول، فحينئذٍ توسط الخبر قال: أَجِزْ، وأجز في جَمِيعِهَا في جميع الأفعال حتى (ليس) و (دام) تَوَسُّطَ الْخَبَرْ.
فالمراد هنا توسط أخبارهن جائز مطلقاً حتى في (دام) و (ليس).
قال الشارح: مراده أن أخبار هذه الأفعال إن لم يجب تقديمها على الاسم ولا تأخيرها عنه، وهذا كما ذكرناه أن ما وجب هناك فهو واجب هنا، يعني ما وجب تقديمه هناك وجب تقديمه هنا، وما وجب تأخيره هنا قبل دخول كان فهو واجب تأخيره هناك.
فمثال وجوب تقديمها على الاسم قولك كان في الدار صاحبها، هذا قبل دخول كان الخبر واجب التقديم في الدار صاحبها، لماذا؟ لئلا يعود الضمير على متأخر لفظاً ورتبة، حينئذٍ وجب تقديمه من أجل أن يعود على متأخر رتبة لا لفظاً.
إذا دخلت كان على مثل هذا التركيب وجب التزامه كما هو، فتقول: كان في الدار صاحبها، فصاحبها هذا اسم كان، وفي الدار جار ومجرور متعلق بمحذوف تقديره كائناً، إذا قدرت تقدر باعتبار المحل، هناك قدرناه كائنٌ زيد في الدار زيد كائنٌ بالرفع، وهنا تقول: كان في الدار صاحبه كائناً بالنصب؛ لأنه خبر، فقلنا الصحيح أن المتعلق هو الخبر وحده، والمتعلق هذا قيد فيه، وحينئذٍ الخبر خبر كان منصوب تقول: كائناً في الدار، ولا تقدره مرفوع كائن هكذا وتسكت! لا، كائناً بالنصب.
فلا يجوز هاهنا تقديم الاسم على الخبر؛ لئلا يعود الضمير على متأخر لفظاً ورتبة، ومثال وجوب تأخير الخبر عن الاسم قولك: كان أخي رفيقي.
(كان أخي رفيقي) كيف نعربها؟
(كان) فعل ماضي، (أخي) اسم كان مرفوع، (رفيقي) خبر كان، هل يجوز التقديم والتأخير؟
لا يجوز.
لماذا؟ للبس؛ لأنه لا يتبين من اللفظين أيهما الاسم وأيهما الخبر، إذاً كان صديقي عدوي نقول: لا يتقدم ولا يتأخر، كذلك إذا كان الخبر محصوراً ((وَمَا كَانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكَاءً)) [الأنفال:35] مُكَاءً هذا بعد إلا، إذاً محصوراً فيه، إذاً لزم التأخير.
أين كان زيد، هذا واجب التقديم؛ لأن كان قلنا لا تدخل على اسم الاستفهام، هذا خبر (أين)، وزيد هذا اسمها.
هل كان زيد صديقَك، هنا لا يجوز أن يتقدم على هل، ولا أن يُفصل بينهما.
وما عدا ذلك مما يمتنع تقديمه أو يجب تأخيره حينئذٍ نقول: الأصل الجواز، أنه يجوز أن يتوسط الخبر بين (كان) وبين اسمها.
((وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ)) [الروم:47](وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا)(نَصْرُ) هذا اسم كان، و (حَقًّا) هذا خبره، فتوسط بين هذا وذاك، وهذا أيضاً يؤخذ من المثال السابق كَكَانَ سَيِّداً عُمَرْ، عمر هذا اسم كان، وسيداً هذا خبره توسط بين الفعل والفاعل.
ومثال ما توسط فيه الخبر قولك كان قائماً زيد، ((وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ)) [الروم:47].
((لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ)) [البقرة:177](الْبِرَّ) هذا خبر، و (أَنْ تُوَلُّوا) هذا اسمها مؤخر.
وكذلك سائر أفعال هذا الباب من المتصرف وغيره يجوز توسط أخبارها بالشرط المذكور.
أما خبر (ليس) فهذا بعضهم نقل فيه خلاف، والصواب أنه يجوز التوسط، وقد سمع:
سَلِى إِنْ جَهِلتِ النَّاسَ عَنَّا وَعَنْهمُ
…
فَلَيسَ سَواءً عَالمٌ وجهُولُ
وذكر ابن معطي أن خبر دام لا يتقدم على اسمها، وهذا محجوج بالسماع:
لَا طِيبَ لِلعَيشِ مَا دَامَتْ مُنَغَّصَةً
…
لذَّاتُهُ بادِّكارِ الشَّيْبِ والهَرَمِ
لا طِيبَ لِلعَيشِ ما دامتْ مُنَغَّصَةً فقدم الخبر هنا منغصة على لذاته فدل على جواز الأمرين.
وفي جميعها توسط الخبر أجز، قيل: إجماعاً حكي الإجماع، مع أنه ثم خلاف في ليس ودام، لكن حكي الإجماع لأنه لم يلتفت إلى مخالفة ابن معطي ولا غيره.
لقوله: ((وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ)) [الروم:47] وفي قراءة من نصب: ((لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا)) [البقرة:177]
وَكُلٌّ سَبْقَهُ دَامَ حَظَرْ ،يعني كل من العرب، أو النحاة حضر سبقه، يعني سبق الخبر دام.
يفهم منه أن ما عدا دام يجوز أن يتقدم على الفعل في أول البيت - وَفِي جَمِيعِهَا تَوَسُّطَ الْخَبَرْ - الكلام على تقدم الخبر على الاسم دون الفعل، والآن انتقل إلى مسألة وهي: تقدم الخبر على الاسم والفعل معاً.
إذاً هذه مسألة ثانية وليست كالمسألة الأولى، المسألة الأولى توسط الخبر بين الفعل والاسم ((وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ)) [الروم:47] حينئذٍ هل يجوز أن يتقدم على الفعل نفسه؟ نعم، وكل سبقه حظر، وكل حظر سبقه دام، دل على أنه يجوز في غير دام، وأما دام فهذا محل نزاع، وكذلك ليس.
يجوز تقديم أخبار هذا الباب على الأفعال إلا (دام) و (ليس) والمنفي بـ (ما) وهذا سينص عليه الناظم، إلا دام وليس، دام ذكرها هنا وليس سيأتي في الص؟؟؟.
والمنفي بـ (ما) كذلك سيأتي تفصيله، فأما (دام) فحكي الاتفاق عليه؛ لأنه مشروطة بدخول (ما) المصدرية الظرفية، والحرف المصدري لا يعمل ما بعده فيما قبله
كَأعْطِ مَا دُمْتَ مُصِيْبَا دِرْهَمَا، مصيباً ما دمت، هذا ممنوع باتفاق، لا يتقدم خبر ما دام على ما ودام معاً، وهذا محل وفاق، وأما أن يتقدم عليها دون ما فهذا محل نزاع، صوبه الشارح وغيره.
إذاً: فأما دام فحكي الاتفاق عليها لأنها مشروطة بدخول (ما) المصدرية الظرفية، والحرف المصدري لا يعمل ما بعده فيما قبله، ودليل الجواز هو قوله تعالى:((أَهَؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ)) [سبأ:40] وجه الاستدلال ((أَهَؤُلاءِ إِيَّاكُمْ)) [سبأ:40](إِيَّاكُمْ) هذا مفعول ليعبدون، ويَعْبُدُونَ هذا الخبر، قالوا: تقدم معمول الخبر يؤذن بجواز تقدم الخبر نفسه ((أَهَؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ)) (كَانُوا) الواو هذه اسم كان، و (يَعْبُدُونَ) الجملة في محل نصب خبر.
إياكم ما إعرابها؟ هـ مفعول به لقوله: (يعبدون) إذاً تقدم على الفعل معمول الخبر، قالوا: وتقدم معمول الخبر يؤذن ويشير إلى أن الخبر لو تقدم لا بأس به؛ لأنه هو فرع، وإذا تقدم الفرع فالأصل من باب أولى وأحرى، و (أَنْفُسَهُمْ كَانُوا يَظْلِمُون) هذا أوضح، كانوا يظلمون أنفسهم، أَنْفُسَهُمْ ،هذا مفعول به ليظلمون، فتقدم على الفعل، فدل على أنه يجوز أن يتقدم الفعل لتقدم معموله.
وَكُلٌّ أي: كل العرب والنحاة، سَبْقَهُ ،أي: سبق الخبر دام، دام هذا مفعول به لسبق وهو مصدر قصد لفظه ،حَظَرْ، أي: منع، أي أجمعوا على منع خبر دام عليها، وهذا تحته صورتان: الأولى أن يتقدم على (ما)، وهذا محل الإجماع.
والصورة الثانية: أن يفصل بين (ما) و (دام)، هذه محل النزاع وليست داخلة في الإجماع.
وَكُلٌّ سَبْقَهُ دَامَ حَظَرْ، ومنعه الكوفيون في الجميع؛ لأن الخبر فيه ضمير الاسم فلا يتقدم على ما يعود عليه.
إذاً مذهب البصريين جواز تقدم الخبر على الأفعال كلها إلا دام، والكوفيون على المنع لم يجيزوا، بناء على أصلهم السابق وَالْمُفْرَدُ الْجَامِدُ فَارِغٌ، قلنا الكوفيون يرون أن الجامد يتحمل ضميراً يعود إلى المبتدأ، فلو قدمناه هنا لعاد على متأخر لفظاً ورتبة، قالوا: هذا لا يجوز؛ لأنه متحمل للضمير، فمنعوا تقدم الخبر على أفعال هذا الباب، قالوا: لأن الخبر فيه ضمير الاسم، فلا يتقدم على ما يعود عليه.
ومنعه ابن معطٍ في دام قيل: ورد للسماع وللقياس على سائر أخواتها للإجماع.
ومنعه بعضهم فيما ليس تشبيهاً بـ (ما) في (ليس)، وهو محجوج بالسماع الذي ذكرناه سابقاً.
قال: وأشار بقوله: وَكُلٌّ سَبْقَهُ دَامَ حَظَرْ إلى أن كل العرب أو كل النحاة منع سبق خبر دام عليها، وهذا إن أراد به أنهم منعوا تقديم خبر دام على (ما) المتصلة بها نحو: لا أصحبك قائماً ما دام زيد، ما دام زيد قائماً (ما دام زيد قائماً)(قائماً) هو الخبر ليس أصحبك، أصحبك هذا فعل.
وعلى ذلك حمله ولده في شرحه ففيه نظر، والذي يظهر أنه لا يمتنع تقديم خبر دام على دام وحدها، أما الذي يمتنع هو أن يتقدم الخبر على ما ودام معاً، هذا محل الإجماع.
وكلام ابن مالك رحمه الله تعالى:
وَكُلٌّ سَبْقَهُ دَامَ حَظَرْ يشمل الصورتين، يتقدم الخبر على ما ودام معاً، قائماً ما دمت، ما قائماً دمت .. على الصورتين نقل الإجماع، والإجماع مسلم في واحدة دون الأخرى، وهي أنه يمتنع تقدم الخبر على ما ودام، أما الفصل بين ما ودام فهذا محل خلاف.
منعوا تقديمه على دام وحدها، ويتأخر عن ما وفي دعوى الإجماع على منعها نظر؛ لأن المنع معلل بعلتين: أولاً: عدم تصرفها، وهذا كما ذكرناه أنه سمع يدوم، إذاً لا يسلم أنها ليست متصرفة، وهذا معترض، وأيضاً هذا لا ينهض مانعاً بدليل اختلافهم في ليس مع الإجماع على عدم تصرفها.
والأخرى -العلة الثانية-: أن ما موصول حرفي، ولا يوصل بينه وبين صلته، وهذا أيضاً مختلف فيه، والصورة الأولى -أن يتقدم على (ما) - أقرب إلى كلام الناظم، لماذا؟ لأنه سيقول:
كَذَاكَ سَبْقُ خَبَرٍ مَا النَّافِيَهْ، فدل على أن الكلام في تقدم الخبر على (ما) و (دام) نفسها وليس على الفصل، لكن هذا من باب الاستحسان فقط، وإلا ظاهر كلامه أنه يشمل الصورتين: وَكُلٌّ سَبْقَهُ دَامَ حَظَرْ حظر سبق دام مطلقاً سواء تقدم على دام وحدها دون ما أو على ما، لكن ذهب الأشموني إلى أن كلامه ظاهره -بالبيت الذي يليه- أن مراد الناظم أن يتقدم على ما ودام معاً؛ لأنه سيأتي سيقول:
كَذَاكَ سَبْقُ خَبَرٍ مَا النَّافِيَهْ، إذاً كذاك أي: مثل الذي سبق، فدل على أن مراده بما سبق: التقدم على ما وليس على الفصل بين ما ودام، هذا محتمل.
إذاً أراد بهذا البيت أن يبين لنا حكم توسط الخبر بين الفعل واسم كان وأخواتها، وبين أن يتقدم الخبر على كان نفسها، فالأول مجمع عليه مطلقاً بدون استثناء، والثاني محل خلاف، وإن وقع خلاف في ليس ودام في الأول بالتوسط، لكن الصواب أنه يجوز مطلقاً.
ثم قال رحمه الله:
كَذَاكَ سَبْقُ خَبَرٍ مَا النَّافِيَهْ
…
فَجِىءْ بِهَا مَتْلُوَّةً لَا تَالِيَهْ
كَذَاكَ: أي: كما منعوا -أي النحاة أو العرب- وَكُلٌّ سَبْقَهُ دَامَ حَظَرْ، كَذَاكَ، أي: كما منعوا أن يسبق الخبر (مَا) المصدرية كَذَاكَ، منعوا أن يسبق (مَا) النافية.
(مَا) النافية عند البصريين لها الصدارة، حينئذٍ إذا كان لها الصدارة لا يتقدم عليها معمول
…
مدخولها، ما كان زيد قائماً، لا يصح أن يقال: قائماً ما كان زيداً؛ لأن ما هذه لها الصدارة.
وقوله: كَذَاكَ يوهم أن هذا الحكم وهو المنع مجمع عليه كالسابق؛ لأنه شبهه به قال: كَذَاكَ فذاك مجمع عليه وهذا مختلف فيه، حينئذٍ يوهم قوله: كَذَاكَ أن هذا الحكم وهو المنع مجمع عليه؛ لأنه شبهه بالمجمع عليه، وإنما أراد التشبيه في أصل المنع دون وصفه، ممنوع فقط مع خلاف، لكنه هو الصحيح، والأول ممنوع لكنه مجمع عليه، إذاً الصفة أو القدر المشترك هو المنع، أراد التشبيه في أصل المنع دون وصفه، فأما المنفي بـ (ما) غير زال وأخواته، وهو كان وأخواتها؛ لأن ما دخل عليه ما النافية قسمان، منه ما كانت (ما) شرطاً في إعماله وهو زال وأخواته، ومنه ما كان زائداً على أصل اللفظ وهو ما عدا الأربعة: ما كان زيد قائم، ما أصبح عمرو قائماً، ما أمسى زيد قائماً، ما هنا ليست شرطاً في إعمال هذه الأفعال، لكن ما زال، وما دام، وما انفك .. حينئذٍ هل الحكم مستوٍ؟ ظاهر كلام الناظم مستوٍ؛ لأنه قال:
كَذَاكَ سَبْقُ خَبَرٍ مَا النَّافِيَهْ خَبَرٍ بالتنوين الأصل (خَبَرِ مَا النَّافِيَهْ)، حينئذٍ يشمل ما كانت (ما) النافية شرطاً في عمله وما كانت ما النافية قدراً زائداً على مجرد العمل مثل: كان، وأصبح .. وغيرها.
فَجىء بها مَتْلُوَّةً: (بها) الضمير يعود على ما النافية، مَتْلُوَّةً: يعني: متبوعة لا تابعة؛ لأن لها الصدر ولا فرق في ذلك بين أن يكون ما دخلت عليه يشترط في عمله تقدم النفي كزال أو لا ككان، فهو حكم عام.
فلا تقل قائماً ما كان زيد، هذا لا يصح قائماً ما كان زيد، قائماً ما زال عمرو، هذا كله لا يجوز، ولو كان شرطاً في إعماله، ولا قاعداً ما زال عمرو.
قال في شرح الكافية: وكلاهما جائز عند الكوفيين.
يعني هذا الحكم خاص بالبصريين، وأما الكوفيون في النوعين -ما كانت ما شرطاً في إعماله وما لم تكن كذلك- جائز، لماذا؟ لأن ما ليس لها حق الصدارة، فمحل الخلاف هل (ما) له حق الصدارة أم لا؟ فمن قال: لها حق الصدارة منع، ومن لا فلا، وهذا محل الخلاف بين البصريين.
قال في شرح الكافية: وكلاهما جائز عند الكوفيين؛ لأن (ما) عندهم لا يلزم تصديرها.
إذاً نقول: أما المنفي بما غير زال وأخواته ففيه قولان: البصريون على المنع كما ذهب إليه الناظم هنا، والكوفيون على الجواز، ومنشأ الخلاف في أن ما النافية هل لها الصدر -صدر الكلام- أو لا؟ البصريون على الأول والكوفيون على الثاني.
وأما زال وأخواته ففي تقديم الخبر عليها ثلاثة أقوال: الأول: المنع مطلقاً سواء نفيت بما أو بغيرها، والثاني الجواز مطلقاً وعليه الكوفيون؛ لأن (ما) ليس لها عندهم حق الصدارة، والثالث وهو الأصح وعليه البصريون: المنع إن نفيت بـ: ما؛ لأن لها الصدر والجواز إن نفيت بغيرها كلا ولم ولن، حينئذٍ هذه الألفاظ لا يزال ولن يزال، نقول: إذا قيل: لا يزال ولن يزال يجوز تقدم الخبر على الفعل نفسه، وأما إذا قيل: ما يزال، نقول: هنا (ما) لها الصدارة، فلا يجوز التقدم؛ إذاً لا بد من التفصيل.
ولذلك خص الناظم هنا (ما) بالحكم، إذاً إذا نفي زال وأخواته بغير (ما) ليس داخلاً في المسألة معنا، لماذا؟ لأن الحكم معلل هنا، وهو أن سبب المنع هو كون (ما) لها حق الصدارة، إذاً لن ليس لها حق الصدارة (لا) النافية ليس لها حق الصدارة، (إن) النافية ليس لها حق الصدارة .. إذاً لا يمنع ذلك من تقدم الخبر على زال ونحوها، إذاً لا بد من التفصيل.
كَذَاكَ سَبْقُ خَبَرٍ مَا النَّافِيَهْ: يعني إذا وقعت (ما) النافية لفعل فالخبر الذي دخلت عليه، أو دخل عليه ذلك الفعل إن سبق بما النافية حينئذٍ ممنوع كالحكم السابق، لكن في أصل المنع لا في الإجماع.
فَجىء بها مَتْلُوَّةً لَا تَالِيَهْ، ومفهوم كلامه: أنه إذا كان النفي بغير (ما) يجوز التقديم؛ لأنه خص ما النافية، فما عداها لا يلتحق به الحكم.
فتقول: قائماً لم يزل زيد، قائماً هذا خبر مقدم، لم يزل زيد (لم) حرف نفي، هنا نافية وجاز تقدم الخبر عليها لماذا؟ لكون لم ليس لها حق الصدارة في الكلام.
ومنطلقاً لم يكن عمرو، ومنعهما بعضهم وهو الفراء.
قال في شرح الكافية: عند الجميع جائز.
كَذَاكَ سَبْقُ خَبَرٍ مَا النَّافِيَهْ
وَمَنْعُ سَبْقِ خَبَرٍ لَيْسَ اصْطُفِي
…
فَجِيءْ بِهَا مَتْلُوَّةً لَا تَالِيَهْ
......................................
إذاً البيت السابق عرفنا المراد منه: أن الخبر لا يتقدم على الفعل المنفي بـ (ما) سواء كانت ما شرطاً في إعماله أو لا.
مفهومه: أنه إذا سبق بغير ما من الأدوات النفي جاز، ومفهوم كلامه أيضاً جواز تقديم الخبر على الفعل وحده إذا كان النفي بما، بمعنى التوسط بين ما والفعل، ما قائماً كان زيد، هذا من باب الجواز فقط وإلا فيه ركاكة، ما قائماً كان زيد، يجوز؛ لأن المنع أن يتقدم على (ما) وهنا لم يتقدم على ما، وإنما تحايل تقدم على الفعل فحسب، ما قائماً كان زيد. جائز أو لا؟ جائز، هل نأخذه من كلام الناظم؟ نعم يدل عليه؛ لأنه قال: سَبْقُ خَبَرٍ مَا النَّافِيَهْ، أن يتقدم الخبر على ما النافية، فلو تقدم على الفعل ولم يتقدم على (ما) النافية فهو جائز، فالأصل جوازه وعليه الأكثرون توسط الخبر بين (مَا) والمنفي بها نحو: ما قائماً كان زيد، ومنعه بعضهم لأن الفعل مع ما كحبذا، فلا يفصل بينهما، ما كان مثل حبذا، لكن لا، حبذا هذا تركيب مثل بعلبك أو حضرموت، وأما ما كان ليس فيه تركيب، وإنما هو سبق حرف لفعل مثل: لم يكن، هذا ليس مركباً.
ثم قال: وَمَنْعُ سَبْقِ خَبَرٍ لَيْسَ اصْطُفِي
وَمَنْعُ: هذا مبتدأ.
اصْطُفِي: يعني اختير، الجملة خبر المبتدأ، ما الذي اختير؟ مَنْعُ سَبْقِ خَبَرٍ لَيْسَ يعني: لا يتقدم خبر ليس على ماذا؟ على اسمها دونها؟ سبق حكمه في قوله: وَفِي جَمِيعِهَا تَوَسُّطَ الْخَبَرْ أَجِزْ، قلنا: هذا عام، وهنا يتكلم عن الفعل نفسه.
وَمَنْعُ سَبْقِ خَبَرٍ لَيْسَ اصْطُفِي: أي: منع من منع أن يسبق الخبر لَيْسَ اصْطُفِي.
أي منع من منع أن يسبق الخبر ليس اصطفي أي: اختير، وهو رأي الكوفيين، بضعفها بعدم التصرف هي ضعيفة، وشبهها بما النافية، قياساً على فعل التعجب وعسى ونعم وبئس قالوا: هذه غير متصرفة، إذا كان الفعل ليس متصرفاً قالوا: هذا يضعف في التعامل مع معمولاته، إذا كان جامداً حينئذٍ لا يحصل له ما يحصل للمتصرف من حيث تقديم المفعول وتقديم الاسم أو متعلق المفعول أو متعلق الخبر .. إلى غير ذلك، فإذا كان جامداً حينئذٍ يلزم حالة واحدة هذا الأصل.
وهنا ليس أشبهت فعل التعجب، سبق أن (ما) التعجبية مبتدأ لا يجوز تقدم الخبر عليها، حينئذٍ نقول: ليس هنا أشبهت (ما) التعجبية، فعل التعجب، لماذا؟ لأنه لا يجوز أن يتقدم على مبتدئه.
وبعضهم أجاز ونسب إلى الجمهور استدلالاً بقوله تعالى: ((أَلا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفًا عَنْهُمْ)) [هود:8]((لَيْسَ مَصْرُوفًا عَنْهُمْ)) لَيْسَ ،هو، مَصْرُوفًا هذا خبر ليس، تقدم أو تأخر؟ تأخر، نحن نستدل بهذه الآية على تقدم الخبر على ليس، وهنا تأخر قالوا:((يَوْمَ يَأْتِيهِمْ)) يَوْمَ هذا منصوب على ماذا؟ على الظرفية، والعامل فيه مصروفاً وهو الخبر، فتقدم على ليس، وتقدُّم معمول الخبر على الفعل يؤذن بجواز تقدم الفعل نفسه؛ لأنه لو لم يكن جائز أن يتقدم مصروفاً ما جاز أن يتقدم معموله؛ لأن المعنى واحد ارتباط العامل بالمعمول شيء واحد، والمعمول مكمل للعامل، والعامل لا يكمل إلا بمعموله، فإذا تقدم المعمول وهو فرع له وأثره، ومعناه موجود فيه، حينئذٍ يؤذن بجواز تقدم الخبر نفسه، وهذا واضح واستدلال جيد.
أجيب من جهة المانعين بأن يوم هذا ظرف، وأن القاعدة أنهم يتوسعون في الظروف والمجرورات ما لا يتوسعون في غيره، حينئذٍ ألحق بالقاعدة العامة وهو: أن الظروف والمجرورات هذه يتوسع فيها، يتوسع فيها بماذا؟ يعني يتساهل فيها، لا نأتي نطبق الأحكام بالمنع والإيجاب إلى آخره على الظرف والجار؛ لأنه ضعيف، الضعيف لا نقوى عليه إنما نقوى على القوي، فنقول الضعيف هذا لا يعتبر حجة في إثبات الأحكام.
إذاً ((أَلا يَوْمَ)) يَوْمَ نقول هذا معمول مَصْرُوفًا وهو خبر ليس فتقدم على ليس، دل عند الجمهور على جواز تقدم الخبر، أجيب -هذا الاستدلال- بأن يوم ظرف، ويتوسع في الظرف والمجرورات ما لا يتوسع في غيرها.
وَمَنْعُ سَبْقِ خَبَرٍ لَيْسَ اصْطُفِي: (وَمَنْعُ سَبْقِ) مبتدأ هذا منع، وهو مصدر مضاف إلى مفعوله والفاعل محذوف، وسبق هذا مصدر مضاف إلى فاعله وهو خبر، و (لَيْسَ) ما إعرابه؟ قصد لفظه وهو مفعول اصْطُفِي هذه الجملة خبر.
إذاً: يمنع تقدم خبر ليس عليها، اختلف النحويون في جواز تقديم خبر ليس عليها، وذهب الكوفيون والمبرد والزجاج وابن السراج وأكثر المتأخرين ومنهم المصنف إلى المنع؛ لعدم السماع، ولأنه فعل غير متصرف قياساً على نعم وبئس ونحوها ..
وذهب أبو علي الفارسي وابن برهان إلى الجواز فتقول: قائماً ليس زيد، واختلف النقل عن سيبويه، فنسب قوم إليه الجواز وقوم المنع، له قولان، ولم يرد من لسان العرب تقدم خبرها عليها، وإنما ورد من لسانهم ما ظاهره تقدم معمول خبرها عليها كقوله تعالى:((أَلا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ)) إلى آخره.
وبهذا استدل من أجاز تقديم خبره عليها وتقريره أن يوم يأتيهم معمول الخبر، الذي هو مصروفاً، وقد تقدم على ليس.
قال: ولا يتقدم المعمول إلا حيث يتقدم العامل، والجواب ما ذكرناه.
ثم قال: وَذُو تَمَامٍ، ونقف على هذا، والله أعلم وصلى الله وسلم على نبينا محمد
…
!!!