المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌عناصر الدرس * شرح الترجمة (ظن وأخواتها) ـ * عمل هذه الأفعال - شرح ألفية ابن مالك للحازمي - جـ ٤٢

[أحمد بن عمر الحازمي]

فهرس الكتاب

الفصل: ‌ ‌عناصر الدرس * شرح الترجمة (ظن وأخواتها) ـ * عمل هذه الأفعال

‌عناصر الدرس

* شرح الترجمة (ظن وأخواتها) ـ

* عمل هذه الأفعال واقسامها ن حيث المعنى.

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

قال الناظم رحمه الله تعالى: ظَنَّ وَأَخَوَاتُهَا.

هذا هو القسم الثالث مما يعد من النواسخ، وسبق أن الناسخ: هو ما يرفع حكم المبتدأ والخبر، وقلنا: هذا الذي يرفع حكم المبتدأ والخبر، إما أن يرفع المبتدأ والخبر إلى الرفع والنصب وهو (كان) -رفع الأول ونصب الثاني-، وإما العكس؛ نصب الأول ورفع الثاني، وهو باب (إن وأخواتها)، وإما أن ينصب الجزأين وهو المبتدأ والخبر، وهذا هو النوع الثالث، ثم بعض هذه الأبواب له ملحقات أو له مُشَبَّهَات يلحق بها كأفعال المقاربة و (ما) و (لا) و (ليس) و (لا) التي لنفي للجنس هذه بـ (إن)، هذه ملحقات تعتبر هي فروع عن الأصول. أما الذي معنا (ظَنَّ وَأَخَوَاتُهَا) فهو باب أصل بنفسه ينصب المبتدأ على أنه مفعول أول له، والخبر على أنه مفعول ثانٍ له بعد استيفاء فاعلها؛ لأنها أفعال، وكل حدث -كل فعل- لا بد له من محدث، هذا دليله عقلي وهو دلالة لزوم.

وَبَعْدَ فِعْلٍ فَاعلٌ فَإِنْ ظَهَرْ

فَهْوَ وَإلَاّ فََضَمِيرٌ اسْتَتَرْ

ظَنَّ وَأَخَوَاتُهَا، وَأَخَوَاتُهَا أي: نظائرها في العمل، وخص (ظَنَّ) لأن لها أحكاماً تتميز بها عن سائر أفعال الباب، وهذه قاعدة عندهم: أن الشيء إذا امتاز عن أخواته ونظائره بأحكام ينفرد بها عنها حينئذٍ جعل أماً، يعني أصلاً، وما عداه يعتبر فرعاً كأنها حملت عليه، ولذلك لما لم تكن (كاد) -لم يدل الدليل على أنها أصل- حينئذٍ قال: أفعال المقاربة، وأما (كان) قال:(كَانَ وَأَخَوَاتُهَا، إنَّ وأَخَواتِها، ظَنَّ وَأَخَوَاتُهَا) إذاً: هذه أُمَّهات أو أمَّات، وحينئذٍ نقول: هذه ثبتت بالأدلة أن لها أحكاماً تتميز بها عن أخواتها، وأخواتها المراد بها نظائرها في العمل، هذه الأفعال تدخل على الجملة الاسمية -المبتدأ والخبر-، فكل ما دخلت عليه (كان) تدخل عليه هذه الأفعال، وما لا فلا، كل ما دخلت عليه (كان) من المبتدأ فحينئذٍ تدخل عليه هذه الأفعال، وما امتنع هناك يمتنع هنا، وكذلك في باب (إنَّ وأَخَواتِها).

إذاً: قدر مشترك بين هذه الأبواب الثلاثة وهي من نواسخ المبتدأ والخبر أنه ليس كل مبتدأ تدخل عليه هذه النواسخ، بل ثَمَّ شروط وقيود.

إذاً: ما دخلت عليه (كان) تدخل عليه هذه الأفعال وما لا فلا، إلا المبتدأ الذي هو اسم استفهام أو مضاف إليه، قلنا هناك: لا تدخل (كان) على مبتدأ هو اسم استفهام، وهنا يستثنى لماذا؟ لأن الاستفهام له الصدارة، فإذا دخلت (كان) على اسم الاستفهام وجب أن يتقدم على (كان)، و (كان) لا يتقدم عليها اسمها، وأما باب (ظَنَّ وَأَخَوَاتُهَا) تدخل على مبتدأ هو اسم استفهام أو مضاف لاسم الاستفهام، ولا يمنع أن يتقدم المفعول الأول عليها، فلزوال العلة التي في باب (كان) في هذا الباب حينئذٍ جاز أن يدخل (ظن وأخواتها) على الاستفهام المبتدأ.

إذاً: كل ما دخلت عليه (كان) جاز هنا، وما لا فلا، إلا إذا كان المبتدأ اسم استفهام أو مضاف إلى اسم الاستفهام.

ص: 1

فإن هذه الأفعال تدخل عليه، ويقدم عليها، ولا مانع، نحو إذا قلت: ظننتُ أيَّهم أفضلَ، أيَّهم ظننتُ أفضلَ: تقدم عليه ولا إشكال؛ لأنه لا يلتبس، بخلاف باب (كان) فإن اسمها لا يتقدم؛ لأنه مرفوع، وإذا تقدم حينئذٍ التبس بالمبتدأ، وحينئذٍ يمتنع، وأما هنا فحينئذٍ لما كان منصوباً وهو مفعول به، فضلات من حيث الظاهر يجوز تقدمها على عواملها، حينئذٍ جاز أن يدخل ظَنَّ وَأَخَوَاتُهَا على اسم الاستفهام إذا كان مبتدأ، بخلاف (كان) فلا تدخل عليه لعدم تقدم اسمه عليها.

وأما الخبر فيجوز في البابين: أن يكون استفهاماً في باب (كَانَ وَأَخَوَاتُهَا) أو مضافاً إليه، إذ لا مانع من تقديمه في البابين: أين كنت؟ كنت أين؟ أين كنت؟ أين؛ نقول: هذا في محل نصب هو اسم استفهام، لماذا تقدم على (كان)؟ نقول: لأنه خبر، وإذا كان خبراً حينئذٍ له حق الصدارة، وأين ظننت عمراً؟ ظننت عمراً أين؛ هذا الأصل، فتقدم المفعول الثاني وهو الخبر في الأصل على (ظن).

إذاً: إذا كان خبراً -اسم الاستفهام أو المضاف إليه- إذا كان خبراً في البابين باب (كان وظن) يجوز أن يتقدم على (كان وظن).

وأما إذا كان مبتدأً يجوز في باب (ظن) ويمتنع في باب (كان) للعلة التي ذكرناها.

هذا الباب قلنا: يدخل على المبتدأ والخبر، فينصب المبتدأ على أنه مفعول أول، وينصب الثاني على أنه مفعول ثاني. وهل هي خاصة بالمبتدأ والخبر؟ جماهير النحاة على ذلك، وخالف السهيلي وقال: لا، ليس الأمر كذلك؛ لأنه يقال: ظننتُ زيداً عمْراً، وحينئذٍ لا يقال: عمروٌ زيدٌ، إذا كان أصل الجملة مبتدأ وخبر: ظننتُ زيداً عمْراً هل يقال: زيدٌ عمروٌ؟ ظننت زيداً قائماً ماذا نقول؟ زيد قائم، إذاً: دخلت على ما أصله المبتدأ والخبر، زيد قائم، ظننت زيد قائم لا إشكال فيه، لكن في بعض المُثُل قد يكون التقديم فيه نوع صعوبة، مثل: ظننت زيداً عمْراً، زيدٌ عمرو لا يصح إلا على معنى التشبيه قال: وهذه الأفعال لم تدخل على معنى التشبيه، زيد عمرو أي: زيد كعمروٍ صح التركيب، إذاً مبتدأ وخبر، هو ينفي أن تكون هذه الأفعال دخلت على معنى التشبيه، والجواب: أولاً نمنع دخول هذه الأفعال (ظن وأخواتها) على غير المبتدأ والخبر.

ثانياً: نسلم بأن دخول (ظن) على زيداً عمْراً هنا على معنى التشبيه، ولذلك لو قال: ظننتُ زيداً عمْراً ثم أخطأ، الكلام صحيح أو لا؟ صحيح، فيبقى على الأصل، فحينئذٍ أصل التركيب: زيدٌ عمرو، زيدٌ كعمروٍ على معنى التشبيه وهو باق بعد دخول (ظن) فيجاب على ما ذكره السهيلي بهذا.

إذاً: الأصل في دخول هذه الأفعال أن تدخل على المبتدأ والخبر، هل تدخل على غيرهما؟ الجواب: لا، خلافاً للسهيلي.

ص: 2

يُنصب الأول الذي هو المبتدأ على أنه مفعول أول، وهذا محل وفاق، والثاني عند الجماهير على أنه مفعول ثاني، وخالف الفراء؛ فقال: بل ينصب على التشبيه بالحال، فعنده: ظننت زيداً قائماً، ظننت: فعل وفاعل، وزيداً: مفعول به، وقائماً: حال من زيد، أو على التشبيه بالحال، أشبه الحال، لماذا؟ قال: لأنه يقع جملة، فتقول: ظننتُ زيداً يصلي، وقع جملة، ويقع ظرفاً: ظننت زيداً عندك، ويقع جاراً ومجروراً: ظننت زيداً في الدار، وهذا شأن الحال أو شأن المشبه بالحال، رُدَّ بأنه يقع ضميراً: زيد ظننتك هو، والحال لا تقع ضمير؛ رُدَّ بأنه يقع معرفة؛ ظننت زيداً أخاك، والحال لا تقع معرفة، وحينئذٍ لكون الثاني يقع ضميراً يمتنع أن يعرب حالاً ولا على التشبيه بالحال؛ لأن الضمير لا يقع حالاً، هو معرفة لا يخرج عن أصله –التعريف-، والحال لا تكون إلا نكرة، وإذا جاءت معرفة لا بد من تأويلها بالنكرة.

إذاً: الصواب أن الأول -منصوب الأول- مفعول أول، وأن الثاني يعتبر مفعول الثاني، يعني منصوب الثاني يعرب مفعول الثاني خلافاً للفراء في كونه يعرب على التشبيه بالحال والأدلة التي استدل بها فيها ضعف.

(ظَنَّ وَأَخَوَاتُهَا) هذه الأفعال تدخل على المبتدأ والخبر فتنصبهما مفعولين، بعد استيفاء فاعلها، لا بد من هذا، ليست مثل (كان)، (كان) لا تفتقر إلى فاعل، وإنما تفتقر إلى اسم وخبر، ولذلك قيل: إنها ناقصة، وحينئذٍ تفتقر إلى منصوب يكملها، وأما (ظن) فهي فعل ماضي، والأصل فيه التمام وليس كـ (كان)، وكذلك: خالَ وحسِبَ ونحو ذلك، فحينئذٍ لا بد من فاعل ثم بعد ذلك يأتي المبتدأ على أنه مفعول أول والخبر على أنه مفعول ثاني.

إذاً: يشترط في هذه أنها لا تتعدى إلى المبتدأ والخبر فتنصبهما على أنهما مفعولان إلا بعد استيفاء فاعلها، لماذا؟ لأنها أفعال، وكل فاعل لا بد له من محدث كما سيأتي.

وهي نوعان: أفعال القلوب وأفعال تصيير وتحويل، (ظن وأخواتها) نوعان، الذي ينصب مفعولين على نوعين: أفعال قلوب، وسميت أفعال قلوب؛ لأن معانيها قائمة بالقلب، فالظن يقوم بالقلب، والعلم والاعتقاد كل هذه تقوم بالقلب؛ لأن مردها إما العلم وإما الظن، إما ما يدل على اليقين وإما ما يدل على الرجحان.

إذاً: هذه الأفعال كلها مردها إلى هذين النوعين، وهذه قائمة بالقلب، وحينئذٍ سميت أفعال قلوب. وأفعال التصيير هو النوع الثاني.

قال رحمه الله:

انْصِبْ بِفِعْلِ الْقَلْبِ جُزْأَيِ ابْتِداَ

أَعْنِي رَأَى خَالَ عَلِمْتُ وَجَدَا

ظَنَّ حَسِبْتُ وَزَعَمتُ مَعَ عَدْ

حَجَا دَرَى وَجَعَلَ اللَّذْ كَاْعْتَقَدْ

وَهَبْ تَعَلَّمْ وَالَّتِي كَصَيَّرَا

أَيْضَاً بِهَا انْصِبْ مُبْتَدَاً وَخَبَرَا

انْصِبْ: هذا فعل أمر، والأمر يقتضي الوجوب، حينئذٍ إذا وجدت هذه الأفعال بشرطها يتعين نصبها، لكن هل هذا محمول على جميع أحوال (ظن وأخواتها) أم أنه في بعض أحوالها؟ في بعض أحوالها، لماذا؟ لأن أحوال وأحكام (ظن وأخواتها) ثلاثة: الإعمال والإلغاء والتعليق.

وَجَوِّزِ الإِلْغَاءَ لَا فِي الابْتِدَا

ص: 3

حينئذٍ الإعمال هو الأصل، وهذا مشروط في الوجوب -بوجوب الإعمال- إذا تقدم الفعل على معموليه، ظننت زيداً قائماً، عند البصريين يجب النصب هنا، هذا واجب، لا يجوز الإهمال إلا على مذهب الكوفيين. ظننت زيداً قائماً، ظننت: فعل وفاعل، وزيداً: مفعول أول، وقائم: مفعول ثاني. ما حكم الإعمال هنا؟ واجب، وسيأتي:

وَجَوِّزِ الإِلْغَاءَ لَا فِي الاِبْتِدَا

جَوِّزِ الإِلْغَاءَ لَا فِي الابْتِدَا: في ابتداء الكلمة لا، في ابتداء الجملة لا، إذا جاء العامل في أول الجملة تعين النصب.

وأما إذا توسط أو تأخر فحينئذٍ الإعمال جائز والنصب جائز، زيداً ظننت قائماً، زيداً قائماً ظننت؛ النصب هنا واجب أم جائز؟ جائز ليس بواجب.

إذاً قوله: انْصِبْ؛ يحمل على الوجوب فيما إذا تقدمت الأفعال، وعلى الجواز فيما إذا توسطت أو تأخرت، وحينئذٍ استعمل (افعل) في معنيين: الوجوب والجواز، الإباحة يعني، مع الاختلاف في الترجيح فيما إذا توسطت أو تأخرت، كما سيأتي؛ المراد أن قوله: انْصِبْ؛ ليس مطلقاً، بل لا بد من تقييده أو التفصيل، إما أن يقال بأنه يجب النصب إذا تقدم وهذا خاص بها، وإما أن يقال: بأن (انْصِبْ) ليس على ظاهره وهو وجوب النصب، بل يشمل ما وجب النصب وذلك إذا تقدمت الأفعال على معموليها، وأما إذا توسطت أو تأخرت فيجوز، -فالنصب جائز-، زيداً ظننت قائماً جائز وليس بواجب.

انْصِبْ وجوباً وجوازاً -هكذا نقدره- انْصِبْ وجوباً وجوازاً بِفِعْلِ الْقَلْبِ: يعني: بالفعل الذي هو حدث وقائم بالقلب.

انْصِبْ بِفِعْلِ الْقَلْبِ، فالعامل هو عين الفعل.

جُزْأَي ابْتِداَ أي: جزأي جملة ذات ابتداء، يعني: كأن الجزأين مبتدآن، نقول: ليس هذا المراد، جُزْأَي ابْتِداَ على تقدير ماذا؟ أي: جزأي جملة ذات ابتداء، والجملة التي تكون ذات ابتداء هي الجملة الاسمية.

إذاً: انْصِبْ بِفِعْلِ الْقَلْبِ: بفعل: جار ومجرور متعلق بقوله: انْصِبْ.

جُزْأَي: هذا مفعول به، وهو مضاف وابتدا مضاف إليه. ما المراد بجزأي الابتداء؟ جزأي جملة ذات ابتداء يعني: ذات مبتدأ، وحينئذٍ يرى الناظم خلافاً للسهيلي أن هذه الأفعال خاصة بالمبتدأ والخبر، وأن ما كان ظاهره أنه ليس مبتدأ وخبراً نحو: ظننت زيداً عمْراً حينئذٍ يؤول على ما ذكرناه سابقاً.

جُزْأَي ابْتِداَ قال: أعْنِي: أتى بالعناية، والعناية إنما يؤتى بها إذا كان ثَمَّ إيهام أو إبهام أو عموم أو إطلاق، وليس الأمر كذلك على إطلاقه، أو ليس الأمر على عمومه، وحينئذٍ نحتاج إلى التفصيل، لو قال: أعْنِي؛ لأن قوله: فِعْلِ الْقَلْبِ نقول: أفعال القلوب ليست كلها تنصب مفعولين، بل بعضها ما هو لازم، حزن زيد، حزن، الحزن مقامه في القلب، معنىً قائم بالقلب، وبعضها يتعدى إلى مفعول واحد؛ عرفت زيداً –معرفة-، فهمت المسألة، فهم هذا محله القلب وهو فعل قلبي، هل يتعدى إلى مفعولين؟ الجواب: لا، وكذلك: عرف، وكذلك بعضها لازم ولا يتعدى، نحو: حزن وجبن، فلذلك قال: أعْنِي.

ص: 4

إذاً: يريد أن يخرج بعض الأفعال التي لا تنصب المفعولين، أو أراد أن يخصص قوله: بِفِعْلِ الْقَلْبِ وهو لفظ عام أراد أن يخصصه بما ينصب المفعولين، وأما ما لا ينصب إلا مفعولاً واحداً كعرف وفهم فليس داخلاً في الباب، وما كان لازماً كجبن وحزن ليس داخلاً في الباب، ولذلك قال: أعْنِي.

رَأَى خَالَ عَلِمْتُ وَجَدَا

رأَى؛ وما بعدها كلها معطوفات عليها بحذف الواو، وهذا جائز قلنا في الشعر اتفاقاً، يعني: يسقط حرف العطف.

رأَى خَالَ عَلِمْتُ: (رأى وخال وعلمت ووجد وظن وحسبت وزعمت)، هذه كلها معطوفات على رأى، ورأى ما إعرابها؟ مفعول به قصد لفظه، هي فعل كيف وقعت مفعولاً به والمفعول به من علامات الأسماء؟ نقول:(رأى) قصد لفظه وصار علماً، وحينئذٍ تسلط عليه العامل وهو (أعني).

و (خال وعلمت ووجد وظن وحسبت وزعمت) كلها معطوفات في محل نصب على رأى.

مَعَ عَدْ: هذا حال من فاعل أعني، مَعَ: ظرفاً متعلقاً بمحذوف منصوب على أنه حال من فاعل أعني.

مَعَ عَدْ: عدَّ، وحجا ودرى وجعل، حجا ودرى وجعل هل هي معطوفات على رأى؟ لا، مَعَ عَدْ، (عد وحجا ومع حج ومع درى ومع .. إذاً معطوف على الأخير، لو لم يأت بـ (مع) حينئذٍ صار العطف على (رأى)، وأما لما فصل الكلام حينئذٍ نقول: معطوف على المتأخر، وحينئذٍ:(خَالَ عَلِمْتُ) في محل نصب، و (حَجَا ودَرَى وَجَعَلَ وَهَبْ وتَعَلَّمْ) في محل جر، قصد لفظه فهو في محل جر.

قال:

وَجَعَلَ اللَّذْ كَاْعْتَقَدْ

وَجَعَلَ اللَّذْ: اللَّذْ ما هذا؟

حذف الياء ضرورة للوزن.

نقول: لغة ولا نقول: حذف الياء للضرورة.

وَجَعَلَ اللَّذْ: قلنا: فيها لغات، منها هذا اللفظ اللَّذْ بإسكان الذال وحذف الياء.

وَجَعَلَ اللَّذْ كَاْعْتَقَدْ

كَاْعْتَقَدْ: جار ومجرور متعلق بمحذوف استقر؛ لأن اللَّذْ اسم موصول يحتاج إلى صلة، وصلة الموصول فعل، وحينئذٍ استقر كَاْعْتَقَدْ.

احترز بهذا -قيد هذا اللفظ- لأنَّ (جعل) تأتي بمعنى الشروع، فعل الشروع الذي سبق معنا في باب أفعال المقاربة، وتلك ماذا تعمل؟ ترفع المبتدأ وتنصب الخبر، وهنا تنصب المبتدأ والخبر؛ لأنها بمعنى اعتقد، والاعتقاد هذا فعل قلبي.

وَهَبْ: هذا معطوف على عَدْ وتَعَلَّمْ بإسقاط حرف العطف.

ثم:

...... وَالَّتِي كَصَيَّرا

أَيْضَاً بِهَا انْصِبْ مُبْتَدَاً وَخَبَرَا

وَالَّتِي: هذا مبتدأ.

كَصَيَّرا: ماذا يعني صَيَّرا؟ وَالَّتِي كَصَيَّرا؛ أين جملة الصلة؟ - عَلَى ضَمِيرٍ لائِقٍ مُشْتَمِلَهْ -، التي استقرت، استقرت بالتاء، لماذا؟ لأنه يشترط في الضمير أن يكون مطابقاً لما سبق –للموصول-.

وَالَّتِي كَصَيَّرا: بِهَا، انصب بها.

انْصِبْ: هذه الجملة وقعت خبر، وهي جملة طلبية، وحينئذٍ يرد أن الناظم يرى جواز وقوع الجملة الطلبية خبراً عن المبتدأ، وهو الصحيح كما عليه الجمهور.

وَالَّتِي كَصَيَّرا: يعني تدل على التحويل، انْصِبْ بِهَا: بها جار ومجرور متعلق بقوله: انْصِبْ، وهو خبر والمبتدأ الجملة، أيْضاً: آض يئيض أيضاً مفعول مطلق، والعامل فيه محذوف وجوباً.

انْصِبْ مُبْتَداً: مفعول به.

وَخَبَرَا: معطوف عليه.

انْصِبْ مُبْتَداً وَخَبَرَا: بعد استيفاء فاعلها ..

ص: 5

إذاً: قسَّم لنا الناظم رحمه الله تعالى باب (ظَنَّ وَأَخَوَاتُهَا) إلى نوعين اثنين رئيسين وهما: أفعال القلوب وأشار إليها بقوله: أعْنِي رَأَى وما بعده، وأفعال التصيير وأشار إليها بقوله: وَالَّتِي كَصَيَّرا .. إلى آخره، ولكنه عدد بعض أفعال القلوب وأجمل أفعال التصيير؛ لأن الأول أكثر من الثاني.

إذاً: ينقسم باب (ظَنَّ وَأَخَوَاتُهَا) إلى قسمين، أحدهما: أفعال القلوب، والثاني: أفعال التحويل.

فأما أفعال القلوب فتنقسم إلى قسمين –جملة-، وسيأتي أنها أربعة أقسام.

ما يدل على اليقين، وذكر المصنف منها خمسة وهو:(رأى وعلم ووجد ودرى وتعلم)، هذه تدل على اليقين، وهو أمر اعتقادي، يعني: لا يقبل الشك.

والثاني منهما: ما يدل على الرجحان، يعني: جواز أمرين أحدهما أظهر من الآخر، فيستعمل في الراجح دون المرجوح مع جواز المرجوح.

إذاً: الاعتقاد ليس فيه رجحان، وأما الرجحان ففيه جواز أمرين أحدهما أرجح من الثاني، وهو شأن الظن لكن بالمعنى الفقهي لا بالمعنى الأصولي، ما الفرق بينهما؟ الظن عند الأصوليين مغاير للظن عند الفقهاء ما الفرق؟ أيهما أعم؟ عند الفقهاء أعم يشمل الشك عند الأصوليين.

إذاً: عند الفقهاء الشك المراد به الظن، "فإن شك في طهارة ماء أو نجاسته" هذا يشمل الظن والشك، فهما سيان؛ وأما عند الأصوليين فلا، الظن ترجيح أحد الأمرين، وأما الشك فهو التجويز مع المساواة، فهما متغايران، فثَمَّ فرق بين الاصطلاحين.

وذكر منها ما يدل على الرجحان ثمانية: "خال وظن وحسب وزعم وعدَّ وحجا وجعل وهب"، نذكرها على ما ذكرها ابن عقيل رحمه الله تعالى مع الأمثلة، تابعوا معنا.

فمثال رأى قول الشاعر: -رأى تأتي بمعنى علم وهو الكثير، هذا هو الأصل فيها أنها تأتي بمعنى علم، فهي دالة على اليقين، اعتقاد جازم في القلب، قال تعالى:((إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا (6) وَنَرَاهُ قَرِيبًا)) [المعارج: 6،7] نَرَاهُ قَرِيبًا يعني: نعلمه قريباً، فحينئذٍ جاء ترأى بمعنى علم، قال الشاعر:

رَأَيْتُ اللهَ أَكْبَرَ كُلِّ شَيْءٍ

مُحَاوَلَةً وَأَكْثَرَهُمْ جُنُودَا

رَأَيْتُ أي: اعتقدت الله، اعتقدت: فعل وفاعل، لفظ الجلالة منصوب على أنه مفعول أول، أَكْبَرَ: مفعول ثاني وهو مضاف، وكُلِّ شَيْءٍ: مضاف إليه، حينئذٍ نقول: رأى هنا جاءت بمعنى علم وهو يقين، واستوفت فاعلها وهو التاء، ونصبت المبتدأ على أنه مفعول أول لها وهو لفظ الجلالة، ونصبت الخبر وهو أكبر على أنه مفعول ثاني لها، وهي دلت على اليقين.

إذاً: استعمل رأى فيه لليقين، وقد تأتي بمعنى الظن. إذاً: صارت مشتركة بين النوعين، نحن نقول: أفعال اليقين وأفعال الرجحان، (رَأَى) مشتركة إلا أن الغالب فيها أنها لليقين، وغير الغالب أن تكون بمعنى الظن. ((إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا)) [المعارج:6] يعني: يظنونه بعيداً، و (نَرَاهُ) التي بعدها تكون بمعنى اليقين.

((إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا)) أي: يظنونه، وقال بعضهم: يعتقدونه، لكن الشاهد فيه في القول الأول.

ص: 6

إذاً: (رأى) تأتي بمعنى الظن وتأتي بمعنى اليقين، وسيأتي: وَلِرَأى الرُّؤيا انْمِ مَا لِعَلِمَا، رأى الحُلْمية أو الحُلُمية هذه أيضاً تتعدى إلى مفعولين، وحينئذٍ رأى تتعدى إلى مفعولين إذا كانت علمية بمعنى الاعتقاد، وإذا كانت ظنية، وإذا كانت حلْمية أو حلُمية يجوز الوجهان، حينئذٍ تتعدى إلى مفعولين واللفظ واحد بهذه المعاني.

وأما إذا جاءت بمعنى أبصر، رأيت زيداً تتعدى إلى واحد، رأيت زيداً؛ هذه بصرية، فإذا قلت: رأيت زيداً فعل وفاعل، وزيداً: مفعول به، رأيت زيداً في الدار وهي بصرية، رأيت زيداً قائماً، يصح أو لا يصح؟ بصرية، رأيت زيداً قائماً، قائماً ما إعرابه؟ حال من زيد، أو أنا، رأيته قائماً حال لي أنا من التاء يجوز، هذا محتمل، وحينئذٍ رأى البصرية تتعدى إلى واحد، فإن وجد بعدها منصوب فهو على الحال، إما من المفعول وإما من الفاعل.

وتأتي بمعنى اعتقد: رأى أبو حنيفة حِلَّ كذا، رأى أبو حنيفة حِلَّ النبيذ مثلاً، رأى أبو حنيفة: هذا فاعل، حل النبيذ: هذا مفعول –واحد-، إذاً: تعدت إلى مفعول واحد، وهذه رأى بمعنى اعتقد، يعني: اعتقد أبو حنيفة حل النبيذ، هذه رأى بهذا المعنى قد تتعدى إلى اثنين وقد تتعدى إلى واحد، واحد بالمثال الذي ذكرناه، وقد يتعدى إلى اثنين كما إذا قلت: رأى أبو حنيفة النبيذ حلالاً، النبيذ: مفعول أول، وحلالاً: مفعول ثاني.

يظهر من هذا والله أعلم أن الأولى فرع الثانية؛ لأن حل كذا هذا هو مصدر المفعول الثاني مضاف إلى الأول، صحيح -حل كذا-؟ إذا قيل: رأى أبو حنيفة حل النبيذ قلنا: هذه تعدت إلى مفعول، حل: هو المفعول –مضاف-، والنبيذ: مضاف إليه، لو نظرت إليها وهي متعدية: رأى أبو حنيفة النبيذ حلالاً؛ ما خرجت الجملة عنها، فحينئذٍ صارت تركيب أو اختصار في الجملة التي تعدت إلى واحد بالإتيان بمصدر الثاني المفعول الثاني وإضافته إلى المفعول الأول، رأى أبو حنيفة حل النبيذ ولا إشكال فيه، وحينئذٍ هذه تتعدى إلى مفعول واحد وتتعدى إلى مفعولين، ولو قيل: بأن الأصل أنها تتعدى إلى مفعولين ثم قد يختصر هذا لا إشكال فيه.

وتأتي بمعنى: أصبت رئته، رأيت زيداً إذا ضربته على رئته، رأيت زيداً هذا توري بها، رأيت زيد؟ لا، ما رأيت زيد، ما رأيت زيداً، هو يظن أنك ما رأيته بالبصر وأنت تعني به ماذا؟ ما رأيته يعني: ما ضربته، إذاً: هذا معنىً كذلك يضاف إلى ما سبق، وهذه تتعدى إلى مفعول واحد رأيت زيداً.

هذه معاني رَأَى، منها ما يتعدى إلى مفعولين، ومنها ما يتعدى إلى مفعول واحد، وما يتعدى إلى مفعولين بعضه يدل على اليقين، وبعضه يدل على الرجحان، وبعضه ما هو خارج عنهما.

عَلِمَ؛ الأصل فيها أنها بمعنى اليقين، علمت زيداً أخاك، يعني: تيقنت أن زيداً أخاك. ((عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتَانُونَ أَنفُسَكُمْ)) [البقرة:187] عَلِمَ اللَّهُ: هذا يقين.

عَلِمْتُكَ الْبَاذِلَ الْمَعْرُوفَِ فَانْبَعَثَتْ

إِلَيْكَ بِي وَاجِفَاتُ الشَّوْقِ وَالأَ مَلِ

عَلِمْتُكَ الْبَاذِلَ، عَلِمْتُكَ: فعل وفاعل ومفعول أول، عَلِمْتُكَ بمعنى: تيقنتك، الْبَاذِلَ: هذا مفعول ثاني.

ص: 7

وتأتي علم بمعنى ظن وهو قليل، ويمثل له النحاة بقوله تعالى:((فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ)) [الممتحنة:10] لأن اليقين هنا بالحكم بالإيمان على الشخص -يقيناً- هذا ليس إليه، وإنما هو بالظاهر؛ لأن الإيمان مركب -اعتقاد وقول وعمل-، كلها أركان، العمل الظاهر ركن والقول ركن والاعتقاد ركن، إذا ظهر ركن أو ركنان وبقي الثالث قد يوجد وقد لا يوجد، فإذا ظهر الإيمان حينئذٍ يكون الشيء الظاهر مع عدم العلم بالباطن يكون رجحاناً وليس بيقين، وحينئذٍ:((فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ)) [الممتحنة:10] فعبر هنا بالعلم؛ لأن الشأن في الإنسان بالحكم على الناس في الظاهر، إن أظهروا الإيمان حكمنا عليهم بالإيمان، وإن أظهروا ما يناقض الإيمان دل على أن الباطل منتف حينئذٍ حكمنا عليه، إن لم يظهر شيء ينافي الظاهر حينئذٍ صار كأنه علم نجزم به، ولذلك انتقي الفعل علم في هذا الموضع للدلالة على ما ذكرنا.

((فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ)) [الممتحنة:10] وإلا الأصل أنه رجحان؛ لأنه لا يقطع بإيمان الشخص.

فإن كانت من قولهم: علم الرجل إذا انشقت شفته العليا فهو أعلم؛ فهي لازمة. وسيأتي معنا: لِعِلْمِ عِرْفَانٍ، علم تأتي بمعنى عرف.

إذاً: علم تأتي بمعنى اليقين، وتأتي بمعنى الظن، وتأتي بمعنى أعلم، يعني: إذا شقت شفته العليا، وتأتي بمعنى عرف.

وَجَدْ: ((وَإِنْ وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ)) [الأعراف:102] وجد تأتي بمعنى علم، بمعنى اليقين. ((وَإِنْ وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ)) [الأعراف:102] إن ما إعرابها؟ مخففة من الثقيلة، أين اسمها؟ محذوف ضمير الشأن.

وَخُفِّفَتْ إِنَّ فَقَلَّ الْعَمَلُ

وَتَلْزَمُ اللَاّمُ إِذَا مَا تُهْمَلُ

وَجَدْنَا: هذا فعل ناسخ.

وَالْفِعْلُ إِنْ لَمْ يَكُ نَاسِخاً فَلَا

تُلْفِيهِ غَالِبَاً بِإِنْ ذِي مُوصَلَا

وهذا مثلها.

((وَإِنْ وَجَدْنَا)) إن: مخففة، لا.

وَخُفِّفَتْ إِنَّ فَقَلَّ الْعَمَلُ

وَتَلْزَمُ اللَاّمُ إِذَا مَا تُهْمَلُ

((وَإِنْ وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ)) هذه عاملة أو مهملة؟ مهملة.

ما الدليل على أنها مهملة؟

وَتَلْزَمُ الَّلامُ إذَا مَا تُهْمَلُ ((وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ)) الـ (نا) هنا فاعل، والفعل في وجدنا هذا ما إعرابه؟ فعل ماضي مبني على السكون، أَكْثَرَهُمْ: هذا مفعول أول، لَفَاسِقِينَ: هذا مفعول ثاني.

وجد هذه الأصل تأتي بمعنى علم، وتأتي بمعنى أصاب: وجدت الضالة أصبتها، حينئذٍ تتعدى إلى واحد، ومصدرهما قيل: الوجود والوجدان، يعني الاثنين هكذا قيل، وقيل: مصدر وجدنا بمعنى: علم الوجود، فإن كانت بمعنى أصاب هذه تعدت إلى واحد ومصدرها الوجدان، وقيل: الوجود، كما قيل: الوجدان مع الوجود، إذاً: فيه خلاف.

دَرَى تأتي بمعنى عَلِمَ.

دُرِيتَ الوَفِيَّ العَهْدُ يا عُرْوَ فَاغْتَبِطْ

فإنَّ اغْتِبَاطَاً بالوَفَاءِ حَمِيدُ

دُرِيتَ الوَفِيَّ، دريت دَرَى دُرِي، حينئذٍ بني وغيرت صيغته، فارتفع المفعول الأول على أنه نائب فاعل وهو التاء، فالتاء هذه نائب فاعل والأصل فيها أنها مفعول أول، هي مفعول درى الأول، والوَفِيَّ: هذا منصوب على أنه مفعول ثاني.

ص: 8

إذاً: درى تأتي بمعنى علم، والقليل في درى أن تنصب مفعولين، هذا قليل فيها، والأكثر فيها أن يتعدى إلى واحد بالباء، دريت بكذا، علمت بكذا، دريت بكذا. فإن دخلت عليه همزة النقل تعدى بها إلى واحد بنفسه والآخر بالباء. ((وَلا أَدْرَاكُمْ بِهِ)) [يونس:16] أَدْرَاكُمْ الكاف هذا مفعول أول، وبِهِ الهاء: مفعول ثاني، إذا دخلت الهمزة -همزة النقل التعدية- على درى عدته إلى اثنين: الأول بنفسه والأول بحرف الجر وهو الباء، وتكون بمعنى: ختل، أي: خدع، وحينئذٍ تعد إلى واحد، "دَرَيْتُ الصيْدَ" أي: ختلته، إذاً: درى من أفعال اليقين وهي بمعنى علم وقد تخرج عنه.

تَعَلّمْ؛ هكذا ملازم للأمر، بمعنى: اعلم.

تَعَلّمْ شِفَاءَ النَّفْسِ قَهْرَ عَدُوِّهَا

فَبَالِغْ بِلُطْفٍ فِي التَّحَيُّلِ وَالْمَكْرِ

تَعَلّمْ أنت يعني فعل أمر بمعنى اعلم، كأنه قال: اعلم، تعلم والفاعل ضمير مستتر وجوباً تقديره أنت.

شِفَاءَ النَّفْسِ، شِفَاءَ: هذا مفعول أول، وقهر عدوها: هذا مفعول ثاني.

والكثير في تعلم -التي بمعنى اعلم- الكثير استعمالها بـ (أنَّ) وصلتها، يعني يكون بعدها (أنَّ) المشددة مع صلتها وهو الجملة الاسمية.

تَعَلّمْ رَسُول اللهِ أنَّكَ مُدْرِكي

وما ذكره: - تَعَلّمْ شِفَاءَ النَّفْسِ قَهْرَ عَدُوِّهَا - هذا قليل، يعني القليل أن تتعدى بنفسها دون (أن) وصلتها، وهنا نصبت مفردين: شفاء وقهراً، وهذا قليل، والأكثر إذا تعدت إلى مفعولين أنها تتعدى بـ (أن) وما وراءها.

تعَلَّمْ أَنهُ لَا طيْرَ إِلَاّ

عَلَى متَطيِّر وَهو الثّبورُ

تعلَّمْ أنّ خَيرَ الناسِ طُرّاً

قَتِيلٌ بين أَحجارِ الكُلَابِ

تعلَّمْ أنّ، إذاً تتعدى بـ (أن)، والمراد بـ: تعلَّمْ هنا: اعلم، فحينئذٍ إذا كانت بمعنى تعلم الحساب تعدت إلى واحد، ما الفرق بين تَعَلّمْ شِفَاءَ النَّفْسِ قَهْرَ عَدُوِّهَا وبين: تَعَلَّم الحساب وتَعَلَّم الفقه وتَعَلَّم النحو ونحو ذلك؟ فرق من جهتين:

أولاً: تلك تتعدى إلى مفعولين، وهذه تتعدى إلى واحد؛ ثم المراد بالعلم في تَعَلَّم النحو والفقه المراد به تحصيله، فهو شيء يوجد بعد وجود أسبابه، فهو خارج عن اللفظ، وأما: تَعَلّمْ شِفَاءَ النَّفْسِ قَهْرَ عَدُوِّهَا فالمعلوم المأمور به هو ما عُلِّقَ عليه في الجملة، تعلم أنك ناجح، اعلم أنك ناجح، فحينئذٍ هل يحتاج إلى تحصيل؟ تعلم اعلم أنك ناجح، نقول: المراد علمه المأمور به هو ما عُلِّقَ عليه في الجملة فحسب، ليس شيئاً خارجاً عن الجملة بخلاف تَعَلَّم الفقه هذا يحتاج إلى سنين، أما تَعَلَّم أنك ناجح منذ أن تسمعه تعرف المعلوم المأمور به فلا إشكال.

وهذه الأفعال الدالة على اليقين -كما سبق-.

وأما الدالة على الرجحان فأشهرها: خلت زيداً أخاك، فالأصل أن نقدم (ظن) لكنه قدم خال، خَالَ هذه تستعمل في الدلالة على الظن، بمعنى ظن، خلت زيداً أخاك، خلت: فعل وفاعل، وزيداً: مفعول أول، وأخاك: مفعول ثاني، وقد تأتي لليقين، يعني: تدل على اليقين، الأشهر فيها أنها بمعنى (ظن)، وقد تستعمل على قلة بمعنى اليقين.

دَعَانِي الْغَوَانِي عَمَّهُنَّ وَخِلْتُنِي

لِيَ اسْمٌ

ص: 9

خِلْتُنِي لِيَ اسْمٌ يقين أو ظن؟ يقين، لماذا؟ لأنه يعرف اسمه هو، فتعرف أنك خالد،

هذا علم اليقين هذا يسمى، بخلاف العلم الحضوري.

دَعَانِي الْغَوَانِي عَمَّهُنَّ وَخِلْتُنِي

خِلْتُنِي: فعل وفاعل ومفعول، الفعل خِل، تُ: فاعل، نِي: نون الوقاية، والياء: مفعول به -لا ينطق به هكذا لكن للتوضيح-.

وخِلْتُنِي: هنا فيه من خصائص أفعال القلوب أن ضميرين اتصلا –متصلين- بفعل واحد والمرجع واحد، خلت يصدق على المتكلم. ني: من؟ هو نفسه. إذاً: ضميران مرجعهما واحد، هذا لا يجوز أصلاً، لكن يستثنى أفعال القلوب فيجوز اتحاد المعنى والضميرين، هما متصلان، ضميران متصلان، هذا جائز يستثنى.

إذاً: فعل وفاعل والنون للوقاية والياء مفعول أول، وفيه اتحاد الفاعل والمفعول، ضرب زيد عمْراً، لو قلت: ضرب زيداً زيداً لا يصح هذا، الفاعل والمفعول واحد لا يصح، وإنما هنا: خلتني؛ الفاعل والمفعول واحد وهما ضميران متصلان لمسمىً واحد وهو المتكلم، وهذا من خصائص أفعال القلوب.

إذاً: (خَالَ) تأتي بمعنى اليقين، والأصل فيها أنها بمعنى الظن.

وتأتي بمعنى علم وهو قليل، فإن كانت بمعنى تكبر أو ضلع فهي لازمة.

و (ظن) وهذه هي الأصل وهي أم الباب، (ظن) بمعنى الرجحان، ظننت زيداً صاحبك يعني: ترجح عندي صحبة زيد لك، وهو إدراك الراجح.

وقد تستعمل لليقين وهو قليل، ((وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ)) [التوبة:118] اعتقدوا يقين هذا (أَنْ لا مَلْجَأَ مِنْ اللَّهِ إِلَاّ إِلَيْهِ)، (وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ)، ظَنُّوا بمعنى اليقين؛ لأن هذه الأمور لا يكفي فيها الظن، لا يجزي، لا بد من اليقين.

إذاً: (ظن) الأصل فيها أنها للرجحان، وتأتي بمعنى اليقين. وسيأتي معنا:

لِعِلْمِ عِرْفَانٍ وَظَنِّ تُهَمَهْ ظننت زيداً يعني: اتهمته.

وحَسِبَ والأصل فيها للرجحان، حسبت زيداً صاحبك، حسبت: فعل وفاعل، وزيداً: مفعول به، وصاحبك: مفعول ثاني، وحسب يحسَب يحسِب -فيه وجهان-، وَجْهَانِ فِيهِ مِنِ (احْسَِبْ)، -كذا قال ابن مالك-.

حسِب يحسِب يحسَب، القياس: يحسَب، وحسِب بمعنى: ظننت ((يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ)) [البقرة:273]، ((وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ)) [الكهف:18] وفي مضارعها لغتان: فتح السين وهو القياس؛ لأن الأصل المخالفة بين حركة العينين: الماضي والمضارع. فعِل القياس، فعَل فعُل، فعِل القياس، فعَل، يفعَل، يفعِل، فعَل القياس يفعُل يفعِل هذا القياس، هذا الأصل.

وكسرها وهو الأكثر في الاستعمال ومصدرها الحسبان بكسر الحاء والمحسبة.

وقد تستعمل لليقين، حسب بمعنى اليقين:

حَسِبْتُ التُّقى والجُودَ خَيْرَ تِجَارَةٍ

رِباحاً إذا ما المَرْءُ أصْبَحَ ثَاقِلاً

حَسِبْتُ التُّقى والجُودَ، حَسِبْتُ: فعل وفاعل، والتُّقى: هذا مفعول أول، والجُودَ: معطوف عليه، خَيْرَ تِجَارَةٍ -هذا يقين أو لا-؟ التجارة الزاد للدار الآخرة ما هو اليقين أو الأسهم؟ اليقين، التقوى أم الأسهم؟ التقوى. وحينئذٍ نقول: هذه خير تجارة، ولا مانع إذا كانت الأسهم مباحة ما في بأس، تعين.

ص: 10

ومثال زَعَمَ: فَإِنْ تَزْعُمِينِي، إذاً: زعم تأتي للرجحان مثل: ظن، ومصدرها الزعم بتثليث الزاي، زعْم زِعْم زُعْم، هكذا في القاموس بتثليث الزاي. ومعناه قال السيرافي: هو قول مقرون باعتقاد صح أم لا. إذاً: هو قول، ثم يكون مصاحباً لاعتقاد، والاعتقاد قسمان: صحيح وفاسد، كلاهما يطلق عليه الزعم، زعم رسولك كذا، هذا حق.

وقال الجرحاني: هو قول مع علم.

وقال ابن الأنباري: إنه يستعمل في القول من غير صحته، وهذا الأكثر والأشهر، إذا كان القول ليس بصحيح أو ضعيف أو يدعى صحته وليس الأمر كذلك يعبر عنه بالزعم، زعم فلان كذا وزعم كذا، ويؤيده أو يقويه قولهم: زَعَمُوا مَطِيَّةٌ الْكذِبِ، أي: هذه اللفظة مركب الكذب.

قال الشاعر:

فَإِنْ تَزْعُمِينِي كُنْتُ أَجْهلُ فِيكُمُ

فَإِنِّي شَرَيْتُ الْحِلْمَ بَعْدَكِ بِا الْجَهْلِ

فَإِنْ تَزْعُمِينِي: هذا فعل مضارع من زعم، فيه أن هذه الأفعال تعمل سواء كانت بصيغة الماضي أو بصيغة المضارع.

وَلِغَيْرِ الْمَاضِ مِنْ

سِوَاهُمَا اجْعَلْ كُلَّ مَالَهُ زُكِنْ

إذاً: العمل ليس خاصاً بالماضي، وهذا دليل عليه كما سيأتي.

فَإِنْ تَزْعُمِينِي: أين المفعول الأول؟ الياء تَزْعُمِينِي أنا.

كُنْتُ أَجْهلُ: الجملة في محل نصب مفعول ثاني، وزعم الأكثر فيها أنها تتعدى بـ (أن) مخففة أو مثقلة، قال الشاعر:

وَقَدْ زَعَمْت أَنِّي تَغَيَّرْتُ بَعْدَهَا

وَمَنْ ذَا الَّذِي يَاعَزَّ لا يَتَغَيَّرُ

وَقَدْ زَعَمْت أَنِّي: (أنَّ) هنا واجبة الفتح أم جائز؟ واجب، لماذا؟

لأنها سدت مسد مفعولي زعم. ((زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا)) [التغابن:7](أن) هذه مخففة من الثقيلة؛ لأنه باطراد أن (زعم) يليها (أن) مثقلة أو مخففة، هذا هو الكثير، وقليل أن يليها المفرد مثل ما ذكره زَعَمَتْنِى شَيْخاً، زَعَمَتْنِى الياء هذا مفعول أول، وشَيْخاً: مفعول ثاني.

زَعَمَتْني شَيْخاً وَلَسْتُ بِشَيْخٍ

إِنَّمَا الشَّيْخُ مَنْ يَدبُّ دَبِيْبا

والمثال الذي ذكره هنا: فَإِنْ تَزْعُمِينِي كُنْتُ أَجْهلُ؛ جاء الأول بدون (أن).

إذاً: الأكثر في (زعم) أن تتعدى إلى مفعوليها بواسطة (أنًَّ) المؤكدة سواء كانت مخففة من الثقيلة أم كانت مشددة كما ذكرنا، وقليل جداً أن يأتي الاسم المفرد بعدها.

عَدْ: مَعَ عَدْ كما قال الناظم. عَدْ بمعنى: ظن.

فَلَا تَعْدُدِ الْمَوْلَى شَرِيكَكَ فِي الْغِنَى

وَلكِنَّمَا الْمَوْلَى شَرِيكُكَ فِي الْعُدْمِ

فَلَا تَعْدُدِ: تعدد هذا فعل مضارع مجزوم بـ (لا) الناهية، تَعْدُدِ حرك للتخلص من التقاء الساكنين، والفاعل: أنت، والْمَوْلَى المراد به الصديق، لا تعدد الصديق شريكك في الغنى، ولكن الذي يكون شريكك في العدم هو الصديق.

شَرِيكَكَ نقول: هذا مفعول ثاني.

إذاً: تَعْدُدِ هذا جاء به فعلاً مضارعاً، مع أنه نص على الفعل الماضي، مَعْ عَدْ، عَدْ هنا قال: فَلَا تَعْدُدِ وحينئذٍ يعمل مضارعاً كما يعمل ماضياً، وهنا بمعنى ظن، فَلَا تَعْدُدِ يعني: لا تظن، والْمَوْلَى: مفعول أول، وشَرِيكَكَ: مفعول ثاني.

"حَجَا" أيضاً بمعنى ظن.

ص: 11

قَدْ كُنْتُ أَحْجُو أَبَا عَمْرٍو أَخَا ثِقَةٍ

حَتَّى أَلَمَّتْ بِنَا يَوْماً مُلِمَّاتُ

قَدْ كُنْتُ أَحْجُو: هذا فعل مضارع، إذاً عمل وهو فعل مضارع.

أَحْجُو يعني: أظن، والفاعل أنا ضمير مستتر وجوباً.

أَبَا عَمْرٍو: هذا مفعول أول.

أَخَا ثِقَةٍ: بالإضافة، أو بالتنوين: أخاً ثقة، يجوز هذا وذاك.

فإن كانت بمعنى غلب في المحاجَّة أو قصد أو ردَّ، تعدت إلى واحد، إذاً: قد تخرج عن معنى الظن فتكون بمعنى المغالبة، أو قصد أو بمعنى ردَّ حينئذٍ تتعدى إلى واحد، وإن كانت بمعنى أقام أو بخل فهي لازمة، ولذلك قال قائلهم:

حَجَونْا بني النّعْمانِ إذْ عَضَّ مُلكُهم

وقَبْلَ بني النّعْمانِ حارَبَنا عَمرُو

حَجَونْا بمعنى: قصدنا، حَجَونْا بني النّعْمانِ ليست بمعنى ظن هنا، ليست بمعنى الظن، وحينئذٍ بمعنى القصد.

وجَعَلْ، قال الناظم:

وَجَعَلَ اللَّذْ كَاْعْتَقَدْ

إذاً: جَعَلَ الاعتقادية التي تدل على الاعتقاد.

قوله تعالى: ((وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا)) [الزخرف:19] جعلوا الملائكة إناثاً، جَعَلُوا: فعل وفاعل، والْمَلائِكَةَ: مفعول أول، وإِنَاثًا: هذا مفعول ثاني؛ وقيد المصنف (جَعَلَ) بكونها بمعنى اعتقد احترازاً من (جعل) التي بمعنى صير؛ فإنها من أفعال التحويل لا من أفعال القلوب.

وجعل إن كانت بمعنى أوجد، أو وجب تعدت إلى واحد، نحو: وجعل ((وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ)) [الأنعام:1] بمعنى: أوجد، وفسرها بعضهم بمعنى خلق، وليست مطردة كما يستدل المعتزلة.

وتقول: جعلت للعامل كذا، يعني: أوجبت، وتأتي بمعنى أنشأ من أفعال الشروع.

إذاً: تأتي بمعنى اعتقد، وتأتي بمعنى أوجد ووجب، وتأتي بمعنى الشروع.

هَبْ: هذا فعل أمر ملازم لصيغة الأمر، كما سيأتي.

هَبْ بمعنى: ظُنَّ كذا، هب كذا، هب أن الأمر كذا.

فَقُلْتُ أَجِرْنِي أَبَا مَالِكِ

وَإِلَاّ فَهَبْنِي امْرَأً هَالِكاً

أَجِرْنِي أَبَا مَالِكِ، وفي الأشموني: أبا خالد.

وَإِلَاّ فَهَبْنِي، هبني هذا ما إعرابه؟؟؟؟ هب والفاعل ضمير مستتر، نِي: النون هذه نون الوقاية، والياء: مفعول أول، امْرَأً؟؟؟ هَالِكاً: صفة.

وهنا هَبْ هذا نصب مفعولين صريحين، وقد يدخل على (أن) المؤكدة، - هَبْ أَنَّ أَبَانَا كَانَ حِمَارَاً، هذه مسألة فرضية، حمارية تسمى، عمرية- هَبْ أَنَّ أَبَانَا، أن: دخلت على؟؟؟ فسدت مسد مفعولين. وهَبْ بهذا المعنى فعل جامد يعني: بمعنى ظُنَّ، فعل جامد لا يتصرف، لا يجيء منه ماض ولا مضارع، بل هو ملازم لصيغة الأمر، فإن كان من الهبة وهي التفضل بما ينفع الموهوب له كان متصرفاً تام التصرف.

ص: 12

إذاً: هَبْ التي لا تتصرف وهي ملازمة لفعل الأمر، هب التي بمعنى ظُنَّ وهي من أفعال القلوب، وأما الهبة نقول: هب زيداً مالاً، ((وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ)) [الأنعام:84] تعدت إلى واحد ((وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ))، ((يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا)) [الشورى:49] يَهَبْ: هذا فعل مضارع، كيف نقول: لا تتصرف؟ نقول: هذه يهب من الهبة وليس من الظن. ((هَبْ لِي حُكْمًا)) إذاً: هب نقول: تأتي بمعنى ظَن وحينئذٍ يفسر بـ (ظُنَّ) ليس ظَنَّ، هب؛ لأنه ملازم لفعل الأمر حينئذٍ تقول: ظُن. ونبه المصنف بقوله: أَعْنِى رَأَى؛ على أن أفعال القلوب منها ما ينصب مفعولين وهو رأى، وما بعده مما ذكره المصنف في هذا الباب، ومنها ما ليس كذلك وهو قسمان: لازم ومتعد إلى واحد، وفصلناه فيما سبق أشهر المعاني التي وردت فيها، هذا هو النوع الأول من أنواع أفعال القلوب، أو من نوعي (ظن وأخواتها)، وحينئذٍ أفعال القلوب وأفعال التصيير، وأفعال القلوب قسمان: منها ما يدل على اليقين، ومنها ما يدل على الرجحان، هذا من جهة العموم وإلا عند التفصيل فهي أربعة:

النوع الأول: ما يفيد في الخبر يقيناً، -يعني أفعال اليقين ولا يحتمل غيره- ما يفيد في الخبر يقيناً وهو ثلاثة: وجد وتعلم ودرى.

ثانياً: ما يفيد فيه رجحاناً وهو خمسة: جعل وحجا وعد وزعم وهب.

ثالثاً: ما يرد للأمرين: اليقين والرجحان، والغالب كونه لليقين، يرد للأمرين والغالب فيه أنه لليقين وهو اثنان: رأى وعلم.

رابعاً: ما يرد لهما، والغالب كونه للرجحان وهو ثلاثة: ظن وخال وحسب.

وأما أفعال التحويل والتي عناها المصنف بقوله:

وَالَّتِي كَصَيَّرا

يعني: مثل صَيَّرا، مثل صار، صار تدل على تحويل الشيء من حال إلى حال، إما تحويل ذاتي وإما تحويل صفة، التحويل من شيء إلى شيء إما أن يكون تحويل من ذات إلى ذات، تقول: صيرت الخشب باباً، تحويل من ذات إلى ذات، صار زيد عالماً وصيرت الجاهل عالماً؛ تحويل صفة، إذاً: يعم الأمرين.

وَالَّتِي كَصَيَّرا: المراد بها أفعال التصيير، هذه تتعدى إلى مفعولين أصلهما المبتدأ والخبر، حينئذٍ إذا قيل: أفعال التصيير هل تدخل تحت باب (ظن وأخواتها) نقول: هذا شأنه كشأن أفعال المقاربة، إذا قيل: إنه من تسمية الكل باسم البعض، وهنا كذلك لأنها ليست أفعال قلوب.

وعدها بعضهم سبعة وإن تركها الناظم إحالة على الموقِف لقلتها، ليست كالنوع الأول.

صَيَّرا: صيرت الطين خزفاً، الطين خزفٌ، هكذا؟ مبتدأ وخبر، هذا باعتبار ما يؤول إليه، وحينئذٍ لا بد من التأويل، وإلا بعض التراكيب قد نقول: ليس مبتدأ ولا خبر، لكن لا بد من التأويل من أجل طرد الباب لنجعل هذه الأفعال خاصة بالمبتدأ والخبر وإلا لو وقفنا مع كل لفظ وجلسنا نفحص فيه هل هو مبتدأ أو خبر قد نتعب، وحينئذٍ لا بد من التأويل وطرد الباب.

صيرت الطين خزفاً، صيرت: فعل وفاعل، والطين: هذا مفعول به أول، وخزفاً: هذا مفعول ثان.

فَصُيِّرُوا مِثْلَ كَعَصْفٍ مَأكُولْ

فَصُيِّرُوا: الواو هذه نائب فاعل، وصُيِّرُوا: هو صيرا لكنه مغير الصيغة.

ص: 13

مِثْلَ كَعَصْفٍ مَأكُولْ: مِثْلَ: هذا مفعول ثاني، أي: حولوا من حالة إلى حالة، فنصبت مفعولين: الأول الواو وهو نائب الفاعل، والثاني: مثل.

وجَعَلْ، نحو قوله تعالى:((وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا)) [الفرقان:23] فَجَعَلْنَاهُ: هذا المفعول الأول وهَبَاءً: مفعول ثاني، ومَنْثُورًا: صفة الهباء.

وهبَ هذا ملازم للمضي وهبَ، (وَهَبَنِى اللهُ فِدَاكَ)، يعني: صيرني.

وتَخِذَ: لَتَخِذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً.

(تَخِذْتُ غُرَازَ إثْرَهُمُ دَليِلاً)

لَتَخِذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً، المفعول الأول أجراً، المفعول الثاني:؟؟؟

تقديم وتأخير، قد يتقدم الثاني ويتأخر الأول؛ لأن أجراً عليه هذا لا يصح أن يكون مبتدأ وخبر؛ لأن هذه الجملة أصلها مبتدأ وخبر، وإذا كانت مبتدأ وخبر حينئذٍ أجراً هذا نكرة، ولا يجوز الابتداء به، والذي: خبر عليه.

إذاً: عَلَيْهِ: جار ومجرور متعلق بمحذوف خبر قبل دخول تخذ، ثم هو مفعول ثاني، لكن نقدره با استقر أو كائناً؟ الظاهر الثاني: كائناً وهو أنسب.

واتَّخَذَ بالتشديد، ((وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا)) [النساء:125] هذا فيها معنى التصيير، صيره الله تعالى خليلاً، اتَّخَذَ اللَّهُ: فاعل، إِبْرَاهِيمَ: مفعول أول، خَلِيلًا: مفعول ثاني.

وتَرَكَ: ((وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ)) [الكهف:99] تَرَكْنَا: فعل وفاعل. بَعْضَهُمْ: مفعول أول، يَوْمَئِذٍ: مفعول ثاني، أو في بعض، يموج: الجملة في محل نصب مفعول ثاني (وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ).

وَرَبَّيْتُهُ حَتَّى إِذَا مَا تَرَكْتُهُ

أخَا الْقَوْمِ وَاسْتَغْنَى عَنِ الْمَسْحِ شَارِبُهْ

تَرَكْتُهُ أخَا الْقَوْمِ، تَرَكْتُهُ: فعل وفاعل، والهاء: ضمير في محل نصب مفعول أول، وأخَا الْقَوْمِ: مفعول ثاني.

رَدَّ -وهو آخرها- ((لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا)) [البقرة:109] يعني: يصيرونكم. ((لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا)) أين مفعول الأول؟ الكاف، والمفعول الثاني: كُفَّارًا.

فَرَدَّ شُعُورَهُنَّ السُّودَ بِيضاً

ورَدَّ وجُوهَهُنَّ البِيضَ سُودَا

فَرَدَّ: صير، شُعُورَهُنَّ: هذا مفعول أول، السُّودَ: صفة هذا، وبِيضاً: هذا المفعول الثاني.

ورَدَّ وجُوهَهُنَّ البِيضَ سُودَا: القول فيه كسابقه.

إذاً: قول الناظم هنا:

انْصِبْ بِفِعْلِ الْقَلْبِ جُزْأَيِ ابْتِداَ

انصب وجوباً وجوازاً بفعل القلب، وليس مطلقاً كل فعل قلب ينصب به مفعولين، لا لأن بعضها لازم لا يتعدى، وبعضها يتعدى إلى مفعول واحد والمراد هنا: ألفاظ بأعيانها تحفظ ولا يقاس عليها غيرها، بل هي موقوفة على السماع وعد منها ثلاثة عشر فعلاً كلها.

ثم قال:

وَالَّتِي كَصَيَّرا

هذا النوع الثاني.

أيْضاً بِهَا انْصِبْ مُبْتَداً وَخَبَرَا

ص: 14

من أحكام هذه الأفعال -أفعال القلوب -قلنا ثلاثة: الإعمال، والتعليق، والإلغاء. والمراد بالتعليق: إبطال العمل لفظاً لا محلاً، قلنا: هي تنصب، والأصل في الإعمال أن يكون ملفوظاً به، التعليق: إبطال عملها، لكن لا مطلقاً، وإنما إبطال عملها في اللفظ فحسب، وأما في المحل فهي عاملة فيها؛ لأن الشيء قد يكون في اللفظ له اعتبار وفي المحل له اعتبار آخر كما ذكرناه في باب (لا) النافية للجنس، لا رجل باعتبار اللفظ مبني وباعتبار المحل منصوب، وحينئذٍ هنا التعليق نقول: إبطال العمل لفظاً لا محلاً وحينئذٍ في المحل لها تأثير، وفي اللفظ ليس لها تأثير، وأما الإلغاء فهو كاسمه: إبطال العمل مطلقاً لا لفظاً ولا محلاً، كأن العامل غير موجود، كأنه لم يدخل على الجملة أصلاً.

مثال التعليق كأن تقول: ظننت لزيد قائم، ظننت: فعل وفاعل، و (ظن) الأصل أنها تعمل، تدخل على المبتدأ والخبر فتنصبه على أنه مفعول أول ومفعول ثاني، الأصل: ظننتُ زيداً قائماً، علق الفعل بمعنى: أنه أبطل عمله في اللفظ بإدخال نوع من المعلقات، فقيل: ظننتُ لزيد قائم، لزيد اللام هذه لام الابتداء دخلت بعد الفعل، دخلت على المبتدأ، وهي لها صدارة الكلام، فيمتنع أن يكون ما قبلها معمول لما بعدها والعكس، فحينئذٍ أبطل فعل ظن في لفظ زيد وقائم، فرجع على أصله: ظننت لزيد قائم، زيد كان منصوباً، لماذا رفع؟ وقائماً كان منصوباً لماذا رفع؟ نقول: أبطل يعني: أحيل بين العامل من أن يؤثر في اللفظ، فرجع إلى أصله فقيل: لزيد قائم، زيد: مبتدأ مرفوع بالابتداء، ورفعه ضمة ظاهرة على آخره، وقائم: خبر المبتدأ مرفوع به.

وما تأثير العامل؟ وُجِّه العامل من التأثير في اللفظ إلى التأثير في المحل، ولذلك نقول: الجملة من المبتدأ والخبر سدت مسد مفعولي ظن، إذاً: اعتبر أو لا؟ اعتبر، يظهر هذا الأثر لو قلت: ظننت لزيد قائم وعمْراً منطلقاً، من أين جاء النصب؟ باعتبار المحل، هذا يسمى تعليقاً، ظننت لزيد قائم وعمْراً منطلقاً، نقول: باعتبار اللفظ هو معلق، وباعتبار المحل هو؟؟؟ ولذلك سمي تعليقاً، لماذا؟ قال: لأنه عامل لا عامل، قالوا: كالمرأة المعلقة لا مزوجة ولا مطلقة، هذا مثلها، تشبيه هم نصوا على هذا، المرأة المعلقة لا مزوجة ولا مطلقة، قالوا: هذا لا عامل ولا ليس بعامل؛ لأن له جهتين، هذا معنى التعليق.

وأما الإلغاء فالمراد به: أن يبطل عملها أصالة، يعني: لا ترفع، لا تنصب لا في اللفظ ولا في المحل، وهذا له حالان فقط: وهما إذا توسط الفعل أو تأخر، لأن الأحوال ثلاثة: ظننت زيداً قائماً، زيداً ظننت قائماً، زيداً قائماً ظننت، هذه ثلاث صور.

الأول:- الإعمال- هذا واجب، ظننت زيداً قائماً، وزيداً ظننت قائماً يجوز الوجهان والإعمال أرجح، زيداً قائماً ظننت؛ يجوز الإعمال والإهمال أرجح.

إذاً: إذا قيل: زيد ظننت قائم على الإهمال حينئذٍ زيد: مبتدأ، وقائم: خبر، وظننت: الجملة فعل وفاعل لا محل لها من الإعراب، معترضة، هل لها تأثير في المحل في اللفظ؟ لا، ليس لها شيء، وجودها وعدمها سواء، حينئذٍ هذا يسمى إلغاءً، إبطال العمل في اللفظ والمحل.

والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين

!!!

ص: 15