الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
عناصر الدرس
* شرح الترجمة (أعلم وأرى) ـ
* تعدي (رأى وعلم) إلى ثلاثة مفاعيل وحكم المفاعيل
* تعدي (راى وعلم) إلى مفعولين وحكمهما
* تعداد بقية الأفعال التي تنصب ثلاثة مفاعيل
* شرح الترجمة (الفاعل) وحده وحكمه.
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:
قال الناظم رحمه الله تعالى:
أعْلَمَ وَأَرَى:
إِلَى ثَلَاثَةٍ رَأَى وَعَلِمَا
…
عَدَّوْا إِذَا صَارَا أَرَى وَأَعْلَمَا
لازال الحديث فيما يتعلق بعلم وما تفرع عنها، نص فيما سبق أن علم تأتي متعدية لمفعولين؛ وذلك إذا كانت اعتقادية أو استعملت بمعنى الظن، وقد تأتي بمعنى العرفان، حينئذٍ تتعدى إلى مفعول واحد.
في هذا الباب أراد أن يبين أن علم التي تتعدى إلى مفعولين قد تدخل عليها همزة النقل، وحينئذٍ تصيرها ناصبة لثلاثة مفاعيل، وهذا شأن همزة النقل؛ همزة النقل يعني: تنقل الفعل من كونه لازماً إلى كونه متعدياً، يكون الفعل لازم: خرج زيد هذا لا يتعدى بنفسه، يعني: لا ينصب مفعولاً بنفسه مباشرة، حينئذٍ إذا قلت: أخرجت زيداً أدخلت همزة النقل: أخرجت، الهمزة هذه زائدة، خرج وأخرج فرق بينهما، خرج هذا لازم وأخرج هذا متعدي، ولكن تعديه بهمزة النقل، وليست منحصرة فيها؛ لأنه قد يُضعَّف، تقول: خرَّجتُ زيداً، إذاً تعدى بالهمزة وتعدى بالتضعيف، والمراد هنا التعدي بالهمزة، حينئذٍ همزة النقل تجعل اللازم متعدياً إلى واحد؛ تنقله من كونه لازماً إلى متعدٍ لواحد.
ثم إذا كان متعدياً إلى واحد تجعله متعدياً إلى اثنين: لبس زيد جبة، لبس: فعل ماض، وزيد: فاعل، وجبة: هذا مفعول به، إذاً: تعدى هذا إلى واحد، إذا دخلت عليه الهمزة: ألبست زيداً جبة، ما الذي صير الفعل ونقله من كونه متعدياً إلى واحد إلى أن صار ناصباً لمفعولين؟ هو همزة النقل، ثم ما كان متعدياً إلى اثنين ودخلت عليه همزة النقل صيرته ناصباً لثلاثة مفاعيل، وهو أعلم وأرى، حينئذٍ أعلم وأرى -أرى الحُلُمية هنا- تنصب مفعولين إذا دخلت عليها الهمزة، حينئذٍ صيرتها ناصبة لثلاثة مفاعيل، وكذلك علم العرفانية سيأتي أنها تتعدى إلى اثنين.
أعْلَمَ وَأَرَى أي: هذا باب ذكر ما يتعدى إلى ثلاثة مفاعيل وهو أعلم وأرى، الأصل علم ورأى، ومن الصيغة تعلم أن التعدي هنا حصل بالهمز؛ لأنه هناك ذكر علم، وذكر رأى: وَلِرَأَى الرُّؤْيَا، إذاً: هي مجردة عن الهمزة، وهنا عنون بما هو مشتمل على الهمزة، فتعلم أن التعدي إنما حصل بهمزة النقل، هذا واضح من الترجمة والعنوان.
إِلَى ثَلَاثَةٍ رَأَى وَعَلِمَا: رأى أو أرى، أرى أصلها (أَرْأَيَا) تحركت الياء يعني: بالفتحة أرأيا، حينئذٍ نقول: فتح ما قبلها فوجب قلبها ألفاً، ثم أريد التخفيف بحذف الهمزة وألقيت حركتها لما قبل فحذفت فصار أرى، فأرى أصلها: أرأيا، قلبت الياء ألفاً لتحركها وانفتاح ما قبلها ثم حذفت الهمزة بعد نقل حركتها إلى الساكن قبلها، وأما أعلم فهي كما هي.
إِلَى ثَلَاثَةٍ رَأَى وَعَلِمَا: قال في الترجمة: أعْلَمَ وَأَرَى، ولما ذكر: إِلَى ثَلَاثَةٍ، قال:(رَأَى وَعَلِمَا)، قدم رأى على علم، هل هذا مقصود أم أنه هكذا اتفاقاً؟ في بعض النسخ الترجمة:(أَرَى وَأعْلَمَ)، حينئذٍ لا خلاف، رجحها بعضهم بناءً على ما ذكره في البيت:(إِلَى ثَلَاثَةٍ رَأَى وَعَلِمَا)، إذاً: النسخة التي فيها الترجمة: تقديم أرى على أعلم لا إشكال فيها، وأما هذه:(أعلم وأرى) ثم قال: (إِلَى ثَلَاثَةٍ رَأَى وَعَلِمَا)، حينئذٍ نقول: لعله من باب الاتفاق فحسب، يعني: ليس مقصوداً، إلا إذا جُعل أن الأصل في الترجمة أعلم وحملت عليها رأى كما سبق، وهي:
وَلِرَأَى الرُّؤْيَا انْمِ مَا لِعَلِمَا
…
طَالِبَ مَفْعُولَيْنِ.
إذاً: ألحقت رأى الحلمية بعلم لجامع أن كلاً منهما إدراك أو حسن باطن، إذاً: حملت رأى التي بمعنى الرؤيا على علِم بجامع، حينئذٍ أيهما أصل وأيهما فرع؟
أعلم -صارت علم بدون همز- علم نقول: هذه أصل، ورأى الحلمية هذه فرع، حينئذٍ قدم الأصل على الفرع.
ثم قال: إِلَى ثَلَاثَةٍ رَأَى وَعَلِمَا: لم يجعل ثم فارقاً بين اللفظين.
عَدّوْا إِذَا صَارَا أَرَى وَأَعْلَمَا: عَدّوْا إِلَى ثَلَاثَةٍ، إِلَى ثَلَاثَةٍ: هذا جار ومجرور متعلق بقوله: عَدّوْا، من الذي عدَّى؟ العرب، نطقت بها متعدية بهذا اللفظ إلى ثلاثة مفاعيل، أو النحاة حكموا بصحة تعدية هذه الأفعال إلى ثلاثة مفاعيل، فيجوز في مثل هذه التراكيب أن يفسر الضمير بالنحاة أو بالعرب، إلا إذا لم يصلح أن يفسر به النحاة حينئذٍ يحمل على العرب، كما سبق: وَاسْتَعْمَلُوا مُضَارِعاً لأَوْشَكَا، ليس النحاة هم الذين استعملوا؛ لأن الاستعمال صفة للناطق الأصلي، حينئذٍ يتعين أن يقال: اسْتَعْمَلُوا يعني العرب ولا يفسر بالنحاة، أما حكموا ورفعوا ونحو ذلك، فيجوز فيه الوجهان.
عَدّوْا: أي العرب أو النحاة، عَدّوْا رَأَى وَعَلِمَا، هذا مفعول مقدم، المتعديين إلى مفعولين؛ وذلك علم إذا كانت بمعنى اليقين أو الظن لا علم العرفانية، وهذا هو الأصل فيها، ورأى إذا كانت حلمية، العرب عدت هذه المفاعيل إلى ثلاثة، متى؟ إِذَا صَارَا -إذا دخلت عليهما همزة النقل وصارا- أَرَى وَأَعْلَمَا، إذاً: رأى وعلم هما الأصل، تدخل عليهما همزة النقل، حينئذٍ تصير الفعلين يتعديان إلى ثلاثة مفاعيل، حينئذٍ المفعول الأول هو الفاعل، والمفعول الثاني والثالث هما مفعولا علم الأصل -هذا الأصل-، علمت زيداً قائماً، زيداً قائماً مفعولا علم، إذا أدخلت عليه همزة، قلت: أعلمتُ-مثلاً- محمداً زيداً قائماً، أعلمتُ هذا لابد أن تسندها إلى فاعل وهو المتكلم، الفاعل الذي هو: علم زيدٌ بكراً قائماً، علم: فعل ماضي وزيدٌ: فاعله، وبكراً: مفعول أول، وقائماً: مفعول ثاني، إذا قلت: أعلمت زيداً بكراً قائماً، حينئذٍ علم زيد –الفاعل- نصب على أنه مفعول أول، وبكراً المفعول الأول في علم صار مفعولاً ثانياً في باب أعلم، وقائماً صار هو المفعول الثالث.
إذاً: تعدى إلى ثلاثة أصل الأول هو الفاعل، والثاني والثالث هما مفعولا علم، حينئذٍ كل ما تعلق بباب علم ومفعوليه يكون للثاني والثالث دون الأول، يعني: الإلغاء السابق والتعليق ونحو ذلك من حيث الحذف -جوازه اختصاراً واقتصاراً حذف أحد المفعولين أو هما معاً- كل تلك الأحكام تتعلق بالثاني والثالث دون الأول، لماذا؟ لأن الثاني والثالث هما مفعولا علم في الأصل، هما المبتدأ والخبر، وهذه الجملة كأصلها أعلم تدخل على جملة المبتدأ والخبر، فحينئذٍ يبقى الحكم مستصحباً حتى بعد دخول الهمزة، وأما الأول فهذا لا، هذا صار عمدة، صار مفعولاً أول، قبل دخول همزة النقل هو فاعل، فحينئذٍ لا يتعلق به لا إلغاء ولا تعليق ولا حذف -لا حذف اقتصاراً ولا اختصاراً- ولا غير ذلك، وإنما الحكم يكون منصباً على المفعول الثاني والثالث.
إِلَى ثَلَاثَةٍ رَأَى وَعَلِمَا
…
عَدَّوْا إِذَا صَارَا أَرَى وَأَعْلَمَا
أشار بهذا الفصل إلى ما يتعدى من أفعال إلى ثلاثة مفاعيل، فذكر سبعة أفعال، الأصل فيها (أعلم وأرى)، وأما ما عداها فهي محمولة عليها، وإلا الأصل هو فعلان، بعضهم اختصر أو اقتصر على هذين الفعلين، وما عداهما محمولة بالقياس؛ لأنه سيأتي أنها ما عديت إلا باستعمالها بصيغة المبني للمجهول.
أعْلَمَ وَأَرَى فذكر أن أصلهما علم ورأى، وأنهما بالهمزة يتعديان إلى ثلاثة مفاعيل؛ لأنهما قبل دخول الهمزة عليهما كانا يتعديان إلى مفعولين: علم زيدٌ عمراً منطلقاً، ورأى خالدٌ بكراً أخاك، فلما دخلت عليهما همزة النقل زادتهما مفعولاً ثالثاً، هذا المفعول الأول هو الفاعل، هو الذي كان فاعلاً بهما قبل دخول الهمزة، والثاني والثالث هما اللذان كانا منصوبين بهما وهما المبتدأ والخبر، فإذا دخلت عليهما الهمزة، قلت: أعلمتُ زيداً عمرواً منطلقاً، وأريت خالداً بكراً أخاك، وهذا هو شأن الهمزة؛ أنها تصير ما كان فاعلاً مفعولا، وما كان لازماً متعدياً، وما كان متعدياً إلى واحد متعدياً لاثنين، وما كان متعدياً إلى اثنين صار متعدياً إلى ثلاثة.
وَمَا لِمَفْعُولَيْ عَلِمْتُ مُطْلَقَا
…
لِلثَّانِ وَالثَّالِثِ أَيْضاً حُقِّقَا
يعني: إذا صارت أمامك ثلاثة مفاعيل قد يلتبس، أيي المفاعيل هذه التي يتعلق بها التعليق والإلغاء والحذف ونحو ذلك، كل ما سبق من أحكام علم؟ نقول: الثاني والثالث، لماذا؟ لأن الأول أصله فاعل؛ لدخول همزة النقل نصب على أنه المفعول الأول، والمفعول الأول في باب علم هو الثاني في باب أعلم، والمفعول الثاني في باب علم هو المفعول الثالث في باب أعلم، حينئذٍ يتعلق الحكم بالثاني والثالث دون الأول، ولذلك قال:(ومَا)، يعني والذي -هذا مبتدأ،- (حُقِّقَا) هذا خبره، وما ثبت أو حقق لمفعولي -هذا صلة متعلق بمحذوف-، والذي لمفعولي، والذي ثبت لمفعولي علمتُ بدون همزة نقل، مُطْلَقَا: بدون استثناء الأحكام السابقة، لِلثَّانِ وَالثَّالِثِ من مفاعيل أعلمَ وأرى أيْضاً حُقِّقَا، فيجوز حينئذٍ حذفهما معاً اختصاراً إجماعاً، هذا في الثاني والثالث، يجوز حذفهما معاً اختصاراً إجماعاً، وفي حذف أحدهما اختصاراً ما سبق من الخلاف، ويمتنع حذف أحدهما اقتصاراً إجماعاً، وفي حذفهما معاً اقتصاراً الخلف السابق، ويجوز إلغاء العامل بالنسبة إليهما فقط دون الأول، ولذلك تقول: عمروٌ أعلمتُ زيداً قائمٌ، ما حكمه هنا؟ عمروٌ أعلمتُ زيداً قائمٌ، هذا ماذا نسميه؟ إلغاء، ما الدليل؟ الرفع؛ لأنه لو بقي كما هو لقلت: عمراً أعلمتُ زيداً قائماً، لكن لما رفعت الأول (عمروٌ) لتوسط العامل، و (قائمٌ) خبره تعين أعلمتُ أن يكون متعدياً لواحد، فنُصب الأول على أصله، ثم الثاني والثالث ارتفع رجع إلى ما كان عليه، ولذلك لم يرفع زيداً، أعلمتُ زيداً؛ لأنه ليس مفعول أول ولا ثاني، والتعليق والإلغاء إنما يكون للثاني والثالث، أما الأول زيداً بقي كما هو منصوب: عمروٌ أعلمتُ زيداً قائمٌ، حصل إلغاء هنا بالتوسط، لماذا نصب زيداً والأصل ألا تعمل أعلمت في اللفظ؟ نقول: لأن زيداً هذا ليس هو المفعول الثاني، ولا الثالث، وإنما هو مفعولٌ زِيدَ بدخول همزة النقل على علِم، عمروٌ أعلمتُ زيداً قائمٌ.
ويجوز التعليق عنهما فتقول: أعلمت زيداً لعمروٌ قائم، يعني: الذي سبق معنا من المواضع الستة التي تكون معلِّقة للفعل، إنما توجد فاصلة بين (أعلم) وبين المفعول الثاني، أعلمت زيداً لعمروٌ قائمٌ، دخلت لام الابتداء، وهي مما له الصدر، وحينئذٍ وجب التعليق، وكان التعليق هنا حاصلاً للمبتدأ والأول.
إذاً:
وَمَا لِمَفْعُولَيْ عَلِمْتُ مُطْلَقَا
…
لِلثَّانِ وَالثَّالِثِ أَيْضَاً حُقِّقَا
ومَا يعني: والذي ثبت.
لِمَفْعُولَيْ عَلِمْتُ مُطْلَقَا: مُطْلَقَا هذا حال من الضمير المستتر في المجرور العائد على (مَا) لِمَفْعُولَيْ.
لِلثَّانِ وَالثَّالِثِ من مفاعيل أعلم ورأى، وأما المفعول الأول فلا يجوز فيه تعليق الفعل عنه، لا يعلق عنه، فلا يقال: أعلمت لزيدٌ عمروٌ منطلقٌ، هذا لا يصح، لماذا؟ لأنك علقت المفعول الأول والتعليق إنما هو خاص بالمفعول الثاني والثالث، فيبقى المفعول الأول على حاله، وإذا أردت التعليق تدخل الحرف أو الاسم المعلِّق بعد المفعول الأول، حينئذٍ يختص بالمفعول الثاني والثالث، وأما الأول فيبقى على حاله منصوباً، ولذلك في المثال السابق ما ذكره الشارح أنه أدخل لام الابتداء على المفعول الثاني، أعلمت زيداً لعمروٌ منطلقٌ، أما أعلمتُ لزيدٌ عمروٌ منطلقٌ نقول: هذا لا يصح، بل يبقى الأول على حاله، أعملتُ زيداً لعمروٌ قائمٌ، ومثال حذفهما للدلالة أن يقال: هل أعلمتَ أحداً عمراً قائماً؟ تقول: أعلمتُ زيداً، هذا وقع في جواب سؤال، وحذف المفعول الثاني والثالث معاً.
ومثال حذف أحدهما للدلالة أن تقول في هذه الصورة: أعلمتُ زيداً عمراً أي: قائماً، حذفت الثالث، أو: أعلمتُ زيداً، قائماً أي عمراً قائماً، فحذفت الثاني.
إذاً: كل الأحكام السابقة تتعلق بالثاني والثالث، وأما الأول وإن كان منصوباً لأعلم إلا أنه ليس أصله المبتدأ والخبر، والأحكام السابقة كلها متعلقة بما أصله المبتدأ والخبر.
والذي لِمَفْعُولَيْ: ثبت لِمَفْعُولَيْ عَلِمْتُ بدون همزٍ ورأيت كذلك مُطْلَقَا بدون تفصيلٍ وبدون استثناء لِلثَّانِ وَالثَّالِثِ يعني: ثابت حُقِّقَا لِلثَّانِي، لِلثَّانِ هذا متعلق بقوله: حُقِّقَا، وحُقِّقَا هذا فعل ماضي مغير الصيغة والألف هذه للإطلاق، حقق للثاني والثالث، يعني: ثبت، التحقيق هنا بمعنى الثبوت، فثبت بالثاني والثالث من الإلغاء والتعليق ومنع الحذف من غير دليل وجوازه لدليل ثابت للثاني والثالث من؟؟؟ أعلم وأرى.
وَإِنْ تَعَدَّيَا لِوَاحِدٍ بِلَا
…
هَمْزٍ فَلاِثْنَيْنِ بِِهِ تَوَصَّلَا
هذا استطراد من الناظم، وهو أنه قد سبق أن بيَّن (علِم) العرفانية ولم يذكر (رأى) البصرية.
إِنْ تَعَدَّيَا لِوَاحِدٍ: عَلِمَ إما أن تتعدى لواحد، وإما أن تتعدى لاثنين، إن تعدت لاثنين عرفنا الحكم أنها بهمزة النقل تصير متعدية إلى ثلاثة، بقي علم بمعنى عرف:((لا تَعْلَمُونَ شَيْئًا)) [النحل:78]، علمت زيداً يعني: عرفت زيداً، رأيت زيداً، رأيت (رأى) البصرية، إذا تعدت لواحد حينئذٍ تصيره همزة النقل متعدياً إلى اثنين.
وَإنْ تَعَدَّيَا لِوَاحدٍ: الضمير هنا تَعَدَّيَا يعود إلى (علم ورأى)، ومتى يتعديان لواحد؟ إذا كانت علم بمعنى عرف –عرفانية-: لِعِلْمِ عِرْفَانٍ وَظَنِّ تُهَمَهْ
…
... تَعْدِيَةٌ لِوَاحِدٍ مُلْتَزَمَهْ.
وَإنْ تَعَدَّيَا لِوَاحدٍ: هو لم يذكر رأى التي تتعدى إلى واحد، وإنما ذكر علم العرفانية وذكر ظن التي بمعنى اتهم، حينئذٍ الضمير راجع إلى شيء مذكور، وإلى شيء معلوم في الذهن.
وَإنْ تَعَدَّيَا: يعني: علم ورأى.
لِوَاحدٍ: يعني: لمفعول واحد، وهذا إنما ذكره في الباب السابق أن علم العرفانية تتعدى لواحد، لِعِلْمِ عِرْفَانٍ، ثم قال: تَعْدِيَةٌ لِوَاحِدٍ مُلْتَزَمَهْ، فحينئذٍ رأى البصرية لم يذكرها هو، حينئذٍ يقول: وَإنْ تَعَدَّيَا، أي: علم ورأى البصرية، فأشار بالضمير إلى شيء مذكور فيما سبق وإلى شيء معلوم يوجبه الموقِّف الشارح.
لِوَاحدٍ: وذلك فيما إذا كانت (علم) عرفانية و (رأى) بصرية.
بِلا هَمْزٍ: كانت التعدية بلا همز؛ لأن الهمزة قد تجعل اللازم يتعدى لواحد، ولكن هنا تعدى بنفسه إلى واحد.
فَلاِثْنَيْنِ بِِهِ تَوَصَّلا: فَلاِثْنَيْنِ الفاء واقعة في جواب الشرط، فَلاِثْنَيْنِ بِِهِ، يعني: بالهمز توصلا، توصلا علم ورأى إلى اثنين وهما متعديان لواحد بالهمز هذا مراده، فَلاِثْنَيْنِ بِِهِ يعني: لمفعولين اثنين تَوَصَّلا الضمير هنا يعود إلى رأى وعلم، تَوَصَّلا بِِهِ، يعني بالهمز، فلما كان دون الهمز متعدياً لواحد، فحينئذٍ تعدى بالهمزة إلى اثنين.
وَإنْ تَعَدَّيَا -رَأَى وَعَلِمَا- لِوَاحدٍ بِلا: هذا متعلق بقوله: تَعَدَّيَا بِلا هَمْزٍ، يعني: بغير همز .. لَا هنا بمعنى غير ليست حرفية، بل هي اسم، وإعرابها يظهر على ما بعدها. هَمْزٍ: الكسرة هذه كسرة عارية، وكسرةُ همزٍ هذه مقدرة، ولا هذه الإعراب فيها مقدر وظهر على ما بعدها.
بِلا هَمْزٍ: بأن كانت رأى بصرية وعلم عرفانية، فَلاِثْنَيْنِ بِِهِ -هذا جواب الشرط- تَوَصَّلا بِِهِ، بِهِ: متعلق بتَوَصَّلا، والاِثْنَيْنِ متعلق بتَوَصَّلا، توصلا بالهمز لاثنين لمفعولين اثنين، توصلا لما علمت، فتقول: أريت زيداً الهلال، رأيت الهلال فعل وفاعل ومفعول به، أريت زيداً الهلالَ، تعدى إلى اثنين، زيداً هذا مفعول أول، والذي جاء به هو همزة النقل، والهلالَ هذا مفعول ثاني، فصيرت المفعول لرأى مفعولاً ثانياً وزادته مفعولاً أولاً، وهو الفاعل، وأعلمته الخبر، أعلمتُ زيداً الخبر، تعدى إلى اثنين، أعلمتُ يعني: أعلمتُ زيداً الخبرَ، علمَ زيدٌ الخبرَ، علمَ فعل ماضي، وزيدٌ فاعله والخبرَ هذا مفعول به، بمعنى عرف، إذا دخلت همزة النقل صيرت الفاعل مفعولاً أول، أعلمت زيداً الخبرَ، إذاً: تعديا لاثنين بواسطة همزة النقل، والأصل فيهما:(علم) العرفانية و (رأى) البصرية إنْ تَعَدَّيَا لِوَاحدٍ، وليستا حينئذٍ من هذا الباب، ولو تعديا لاثنين: أعلمت زيداً الخبرَ، لا يقال: بأن أعلم من باب علِمَ مما يتعدى لمفعولين، نقول: لا، ليست من هذا الباب، وكذلك رأى البصرية ليست من هذا الباب.
وليستا حينئذٍ من هذا الباب، ولا من الباب الذي قبله؛ لأن المفعول الثاني غير الأول.
ويشترط في المفعولين اللذين تدخل عليهما علم ورأى أن يكونا مبتدأً وخبراً في الأصل، وهذا ليس مما أصلهما المبتدأ والخبر، حينئذٍ يكون من باب:(كسا وأعطى).
وليستا حينئذٍ من هذا الباب ولا من الباب الذي قبله؛ لأن المفعول الثاني غير الأول، فهو من باب (كسا وأعطى)، وهذا ما أشار إليه بقوله:
وَالثَّانِ مِنْهُمَا كَثَانِ اثْنَيْ كَسَا
…
فَهْوَ بِهِ فِي كُلِّ حُكْم ٍذُوْ ائْتِسَا
باب: كسا وأعطى فعل يتعدى إلى مفعولين في أصله دون همزة نقل، ولكن ليس أصل، المفعولين المبتدأ والخبر، ولذلك ما يتعدى إلى مفعولين في الجملة قسمان: قسم يتعدى إلى مفعولين أصلهما المبتدأ والخبر وهذا باب ظن وأخواتها، وقسم يتعدى إلى مفعولين ليس أصلهما المبتدأ والخبر.
بُابُ كَسَا وَأَعْطَى: أعطيت زيداً درهماً، نقول: هذا من باب كسا، أعطيت زيداً درهماً، ليس أصل المفعولين مبتدأ وخبر، لا يصح أن يقال: زيد درهمٌ، ما يصح التركيب هذا، حينئذٍ أعطيت زيداً درهماً، زيداً آخذ، والدرهم هذا مأخوذ، ففرق بينهما.
وَالثَّانِ: الثاني هذا مبتدأ، مِنْهُمَا: من هذين المفعولين السابقين -باب عرف ورأى-، كَثَانِ، هذا خبر، وَالثَّانِ مِنْهُمَا كَثَانِ اثْنَيْ كَسَا، يعني: كثاني اثنين مفعولي كسا، أي: المفعول الثاني من هذين المفعولين كالمفعول الثاني من باب كسا، المفعول الثاني من باب علم التي هي بمعنى عرف، ورأى التي بمعنى أبصر، الثَّانِ مِنْهُمَا كَثَانِ اثْنَيْ كَسَا، يعني: كالثاني من مفعولي كسا، فحينئذٍ ما الذي يترتب عليه؟ يجوز فيه الحذف اختصاراً واقتصاراً، يعني: يحذف بدليل وبدون دليل، لا يشترط فيه، بخلاف الثاني من باب علم.
إذاً: هذا الثاني من باب علم يعني عرف، نقول: هو من باب كسا، يجوز فيه الحذف اختصاراً واقتصاراً بدليل وبدون دليل.
ثانياً: يمتنع فيه ما جاز في مفعولي علمت المتعدية إلى اثنين من إلغاء وتعليق وغير ذلك من الأحكام الجائزة فيه، إذاً: يجوز حذفه اختصاراً واقتصاراً، بدليل وبدون دليل، ثانياً: يمتنع فيه كل الأحكام السابقة من التعليق والإلغاء ونحوهما.
إذاً: فرق بين هذا الباب وبين باب علم، (فَهْوَ) أي: الثاني من هذين المفعولين (بِهِ) يعني: بالثاني من مفعولي باب كسا، (فِي كُلِّ حُكْم ٍذُوْ ائْتِسَا) في كل حكم له ثابت له، (ٍذُوْ ائْتِسَا) يعني: يقتدي به، صاحب ائتساء صاحب اقتداء.
إذاً: الثَّانِ من باب علم بمعنى عرف ورأى البصرية الثَّانِ مِنْهُمَا لا يأخذ حكم الثاني من باب علم، وإنما يأخذ حكم الثاني من باب كسا وأعطى، والفرق بين البابين واضح، أن الثاني في باب علم هذا عمدة أصله خبر، وأما الثاني من باب كسا وأعطى لا، أصله فضلة، فرق بين النوعين، فذاك عمدة، وهذا مثل: ضربت زيداً، زيداً هذا يجوز حذفه، حينئذٍ فرَّق الناظم بينهما، (وَالثَّانِ مِنْهُمَا) أي: من هذين المفعولين، (وَالثَّانِ) أي: المفعول الثاني، (مِنْهُمَا) من هذين المفعولين، من باب علم بمعنى عرف ورأى بمعنى أبصر، (كَثَانِ) هذا خبر، (كَثَانِ اثْنَيْ مفعولي كَسَا)، وبابه من كل فعل يتعدى إلى مفعولين ليس أصلهما المبتدأ والخبر كما ذكرناه، (فَهْوَ) أي: الثاني هذا (بِهِ)، بالثاني من مفعولي باب كسا فِي كُلِّ حُكْم ٍذُوْ ائْتِسَا، يعني: ذو اقتداء، فيمتنع أن يُخبَر به عن الأول، لا تنحل الجملة فيخبر به عن الأول، ويجوز الاقتصار عليه وعلى الأول، ويمتنع الإلغاء، وجوز بعضهم الإلغاء في مسألة استثناها، قيل: إلا في التعليق، فقد يعلق المفعول الثاني من باب علم العرفانية، ورأى البصرية:((رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى)) [البقرة:260]، (رَبِّ أَرِنِي)، رأى هنا بصرية، (أَرِنِي) يريد الرؤيا، ((وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي)) [البقرة:260]، ((رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى))، ((أَرِنِي)) الياء هذه مفعول أول، ((تُحْيِ الْمَوْتَى)) [البقرة:260] تُحْيِ، هذه مفعول ثاني، أين وقعت الجملة كيف؟ وقعت بين الفعلين، قال بعضهم: إن هذا تعليق، وهذا محل إشكال، ولذلك الناظم أطلق ولم يستثن شيئاً، بمعنى أن بعضهم يرى أن التعليق قد يدخل الثاني في باب رأى وعلم إذا تعدت إلى اثنين وكانت رأى بصرية وعلم عرفانية، على كلٍ أذكره من باب ذكر الشيء:((أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ)) [الفيل:1]، والناظم رحمه الله تعالى أطلق ذلك.
قال وأشار في هذين البيتين إلى أنه إنما يثبت لهما هذا الحكم إذا كانا قبل الهمزة يتعديان إلى مفعولين، وأما إذا كانا قبل الهمزة يتعديان إلى واحد، كما إذا كانت رأى بمعنى أبصر، رأى زيدٌ عمراً، وعلم بمعنى عرف، علم زيدٌ الحقَّ، حينئذٍ يتعديان بعد الهمزة إلى مفعولين، فيصير الفاعل مفعولاً أول، أرَيْتُ زيداً عمرواً، وأعلمت زيداً الحق، لا يقال زيدٌ عمروٌ، ولا زيدٌ الحقُّ، لذلك ليس أصلهما المبتدأ والخبر، حينئذٍ لا يكونان من هذا الباب، والثاني من هذين المفعولين كالمفعول الثاني من مفعولي كسا وأعطى، كسوت زيداً جبة، الصحيح أن يقال: كسوت زيداً، وكسوت جبة، وأعطيت زيداً درهماً؛ لكونه لا يصح الإخبار به عن الأول؛ لأنه ليس بخبر في الأصل، فيمتنع حينئذٍ أن يخبر به عن الأول؛ لأن هذه لا تدخل على الجملة الاسمية التي أصلها مبتدأ وخبر، فلا تقل: زيدٌ الحقُّ، ولا زيدٌ درهمُ، وفي كونه يجوز حذفه مع الأول، وحذف الثاني وإبقاء الأول، وحذف الأول وإبقاء الثاني، وإن لم يدل على ذلك دليل، يعني: ولو كان اقتصاراً، فمثال حذفه: أعلمتُ وأعطيتُ، إذا أراد أن يخبر بأنه مجرد عِلْم معرفة، أعلمت وأعطيت، هذا يجوز لا بأس به، ((فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى)) [الليل:5]، (أَعْطَى)، حذف المفعولين، لماذا؟ لأن المراد هنا الإخبار بمجرد الإعطاء، بقطع النظر عن المعطى أو المعطي:((فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى)) أعطى ماذا؟ حذف المفعولين؛ لأنه لا حاجة لذكر المفعولين، ولذلك إذا أريد العموم حينئذٍ يحذف المتعلِّق، وحذف المتعلِّق -ومنه هذا مفاعيل متعلقة-، حذف المتعلق يفيد العموم.
ومثال حذف الثاني وإبقاء الأول: أعلمتُ زيداً، وأعطيتُ زيداً:((وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ)) [الضحى:5]، رَبُّكَ فاعل، ويُعْطِيكَ مثل أعطيت زيداً درهماً، المحذوف هنا المفعول الثاني وليس الأول، والكاف هذا في محل نصب مفعول أول؛ لأنه لم يتعلق به بفائدة.
ومثال حذف الأول وإبقاء الثاني: ((حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ)) [التوبة:29]، يعني: يعطوكم: ((حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ)) [التوبة:29]، حتى يعطوكم الجزية، حذف الكاف، وهذا كثير.
وَكَأَرَى السَّابِقِ نَبَّا أَخْبَرَا
…
حَدَّثَ، أَنْبَأَ، كَذَاكَ، خَبَّرَا
هذا من باب القياس، وإلا الأصل بعضهم حصر أرى وأعلم فحسب، ولذلك سائر الأفعال السابقة وهي ثلاثة عشر فعلاً لم يأت فيها الكلام من أنها تتعدى إلى ثلاثة مفاعيل، مع أن بعضها يتعدى إلى مفعول، ويتعدى إلى مفعولين، ومع ذلك لا يقال فيها لإجراء الأحكام المتعلقة هنا في همزة النقل.
وَكَأَرَى السَّابِقِ نَبَّا: نَبَّا هذا مبتدأ، وَكَأَرَى خبر مقدم، السَّابِقِ، نعت له، السابق المراد به المتعدي إلى ثلاثة مفاعيل، فيما عرفت من الأحكام، لا كأرى المتأخرة، وهي المتعدية إلى اثنين، السَّابِقِ، عندنا رأى هنا ثنتان، رأى سابقة ورأى متأخرة، رأى السابقة هي التي أشار إليها بقوله:
وَلِرَأَى الرُّؤْيَا انْمِ مَا لِعَلِمَا
…
طَالِبَ مَفْعُولَيْنِ ......
ورأى الثانية أشار إليها بقوله:
وَإنْ تَعَدَّيَا لِوَاحدٍ بِلا هَمْزٍ: الأولى تتعدى إلى مفعولين أصالة، والثانية: تتعدى إلى مفعولين بالتبع.
وَكَأرَى السَّابِقِ: يعني: لا المتأخرة، وهي المتعدية إلى اثنين، نَبَّا وأَخْبَرَا وحَدَّثَ، وأَنْبَأَ، وكَذَاكَ، خَبَّرَا، خبر كذاك، خبر: هذا مبتدأ متأخر وكَذَاكَ هذا خبر متقدم.
وهذه ألحقت بِرَأَى؛ لأنها تضمنت معناها، تضمنت معناها، وهذه الأفعال الخمسة الأصل فيها أن تصل إلى الثاني بحرف الجر، هذا الأصل فيها قياس اللسان العربي؛ أن تصل إلى الثاني بحرف الجر، وقد يحذف حرف الجر، حينئذٍ ينتصب على نزع الخافض إن قيل به، ولم يسمع أنهم عدوها إلى ثلاثة، إلا وهي مبنية للمجهول كما سيأتي في الأبيات، لم يسمع، مع أن الناظم هنا ذكرها مبنية للمعلوم، حدث، أخبر، نبأ، أنبأ، خبر، كلها ذكرها بصيغة المبني للمعلوم، مع أنه لم يسمع فيها، وإنما سمع فيها كونها ناصبةً للمفاعيل إذا كانت مغيرة الصيغة، فمن باب القياس إذا بنيت للمفعول حينئذٍ الأصل فيما بني للمفعول أن يكون له معلوم، ضُرِبَ الأصل فيه ضَرَبَ، عُلِمَ الأصل فيه عَلِمَ .. إلى آخره، فما دام أنه سُمِع بناؤها للمجهول دل على أن لها أصل، وهو المعلوم، وإن لم يُنقَل حينئذٍ نستدل بالبناء للمجهول على المعلوم، لكن هذا من باب القياس؛ لأن بعضها (زُكِمَ) مثلاً هذا مبني للمجهول وليس له معلوم، زُكِمَ من الزكام، نقول: هذا مبني للمجهول، هل له معلوم؟ ليس له معلوم، فلا يلزم إذا سمع نَبَّا وأَخْبَرَا أنه مبني مجهول أن يكون له معلوم، لكن أكثرهم على هذا فنمشي معه.
ويجوز أن تتعدى إلى ثلاثة وأن تبنى للفاعل ولو لم يسمع؛ لأنه أمر مقيس.
نُبِّئْتُ زُرْعَةَ والسفاهَةُ كاسمِها
…
يُهدِي إِلى غَرائبَ الأَشعار
(نُبِّئْتُ زُرْعَةَ) نبئ هو قال: نَبَّأَ-ابن مالك-، مع كون الشاهد نُبِّئْتُ، التاء هذه مفعول أول وهي نائب الفاعل وزُرْعَةَ هذا مفعول ثاني:
وَمَا عَلَيْكِ إِذَا أُخْبِرْتِنِي دَنِفَاً: (أُخْبِرْتِنِي) التاء هذه مكسورة، الياء هذه هي المفعول الأول، ودَنِفَاً هي المفعول الثاني، وأين الثالث! هو قال:(وَكَأرَى السَّابِقِ)، يعني: التي تتعدى إلى ثلاثة، (نُبِّئْتُ زُرْعَةَ)، زُرْعَةَ هذا الثاني، (والسفاهَةُ كاسمِها يُهدِي)، يُهدِي الجملة هذه في محل نصب مفعول ثالث.
وَمَا عَلَيْكِ إِذَا أُخْبِرْتِنِي دَنِفَاً
التاء نائب فاعل، والياء مفعول ثاني، والثالث دَنِفَاً، وأُخْبِرْتِنِي هذا مغير الصيغة.
أوْ مَنَعْتُم مَا تُسْأَلُونَ، فَمَن
…
حُدِّثْتُمُوهُ لَهُ عَلَينَا الوَلَاءُ
حُدِّثْتُمُوهُ، الواو هذه نائب فاعل، والهاء، في محل نصب مفعول ثاني، له علينا الولاء الجملة اسمية في محل نصب مفعول ثالث.
وَأُنْبِئْتُ قَيْساً وَلَمْ أَبْلُهُ –اختبره-
…
... كَمَا زَعَمُوا خَيْرَ أَهْلِ الْيَمَنْ
وَأُنْبِئْتُ هذا مغير الصيغة والتاء نائب فاعل، قَيْساً مفعول ثاني، خَيْرَ أَهْلِ هذا مفعول ثالث.
وَخُبِّرْتُ سَوْدَاءَ الْغَمِيمِ مَرِيضَةً: خُبِّرْتُ سَوْدَاءَ، هنا على معنى الباء، خبرت بأن سوداء. خُبِّرْتُ سَوْدَاءَ الْغَمِيمِ مَرِيضَةً، خُبِّرْتُ نائب فاعل للتاء، وسَوْدَاءَ هذا مفعول ثاني ومَرِيضَةً مفعول ثالث. وإنما قال المصنف: ووَكَأرَى السَّابِقِ؛ لأنه تقدم في هذا الباب أن أرى تارة تتعدى إلى ثلاثة مفاعيل، وتارة تتعدى إلى اثنين، وكان قد ذكر أولاً أرى المتعدية إلى ثلاثة فنبه على أن هذه الأفعال الخمسة مثل: أرى السابقة وهي المتعدية إلى ثلاثة لا مثل أرى المتأخرة وهي المتعدية إلى اثنين.
اَلْفَاعِلُ
لما أنهى المبتدأ وما يتعلق به من النواسخ، شرع في ذكر الأصل الثاني في باب المرفوعات، هو عمدة، كما أن الشأن في المبتدأ أنه عمدة وهو مرفوع، ولذلك سبق الخلاف أي: النوعين يقدم؟ منهم من قدم المبتدأ؛ لأنه أصل للفاعل، ومنهم من عكس؛ لأن الفاعل أصل للمبتدأ:((وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا)) [البقرة:148].
اَلْفَاعِلُ: يعني: هذا باب بيان الفاعل، الفاعل في اللغة هو من أوجد الفعل، فهو أعم من الفاعل اصطلاحاً عند النحاة؛ لأن العلاقة دائماً بين المعنى الاصطلاحي والمعنى اللغوي العموم والخصوص المطلق، فكل فاعل اصطلاحي هو فاعل لغوي ولا عكس؛ لأن كل من أوجد الحدث فهو فاعل: زيدٌ قائمٌ، قائمٌ هذا حدث اسم فاعل، من الذي أوجده؟ زيد، إذاً: هو فاعل، فاعل في المعنى وهو صحيح، لكنه لا يسمى عند النحاة فاعلاً؛ لأن لهم شروطاً لابد من اعتبارها، واصطلاحاً خاص ولا مشاحة في الاصطلاح، حينئذٍ نقول: ما الفاعل عند النحاة وماذا أراد المصنف هنا بالفاعل، هل كل من أوجد الفعل –الحدث-؟ لا، إنما أراد نوعاً أخص من مطلق الفاعل عند اللغويين.
والمراد به عنده أن الفاعل: هو اسم صريح أو مؤول بالصريح، أسند إليه فعل أو مؤول به، مقدم عليه بالأصالة؛ واقعاً منه أو قائماً به، هذه كلها قيود، اسم صريح أو مؤول بالصريح، أسند إليه فعل، بعضهم يزيد: فعل تام، أو مؤول به مقدم عليه بالأصالة واقعاً منه أو قائماً بهه.
قوله: اسم، إذاً: الفاعل لا يكون إلا اسماً، ولذلك سبق معنا أن من علامات الأسماء كونها فاعلة، فإذا حكمت على الشيء بأنه فاعل، فاحكم عليه بأنه اسم، إذاً: كل فاعل اسم ولا عكس، فأخرج بقوله (اسم) الحرفَ، فلا يكون فاعلاً إذا قُصد معناه، وأما إذا قصد لفظه فيجوز أن يكون فاعلاً، فلذلك تقول: دخلت (قد) على الفعل، (قد) هنا فاعل هي حرف في الأصل، نعربها فاعل، دخلت السين، دخلت الباء، الباء هي اسم والسين اسم، دخلت سوف، نقول: هذا حرف في الأصل، لكنه صار علماً، حينئذٍ صار فاعلاً. إذاً: دخلت قد:
وَالفِعلُ مَا يَدخُلُ قَدْ والسّينُ
…
عَليهِ مِثلُ بَانَ أَو يَبِينُ
هكذا قال الحريري.
والفِعلُ مَا يَدخُلُ قَدْ: قَدْ هنا فاعل، إذاً (اسم) أخرج الحرف، وهذا إذا قَصد معناه، وأما إذا قصد لفظه فيقع فاعلاً ولا إشكال، كذلك أخرج الفعل، فلا يكون الفعل فاعلاً البتة، لا يكون الفعل فاعلاً البتة؛ لأنه لا يسند بين فعلين كما سبق، الإسناد إنما يكون بين اسمين أو اسم وفعل، وأما فعل إلى فعل هذا لا وجود، وهذا محل وفاق، لماذا؟ لأن الأفعال أوصاف في المعنى، فإذا كان كذلك حينئذٍ كل صفة تقتضي وتستلزم موصوفاً، فإذا قلت: جاء ضرب على أن ضرب فاعل، معناه مثل قام زيدٌ، زيدٌ محل للقيام، فإذا قلت: جاء ضربَ، بمعنى (ضرب) أنه فاعل أنه محل للمجيء، وهو صفة، والضرب صفة، والصفة كما يقال: عرضٌ لا يقوم بالعرض.
إذاً: يمتنع إسناد فعل إلى فعل، إلا إذا قصد لفظه حينئذٍ يصير علماً، فتقول: دخل ضرب على الاسم فرفعه ونصبه، فضرب حينئذٍ صار فاعل، دخل ضربٌ، دخل ضربَ، يجوز فيه الوجهان كما سبق.
اسم إذاً: أخرج الحرف والفعل إذا قصد معناهما، أما إذا قصد لفظهما حينئذٍ صارا علمين معرفتين، فيجوز حينئذٍ أن يأتي فاعله.
وخرج كذلك الجملة الفاعل لا يكون جملة، وهو كذلك على مذهب البصريين، وهذه المسألة محل نزاع، الصحيح هو مذهب البصريين؛ أن الجملة لا تقع فاعلاً البتة، وقيل: تقع فاعلاً مطلقاً، نحو يعجبني يقوم زيدٌ -التركيب فيه رِكَّة قليلاً-، حينئذٍ نقول: لابد من تقدير، إما على من يُجَوَّز السبك بدون سابك كقوله:((إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ)) [البقرة:6]، إذا لم يقل بأن همزة التسوية سابك، إن جُوِّزَ حينئذٍ يكون: يعجبني قيام زيد، وهذا المعنى الذي يقتضيه التركيب، حينئذٍ إما أن يقال: بأن سابك ثم محذوف والتقدير: يعجبني قيام زيد، وإما أن يقال: التركيب ليس له أصل.
وقيل: تقع إن علِّق عنها فعل قلبي بمعلِّق، والصواب هو الأول أنه لا تقع الجملة.
إذاً (اسم) أخرج هذه الثلاثة الأشياء، فلا يقع فاعلاً البتة في اصطلاح النحاة.
قال: صريح أو مؤول بالصريح، هذا تقسيم للاسم، والصريح المراد به ما لا نحتاج في جعله فاعلاً إلى تأويل –مباشرة-، ما لا نحتاج إلى جعله فاعلاً بتأويل، أو (أن) وما دخلت عليه المؤولات التي أخذناها –السوابك-، حينئذٍ نقول: قام زيدٌ، زيدٌ اسم صريح، قام الزيدان، الزيدان اسم صريح، قام الزيدون، الزيدون اسم صريح، قامت هند، هند اسم صريح .. وهَلُمَّ جرًّا، فحينئذٍ ما نطق به ولفظ نقول: هذا اسم صريح، لما قابله بالمؤول، والمؤول هذا خاص بنوع معين حينئذٍ لزم أن نجعل في الاسم الصريح الضمير بنوعيه، البارز والمستتر؛ لأنه يكون فاعلاً، قم، هذا فعل أمر وفاعله ضمير مستتر، إذا قلنا الفاعل هو اسم صريح أو مؤول بالصريح، فهو لا هذا ولا ذاك، ليس باسم ينطق به، وليس بمؤول حينئذٍ ماذا نصنع؟ يخرج عن الحد، والحد لابد أن يكون جامعاً مانعاً، حينئذٍ لابد من إدخاله، نقول: لما قابل الاسم الصريح بالمؤول علمنا أن الاسم الصريح يدخل فيه الاسم الظاهر والضمير المستتر بنوعيه وجوباً وجوازاً وكذلك الضمير البارز: ما فهم المسألة إلا أنا، أنا هذا فاعل، ما فهم المسألة إلا أنا، أنا فاعل، هل هو اسم صريح، هم يَعنُون الاسم الصريح الذي يظهر إعرابه عليه، كزيد والزيدان وهند ونحوها، حينئذٍ نقول: لما قابل الصريح بالمؤول علمنا أن الصريح يشمل ثلاثة أشياء: الاسم الظاهر والضمير المستتر جوازاً، والضمير المستتر وجوباً، والضمير البارز، -أربعة أشياء-: ما فهم المسألة إلا أنا، هذا مثلها.
اسم صريح أو مؤول بالصريح، مؤول بالصريح يعني: شيء يؤول ويرجع إلى الاسم الصريح، وهذا إنما يكون إذا دخل على اللفظ فعل أو نحوه، جملة اسمية ونحوها؛ إذا دخل عليها موصولٌ حرفي، وسبق أن الموصولات التي تسبك مع ما بعدها بمصدر خمسة:(أنَّ)، و (أنْ)، و (ما)، و (كي)، و (لو)، هذه خمسة، يجوز أن يأتي فاعل هنا مسبوكاً بواحد من هذه الخمسة ثلاثة فحسب، وهي:(أنَّ)، و (أنْ)، و (ما)، وأما (كي)، و (لو) فيمتنعان في هذا الموضع:((أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا)) [العنكبوت:51]، يكفي إنزالنا، إذاً:((أَنَّا أَنْزَلْنَا)) (أنْ) حرف مصدري، أُوِّلَت مع ما بعدها بمصدر وقع فاعلاً، وسبق أن من مواضع وجوب فتح همزة (أنَّ) أن تقع فاعلاً، وذكرنا هذا المثال.
الثاني: (أنْ) المصدرية: يعجبني أن تذهب، يعجبني: فعل ومفعول به، أن تذهب: جملة، أين الفاعل؟ لابد من فاعل، نقول: أن المصدرية وما دخلت عليه في تأويل فاعل: يعجبني ذهابك.
الثالث: (ما) المصدرية، سرني ما صنعت، سرني صنعك، إذاً: هذه ثلاثة سوابك.
الأول: (أنَّ)، و (أنْ) التي تدخل على الفعل المضارع، وكذلك الثالث (ما) المصدرية، وأما (كي) و (لو) فيمتنعان، أما امتناع كي؛ لأنها لا تكون مصدرية إلا إذا سبقت بـ (لا) لفظاً أو تقديراً، فحينئذٍ إذا سبكت مع ما بعدها بمصدر وجب أن يكون هذا المصدر مجروراً، جئت لكي أكرمك، نقول: هذا يؤول بمصدر، لكن لا يمكن أن يكون فاعلاً؛ لأنك لو أولته بمصدر، قلت: جئت لإكرامك، جررته باللام الملفوظ بها أو المقدرة، إذاً: صار مجروراً، فكل (كي) المصدر بعدها يكون مجروراً، والفاعل لا يكون مجروراً البتة، إذاً: امتنع أن تكون (كي) في محل فاعل.
وأما لو فالغالب المطرد أنها تأتي بعد وَدَّ أو يَوَدُّ، وود أو يود يطلب مفعولاً به ((وَدَّتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ)) [آل عمران: 69]، ودوا إضلالكم، وقع مفعولاً به منصوب.
إذاً: المصدر المنسبك من (لو) وما بعدها لا يقع إلا منصوباً هذا في الغالب المطرد؛ لأنه يقع بعد ود ويود، وهذان يطلبان مفعولاً به لا فاعلاً، إذاً: يمتنع أن يكون الفاعل منسبكاً من كي وما بعدها ولو وما بعدها، فاقتصرنا على الثلاث الأُوَل وهي المتفق عليها، وهي: أ (نَّ)، و (أنْ)، و (ما) المصدرية.
اسم صريح أو مؤول بالصريح، مؤول بالصريح، آل الشيء يؤول بمعنى أنه رجع، فإذا قلت:((أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا)) [العنكبوت:51]، نقول: هذا ليس هو عينه فاعل، وإنما كونه يرجع إلى اسم صريح والاسم الصريح هو الفاعل، وإلا الذي تلفظ به -أَنَّا أَنْزَلْنَا- ليس هو الفاعل، بل هو جملة، لكن مآل هذه الجملة أن ترجع إلى اسم صريح، فإذا عرفت حينئذٍ الاسم الصريح المصدر المنسبك من (أنَّ) وما دخلت عليه حينئذٍ نقول: هذا هو الفاعل، أما اللفظ نفسه لا تقل فاعل، وإلا لو كان كذلك لقلنا: اسم يشمل الجملة، فإذا صح قصدها لفظاً أنها فاعل لصح وقوع الجملة فاعلاً، ونحن نمنع نقول: بل لابد أن يكون اسماً، فإذا جاء يعجبني أن تذهب، أن تذهب ليست هي الفاعل، تنفي، تقول: ليست بفاعل، هي عينها لفظها ليست بفاعل، لكن تؤول إلى كونها فاعلاً، والشيء إذا آل إلى الشيء كان غيره ليس هو عينه.
أسند إليه فعل: بمعنى أنه مسنداً إليه، والفعل مسند، هذا أخرج المبتدأ؛ لأن المبتدأ لا يسند إليه فعل؛ لأن المبتدأ: زيدٌ قائمٌ، زيدٌ اسم صريحٌ ((وَأَنْ تَصُومُوا)) [البقرة:184]، اسم مؤول بالصريح، إذاً: دخل معنا المبتدأ.
أسند إليه فعل، أخرج المبتدأ؛ لأن المبتدأ لا يسند إليه فعل، وإنما يسند إليه اسم مفرد أو جملة، اسم مفرد: زيدٌ قائم، زيدٌ أخوك، فصار زيد مسنداً إليه، والفاعل كذلك مسندٌ إليه، قام زيدٌ، زيدٌ مسند إليه، والمبتدأ مسند إليه، إذاً: اشتركا في كون كل منهما مسنداً إليه، إلا أنهما افترقا: أن الفاعل أسند إليه مسند يكون فعلاً، وأما المبتدأ فيسند إليه ما ليس بفعل، إما مفرد وإما جملة.
أسند إليه فعل، بعضهم قيده بكونه تاماً احترازاً من: كان زيدٌ، احترازاً من اسم كان؛ لأن كان ترفع المبتدأ، حينئذٍ زيدٌ بعد كان هذا اسم صريح أسند إليه فعل، لكنه ليس بتام، بل هو ناقص، هكذا قال الكثير؛ وفيه نظر لأن كان لا تدخل على المفرد، وإنما تدخل على الجملة، فحينئذٍ كان أسندت إلى مضمون الجملة لا إلى زيد، ليست مسندة إلى زيد، فحينئذٍ لا نحتاج إلى الاحتراز عن اسم كان؛ لأنه ليس داخلاً معنا أصلاً، لم يدخل في الحد؛ لأن كان ما بعدها -الاسم المرفوع- هو جزء من مدخولها، وليس هو كل المدخول، حينئذٍ تقول: زيدٌ قائمٌ أردت تقييد الخبر للموصوف وهو المبتدأ المخبر عنه كونه في الزمن الماضي، فقلت: كان زيدٌ قائماً:
وَنَحْو كُنْتُ قَائِمَاً كَانَ الَّذِيْ
…
قَيَّدَتْ الْمَنْصُوْبَ لَا الْعَكْسُ احْتُذِيَ
(كان) قيدت القيام بكونه وقع في الزمن الماضي، وليس العكس بكون قائماً هو الذي قيد (كان)، وهذا بحث بياني يأتي في محله، كُنْتُ قَائِمَاً كَانَ الَّذِيْ
…
قَيَّدَتْ الْمَنْصُوْبَ، (كان) هي التي قيدت المنصوب لَا الْعَكْسُ احْتُذِيَ فيه خلاف، لكن الصواب ما ذكره السيوطي في عقود الجمان.
إذاً: أسند إليه فعل تام، قال بعضهم تام، نقول: لا حاجة إلى وصف الفعل بالتمام؛ لأن كان وأخواتها لم تسند إلى الاسم حقيقة، وإنما أسندت إلى مضمون الجملة، فالاسم أسند إليه باعتبار اتصافه بالخبر، الاسم في باب كان أسند إليه باعتبار اتصافه بالخبر، وهذا معنى مضمون الجملة؛ لأن مضمون الجملة هو أن يأتي بالخبر مشتقاً ونضيفه إلى الاسم، على ما ذكرناه في الاشتقاق.
أسند إليه فعل: نقول: مطلقاً، الإسناد هنا مطلقاً، سواء كان على وجه الإثبات، أو على وجه النفي أو على وجه التعليق أو الإنشاء؛ لأن الأصل في الفاعل أن يصدق عليه إحداث، حدث يوجد شيء، فإذا قلت: لم يضرب زيدٌ أسند إليه فعل من حيث الإيجاد؟ الإثبات؟ ليس فيه إثبات ليس عندنا ضرب، ضرب زيدٌ ضرب، وقع منه الضرب، حينئذٍ أسند إليه على جهة الإثبات، هذا واضح ودخوله لا إشكال فيه، لكن لم يضرب زيدٌ عمراً، لم يحصل ضرب أصلاً، فكيف نقول: فاعل ومفعول؟! اصطلاح، هذا من قبيل الاصطلاح، وإلا ليس عندنا فاعل ولا مفعول، لم يضرب زيدٌ عمراً، ما حصل ضرب والحمد لله، ليس عندنا ضارب ولا مضروب، حينئذٍ الإسناد هنا إسناد بالنفي، وله توجيه يأتينا في باب المفعول به.
إذاً: دخل معنا الإسناد إذا كان على وجه النفي، أو التعليق: إنْ ضرب زيدٌ عمراً عاقبته، هنا حصل فعل من الفاعل، لكنه على جهة التعليق فهو قريب من الإثبات والنفي.
أو الإنشاء: هل قام زيدٌ؟ استفهام، هل قام زيدٌ نقول: هذا استفهام لم يقع لم يحصل، هذا الأصل فيه أنه يقع في المستقبل.
إذاً: قوله: أسند إليه فعل، نقول: مطلقاً على وجه الإثبات أو النفي أو التعليق أو الإنشاء، فدخل الفاعل في نحو: لم يضرب زيدٌ وإنْ ضرب زيدٌ .. إلى آخره، وهل قام زيدٌ، والمتبادر من الإسناد، الإسناد أصالة، فخرج من التوابع البدل والمعطوف بالحرف، هذا إذا كان على نية تكرار العامل، قلنا: البدل على نية تكرار العامل، جاء زيدٌ أخوك، إذا أعربنا أخوك بدل، ما العامل فيه؟ ليس هو العامل الأول، لا، عامل آخر، حينئذٍ نقول: أخوك أسند إليه فعل، لكن لا نعربه فاعل، هل هو داخل معنا أو لا؟ نقول: المراد بالإسناد هنا أصالة؛ لأن الإسناد إلى أخوك هذا جاء تبعاً، جاء تبعاً لكونه وقع بدلاً، ولكن لو كان مجرداً عن البدلية لجاء على الأصل، فالإسناد قد يكون إسناداً أصلياً وقد يكون تبعياً، والذي يكون فاعلاً هو الإسناد الأصلي، احترزنا عن التبعي وهذا الذي معنا يدخل بابين: البدل والعطف بالحرف؛ لأننا إذا قلنا: العطف بالحرف على قول من يرى أن العامل فيه ليس الأول، جاء زيدٌ وعمروٌ، عمروٌ الثاني مرفوعٌ بماذا؟ على القول بأنه بـ (جاء) جديد ليس هو الأول، جاء زيد وجاء عمروٌ إذاً: أسند فعل إلى اسم صريح، فالأصل أن يكون فاعلاً، لكن نقول: هنا الإسناد عرضي تبعي؛ لكونه معطوفاً بالواو على ما سبق، وكذلك: جاء زيد أخوك، أخوك هذا بدل، نقول: البدل على نية تكرار العامل، ما هو العامل؟ جاء، إذاً جاء أخوك، صار مسند ومسند إليه، وأخوك صار فاعل، وهو بدل، نقول: لا، هنا الإسناد عرضي، وليس بأصالة، ولذلك نقيد: أسند إليه فعل على جهة الأصالة.
فخرج من التوابع البدل والمعطوف بالحرف؛ لأن الإسناد فيهما تبعي، وأما بقية التوابع فلا إسناد فيها، والمراد بالإسناد هنا ولو غير تام، ليدخل فاعل المصدر وفاعل اسم الفاعل، إذا قلت:((وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ)) [البقرة:251]، لفظ الجلالة قلنا في المعنى فاعل، هنا هل عندنا إسناد -دَفْعُ اللَّهِ-؟ ليس عندنا إسناد في اللفظ، هل يمكن إدخاله هنا؟ نقول: إذا كان المراد الإسناد التام فنعم، وإن كان المراد مطلق الإسناد ليشمل الإسناد الناقص، حينئذٍ دخل معنا:((وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ)) [البقرة:251]، وكذلك: زيدٌ قائمٌ، قائمٌ قلنا: هذا اسم الفاعل يرفع ضميراً مستتراً، إذاً ضمير مستتر، مثل: قامَ زيدٌ قامَ، قامَ هذا فيه ضمير مستتر فاعل ولا إشكال، زيدٌ قائم، قائمٌ هذا اسم فاعل يرفع ضميراً مستتراً، هل فيه إسناد بين فعل أو ما جرى مجرى الفعل، واسم؟ نقول: نعم فيه إسناد، لكنه ليس تاماً.
إذا اشترطنا التمام في قولنا: أسند إليه فعل، خرج فاعل المصدر وفاعل اسم الفاعل، ولو قلنا مطلق الإسناد دخل معنا فاعل المصدر وفاعل اسم الفاعل، والثاني هو المراد، إذاً: قوله: أسند إليه فعل، ولو غير تام، لماذا؟ ليدخل فاعل المصدر وفاعل اسم الفاعل؛ لأن فاعل المصدر:((وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ)) [البقرة:251] ليس فيه كـ (قام زيدٌ)، هذا في الظاهر ليس فيه إسناد، لكنه هو في الأصل يؤول إلى الإسناد: لولا أن يدفع الله، هو في قوة هذا، لولا أن يدفع الله، إذاً صار فاعلاً، وكذلك قائم فيه ضمير مستتر، ولا نعربه أنه فاعل، نقول: زيدٌ قائم مبتدأ وخبر، ولا نقول: قائم خبر والفاعل ضمير مستتر .. هذا خطأ ليس بصحيح كما ذكرناه سابقاً، حينئذٍ الفاعل الموجود هذا نقول: فيه فاعل، لكن الإسناد هنا ناقص ليس بإسناد تام، فهو فاعل اصطلاحاً أيضاً.
أو مؤول به، أي مؤول بماذا؟ أسند إليه فعل، يعني: الذي يرفع الفاعل إما أن يكون فعلاً أو مؤولاً بالفعل، والأصل في العمل للأفعال هذا هو الأصل، فيرفع الفاعل فعل، ثم قد يرفعه ما فيه رائحة الفعل، كما مثل الناظم هنا: مُنِيراً وَجْهُهُ، ((مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ)) [النحل:69] أَلْوَانُهُ هذا فاعل، والرافع له مُخْتَلِفٌ، ليس هو فعل، وإنما هو مؤول بالفعل، والذي يرفع الفاعل ثمانية أشياء: الفعل، وهذا هو الأصل، الثاني: اسم الفاعل، الثالث: الصفة المشبهة، الرابع: صيغة المبالغة، الخامس: المصدر، السادس: اسم المصدر، السابع: اسم التفضيل، -هذا قلة-، الثامن: اسم الفعل: هَيْهَاتَ الْعَقِيقُ، وبعضهم يعد الجار والمجرور والظرف: أفي الدار زيدٌ؟ ((أَفِي اللَّهِ شَكٌّ)) [إبراهيم:10]، أعندك عمروٌ؟ حينئذٍ عمروٌ وزيدٌ نقول: هذا فاعل؛ لأن الجار والمجرور متعلق بمحذوف هو استقر، وكذلك الجار.
إذاً: اسم صريح أو مؤول بالصريح أسند إليه فعل أو مؤول به، عرفنا المؤول بالفعل؛ يعني: كل ما يعمل عمل الفعل ويطلب فاعل، وليس هو بالفعل، مثلما ذكرناه سابقاً.
مقدم عليه بالأصالة، مقدم عليه بالأصالة، مقدم عليه يعني: على العامل، -على ما أسند إليه من الفعل أو المؤول بالفعل-، مقدم عليه بالأصالة، يعني: الذي يقدم هو العامل، قام زيدٌ، لو قلت: زيدٌ قام، خرج عن كونه فاعلاً، وإنما هو مبتدأ والجملة تكون خبراً عنه، مقدم عليه بالأصالة، خرج نحو: قائمٌ زيدٌ، زيدٌ قام، قام زيدٌ، نقول: هذا مقدم عليه بالأصالة من جهة الفعل، قام فعلٌ وزيدٌ هذا فاعل، اسم صريح أسند إليه فعل مقدم عليه، وهذا لا إشكال فيه، فلو تقدم زيد على قام خرج عن كونه فاعلاً:((مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ)) [النحل:69]، أَلْوَانُهُ، هذا فاعل، مُخْتَلِفٌ هذا عامل ليس بفعل، قائمٌ زيداً ما إعرابه؟ قائمٌ خبر، وزيدٌ مبتدأ، إذاً: قدم هنا المؤول بالفعل على اسم صريح، وليس بفاعل له، لماذا؟ لأنه قُدم هنا عرضاً؛ لأن مرتبته التأخير، وليس هو مبتدأ، عندما تقول: قائم زيدٌ ليس كل واحد منهما في مرتبته التي جعل له في لسان العرب، وإلا أصل التركيب: زيدٌ قائمٌ، زيدٌ هو المقدم، وقائمٌ هو المتأخر، حينئذٍ لو قدمت وأخرت قائمٌ زيدٌ لا نقول بأن قائم هنا متقدم على المبتدأ؛ لأن التقدم هنا طارئ عارض ليس بأصلي، حينئذٍ قوله: مقدم عليه، يعني: الفعل مقدم على الفاعل، قام زيدٌ؛ ليكون فاعلاً.
وإما إن قُدم الوصف على الاسم الصريح لا بالأصالة وإنما بالعرض، كقائم زيد حينئذٍ لا يجعله فاعلاً، بخلاف أقائمٌ الزيدان، فرق بين أقائم الزيدان، وقائم زيدٌ، أقائم الزيدان، قائم هذا مبتدأ والزيدان فاعل، لماذا لا نجعله مثل قائم زيدٌ؟ لأن قائم هناك مبتدأ جاء في مرتبته جاء في وضعه اللغوي، وأما الزيدان فهذا جاء كذلك في وضعه لأنه فاعل وقد تلاه، وأما قائم زيدٌ ليس في محله، ففرق بين الجملتين.
مقدم عليه بالأصالة، واقعاً منه، أخرج نحو: ضُرِبَ زيدٌ، زيدٌ هذا اسم صريح أسند إليه فعل مقدم عليه بالأصالة، لكنه ليس واقعاً منه، بل واقعاً عليه.
أو قائماً به: هذا لإدخال بعض الأفعال التي لا يتكون واقعة من فاعليها: مات عمروٌ، إذا قلت: ضربَ زيدٌ وقام عمروٌ واضح أن الحدث القيام والجلوس والضرب وقع منهم، تكلم، لا إشكال، سكت لا إشكال، لكن مات هو لم يحدث شيء، حينئذٍ نقول: هذا الحدث هل ينسب إلى عمرو؟ نقول: نعم ينسب إليه، لكن من جهة الاصطلاح، ولذلك ليُدخل في الاصطلاح الفاعل الاصطلاحي، قالوا: قائماً به، وقام به الحدث، ولم يقم منه، فحينئذٍ نقول: هو فاعل اصطلاحاً، إذا وجدت هذه القيود حكمنا عليه بكونه فاعلاً.
قال الناظم:
اَلْفَاعِلُ الَّذِي كَمَرْفُوعَيْ أَتَى
…
زَيْدٌ مُنِيراً وَجْهُهُ نِعْمَ الْفَتَى
لم يذكر الحد، وإنما ذكر التعريف، فحينئذٍ زيدٌ من قولك: أتى زيدٌ، زيدٌ اسم صريح، أسند إليه فعل، وهو أتى، مقدم عليه -أتى مقدم على زيد- بالأصالة، وواقعاً منه، كذلك مُنِيراً وَجْهُهُ، وَجْهُهُ نقول: هذا اسم صريح أسند إليه ما في معنى الفعل مؤول بالفعل وهو مُنِيراً صفة مشبهة مقدم عليه بالأصالة واقعاً منه، يعني: إن كان الإنارة هذه لها حدث، أو قائماً به، إذا كانت الإنارة ليست من فعله.
اَلْفَاعِلُ الَّذِي كَمَرْفُوعَيْ أَتَى -مَرْفُوعَيْ أَتَى زَيْدٌ- مُنِيراً وَجْهُهُ نِعْمَ الْفَتَى
هو ذكر ثلاثة أمثلة، وقال: كَمَرْفُوعَيْ أَتَى، مَرْفُوعَيْ مثنى، مَرْفُوعَيْ أَتَى زَيْدٌ، وعندنا مرفوعات، (زيد ووجهه والفتى)، لماذا قال: كَمَرْفُوعَيْ؟ لأنه أراد المرفوع بالفعل وشبه الفعل فحسب، وزاد نعم الفتى من باب التتميم والإفادة أيضاً، وإلا الأصل مَرْفُوعَيْ أَتَى زَيْدٌ مُنِيراً وَجْهُهُ، فزيد فاعل والعامل فيه أَتَى، فهو فعلٌ متصرف، ووَجْهُهُ مُنِيراً، مُنِيراً هذا عامل فيه فهو صفة مشبهة، نِعْمَ الْفَتَى: هو عين أَتَى زَيْدٌ، إلا أن أَتَى هذا متصرف، ونِعْمَ هذا جامدٌ، كذلك الفاعل زَيْدٌ والْفَتَى ليسا مضافين، ووَجْهُهُ مضاف إلى الهاء، وزَيْدٌ كذلك معرب بالحركات الظاهرة، والْفَتَى معرب بالحركات المقدرة.
إذاً: عامل الفاعل قد يكون فعلاً جامداً كنِعْمَ الْفَتَى، وقد يكون الفعل متصرفاً كـ (أتى زيدٌ)، وقد يكون الفاعل معرباً بحركات مقدرة، وقد يكون معرباً بحركات ظاهرة وهو الأصل فيه.
اَلْفَاعِلُ الَّذِي كَمَرْفُوعَيْ الفعل والصفة من قولك: أَتَى زَيْدٌ، عدَّ فاعلي أتى ونعم واحداً؛ لأن الرافع في كلٍ فعل، إذاً: أدمج نِعْمَ الْفَتَى مع أَتَى زَيْدٌ؛ لأن الرافع هنا فعل، وأما مُنِيراً فهو صفة مشبهة أو ما جرى مجرى الفعل.
اَلْفَاعِلُ الَّذِي كَمَرْفُوعَيْ الفعل والصفة من قولك: أَتَى زَيْدٌ.
مُنِيراً وَجْهُهُ، هذا وصف جاري مجرى الفعل مؤول بالفعل.
نِعْمَ الْفَتَى جامد، وقال المكودي: نِعْمَ الْفَتَى تتميم للبيت. لكن فيه فائدة، وهي: أنه أشار إلى أن العامل قد يكون فعلاً جامداً، وفيه تنبيه على أن فعل الفاعل قد يكون غير متصرف، وأن إعراب الفاعل قد يكون مقدراً.
اَلْفَاعِلُ الَّذِي كَمَرْفُوعَيْ أَتَى: قال الشارح: لما فرغ من الكلام على نواسخ الابتداء شرع في ذكر ما يطلبه الفعل التام من المرفوع، وهو الفاعل أو نائبه. وسيأتي.
فأما الفاعل فعرفه ثم قال: وحكمه الرفع؛ لأن الناظم قال:
اَلْفَاعِلُ الَّذِي كَمَرْفُوعَيْ: إذاً هو مرفوع، إذاً: عرفنا حقيقة الفاعل –تعريفه-، ثم يرد السؤال: ما حكمه؟ نقول: الرفع، فهو مرفوع، ويكون مرفوعاً بحركة أو بحرف، والحركة قد تكون ظاهرة وقد تكون مقدرة، تكون ظاهرة كما في: أَتَى زَيْدٌ، وقد تكون مقدرة كما في: نِعْمَ الْفَتَى، هذا هو الأصل في الفاعل أنه مرفوع، كما أن المفعول يكون منصوباً، سمع في كلام العرب:"خَرَقَ الثَّوبُ المِسْمَارَ"، و "كَسَرَ الزُّجَاجُ الحَجَرَ"، خرقَ الثوبُ المسمارَ: الثوبُ فاعل، والمسمارَ مفعول به-في اللفظ إذا نظرنا إلى حركات الإعراب-، خرق الثوبُ بالرفع، على أن خرق أسند إليه، والمسمارَ مفعول به، وكسر الزجاجُ بالرفع على أنه فاعل، الحجرَ على أنه مفعول به.
إذاً: رفع الفاعل ونصب المفعول، لو أخذناه بظاهره فسد المعنى، ولكن حينئذٍ نقول: المراد هنا إبدال الحركات، يعني: أبدلت حركة الفاعل من الرفع إلى النصب، والعكس في المفعول، ولا نعرب: خرق الثوب بأنه فاعل، لا، وإنما نقول هنا: مفعول أعطي الرفع، والمسمارَ هو الفاعل، إذاً: نصب الفاعل، ورفع المفعول، وكسر الزجاجُ الحجرَ، الحجرَ هذا فاعل، فأعطي ماذا أعطي النصب؛ لوضوح المعنى حصل هذا الخلط وحصل هذا الإبدال، لكن هل هو قياس؟ نقول: لا، هذا يسمع ولا يقاس عليه، كما أنهم نصبوا الفاعل والمفعول جمعياً، ورفعوا الفاعل والمفعول جميعاً، نقول: هذا التبديل وهذا التحريف ليس بقاعدة مطردة، وإنما الأصل في الفاعل أن يكون مطرداً، ثم هذا الفاعل إذا عرفنا حكمه وأنه يرفع على الأصل قد يُجَر بالإضافة، والمضاف إما أن يكون مصدراً وإما أن يكون اسم مصدر، قد يجر بالإضافة، ثم المضاف قد يكون مصدراً وقد يكون اسم مصدر، مصدراً مثل ماذا؟ كالمثال السابق:((وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ)) [البقرة:251]، لَوْلا حرف امتناع لوجود، ((دَفْعُ اللَّهِ)) نقول: هذا مبتدأ، دَفْعُ مضاف ولفظ الجلالة مضاف إليه، ((النَّاسَ)) مفعول به، لأي شيء؟ لدفع لأنه مصدر، والمصدر هنا أضيف إلى فاعله، هل نسميه فاعلاً وهو مضاف إليه؟ المشهور في اصطلاح النحاة: نعم، لكن من حيث المعنى لا من حيث الإعراب، وبعضهم يتجوز أيضاً، يقول له محلان: محلٌ جر، وهو بالإضافة، ومحل رفع، وهو كونه فاعلاً، هذا جائز وهذا جائز، إذاً: تسميته فاعلاً مع كونه مجروراً هو المشهور عند النحاة، وقيل: لا يسمى فاعلاً اصطلاحاً، ومثله المجرور بحرف جر زائد، وأما إضافته لاسم المصدر هذا جاء في حديث:(مِنْ قُبْلَهِ الرَّجُلِ امْرأَتَهُ الْوُضُوء) -إن صح-، (مِنْ قُبْلَهِ الرَّجُلِ امْرأَتَهُ الْوُضُوء)، قُبْلَهِ، هذا اسم المصدر أضيف إلى الرَّجُلِ، امْرأَتَهُ، مثل الناس هناك فهو مفعول به، حينئذٍ نقول: هذا من إضافة اسم المصدر إلى الفاعل، الرَّجُلِ هذا فاعل في المعنى، بل هو فاعل أيضاً في الاصطلاح عند الكثير، إذاً: يجر الفاعل لفظه بإضافة إما إضافة مصدر أو إضافة اسم المصدر، وقد يجر بالباء الزائدة أو من، وهذا ما يعبر عنه بزيادة لازمة وزيادة غير لازمة، يعني: قد يدخل الحرف على الفاعل، حينئذٍ نقول: زيد حرف على الفاعل، ثم هذه الزيادة قد تكون لازمة لا تنفك في حال من الأحوال، وقد تكون غير لازمة؛ وذلك واجب في أفعِل الذي على صورة فعل الأمر، يعني: في باب التعجب: ((أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ)) [مريم:38]، أحسن بزيدٍ، زيدٍ هذا مجرور في اللفظ، لكنه فاعل، والباء هذه زائدة، وهذه الزيادة لازمة، لا يوجد أحسِن في باب أفعل التفضيل إلا وفاعله مجرور بالباء، إذاً: نقول: هذه الزيادة لازمة، أحسِن بزيدٍ، الباء حرف جر، وزيدٌ فاعل مرفوع ورفعه ضمه مقدرة على آخره منع من ظهورها اشتغال المحل بحركة حرف الجر الزائد، إذاً نقول: هو فاعل، وهو مجرور في اللفظ إلا أنه في التقدير مرفوع، لماذا؟ لكون أَسْمِعْ لا يكون فاعلها إلا مجروراً بالباء، وهذه الزيادة نقول: زيادة لازمة، بمعنى أنها لا تنفك عنه في حال من الأحوال:
أَخْلِقْ بِذي الصَّبْرِ أَنْ يَحْظى بِحاجتِهِ
…
ومُدْمِنِ الْقَرْعِ لِلأَبوابِ أَنْ يَلِجا
أَخْلِقْ بِذي الصَّبْرِ: مثلها، وكذلك الغالب في فاعل كَفَى:((وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا)) [النساء:79]، ((وَكَفَى بِاللَّهِ وَلِيًّا وَكَفَى بِاللَّهِ نَصِيرًا)) [النساء:45]، كَفَى فاعلها في الغالب، وهذه زيادة ليست بلازمة؛ لأنه سمع انفكاكها عنه، كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا، كَفَى بِاللَّهِ، الباء حرف جر زائد، ولفظ الجلالة فاعل كَفَى مرفوع ورفعه ضمة مقدرة على آخره، منع من ظهورها اشتغال المحل بحركة حرف الجر الزائد، هل الزيادة هذه لازمة؟ نقول: لا لأنه سمع تجريده من الباء:
كَفَى الشَّيْبُ وَالإسْلَامُ لِلمرْءِ نَاهِيَاً: كَفَى الشَّيْبُ: بالاسم الظاهر دون باء، دل على أنه يجوز تجريد فاعل كفى عن الباء، وشذَّ جر الفاعل بالباء فيما عدا أفعِل في التعجب وفاعل كفى:
(أَلَمْ يَأْتِيْكَ والأَنباءُ تَنمِي
…
...
…
بَمَا لاقَتْ لَبُونُ بني زِيَادِ)
والأَنباءُ تَنمِي، بما (ما) فاعل دخلت عليه الباء، لكن هذا شاذ، يعني: يحفظ ولا يقاس عليه، بخلاف فاعل كَفَى، وفاعل أَسْمِعْ.
ومن الزيادة غير اللازمة، زيادة (مِن):((مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ)) [المائدة:19]، بَشِيرٍ هذا فاعل لجاء، وجر بـ (من) الزائد، صلة توكيد، حينئذٍ نعرب بَشِيرٍ فاعل مرفوع ورفعه ضمه مقدرة على آخره، منع من ظهورها اشتغال المحل بحركة حرف الجر الزائد.
إذاً: يجر الفاعل بـ (مِن) الزائدة، وهذه (مِن) التي هي لبيان الجنس يشترط فيها أن لا تكون إلا بعد نفي أو شبه نفي، وهذا سيأتي في باب حروف الجر، لكن نستفيد هنا: إذا عطف على الفاعل المجرور بهذا الحرف، حينئذٍ يراعى فيه محلان: محل الرفع ومحل الجر، مثلما ذكرناه في قولهم: لا رجلا، حينئذٍ يجوز الرفع على محله، حتى يجوز في تابعه الجر حملاً على اللفظ، والرفع حملاً على المحل: ما جاءني من رجل كريمٍ، وكريمٌ، ما جاءني من رجلٍ كريمٍ بالجر، تبعاً للفظ، وكريمٌ باعتبار المحل، مثل: لا رجلَ ظريفاً، وظريفٌ.
فإن كان المعطوف معرفة تعين رفعه، ما جاءني من عبدٍ ولا زيدٌ، لا يصح ولا زيدٍ، لماذا؟ لأن العطف على مجرور (من)، ومجرور (من) الزائدة هنا لا يكون إلا نكرة، وحينئذٍ يتعين أن ينظر فيه إلى اللفظ.
إذاً: الأصل في الفاعل أنه مرفوع، ثم قد يخرج عن الرفع لسبب من الأسباب المذكورة، منها ما هو قياس، ومنها ما هو ليس بقياس، وما ليس بقياس قد يكون شاذاً، كما في نصبه، أو أن يزاد عليه حرف وليس في المواضع التي حفظت في لسان العرب، وذلك كما في أفعِل التعجب، وكفى، وكذلك زيادة من، ذاك في الباء، وهذا في زيادة (مِن).
قال: والمراد بشبه الفعل المذكور اسم الفاعل نحو: أقائم الزيدان، والصفة المشبهة: زيد حسنٌ وجهه، والمصدر: عجبت من ضرب زيد بدون تنوين، واسم الفعل: هيهات العقيق، هيهات اسم ورفع لكنه اسم فعل، والظرف والجار والمجرور: زيدٌ عندك أبوه، هذا يرفع عند كثير من النحاة، بل نسبه ابن هشام إلى المحققين؛ أنه إذا قيل: عند زيدٌ، زيدٌ لا تعربه مبتدأ، وإنما تعربه فاعل لفعل محذوف: عندك استقر زيدٌ، أو استقر عندك زيدٌ، فزيدٌ عندك أبوه، أبوه هذا فاعل وفي الدار غلاماه، ولذلك قوله تعالى:((أَفِي اللَّهِ شَكٌّ)) [إبراهيم:10]، هذا فاعل لفعل محذوف.
وأفعل التفضيل كذلك: مررت بالأفضل أبوه، فأبوه مرفوع بالأفضل.
إذاً: قوله:
اَلْفَاعِلُ الَّذِي كَمَرْفُوعَيْ أَتَى
…
زَيْدٌ مُنِيراً وَجْهُهُ نِعْمَ الْفَتَى
دل بهذين المثالين على حقيقة الفاعل، وأن حكمه الرفع.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين
…
!!!